شهر صفر سنة ثمانين
هلاله على الكمال من ليلة الاثنين، بموافقة الرابع عشر من مايه، استهل هلاله ونحن على شط الفرات بظاهر مدينة الحلة.
وفي ضحوة يوم الاثنين المذكور حلنا وأجزنا جسراً على نهر يسمى النيل، وهو فرع متشعب من الفرات، وكان عليه ازدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك الزدحام، فغرق كثير من الناس والدواب في الماء. فتنحينا مريحين أن انفرج ذلك المزدحم وعبرنا على سلامة وعافية، والحمد لله.
ومن مدينة الحلة يتسلسل الحاج أرسالاً وأفواجاً: فمنهم المتقدم، والمتوسط، والمتأخر، لايعرج المستعجل على التغذر، ولا المتقدم على المتأخر، فحيثما شاؤوا من طريقهم نزلوا وأراحوا واستراحوا، وسكنت نفوسهم من روعة نقر الكوس الذي كانت الافئدة ترجف له بداراً للرحيل واستعجالاً للقيام، فربما كان النائم منهم يهذي بنقر الكوس فيقوم عجلاً وجلاثم يتحقق أنها من أضغاث أحلامه فيعود منامه.
ومن جملة الدواعي لافتراقهم كثرة القناطير المعترضة في طريقهم بغذاد، فلا تكاد تمشي ميلاً الا وتجد قنطرة علىنهر متفرع من الفرات، فتلك الطريق أكثر الطرق سواقي وقناطير، وعلى أكثرها خيام فيها رجال محترسون للطريق اعتناء من الخليفة بسبيل الحاج دون اعتراض منهم لاستنفاع بكدية أو سواها.
فلو زاحم ذلك البشر تلك القناطير دفعة لما فرغوا من عبورها ولتراكمةا وقوعاً بعض على بعض.
والأمير طشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه حضرة خليفته. وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة.
وسيرة هذا الأمير بالرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة، وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة، وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة، نفعه الله ونفع المسلمين به.
وفي عصر يوم الاثنين المذكور نزلنا بقرية تعرف بالقنطرة كثيرة الخصب، كبيرة الساحة، متدفقة جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها، وبها قنطرة على فرع من فروع الفرات كبيرة محدودبة، يصعد اليها وينحدر عنها، فتعرف القرية بها، وتعرف أيضاً بحصن بشير. وألفينا حصاد الشعير بهذه الجهات في هذا الوقت الذي هو نصف مايه.
ورحلنا من القرية المذكورة سحر يوم الثلاثاء الثاني لصفر، فنزلنا قائلين ضحوته بقرية تعرف بالفراش، كثيرة العمارة، يشقها الماء، وحولها بسيط أخضر جميل المنظر. وقرى هذه القرية المذكورة خان كبير يحدق به جدار عال له شرفات صغار.
ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران، وهذه القرية من أحسن قرى الأرض، وأجملها منظراً، وأفسحها ساحة، وأوسعها اختطاطاً، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها أن دجلة تسقي شرقيها، والفرات يسقي غربيها، وهي كالعروس بينهما، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذيه النهرين الشريفين المباركين.
ومن شرف هذه القرية أيضاً أن بإزائها، لجهة الشرق منها، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة، وأما المدائن فخراب، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيباً. ومن فضائل هذه القرية أيضاً أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي، رضي الله عنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك، رضي الله عنه، إلا لفضل تربتها.
والقرية على شط دجلة، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب، ويبعث النفس دائماً على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً، وإن كان نازح الدار مغترباً، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور، وهو على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونفعنا الغلة ببرد مائها،أحسنا من نفوسنا، على حال وحشة الاغتراب، دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيهاعلى أهلٍ وسكن!
سقى الله باب الطاق صوب غمامةٍ ،،، ورد الاوطـان كـل غــريب
وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن كسرى حسبما ذكرناه وانتهينا صرصر وهي أخت زريران المذكورة حسناً أو قريب منها. ويمر بجانبها القبلي نهر كبير متفرع من الفرات عليه جسر معقود على مراكب تحف بها من الشط الشط سلاسل حديد عظام، على الصفة التي ذكرناها في جسر الحلة، فعبرناه وأجزنا القرية ونزلنا قائلين، وبيننا وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ.
وبهذه القرية سوق حفيلة ومسجد جامع كبير جديد. وهي من القرى التي ثملأ النفوس بهجة وحسناً. وهذان النهران الشريفان دجلة والفرات قد أغنت شره تهما عن وصفهما، وملتقاهما مابين واسط والبصرة، ومنها انصبابهما البحر، ومجراهما من الشمال الجنوب، وحسبهما ماخصهما الله به من الركة هما وأخاهما النيل، مما هو مذكور مشهور، ورحلنا من ذلك الموضع قبيل الظهر من يوم الأربعاء المذكور وجئنا بغداد قبيل العصر، والمدخل اليها على بساتين وبسائط يقصر الوصف عنها.
[i]