ذكر مدينة تكريت
هي مدينة كبيرة واسعة الأرجاء، فسيحة الساحة، حفيلة الأسواق، كثيرة المساجد، غاصة بالخلق، أهلها أحسن أخلاقاً وقسطاً في الموازين من أهل بغداد، ودجلة منها في جوفيها، ولها قلعة حصينة على الشط هي قصبتها المنيعة، ويطيف بالبلد سور قد أثر الوهن فيه. وهي من المدن العتيقة المذكورة.
ورحلنا مع عشي اليوم المذكور واسرينا طول الليل، وأصبحنا يوم السبت الموفي عشرين منه بشط دجلة، فنزلنا مريحين. ومن ذلك الموضع يستصحب الماء ليوم وليلة، فاستصحبناه. ورحلنا ذلك اليوم ضحوة، فأسرينا الليل، ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم، فهو منا هنيهة، ورحلنا وأسأدنا الصباح. وتمادى سيرنا أن ارتفع النهار من يوم الأحد بعده، فنزلنا قائلين بقرية على شط دجلة تعرف بالجديدة، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصناً لها، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقه. والقرى والعمائر من هذا الموضع الموصل متصلة. ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشي فينبسط كل في طريقه متقدماً ومتأخراً، وبطيئاً ومستعجلاً، آمناً مطمئناً.
فرحلنا منها قريب العصر، وتمادى سيرنا المغرب، ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل. ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا الصباح.
وفي ضحوة هذا اليوم، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر، والرابع ليونيه، ومررنا بموضع يعرف بالقيارة من دجلة، وبالجانب الشرقي منها، وعن يمين الطريق الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيوناً كباراً وصغاراً تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، ويصنع له أحواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطاً على الأرض أسود أملس، صقيلاً ورطباً، عطر الرائحة، شديد التعلك، فيلصق بالأصابع لأول مباشرة من اللمس، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه جوانبها فيرسب قاراً، فشاهدنا عجباً كنا نسمع به فنستغرب سماعه.
ومبقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة، أبصرنا على البعد منها دخاناً، فقيل لنا: أن النار تشعل فيه اذا أرادوا نقله فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده، فيقطعونه قطرات ويحملونه، وهو يعم جميع البلاد الشام عكة جميع البلاد البحرية، والله يخلق مايشاء، سبحانه تع جده، وجلت قدرته، لارب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة، وقد ذكرنا أمرها في هذا التقيي، ومن هذا الموضع الموصل مرحلتان.
وأجزنا تلك العيون القارية ونزلنا قائلين، ثم رحنا وسرنا العشي، ونزلنا بقرية تعرف بالعقيبة، ومنها تصبح الموصل إن شاء الله فأسرينا منها بعد نصف الليل ووصلنا الموصل عنذ ارتفاع النهار من يوم الثلاثاء الثالث والعشرين لصفر، والخامس من يونيه، ونزلنا بربضها في أحد الخانات بمقربة من الشط.