الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

»  أحاديث / شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا) شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)
نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:50 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     نهج البلاغه ج2

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:38 pm

    118 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله للخوارج ، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة فقال عليه السّلام : أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا : منا من شهد ومنا من لم يشهد ، قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، ومن لم يشهدها فرقة ، حتّى أكلّم كلاّ بكلامه ، ونادى النّاس فقال : أمسكوا عن الكلام ، وأنصتوا لقولى ، وأقبلوا بأفئدتكم إلىّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها ثم كلمهم عليه السّلام بكلام طويل منه :
    ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف ـ حيلة ، وغيلة ، ومكرا ، وخديعة ـ إخواننا ، وأهل دعوتنا : استقالونا ، واستراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه ، فالرّأى القبول منهم ، والتّنفيس عنهم؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة ، وآخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم ، والزموا طريقتكم ، وعضّوا على الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق إن أجيب أضلّ ، وإن ترك ذلّ. وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها (1) واللّه لئن أبيتها ما وجبت علىّ فريضتها ، ولا حمّلنى اللّه ذنبها ، وو اللّه إن جئتها
    __________________
    (1) أنتم الذين أعطيتم لها صورتها هذه التى صارت عليها برأيكم

    إنّى للمحقّ الّذى يتّبع ، وإنّ الكتاب لمعى : ما فارقته مذ صحبته : فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والإخوان والقرابات فلا نزداد على كلّ مصيبة وشدّة إلاّ إيمانا ، ومضيّا على الحقّ ، وتسليما للأمر ، وصبرا على مضض الجراح ، ولكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا فى الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ والاعوجاج والشّبهة والتّأويل ، فإذا طمعنا فى خصلة (1) يلمّ اللّه بها شعثنا ، ونتدانى بها إلى البقيّة فيما بيننا ، رغبنا فيها ، وأمسكنا عمّا سواها
    119 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله لأصحابه فى ساعة الحرب
    وأىّ امرىء منكم أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللّقاء (2) ورأى من أحد من إخوانه فشلا ، فليذبّ عن أخيه (3) بفضل نجدته الّتى فضّل بها عليه ، كما يذبّ عن نفسه. فلو شاء اللّه لجعله مثله. إنّ الموت طالب حثيث :
    __________________
    (1) المراد من الخصلة ـ بالفتح ـ هنا : الوسيلة ، ولم شعثه : جمع أمره ، ونتدانى : نتقارب إلى ما بقى بيننا من علائق الارتباط
    (2) أحس : علم ، ووجد ، ورباطة الجأش ـ ككتابة ـ قوة القلب عند لقاء الأعداء ، قال ابن أبى الحديد : والماضى «ربط» كأنه يربط نفسه عن الفرار ، والمروى «رباطة» بالكسر ، ولا أعرفه نقلا ، ولكن القياس لا يأباه ، مثل : عمر عمارة ، وخلب خلابة
    (3) الفشل : الضعف ، وقوله «فليذب» أى : فليدفع ، النجدة ـ بالفتح ـ الشجاعة

    لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب. إنّ أكرم الموت القتل (1) والّذى نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ من ميتة على الفراش [فى غير طاعة اللّه] منها : وكأنّى أنظر إليكم تكشّون كشيش الضّباب (2) لا تأخذون حقّا ، ولا تمنعون ضيما! قد خلّيتم والطّريق (3). فالنّجاة للمقتحم والهلكة للمتلوّم
    120 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى حث أصحابه على القتال
    فقدّموا الدّراع (4) ، وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس ، فإنّه
    __________________
    (1) الحثيث : السريع. قال الشارح : وفى بعض الروايات «فليذب» بالادغام ، وفى بعضها «فليذبب» بفكه. والميتة ـ بالكسر ـ هيئة الميت كالجلسة والركبة لهيئة الجالس والراكب ، ويقال : مات فلان ميتة حسنة ، والمروى فى أكثر الروايات بالكسر ، وقد روى «من موتة» بالفتح وهو المرة الواحدة ، وهو الأليق ، ليقع فى مقابلة «ألف ضربة» فى سبيل الحماية عن الحق ورد كيد الباطل عنه
    (2) كشيش الضباب : صوت احتكاك جلودها عند ازدحامها ، والمراد حكاية حالهم عند الهزيمة ، وقال الشارح : الكشيش. صوت يشوبه خور مثل الخشخشة ، وكشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها ، قال الراجز : كشيش أفعى أجمعت لعض وهى تحك بعضها ببعض
    (3) قد خلى بينكم وبين طريق الآخرة ، فمن اقتحم أخطار القتال ورمى بنفسه إليها فقد نجا ، ومن تلوم ـ أى : توقف وتباطأ ـ فقد هلك
    (4) الدارع : لابس الدرع ، والحاسر : من لا درع له. ولا مغفر ، وقد أمرهم

    أنبى للسّيوف عن الهام (1) والتووا فى أطراف الرّماح (2) فإنّه أمور للأسنّة ، وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش ، وأسكن للقلوب ، وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ، ولا تخلّوها ، ولا تجعلوها إلاّ بأيدى شجعانكم والمانعين الذّمار منكم (3) فإنّ الصّابرين على نزول الحقائق (4) ، هم الّذين يحفّون براياتهم ، ويكتنفونها : حفافيها ، ووراءها ، وأمامها ، لا يتأخّرون عنها فيسلموها ، ولا يتقدّمون عليها فيفردوها.
    أجزأ امرؤ قرنه (5) وآسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه. وايم اللّه لئن فررتم من سيف العاجلة لا تسلموا من
    __________________
    بذلك لأن سورة الحرب تصادف الأول المتقدم
    (1) «أنبى» من «نبا السيف» إذا وقفته الصلابة من موقعه فلم يقطع
    (2) إذا وصلت إليكم أطراف الرماح فانعطفوا وأميلوا جانبكم فتزلق ولا تنفذ فيكم أسنتها. «وأمور». أى : أشد فعلا للمور ، وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ ، وإنما أمرهم بغض الأبصار فى الحرب لأن الغاض بصره فى الحرب أحرى ألا يدهش ولا يرتاع لهول ما ينظر. وإنما أمرهم باماتة الأصوات وإخفائها لأنه أطرد للفشل وأذهب للجبن والخوف ، كما قال ، وذلك لأن الجبان يرعد ويبرق والشجاع صامت لا يتكلم وإنما يفعل
    (3) الذمار ـ بالكسر ما يلزم الرجل حفظه وحمايته : من ماله ، وعرضه. أمرهم ألا يجعلوا رايتهم بيد الجبناء وذوى الهلع منهم لأن هؤلاء يخيمون ويجبنون فاذا فعلوا ذلك انهزم الجمع
    (4) جمع حاقة ، وهى النازلة الثابتة ، و «يحفون بالرايات» أى : يستديرون حولها ، ويكتنفونها : يحيطون بها. وحفافيها : جانبيها
    (5) «أجزأ» وما بعده : أفعال ماضية فى معنى الأمر ، أى : فليكف كل منكم قرنه ـ أى : كفؤه وخصمه ـ فيقتله ، وليواس أخاه ، آساه.

    سيف الآخرة ، وأنتم لهاميم العرب (1) والسّنام الأعظم. إنّ فى الفرار موجدة اللّه (2) والذّلّ اللاّزم ، والعار الباقى ، وإنّ الفارّ لغير مزيد فى عمره ، ولا محجوز بينه وبين يومه. الرّائح إلى اللّه كالظّمآن يرد الماء ، الجنّة تحت أطراف العوالى (3) ، اليوم تبلى الأخيار (4) ، واللّه لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم. اللّهمّ فإن ردّوا الحقّ فافضض جماعتهم ، وشتّت كلمتهم ، وأبسلهم بخطاياهم (5) ، إنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك (6)
    __________________
    يواسيه : قواه ، رباعى ثلاثيه «أسى البناء» إذا قوى ، ومنه الأسية للمحكم من البناء والدعامة ، ولا يترك خصمه إلى أخيه فيتجمع على أخيه خصمان فيغلبانه ثم ينقلبان عليه فيهلكانه
    (1) لهاميم : جمع لهميم ـ بالكسر ـ الجواد السابق من الانسان والخيل ، وقيل : الواحد لهموم ، وقوله «والسنام الأعظم» يريد شرفهم وعلو أنسابهم ، لأن السنام أعلى أعضاء البعير ، فهو على طريق الاستعارة
    (2) موجدته : غضبه وسخطه. وقوله «والذل اللازم» يروى بالزاى وبالذال ، وهما بمعنى واحد ، تقول : لذمت المكان ولزمته ، بمعنى
    (3) العوالى : الرماح ، وهذا المعنى مأخوذ من قوله صلّى اللّه عليه وسلم «الجنة تحت ظلال السيوف» ويروى أن رجلا من الأنصار سمع النبى يقول ذلك يوم أحد ، وكان فى يده تميرات يأكلها ، فقال : بخ بخ ، ليس بينى وبين الجنة سوى هذه التميرات ، ثم قاتل حتى قتل
    (4) تبلى : تمتحن أخبار كل امرىء عما فى قلبه من دعوى الشجاعة والصدق فى الايمان فيتبين الصادق من الكاذب ، وهذا مأخوذ مما فى التنزيل : «وَنَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ»
    (5) أبسله : أسلمه للهلكة ، فهو مبسل ، وقال اللّه تعالى : «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ» .. «أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمٰا كَسَبُوا» أى : أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الأثم. قال الشارح : وهذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا وإنما هى منتزعة من كلام طويل : انتزعها الرضى واطرح ما عداها
    (6) دراك ـ ككتاب ـ متتابع متوال ، يفتح فى أبدانهم أبوابا يمر منها النسيم

    يخرج منه النّسيم ، وضرب يفلق الهام ، ويطيح العظام ، ويندر السّواعد والأقدام (1) ، وحتّى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر (2) ، ويرجموا بالكتائب تقفوها الحلائب (3) وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس ، وحتّى تدعق الخيول فى نواحر أرضهم (4) وبأعنان مساربهم ومسارحهم (5) قال الشريف : أقول : الدعق : الدق ، أى : تدق الخيول بحوافرها أرضهم ، ونواحر أرضهم : متقابلاتها ، يقال : منازل بنى فلان تتناحر ، أى : تتقابل
    121 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى التحكيم
    إنّا لم نحكّم الرّجال ، وإنّما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين (6) لا ينطق بلسان ، ولا بدّ له من ترجمان ، وإنّما ينطق عنه الرّجال. ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن لم نكن الفريق
    __________________
    (1) «يندرها» ـ بوزن يهلكها ـ أى : يسقطها
    (2) المناسر : جمع منسر ـ كمجلس ـ القطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم
    (3) الكتائب : جمع كتيبة ، وهى من المائة إلى الألف ، والحلائب : جمع حلبة وهى ـ على ما فى القاموس ـ الجماعة من الخيل تجتمع من كل صوب للنصرة ، والخميس : الجيش العظيم ، وقيل : من أربعة آلاف إلى اثنى عشر ألفا.
    (4) دعق الطريق ـ كمنع ـ وطئه وطئا شديدا ، ودعق الغارة : بثها
    (5) أعنان الشىء : أطرافه ، والمسارب : المذاهب للرعى
    (6) الدفتان : صفحتان من جلد تحويان ورق المصحف ، والترجمان ـ بفتح التاء وسكون الراء وضم الجيم ، وربما ضموا التاء إتباعا لضم الجيم ـ هو من يفسر اللغة بلسان آخر ، قال الراجز كالترجمان لقى الأنباطا وقال الآخر قد أحوجت سمعى إلى ترجمان يقول عليه السّلام : لا اعتراض على فى التحكيم ، وقول الخوارج «حكمت الرجال» كلام غير صحيح ، لأننى إنما حكمت القرآن ، ولكن القرآن لا ينطق بنفسه ، فلا بد له ممن يترجم عنه.

    المتولّى على كتاب اللّه تعالى ، وقد قال اللّه سبحانه : «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَاَلرَّسُولِ» فردّه إلى اللّه : أن نحكم بكتابه ، وردّه إلى الرّسول أن نأخذ بسنّته ، فإذا حكم بالصّدق فى كتاب اللّه فنحن أحقّ النّاس به (1) ، وإن حكم بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فنحن أولاهم به
    وأمّا قولكم : لم جعلت بينكم وبينهم أجلا فى التّحكيم ، فإنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل ، ويتثبّت العالم ، ولعلّ اللّه أن يصلح فى هذه الهدنة أمر هذه الأمّة ، ولا تؤخذ بأكظامها (2) فتعجل عن تبيّن الحقّ ، وتنقاد لأوّل الغىّ إنّ أفضل النّاس عند اللّه من كان العمل بالحقّ أحبّ إليه وإن نقصه وكرثه (3) من الباطل وإن جرّ إليه فائدة وزاده ، أين يتاه بكم؟ من أين
    __________________
    (1) يريد أنه لما دعى إلى التحكيم لم يرد أن يكون من الذين قال اللّه عز وجل فى شأنهم : «وَإِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» بل أجاب عملا بما ذكره من النص ، ولو حكموا بالحق فى هذه الواقعة لوجدوه أحق بتدبير أمر الأمة.
    (2) الأكظام : جمع كظم ـ محركة ـ وهو مخرج النفس ، والأخذ بالأكظام : المضايقة والاشتداد بسلب المهلة ، يقول : كرهت أن أعجل القوم عن التبين والاهتداء ، فيكون إرهاقى لهم وتركى التنفيس عن خناقهم أدعى إلى فسادهم وأحرى أن يحملهم على ركوب متن الغى وألا يقلعوا عماهم عليه من القبيح
    (3) كرثه ـ كنصره وضربه ـ اشتد عليه الغم بحكم الحق ، فان الحزن بالحق

    أتيتم؟ استعدّوا للمسير فى قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه ، وموزعين بالجور (1) لا يعدلون به! جفاة عن الكتاب ، نكّب عن الطّريق (2) ، ما أنتم بوثيقة يعلق بها (3) ولا زوافر عزّ يعتصم إليها (4) ، لبئس حشّاش نار الحرب أنتم (5) أفّ لكم ، لقد لقيت منكم برحا (6)!! يوما أناديكم ، ويوما أناجيكم! فلا أحرار صدق عند النّداء ، ولا إخوان ثقة عند النّجاء (7)
    __________________
    مسرة لديه ، والمسرة بالباطل زهرة ثمرتها الغم الدائم. وقوله «من الباطل» متعلق بأحب
    (1) «أين يتاه بكم» معناه أين تذهبون فى التيه ، يعنى فى الحيرة ، ويروى «فأنى يتاه بكم» وقوله «ومن أين أتيتم؟» معناه من أى المداخل دخل عليكم الشيطان أو الشبهة؟ ومن أى الموالج ولج التلبيس إليكم؟ وقوله «موزعين» : من «أوزعه» أى : أغراه ، وقوله «لا يعدلون به» أى : لا يستبدلونه بالعدل
    (2) الجفاة : جمع جاف ، وهو النابى البعيد عن الشىء ، أى : قد تباعدوا عن الكتاب فلا هو يلائمهم ولا هم يجنحون إليه ، ونكب : جمع ناكب ، وهو الحائد عن الطريق
    (3) أى : بعروة وثيقة يستمسك بها. وقال الشارح «أى : بذى وثيقة ، فحذف المضاف ، والوثيقة : الثقة ، يقال : قد أخذت فى أمر فلان بالوثيقة ، أى : بالثقة ، والثقة مصدر» اه‍
    (4) زافرة الرجل : أنصاره وأعوانه
    (5) الحشاش : جمع حاش ، من «حش النار» أى : أوقدها ، أى : لبئس الموقدون لنار الحرب أنتم ، وروى حشاش ـ بزنة غراب ـ وهو ما توقد به النار ، وروى حشاش ـ بفتح الحاء كسحاب ـ وهو الحطب الذى يلقى فى النار قبل الحطب الجزل ، قاله ابن أبى الحديد
    (6) برحا ـ بالفتح ـ : شرا أو شدة
    (7) النجاء : الأفضاء بالسر والتكلم مع شخص بحيث لا يسمع الآخر. وهو مصدر ناجيته ، مثل قاتلته وناديته

    122 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما عوتب على التسوية فى العطاء
    أتأمرونّى أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟ واللّه ما أطور به ما سمر سمير (1) وما أمّ نجم فى السّماء نجما (2) لو كان المال لى لسوّيت بينهم ، فكيف وإنّما المال مال اللّه!؟ ألا وإنّ إعطاء المال فى غير حقّه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه فى الدّنيا ، ويضعه فى الآخرة ، ويكرمه فى النّاس ، ويهينه عند اللّه ، ولم يضع امرؤ ماله فى غير حقّه ولا عند غير أهله إلاّ حرمه اللّه شكرهم ، وكان لغيره ودّهم ، فإن زلّت به النّعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين (3) وألأم خليل.
    __________________
    (1) ما أطور به : من «طار يطور حول الشىء» أى : ما آمر به ، ولا أقاربه ، مبالغة فى الابتعاد عن العمل بما يقولون. و «ما سمر سمير» أى : مدى الدهر. وهو مثل ، والمشهور فيه «ما سمر ابنا سمير» قالوا : السمير هو الدهر وابناه الليل والنهار ، وقيل : السمير هو السمر ، وجعل الليل والنهار ابنيه لأنه يسمر فيهما ، وربما قالوا : «لا أفعله السمر والقمر» أى : ما دام الناس يسمرون فى ليالى القمر ، وقد يقولون «لا أفعله سمير الليالى» ومنه قول الشنفرى فى بعض رواياته : ـ
    هنالك لا أرجو حياة تسرنى
    سمير الليالى مبسلا بالجرائر

    (2) أى : ما قصد نجم نجما
    (3) خدين : صديق ، وأصل هذه المسألة أن أبا بكر الصديق رضى اللّه عنه كان يسوى بين المسلمين فى قسمة الفىء والصدقات ، فلما أفضت الخلافة إلى أبى حفص عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فضل السابقين من المهاجرين على غيرهم ، وجمهور المهاجرين على الأنصار ، والعرب على العجم ، فلما كان عهد

    125 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فإن أبيتم أن تزعموا إلاّ أنّى أخطأت وضللت فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله ، بضلالى ، وتأخذونهم بخطئى وتكفّرونهم بذنوبى؟! سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسّقم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب ، وقد علمتم أنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجم الزّانى ثمّ صلّى عليه ، ثمّ ورّثه أهله ، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله ، وقطع السّارق وجلد الزّانى غير المحصن ثمّ قسم عليهما من الفىء ، ونكحا المسلمات فأخذهم رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، بذنوبهم ، وأقام حقّ اللّه فيهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله (1) ثمّ أنتم شرار النّاس ، ومن رمى به الشّيطان مراميه ، وضرب به تيهه (2) وسيهلك فىّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ ، وخير النّاس فىّ حالا النّمط الأوسط فالزموه ، والزموا السّواد الأعظم ، فإنّ يد اللّه على الجماعة. وإيّاكم
    __________________
    الامام على رجع إلى سنة أبى بكر.
    (1) كان من زعم الخوارج أن من أخطأ وأذنب فقد كفر ، فأراد الامام أن يقيم الحجة على بطلان زعمهم بما رواه عن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم
    (2) سلك به فى بادية ضلاله

    والفرقة فإنّ الشّاذّ من النّاس للشّيطان ، كما أنّ الشّاذّ من الغنم للذّئب! ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتى هذه (1).
    وإنّما حكّم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه : فان جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم وإن جرّهم إلينا اتّبعونا ، فلم آت ـ لا أبا لكم ـ بجرا (2) ولا ختلتكم عن أمركم (3) ولا لبّسته عليكم ، إنّما اجتمع رأى ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما أن لا يتعدّيا القرآن فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما فمضيا عليه ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكومة بالعدل ، والصّمد للحقّ ، سوء رأيهما (4) وجور حكمهما.
    __________________
    (1) الشعار : علامة القوم فى الحرب والسفر ، وهو ما يتنادون به ليعرف بعضهم بعضا. قيل : كان شعار الخوارج «لا حكم إلا للّه» ، وقيل : المراد بهذا الشعار هو ما امتازوا به من الخروج عن الجماعة. فيريد الامام أن كل خارج عن رأى الجماعة مستبد برأيه عامل على التصرف بهواه ، فهو واجب القتل ، وإلا كان أمره فتنة وتفريقا بين المؤمنين
    (2) البجر ـ بالضم ـ : الشر ، والأمر العظيم
    (3) ختلتكم : خدعتكم ، والتلبيس خلط الأمر وتشبيهه حتى لا يعرف وجه الحق فيه
    (4) الصمد : القصد ، «وسوء» مفعول لاستثناؤنا

    124 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة (1)
    يا أحنف ، كأنّى به وقد سار بالجيش الّذى لا يكون له غبار ولا لجب (2) ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل (3) يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام.
    قال الشريف : يومىء بذلك إلى صاحب الزنج. ثم قال عليه السّلام : ويل لسكككم العامرة (4) ، والدّور المزخرفة الّتى لها أجنحة كأجنحة النّسور (5) وخراطيم كخراطيم الفيلة. من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم (6) ولا يفتقد
    __________________
    (1) الملاحم : جمع ملحمة ، وهى الواقعة العظيمة
    (2) اللجب : الصياح ، واللجم : جمع لجام. وقعقعتها : ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل
    (3) الحمحمة : صوت البرذون عند الشعير ، ومر الفرس ـ أى : صوته ـ عند ما يقصر من الصهيل ويستعين بنفسه
    (4) جمع سكة ، وهى الطريق المستوى ، وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق من تخريب ما حواليها من البنيان على يد صاحب الزنج ، وقد تقدم خبره فى قيامه وسقوطه فراجعه
    (5) أجنحة الدور : رواشنها على التشبيه بأجنحة الطير ، وقيل : إن الجناح والروشن يشتركان فى إخراج الخشب من حائط الدار إلى الطريق بحيث لا يصل إلى جدار آخر يقابله ، وإلا فهو الساباط ويختلفان فى أن الجناح يوضع له أعمدة من الطريق بخلاف الروشن ، وخراطيمها : ما يعمل من الأخشاب والبوارى بارزة عن السقوف لوقاية الغرف عن الأمطار وشعاع الشمس. أو الخراطيم : هى الميازيب تطلى بالقار على طول نحو خمسة أذرع أو أزيد
    (6) أولئك أصحاب الزنجى ، وإنما لا يندب من يقتل منهم لأن أكثرهم

    غائبهم؟ أنا كابّ الدّنيا لوجهها ، وقادرها بقدرها ، وناظرها بعينها.
    منها : ويومئ بذلك إلى وصف التتار :
    كأنّى أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة (1) ، يلبسون السّرق والدّيباج (2) ويعتقبون الخيل العتاق (3) ويكون هناك استحرار قتل حتّى (4) يمشى المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقلّ من المأسور.
    __________________
    كانوا عبيدا لدهاقين البصرة ، ولم يكونوا ذوى زوجات وأولاد ، بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم. وقوله «ولا يفتقد غائبهم» يريد أنهم كثير فكلما قتل منهم قتيل سد غيره مسده ، فلا يظهر أثر فقده. وقوله «أنا كاب الدنيا لوجهها» قد روى مثل ذلك عن عيسى ابن مريم عليه السّلام قال «أنا الذى كببت الدنيا على وجهها ، ليس لى زوجة تموت ، ولا بيت يخرب ، وسادى الحجر ، وفراشى المدر ، وسراجى القمر» والعبارة كناية عن الزهادة فى الدنيا والصدف عنها
    (1) المجان : جمع مجن ـ بكسر الميم ـ وهو الترس ، وإنما سمى مجنا لأنه يستتر به ، والجنة ـ بالضم ـ السترة ، وجمعها جنن بوزان غرفة وغرف ـ والمطرقة ـ بسكون الطاء وفتح الراء ـ التى أطرق بعضها إلى بعض أى : صمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا ، ويقال : جاءت الابل مطاريق ، أى : يتلو بعضها بعضا. وقال الشيخ الامام رضى اللّه عنه : فى القاموس «أى : التى يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة ـ أى : المخصوفة ـ وهو عجز عن التعبير ، والأحسن أن يقال : أى التى أزلق بها الطراق ـ ككتاب ـ وهو جلد يقور على مقدار الترس ثم يلزق به.
    (2) السرق ـ بالتحريك ـ : شقق الحرير الأبيض ، أو هو الحرير عامة. واحدتها سرقة
    (3) يعتقبون : يحتبسون كرائم الخيل يمنعونها غيرهم ، وقال ابن أبى الحديد : «يعتقبون الخيل ، أى : يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها» اه‍
    (4) استحرار القتل : اشتداده. وتقول : حر القتل ، واستحر ، وهما بمعنى واحد ، قال ابن الزبعرى : ـ حيث ألقت بقباء بركها واستحر القتل فى عبد الأشل

    فقال له بعض أصحابه : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السّلام ، وقال للرجل وكان كلبيا :
    يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذى علم! وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّد اللّه بقوله : «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ» الآية فيعلم سبحانه ما فى الأرحام : من ذكر وأنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخىّ أو بخيل ، وشقىّ أو سعيد ، ومن يكون فى النّار حطبا أو فى الجنان للنّبيّين مرافقا ، فهذا علم الغيب الّذى لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لى بأن يعيه صدرى ، وتضطمّ عليه جوانحى (1).
    125 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى ذكر المكاييل
    عباد اللّه ، إنّكم وما تأملون من هذه الدّنيا أثوياء مؤجّلون ، (2) ومدينون
    __________________
    (1) تضطم : هو افتعال من الضم ، أى : وتنضم عليه جوانحى ، والجوانح : الأضلاع تحت الترائب مما يلى الصدر ، وانضمامها عليه : اشتمالها على قلب يعيها.
    (2) أثوياء : جمع ثوى ـ كغنى ـ وهو الضيف ، و «مؤجلون» مؤخرون إلى أجل معلوم ، و «مدينون» مقرضون ، تقول : دنت الرجل ، أى : أقرضته ، فهو مدين ، وربما قيل مديون على الأصل المهجور فى الفصيح ، وتقول : دنت ، بمعنى استقرضت وصار عليك دين فأنت دائن ، قال الشاعر : ـ ندين ويقضى اللّه عنا ، وقد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيعا وقوله «مقتضون» هو جمع مقتضى ـ اسم مفعول من اقتضى ـ أى : مطالبون بأداء الدين

    مقتضون ، أجل منقوص ، وعمل محفوظ ، فربّ دائب مضيّع (1) وربّ كادح خاسر. وقد أصبحتم فى زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدبارا ، والشّرّ فيه إلاّ إقبالا ، والشّيطان فى هلاك النّاس إلاّ طمعا. فهذا أوان قويت عدّته (2) وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته (3). اضرب بطرفك حيث شئت من النّاس : هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا ، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا ، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا ، (4) أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورّعون فى مكاسبهم؟ والمتنزّهون فى مذاهبهم؟ أليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدّنيا الدّنيّة والعاجلة المنغّصة؟ وهل خلقتم إلاّ فى حثالة (5) لا تلتقى بذمّهم الشّفتان
    __________________
    (1) الدائب : المداوم فى العمل ، والكادح : الساعى لنفسه بجهد ومشقة ، والمراد من يقصر سعيه على جمع حطام الدنيا
    (2) الضمير للشيطان
    (3) «أمكنت الفريسة» أى : سهلت وتيسرت
    (4) «اضرب بطرفك» أى : انظر فى عامة ما يحيط بك من النواحى ، ومثله قول الشاعر : ـ اضرب بطرفك حيث شئ‍ ت فلن ترى إلاّ بخيلا والوفر ـ بفتح فسكون ـ المال الكثير. والوقر ـ بالقاف المثناة ـ ثقل الأذن ، وقلة سمعها ، قال الشاعر : ـ أحب الفتى ينفى الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشة وقرا
    (5) الحثالة ـ بالضم ـ الردىء من كل شىء ، والمراد أقزام الناس ، وصغار النفوس

    استصغارا لقدرهم ، وذهابا عن ذكرهم ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون : ظهر الفساد فلا منكر متغيّر ، ولا زاجر مزدجر! أفبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه فى دار قدسه؟ وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع اللّه عن جنّته ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له ، والنّاهين عن المنكر العاملين به.
    126 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لأبى ذر رحمه اللّه لما خرج إلى الربذة (1)
    يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على
    __________________
    (1) الربذة ـ محركة ـ موضع على قرب من المدينة المنورة فيه قبر أبى ذر الغفارى رضى اللّه عنه ، والذى أخرجه إليه الخليفة الثالث رضى اللّه عنه ، قال ابن أبى الحديد : واقعة أبى ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التى نقمت على عثمان رضى اللّه عنه. وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى فى كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودى فى الناس ألا لا يكلم أحد أبا ذر ولا يشيعه ، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به ، فخرج به مروان ، وتحاماه الناس ، إلا على بن أبى طالب وعقيلا أخاه وحسنا وحسينا ولديه وعمارا ، فانهم خرجوا معه يشيعونه ، فجعل الحسن يكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ، فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل على رضى اللّه عنه على مروان : فضرب بالسوط بين أذنى راحلته ، وقال له : تنح لحاك اللّه إلى النار ، فرجع مروان مغضبا إلى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على على ، ووقف أبو ذر فودعه الناس ، فقال له على : يا أبا ذر ، إنك غضبت للّه ـ الخ «2 ـ ن ـ ج ـ 2»

    دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك فى أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا؟؟! ولو أنّ السّموات والأرض كانتا على عبد رتقا ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا ، لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك (1)
    127 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أيّتها النّفوس المختلفة ، والقلوب المتشتّتة ، الشّاهدة أبدانهم ، والغائبة عنهم عقولهم! أظأركم على الحقّ (2) وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد! هيهات أن أطلع بكم سرار العدل (3) ، أو أقيم اعوجاج الحقّ.
    __________________
    (1) لو قرضت منها جزءا وخصصت به نفسك : أى لو رضيت أن تنال منها.
    (2) أظأركم : أعطفكم ، وتقول : ظأرت الناقة أظأرها وهى ناقة مظؤرة ، إذا عطفتها على ولد غيرها ، وفى أمثالهم «الطعن يظأره» أى : يعطفه على الصلح ، وتقول أيضا : ظأرت الناقة تظأر ، إذا عطفت على البو ، فهو فعل يتعدى ويلزم. والوعوعة : الصوت وكذلك الوعواع
    (3) السرار ـ كسحاب وكتاب ـ فى الأصل : آخر ليلة من الشهر ، والمراد الظلمة ، أى أن أطلع بكم شارفا يكشف عما عرض على العدل من الظلمة ، كما يدل على هذا قوله «وأقيم اعوجاج الحق» فان الحق لا اعوجاج فيه ولكن قوما خلطوه بالباطل فهذا ما أصابه من اعوجاج. قال ابن أبى الحديد : ويمكن عندى أن يفسر على وجه آخر ، وهو أن يكون السرار ههنا بمعنى السرر ، وهى خطوط مضيئة فى الجبهة ، وقد نص أهل اللغة على أنه يجوز فيها سرر وسرار ، فيكون معنى كلامه عليه السّلام : هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل وتنجلى أرصاده ، ويبرق

    اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذى كان منّا منافسة فى سلطان ، ولا التماس شىء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح فى بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك.
    اللّهمّ إنّى أوّل من أناب وسمع وأجاب : لم يسبقنى إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، بالصّلاة.
    وقد علمتم أنّه لا ينبغى أن يكون الوالى على الفروج ، والدّماء ، والمغانم والأحكام ، وإمامة المسلمين البخيل ، فتكون فى أموالهم نهمته (1) ولا الجاهل فيضلّهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدّول (2) فيتّخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشى فى الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف بها دون المقاطع (3) ، ولا المعطّل للسّنّة فيهلك الأمّة
    __________________
    وجهه. ويمكن فيه وجه آخر ، وهو أن ينصب سرار ههنا على الظرفية ويكون التقدير : هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه ، وفيه حذف المفعول ، وحذفه أكثر من أن يرشد إليه
    (1) النهمة ـ بالفتح ـ إفراط الشهوة والمبالغة فى الحرص
    (2) الحائف : من الحيف ، أى : الجور والظلم ، والدول جمع دولة ـ بالضم ـ : وهى المال ، لأنه يتداول ـ أى : ينتقل من يد ليد وفى التنزيل : «كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ» ـ والمراد من يحيف فى قسم الأموال فيفضل قوما فى العطاء على قوم بلا موجب للتفضيل
    (3) المقاطع : الحدود التى عينها اللّه لها

    128 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    نحمده على ما أخذ وأعطى ، وعلى ما أبلى وابتلى (1) الباطن لكلّ خفيّة (2) والحاضر لكلّ سريرة ، العالم بما تكنّ الصّدور ، وما تخون العيون ، ونشهد أن لا إله غيره ، وأنّ محمّدا نجيبه وبعيثه (3) شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان والقلب اللّسان.
    منها : فإنّه واللّه الجدّ لا اللّعب ، والحقّ لا الكذب ، وما هو إلاّ الموت قد أسمع داعيه (4) وأعجل حاديه ، فلا يغرّنّك سواد النّاس من نفسك (5)
    __________________
    (1) الابلاء : الاحسان والانعام ، تقول : قد أبلاه اللّه بلاء حسنا ، أى : أعطاه ، وقال زهير بن أبى سلمى المزنى : ـ جزى اللّه بالاحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذى يبلو والابتلاء : الامتحان ، وأصل الابتلاء إنزال مضرة بالانسان على سبيل الاختبار كالمرض والفقر ، وقد يكون الابتلاء الاختبار بالخير ، إلا أن أكثر ما يستعمل فى الشر ، وقال اللّه تعالى : «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَاَلْخَيْرِ فِتْنَةً»
    (2) الباطن : العالم ، تقول : بطنت الأمر ، أى : خبرته وعرفت بواطنه
    (3) مصطفاه ومبعوثه
    (4) أى : إن الداعى إلى الموت قد أسمع بصوته كل حى ، فلا حى إلاّ هو يعلم أنه يموت و «أعجل حاديه» أى : إن الحادى لسير المنايا إلى منازل الأجسام ـ لاخلائها من سكنة الأرواح. ـ قد أعجل المدبرين عن تدبيرهم وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم ، و «من» فى قوله «فلا يغرنك سواد الناس من نفسك» إما أن تكون بمعنى الباء ، أى : لا يغرنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك ، فتكون حينئذ متعلقة بيغر ، وإما أن تكون على أصلها وحينئذ فهى متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك وراكنا إليها
    (5) لا تغتر بكثرة الأحياء

    فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال ، وحذر الإقلال ، وأمن العواقب ، طول أمل (1) واستبعاد أجل ، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه ، وأخذه من مأمنه ، محمولا على أعواد المنايا ، يتعاطى به الرّجال الرّجال حملا على المناكب ، وإمساكا بالأنامل (2) أما رأيتم الّذين يومّلون بعيدا ، ويبنون مشيدا ، ويجمعون كثيرا ، كيف أصبحت بيوتهم قبورا ، وما جمعوا بورا ، (3) وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين ، لا فى حسنة يزيدون ، ولا من سيّئة يستعتبون؟! فمن أشعر التّقوى قلبه برّز مهله (4) وفاز عمله ،
    __________________
    فكلما رأيت حيا زعمت أنك باق مثله
    (1) طول : مفعول لأجله ، أى : كان منه ذلك لطول الأمل الخ
    (2) أعواد المنايا : النعش ، و «يتعاطى به الرجال الرجال» أى : يتداولونه : تارة على أكتاف هؤلاء ، وتارة على أكتاف هؤلاء. وقد فسره بما بعده من قوله «حملا على المناكب وإمساكا بالأنامل»
    (3) المشيد ـ بوزن المبيع والمعيب ـ اسم مفعول من «شاده» إذا بناه بالشيد ، وهو الجص ، وفى التنزيل : «وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» والبور : الفاسد الهالك ، و «قوم بور» أى : هلكى ، وقال اللّه تعالى : «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» والبور : جمع ، واحده بائر ، مثل حائل وحول
    (4) «يستعتبون» رواه قوم بالبناء للمجهول ، ومعناه حينئذ أنهم لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم أيام حياتهم ، أو لا يستطيعون وهم موتى أن يفعلوا ما يعاتبون عليه. ورواه قوم بالبناء للمعلوم ، ومعناه حينئذ مأخوذ من قولهم «استعتب فلان» إذا طلب أن يعتب ، أى : يرضى ، وقوله «فمن أشعر التقوى قلبه» معناه جعلها ملازمة له كما يلازم الشعار الجسد ، وتقول : «برز الرجل على أقرانه» أى : فاقهم. والمهل : التقدم فى الخير ، أى : فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:39 pm

    فاهتبلوا هبلها ، واعملوا للجنّة عملها (1) فإنّ الدّنيا لم تخلق لكم دار مقام ، بل خلقت لكم مجازا لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار ، فكونوا منها على أوفاز (2) ، وقرّبوا الظّهور للزّيال.
    129 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وانقادت له الدّنيا والآخرة بأزمّتها ، وقذفت إليه السّموات والأرضون مقاليدها (3) ، وسجدت له بالغدوّ والآصال الأشجار النّاضرة ، وقدحت له من قضبانها النّيران المضيئة (4) وآتت أكلها بكلماته الثّمار اليانعة منها : وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزّ لا تهزم أعوانه ومنها : أرسله على حين فترة من الرّسل ، وتنازع من الألسن ، فقفّى به الرّسل ، وختم به الوحى ، فجاهد فى اللّه المدبرين عنه ، والعادلين به.
    __________________
    (1) «اهتبل الصيد» : طلبه. واهتبل كلمة الحكمة : اغتنمها ، والضمير فى «هبلها» للتقوى لا للدنيا ، أى : اغنموا خير التقوى
    (2) الوفز ـ بسكون الفاء ، ويحرك ـ : العجلة ، وجمعه أوفاز ، أى : كونوا منها على استعجال ، والظهور : ظهور المطايا ، أى : أحضروها للزيال ، أى : فراق الدنيا
    (3) مقاليدها : جمع مقلاد ، وهو المفتاح
    (4) أى : إن الأشجار أشعلت النيران المضيئة من قضبانها ـ أى : أغصانها ـ وقوله «بكلماته» أى : بأوامره التكوينية ، والضمائر للّه سبحانه

    ومنها : وإنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى (1) لا يبصر ممّا وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدّار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزوّد ، والأعمى لها متزوّد.
    ومنها : واعلموا أن ليس من شىء إلاّ ويكاد صاحبه أن يشبع منه ويملّه ، إلاّ الحياة فإنّه لا يجد له فى الموت راحة (2) وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتى هى حياة للقلب الميّت ، وبصر للعين العمياء ، وسمع للأذن الصّمّاء ، ورىّ للظّمآن ، وفيها الغنى كلّه والسّلامة : كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف فى اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه.
    قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم (3) ونبت المرعى على دمنكم ، وتصافيتم
    __________________
    (1) يشير إلى أن من يقصر نظره على الدنيا فكأنه لم يبصر شيئا ، فهو بمنزلة الأعمى
    (2) «لا يجد فى الموت راحة» حيث لم يهيىء من العمل الصالح الباقى ما يكسبه السعادة بعد الموت. قال : «وإنما ذلك» أى : شعور الانسان بخيفة ما بعد الموت ، بمنزلة حكمة واعظة تنبهه من غفلة الغرور ، وتبعثه إلى خير العمل. ثم بعد بيانه لما يجده الانسان فى نفسه ـ من خيفة ما وراء الموت ، ولما يرشد إليه ذلك ـ أخذ يبين الوسيلة الموصلة إلى النجاة مما يخشاه القلب وتتوجس منه النفس ، وأنها التمسك بكتاب اللّه الذى بين أوصافه ، وبهذا التفسير التأم الكلام ، واندفعت حيرة الشارحين فى هذا المقام. وقوله «كتاب ـ الخ» جملة مستأنفة ، أى : هذا كتاب اللّه فيه ما تحتاجون إليه مماهدتكم الفطرة إلى طلبه
    (3) الغل : الحقد ، والاصطلاح

    على حبّ الآمال ، وتعاديتم فى كسب الأموال ، لقد استهام بكم الخبيث (1) وتاه بكم الغرور ، واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم
    130 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد شاوره عمر [بن الخطاب رضى اللّه عنه]
    فى الخروج إلى غزو الروم بنفسه
    وقد توكّل اللّه لأهل هذا الدّين باعزاز الحوزة (2) وستر العورة ، والّذى نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون ، حىّ لا يموت (3)
    __________________
    عليه : الاتفاق على تمكينه فى النفوس ، وقوله «نبت المرعى على دمنكم» : تأكيد وتوضيح للجملة قبلها ، والدمن ـ بكسر ففتح ـ جمع دمنة ـ بالكسر ـ وهى الحقد القديم ، ونبت المرعى عليه : استتاره بظواهر النفاق وزينة الخداع ، وأصل الدمن : السرقين وما يكون من أرواث الماشية وأبوالها ، وسميت بها الأحقاد لأنها أشبه شىء بها قد تنبت عليها الخضر وهى على ما فيها من قذر ، وهذا كلام ينعى به حالهم مع وجود كتاب اللّه ومرشد الالهام
    (1) استهام : أصله من «هام على وجهه» إذا خرج لا يدرى أين يذهب ، أى : أخرجكم الشيطان من نور الفطرة وضياء الشريعة إلى ظلمات الضلال والحيرة
    (2) الحوزة : ما يحوزه المالك ويتولى حفظه ، وإعزاز حوزة الدين : حمايتها من تغلب أعدائه
    (3) «توكل» أصله بمعنى صار لهم وكيلا ، والوكيل معناه الكفيل الزعيم بالشىء ، ويروى فى مكانه «تكفل» والمعنى واحد ، والحوزة : الناحية ، وحوزة الملك : بيضته التى يدافع عنها. يقول : إن الذى نصرهم فى الابتداء على ضعفهم وقلة عددهم هو اللّه تعالى ، وهو حى لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا

    إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم (1) ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلا مجرّبا ، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة (2) فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للنّاس (3) ومثابة للمسلمين.
    131 ـ ومن كلام له عليه السّلام (4)
    يا ابن اللّعين الأبتر ، والشّجرة الّتى لا أصل لها ، ولا فرع ، أنت تكفينى! واللّه ما أعزّ اللّه من أنت ناصره ، ولا قام من أنت منهضه ، اخرج عنّا أبعد اللّه
    __________________
    (1) كانفة : عاصمة يلجأون إليها ، من «كنفه» إذا صانه وستره ، والأصل فى هذا الاستعمال أنهم يقولون «كنفت الابل» أى : جعلت لها كنيفا ، وهو الحظيرة من الشجر تستتر بها وتلجأ إليها ، وبها تعتصم
    (2) «رجلا مجربا» يروى بالجيم ، ومعناه الذى أحكمته التجربة ودله الاختبار على عواقب الأمور ، ويروى «محربا» بالحاء المهملة ، أى : صاحب حروب ، وقوله «احفز». من «حفزته» ـ كضربته ـ إذا دفعته وسقته سوقا شديدا ، وأهل البلاء : أهل المهارة فى الحرب مع الصدق فى القصد والجراءة فى الاقدام ، والبلاء : هو الاجادة فى العمل وإحسانه
    (3) الردء ـ بالكسر ـ : الملجأ ، والمثابة : المرجع
    (4) قالوا : كان نزاع بين أمير المؤمنين وبين عثمان ، فقال المغيرة بن الأخنس ابن شريق لعثمان : أنا أكفيكه! قال على : يا ابن اللعين الخ ، وإنما قال ذلك لأن لأن أباه كان من رءووس المنافقين ، ووصفه بالأبتر ـ وهو من لا عقب له ـ لأن ولده هذا كلا ولد وكان للمغيرة هذا أخ اسمه أبو الحكم بن الأخنس ، وكان قد شهد مع كفار مكة غزاة أحد ، وفيها قتله أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى اللّه عنه

    نواك (1) ثمّ ابلغ جهدك فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت (2)
    132 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لم تكن بيعتكم إيّاى فلتة ، وليس أمرى وأمركم واحدا : إنّى أريدكم للّه ، وأنتم تريدونى لأنفسكم! أيّها النّاس ، أعينونى على أنفسكم ، وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظّالم بخزامته (3) حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارها.
    133 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى معنى طلحة والزبير
    واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا (4) وإنّهم
    __________________
    فمن هنا تأرثت الضغينة فى قلب المغيرة عليه
    (1) النوى ههنا : بمعنى الدار ، ويروى فى مكانه «أبعد اللّه نوءك» بالهمز واحد أنواء السماء ، وهى النجوم التى كان العرب ينسبون إليها المطر ، والمراد : أبعد اللّه خيرك
    (2) الجهد ـ بالفتح ـ الغاية ، ويقال : قد جهد فلان جهده ، أى : انتهى إلى غايته ، وهو بفتح الجيم فى هذا الاستعمال لا يجوز فيه غيره
    (3) الفلتة : الأمر يقع عن غير تدبر ولا روية. و «أعينونى على أنفسكم» معناه خذوا أنفسكم بالعدل ، واقمعوها عن اتباع الهوى ، واردعوها بعقولكم عن المسالك التى ترديها وتوبقها ، فانكم إذا فعلتم ذلك أعنتمونى عليها ، ومعنى قوله «أريدكم للّه وأنتم تريدوننى لأنفسكم» أنه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة اللّه والقيام بحقوقه ، وليس يريدهم لحظ نفسه ، وأما هم فانهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب والأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا ، والخزامة ـ بالكسر ـ : حلقة من شعر تجعل فى وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويسهل قياده
    (4) النصف ـ محركة ـ : أسم

    ليطلبون حقّا هم تركوه ، ودماهم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولّوه دونى فما الطّلبة إلاّ قبلهم (1) وإنّ أوّل عدلهم للحكم على أنفسهم ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست ولا لبّس علىّ ، وإنّها للفئة الباغية فيها الحما والحمة (2) والشّبهة المغدفة (3) وإنّ الأمر لواضح وقد زاح الباطل عن نصابه (4) وانقطع لسانه عن شغبه (5) وايم اللّه لأفرطنّ لهم
    __________________
    من الانصاف ، وربما سكن كما فى قول الفرزدق :
    ولكن نصفا لو سببت وسبنى
    بنو عبد شمس من قريش وهاشم

    (1) الطلبة ـ بالكسر ـ : ما يطالب به من الثأر
    (2) المراد بالحما هنا : مطلق القريب والنسيب ، وهو كناية عن الزبير ، فانه من قرابة النبى صلّى اللّه عليه وسلم وابن عمته. قالوا : وكان النبى أخبر عليا أنه ستبغى عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدى زوجاته ، والحمة ـ بضم ففتح ـ : كناية عنها ، وأصلها الحية أو إبرة اللاسعة من الهوام واللّه أعلم. هكذا قال الاستاذ الامام ، وفى تفسير «الحما» الذى ذهب إليه بعد ، فانه لو كان بهذا المعنى الذى ذكره لجاء به مرفوعا بالواو مضافا كما هو الأشهر الأعرف فى إعراب هذه الكلمة ، وإنما هو «الحمأ» بالهمز فى آخره ، وهو الطين الأسود ، وفى التنزيل : «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» وهو كناية عن اختلاط الأمر واضطرابه ، والحمة : كناية عن شدته وعظيم أثره فى إيلام جماعة المسلمين
    (3) أغدفت المرأة قناعها. أرسلته على وجهها ، وأغدف الليل : أرخى سدوله ، يعنى أن شبهة الطلب بدم عثمان شبهة ساترة للحق
    (4) زاح يزيح زيحا وزيحانا : بعد وذهب ، كانزاح. والنصاب : الأصل ، والمستقر ، أى : قد انقلع الباطل من مغرسه
    (5) الشغب ـ بالفتح ـ : تهييج الشر ، وفعله شغب ـ كفتح ـ وجاء الشغب بفتحتين فى لغة قليلة ، وفعله حينئذ شغب ـ بكسر الغين ـ مثل طرب طربا

    حوضا (1) أنا ماتحه : لا يصدرون عنه برىّ ، ولا يعبّون بعده فى حسى (2)
    منها : فأقبلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها (3) تقولون : البيعة البيعة!! قبضت يدى فبسطتموها ، ونازعتكم يدى فجدبتموها ، اللّهمّ إنّهما قطعانى وظلمانى ، ونكثا بيعتى ، وألّبا النّاس علىّ (4) فاحلل ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا ، ولقد استثبتهما قبل القتال (5) ،
    __________________
    (1) أفرط الحوض : ملأه حتى فاض ، والمراد حوض المنية. و «ماتحه» أى : نازع مائه لأسقيهم ، والفرق بين الماتح ـ بالتاء المثناة ـ والمائح ـ بالهمز ـ أن الماتح المستقى من فوق ، ومنه قول الراجز يأيها الماتح دلوى دونك أما المائح فهو مالىء الدلاء من تحت
    (2) عب : شرب بلا تنفس ، والحسى ـ بفتح الحاء ، ويكسر ـ : سهل من الأرض يستنقع فيه الماء ، أو يكون غليظ من الأرض فوقه رمل يجمع ماء المطر فتحفر فيه حفرة لتنزح منها ماء ، وكلما نزحت دلوا جمعت أخرى ، فتلك الحفرة حسى ، يريد أنه يسقيهم منها كأسا لا يتجرعون سواها
    (3) العوذ ـ بالضم ـ : جمع عائذة ، وهى الحديثة النتاج من الظباء والابل ، أو كل أنثى ، وقد تجمع العائذة على عوذان ، مثل راع ورعيان ، وتقول : هذه عائذة بينة العوذ ، وذلك إذا ولدت عن قريب ، ونقول : ما زالت فى عياذها ، إذا كانت فى حدثان نتاجها. والمطافيل : جمع مطفل ـ بضم الميم وكسر الفاء ـ : ذات الطفل من الانس والوحش بعد أن يبعد عهدها بالنتاج ، هذا هو الأصل ، وربما أطلق على المطافيل اسم العوذ مجازا كما هنا
    (4) التأليب : الافساد
    (5) استثبتهما : من «ثاب» بالثاء ـ إذا رجع ، أى : استرجعتهما ، أى : طلبت منهما أن يرجعا ، ويقال للمنزل «مثابة» لأن أهله ينصرفون عنه ثم يعودون إليه ، ويروى «استتبتهما» بالتاء المثناة ـ أى : طلبت منهما أن يتوبا إلى اللّه مما أذنبا بنقض البيعة

    واستأنيت بهما أمام الوقاع ، فغمط النّعمة ، وردّ العافية (1)
    136 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى ذكر الملاحم
    يعطف الهوى على الهدى (2) إذا عطفوا الهدى على الهوى ، ويعطف الرّأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرّأى.
    منها : حتّى تقوم الحرب بكم على ساق باديا نواجذها (3) ، مملوءة أخلافها ، حلوا رضاعها ، علقما عاقبتها. ألا وفى غد ـ وسيأتى غد بما
    __________________
    (1) «استأنيت بهما» من الأناة ، وهى التؤدة فى الأمر والانتظار ، والمعنى تأنيت معهما ولم أعالجهما بالحرب ، أو طلبت منهما أن يتأنيا فيما أقدما عليه من نقض العهد ، وقوله «أمام الوقاع» ـ ككتاب ـ قبل المواقعة بالحرب ، وغمط النعمة : جحدها وحقرها وأزرى بها ، وزانه سمع وضرب ، ويقال إن الكسر أفصح
    (2) «يعطف الخ» : خبر عن قائم ينادى بالقرآن ، ويطالب الناس باتباعه ، ورد كل رأى إليه ، ومعنى قوله «يعطف الهوى» يقهره ويميل به عن جانب الايثار ، فيجعل الهدى ظاهرا على الهوى ، وكذلك قوله «ويعطف الرأى على القرآن» أى : يقهر حكم الرأى والقياس ، ويجعل الغلبة للقرآن عليه ، ويحمل الناس على العمل به دونه
    (3) النواجذ : أقصى الأضراس أو الأنياب ، والأخلاف : جمع خلف ـ بالكسر ـ وهو الضرع ، وبدو النواجذ : كناية عن شدة الاحتدام ، فانما تبدو من الأسد إذا اشتد غضبه ، وامتلاء الأخلاف : غزارة ما فيها من الشر ، وحلاوة الرضاع : استطابة اهل النجدة واستعذابهم لما ينالهم منها ، ومرارة العاقبة بما يصير إليه الظالمون وبئس المصير ، وتقول : رضع رضاعا ، مثل سمع سماعا ، وأهل نجد يقولون : رضع يرضع رضعا ، مثل ضرب يضرب ضربا

    لا تعرفون ـ يأخذ الوالى من غيرها عمّالها على مساوئ أعمالها (1) ، وتخرج له الأرض من أفاليذ (2) كبدها ، وتلقى إليه سلما مقاليدها ، فيريكم كيف عدل السّيرة ، ويحيى ميّت الكتاب والسّنّة.
    منها : كأنّى به قد نعق بالشّام ، وفحص براياته فى ضواحى كوفان ، فعطف إليها عطف الضّروس وفرش الأرض بالرّءوس (3) قد فغرت فاغرته وثقلت فى الأرض وطأته ، بعيد الجولة ، عظيم الصّولة (4). واللّه ليشرّدنّكم
    __________________
    (1) إذا انتهت الحرب حاسب الوالى القائم كل عامل من عمال السوء على مساوئ أعمالهم ، وإنما كان الوالى من غيرها لأنه برىء من جرمها
    (2) أفاليذ : جمع أفلاذ ، جمع فلذة ، وهى القطعة من الذهب والفضة ، وهذا كناية عما يظهر لمن يقوم بالأمر من كنوز الأرض ، وقد جاء ذلك فى خبر مرفوع فى لفظه «وفاءت له الأرض أفلاذ كبدها» ومن الناس من يفسر قوله تعالى : «وَأَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا» بذلك ، قاله ابن أبى الحديد
    (3) انتقال إلى الكلام فى قائم الفتنة ، قال ابن أبى الحديد : هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان ، وظهوره بالشأم ، وملكه بعد ذلك العراق ، وما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث ، وقتله أيام مصعب بن الزبير .. وتقول نعق الراعى بغنمه ، بالعين المهملة ، وتقول : نغق الغراب ، بالغين المعجمة ، والمعنى فيهما صاح وصوت. وفحص : بحث ، وكوفان : الكوفة. والضروس : الناقة السيئة الخلق تعض حالبها ، وقوله «وفرش الأرض بالرءوس» معناه غطاها بها كما يغطى المكان بالفرش ، وهذا كناية عن كثرة من يقتله.
    (4) «فغرت فاغرته» تقول : فغر فاه ، بمعنى فتحه ليتكلم مثلا ، وتقول : فغر فوه ، ففغر فعل يتعدى ويلزم ، والكلام استعارة عن كثرة أوامره التى تخالف ما عرفوه من الشرع. وقوله «ثقلت فى الأرض وطأته» كناية عن جوره وظلمه. وقوله «بعيد

    فى أطراف الأرض (1) حتّى لا يبقى منكم إلاّ قليل كالكحل فى العين ، فلا تزالون كذلك حتّى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها (2) فالزموا السّنن القائمة ، والآثار البيّنة ، والعهد القريب الّذى عليه باقى النّبوّة ، واعلموا أنّ الشّيطان إنّما يسنّى لكم طرقه لتتّبعوا عقبه (3)
    135 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى وقت الشورى
    لم يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولى ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة ، وشيعة لأهل الجهالة (4)
    136 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى النهى عن غيبة الناس
    وإنّما ينبغى لأهل العصمة ، والمصنوع إليهم فى السّلامة (5) أن يرحموا
    __________________
    الجولة» فالجولة : الجولان ، وهو الطواف ، يريد أن طواف خيله وجيوشه فى البلاد طويل جدا قلما تكون معه راحة أو سكون
    (1) «ليشردنكم» أى : ليفرقنكم
    (2) عوازب أحلامها : غائبات عقولها
    (3) يسنى : يسهل
    (4) قوله عسى أن تروا الخ : ابتداء كلام ينذرهم به من عاقبة الأمر ، وتنتضى : تسل
    (5) الذين أنعم اللّه عليهم ، وأحسن صنعته إليهم ، بالسلامة من الآثام

    أهل الذّنوب والمعصية ، ويكون الشّكر هو الغالب عليهم ، والحاجز لهم عنهم ، فكيف بالغائب الّذى غاب أخاه ، وعيّره ببلواه؟! أما ذكر موضع ستر اللّه عليه من ذنوبه ممّا هو أعظم من الذّنب الّذى غابه به!! (1) وكيف يذمّه بذنب قد ركب مثله! فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه فقد عصى اللّه فيما سواه ممّا هو أعظم منه. وايم اللّه لئن لم يكن عصاه فى الكبير وعصاه فى الصّغير لجراءته على عيب النّاس أكبر.
    يا عبد اللّه ، لا تعجل فى عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه ، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه ، وليكن الشّكر شاغلا له على معافاته ممّا ابتلى به غيره (2)
    137 ـ ومن كلام له عليه السّلام (3)
    أيّها النّاس ، من عرف من أخيه وثيقة دين ، وسداد طريق ، فلا يسمعنّ
    __________________
    (1) «مما هو أعظم ـ الخ» بيان للذنوب التى سترها اللّه عليه
    (2) «من علم» فاعل «يكفف» و «عيب غيره» مفعول «علم» ومفعول «يكفف» محذوف ، أى : من علم عيب غيره ينبغى أن يكف لسانه عن الخوض فيه للذى يعلمه من عيب نفسه. وقوله «على معافاته» متعلق بالشكر ، و «مما ابتلى» متعلق بمعافاته
    (3) خلاصة هذا الكلام النهى عن التسرع إلى تصديق ما يقال من العيب والقدح فى حق الانسان المستور الظاهر ، المشتهر بالصلاح والخير ، وهو من قوله تعالى

    فيه أقاويل الرّجال ، أما إنّه قد يرمى الرّامى وتخطىء السّهام ، ويحيل الكلام (1) وباطل ذلك يبور ، واللّه سميع وشهيد. أما إنّه ليس بين الباطل والحقّ إلاّ أربع أصابع قال الشريف : فسئل عليه السّلام عن معنى قوله هذا ، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ، ثم قال : الباطل أن تقول سمعت ، والحقّ أن تقول رأيت.
    138 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وليس لواضع المعروف فى غير حقّه ، وعند غير أهله ، من الحظّ إلاّ محمدة اللّئام ، وثناء الأشرار ، ومقالة الجهّال ـ ما دام منعما عليهم ـ «ما أجود يده» وهو عن ذات اللّه بخيل!! فمن آتاه اللّه مالا فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضّيافة ، وليفكّ به الأسير والعانى ، وليعط منه الفقير والغارم ، وليصبر نفسه على الحقوق والنّوائب ابتغاء الثّواب ، فإنّ فوزا بهذه الخصال شرف مكارم الدّنيا ، ودرك فضائل الآخرة ، إن شاء اللّه.
    __________________
    : «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ» وقد ضرب لذلك مثلا أن الرامى قد يرمى فلا يصيب غرضه ، وكذلك الطاعن قد يطعن فلا يكون طعنه صحيحا ، وربما كان لغرض فاسد كالتشفى ممن يعيبه حقدا عليه وحسدا له
    (1) يحيل ـ كيميل ـ يتغير عن وجه الحق ، ومن الشراح من ضبط «يحيل» بضم حرف المضارعة ، من «أحال الرجل فى منطقه» إذا جاء بالمحال الذى لا حقيقة له ، وفى نسخة «يحيك ـ بالكاف ـ من حاك القول فى القلب» أخذ ، و «حاك السيف» أثر ، يعنى أن القول يؤثر فى العرض وإن كان باطلا ، «3 ـ ن ـ ج ـ 2»

    141 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى الاستسقاء
    ألا وإنّ الأرض الّتى تحملكم ، والسّماء الّتى تظلّكم ، (1) مطيعتان لربّكم ، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعا لكم ، ولا زلفة إليكم ، (2) ولا لخير ترجوانه منكم ، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا ، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا.
    إنّ اللّه يبتلى عباده ـ عند الأعمال السّيّئة ـ بنقص الثّمرات ، وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ، ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ، (3) ويتذكّر متذكّر ، ويزدجر مزدجر! وقد جعل اللّه الاستغفار سببا لدرور الرّزق ورحمة الخلق ، فقال : «اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَيُمْدِدْكُمْ»
    __________________
    (1) تظلكم : تعلو عليكم كأنها الظلة ، وتقول : أظلتنى الشجرة ، واستظللت بها
    (2) الزلفة : القربة ، يقول : إن السماء والأرض إذا جاءتا بمنافعكم بالمطر والنبات فانهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم ولا رحمة لكم ، ولكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر ، لأنه أمر من تجب طاعته ، ولو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه ، والمراد بهذا الكلام تمهيد قاعدة الاستسقاء ، كأنه يقول : إذا كانت السماء والأرض أيام الخصب والمطر والنبات لم يكن ما كان منهما عن محبة لكم أو رجاء منفعة منكم بل طاعة لأمر الصانع الحكيم فيما سخرهما له ، فكذلك هما فى أيام الجدب : ليس ما كان منهما من احتباس القطر وانقطاع النبات ناشئا عن بغضكم بل هو أيضا طاعة الصانع الحكيم فيما سخرهما له
    (3) «أقلع عن الذنب» كف عنه ، وأمسك ، وتركه

    «بِأَمْوٰالٍ وَبَنِينَ» فرحم اللّه امرأ استقبل توبته ، واستقال خطيئته ، وبادر منيّته.
    اللّهمّ إنّا خرجنا إليك من تحت الأستار والأكنان ، وبعد عجيج البهائم والولدان ، راغبين فى رحمتك ، وراجين فضل نعمتك. وخائفين من عذابك ونقمتك.
    اللّهمّ فاسقنا غيثك ، ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسّنين (1) ، ولا تؤاخذنا بما فعل السّفهاء منّا ، يا أرحم الرّاحمين.
    اللّهمّ إنّا خرجنا إليك ، نشكو إليك ما لا يخفى عليك ، حين ألجأتنا المضايق الوعرة ، وأجاءتنا المقاحط المجدبة (2) وأعيتنا المطالب المتعسّرة ، وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة.
    اللّهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين ، ولا تقلبنا واجمين (3) ولا تخاطبنا بذنوبنا (4) ولا تقايسنا بأعمالنا اللّهمّ انشر علينا غيثك وبركتك ، ورزقك ورحمتك ، واسقنا سقيا نافعة مروية معشبة : تنبت بها ما قد فات ، وتحيى بها ما قد مات ، نافعة الحيا (5)
    __________________
    (1) جمع سنة ـ محركة ـ بمعنى الجدب والقحط
    (2) أجاءته إليه : الجأته
    (3) واجمين : كاسفين حزنين
    (4) «لا تخاطبنا» أى : لا تدعنا باسم المذنبين ، ولا تجعل فعلك بنا مناسبا لأعمالنا
    (5) الحيا : الخصب ، والمطر

    كثيرة المجتنى ، تروى بها القيعان (1) وتسيل البطنان (2) ، وتستورق الأشجار ، وترخص الأسعار ، إنّك على ما تشاء قدير.
    140 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    بعث [اللّه] رسله بما خصّهم به من وحيه ، وجعلهم حجّة له على خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الإعذار إليهم ، فدعاهم بلسان الصّدق إلى سبيل الحقّ. ألا إنّ اللّه قد كشف الخلق كشفة (3) لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم ، ولكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملا ، فيكون الثّواب جزاء ، والعقاب بواء (4) أين الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون فى العلم دوننا؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم (5) وأعطانا وحرمهم ،
    __________________
    (1) جمع قاع : الأرض السهلة المطمئة قد انفرجت عنها الجبال والآكام
    (2) جمع بطن : بمعنى ما انخفض من الأرض فى ضيق
    (3) كشف الخلق : علم حالهم فى جميع أطوارهم
    (4) بواء : مصدر «باء فلان بفلان» أى : قتل به مكافئا له ومناظرا ، وقالت ليلى الأخيلية : ـ
    فان تكن القتلى بواء فانكم
    فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

    وتقول : أبأت القاتل بالقتيل ، واستبأته ، إذا قتلته به ، وفى أمثالهم «باءت عرار بكحل» والعقاب : القصاص
    (5) «أن رفعنا» هنا حرف جر محذوف ، أى : لأن رفعنا ، وهو يتعلق بقوله «بغيا علينا»

    وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا فى هذا البطن من هاشم : لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم
    منها : آثروا عاجلا ، وأخّروا آجلا ، وتركوا صافيا ، وشربوا آجنا (1) كأنّى أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر فألفه وبسىء به ووافقه (2) حتّى شابت عليه مفارقه ، وصبغت به خلائقه! (3) ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالى ما غرّق ، أو كوقع النّار فى الهشيم لا يحفل ما حرّق!! (4) أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى؟ والأبصار اللاّمحة إلى منار التّقوى (5)؟ أين القلوب الّتى وهبت للّه وعوقدت على طاعة اللّه؟ ازدحموا على الحطام ، وتشاحّوا على
    __________________
    (1) آثروا : اختاروا. وأخروا : تركوا. والآجن : الماء المتغير اللون والطعم وفعله أجن يأجن ويأجن ، مثل ضرب يضرب ونصر ينصر ، وفيه وجه ثالث مثل فرح
    (2) بسىء به ـ كفرح ـ استأنس به ، و «ناقة بسوء» ألفت الحالب فلم تمنعه وقوله «شابت عليه مفارقه» يريد أنه قد طال عهده به منذ زمن الصبا إلى أن صار شيخا
    (3) ملكاته الراسخة فى نفسه ، يريد أن ذلك قد صار طبعا له لا يفارقه ولا ينفك عنه
    (4) الزبد ـ محركا ـ ما يخرج من الفم كالرغوة ، وتقول «أزبد» إذا خرج منه ذلك ، هذا أصله ، وهو يكنى به عن الصائل المقتحم. والتيار : معظم اللجة ، ولا يحفل ـ كيضرب ـ لا يبالى
    (5) أصل المنار ما ينصب فى الطريق ليكون علامة لسالكه ، وفى الحديث «إن للاسلام صوى ومنارا كمنار الطريق» وفى بعض النسخ «منازل التقوى» جمع منزل أو منزلة

    الحرام ، ورفع لهم علم الجنّة والنّار فصرفوا عن الجنّة وجوههم وأقبلوا إلى النّار بأعمالهم ، ودعاهم ربّهم فنفروا وولّوا ، ودعاهم الشّيطان فاستجابوا وأقبلوا.
    141 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، إنّما أنتم فى هذه الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا (1) مع كلّ جرعة شرق ، وفى كلّ أكلة غصص (2) لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى ، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله ، ولا تجدّد له زيادة فى أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا يحيا له أثر إلاّ مات له أثر ، ولا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد (3) ، ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة. وقد مضت أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!!
    __________________
    (1) الغرض : ما ينصب ليرمى ، وهو الهدف أيضا. و «تنتضل فيه» تترامى إليه المنايا للسبق ، ومنه الانتضال بالكلام والشعر ، كأنه جعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام : من الناس من يموت قتلا ، ومنهم من يموت غرقا ، أو يتردى فى بئر ، أو يسقط عليه حائط
    (2) الغصص ـ بفتحتين ـ مصدر قولك «غصصت يا فلان» ـ من باب طرب ـ والفرق بين الشرق والغصص أن الشرق يكون بالماء ونحوه ، والغصص يكون بالطعام. وروى قوله «غصص» بضم الغين وفتح الصاد على أنه جمع غصة وهى الشجا يعترض فى الحلق ، ومراد أمير المؤمنين أن نعيم الدنيا لا يدوم فاذا أحسنت أساءت وإذا أنعمت أخذت بالنقم
    (3) يخلق ـ كيسمع ، وينصر ، ويكرم ـ يبلى

    منها : وما أحدثت بدعة إلاّ ترك بها سنّة ، فاتّقوا البدع ، والزموا المهيع (1) إنّ عوازم الأمور أفضلها (2) وإنّ محدثاتها شرارها.
    142 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لعمر بن الخطاب ، وقد استشاره فى غزو الفرس بنفسه
    إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة ، وهو دين اللّه الّذى أظهره ، وجنده الّذى أعدّه وأمدّه ، حتّى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع ، ونحن على موعود من اللّه ، واللّه منجز وعده ، وناصر جنده. ومكان القيّم بالأمر (3) مكان النّظام من الخرز : يجمعه ويضمّه ، فإذا انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا. (4) والعرب اليوم وإن كانوا قليلا
    __________________
    (1) المهيع ـ كالمقعد ـ الطريق الواضح ، مأخوذ من قولهم «أرض هيعة» أى : مبسوطة واسعة ، والميم فى أوله زائدة ، بدليل سقولها فيما ذكرنا
    (2) عوازم الأمور : ما تقادم منها وكانت عليه ناشئة الدين ، من قولهم «ناقة عوزم» كجعفر ـ أى : عجوز فيها بقية شباب ، وقال الراجز : ـ
    لقد غدوت خلق الثياب
    أحمل عدلين من التراب

    لعوزم وصبية سغاب
    فآكل ولا حس وآبى

    وفوعل يجمع على فواعل ، مثل دورق ودوارق وهوجل وهواجل ، ويجوز أن تكون «عوازم» جمع عازمة بمعنى معزوم عليها ـ أى : مقطوع معلوم على وجه اليقين أنها صحيحة ـ مثل عيشة راضية ، والأول أظهر ، وإن كان مجىء فاعل بمعنى مفعول كثيرا فى الكلام المستعمل الفصيح
    (3) القيم بالأمر : هو القائم به ، يريد الخليفة ، والنظام : السلك ينظم فيه الخرز
    (4) تقول «أخذته كله بحذافيره» أى : بأصله ، وأصل الحذافير أعالى الشىء

    فهم كثيرون بالاسلام ، عزيزون بالاجتماع ، فكن قطبا ، واستدر الرّحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب ، (1) فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها (2) حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.
    إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا : هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ، وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكره ، وأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة.
    143 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فبعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، بالحقّ ليخرج عباده من عبادة
    __________________
    ونواحيه ، الواحد حذفار وحذفور ، مثل قرطاس وقراطيس وعصفور وعصافير
    (1) «أصلهم نار الحرب» أى : اجعلهم صالين لها ، تقول «صليت اللحم أصليه صليا ، مثل رميته أرميه رميا ، أى : شويته ، وفى الحديث أن النبى صلّى اللّه عليه وسلم أتى بشاة مصلية ، أى : مشوية ، وتقول أيضا «صليت الرجل نارا» بلا همز ، إذا أدخلته فيها وجعلته يصلاها ، والفرق بين المهموز وغيره أن المهموز يدل على أنك ألقيته فيها كأنك تريد الاحراق ، ويكنى بذلك كله عن مقاسات الشدائد ، وقال الطهوى :
    ولا تفنى بسالتهم وإن هم
    صلوا بالحرب جينا بعد حين

    (2) شخصت : خرجت

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:41 pm

    الأوثان إلى عبادته ، (1) ومن طاعة الشّيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذ أنكروه. فتجلّى لهم سبحانه فى كتابه من غير أن يكونوا رأوه : بما أراهم من قدرته ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات (2) واحتصد من احتصد بالنّقمات ،
    وإنّه سيأتى عليكم من بعدى زمان ليس فيه شىء أخفى من الحقّ ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على اللّه ورسوله!! وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه (3) ، ولا فى البلاد شىء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان (4) وصاحبان مصطحبان فى طريق واحد لا يؤويهما مؤو!! فالكتاب وأهله فى ذلك الزّمان فى النّاس وليسا فيهم ومعهم ، لأنّ الضّلالة
    __________________
    (1) الأوثان : جمع وثن ، وهو الصنم وزنا ومعنى ، وإنما سمى وثنا لانتصابه وثباته على حال واحدة ، مأخوذ من قولك «وثن فلان بالمكان فهو واثن» إذا ثبت ودام مقامه فيه
    (2) المثلات ـ بفتح فضم ـ العقوبات
    (3) انفق منه : أروج منه
    (4) يطردهما وينفيهما أهل الباطل وأعداء الكتاب

    لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم! فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره (1)!! ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة (2) وسمّوا صدقهم على اللّه فرية (3) وجعلوا فى الحسنة عقوبة السّيّئة.
    وإنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم ، وتغيّب آجالهم ، حتّى نزل بهم الموعود (4) الّذى تردّ عنه المعذرة ، وترفع عنه التّوبة ، وتحلّ معه القارعة والنّقمة (5) أيّها النّاس ، إنّه من استنصح اللّه وفّق ، ومن اتّخذ قوله دليلا هدى للّتى
    __________________
    (1) الزبر ـ بالفتح : الكتب مصدر كتب
    (2) «ما مثلوا» أى : شنعوا ، و «ما» مصدرية ، وقال ابن أبى الحديد «مثلوا بالتخفيف ـ نكلوا بهم ، مثلت يفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح وسكون الثاء ، والاسم المثلة بالضم. ومن روى مثلوا ـ بالتشديد ـ أراد جدعوهم بعد قتلهم» اه‍
    (3) فرية ـ بالكسر ـ أى : كذبا ، و «على» فى قوله «على اللّه» لا تتعلق بالمتقدم ـ وهو «صدقهم» ـ وإنما تتعلق بالمتأخر ـ وهو «فرية» ـ أى : سموا صدقهم فرية وكذبا على اللّه ، فان أبيت أن تعلقه بفرية لكونه مصدرا متأخرا وذهبت إلى أن المصدر لا يعمل فى الذى يتقدمه لكونه ضعيف العمل لأنه إنما عمل حملا على الفعل ، قلنا : فليكن العامل فيه فعلا مقدار دل عليه هذا المصدر أو ليكن المصدر دالا على مصدر آخر يقدر متقدما على الحرف ، وهذا كله من الوضوح بحيث لا يزاد فى الدلالة عليه عن هذا المقدار
    (4) الموت الذى لا يقبل فيه عذر ، ولا تفيد بعده توبة
    (5) القارعة : الداهية المهلكة

    هى أقوم (1) ، فإنّ جار اللّه آمن ، وعدوّ اللّه خائف ، وإنّه لا ينبغى لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم ، فإنّ رفعة الّذين يعرفون ما عظمته أن يتواضعوا (2) له ، وسلامة الّذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له. فلا تنفروا من الحقّ نفار الصّحيح من الأجرب ، والبارئ من ذى السّقم (3) واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتّى تعرفوا الّذى تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذى نقضه ، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذى نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل : هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم : لا يخالفون الدّين ، ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق.
    __________________
    (1) «من استنصح اللّه» أى : من أطاعه وعلم أنه يهديه إلى مصالحه ويرده عن مفاسده ويرشده إلى ما فيه نجاته ويصرفه عما فيه عطبه و «التى هى أقوم» تقديره : هدى للحالة التى اتباعها أقوم مما عداها ، وقال تعالى : «إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»
    (2) «ما» فى قوله «يعرفون ما عظمة اللّه» استفهامية مبتدأ ، والاسم الذى بعدها خبر عنها ، وجملتهما فى محل نصب مفعول للفعل السابق. وقد نص ابن أبى الحديد على أن من الناس من روى هذه الجملة بنصب «عظمة اللّه» وتقديرها أن تجعل «ما» زائدة ، ومثل هذا يقال فى قوله «يعلمون ما قدرته» وقوله «أن يتواضعوا» فالمصدر المنسبك من «أن» والفعل المضارع خبر «إن» فى قوله «فان رفعة ـ الخ»
    (3) البارىء : المعافى من المرض

    144 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    [فى ذكر أهل البصرة]
    كلّ واحد منهما يرجو الأمر له ، ويعطفه عليه دون صاحبه : لا يمتّان إلى اللّه بحبل ، ولا يمدّان إليه بسبب (1)!! كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه (2) وعمّا قليل يكشف قناعه به. واللّه لئن أصابوا الّذى يريدون لينزعنّ هذا نفس هذا وليأتينّ هذا على هذا ، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون (3) فقد سنّت لهم السّنن ، وقدّم لهم الخبر ، ولكلّ ضلّة علّة ، ولكلّ ناكث شبهة ، واللّه لا أكون كمستمع اللّدم (4) يسمع النّاعى ويحضر الباكى ثمّ لا يعتبر.
    __________________
    (1) ضمير المثنى لطلحة والزبير ، وقوله «لا يمتان» أى : لا يتوسلان ، مثل لا يمدان ، والسبب : الحبل أيضا
    (2) الضب ـ بالفتح ، وبكسر ـ : الحقد
    (3) الذين يجاهدون حسبة للّه
    (4) اللدم : الضرب على الصدر والوجه عند النياحة ، وقال ابن أبى الحديد : «مستمع اللدم : كناية عن الضبع ، فانها تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها. يقول : لا أكون مقرا بالضيم واهنا أسمع الناعى المخبر عن قتل عسكر الجمل فلا يكون عندى من التغيير والانكار لذلك إلا أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم» اه‍ وقد روى أبو مخنف قال : لما تزاحف الناس يوم الجمل والتقوا قال على عليه السّلام لأصحابه : لا يرمين رجل منكم بسهم ولا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكم ، وحتى يبدأوكم بالقتال وبالقتل ، فرمى أصحاب الجمل عسكر على بالنبل رميا شديدا متتابعا ، فضج إليه أصحابه وقالوا : عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين ، وجىء برجل إليه فقيل له : هذا فلان قد قتل ، فقال : اللهم اشهد ، ثم قال : أعذروا إلى القوم ، وتكرر مجيئهم اليه بالقتلى ، ومقالته

    145 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قبل موته
    أيّها النّاس ، كلّ امرىء لاق ما يفرّ منه فى فراره ، والأجل مساق النّفس (1) والهرب منه موافاته. كم أطردت الأيّام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى اللّه إلاّ إخفاءه. هيهات! علم مخزون ، أمّا وصيّتى فاللّه لا تشركوا به شيئا ، ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا (2). حمل كلّ امرىء منكم مجهوده (3) ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، ودين قويم ، وإمام عليم.
    أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عبرة لكم ، وغدا مفارقكم ، غفر اللّه لى ولكم.
    إن ثبتت الوطأة فى هذه المزلّة فذاك ، وإن تدحض القدم (4) فإنّا كنّا فى
    __________________
    هذه تتكرر ، ثم لما ضاق بهم ذرعا قام فاستعد للقتال ولبس درع النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ورفع إلى محمد ابنه رايته السوداء ، وتعرف بالعقاب ، وحمل وحمل معه الناس ، واستحر القتل من الفريقين ، لا حول ولا قوة إلا باللّه العلى العظيم ، وإنا للّه وإنا إليه راجعون
    (1) مساق النفس تسوقها إليه أطوار الحياة حتى توافيه
    (2) برئتم من الذم ما لم تشردوا ـ كتنصروا ـ أى : تنفروا وتميلوا عن الحق
    (3) «حمل كل امرىء ـ الخ» : هذا وما بعده ماض قصد به الأمر
    (4) قوله «إن ثبتت» : يريد بثبات الوطأة معافاته من جراحه ، والمزلة : محل الزلل ، و «دحضت القدم». زلت ، وزلقت ، وبابه منع

    أفياء أغصان ومهبّ رياح وتحت ظلّ غمام اضمحلّ فى الجوّ متلفّقها وعفا فى الأرض مخطّها (1) ، وإنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما وستعقبون منّى جثّة خلاء (2) ساكنة بعد حراك ، وصامتة بعد نطوق. ليعظكم هدوّى وخفوت أطرافى (3) وسكون أطرافى ، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع. وداعيكم وداع امرىء مرصد للتّلاقى (4) ، غدا ترون أيّامى ،
    __________________
    (1) الأفياء : جمع فيىء ، وهو الظل ينسخ ضوء الشمس عن بعض الأمكنة ، واضمحل : ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضحل وهو الماء القليل. وتقول : اضمحل السحاب ، أى : تقشع وذهب ، ولغة الكلابيين امضحل ـ بتقديم الميم ـ والمتلفق : المنضم بعضه على بعض ، وعفا : اندرس وذهب ، ومخطها : مكان ما خطت فى الأرض وضمير «متلفقها» للغمام ، وضمير «مخطها» للرياح ، يريد أنه كان فى حال شأنها الزوال فزالت ، وما هو بالعجيب
    (2) خالية من الروح
    (3) الخفوت : السكون ، وتقول : خفت خفوتا ، مثل سكن سكونا فى الوزن والمعنى. وتقول : خفت خفاتا ـ بضم خاء المصدر ـ إذا مات فجأة ، وأطرافه فى الأول : عيناه ، وفى الثانى : يداه ورأسه ورجلاه ، وقد روى ابن أبى الحديد الأول بالقاف المثناة مكسور الهمزة على أنه مصدر أطرق ، والثانى بالفاء الموحدة وفتح الهمزة أوله على أنه جمع طرف ، قال : «وإطراقه : إرخاؤه عينه ينظر إلى الأرض لضعفه عن رفع جفنه. وسكون أطرافه : هى يداه ورجلاه ورأسه» اه‍
    (4) «وداعيكم» أى : وداعى لكم ، وقد وردت الرواية به أيضا ، والاستعمال على أن «وداعى لكم» أو «وداعى إياكم» أكثر من «وداعيكم» لكون العامل اسما ، وإن كان مستعملا لانكارة فيه ، ومثله قول الشاعر ـ :
    لئن كان حبك لى كاذبا
    لقد كان حبيك حقا يقينا

    و «مرصد» أى منتظر :

    ويكشف لكم عن سرائرى ، وتعرفوننى بعد خلوّ مكانى وقيام غيرى مقامى.
    146 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى الملاحم
    وأخذوا يمينا وشمالا : طعنا فى مسالك الغىّ ، وتركا لمذاهب الرّشد ، فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد و [لا] تستبطئوا ما يجىء به الغد ، فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه ، وما أقرب اليوم من تباشير غد (1) يا قوم ، هذا إبّان ورود كلّ موعد (2) ، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون ، ألا وإنّ من أدركها منّا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصّالحين ، ليحلّ فيها ربقا (3) ويعتق زقّا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا (4) ، فى سترة عن النّاس ، لا يبصر القائف أثره (5) ولو تابع نظره ، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النّصل (6) ، تجلى بالتّنزيل أبصارهم (7) ، [ويرمى بالتّفسير فى مسامعهم] ويغبقون
    __________________
    (1) تباشيره : أوائله
    (2) إبان ـ بكسر فتشديد ـ : وقت ، والدنو : القرب
    (3) يحذو : يقتفى ، ويتبع. والربق ـ بكسر فسكون ـ : حبل فيه عدة عرى كل عروة ربقة ـ بكسر الراء ـ تشد فيه البهم
    (4) يفرق جمع الضلال ، ويجمع متفرق الحق
    (5) القائف : الذى يعرف الآثار فيتبعها
    (6) «يشحذن» من «شحذ السكين» أى : حددها. والقين : الحداد ، والنصل حديدة السيف والسكين ونحوها ، بريد ليحرضن قوم فى هذه الملاحم على الحرب وقتل أهل الضلال ، وليشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف ويرقق حده
    (7) تجلى بالتنزيل : يعودون إلى القرآن وتدبره فينكشف الغطاء عن أبصارهم

    كأس الحكمة بعد الصّبوح (1)
    منها : وطال الامد بهم (2) ليستكملوا الخزى ، ويستوجبوا الغير (3) ، حتّى إذا اخلولق الأجل (4) ، واستراح قوم إلى الفتن ، وأشالوا عن لقاح حربهم (5) ، لم يمنّوا على اللّه بالصّبر (6) ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم فى الحقّ ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم (7) ، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم حتّى إذا قبض اللّه رسوله ، صلّى اللّه عليه وآله ، رجع قوم على الأعقاب ،
    __________________
    فينهضون إلى الحق كما نهض أهل القرآن عند نزوله
    (1) يغبقون ـ مبنى للمجهول ـ يسقون كأس الحكمة بالمساء بعد ما شربوه بالصباح ، والصبوح : ما يشرب وقت الصباح ، والمراد أنها تفيض عليهم الحكم الالهية فى حركاتهم وسكونهم وسرهم وإعلانهم
    (2) قوله وطال الخ : انتقال لحكاية أهل الجاهلية وطول الأمد فيها ليزيد اللّه لهم فى العقوبة
    (3) الغير ـ بكسر ففتح ـ أحداث الدعر ونوائبه
    (4) من قولهم «اخلولق السحاب» استوى وصار خليقا أن يمطر ، أى : يشرف الأجل على الانقضاء
    (5) «أشالت الناقة ذنبها» رفعته ، أى : رفعوا أيديهم بسيوفهم ليلقحوا حروبهم على غيرهم ، أى : يسعروها عليهم ، وفى بعض النسخ «اشتالوا» تقول : شال فلان كذا ، أى : رفعه ، و «اشتال الشىء» : ارتفع. و «لقاح حربهم» هو بفتح اللام مصدر قولك «لقحت الناقة»
    (6) الضمير فيه للمؤمنين المفهومين من سياق الخطاب ، والجملة جواب إذا
    (7) من ألطف أنواع التمثيل ، يريد أشهروا عقيدتهم داعين إليها غيرهم

    وغالتهم السّبل ، واتّكلوا على الولائج (1) ، ووصلوا غير الرّحم ، وهجروا السّبب الّذى أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه (2) فبنوه فى غير موضعه : معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب فى غمرة (3) ، قد ماروا فى الحيرة (4) ، وذهلوا فى السّكرة على سنّة من آل فرعون من منقطع إلى الدّنيا راكن ، أو مفارق [للدّين] مباين.
    147 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وأستعينه على مداحر الشّيطان ومزاجره (5) ، والاعتصام من حبائله ومخاتله. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، ونجيبه وصفوته ، لا يوازى فضله ، ولا يجبر فقده ، أضاءت به البلاد بعد الضّلالة المظلمة ، والجهالة الغالبة ، والجفوة الجافية ، والنّاس يستحلّون الحريم (6) ، ويستذلّون الحكيم ، يحيون على
    __________________
    (1) دخائل المكر والخديعة ، وأصل الولائج جمع وليجة ، وهى البطانة يتخذها الانسان لنفسه ، وقال اللّه تعالى : «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلاٰ رَسُولِهِ وَلاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً»
    (2) الرص : مصدر قولك «رصصت الشىء» أى : ألصقت بعضه ببعض ، ومنه قوله تعالى : «كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ» وتقول : تراص القوم فى الصف إذا تلاصقوا
    (3) الغمرة : الشدة
    (4) ماروا : تحركوا واضطربوا ، جعلهم كأنهم يسبحون فى الحيرة كما يسبح الانسان فى الماء
    (5) الدحر ـ بالفتح ـ : الطرد ، والمداحر والمزاجر : ما بها يدحر ويزجر ، وهى الأعمال الفاضلة ، ومخاتل الشيطان : مكائده
    (6) «لا يوازى فضله» : لا يساوى ، و «لا يجبر فقده» لا يسد أحد مسده بعده

    فترة (1) ويموتون على كفرة ، ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتّقوا سكرات النّعمة ، واحذروا بوائق النّقمة (2) ، وتثبّتوا فى قتام العشوة (3) واعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، وظهور كمينها ، وانتصاب قطبها ، ومدار رجاها : تبدو فى مدارج خفيّة ، وتؤول إلى فظاعة جليّة ، شبابها كشباب الغلام (4) وآثارها كآثار السّلام. تتوارثها الظّلمة بالعهود ، أوّلهم قائد لآخرهم ، وآخرهم مقتد بأوّلهم ، يتنافسون فى دنيا دنيّة ، ويتكالبون على جيفة مريحة (5) وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع ، والقائد من المقود
    __________________
    «4 ـ ن ـ ج ـ 2» و «الجفوة الجافية» : غلظ الطبع وبلادة الفهم. «ويستذلون الحكيم» يضيمون العقلاء الداعين إلى الخير لامتلاك الشرور أنفسهم ، وغلبة الهوى عليهم
    (1) خلو من الشرائع الألهية : لا يعرفون منها شيئا لعدم الرسول المبلغ ، ثم يغيرون ويبدلون ، ويتخذون الأصنام آلهة ، والأهواء شريعة ، فيموتون كفارا
    (2) البوائق : جمع بائقة ، وهى الداهية ، والفائلة. وفى الحديث «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» أى : غائلته وشره. وتقول : باقته الداهية ، أى : أصابته
    (3) القتام ـ كسحاب ـ : الغبار ، والعشوة ـ بالضم ، ويكسر ويفتح ـ : ركوب الأمر على غير بيان ، و «اعوجاج الفتنة» أخذها فى غير القصد ، وعدولها عن المنهج. والجنين : المستتر. والكمين : مثله
    (4) شاب كل شىء ـ بفتح الشين ـ أوله ، أى : بداياتها فى عنفوان وشدة كشباب الغلام وفتوته ، وقال ابن أبى الحديد : شبابها كشباب الغلام ـ بالكسر ـ مصدر «شب الفرس والغلام يشب ويشب ـ بكسر الشين وضمها ـ شبابا وشبيبا» إذا قمص ولعب ، «وأشببته أنا» أى : هجته اه‍ والسّلام ـ بكسر السين ـ : الحجارة ، وآثارها فى الأبدان : الرض والحطم
    (5) مريحة : منتنة ، تقول : راح اللحم ،

    فيتزايلون بالبغضاء (1) ويتلاعنون عند اللّقاء ، ثمّ يأتى بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف (2) ، القاصمة الزّحوف ، فتزيغ قلوب بعد استقامة ، وتضلّ رجال بعد سلامة ، وتختلف الأهواء عند هجومها ، وتلتبس الآراء عند نجومها (3) من أشرف لها قصمته ، ومن سعى فيها حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر فى العانة (4) قد اضطرب معقود الحبل ، وعمى وجه الأمر ، تغيض فيها الحكمة (5) ، وتنطق فيها الظّلمة ، وتدقّ أهل البدو بمسحلها (6) وترضّهم بكلكلها ، يضيع فى غبارها الوحدان (7) ويهلك فى طريقها الرّكبان ، ترد بمرّ القضاء ، وتحلب عبيط الدّماء (Cool ، وتثلم منار الدّين (9) وتنقض عقد
    __________________
    وأراح ، أى : أنتن ، وقال ابن أبى الحديد : ويجوز أن تكون من «أراح البعير» أى : مات اه‍ والأول عندى أحسن وأدق
    (1) يتزايلون : يتفارقون
    (2) طالع الفتنة : مقدماتها وأوائلها ، والرجوف : شديدة الرجفان والاضطراب ، أو شديد إرجافها وزلزالها للناس ، والقاصمة : الكاسرة ، والزحوف : الشديدة الزحف
    (3) نجومها : ظهورها ، وهو مصدر «نجم الشر» أى : ظهر
    (4) يتكادمون : يعض بعضهم بعضا كما تكون الحمر فى العانة ، أى : الجماعة منها ، وهى خاصة بحمر الوحش
    (5) تغيض ـ بالغين المعجمة ـ : تنقص وتعور
    (6) المسحل ـ كمنبر ـ : المبرد أو المنحت ، والمراد بالدق التفتيت ، والرض : التهشيم. والكلكل : الصدر
    (7) الوحدان : جمع واحد ـ مثل شاب وشبان وراع ورعيان ـ أى : المتفردون ، والركبان : جمع راكب ، ولا يكون إلا صاحب بعير
    (Cool عبيط الدماء : الطرى الخالص منها
    (9) ثلم الأناء والسيف أو نحوه يثلمه ـ كضربه يضربه ـ أى : كسر حرفه.

    اليقين ، تهرب منها الأكياس (1) ، وتدبّرها الأرجاس (2) ، مرعاد مبراق ، كاشفه عن ساق ، تقطع فيها الأرحام ، ويفارق عليها الإسلام ، بريّها سقيم ، وظاعنها مقيم (3)
    منها : بين قتيل مطلول (4) ، وخائف مستجير ، يختلون بعقد الأيمان (5) وبغرور الإيمان ، فلا تكونوا أنصاب الفتن (6) وأعلام البدع ، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة ، وبنيت عليه أركان الطّاعة ، واقدموا على اللّه مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين ، واتّقوا مدارج الشّيطان ، ومهابط العدوان ، ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام (7) فإنّكم بعين من حرّم عليكم المعصية (Cool ،
    __________________
    (1) الأكياس : جمع كيس ، وهو الحاذق العاقل
    (2) الأرجاس : جمع رجس : وهو القذر والنجس ، والمراد الأشرار
    (3) «مرعاد مبراق» أى : ذات وعيد وتهديد ، والعرب تقول : أرعد فلان وأبرق ، وأرغى وأزبد ، وتكنى بهما عما ذكرنا. ويجوز أن يعنى بالرعد صوت السلاح وقعقعته ، وبالبرق لونه وضوءه ، على التشبيه. وقوله «كاشفة عن ساق» أى : عن شدة وهول ومشقة ، وفى التنزيل : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ» وقوله «بريها سقيم» معناه أن الهارب منها غير ناج ، بل لا بد أن يصيبه شىء من معرتها وضررها ، وقوله «وظاعنها مقيم» أى : ما يفارق الانسان من أذاها وشرها كأنه غير مفارق له ، لأنه قد أبقى عنده عقابيل من غوائلها وأذاها
    (4) طللت دمه : هدرته
    (5) «يختلون» أى : يخدعهم الظالمون بحلف الأيمان ويغرونهم بظاهر الأيمان وأنهم مؤمنون مثلهم
    (6) الأنصاب : كل ما ينصب ليقصد
    (7) اللعق : جمع لعقة ـ بضم اللام ـ وهى ما تأخذه فى الملعقة
    (Cool «إنكم بعين ـ الخ» أى : إنه يراكم

    [وسهّل لكم سبل الطّاعة]
    148 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الدّال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على أزليّته ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، لا تستلمه المشاعر (1) ، ولا تحجبه السّواتر ، لافتراق الصّانع والمصنوع ، والحادّ والمحدود ، والرّبّ والمربوب ، الأحد بلا تأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب (2) ، والسّميع لا بأداة (3) ، والبصير بلا تفريق آلة (4) ، والشّاهد لا بمماسّة ، والبائن لا بتراخى مسافة (5) ، والظّاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرّجوع إليه ، من وصفه فقد حدّه (6) ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن قال «أين؟» فقد حيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور.
    __________________
    (1) «لا تستلمه المشاعر» أى : لا تصل إليه الحواس
    (2) النصب ـ محركة ـ التعب
    (3) الأداة : الآلة
    (4) تفريق الآلة : تفريق الأجفان ، وفتح بعضها عن بعض
    (5) البائن : المنفصل عن خلقه
    (6) «من وصفه» أى : من كيفه بكيفيات المحدثين (وانظر الخطبة الأولى (ج 1 ص Cool

    منها : قد طلع طالع ، ولمع لامع ، ولاح لائح (1) ، واعتدل مائل ، واستبدل اللّه بقوم قوما ، وبيوم يوما ، وانتظرنا الغير انتظار المجدب المطر (2) وإنّما الأئمّة قوّام اللّه على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم وأنكروه.
    إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام ، واستخلصكم له ، وذلك لأنّه اسم سلامة وجماع كرامة (3) ، اصطفى اللّه تعالى منهجه ، وبيّن حججه ، من ظاهر علم ، وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضى عجائبه ، (4) فيه مرابيع النّعم (5) ومصابيح الظّلم ، لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ بمصابيحه ، قد أحمى حماه (6) وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفى ، وكفاية المكتفى ،
    __________________
    (1) لاح : بدا. قالوا : هذه خطبة خطبها بعد قتل عثمان
    (2) الغير ـ بكسر ففتح ـ صروف الحوادث وتقلباتها ، انتظرها لعلما يقوم حق وينتكس باطل
    (3) جماع الشىء : مجمعه
    (4) غرائبه : جمع غريبة ، وأراد بها ما يتجدد للقرآن من المعانى التى غفل الناس عنها ، لحدوثها باستحداث الأفكار والعلوم مع كونها لا تخالف أصول الشريعة ولا تعارضها ، ويروى فى مكان هذه اللفظة «عزائمه» وهى جمع عزيمة ، وهى الآية المحكمة ، والبرهان القطع ، وقوله «ولا تنقضى عجائبه» لأنه مهما تأمله الانسان استخرج منه بفكره غرائب وعجائب لم تكن عنده من قبل
    (5) مرابيع : جمع مرباع ـ بكسر الميم ـ وهو المكان ينبت نبته فى أول الربيع أو هو المطر أول الربيع
    (6) أحمى المكان : جعله حمى لا يقرب ، أى : أعز اللّه الاسلام ، ومنعه من

    149 ـ [ومن خطبة له عليه السّلام]
    وهو فى مهلة من اللّه يهوى مع الغافلين (1) ويغدو مع المذنبين ، بلا سبيل قاصد ، ولا إمام قائد :
    منها : حتّى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم ، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم ، استقبلوا مدبرا ، واستدبروا مقبلا ، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ، ولا بما قضوا من وطرهم! وإنّى أحذّركم ونفسى هذه (2) المنزلة ، فلينتفع امرؤ بنفسه ، فإنّما البصير من سمع فتفكّر ، ونظر فأبصر وانتفع بالعبر ، ثمّ سلك جددا واضحا يتجنّب فيه الصّرعة فى المهاوى ، والضّلال فى المغاوى (3) ولا يعين على نفسه الغواة بتعسّف فى حقّ ، أو تحريف فى
    __________________
    (1) قوله «وهو فى مهملة» كلام فى ضال غير معين ، فهذا الكلام كما تقول : رحم اللّه امرأ اتقى ربه ، وخاف ذنبه. أو كما تقول : بئس رجلا الرجل الذى قل حياؤه ، وغاض وفاؤه. ونحو ذلك ، أنت فى كل ذلك لا تقصد واحدا بعينه من الناس ، وإنما تعنى من كان فيه هذه الخلال. ويهوى : يسقط ، والسبيل القاصد : المؤدى للغرض
    (2) فى بعض الروايات «أحذركم ونفسى هذه المزلة» وهى مفعلة من الزلل
    (3) المهاوى : جمع مهواة ، وهى الهوة يتردى فيها. والمغاوى : جمع مغواة ، وهى الشبهة يذهب معها الانسان إلى ما يخالف الحق

    نطق ، أو تخوّف من صدق. فأفق أيّها السّامع من سكرتك ، واستيقظ من غفلتك! واختصر من عجلتك (1) ، وأنعم الفكر فيما جاءك على لسان النّبىّ الأمّىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ممّا لا بدّ منه ، ولا محيص (2) عنه ، وخالف من خالف ذلك إلى غيره ، ودعه وما رضى لنفسه ، وضع فخرك ، واحطط كبرك ، واذكر قدرك ، فإنّ عليه ممرّك ، وكما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وكما قدّمت اليوم تقدم عليه غدا ، فامهد لقدمك (3) وقدّم ليومك.
    فالحذر الحذر أيّها المستمع ، والجدّ الجدّ أيّها الغافل «وَلاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إنّ من عزائم اللّه فى الذّكر الحكيم الّتى عليها يثيب ويعاقب ، ولها يرضى ويسخط ، أنّه لا ينفع عبدا ـ وإن أجهد نفسه وأخلص فعله ـ أن يخرج من الدّنيا لاقيا ربّه بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها : أن يشرك باللّه فيما افترض عليه من عبادته ، أو يشفى غيظه بهلاك نفس ، أو يعرّ بأمر فعله
    __________________
    (1) أى : لا تكن عجلتك شديدة ، بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا. وقوله «أنعم الفكر الخ» معناه دقق بفكرك وأصل هذه العبارة قولك «أنعمت سحق الحجر» ومن الناس من يجعل «أنعم» مقلوبا عن «أمعن»
    (2) «لا محيص عنه» أى : لا مفر ولا مهرب منه ، تقول : حاص عنه يحيص ـ من باب باع ـ حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا ، أى : عدل وحاد وهرب
    (3) مهد ـ كمنع ـ بسط. وأصله من «مهد الفراش» إذا بسطه ووطأه. وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر : بسطه وقبوله

    غيره ، (1) أو يستنجح حاجة إلى النّاس بإظهار بدعة فى دينه (2) ، أو يلقى النّاس بوجهين ، أو يمشى فيهم بلسانين ، اعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه.
    إنّ البهائم همّها بطونها ، وإنّ السّباع همّها العدوان على غيرها ، وإنّ النّساء همّهنّ زينة الحياة الدّنيا والفساد فيها ، إنّ المؤمنين مستكينون (3) إنّ المؤمنين مشفقون ، إنّ المؤمنين خائفون.
    150 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وناظر قلب اللّبيب : به يبصر أمده (4) ويعرف غوره ونجده ، داع دعا وراع رعا ، فاستجيبوا للدّاعى ، واتّبعوا الرّاعى قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السّنن ، وأرز المؤمنون (5)
    __________________
    (1) تقول : عر فلان فلانا يعره ـ من باب رد ـ أى : عابه ولطخه ، وقوله «غيره» مفعول لعر ، وفاعل قوله «فعله» ضمير مستتر ، والمعنى أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو
    (2) «يستنجح» أى : يطلب نجاح حاجته من الناس بالابتداع فى الدين
    (3) «مستكينون» أى : خاضعون للّه عز وجل
    (4) ناظر القلب : استعاره من «ناظر العين» وهو النقطة السوداء منها ، والمراد بصيرة القلب بها يدرك اللبيب أمده ، أى : غايته ومنتهاه ، والغور : ما انخفض من الأرض ، والنجد : ما ارتفع منها ، أى : يدرك باطن أمره وظاهره
    (5) أرز يأرز ـ بكسر الراء فى المضارع ـ أى : انقبض وثبت ، وأرزت الحية : لاذت بجحرها ورجعت إليه ، وفى الحديث «إن الاسلام ليازر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» أى : ينضم إليها ويجتمع

    ونطق الضّالّون المكذّبون. نحن الشّعار (1) والأصحاب ، والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمّى سارقا
    منها : فيهم كرائم القرآن (2) ، وهم كنوز الرّحمن ، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا (3) ، فليصدق رائد أهله (4) ، وليحضر عقله ، وليكن من أبناء الآخرة فانّه منها قدم ، وإليها ينقلب (5) فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدا عمله أن يعلم : أعمله عليه أم له؟ فان كان له مضى فيه ، وإن كان عليه وقف عنه ، فانّ العامل بغير علم كسائر فى غير طريق ، فلا يزيده بعده عن الطّريق إلاّ بعدا من حاجته ، والعامل بالعلم كسائر على الطّريق الواضح ، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع واعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله ، فما طاب ظاهره طاب باطنه ، وما
    __________________
    (1) الشعار : ما يلى البدن من الثياب. والمراد بطانة النبى صلّى اللّه عليه وسلم
    (2) الضمير لآل النبى ، والكرائم : جمع كريمة ، والمراد أنه قد أنزلت فى مدحهم آيات كريمات ، والقرآن كريم كله ، وهذه كرائم
    (3) لم يسبقهم أحد إلى الكلام وهم سكوت ، أى : يهاب سكوتهم فلم يجرأ أحد على الكلام فيما سكتوا عنه
    (4) الرائد : الذاهب من الحى يرتاد لهم المرعى ، وفى أمثالهم «الرائد لا يكذب أهله» وقد استعمل النبى صلّى اللّه عليه وسلم هذا المثل فى خطبه
    (5) لا شك أن الآخرة الآن لعدم وقوعها هى عدم محض ، والانسان قد خلق من العدم ، وهو إلى العدم راجع ، فمن هنا صح قوله إن الانسان قدم من الآخرة وإلى الأخرة ينقلب

    خبث ظاهره خبث باطنه ، وقد قال الرّسول الصّادق ، صلّى اللّه عليه وسلّم : «إنّ اللّه يحبّ العبد (1) ويبغض عمله ، ويحبّ العمل ويبغض بدنه». واعلم أنّ لكلّ عمل نباتا ، وكلّ نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة : فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته (2)
    __________________
    (1) «إنّ اللّه يحب ـ الخ» أى : يحب من المؤمن إيمانه ، ويبغض ما يأتيه من سيئات الأعمال ، ولا يفيده ذلك الحب مع هذا البغض إلا عذابا يتطهر به من خبث أعماله ، ويحب من الكافر عمله ـ إن كان حسنا ـ ويبغض ذاته لالتياثها بدنس الكفر ، ولا ينتفع بالعمل المحبوب إلا نفعا موقتا فى الدنيا ، وله فى الآخرة عذاب عظيم. فلا يكمل للانسان حظه من السعادة إلا إذا كان مؤمنا طيب العمل
    (2) السقى ـ بفتح السين ـ مصدر قولك «سقيت الأرض» وبكسر السين النصيب من الماء ، و «أمر الشىء» صار مرا ، وهذا الكلام مثل فى الاخلاص وضده ـ وهو الرياء وحب السمعة ـ فكل عمل يكون مدده الاخلاص لوجهه تعالى فانه يكون زاكيا حلوا جناه طيبة ثمرته ، وكل عمل يكون الباعث عليه الرياء وحب السمعة فانه لا يزكو وتكون ثمرته مرة المذاق

    151 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    يذكر فيها بديع خلقة الخفاش (1)
    الحمد للّه الّذى انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته (2) ، وردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته ، هو اللّه الملك الحقّ المبين ، أحقّ وأبين ممّا تراه العيون ، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها ، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثّلا ، خلق الخلق على غير تمثيل ، ولا مشورة مشير ، ولا معونة معين ، فتمّ خلقه بأمره ، وأذعن لطاعته فأجاب ولم يدفع وانقاد ولم ينازع.
    ومن لطائف صنعته ، وعجائب حكمته ، ما أرانا من غوامض الحكمة فى هذه الخفافيش الّتى يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شىء ، ويبسطها الظّلام القابض لكلّ حىّ ، وكيف عشيت أعينها (3) عن أن تستمدّ من الشّمس
    __________________
    (1) الخفاش : واحد جمعه خفافيش ، وهو هذا الطائر الذى يطير ليلا ولا يطير نهارا ، وهو مأخوذ من الخفش ـ بفتح الخاء والفاء جميعا ، وفعله مثل تعب ـ وهو صغر العينين وضعف البصر ، ويكون خلقة ، وهو علة لازمة ، وصاحبه يبصر ليلا أكثر مما يبصر نهارا ، ويبصر يوم الغيم أكثر مما يبصر يوم الصحو ، والذكر أخفش ، والأنثى خفشاء
    (2) انحسرت : انقطعت ، وكلت ، وأعيت
    (3) العشا ـ مقصورا ـ سوء البصر وضعفه ، وفعله من باب تعب

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:42 pm

    المضيئة نورا تهتدى به فى مذاهبها ، وتصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها ، وردعها تلألؤ ضيائها عن المضىّ فى سبحات إشراقها (1) وأكنّها فى مكامنها عن الذّهاب فى بلج ائتلاقها (2) فهى مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها ، وجاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به فى التماس أرزاقها ، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته (3) ، ولا تمتنع من المضىّ فيه لغسق دجنّته ، فإذا ألقت الشّمس قناعها ، وبدت أوضاح نهارها (4) ، ودخل من إشراق نورها على الضّباب فى وجارها (5) أطبقت الأجفان على مآقيها (6) وتبلّغت بما اكتسبت من فىء ظلم لياليها (7). فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا ومعاشا ، والنّهار سكنا وقرارا ، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا الآذان (Cool
    __________________
    (1) سبحات النور : درجاته وأطواره
    (2) الاتلاق : اللمعان ، والبلج ـ بالتحريك ـ الضوء ووضوحه
    (3) أسدف الليل : أظلم ، والدجنة : الظلمة ، وغسق الدجنة : شدتها
    (4) أوضاح : جمع وضح ـ بالتحريك ـ وهو هنا بياض الصبح
    (5) الضباب ـ ككتاب ـ جمع ضب ، وهو الحيوان المعروف ، والوجار ككتاب ـ الجحر.
    (6) المآقى : جمع مأق ، وهو طرف العين مما يلى الأنف
    (7) تبلغت : اكتفت أو اقتاتت
    (Cool شظايا : جمع شظية ـ كعطية ـ وهى الفلقة من الشىء ، أى : كأنها مؤلفة من شقق الآذان

    غير ذوات ريش ولا قصب (1) ، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما (2) لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا (3) ولم يغلظا فيثقلا ، تطير وولدها لاصق بها ، لاجىء إليها : يقع إذا وقعت ، ويرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه ، ويحمله للنّهوض جناحه ، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه ، فسبحان البارى لكلّ شىء على غير مثال خلا من غيره (4)
    1541 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم
    فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على اللّه فليفعل! فإن أطعتمونى فإنّى حاملكم ـ إن شاء اللّه ـ على سبيل الجنّة ، وإن كان ذا مشقّة شديدة ، ومذاقة مريرة.
    __________________
    (1) القصبة : عمود الريشة ، أو أسفلها المتصل بالجناح ، وقد يكون مجردا عن الزغب فى بعض الحيوانات مما ليس بطائر كبعض أنواع القنفذ أو الفيران له قصب محدود الأطراف يرمى به صائده كما يرمى النابل ، ويعرف بالفار الأمريكى.
    (2) أى : رسوما ظاهرة
    (3) «لما يرقا» : عبر بلما إشارة إلى أنهما ما رقا فى الماضى ولا هما رقيقان ، فهو نفى مستمر إلى وقت الكلام فى أى زمن كان
    (4) خلا : تقدم عن سواه فحاذاه ، وهذه الخطبة مما اتخذها بعض الناس دليلا على أن الكتاب مصنوع صنعه الشريف الرضى ، لدقة الوصف ، واستكماله ، وانظر المقدمة التى قدمنا بها الكتاب

    وأمّا فلانة فأدركها رأى النّساء ، وضغن غلا فى صدرها كمرجل القين (1) ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلىّ لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على اللّه.
    منه : سبيل أبلج المنهاج ، أنور السّراج ، فبالايمان يستدلّ على الصّالحات ، وبالصّالحات يستدلّ على الإيمان ، وبالإيمان يعمر العلم ، وبالعلم يرهب الموت ، وبالموت تختم الدّنيا ، وبالدّنيا تحرز الآخرة (2) وإنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة (3) ، مرقلين فى مضمارها إلى الغاية القصوى.
    ومنه : قد شخصوا من مستقرّ (4) الأجداث ، وصاروا إلى مصائر الغايات ، لكلّ دار أهلها : لا يستبدلون بها ، ولا ينقلون عنها ، وإنّ الأمر
    __________________
    (1) المرجل : القدر ، والقين ـ بالفتح ـ : الحداد ، أى : أن ضغينتها وحقدها كانا دائمى الغليان كقدر الحداد فانه يغلى ما دام يصنع ، ولو دعاها أحد لتصيب من غيرى غرضا من الاساءة والعدوان مثل ما أتت إلى ـ أى : فعلت بى ـ لم تفعل ، لأن حقدها كان على خاصة
    (2) وبالدنيا الخ : أى إنه إذا رهب الموت وهو ختام الدنيا كانت الرهبة سببا فى حرص الانسان على الفائدة من حياته فلا يضيع عمره بالباطل وبهذا يحرز الآخرة
    (3) المقصر ـ كمعقد ـ : المجلس ، أى : لا مستقر لهم دون القيامة فهم ذاهبون إليها مرقلين : أى مسرعين فى ميدان هى غايته ومنتهاه
    (4) شخصوا : ذهبوا ، والأجداث : القبور ، والمصائر : الغايات ، جمع مصير ، وهو ما يصير إليه الانسان من شقاء وسعادة. والكلام فى القيامة

    بالمعروف والنّهى عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه ، وإنّهما لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وعليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين ، والنّور المبين ، والشّفاء النّافع ، والرّىّ النّاقع (1) ، والعصمة للمتمسّك ، والنّجاة للمتعلّق لا يعوجّ فيقام ، ولا يزيع فيستعتب (2) ، ولا تخلقه كثرة الرّدّ وولوج السّمع (3). من قال به صدق ، ومن عمل به سبق ،
    وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال عليه السّلام : لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله : «الم أَحَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَهُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ» علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الفتنة الّتى أخبرك اللّه بها (4)؟ فقال : «يا علىّ ، انّ
    __________________
    (1) نقع العطش : إذا أزاله
    (2) «يستعتب» من «عتب» إذا انصرف ، والسين والتاء للطلب ، أو زائدتان أى : لا يميل عن الحق فيصرف أو يطلب منه الانصراف عنه
    (3) أخلقه : ألبسه ثوبا خلقا ، أى : باليا ، وكثرة الرد : كثرة ترديده على الألسنة بالقراءة ، أى : إن القرآن دائما فى أثوابه الجدد ، رائق لنظر العقل ، وإن كثرت تلاوته ، لانطباقه على الأحوال المختلفة فى الأزمنة المتعددة ، وليس كسائر الكلام : كلما تكرر ابتذل ، وملته النفس
    (4) «فقلت : يا رسول اللّه ـ الخ» أشكل على الشارحين العطف بالفاء مع كون الآية مكية والسؤال كان بعد أحد وواقعته كانت بعد الهجرة ، وصعب عليهم التوفيق بين كلام الامام وبين ما أجمع عليه المفسرون من كون العنكبوت مكية

    أمّتى سيفتنون من بعدى» فقلت : يا رسول اللّه ، أوليس [قد] قلت لى يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّى الشّهادة (1) فشقّ ذلك علىّ فقلت لى «أبشر ، فإنّ الشّهادة من ورائك»؟ فقال لى «إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا (2)؟» فقلت : يا رسول اللّه ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر (3) ، وقال «يا علىّ ، إنّ القوم سيفتنون بعدى بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت بالهديّة ، والرّبا بالبيع» فقلت : يا رسول اللّه ، بأىّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة»
    __________________
    بجميع آياتها ، والذى أراه أن علمه بكون الفتنة لا تنزل والنبى بين أظهرهم كان عند نزول الآية فى مكة ، ثم شغله عن استخبار الغيب اشتداد المشركين على الموحدين واهتمام هؤلاء برد كيد أولئك ، ثم بعد ما خفت الوطأة وصفا الوقت لاستكمال العلم سأل هذا السؤال ، فالفاء لترتب السؤال على العلم ، والعلم كان ممتدا إلى يوم السؤال فهى لتعقيب قوله لعلمه ، والتعقيب يصدق بأن يكون ما بعد الفاء غير منقطع عما قبلها ، وإن امتد زمن ما قبلها سنين. تقول : تزوج فولد له ، وحملت فولدت
    (1) حيزت : حازها اللّه عنى فلم أنلها
    (2) على أية حالة يكون صبرك إذا هيئت لك الشهادة؟!
    (3) قوله «من مواطن البشرى» هذا شأن أهل الحق : يستبشرون بالموت فى سبيل الحق بأنه الحياة الأبدية «5 ـ ن ـ ج ـ 2»

    152 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الّذى جعل الحمد مفتاحا لذكره ، وسببا للمزيد من فضله ، ودليلا على آلائه وعظمته
    عباد اللّه ، إنّ الدّهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين ، لا يعود ما قد ولّى منه ، ولا يبقى سرمدا ما فيه. آخر فعاله كأوّله ، متسابقة أموره (1) متظاهرة أعلامه ، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله ، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر فى الظّلمات ، وارتبك فى الهلكات ، ومدّت به شياطينه فى طغيانه ، وزيّنت له سيّىء أعماله ، فالجنّة غاية السّابقين ، والنّار غاية المفرّطين.
    اعلموا عباد اللّه ، أنّ التّقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل :
    __________________
    (1) تتسابق أمور الدهر ـ أى : مصائبه ـ كأن كلا منها يطلب النزول قبل الآخر ، فالسابق منها مهلك ، والمتأخر لاحق له فى مثل أثره ، والأعلام : هى الرايات ، كنى بها عن الجيوش وتظاهرها وتعاونها ، والساعة : القيامة ، وحدوها : سوقها وحثها لأهل الدنيا على المسير للوصول إليها. وزاجر الأبل : سائقها. والشول ـ بالفتح جمع شائلة ، على غير قياس ، وهى من الأبل : ما خف لبنها ، وارتفع ضرعها ، ومضى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر أو ثمانية ، فأما الشائل ـ بغير هاء ـ فهى الناقة تشول بذنبها للقاح ـ أى : ترفعه ـ ولا لبن لها أصلا ، وجمعها شول ، مثل راكع وركع ، وقال أبو النجم كأن فى أذنابهن الشول والزاجر : الذى يزجر الأبل ويسوقها. وتقول : حدوث بابلى حدوا وحداء ، إذا سقتها وغنيت لها ، ويقال للشمال : حدواء ، لأنها تحدو السحاب ـ أى : تسوقه ـ والمعنى : إن سائق الشول يعسف بها ولا يتقى سوقها ولا يدارك كما يسوق العشار :

    لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ إليه (1). ألا وبالتّقوى تقطع حمة الخطايا (2) وباليقين تدرك الغاية القصوى.
    عباد اللّه ، اللّه اللّه فى أعزّ الأنفس عليكم ، وأحبّها إليكم ، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ وأنار طرقه. فشقوة لازمة ، أو سعادة دائمة ، فتزوّدوا فى أيّام الفناء (3) لأيّام البقاء ، قد دللتم على الزّاد ، وأمرتم بالظّعن (4) ، وحثثتم على المسير ، فإنّما أنتم كركب وقوف ، لا تدرون متى تؤمرون بالمسير.
    ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه؟! (5)
    عباد اللّه ، إنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك ، ولا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب! عباد اللّه ، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال ، ويكثر فيه الزّلزال ، وتشيب فيه الأطفال.
    __________________
    (1) «لا يحرز» أى : لا يحفظ ، و «لجأ إليه» اعتصم به
    (2) الحمة ـ بضم ففتح ـ فى الأصل : إبرة الزنبور والعقرب ونحوها تلسع بها ، والمراد هنا سطوة الخطايا على النفس
    (3) يريد أيام الدنيا
    (4) المراد بالظعن المأمور به ههنا : السير إلى السعادة بالأعمال الصالحة ، وهذا ما حثنا اللّه عليه. والمراد بالمسير الذى لا ندرى متى نؤمر به : هو مفارقة الدنيا. والأمر فى الأول خطابى شرعى ، وفى الثانى فعلى تكوينى
    (5) تبعته : ما يتعلق به من حق الغير فيه

    اعلموا ، عباد اللّه ، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم (1) ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة [ليل] داج ، ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج (2) ، وإنّ غدا من اليوم قريب.
    يذهب اليوم بما فيه ، ويجىء الغد لاحقا به ، فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته (3) ، ومخطّ حفرته ، فيا له من بيت وحدة ، ومنزل وحشة ، ومفرد غربة! وكأنّ الصّيحة قد أتتكم ، والسّاعة قد غشيتكم وبرزتم لفصل القضاء ، قد زاحت عنكم الأباطيل (4) ، واضمحلّت عنكم العلل واستحقّت بكم الحقائق ، وصدرت بكم الأمور مصادرها ، فاتّعظوا بالعبر ، واعتبروا بالغير ، وانتفعوا بالنّذر.
    __________________
    (1) الرصد : جمع راصد ، مثل حرس فى جمع حارس ، يريد به رقيب الذمة وواعظ السر الروحى الذى لا يغفل عن التنبيه ولا يخطىء فى الأنذار والتحذير ، حتى لا تكون من مخطىء خطيئة إلا ويناديه من سره مناد يعنفه على ما ارتكب ، ويعيبه على ما اقترف ، ويبين له وجه الحق فيما فعل ، ولا تعارضه علل الهوى ، ولا يخفف مرارة نصحه تلاعب الأوهام ، وأى حجاب يحجب الانسان عن سره؟؟!!
    (2) الرتاج ـ ككتاب ـ : الباب العظيم إذا كان محكم الغلق
    (3) منزل وحدته : هو القبر
    (4) زاحت : بعدت ، وانكشفت

    153 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الأمم (1) وانتقاض من المبرم ، فجاءهم بتصديق الّذى بين يديه ، والنّور المقتدى به : ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، ألا إنّ فيه علم ما يأتى ، والحديث عن الماضى ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم
    منها : فعند ذلك لا يبقى بيت مدر ولا وبر (2) إلاّ وأدخله الظّلمة ترحة ، وأولجوا فيه نقمة ، فيومئذ لا يبقى لكم فى السّماء [عاذر] ، ولا فى الأرض ناصر ، أصفيتم بالأمر غير أهله (3) ، وأوردتموه غير مورده ، وسينتقم اللّه ممّن ظلم : مأكلا بمأكل ، ومشربا بمشرب : من مطاعم العلقم ، ومشارب الصّبر والمقر (4) ، ولباس شعار الخوف ، ودثار السّيف (5) ، وإنّما هم
    __________________
    (1) الهجعة : المرة من الهجوع ، وهو النوم ليلا ، نوم الغفلة فى ظلمات الجهالة. وانتقاض الأحكام الألهية التى أبرمت على ألسنة الأنبياء السابقين ، نقضها الناس بمخالفتها
    (2) الاشارة بذلك لحالة الاختلاف ومخالفة القرآن بالتأويل ، والترحة : ضد الفرحة
    (3) أصفيته بالشىء : آثرته ، وخصصته
    (4) الصبر ـ ككتف ـ : عصارة شجر مر ، والمقر ـ على وزانه ـ السم
    (5) الدثار ـ ككتاب ـ : من اللباس أعلاه فوق الملابس ، والسيف يكون أشبه بالدثار ، إذا عمت إباحة الدم بأحكام الهوى فلا يكون لبدن ولا لعضو منه انفلات عنه

    مطايا الخطيئات ، وزوامل الآثام (1) ، فأقسم ثمّ أقسم لتنخمنّها أميّة من بعدى كما تلفظ النّخامة (2) ، ثمّ لا تذوقها ولا تطعم بطعمها أبدا ما كرّ الجديدان.
    154 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ولقد أحسنت جواركم ، وأحطت بجهدى من ورائكم (3) ، وأعتقتكم من ربق الذّلّ (4) ، وحلق الضّيم (5) ، شكرا منّى للبرّ القليل! وإطراقا عمّا أدركه البصر ، وشهد [ه] البدن من المنكر الكثير
    155 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمره قضاء وحكمة ، ورضاه أمان ورحمة ، يقضى بعلم ، ويعفو بحلم. اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطى ، وعلى ما تعافى وتبتلى ، حمدا يكون أرضى الحمد لك ، وأحبّ الحمد إليك ، وأفضل الحمد عندك ، حمدا يملأ ما خلقت ، ويبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب عنك ، ولا يقصر دونك ، حمدا لا ينقطع عدده ،
    __________________
    (1) الزوامل : جمع زاملة ، وهى ما يحمل عليها الطعام من الأبل ونحوها
    (2) نخم ـ كفرح ـ أخرج النخامة من صدره فألقاها ، والنخامة ـ بالضم ـ ما يدفعه الصدر أو الدماغ من المواد المخاطية
    (3) «أحطت بجهدى من ورائكم» أى : حميتكم وكنت لكم ردءا. والجهد بالضم ـ الطاقة
    (4) الربق : جمع ربقة ـ مثل كسرة وكسر ـ والربقة : عروة من حبل تربق به البهم
    (5) حلق ـ محركة ـ جمع حلقة ، ويجوز كسر الحاء فى الجمع ، ويجوز «حلاق» أيضا

    ولا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه عظمتك ، إلاّ أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمار ، وأخذت بالنّواصى والأقدام ، وما الّذى نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيّب عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه ، أعظم فمن فرّغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، و [كيف] ذرأت خلقك (1) ، وكيف علّقت فى الهواء سمواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك (2) ، رجع طرفه حسيرا (3) ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا.
    منها : يدّعى بزعمه أنّه يرجو اللّه! كذب والعظيم! ما باله لا يتبيّن رجاؤه فى عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه فى عمله ، إلاّ رجاء اللّه فإنّه مدخول (4) ، وكلّ خوف محقّق ، إلاّ خوف اللّه فإنّه معلول : يرجو اللّه فى
    __________________
    (1) ذرأت : خلقت
    (2) المور ـ بالفتح ـ الموج
    (3) حسيرا : متعبا كليلا ، والمبهور : المغلوب ، والمنقطع نفسه من الأعياء ، والواله من الوله وهو ذهاب الشعور ، وحائرا ـ بالمهملة ـ أى : مضطربا. ويروى «جائرا» بالموحدة ـ أى : عادلا عن الصواب
    (4) المدخول : المغشوش غير الخالص ، أو هو المعيب الناقص لا يترتب عليه

    الكبير ، ويرجو العباد فى الصّغير ، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ ، فما بال اللّه ، جلّ ثناؤه ، يقصّر به عمّا يصنع لعباده؟! أتخاف أن تكون فى رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا ، وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطى ربّه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، وخوفه من خالقهم ضمارا ووعدا (1) وكذلك من عظمت الدّنيا فى عينه وكبر موقعها فى قلبه (2) آثرها على اللّه فانقطع إليها وصار عبدا لها
    __________________
    عمل ، والخوف المحقق : هو الثابت الذى يبعث على البعد عن المخوف والهرب منه وهو فى جانب اللّه ما يمنع عن إتيان نواهيه ويحمل على إتيان أوامره : هربا من عقابه وخشية من جلاله ، والخوف المعلول : هو ما لم يثبت فى النفس ، ولم يخالط القلب ، وإنما هو عارض فى الخيال : يزيله أدنى الشواغل ، ويغلب عليه أقل الرغائب ، فهو يرد على الوهم ، ثم يفارقه ، ثم يعود إليه ، شأن الأوهام التى لا قرار لها ، فهو معلول : من عله يعله إذا شربه مرة بعد أخرى ، ومراد الامام أن الراجى لعبد من العبيد يظهر رجاؤه فى سعيه واهتمامه بشأن من رجاه وموافقته على أهوائه ، وكذلك الخائف من أمير أو سلطان يرى أثر خوفه فى تهيبه والامتناع من كل ما يحرك غضبه بل ما يتوهم فيه أنه غير حسن عنده ، لكنهم فى رجاء اللّه وخوفه يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم مع أنهم يرجون اللّه فى سعادة الدارين ، ويخافونه فى شقاء الأبد ، فيعطون للعبيد ما لا يعطون للّه
    (1) الضمار ـ ككتاب ـ من الوعود والديون ما كان مسوفا به غير مرجو الوفاء قال الراعى : ـ
    حمدن مزاره ، وأصبن منه
    عطاء لم يكن عدة ضمارا

    (2) يقال : كبر ـ بضم الباء ـ أى : عظم ، فهو كبير وكبار ـ بزنة شجاع ـ فاذا أفرط فى العظم قيل كبار ـ بتشديد الباء ـ فأما كبر ـ بكسر الباء ـ فمعناه أسن ،

    وقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، كاف لك فى الأسوة (1) ودليل [لك] على ذمّ الدّنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها (2) ، إذ قبضت عنه أطرافها ، ووطّئت لغيره أكنافها (3) وفطم عن رضاعها ، وزوى عن زخارفها ، وإن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، إذ يقول : «رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» واللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذّب لحمه (4) وإن شئت ثلّثت بداود ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنّة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوض بيده (5) ويقول لجلسائه : أيّكم يكفينى بيعها؟! ويأكل قرص الشّعير من ثمنها ، وإن شئت قلت فى عيسى ابن مريم ، عليه السّلام ، فلقد كان يتوسّد
    __________________
    والمصدر منهما الكبر كعنب
    (1) الأسوة : القدوة
    (2) المخازى : جمع مخزاة ، وهى الأمر يستحى من ذكره لقبحه ، والمساوى : العيوب ، جمع مساءة ، وتقول : ساءه يسوءه. سوءا ومساءة ومسائية
    (3) الأكناف : الجوانب ، و «زوى» أى : قبض
    (4) الصفاق ـ ككتاب ـ هو الجلد الأسفل تحت الجلد الذى عليه الشعر ، أو هو ما بين الجلد والمصران ، أو جلد البطن كله. وشفيفه : رقيقه الذى يشف عما وراءه والتشذب : التفرق وانهضام اللحم فتحلل الأجزاء وتفرقها
    (5) السفائف : جمع سفيفة ، وهى وصف من «سف الخوص» إذا نسجه ، أى : منسوجات الخوص

    الحجر ويلبس الخشن ، [ويأكل الجشب] وكان إدامه الجوع ، وسراجه باللّيل القمر ، وظلاله فى الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها (1) ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ولا مال يلفته ، ولا طمع يذلّه ، دابّته رجلاه ، وخادمه يداه.
    فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر (2) صلّى اللّه عليه وآله ، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى ، وعزاء لمن تعزّى ، وأحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه ، والمقتصّ (3) لأثره : قضم الدّنيا قضما (4) ولم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدّنيا كشحا (5) وأخمصهم من الدّنيا بطنا ، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ، وعلم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، وحقر شيئا فحقره ، وصغّر شيئا فصغّره ، ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه ورسوله ، وتعظيمنا ما صغّر اللّه ورسوله ، لكفى به شقاقا للّه ، ومحادّة عن أمر اللّه (6) ولقد كان ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ،
    __________________
    (1) ظلاله : جمع ظل ، بمعنى الكن والمأوى. ومن كان كنه المشرق والمغرب فلا كن له
    (2) «تأس» أى : اقتد
    (3) المقتص لأثره : المتتبع له ، ومنه قوله تعالى : «وَقٰالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ»
    (4) القضم : الأكل بأطراف الأسنان ، كأنه لم يتناول منها إلا على اطراف أسنانه لم يملأ منها فمه ، أو بمعنى أكل اليابس
    (5) «أهضم» من «الهضم» وهو خمص البطن ، أى : خلوها وانطباقها من الجوع ، والكشح : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفى ، وأخمصهم : أخلاهم
    (6) المحادة : المخالفة فى عناد

    يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله (1) ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العارى ، ويردف خلفه ، ويكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول : يا فلانة ـ لإحدى أزواجه ـ غيّبيه عنّى ، فإنّى إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها (2) فأعرض عن الدّنيا بقلبه ، وأمات ذكرها من نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا (3) ، ولا يعتقدها قرارا ، ولا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النّفس ، وأشخصها عن القلب (4) وغيّبها عن البصر ، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه ، وأن يذكر عنده.
    ولقد كان فى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ما يدلّك على مساوى الدّنيا وعيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته (5) وزويت عنه زخارفها مع عظيم
    __________________
    (1) خصف النعل : خرزها. والحمار العارى : ما ليس عليه برذعة ولا إكاف ، وأردف خلفه : أركب معه شخصا آخر على حمار واحد أو جمل أو فرس أو نحوها وجعله خلفه
    (2) فى هذا دليل على أن الرسم على الورق والأثواب ونحوها لا يمنع استعماله ، وإنما يتجافى عنه بالنظر تزهدا وتورعا
    (3) الرياش : اللباس الفاخر
    (4) أشخصها : أبعدها
    (5) خاصته : اسم فاعل فى معنى المصدر ، أى : مع خصوصيته وفضله عند ربه وعظيم الزلفة : منزلته العليا من القرب إلى اللّه ، و «زوى الدنيا عنه» قبضها وأبعدها

    زلفته. فلينظر ناظر بعقله أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟! فإن قال : «أهانه» فقد كذب وأتى بالافك العظيم ، وإن قال : «أكرمه» فليعلم أنّ اللّه [قد] أهان غيره حيث بسط الدّنيا له ، وزواها عن أقرب النّاس منه ، فتأسّى متأسّ بنبيّه (1) واقتصّ أثره ، وولج مولجه ، وإلاّ فلا يأمن الهلكة ، فإنّ اللّه جعل محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، علما للسّاعة (2) ومبشّرا بالجنّة ، ومنذرا بالعقوبة : خرج من الدّنيا خميصا (3) وورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله ، وأجاب داعى ربّه ، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه ، وقائدا نطأ عقبه (4) واللّه لقد رقعت مدرعتى هذه حتّى استحييت من راقعها (5) ولقد قال لى قائل : ألا تنبذها عنك؟ فقلت : اغرب عنّى (6) «فعند الصّباح يحمد القوم السّرى»
    __________________
    (1) فتأسى : خبر يريد به الطلب ، أى : فليقتد مقتد بنبيه
    (2) العلم ـ بالتحريك ـ العلامة ، أى : إن بعثته دليل على قرب الساعة ، حيث لا نبى بعده
    (3) «خميصا» أى : خالى البطن ، كناية عن عدم التمتع بالدنيا
    (4) العقب ـ بفتح فكسر ـ مؤخر القدم ، ووطء العقب : مبالغة فى الاتباع والسلوك على طريقه : نقفوه خطوة خطوة ، حتى كاننا نطأ مؤخر قدمه
    (5) المدرعة ـ بالكسر ـ ثوب من صوف
    (6) «اغرب عنى» اذهب وابعد ، وقوله «عند الصباح ـ الخ» هذا مثل معناه إذا أصبح النائمون وقد رأوا السارين واصلين إلى مقاصدهم حمدوا سراهم ، وندموا

    159 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بعثه بالنّور المضىء ، والبرهان الجلىّ ، والمنهاج البادى (1) والكتاب الهادى :
    أسرته خير أسرة (2) وشجرته خير شجرة : أغصانها معتدلة ، وثمارها متهدّلة (3) مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة (4) علا بها ذكره ، وامتدّ بها صوته. أرسله بحجّة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية (5) أظهر به الشّرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة (6) ، فمن يتّبع غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته (7) ، ويكن مآبه إلى الحزن الطّويل ، والعذاب الوبيل.
    __________________
    على نوم أنفسهم ، أو إذا أصبح السارون ـ وقد وصلوا إلى ما ساروا إليه ـ حمدوا سراهم وإن كان شاقا ، حيث أبلغهم إلى ما قصدوا ، والسرى ـ بضم ففتح السير ليلا
    (1) أى : الظاهر
    (2) الأسرة ـ كغرفة ـ رهط الرجل الأدنون.
    (3) متدلية ، دانية للاقتطاف ، واعتدال الأغصان كناية عن عدم الاختلاف وتهدل الثمار كناية عن سهولة اجتناء العلم منها
    (4) المدينة المنورة
    (5) من «تلافاه» : تداركه بالاصلاح قبل أن يهلكه الفساد ، فدعوة النبى تلافت أمور الناس قبل هلاكهم
    (6) المفصولة : التى فصلها اللّه ، أى : قضى بها على عباده
    (7) الكبوة : السقطة ، وهى مصدر «كبا الفرس» إذا عثر فوقع على الأرض

    وأتوكّل على اللّه توكّل الإنابة إليه ، وأسترشده السّبيل المودّية إلى جنّته ، القاصدة إلى محلّ رغبته (1). أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه وطاعته ، فإنّها النّجاة غدا ، والمنجاة أبدا ، رهّب فأبلغ ، ورغب فأسبغ (2) ووصف لكم الدّنيا وانقطاعها وزوالها وانتقالها ، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها.
    أقرب دار من سخط اللّه ، وأبعدها من رضوان اللّه! فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها وأشغالها لما أيقنتم به من فراقها وتصرّف حالها ، فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح (3) والمجدّ الكادح ، واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم : قد تزايلت أوصالهم (4) وزالت أبصارهم وأسماعهم ، وذهب شرفهم وعزّهم ، وانقطع سرورهم ونعيمهم ، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها ، وبصحبة الأزواج مفارقتها ، لا يتفاخرون ، ولا يتناسلون ، ولا يتزاورون ، ولا
    __________________
    والمآب : المرجع ، مصدر ميمى من «آب يؤوب» إذا رجع وعاد. والوبيل : ذو الوبال ، وهو الهلاك
    (1) الانابة : مصدر «أناب ينيب» أى : رجع. والسبيل : الطريق ، يذكر ويؤنث ، وقوله «القاصدة» صفة ثانية للطريق ، ومعناها فى الأصل ضد الجائرة ، وأراد منها ههنا المؤدية والمفضية ولذلك عداها بالى
    (2) «أستبغ» أى : أحاط بجميع وجوه الترغيب
    (3) الشفيق : الخائف ، والناصح : الخالص ، والمجد : المجتهد ، والكادح : المبالغ فى سعيه.
    (4) تزايلت : تفرقت ، والأوصال : المفاصل ، أو مجتمع العظام ، وتفرقها : كناية عن تبددهم وفنائهم

    يتجاورون. فاحذروا عباد اللّه حذر الغالب لنفسه ، المانع لشهوته ، النّاظر بعقله ، فإنّ الأمر واضح ، والعلم قائم ، والطّريق جدد ، والسّبيل قصد (1)
    157 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال :
    يا أخا بنى أسد ، إنّك لقلق الوضين (2) ترسل فى غير سدد! ولك بعد ذمامة الصّهر وحقّ المسألة ، وقد استعلمت فاعلم : أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ـ ونحن الأعلون نسبا ، والأشدّون برسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وسلّم ، نوطا (3) ـ فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس
    __________________
    (1) الجدد ـ بالتحريك ـ : المستوى المسلوك ، والقصد : القويم
    (2) الوضين : بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج ، فاذا قلق واضطرب اضطرب الرحل فكثر تململ الجمل وقل ثباته فى سيره ، والارسال : الاطلاق والاهمال ، والسدد ـ محركا ـ : الاستقامة ، أى : تطلق لسانك بالكلام فى غير موضعه كحركة الجمل المضطرب فى مشيته ، والذمامة : الحماية والكفاية ، ومثله الذمام ـ بكسر الذال فيهما ـ ويروى «ولك بعد ماتة الصهر» وهو اسم فاعل من «مت إليه يمت» والمعنى واحد ، والصهر : الصلة بين أقارب الزوجة وأقارب الزوج ، وإنما كان للأسدى حماية الصهر لأن زينب بنت جحش زوجة رسول اللّه كانت أسدية. وليس الصهر أن عليا رضى اللّه عنه قد تزوج من بنى أسد ، كما زعم بعض شارحى كلامه
    (3) النوط ـ بالفتح ـ : التعلق ، والأثرة : الاختصاص بالشىء دون مستحقه والمراد بمن سخت نفوسهم عن الأمر أهل البيت

    آخرين ، والحكم اللّه والمعود إليه يوم القيامة.
    ودع عنك نهبا صيح فى حجراته (1) وهلمّ الخطب فى ابن أبى سفيان (2)
    فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه ، ولا غرو واللّه فيا له خطبا يستفرغ العجب ويكثر الأود ، حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه ، وسدّ فوّاره من
    __________________
    (1) البيت لامرىء القيس وتتمته وهات حديثا ما حديث الرواحل قاله عند ما كان جارا لخالد بن سدوس ، فأغار عليه بنو جديلة فذهبوا بأهله ، فشكا لمجيره خالد ، فقال له : أعطنى رواحلك ألحق بها القوم فأرد إبلك وأهلك ، فأعطاه ، وأدرك خالد القوم فقال لهم : ردوا ما أخذتم من جارى ، فقالوا : ما هو لك بجار ، فقال : واللّه إنه جارى وهذه رواحله ، فقالوا : نعم ، ورجعوا إليه ونزلوا عنهن وذهب بهن. والنهب ـ بالفتح ـ : الغنيمة ، و «صيح» أى : صاحوا للغارة «فى حجراته» جمع حجرة ـ بفتح الحاء ـ : وهى الناحية ، ووجه التمثيل ظاهر
    (2) هلم : اذكر ، و «هلم» لفظ يستعمل لازما ومتعديا : فاللازم بمعنى تعال ، قال الخليل : أصله «لم» فعل أمر من «لم اللّه شعثه» أى : جمعه ، كأن المتكلم أراد لم نفسك إلينا ـ أى : اجمعها واقرب منا ـ ثم دخلت «ها» التى للتنبيه ، وحذفت ألف «ها» لكثرة الاستعمال ، وجعلت الكلمتان كلمة واحدة : ويستوى فيها الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فى لغة أهل الحجاز ، وبلغتهم جاء قوله تعالى : «وَاَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا» فأما أهل نجد فانهم يصلون بها الضمائر فيقولون هلم وهلما وهلموا وهلمى وهلممن. وربما تعدى «هلم» إذا كان لازما باللام فيقال «هلم لك» كما يقال «هيت لك» فأما المتعدى فمعناه «هات» تقول «هلم الكتاب» أى : هاته وقال اللّه تعالى : «قُلْ هَلُمَّ شُهَدٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ» والخطب : عظيم الأمر وعجيبه الذى أدى لقيام من ذكره لمنازعته فى الخلافة ، والأود : الاعوجاج

    ينبوعه (1). وجدحوا بينى وبينهم شربا وبيئا (2). فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه (3) وإن تكن الأخرى (4) «فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ»
    158 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه خالق العباد ، وساطح المهاد (5) ومسيل الوهاد ، ومخصب النّجاد ليس لأوّليّته ابتداء ، ولا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل لم يزل ، والباقى بلا أجل خرّت له الجباه ، ووحّدته الشّفاه ، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها (6) لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات
    __________________
    (1) الفوار والفوارة من الينبوع : الثقب الذى يفور الماء منه بشدة
    (2) جدحوا : خلطوا ومزجوا ، والشرب ـ بالكسر ـ : النصيب من الماء ، والوبىء : ما يوجب شربه الوباء ، يريد به الفتنة التى يردونها نزاعا له فى حقه ، كأنها ماء خلط بالمواد السامة القاتلة
    (3) محض الحق : خالصه
    (4) وإن لا يزالوا مفتونين فلا تمت نفسك غما عليهم
    (5) المهاد : الأرض ، والوهاد : جمع وهدة ، وهى ما انخفض من الأرض ، والنجاد : جمع نجد ، وهو ما ارتفع منها ، وتسييل الوهاد بمياه الأمطار ، وتخصيب النجاد بأنواع النبات
    (6) الأبانة ههنا : التمييز والفصل ، والضمير فى «له» له سبحانه أى : تمييزا لذاته تعالى عن شبهها ، أى : مشابهتها ، و «إبانة» : مفعول لأجله يتعلق بحد ، أى : حد الأشياء تنزيها لذاته عن مماثلتها «6 ـ ن ـ ج ـ 2»

    لا يقال له : «متى؟» ولا يضرب له أمد بحتّى ، الظّاهر لا يقال «ممّا» (1) ، والباطن لا يقال «فيما» ، لا شبح فيتقضّى (2) ولا محجوب فيحوى. لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق ، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة (3) ولا كرور لفظة ، ولا ازدلاف ربوة (4) ، ولا انبساط خطوة فى ليل داج (5) ، ولا غسق ساج ، يتفيّأ عليه القمر المنير (6) ، وتعقبه الشّمس ذات النّور ، فى الأفول والكرور (7) وتقلّب الأزمنة والدّهور ، من إقبال ليل مقبل ، وإدبار نهار مدبر ، قبل كلّ غاية ومدّة (Cool وكلّ إحصاء وعدّة ، تعالى عمّا ينحله (9) المحدّدون من صفات الأقدار ، ونهايات الأقطار ، وتأثّل
    __________________
    (1) ظاهر بآثار قدرته ولا يقال من أى شىء ظهر
    (2) ليس بجسم فيفنى بالانحلال.
    (3) شخوص لحظة : امتداد بصر
    (4) ازدلاف الربوة : تقربها من النظر وظهورها له ، لأنه يقع عليها قبل المنخفضات
    (5) الداجى : المظلم ، والغسق : الليل ، «وساج» أى : ساكن لا حركة فيه
    (6) أصل التفيؤ للظل ينسخ نور الشمس ، ولما كان الظلام بالليل عاما كالضياء بالنهار عبر عن نسخ نور القمر له بالتفيؤ تشبيها له بنسخ الظل لضياء الشمس ، وهو من لطيف التشبيه ودقيقه
    (7) الأفول : المغيب ، والكرور : الرجوع بالشروق
    (Cool قوله «قبل كل غاية» متعلق «بيخفى» على معنى السلب ، أى : لا يخفى عليه شىء من ذلك قبل كل غاية ، أى : يعلمه قبل الخ. ويصح أن يكون خبرا عن ضمير الذات العلية ، أى : هو موجود قبل كل غاية الخ
    (9) نحله القول ـ كمنعه ـ نسبه إليه ، أى : عما ينسبه المحددون لذاته تعالى

    المساكن (1) وتمكّن الأماكن : فالحدّ لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب ، لم يخلق الأشياء ، من أصول أزليّة ، ولا [من] أوائل أبديّة ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته (2) ليس لشىء منه امتناع (3) ، ولا له بطاعة شىء انتفاع. علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين وعلمه بما فى السّموات العلى كعلمه بما فى الأرض السّفلى.
    منها : أيّها المخلوق السّوىّ (4) ، والمنشأ المرعىّ فى ظلمات الأرحام ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين (5) ووضعت فى قرار مكين
    __________________
    والمعرفون لها من صفات الأقدار ، والأقدار : جمع قدر ـ بسكون الدال ـ وهو حال الشىء من الطول والعرض والعمق ومن الصغر والكبر ، ونهايات الأقطار : هى نهايات الأبعاد الثلاثة المتقدمة
    (1) التأثل : التأصل
    (2) لم تكن مواد متساوية فى القدم والأزلية وكان له فيها أثر التصوير والتشكيل فقط ، بل خلق المادة بجوهرها ، وأقام لها حدها ، أى : ما به امتازت عن سائر الموجودات ، وصور منها ما صور من أنواع النباتات والحيوانات وغيرها
    (3) أى : لا يمتنع عليه ممكن : إذا قال للشىء كن فيكون
    (4) مستوى الخلقة : لا نقص فيه ، وفى التنزيل : «فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا» والمنشأ : المبتدع ، اسم مفعول من «أنشأ» أى : خلق وأوجد والمرعى : المحفوظ المحوط
    (5) السلالة من الشىء : ما أنسل منه ، والنطفة مزيج ينسل من البدن المؤلف من عناصر الأرض المخلوطة بالمواد السائلة ، فالمزاج البدنى أشبه بالمزاج الطينى ، بل هو بنوع إتقان وإحكام ، والقرار المكين : محل الجنين من الرحم ، والقدر المعلوم :

    إلى قدر معلوم ، وأجل مقسوم ، تمور فى بطن أمّك جنينا : لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدى أمّك؟ وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟ هيهات! إنّ من يعجز عن صفات ذى الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز ، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد.
    159 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما اجتمع الناس عليه وشكوا مما نقموه (1) على عثمان ، وسالوه
    مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه فقال : ـ
    إنّ النّاس ورائى ، وقد استسفرونى بينك وبينهم (2) وو اللّه ما أدرى ما أقول لك؟! ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلّك على شىء لا تعرفه. إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشىء فنبلغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول اللّه كما صحبنا ، وما ابن أبى قحافة ولا
    __________________
    مبلغ المدة المحددة للحمل و «تمور» تتحرك و «لا تحير» من قولهم «ما أحار جوابا» أى : مارد ، أى : لا تسطيع دعاء
    (1) نقم عليه فهو ناقم ، أى : عتب عليه. ونقم الأمر : كرهه ، وبابهما ضرب. وقال الكسائى : نقم من باب فهم لغة فيهما. وهذه اللفظة تجىء متعدية ولازمة كما رأيت. والاستعتاب : طلب العتبى ، وهى الرضا
    (2) استسفرونى : جعلونى سفيرا ووسيطا بينك وبينهم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:44 pm

    ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وشيجة رحم منهما (1) ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فاللّه اللّه فى نفسك فإنّك ، واللّه ، ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطّرق لواضحة ، وإنّ أعلام الدّين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى وهدى ، فأقام سنّة معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ، وإنّ السّنن لنيّرة لها أعلام ، وإنّ البدع لظاهرة لها أعلام. وإنّ شرّ النّاس عند اللّه إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنّى سمعت رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، يقول : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، يلقى فى نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرّحى : ثمّ يرتبط فى قعرها (2)» وإنّى أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنّه كان يقال : يقتل فى هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويثبّت الفتن فيها ، فلا يبصرون
    __________________
    (1) الوشيجة : اشتباك القرابة ، وإنما كان عثمان أقرب وشيجة لرسول اللّه لأنه من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف رابع أجداد النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم. أما أبو بكر فهو من بنى تيم بن مرة سابع أجداد النبى. وعمر من بنى عدى ابن كعب ثامن أجداده صلّى اللّه عليه وآله وسلم. وأما أفضليته عليهما فى الصهر فلأنه تزوج ببنتى رسول اللّه : رقية ، وأم كلثوم ، توفيت الأولى فزوجه النبى بالثانية ولذا سمى ذا النورين. وغاية ما نال الخليفتان أن النبى تزوج من بنتيهما
    (2) فارتبط : أى شده وحبسه ، وروى «يرتبك»

    الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجا ، ويمرجون فيها مرجا (1) ، فلا تكوننّ لمروان سيّقة (2) يسوقك حيث شاء بعد جلال السّنّ ، وتقضّى العمر!! فقال له عثمان رضى اللّه عنه : كلم الناس فى أن يؤجلونى حتى أخرج إليهم من مظالمهم ، فقال عليه السلام :
    ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه.
    163 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس
    ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات (3) ، وساكن وذى حركات ، فأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به ، ومسلّمة له ، ونعقت فى أسماعنا دلائله على وحدانيّته (4) وما ذرأ
    __________________
    (1) المرج : الخلط والتلبيس ، وفعله «مرج» مثل فرح. ومنه قولهم الهرج والمرج ، وإسكان راء المرج للازدواج
    (2) السيقة ـ ككيسة ـ : ما استاقه العدو من الدواب ، وكان مروان كاتبا ومشيرا لعثمان ، وقوله «بعد جلال السن» يجوز أن يكون «جلال» مفتوح الجيم بمعنى العظمة ويجوز أن يكون مضموم الجيم بمعنى العظيم والجليل ، صفة مشبهة مثل شجاع وطوال وإضافته حينئذ من باب إضافة الصفة للموصوف
    (3) الموات ـ بفتح الميم ـ ما لا حياة فيه. ويقولون «أرض موات» يريدون أنها قفر لا يسكنها أحد. والساكن ههنا مثل الأرض والجبال ، وإن كانت لهما حركة و «ذو الحركات» مثل النار والماء الجارى والحيوان
    (4) نعقت : من «نعق بغنمه» كمنع ـ صاح والمراد أن دلائل ربوبيته ، وآيات

    من مختلف صور الأطيار (1) الّتى أسكنها أخاديد الأرض ، وخروق فجاجها وراسى أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرّفة فى زمام التّسخير (2) ومرفرفة بأجنحتها فى مخارق الجوّ المنفسح والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد أن لم تكن فى عجائب صور ظاهرة ، وركّبها فى حقاق مفاصل محتجبة (3) ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو فى السّماء خفوفا ، وجعله يدفّ دفيفا ، ونسقها على اختلافها فى الأصابيغ (4) بلطيف قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس فى قالب (5) لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس فى لون صبغ
    __________________
    وحدانيته لظهورها ووضوحها بمنزلة من يصيح بنا بصوت مسموع ينادينا إلى الايمان
    (1) ذرأ : خلق. والأخاديد : جمع أخدود ، وهو الشق فى الأرض ، والخروق : جمع خرق ، وهى الأرض الواسعة تتخرق فيها الرياح. والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، وقد يستعمل فى متسع الفلا ، والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو الجبل
    (2) يصرفها اللّه فى أطوار مختلفة : تنتقل فيها بزمام تسخيره واستخدامه لها فيما خلقها لأجله ، ومرفرفة : من «رفرف الطائر» إذا بسط جناحيه ، والمخارق : جمع مخرق ، وهى الفلاة ، وشبه الجو بالفلاة للسعة فيهما
    (3) الحقاق ـ ككتاب ـ : جمع حق ـ بالضم ـ وهو مجتمع المفصلين ، واحتجاب المفاصل : استتارها باللحم والجلد ، والعبالة : الضخامة ، ويسمو : يرتفع ، وخفوفا : سرعة وخفة ، ودفيف الطائر : مروره فويق الأرض ، أو أن يحرك جناحيه ورجلاه فى الأرض ، ويدف : بكسر الدال
    (4) نسقها : رتبها ، والأصابيغ : جمع أصباغ ـ بفتح الهمز ـ جمع صبغ ـ بالكسر ـ وهو اللون ، أو ما يصبغ به
    (5) القالب : مثال تفرغ فيه الجواهر لتأتى على قدره ، والطائر ذو اللون الواحد كأنما أفرغ فى قالب من اللون. وقوله «قد طوق» أى : إن جميع بدنه بلون واحد ،

    قد طوّق بخلاف ما صبغ به
    ومن أعجبها خلقا الطّاووس الّذى أقامه فى أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه فى أحسن تنضيد (1) ، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نثره من طيّه ، وسما به مظلاّ على رأسه (2) كأنّه قلع دارىّ عنجه نوتيّه يختال بألوانه ، ويميس بزيفانه ، يفضى كإفضاء الدّيكة (3) ويؤرّ بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة فى الضّراب! أحيلك من ذلك على معاينة (4) لا كمن يحيل على ضعيف إسناده ، ولو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها
    __________________
    إلا لون عنقه فانه يخالف سائر بدنه ، كأنه طوق صيغ لحليته (1) التنضيد : النظم والترتيب. وقوله «أشرج قصبه» أى : داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها فى الطول والقصر ، وإذا مشى إلى أنثاه ليسافدها نشر ذلك الذنب بعد طيه
    (2) «سما به» أى : ارتفع به ، أى : رفعه ، مطلا على رأسه ، أى : مشرفا عليه كأنه يظله ، والقلع ـ بكسر فسكون ـ : شراع السفينة. وعنجه : جذبه فرفعه ، من «عنجت البعير» إذا جذبته بخطامه فرددته على رجليه ، ويختال : يعجب. ويميس : يتبختر بزيفان ذنبه ، وأصل الزيفان : التبختر أيضا ، ويريد به هنا حركة ذنب الطاووس يمينا وشمالا
    (3) «يفضى» أى : يسافد أنثاه كما تسافد الديكة : جمع ديك. ويؤر ـ كيشد ـ أى : يأتى أنثاه بملاقحة ، أى : مسافدة يفرز فيها مادة تناسلية من عضو التناسل يدفعها فى رحم قابل ، والمغتلمة ـ على صيغة اسم الفاعل ـ من «اغتلم» إذا غلب للشهوة ، والضراب : لقاح الفحل لأنثاه
    (4) أى : إن لم يكفك الخبر فأنى أحولك عنه إلى المعاينة فاذهب وعاين تجد صدق ما أقول

    مدامعه (1) فتقف فى ضفّتى جفونه ، وإنّ أنثاه تطعم ذلك ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب (2) من مطاعمة الغراب تخال قصبه مدارى من فضّة (3) وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلذ الزّبرجد ، فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنى جنى من زهرة كلّ ربيع (4) ، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشىّ الحلل (5) أو مونق عصب اليمن ، وإن شاكلته بالحلىّ فهو كفصوص ذات ألوان قد
    __________________
    (1) «تسفحها» أى : ترسلها أوعية الدمع ، وضفة الجفن : استعارة من ضفتى النهر ، بمعنى جانبيه ، وتطعم ذلك ـ كتعلم ـ أى : تذوقه كأنها تترشفه ، ولقاح الفحل ـ كسحاب ـ ماء التناسل يلقح به الأنثى ، والمنبجس : النابع من العين
    (2) «لما كان ذلك بأعجب» أى : لو صح ذلك الزعم فى الطاووس لكان له نظير فيما زعموا فى مطاعمة الغراب وتلقيحه لأنثاه حيث قالوا : إن مطاعمة الغراب بانتقال جزء من الماء المستقر فى قانصة الذكر إلى الأنثى تتناوله من منقاره ، والمماثلة بين الزعمين فى عدم الصحة. ومنشأ الزعم فى الغراب إخفاؤه لسفاده حتى ضرب المثل بقولهم «أخفى من سفاد الغراب».
    (3) القصب : جمع قصبة ، وهى الريش ، والمدارى : جمع مدرى ـ بكسر الميم ـ قال ابن الأثير : المدرى والمدراة مصنوع من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط ، وأطول منه ، يسرح به الشعر المتلبد ، ويستعمله من لا مشط له. والدارات : هالات القمر ، والعقيان : الذهب الخالص ، أو ما ينمو منه فى معدنه. وفلذ ـ كعنب ـ جمع فلذة ، بمعنى القطعة ، و «ما أنبت» معطوف على قصبه ، والتشبيه فى بياض القصب والصفرة والخضرة فى الريش
    (4) «جنى» أى : مجتنى جمع كل زهر ، لأنه جمع كل لون
    (5) الموشى : المنقوش المنمنم ، على صيغة اسم الفاعل ، والعصب ـ بالفتح ـ ضرب من البرود منقوش

    نطّقت باللّجين المكلّل (1) ، يمشى مشى المرح المختال (2) ، ويتصفّح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله (3) ، وأصابيغ وشاحه.
    فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا معولا يكاد [بصوت] يبين عن استغاثته. ويشهد بصادق توجّعه ، لأنّ قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة (4) وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصيّة خفيّة (5) ، وله فى موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة (6) ومخرج عنقه كالإبريق ، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة
    __________________
    (1) جعل اللجين ـ وهو الفضة ـ منطقة لها ، والمكلل : المزين بالجواهر ، فكما تمنطقت الفصوص باللجين كذلك زين اللجين بها
    (2) المرح ـ ككتف ـ المعجب ، والمختال : الزاهى بحسنه
    (3) السربال : اللباس مطلقا ، أو هو الدرع خاصة. والوشاح : نظامان من لؤلؤ وجوهر يخالف بينهما ويعطف أحدهما على الآخر ، بعد عقد طرفه به ، حتى يكونا كدائرتين إحداهما داخل الأخرى : كل جزء من الواحدة يقابل جزءا من قرينتها ، ثم تلبسه المرأة على هيئة حمالة السيف ، وأديم عريض مرصع بالجواهر يلبس كذلك ما بين العاتق والكشح
    (4) زقا يزقو : صاح ، وأعول فهو معول : رفع صوته بالبكاء «يكاد يبين» أى : يفصح عن استغاثته من كراهة قوائمه ، أى : ساقيه. حمش : جمع أحمش ، أى : دقيق والديك الخلاسى ـ بكسر الخاء ـ : هو المتولد بين دجاجتين هندية وفارسية
    (5) وقد نجمت : نبتت ، «من ظنبوب ساقه» أى : من حرف عظمه الأسفل «صيصية» وهى ههنا : شوكة تكون فى رجل الديك ، وهى فى الأصل شوكة الحائك التى يسوى بها سدى الثوب ولحمته ، قال الشاعر كوقع الصياصى فى النسيج الممدد ثم استعملت فى المعنى الذى ذكر أولا على التشبيه ، والظنبوب ـ بالضم ، كعرقوب ـ عظم حرف الساق
    (6) العرف : الشعر المرتفع من عنقه على رأسه ، والقنزعة ـ بضم القاف

    اليمانيّة (1) ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال (2) ، وكأنّه ملفّع بمعجر أسحم (3) إلاّ أنّه يخيل لكثرة مائه وشدّة بريقه أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به. ومع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم فى لون الأقحوان (4) أبيض يقق ، فهو ببياضه فى سواد ما هنالك يأتلق (5) وقلّ صبغ إلاّ وقد أخذ منه بقسط (6) وعلاه بكثرة صقاله [وبريقه] وبصيص ديباجه ورونقه (7) فهو كالأزاهير المبثوثة (Cool لم تربّها أمطار ربيع (9) ولا شموس قيظ ، وقد ينحسر من ريشه (10)
    __________________
    والزاى بينهما سكون ـ : الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبى ، وموشاة : منقوشة
    (1) مغرزها : الموضع الذى غرز فيه العنق منتهيا إلى مكان البطن ، لونه كلون الوسمة ، وهى ـ بكسر السين وقد تسكن ـ نبات يخضب به ، أو هى نبات النيل الذى منه صبغ النيلج المعروف بالنيلة
    (2) الصقال : الجلاء
    (3) المعجر ـ كمنبر ـ : ثوب تعتجر به المرأة فتضع طرفه على رأسها ثم تمر الطرف الآخر من تحت ذقنها حتى ترده إلى الطرف الأول ، فيغطى رأسها وعنقها وعاتقها وبعض صدرها ، وهو معنى التلفع ههنا ، والأسحم : الأسود.
    (4) الأقحوان : البابونج الأبيض ، واليقق ـ محركا وبزنة كتف ـ : شديد البياض
    (5) يلمع
    (6) نصيب.
    (7) «علاه» أى : فاق اللون الذى أخذ نصيبا منه بكثرة جلائه ، والبصيص : اللمعان. والرونق : الحسن
    (Cool الأزاهير : جمع أزهار ، وهو جمع زهرة
    (9) لم تربها : فعل من التربية ، والقيظ : الحر
    (10) «ينحسر» هو من «حسره» أى : كشفه. أى : وقد يتكشف من ريشه. «وتترى» أى : شيئا بعد شىء وبينهما فترة غالبا. ومن الناس من يذكر أن

    ويعرى من لباسه فيسقط تترى ، وينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان (1) ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه ، ولا يقع لون فى غير مكانه. وإذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة ، وتارة خضرة زبرجديّة ، وأحيانا صفرة عسجديّة (2) فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن (3) أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين وأقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه؟! فسبحان الّذى بهر العقول (4) عن وصف خلق جلاّة للعيون فأدركته محدودا مكوّنا ، ومؤلّفا ملوّنا ، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته وقعد بها عن تأدية نعته. وسبحان من أدمج قوائم الذّرّة (5) والهمجة إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة ، ووأى على نفسه
    __________________
    «تترى» للمواصلة والالتصاق. وأصل «تترى» وترى بالواو من الوتر ، ومن الناس من يجعل ألفه للتأنيث فلا ينون ، ومنهم من يجعل الألف للالحاق فينون وقوله «تباعا» أى : لا فترات بينهما ، وكذلك حال الريش الساقط : يسقط شيئا بعد شىء وينبت جميعا
    (1) ينحت : يسقط وينقشر ، وانحتات الأوراق : تناثرها
    (2) ذهبية
    (3) عمائق : جمع عميقة ، وهى البعيدة الغور ، والقرائح : جمع قريحة ، وهى الخاطر والذهن
    (4) بهر العقول : قهرها فردها ، وجلاه كجلاه ـ الأول بالتخفيف ، والثانى مضعف الحشو ـ : كشفه
    (5) الذرة : واحدة الذر ، وهو صغار النمل ، والهمجة ـ محركة ـ واحدة الهمج وهو ذباب صغير يسقط على وجوه الغنم. وقوائمها : أرجلها ، وأدمجها : أودعها فيها

    أن لا يضطرب شبح ممّا أولج فيه الرّوح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته (1)
    منها فى صفة الجنة :
    فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لغرفت نفسك (2) من بدائع ما أخرج إلى الدّنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر فى اصطفاق أشجار (3) غيّبت عروقها فى كثبان المسك على سواحل أنهارها ، وفى تعليق كبائس اللّؤلؤ الرّطب فى عساليجها وأفنانها (4) وطلوع تلك الثّمار مختلفة فى غلف أكمامها (5) تحنى من غير تكلف (6) فتأتى على منية
    __________________
    (1) وأى : وعد ، والحمام : الموت
    (2) «رميت ببصر قلبك» أى : أفكرت وتأملت تأمل مستبصر ، وتقول : غرفت الأبل ـ كفرح ـ إذا اشتكت بطونها من أكل الغرف ـ كفلس وجمل ـ وهو الثمام ، أى لكرهت بدائع الدنيا كما تكره الابل الثمام ، أو لتألمت نفسك من النظر والتناول لما تراه من بدائع الدنيا كما تألم بطون الابل من أكل الثمام ، ويروى «عزفت نفسك» بعين مهملة فزاى ـ ومعناه انصرفت أو ملت ، وبابه جلس
    (3) اصطفاق الأشجار : تضارب أوراقها بالنسيم بحيث يسمع لها صوت ، والكثبان : جمع كثيب ، وهو التل
    (4) العساليج : جمع عسلاج وعسلوج ـ بزنة قرطاس وعصفور ـ وهو ما اخضر ولان من قضبان الشجر ، أو أول ما ينبت. والأفنان : جمع فنن ـ بالتحريك ـ وهو الغصن.
    (5) غلف ـ بضمتين ـ جمع غلاف ـ بزنة كتاب ـ وهو الغشاء يغشى به الشىء كغلاف القارورة والسيف ، والأكمام جمع كم ـ بكسر الكاف ـ وهو وعاء الطلع وغطاء النور
    (6) تحنى : من «حناه حنوا» إذا عطفه

    مجتنيها ، ويطاف على نزّالها فى أفنية قصورها بالأعسال المصفّقة (1) والخمور المروّقة ، قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلّوا دار القرار (2) وأمنوا نقلة الأسفار. فلو شغلت قلبك أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة (3) لزهقت نفسك شوقا إليها ، ولتحمّلت من مجلسى هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها ، جعلنا اللّه وإيّاكم ممّن سعى [بقلبه] إلى منازل الأبرار برحمته.
    قال الشريف : تفسير بعض ما جاء فيها من الغريب «يؤر بملاقحة» الأر : كناية عن النكاح ، يقال : أر المرأة يؤرها ، أى :
    نكحها ، وقوله «كأنه قلع دارى عنجه نوتيه» : القلع : شراع السفينة ، «ودارى» منسوب إلى دارين ، وهى بلدة على البحر يجلب منها الطيب. و «عنجه» أى : عطفه ، يقال : عنجت الناقة ـ كنصرت ـ أعنجها عنجا ، إذا عطفتها والنوتى : الملاح ، وقوله «ضفتى جفونه» أراد جانبى جفونه ، والضفتان : الجانبان ، وقوله «وفلذ الزبرجد» الفلذ : جمع فلذة ، وهى القطعة.
    وقوله «كبائس اللؤلؤ الرطب» الكباسة. العذق (4). والعساليج : الغصون واحدها عسلوج
    __________________
    (1) المصفاة ، ويقولون «صفق فلان الشراب» أى : حوله من إناء إلى آخر ليصفو ويذهب ما فيه من كدر. ومن كلامهم «لك عندى ود مصفق ، ونصح مروق»
    (2) قوله «قوم ـ الخ» أى : نزال الجنة قوم شأنهم ما ذكره
    (3) المونقة : المعجبة
    (4) العذق ـ بزنة حمل ـ للنخلة كالعنقود للعنب : مجموع الشماريخ وما قامت عليه من العرجون

    161 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ليتأسّ صغيركم بكبيركم (1) وليرأف كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا كجفاة الجاهليّة : لا فى الدّين يتفقّهون ، ولا عن اللّه يعقلون ، كقيض بيض فى أداح (2) : يكون كسرها وزرا ، ويخرج حضانها شرّا!!
    منها : افترقوا بعد ألفتهم ، وتشتّتوا عن أصلهم : فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه ، على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبنى أميّة كما تجتمع قزع الخريف (3) يؤلّف اللّه بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب ، ثمّ يفتح اللّه
    __________________
    (1) «ليتأس» أى : ليقتد
    (2) القيض : القشرة العليا اليابسة على البيضة ، والأداحى : جمع أدحى ـ كلجى ـ وهو مبيض النعام فى الرمل تدحوه برجلها لتبيض فيه ، فاذا مر مار بالأداحى فرأى فيها بيضا أرقط طن أنه بيض القطا لكثرته ، وإلفه للافاحيص مطلقا يبيض فيها ، فلا يسوغ للمار أن يكسر البيض ، وربما كان فى الحقيقة بيض ثعبان ، فينتج حضان الطبر له شرا ، وكذلك الانسان الجاهل الجافى : صورته الانسانية تمنع من إتلافه ولا ينتج الابقاء عليه إلا شرا ، فانه بجهله يكون أشد ضررا على الناس من الثعبان بسمه
    (3) القزع ـ محركا ـ : القطع المتفرقة من السحاب ، واحدته قزعة ـ بالتحريك ـ والركام : السحاب المتراكم ، والمستثار : موضع انبعاثهم ثائرين ، وسيل الجنتين : وهو الذى سماه اللّه سيل العرم الذى عاقب اللّه به سبأ على ما بطروا نعمته فدمر جناتهم وحول نعيمهم شقاء ، والقارة كالقرارة : ما اطمأن من الأرض ، والأكمة ـ محركة ـ غليظ من الأرض يرتفع عما حواليه ، والسنن : يريد به الجرى ، والطود : الجبل العظيم ، والمقصود الجمع ، والرص : يريد به الارتصاص ،

    لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين حيث لم تسلم عليه قارّة ، ولم تثبت عليه أكمة ، ولم يردّ سننه رصّ طود ، ولا حداب أرض ، يذعذعهم اللّه فى بطون أوديته (1) ثمّ يسلكهم ينابيع فى الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم ، ويمكّن لقوم فى ديار قوم ، وايم اللّه ليذوبنّ ما فى أيديهم بعد العلوّ والتّمكين (2) كما تذوب الألية على النّار.
    أيّها النّاس ، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوى عليكم ، لكنّكم تهتم متاه بنى إسرائيل!! ولعمرى ليضعّفنّ لكم التّيه من بعدى أضعافا (3) بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم ، وقطعتم الأدنى ، ووصلتم الأبعد!! واعلموا أنّكم إن اتّبعتم الدّاعى لكم سلك بكم منهاج الرّسول ، وكفيتم مؤونة الاعتساف ونبذتم
    __________________
    أى : الانضمام والتلاصق أى : لم يمنع جريه تلاصق الجبال ، والحداب : جمع حدب ـ بالتحريك ـ وهو : ما غلظ من الأرض فى ارتفاع
    (1) يذعذعهم : يفرقهم ، وبطون الأودية : كناية عن مسالك الاختفاء ، «ثم يسلكهم ينابيع فى الأرض» أى : إنهم يسرون دعوتهم وينفثونها فى الصدر حتى تثور ثائرتها فى القلوب كما تفور الينابيع من عيونها ، وقد كان ذلك فى قيام الهاشميين على الأمويين فى زمن مروان الحمار
    (2) الضمير فى «أيديهم» لبنى أمية. والألية : الشحمة.
    (3) «ليضعفن لكم التيه». لتزداد لكم الحيرة أضعاف ما هى لكم الآن

    الثّقل النادح عن الأعناق (1).
    162 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى أول خلافته
    إنّ اللّه تعالى أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير والشّرّ ، فخذوا نهج الخير تهتدوا ، واصدفوا عن سمت الشّرّ تقصدوا (2) ، الفرائض الفرائض! أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول ، وأحلّ حلالا غير مدخول (3) وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشدّ بالإخلاص والتّوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها (4) فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلاّ بالحقّ. ولا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب ، بادروا أمر العامّة وخاصّة أحدكم وهو الموت (5) فإنّ النّاس أمامكم ، وإنّ السّاعة تحدوكم من خلفكم. تخفّفوا
    __________________
    (1) الفادح : من «فدحه الدين» إذا أثقله
    (2) صدف : أعرض ، والسمت : الجهة ، وتقصدوا : تستقيموا
    (3) معيب
    (4) أى : جعل الحقوق مرتبطة بالاخلاص والتوحيد لا تنفك عنه ، ومعاقد الحقوق : مواضعها من الذمم.
    (5) بادره : عاجله ، أى : عاجلوا أمر العامة بالاصلاح لئلا يغلبكم الفساد فتهلكوا ، فاذا انقضى عملكم فى شؤون العامة فبادروا الموت بالعمل الصالح كيلا يأخذكم على غفلة فلا تكونوا منه على أهبة ، وفى تقديم الامام أمر العامة على أمر الخاصة دليل على أن الأول أهم ، ولا يتم الثانى إلا به. وهذا ما تضافرت عليه الأدلة الشرعية وإن غفل عنه الناس فى أزماننا هذه «7 ـ ن ـ ج ـ 2»

    تلحقوا!! فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم. اتّقوا اللّه فى عباده وبلاده فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع والبهائم ، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشّرّ فأعرضوا عنه.
    163 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    بعد ما بويع بالخلافة ، وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوما
    ممن أجلب على عثمان؟ فقال عليه السلام :
    يا إخوتاه ، إنّى لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف لى بقوّة والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم؟ (1) وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم ، (2) والتفّت إليهم أعرابكم ، (3) وهم خلالكم (4) يسومونكم ما شاءوا ، وهل ترون موضعا لقدرة على شىء تريدونه؟ وإنّ هذا الأمر أمر جاهليّة ، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة (5) ، إنّ النّاس من هذا الأمر ـ إذا حرّك ـ
    __________________
    (1) الألف فى «يا إخوتاه» بدل من ياء المتكلم ، والهاء للسكت. و «المجلبون» من «أجلب عليه» أى : أعان عليه. وتقول «أجلبه» أى : أعانه. وقوله «على حد شوكتهم» معناه أن سورتهم لم تنكسر
    (2) «عبدان» ـ بكسر العين أو ضمها ، والباء ساكنة ـ جمع عبد ، كالعبيد والأعبد والعبدى والعبداء والعبدان ـ الدال مشددة فى الثلاثة الأخيرة ـ
    (3) «التفت إليهم» أى : انضمت ، واختلطت بهم ، وناصرتهم
    (4) «خلالكم» فيما بينكم
    (5) «مادة» أى : عونا ومددا

    على أمور : فرقة ترى ما ترون ، وفرقة ترى ما لا ترون ، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبروا حتّى يهدأ النّاس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتوخذ الحقوق مسمحة (1) ، فاهدأوا عنّى ، وانظروا ما ذا يأتيكم به أمرى ، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة وتسقط منه وتورث وهنا وذلّة (2) وسأمسك الأمر ما استمسك ، وإذا لم أجد بدّا فآخر الدّواء الكىّ (3)
    164 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
    إنّ اللّه بعث رسولا هاديا بكتاب ناطق وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلاّ هالك (4) ، وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ المهلكات (5) ، إلاّ ما حفظ اللّه منها ، وإنّ فى سلطان اللّه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها (6). واللّه لتفعلنّ أو لينقلنّ [اللّه] عنكم سلطان الإسلام ، ثمّ لا ينقله
    __________________
    (1) مسمحة : اسم فاعل من «أسمح» إذا جاد وكرم ، كأنها ـ لتيسرها عند القدرة ـ تجود عليه بنفسها فيأخذها
    (2) ضعضعه : هدمه حتى الأرض ، والمنة ـ بالضم ـ : القدرة ، والوهن : الضعف
    (3) الكى : كناية عن القتل
    (4) إلا من كان فى طبعه عوج جبلى ، فحتم عليه الشقاء الأبدى
    (5) البدع الملبسة ثوب الدين المشبهة به هى المهلكة إلا أن يحفظ اللّه منها بالتوبة ويروى «المبدعات المشبهات» بفتح دال «المبدعات» وكسر باء «المشبهات»
    (6) ملومة : من «لومه» مبالغة فى «لامه» أى : غير ملوم عليها بالنفاق

    إليكم أبدا حتّى يأرز الأمر إلى غيركم (1) إنّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة إمارتى (2) ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرّأى (3) انقطع نظام المسلمين ، وإنّما طلبوا هذه الدّنيا حسدا لمن أفاءها اللّه عليه ، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها ، ولكم علينا العمل بكتاب اللّه تعالى وسيرة رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والقيام بحقّه ، والنّعش لسنّته (4).
    165 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كلم به بعض العرب ، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم ، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق ، ثم قال له : بايع! فقال : إنى رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم ، فقال عليه السلام : أرأيت لو أنّ الّذين وراءك بعثوك رائدا تبتغى لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ، ما كنت
    __________________
    (1) يأرز : يرجع
    (2) تمالأوا : اتفقوا ، وتعاونوا. والسخطة ـ بالفتح ـ الكراهة ، وعدم الرضا والمراد من هؤلاء من انقض عليه من طلحة والزبير رضى اللّه عنهما والمنضمين إليهما
    (3) فيالة الرأى ـ بالفتح ـ : ضعفه ، و «أفاءها عليه» : رجعها إليه
    (4) النعش : مصدر «نعشه» إذا رفعه

    صانعا؟ قال : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء ، (1). فقال عليه السلام :
    فامدد إذا يدك! فقال الرجل : فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على ، فبايعته عليه السلام (والرجل يعرف بكليب الجرمى)
    166 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    لما عزم على لقاء القوم بصفين
    اللّهمّ ربّ السّقف المرفوع ، والجوّ المكفوف (2) ، الّذى جعلته مغيضا للّيل والنّهار ، ومجرى للشّمس والقمر ، ومختلفا للنّجوم السّيّارة ، وجعلت سكّانه سبطا من ملائكتك ، لا يسأمون من عبادتك ، وربّ هذه الأرض
    __________________
    (1) مساقط الغيث : جمع مسقط ، وهو المكان الذى يسقط فيه. والكلأ : النبت إذا طال وأمكن أن يرعى ، وأول ما يظهر يسمى الرطب ، فاذا طال قليلا فهو الخلا ، ثمّ إذا يبس فهو حشيش. والمعاطش : جمع معطش ، وهو مكان العطش. والمجادب : جمع مجدب ، وهو مكان الجدب ، وهو القحط والمحل
    (2) الجو : ما بين الأرض والأجرام العالية ، وفيه من مصنوعات اللّه ما لا يحصى ولا يعد جنسه ، وهو بحر تسبح فيه الكائنات الجوية ، ولكنها مكفوفة عن الأرض لا تسقط عليها ، حتى يريد اللّه إحداث أمر فيها ، و «جعلته مغيضا» : من «غاض الماء» إذا نقص ، كأن هذا الجو منبع الضياء والظلام ، وهو مغيضها كما يغيض الماء فى البئر ، والكلام الآتى صريح فى أن الكواكب السيارة كالشمس والقمر تختلف ، أى : يخلف بعضها بعضا فى الجو ، فهو مجال سيرها وميدان حركاتها. والسبط ـ بالكسر ـ : الأمة ، و «لا يسأمون» أى : لا يملون. و «قرارا للأنام» أى : موضع استقرارهم وسكونهم ، و «مدرجا للهوام» أى : موضعا لدروجهم وسيرهم وحركاتهم. والهوام : جمع هامة ، وهى ما يخاف من الأحناش والحشرات

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:47 pm

    الّتى جعلتها قرارا للأنام ، ومدرجا للهوامّ والأنعام ، وما لا يحصى ممّا يرى وممّا لا يرى ، وربّ الجبال الرّواسى الّتى جعلتها للأرض أوتادا وللخلق اعتمادا (1) ـ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغى ، وسدّدنا للحقّ ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة واعصمنا من الفتنة.
    أين المانع للذّمار (2) والغائر عند نزول الحقائق من أهل الحفاظ؟! العار وراءكم ، والجنّة أمامكم.
    167 ـ ومن خطبة له عليه السّلام (3)
    الحمد للّه الّذى لا توارى عنه سماء سماء (4) ولا أرض أرضا
    منها : وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبى طالب لحريص!
    __________________
    (1) «اعتمادا» أى : معتمدا ، أى : ملجأ يعتصمون بها إذا طردتهم الغارات من السهول ، وكما هى كذلك للانسان هى أيضا للحيوانات تعتصم بها
    (2) الذمار ـ ككتاب ـ : ما يلزم الرجل حفظه من أهله وعشيرته ، والغائر : من «غار على امرأته أو قرينته» أن يمسها أجنبى ، والحقائق : وصف لا اسم ، يريد النوازل الثابتة التى لا تدفع ، بل لا تقلع إلا بعازمات الهمم ، و «من أهل الحفاظ» : بيان للمانع والغائر ، والحفاظ. الوفاء ورعاية الذمم
    (3) قيل : قال على عليه السلام هذا الكلام يوم السقيفة بعد موت النبى صلى اللّه عليه وسلم ، والذى قال له «إنك على هذا الأمر لحريص» هو أبو عبيدة بن الجراح ، وقيل : بل قال هذا الكلام بعد مقتل عمر عند الشورى ، والقائل له «إنك ـ الخ» صعد بن أبى وقاص
    (4) لا توارى : لا تحجب

    فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب! وإنّما طلبت حقّا لى وأنتم تحولون بينى وبينه ، وتضربون وجهى دونه (1) فلمّا قرعته بالحجّة فى الملأ الحاضرين هبّ كأنّه [بهت] لا يدرى ما يجيبنى به! اللّهمّ إنّى أستعينك على قريش ومن أعانهم (2) فإنّهم قطعوا رحمى ، وصغّروا عظيم منزلتى ، وأجمعوا على منازعتى أمرا هولى ، ثمّ قالوا : ألا إنّ [فى] الحقّ أن تأخذه وفى الحقّ أن تتركه (3)
    منها فى ذكر أصحاب الجمل :
    فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه (4) ، صلى اللّه عليه وآله ، كما تجرّ الأمة عند شرائها ، متوجّهين بها إلى البصرة : فحبسا نساءهما فى بيوتهما وأبرزا حبيس
    __________________
    (1) ضرب الوجه : كناية عن الرد والمنع ، و «وقرعته بالحجة» : من «قرعه بالعصا» ضربه بها ، وهب : من هبب التيس ـ أى : صياحه ـ أى : كان يتكلم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب كأنه مخبول لا يدرى ما يقول
    (2) أستعينك : استنصرك وأطلب منك المعونة ، ويروى فى مكانه «أستعديك» أى : أطلب منك أن تعدينى عليهم وأن تنتصف لى منهم
    (3) «ثم قالوا ـ الخ» أى : إنهم اعترفوا بفضله ، وأنه أجدرهم بالقيام به ففى الحق أن يأخذه ، ثم لما اختار المقدم فى الشورى غيره عقدوا له الأمر ، وقالوا للامام : فى الحق أن تتركه ، فتناقض حكمهم بالحقية فى القضيتين ، ولا يكون الحق فى الأخذ إلا لمن توافرت فيه شروطه
    (4) «حرمة رسول اللّه» كناية عن زوجته ، وأراد بها عائشة أم المؤمنين رضى اللّه عنها ، ولا تزال هذه الكناية مستعملة إلى اليوم ، وكذلك قوله «حبيس رسول اللّه» كناية عنها

    رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، لهما ولغيرهما (1) فى جيش ما منهم رجل إلاّ وقد أعطانى الطّاعة ، وسمح لى بالبيعة ، طائعا غير مكره ، فقدموا على عاملى بها وخزّان بيت مال المسلمين (2) وغيرهم من أهلها : فقتلوا طائفة صبرا (3) وطائفة غدرا! فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله (4) ، بلا جرم جرّه ، لحلّ لى قتل ذلك الجيش كلّه ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد. دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة الّتى دخلوا بها عليهم (5)
    168 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته أيّها النّاس ، إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فيه ،
    __________________
    (1) حبيس : فعيل بمعنى مفعول ، يستوى فيه المذكر والمؤنث ، وأم المؤمنين كانت محبوسة لرسول اللّه لا يجوز لأحد أن يمسها بعده كأنها فى حياته
    (2) خزان : جمع خازن
    (3) القتل صبرا : أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت
    (4) معتمدين : قاصدين
    (5) قوله ع «ما أنهم» أى : يحل لى قتلهم بقتل مسلم واحد عمدا. فدع من أعمالهم ما زاد على ذلك ، وهو أنهم قتلوا من المسلمين عدد جيشهم ، فذلك مما يستحقون عليه عقابا فوق حل دمائهم ، و «ما» فى قوله «ما أنهم» مثل «لو» فى قولهم «يعجبنى لو أن فلانا يتكلم» أو مثلها فى قوله تعالى : «إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فهى زائدة ، أو مساعدة على سبك الجملة بالمصدر

    فإن شغب شاغب استعتب (1) فإن أبى قوتل. ولعمرى لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس فما إلى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشّاهد أن يرجع ، ولا للغائب أن يختار.
    ألا وإنّى أقاتل رجلين : رجلا ادّعى ما ليس له ، وآخر منع الّذى عليه.
    أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه ، فإنّها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الأمور عند اللّه ، وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة (2) ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصّبر (3) والعلم بمواقع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا فى أمر حتّى تتبيّنوا ، فانّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيرا (4)
    __________________
    (1) الشغب : تهييج الفساد. واستعتب : طلب منه الرضا بالحق
    (2) أهل القبلة : من يعتقد باللّه ، وصدق ما جاء به محمد ، صلى اللّه عليه وسلم ، ويصلى معنا إلى قبلة واحدة
    (3) أى : لا يحمل علم الحرب ورايتها لقتال أهل القبلة إلا أهل العقل والمعرفة بالشرع ، وهم الامام ومن معه ، أى : ليس حملنا لهذا العلم عن جهل أو غفلة عن أحكام اللّه
    (4) أى : إذا اتفق أهل الحل والعقد من المسلمين على إنكار شىء عدلنا إلى حكمهم ، وغيرنا حكمنا ، متى كان اتفاقهم لا يخالف نصا شرعيا ، فالغير ـ بكسر ففتح ـ : اسم للتغيير أو التغير

    ألا وإنّ هذه الدّنيا الّتى أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الّذى خلقتم له ولا الّذى دعيتم إليه ، ألا وإنّها ليست بباقية لكم ، ولا تبقون عليها ، وهى وإن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها ، وإطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدّار الّتى دعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ولا يخنّنّ أحدكم خنين الأمة على ما زوى عنه منها (1) ، واستتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر على طاعة اللّه ، والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا وإنّه لا يضرّكم تضييع شىء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا وإنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شىء حافظتم عليه من امر دنياكم ، أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ وألهمنا وإيّاكم الصّبر.
    __________________
    (1) الخنين ـ بالخاء المعجمة ـ : ضرب من البكاء يتردد به الصوت فى الأنف ، وأضافه إلى الأمة لأن الاماء كثيرا ما يضربن فيبكين ويسمع منهن الخنين ، ولأن الحرة تأنف من البكاء والخنين. و «زوى» أى : قبض

    169 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى طلحة بن عبيد اللّه (1)
    قد كنت وما أهدّد بالحرب ، ولا أرهب بالضّرب ، وأنا على ما قد وعدنى ربّى من النّصر ، واللّه ما استعجل متجرّدا للطّلب بدم عثمان (2) إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه لأنّه مظنّته ، ولم يكن فى القوم أحرص عليه منه (3) فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلبس الأمر (4) ويقع الشّكّ! وو اللّه ما صنع فى أمر عثمان واحدة من ثلاث : لئن كان ابن عفّان ظالما ، كما كان يزعم ، لقد كان ينبغى له أن يؤازر قاتليه (5) أو أن ينابذ ناصريه ، ولئن كان مظلوما لقد كان ينبغى له أن يكون من المنهنهين عنه (6) والمعذرين فيه (7) ولئن كان فى
    __________________
    (1) فى جميع النسخ المطبوعة من الكتاب «طلحة بن عبد اللّه» وفى النسخة التى شرح عليها بن أبى الحديد «طلحة بن عبيد اللّه» وهذا هو الموافق لما فى كتب الصحابة فى ترجمة طلحة رضى اللّه عنه ، فانه طلحة بن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن تيم بن مرة : أحد العشرة ، وأحد رجال الشورى الستة ، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الاسلام ، مات يوم الجمل
    (2) متجردا : كأنه سيف تجرد من غمده
    (3) «أحرص عليه» أى : دم عثمان ، بمعنى سفكه
    (4) يلبس : رباعى من قولهم «أمر ملبس» أى : مشتبه
    (5) يؤازر : ينصر ويعين ، والمنابذة : المراماة ، والمراد المعارضة والمدافعة
    (6) نهنه عن الأمر : كفه وزجره عن إتيانه
    (7) المعذرين فيه : المعتذرين عنه فيما نقم منه

    شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغى له أن يعتزله ويركد جانبا (1) ويدع النّاس معه ، فما فعل واحدة من الثّلاث ، وجاء بأمر لم يعرف بابه ، ولم تسلم معاذيره.
    170 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أيّها الغافلون غير المغفول عنهم ، والتّاركون المأخوذ منهم (2) ما لى أراكم عن اللّه ذاهبين ، وإلى غيره راغبين؟ كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبىّ ، ومشرب دوىّ (3)!! إنّما هى كالمعلوفة للمدى ، لا تعرف ما ذا يراد بها : إذا أحسن إليها تحسب يومها دهرها (4) وشبعها أمرها ، واللّه لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت (5) ولكن أخاف
    __________________
    (1) ويركد جانبا : يسكن فى جانب عن القاتلين والناصرين
    (2) «التاركون ـ الخ» أى : إن التاركين لما أمروا به المأخوذة منهم أعمارهم تطويها عنهم يد القدرة ساعة بعد ساعة ، فالمأخوذ منهم صفة للتاركين.
    (3) النعم ـ محركة ـ الابل ، أو هى والغنم ، و «أراح بها» : ذهب بها ، وأصل الاراحة : الانطلاق فى الريح فاستعمله فى مطلق الانطلاق ، والسائق : الراعى ، والوبى : الردى ، يجلب الوباء ، والدوى : الوبيل ، يفسد الصحة أصله من الدوا ـ بالقصر ـ أى : المرض. والمدى : جمع مدية ، وهى السكين ، أى : معلوفة للذبح
    (4) «تحسب يومها دهرها» أى : لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئا لما بعد يومها ، ومتى شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع. هذا كلام كأنه ثوب فصل على أقدار أهل هذا الزمان
    (5) «بمخرجه ـ الخ» أى : من أين يخرج ، وأين يلج : أى يدخل :

    أن تكفروا فىّ برسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّى مفضيه إلى الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه (1). والّذى بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلاّ صادقا ، وقد عهد إلىّ بذلك كلّه ، وبمهلك من يهلك ، ومنجى من ينجو ، ومآل هذا الأمر ، وما أبقى شيئا يمرّ على رأسى إلاّ أفرغه فى أدنىّ وأفضى به إلىّ.
    أيّها النّاس ، إنّى واللّه ما أحثّكم على طاعة إلاّ أسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلاّ أتناهى قبلكم عنها.
    171 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    انتفعوا ببيان اللّه ، واتّعظوا بمواعظ اللّه ، واقبلوا نصيحة اللّه. فإنّ اللّه قد أعذر إليكم بالجليّة (2) ، وأخذ عليكم الحجّة ، وبيّن لكم محابّه من الأعمال
    __________________
    (1) مفضية : أصله من «أفضى إليه» إذا خلا به ، أو «إلى الأرض» إذا مسها ، والمراد أنى موصله إلى أهل اليقين ممن لا تخشى عليهم الفتنة
    (2) «أعذر إليكم بالجلية» أى : بالأعذار الجلية ، والعذر هنا مجاز عن سبب العقاب فى المؤاخذة عند مخالفة الأوامر الالهية ، فان اللّه تعالى قد مكنهم من العلم اليقينى ، وأوجب عليهم ذلك فى عقولهم ، وشرحه لهم على لسان نبيه ، وبينه فى كتابه ، فاذا تركوا ما أمروا باتيانه ، أو أتوا ما أمروا بتركه ، ساغ له فى الحكمة تعذيبهم وعقوبتهم ، فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قال قائل منهم : لم تعذبنا؟. ومحابه من الأعمال : هى الطاعات التى أمر الشارع باتيانها ، وحبه لها : رضاه عن فاعلها. ومكارهه منها : المعاصى التى نهى الشارع عن إتيانها ، وكراهيته له : غضبه على فاعلها

    ومكارهه منها ، لتتّبعوا هذه وتجتنبوا هذه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، كان يقول : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشّهوات». واعلموا أنّه ما من طاعة اللّه شىء إلاّ يأتى فى كره (1) ، وما من معصية اللّه شىء إلاّ يأتى فى شهوة. فرحم اللّه رجلا نزع عن شهوته (2) وقمع هوى نفسه ، فإنّ هذه النّفس أبعد شىء منزعا ، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية فى هوى. واعلموا عباد اللّه أن المؤمن لا يمسى ولا يصبح إلاّ ونفسه ظنون عنده (3) فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها. فكونوا كالسّابقين قبلكم والماضين أمامكم ، قوّضوا من الدّنيا تقويض الرّاحل (4) ، وطووها طىّ المنازل. واعلموا
    __________________
    (1) أى : لا شىء من طاعة اللّه إلا وفيه مخالفة لهوى النفس البهيمية فتكره إتيانه ولا شىء من معصية اللّه إلا وهو موافق لميل حيوانى فتشتهى النفوس إتيانه
    (2) نزع عنه : انتهى وأقلع ، فان عدى بألى كان بمعنى : اشتاق ، و «أبعد منزعا» أى : نزوعا ، بمعنى الانتهاء والكف عن المعاصى
    (3) ظنون ـ كصبور ـ : هو الضعيف والقليل الحيلة ، فيريد أن المؤمن يظن فى نفسه النقص والتقصير فى الطاعة ، أو هو من البئر الظنون التى لا يدرى أفيها ماء أم لا ، فتكون هنا بمعنى متهمة ، فهو لا يثق بنفسه إذا وسوست له بأنها أدت حق ما فرض عليها ، فالمؤمن هو الذى لا يصبح ولا يمسى إلا على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير والتضجيع فى الطاعة ، غير قاطع بصلاحها وسلامة عاقبتها ، وقوله «زاريا عليها» أى : عائبا ، تقول : زريت عليه أزرى زراية ، مثل حكيت أحكى حكاية ، إذا عبته ، وكذلك تزرى عليه ، وقال أبو عمرو : الزارى على الانسان : الذى لا يعده شيئا وينكر عليه فعله. وقوله «ومستزيدا» أى : طالبا لها الزيادة من طيبات الأعمال
    (4) التقويض : نزع أعمدة الخيمة وأطنابها ، والمراد أنهم ذهبوا بمساكنهم وطووا مدة الحياة كما يطوى المسافر منازل سفره ، أى : مراحله ومسافاته

    أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذى لا يغشّ ، والهادى الّذى لا يضلّ ، والمحدّث الّذى لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة فى هدى ، ونقصان من عمى. واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة (1) ولا لأحد قبل القرآن من غنى ، فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم (2) فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء ، وهو الكفر والنّفاق والغىّ والضّلال. فاسألوا اللّه به (3) وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه. إنّه ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله ، واعلموا أنّه شافع ومشفّع ، وقائل ومصدّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه (4) ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه ، فإنّه ينادى مناد يوم القيامة : «ألا إنّ كلّ حارث مبتلى فى حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن» فكونوا من حرثته وأتباعه ،
    __________________
    (1) أى : فقر وحاجة إلى هاد سواه يرشد إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، وسائق إلى شرف المنازل وغايات المجد والرفعة
    (2) اللأواه : الشدة
    (3) فاطلبوا من اللّه ما تحبون من سعادة الدنيا والآخرة باتباعه ، وأقبلوا على اللّه بالرغبة فى اقتفاء هديه ، وهو المراد من حبه ، ولا تجعلوه آلة لنيل الرغبات من الخلق ، لأنه ما تقرب العباد إلى اللّه بمثل احترامه والأخذ به كما أنزل اللّه.
    (4) شفاعة القرآن : نطق آياته بانطباقها على عمل العامل ، ومحل به ـ مثلث الحاء ـ كاده بتبيين سيئاته عند السلطان ، كناية عن مباينة أحكامه لما أتاه العبد من أعماله.

    واستدلّوه على ربّكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتّهموا عليه آراءكم (1) ، واستغشّوا فيه أهواءكم ، العمل العمل ، ثمّ النّهاية النّهاية والاستقامة الاستقامة ثمّ الصّبر الصّبر (2) ، والورع الورع ، إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، وإنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم (3) ، وإنّ للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته ، واخرجوا إلى اللّه بما افترض عليكم من حقّه (4) وبيّن لكم من وظائفه. أنا شهيد لكم وحجيج يوم القيامة عنكم (5).
    __________________
    (1) الحارث : المكتسب ، والحرث : الكسب. وحرثة القرآن : المتاجرون به وقوله «استنصحوه على أنفسكم» أى : إذا أشار عليكم بأمر وأشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم ، وقوله «واتهموا عليه آراءكم» مثله ، أى : إذا خالفت آراؤكم القرآن فاتهموها بالخطأ واستغشوا أهواءكم ، أى : ظنوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن
    (2) النصب فى هذه الأسماء على الأغراء ، وحقيقته الحث على أمر محمود ليفعله ، وحكمه تقدير فعل ـ أى : الزموا العمل ـ وإنما يكرر الاسم لينوب أحدهما عن ذكر الفعل ، ومن أجل أن أحد الاسمين بدل من التلفظ بالفعل لم يجز ذكر الفعل إذا تكرر
    (3) العلم ـ محركا ـ : يريد به القرآن
    (4) «خرج إلى فلان من حقه» أداه ، فكأنه كان حبيسا فى مؤاخذته فانطلق ، إلا أن «من حقه» فى العبارة بيان لما اقترض ، ومعمول «اخرجوا» مقدر مثله. والوظائف : ما قدر اللّه لنا من الأعمال المخصصة بالأوقات والأحوال كالصوم والصلاة والزكاة.
    (5) حجيج : من «حج» إذا أقنع بحجته ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والامام ـ كرم اللّه وجهه ـ بعلو منزلته من اللّه يشهد للمحسنين ويقوم بالحجة عن المخلصين

    ألا وإنّ القدر السّابق قد وقع ، والقضاء الماضى قد تورّدّ (1) وإنّى متكلّم بعدة اللّه وحجّته ، قال اللّه تعالى : «إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَلاٰ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» وقد قلتم ربّنا اللّه ، فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره ، وعلى الطّريقة الصّالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، ولا تبتدعوا فيها ، ولا تخالفوا عنها ، فإنّ أهل المروق منقطع بهم عند اللّه يوم القيامة ، ثمّ إيّاكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها (2) واجعلوا اللّسان واحدا ، وليخزن الرّجل لسانه (3) فإنّ هذا اللّسان جموح بصاحبه ، واللّه ما أرى عبدا يتّقى تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه ، وإنّ لسان المؤمن من وراء قلبه (4) ، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه ، لأنّ
    __________________
    (1) تورد : هو تفعل كتنزل ، أى : ورد شيئا بعد شىء. والمراد من القضاء الماضى ما قدر حدوثه من حادثة الخليفة الثالث وما تبعها من الحوادث ، وعدة اللّه ـ بكسر ففتح مخفف ـ : هى وعده ، أى : لا تخرجوا منها.
    (2) تهزيع الشىء : تكسيره ، والصادق إذا كذب فقد انكسر صدقه ، والكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه. فهو نهى عن حطم الكمال بمعول النقص. و «تصريف الأخلاق» : من «صرفته» إذا قلبته ، نهى عن النفاق والتلون فى الأخلاق ، وهو معنى الأمر بجعل اللسان واحدا
    (3) ليخزن ـ كينصر ـ أى : ليحفظ لسانه ، والجموح : من «جمح الفرس» إذا غلب فارسه فيوشك أن يطرح به فى مهلكة فيرديه.
    (4) لسان المؤمن تابع لاعتقاده لا يقول إلا ما يعتقد ، والمنافق يقول ما ينال به غايته الخبيثة ، فاذا قال شيئا أخطره على قلبه حتى لا ينساه فيناقضه مرة أخرى «8 ـ ن ـ ج ـ 2» فيكون قلبه تابعا للسانه

    المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره فى نفسه : فإن كان خيرا أبداه ، وإن كان شرّا واراه ، وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه : لا يدرى ما ذا له ، وما ذا عليه!! ولقد قال رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه» فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه وهو نقىّ الرّاحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللّسان من أعراضهم ، فليفعل.
    واعلموا ، عباد اللّه ، أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل ، ويحرّم العام ما حرّم عاما أوّل (1) ، وإنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم (2) ، [و] لكن الحلال ما أحلّ اللّه ، والحرام ما حرّم اللّه ، فقد جرّبتم الأمور وضرّستموها (3) ووعظتم بمن كان قبلكم ، وضربت لكم الأمثال ،
    __________________
    (1) يريد أن الأحكام الشرعية إذا ثبتت بطريق النص لم يجز أن تنقض بالاجتهاد ، بل كل ما ورد فيه نص يتبع معه مورد النص فيه ، فما كان لك حلالا عاما أول من هذا الطريق فهو لك حلال فى هذا العام ، وكذلك القول فى التحريم ، وهذا معنى قول علماء الأصول «إن النص مقدم على الاجتهاد» و «أول» فى كلامه لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل
    (2) البدع التى أحدثها الناس لا تغير شيئا من حكم اللّه
    (3) ضرسته الحرب : جربته ، أى : جربتموها.

    ودعيتم إلى الأمر الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ (1) ولا يعمى عن ذلك إلاّ أعمى!! ومن لم ينفعه اللّه بالبلاء والتّجارب لم ينتفع بشىء من العظة ، وأتاه التّقصير من أمامه (2) حتّى يعرف ما أنكر وينكر ما عرف ، فإنّ النّاس رجلان : متّبع شرعة ، ومبتدع بدعة ، ليس معه من اللّه برهان سنّة ، ولا ضياء حجّة ، وإنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل اللّه المتين ، وسببه الأمين (3) ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء (4) غيره ، مع أنّه قد ذهب المتذكّرون ، وبقى النّاسون أو المتناسون. فإذا رأيتم خيرا فأعينوا عليه ، وإذا رأيتم شرّا فاذهبوا عنه ، فإنّ رسول اللّه ، صلّى اللّه
    __________________
    (1) «يصم» يجوز فيه ضم حرف المضارعة وفتحه ، وهما بمعنى واحد ، تقول أصمه اللّه فصم يصم ـ مثل ظل يظل وتقول أيضا : أصمه اللّه فأصم يصم ، فذو الهمز يكون لازما ومتعديا ، وغير ذى الهمز يكون لازما ليس غير
    (2) الاتيان من الامام : كناية عن الظهور ، كأن التقصير عدو قوى يأتى مجاهرة لا يخدع ، ولا يفر ، فيأخذه أخذ العزيز المقتدر ، عند ذلك يعرف من الحق ما كان أنكر وينكر من الباطل ما كان عرف
    (3) جعل القرآن حبل اللّه لأن الحبل ينجو من تعلق به من الهوى المردية والقرآن ينجو من تعلق به من الضلال. و «المتين» القوى ، لأنه لا انقطاع له أبدا وتقول : متن الشىء ـ بضم التاء ـ أى : صلب وقوى واشتد
    (4) «ربيع القلب» لأنه يحيا كما تحيا الأنعام برعى الربيع ، والينابيع : جمع ينبوع ـ بوزان يعفور ، بفتح أوله ـ وهو عين الماء ، قال اللّه تعالى : «حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً» والجلاء ـ بكسر الجيم ـ مصدر «جلوت السيف ونحوه» أى : صقله

    عليه وآله وسلم ، كان يقول : «يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشّرّ فإذا أنت جواد قاصد (1)» ألا وإنّ الظّلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور لا يطلب : فأمّا الظّلم الّذى لا يغفر فالشّرك باللّه ، قال اللّه : «إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» وأمّا الظّلم الّذى يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات (2) ، وأمّا الظّلم الّذى لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص هناك شديد! ليس هو جرحا بالمدى (3) ولا ضربا بالسّياط ، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه (4). فإيّاكم والتّلوّن فى دين اللّه ، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل (5) وإنّ اللّه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا : ممّن مضى ولا ممّن بقى.
    يا أيّها النّاس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس ، وطوبى لمن
    __________________
    (1) مستقيم أو قريب من اللّه والسعادة. وأصل الجواد القاصد السهل السير الذى ليس بالسريع فيتعب راكبه ولا البطىء فيفوت غرض صاحبه ببطئه
    (2) بفتح الهاء جمع هنة ـ محركة ـ : وهى الشىء اليسير والعمل الحقير ، والمراد به صغائر الذنوب
    (3) جمع مدية : وهى السكين ، والسياط : جمع سوط
    (4) ولكنه العذاب الذى يعد الجرح والضرب صغيرا بالنسبة إليه
    (5) من يحافظ على نظام الألفة والاجتماع ـ وإن ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة ، وشق عليه ما تكلفه به من الحق ـ فذلك الجدير بالسعادة ، دون من يسعى للشقاق وهدم نظام الجماعة وإن نال بذلك حقا باطلا وشهوة وقتية ، فقد يكون فى حظه الوقتى شقاؤه الأبدى. ومتى كانت الفرقة عم الشقاق ، وأحاطت العداوات واصبح كل واحد عرضة لشرور سواه ، فمحيت الراحة ، وفسدت حال المغيشة

    لزم بيته وأكل قوته ، واشتغل بطاعة ربّه ، وبكى على خطيئته (1) فكان من نفسه فى شغل ، والنّاس منه فى راحة!
    172 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى معنى الحكمين
    فأجمع رأى ملئكم على أن اختاروا رجلين ، فأخذنا عليهما أن يجعجعا عند القرآن (2) ولا يجاوزاه ، وتكون ألسنتهما معه ، وقلوبهما تبعه ، فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما ، والاعوجاج رأيهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما فى الحكم بالعدل والعمل بالحقّ سوء رأيهما (3) ، وجور حكمهما! والثّقة فى أيدينا لأنفسنا (4) حين خالفا سبيل الحقّ ، وأتيا بما
    __________________
    (1) قوله «لمن لزم بيته» : ترغيب فى العزلة عن إثارة الفتن واجتناب الفساد ، وليس ترغيبا فى الكسالة وترك العامة وشأنهم ، فقد حث أمير المؤمنين ـ فى غير هذا الموضع ـ على مقاومة المفاسد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
    (2) الملأ : الجماعة. و «يجعجعا» : من «جعجع البعير» إذا برك ولزم الجعجاع ـ أى : الأرض ـ أى : أن يقيما عند القرآن. والتبع ـ محركا ـ : التابع ، للواحد والجمع. و «تاها» أى : ضلا.
    (3) «سوء» مفعول «سبق» ، أى. إن استثناءنا ، وقت التحكيم ، حيث قلنا : لا تحكموا إلا بالعدل ، كان سابقا على سوء الرأى وجور الحكم ، فهما المخالفان لما شرط عليهما لا نحن. ويصح أن يكون «سوء» مفعول استثناؤنا ، والمعنى أننا استثنينا عليهم فيما سبق أن لا يسيئا رأيا ولا يجورا حكما ، فيقبل حكمهما إلا أن يجورا ويسيئا
    (4) عبر بالثقة عن الحجة القويمة والسبب المتين فى رفض حكمهما

    لا يعرف من معكوس الحكم
    173 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    لا يشغله شأن ، ولا يغيّره زمان ، ولا يحويه مكان (1) ، ولا يصفه لسان لا يعزب عنه عدد قطر الماء (2) ولا نجوم السّماء ، ولا سوافى الرّيح فى الهواء ، ولا دبيب النّمل على الصّفا ، ولا مقيل الذّرّ فى اللّيلة الظّلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفىّ طرف الأحداق (3) وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه غير معدول به (4) ولا مشكوك فيه ، ولا مكفور دينه ، ولا مجحود تكوينه (5) شهادة من صدقت نيّته ، وصفت دخلته (6) ، وخلص يقينه ، وثقلت موازينه
    __________________
    (1) شأن : أمر ، ولا يشغله أمر لأن الحى الذى تشغله الأشياء هو العالم ببعض الأشياء دون بعض القادر على بعضها دون بعض ، فأما من لا يغيب عنه شىء أصلا ، ولا يعجز عن شىء أصلا ، ولا يمنعه من إيجاد مقدوره إذا أراد مانع أصلا ، فكيف يشغله شأن؟ وكذلك «لا يغيره زمان» لأنه واجب الوجود ، و «لا يحويه مكان» لأنه ليس بجسم ، و «لا يصفه لسان» لأن كنه ذاته غير معلوم ، وإنما المعلوم إضافات أو سلوب
    (2) لا يعزب : لا يخفى عليه ، ولا يفوته علمها ، وسوافى الريح : جمع سافية ، من «سفت الريح التراب والورق» أى : حملته وذرته ، والصفا ـ مقصورا ـ : جمع صفاة ، وهى الحجر الأملس الضخم ، و «دبيب النمل» أى : حركته عليه فى غاية الخفاء لا يسمع لها حس ، والذر : صغار النمل ، ومقيلها : محل استراحتها ومبيتها
    (3) طرف الحدقة : تحريك جفنيها ، والحدقة هنا : العين
    (4) «عدل باللّه» : جعل له مثلا وعديلا
    (5) خلقه للخلق جميعا
    (6) دخلته ـ بالكسر باطنه ـ :

    وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله المجتبى من خلائقه (1) ، والمعتام لشرح حقائقه والمختصّ بعقائل كراماته ، والمصطفى لكرائم رسالاته ، والموضّحة به أشراط الهدى (2) والمجلوّ به غربيب العمى.
    أيّها النّاس ، إنّ الدّنيا تغرّ المؤمّل لها ، والمخلد إليها (3) ، ولا تنفس بمن نافس فيها ، وتغلب من غلب عليها. وايم اللّه ما كان قوم قطّ فى غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها (4) ، لأنّ اللّه ليس بظلاّم للعبيد.
    ولو أنّ النّاس ـ حين تنزل بهم النّقم وتزول عنهم النّعم ـ فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم ووله من قلوبهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، وأصلح لهم كلّ فاسد. وإنّى لأخشى عليكم أن تكونوا فى فترة (5) وقد كانت أمور مضت
    __________________
    (1) المجتبى : المصطفى ، والعيمة ـ بكسر العين ـ : المختار من المال ، واعتام : أخذها ، فالمعتام : المختار لبيان حقائق توحيده وتنزيهه ، والعقائل : الكرائم ، والكرامات : ما أكرم اللّه به نبيه من معجزات ومنازل فى النفوس عاليات
    (2) أشراط الهدى : علاماته ودلائله ، وغربيب الشىء ـ كعفريت ـ : أشده سوادا. فغربيب العمى : أشد الضلال ظلمة.
    (3) المخلد : الراكن المائل ، وفى التنزيل : «وَلٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ» ونفس ـ كفرح ـ : ضن ، أى : لا تضن الدنيا بمن يبارى غيره فى اقتنائها وعدها من نفائسه ، ولا تحرص عليه ، بل تهلكه
    (4) الغض : الناضر الطرى. واجترح الذنب : اكتسبه وارتكبه
    (5) كنى بالفترة عن جهالة الغرور ، أو أراد فى فترة من عذاب ينتظر بكم عقابا على انحطاط هممكم وتباطؤكم عن جهاد عدوكم

    ملتم فيها ميلة كنتم فيها عندى غير محمودين ، ولئن ردّ عليكم أمركم إنّكم لسعداء وما علىّ إلاّ الجهد! ولو أشاء أن أقول لقلت ، عفا اللّه عمّا سلف.
    174 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد ساله ذعلب اليمانى (1) فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى؟ فقال : وكيف تراه؟ فقال :
    لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان قريب من الأشياء غير ملامس (2) ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم لا برويّة ، مريد لا بهمّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء (3) ، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرّقّة. تعنو الوجوه
    __________________
    (1) الذعلب ـ بكسرتين بينهما سكون ـ فى الأصل الناقة السريعة ، ومثله الذعلبة ثم نقل إلى العلمية كما نقلوا بكرا من الفتى من الابل ، ونحو ذلك كثير ، و «اليمانى» بياء واحدة مخففة ، ولا تشدد إلا فى ضرورة الشعر ، ومثله الشآمى ، وأصلهما بمنى وشأمى ، نسبة إلى اليمن والشأم ، فحذفوا إحدى الياءين وعوضوا منها ألفا بعد حرفين من الكلمة
    (2) الملامسة والمباينة على معنى البعد المكانى من خواص المواد ، وذات اللّه مبرأة من المادة وخواصها ، فنسبة الأشياء إليها سواء ، وهى فى تعاليها ، فهى مع كل شىء ، وهى أعلى من كل شىء ، فالبعد : بعد المكانة من التنزيه ، والروية : التفكر والهمة : الاهتمام بالأمر بحيث لو لم يفعل لجر نقصا وأوجب هما وحزنا ، والجارحة : العضو البدنى
    (3) إذا وصفت العرب شيئا باللطافة فانما تعنى أنه صغير الحجم واللّه سبحانه لطيف لكن بمعنى غير هذا المعنى ، فهو لطيف بمعنى أنه لا تراه العيون لعدم صحة رؤيتها إياه ، فلما شابه اللطيف من الاجسام فى استحالة رؤيته أطلق عليه

    لعظمته (1) ، وتجب القلوب من مخافته.
    175 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى ذم أصحابه
    أحمد اللّه على ما قضى من أمر ، وقدّر من فعل ، وعلى ابتلائى بكم أيّتها الفرقة الّتى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تجب ، إن أمهلتم خضتم (2) وإن حوربتم خرتم! وإن اجتمع النّاس على إمام طعنتم ، وان أجئتم إلى مشاقّة نكصتم. لا أبا لغيركم (3) ما تنظرون بنصركم ربّكم ، والجهاد على حقّكم :
    الموت أو الذّلّ لكم! فو اللّه لئن جاء يومى ـ ولياتينّى ـ ليفرّقنّ بينى وبينكم
    __________________
    لفظ اللطيف إطلاقا للفظ السبب على المسبب ، وربما أطلق هذا الاسم عليه تعالى بمعنى أنه يفعل مع عباده الألطاف التى تقربهم من الطاعة وتبعدهم من المعصية بمنه وكرمه. والجفاء : الغلظ والخشونة (1) تعنو : تذل ، ووجب القلب يجب وجيبا ووجبانا : خفق واضطراب
    (2) أمهلتم : أخرتم ، ويروى فى مكانه «أهملتم» أى : خليتم وتركتم و «خضتم» أى : تفاوضتم وأخذتم ، أى : فى الكلام الباطل ، و «خرتم» أى : ضعفتم وجبنتم ، ويجوز أن يكون معنى «خرتم» صحتم ، وكان لكم خوار ، وفى التنزيل : «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ» ويروى «جرتم» بالجيم بدل الخاء ، ومعناه عدلتم عن الحرب جبنا. وأجئتم : ألجئتم ، والمشاقة : المراد بها الحرب ، ونكصتم : رجعتم القهقرى.
    (3) المعروف فى التقريع «لا أبا لكم ، ولا أبا لك»! وهو دعاء بفقد الأب او تعيير بجهله ، فتلطف الامام بتوجيه الدعاء أو الذم لغيرهم

    وأنا لكم قال (1) وبكم غير كثير. للّه أنتم!! أما دين يجمعكم ، ولا حميّة تشحذكم (2)؟ أوليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه (3) على غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام (4) ، وبقيّة النّاس إلى المعونة وطائفة من العطاء فتتفرّقون عنّى ، وتختلفون علىّ؟! إنّه لا يخرج إليكم من أمرى رضا فترضونه (5) ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإن أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت. قد دارستكم الكتاب (6) وفاتحتكم الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمى يلحظ (7) أو النّائم يستيقظ!! وأقرب بقوم من الجهل باللّه قائدهم معاوية ومؤدّبهم ابن النّابغة (Cool
    __________________
    (1) قال : أى كاره ، وغير كثير بكم : أى إنى أفارق الدنيا وأنا فى قلة من الأعوان وإن كنتم حولى كثيرين. ويدل عليه قوله فيما بعد : للّه أنتم
    (2) من شحذ السكين كمنع : أى حددها
    (3) الجفاة : جمع جاف أى غليظ ، والطغام بالفتح : أرذال الناس ، والمعونة : ما يعطى للجند لاصلاح السلاح وعلف الدواب زائدا على العطاء المفروض والأرزاق المعينة لكل منهم
    (4) التريكة كسفينة : بيضة النعامة بعد أن يخرج منها الفرخ تتركها فى مجثمها ، والمراد أنتم خلف الاسلام وعوض السلف.
    (5) يريد أنه لا يوافقكم منى شىء لا ما يرضى ولا ما يسخط!!
    (6) أى : قرأت عليكم القرآن تعليما وتفهيما ، وفاتحتكم : مجرده «فتح» بمعنى قضى ، فهو بمعنى فاضيتكم ، أى : حاكمتكم ، والحجاج : المحاجة ، أى : قاضيتكم عند الحجة حتى قضت عليكم بالعجز عن الخصام. وعرفتكم الحق الذى كنتم تجهلونه ، وسوغت لأذواقكم من مشرب الصدق ما كنتم تمجونه وتطرحونه
    (7) «لو» للتمنى ، كأنه يقول : ليت الأعمى الخ
    (Cool «أقرب بهم» أى : ما أقربهم من الجهل ، وابن النابغة :

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:49 pm



    176 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة قد هموا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه السلام ، فلما عاد إليه الرجل قال له : أمنوا فقطنوا أم جبنوا فظعنوا (1)؟؟ فقال الرجل : بل ظعنوا يا أمير المؤمنين. فقال :
    بعدا لهم كما بعدت ثمود ، أما لو أشرعت الأسنّة إليهم (2) ، وصبّت السّيوف على هاماتهم! لقد ندموا على ما كان منهم ، إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم (3) وهو غدا متبرّئ منهم ، ومتخلّ عنهم ، فحسبهم بخروجهم من الهدى (4) ، وارتكاسهم فى الضّلال والعمى ، وصدّهم (5) عن الحقّ ، وجماحهم فى التّيه.
    __________________
    عمرو بن العاص (وانظر ص 145 من الجزء الأول)
    (1) أمنوا : اطمأنوا. وقطنوا : أقاموا ، وبابه نصر ، وظعنوا : رحلوا.
    (2) أشرعت : سددت وصوبت نحوهم ، وقوله «صبت السيوف الخ» استعارة من «صببت الماء» شبه وقع السيوف وسرعة اعتوارها الرءوس بصب الماء ، والهامات : الرءوس
    (3) استفلهم : دعاهم للتفلل : وهو الانهزام عن الجماعة.
    (4) حسبهم : كافيهم من الشر خروجهم الخ والباء زائدة ، وإن جعل «حسب» اسم فعل بمعنى اكتف كانت الباء فى موضعها ، أى : فليكتفوا من الشر والخطيئة بذلك فهو كفيل لهم بكل شقاء ، والارتكاس : الانقلاب والانتكاس
    (5) صدهم : إعراضهم ، والجماح والجموح : أن يغلب الفرس راكبه ، والمراد تناهيهم فى التيه ، أى : الضلال

    170 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    روى عن نوف البكالى (1) قال : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه مدرعة من صوف (2) وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأن جبينه ثفنة بعير (3). فقال عليه السلام :
    الحمد للّه الّذى إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ، ونيّر برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه (4) حمدا يكون لحقّه قضاء ، ولشكره
    __________________
    (1) هو نوف بن فضالة التابعى البكالى ، نسبة إلى بنى بكال ـ ككتاب ـ بطن من حمير ، وضبطه بعضهم بتشديد الكاف كشداد ، وجعدة بن هبيرة : هو ابن أخت أمير المؤمنين ، وأمه أم هانىء بنت أبى طالب ، كان فارسا ، مقداما ، فقيها.
    (2) المدرعة : ثوب يعرف عند بعض العامة بالدراعية : قميص ضيق الأكمام. قال فى القاموس : ولا يكون إلا من صوف ، وتدرع : لبس المدرعة ، وربما قالوا : تمدرع
    (3) الثفنة ـ بكسر بعد فتح ـ : ما يمس الأرض من البعير عند البرك ، ويكون فيه غلظ من ملاطمة الأرض ، وكذلك كان فى جبين أمير المؤمنين من كثرة السجود وكنوا بذى الثفنات عن على بن الحسين ، وعلى بن عبد اللّه بن العباس ، وعبد اللّه ابن وهب الراسبى رئيس الخوارج ، لأن طول السجود كان قد أثر فيهم. وقال دعبل الخزاعى : ـ
    ديار على والحسين وجعفر
    وحمزة والسجاد ذى الثفنات

    (4) مصائر الأمور : جمع مصير ، وهو مصدر «صار إلى كذا» ومعناه المرجع قال اللّه تعالى : «وَإِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ» وإنما جمع المصدر ههنا لأن الخلائق يرجعون إلى ربهم فى أحوال مختلفة ، وعواقب الأمور : جمع عاقبة ، وهى آخر الشىء. والنوامى : جمع نام ، بمعنى زائد

    أداء ، وإلى ثوابه مقرّبا ، ولحسن مزبده موجبا. ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطّول (1) ، مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، وأناب إليه مؤمنا ، وخنع له مذعنا (2) ، وأخلص له موحّدا ، وعظّمه ممجّدا ، ولاذ به راغبا مجتهدا : لم يولد سبحانه فيكون فى العزّ مشاركا (3) ، ولم يلد فيكون مورثا هالكا ، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان (4) ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن ، والقضاء المبرم.
    ومن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد (5) ، قائمات بلا سند ، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطئات (6). ولو لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة وإذعانهنّ له بالطّواعية لما جعلهنّ موضعا لعرشه ولا
    __________________
    (1) الطول ـ بالفتح ـ : الفضل
    (2) أناب إليه : أقبل ، ورجع. وخنع : ذل وخضع ، و «مذعنا» اسم فاعل من «أذعن» أى : انقاد وأطاع
    (3) لأن أباه يكون شريكه فى العز ، بل أعز منه ، لأنه علة وجوده. وسر الولادة حفظ النوع ، فلو صح للّه أن يلد لكان فانيا يبقى نوعه فى أشخاص أولاده ، فيكون مورثا هالكا ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا
    (4) يتعاوره : يتداوله ويتبادل عليه
    (5) موطدات : مثبتات فى مداراتها على ثقل أجرامها.
    (6) التلكؤ : التوقف والتباطؤ

    مسكنا لملائكته ، ولا مصعدا للكلم الطّيّب والعمل الصّالح من خلقه ، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران فى مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم (1) ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع فى السّموات من تلألؤ نور القمر ، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، ولا ليل ساج (2) فى بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا فى يفاع
    __________________
    (1) ادلهمام الظلمة : كثافتها وشدتها ، والسجف ـ بالكسر ، والفتح ـ : الستر ، والجلابيب : جمع جلباب ، وهو توب واسع تلبسه المرأة فوق ثيابها كأنه ملحفة. ووجه الاستعارة فيها ظاهر ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء ـ : وهو الليل المظلم
    (2) الساجى : الساكن ، ووصف الليل بالسكون وصف له بصفة المشمولين به ، فان الحيوانات تسكن بالليل وتطلب أرزاقها بالنهار. والمتطأطئات : المنخ‍.303فضات ، واليفاع : التل ، أو المرتفع مطلقا من الأرض ، والسفع : جمع سفعاء ، وهى السوداء تضرب إلى الحمرة ، والمراد منها الجبال ، عبر عنها بلونها فيما يظهر للنظر على بعد ، وما يجلجل به الرعد : صوته ، والجلجلة : صوت الرعد ، وتلاشت : اضمحلت ، وأصله من «لشا» بمعنى خس بعد رفعة ، وما يضمحل عنه البرق هو الأشياء التى ترى عند لمعانه. والعواصف : الرياح الشديدة ، وإضافتها للأنواء من إضافة الشىء لمصاحبه عادة. والأنواء : جمع نوء ، وهو أحد منازل القمر ، يعدها العرب ثمانية وعشرين يغيب منها عن الأفق فى كل ثلاث عشرة ليلة منزلة ، ويظهر عليه أخرى. والمغيب والظهور عند طلوع الفجر ، وكانوا ينسبون المطر لهذه الأنواء فيقولون : «مطرنا بنوء كذا» لمصادفة : هبوب الرياح وهطول الأمطار فى أوقات ظهور بعضها حتى جاء الاسلام فأبطل الاعتقاد بتأثير الكواكب فى الحوادث الأرضية تأثيرا روحانيا

    السّفع المتجاورات ، وما يتجلجل به الرّعد فى أفق السّماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السّماء (1) ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب الذّرّة ومجرّها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأنثى فى بطنها.
    الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسىّ أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدّر بفهم ، ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل (2) ، ولا ينظر بعين ، ولا يحدّ بأين ، ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج ، ولا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالنّاس. الّذى كلّم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات (3).
    بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك (4) ، فصف جبرائيل وميكائيل
    __________________
    (1) السماء هنا : المطر ، وانهطاله : انصبابه. ومسقط القطرة : موضع سقوطها ومقرها : موضع قرارها. ومسحب الذرة ومجرها : موضع سحبها وجرها ، والذرة : الصغيرة من النمل
    (2) النائل : العطاء ، والأين : المكان ، والأزواج : القرناء والأمثال. أى : لا يقال «ذو قرناء» ولا «هو قرين لشىء» ، والعلاج لا يكون إلا بين شيئين أحدهما يقاوم الآخر فيتغلب الآخر عليه ، واللّه لا يعالج شيئا ، بل يقول له «كن» فيكون!
    (3) اللهوات : جمع لهاة ، وهى اللحمة المشرفة على الحلق فى أقصى الفم
    (4) المتكلف : هو شديد التعرض لما لا يعنيه ، أى : إن كنت ـ أيها المتعرض ل

    وجنود الملائكة المقرّبين فى حجرات القدس مرجحنّين (1) متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. فإنّما يدرك بالصّفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حدّه بالفناء! فلا إله إلاّ هو أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور.
    أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ألبسكم الرّياش (2) وأسبغ عليكم المعاش ولو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو إلى دفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان ابن داود عليه السّلام : الّذى سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النّبوّة وعظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته (3) واستكمل مدّته ، رمته قسىّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الدّيار منه خالية ، والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم فى القرون السّالفة لعبرة! أين العمالقة وأبناء العمالقة؟ أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين. وأطفأوا سنن
    __________________
    ما لا يعنيك من وصف ربك ـ صادقا فى دعوى القدرة على وصفه فصف أحد مخلوقاته! فاذا عجزت فأنت عن وصف الخالق أشد عجزا
    (1) الحجرات : جمع حجرة ـ بضم الحاء ـ : الغرفة. والمرجحن ـ كالمقشعر ـ المائل لثقله والمتحرك يمينا وشمالا ، تقول : ارجحن الحجر ـ على وزان اطمأن واقشعر ـ إذا مال هاويا. كناية عن انحنائهم لعظمة اللّه واهتزازهم لهيبته. و «متولهة» أى : حائرة ، أو متخوفة
    (2) الرياش : اللباس الفاخر. وأسبغ : أوسع
    (3) الطعمة ـ بالضم ـ : المأكلة ، أى : ما يؤكل ، والمراد رزقه المقسوم

    المرسلين ، وأحيوا سنن الجيّارين (1)؟ أين الّذين ساروا بالجيوش ، وهزموا بالألوف ، وعسكروا العساكر ، ومدّنوا المدائن؟! منها : قد لبس للحكمة جنّتها (2) ، وأخذ [ها] بجميع أدبها : من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتّفرّغ لها ، وهى عند نفسه ضالّته الّتى يطلبها ، وحاجته الّتى يسأل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام (3) وضرب بعسيب ذنبه
    __________________
    (1) سئل أمير المؤمنين عن أصحاب مدائن الرس ـ فيما رواه الرضى عن آبائه إلى جده الحسين ـ فقال : إنهم كانوا يسكنون فى مدائن لهم على نهر يسمى الرس من بلاد المشرق (هو نهر أرس فى بلاد أذربيجان) وكانوا يعبدون شجرة صنوبر مغروسة على شفير عين تسمى دوشاب (يقال : غرسها يافث بن نوح) وكان اسم الصنوبرة «ساه درخت» وعدة مدائنهم اثنتى عشرة مدينة : اسم الأولى أبان ، والثانية آذر ، والثالثة دى ، والرابعة بهمن ، والخامسة اسفندارمز ، والسادسة فروردين ، والسابعة اردى بهشت ، والثامنة خرداد ، والتاسعة مرداد ، والعاشرة تير ، والحادية عشرة مهر ، والثانية عشرة شهر نور. فبعث اللّه لهم نبيا ينهاهم عن عبادة الشجرة ويأمرهم بعبادة اللّه ، فبغوا عليه وقتلوه أشنع قتل : حيث أقاموا فى العين أنابيب من رصاص بعضها فوق بعض كالبرابخ ، ثم نزعوا منها الماء ، واحتفروا حفرة فى قعرها ، وألقوا نبيهم فيها حيا ، واجتمعوا يسمعون أنينه وشكواه ، حتى مات ، فعاقبهم اللّه بارسال ريح عاصفة ملتهبة سلقت أبدانهم ، وقذفت عليهم الأرض مواد كبريتية متقدة فذابت أجسادهم وهلكوا وانقلبت مدائنهم
    (2) جنة الحكمة : ما يحفظها على صاحبها من الزهد والورع ، والكلام فى العارف مطلقا
    (3) هو مع الاسلام : فاذا صار الاسلام غريبا اغترب معه لا يضل عنه. عسيب الذنب : أصله ، والضمير فى «ضرب» للاسلام ، وهذا كناية عن التعب والأعياء ، يريد أنه ضعف ، والجران ـ ككتاب ـ : مقدم عنق البعير من المذبح إلى المنحر

    وألصق الأرض بجرانه ، بقيّة من بقايا حجّته (1) ، خليفة من خلائف أنبيائه.
    ثم قال عليه السلام :
    أيّها النّاس ، إنّى قد بثثت لكم المواعظ الّتى وعظ الأنبياء بها أممهم ، وأدّيت [إليكم] ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، وأدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا ، وحدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا (2)!! للّه أنتم ، أتتوقّعون إماما غيرى يطأ بكم الطّريق ، ويرشدكم السّبيل؟! ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبرا ، وأزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ، وباعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ، ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم وهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، ويشربون الرّنق (3)؟! قد ـ واللّه ـ لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم ، أين إخوانى الّذين ركبوا
    __________________
    ، «9 ـ ن ـ ج ـ 2» والبعير أقل ما يكون نفعه عند بروكه ، وإلصاق جرانه بالأرض : كناية عن الضعف كسابقه.
    (1) «بقية» : تابع «لمغترب» ، وضمير «حجته ، وأنبيائه» للّه المعلوم من الكلام
    (2) استوسقت الأبل : اجتمعت وانضم بعضها إلى بعض
    (3) الرنق ـ بكسر النون ، وفتحها ، وسكونها ـ : الكدر ، ويقال : ماء رنق ، أى : كدر. وتقول : رنق الماء يرنق رنقا ـ مثل فرح يفرح فرحا ، ومثل نصر ينصر نصرا ـ وجاء مصدره على رنوق مثل جلوس ـ وكذلك ترنق ، أى : كدر وأرنقته أنا ورنقته ، أى : كدرته

    الطّريق ومضوا على الحقّ؟ أين عمّار (1)؟ وأين ابن التّيّهان؟ وأين ذو الشّهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على النّيّة ، وأبرد برءوسهم إلى الفجرة؟! قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال عليه السلام :
    أوه على إخوانى الّذين قرأوا القرآن فأحكموه (2) ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السّنّة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه
    __________________
    (1) عمار بن ياسر من السابقين الأولين ، وهو عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس ، العنسى ـ بالنون بعد العين المهملة ـ المذحجى ، حليف بنى مخزوم ، وكنيته أبو اليقظان. وكان عمار رضى اللّه عنه ممن عذب فى اللّه تعالى هو وأبوه وأخوه وأمه فى بدء دعوة النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد مر بهم النبى وهم يعذبون فبشرهم بالجنة وقال لهم «صبرا آل ياسر» وفى عمار نزل قوله تعالى : «إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» وقد روى خالد بن الوليد عن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم «من أبغض عمارا أبغضه اللّه» وأبو الهيثم مالك بن التيهان ـ بتشديد الياء وكسرها ـ من أكابر الصحابة ، ذكر أبو نعيم وابن عبد البر أن أبا الهيثم مالك بن التيهان ـ وهو عمرو بن الحارث ـ شهد صفين واستشهد بها. وأنكر ذلك ابن قتيبة وذو الشهادتين : خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمى الأنصارى من بنى خطمة من الأوس قبل النبى شهادته بشهادة رجلين فى قصة مشهورة ، كلهم قتلوا فى صفين. وأبرد برؤسهم ، أى : أرسلت مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفى منهم رضى اللّه عنهم
    (2) أوه ـ بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الهاء ـ كلمة توجع.

    ثم نادى باعلى صوته :
    الجهاد الجهاد عباد اللّه!! ألا وإنّى معسكر فى يومى هذا ، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج.
    قال نوف : وعقد للحسين ـ عليه السلام ـ فى عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد رحمه اللّه فى عشرة آلاف ، ولأبى أيوب الأنصارى فى عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه ، فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان.
    178 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، الخالق من غير منصبة (1) خلق الخلائق بقدرته ، واستعبد الأرباب بعزّته ، وساد العظماء بجوده. وهو الّذى أسكن الدّنيا خلقه ، وبعث إلى الجنّ والإنس رسله ، ليكشفوا لهم عن غطائها ، وليحذّروهم من ضرّائها ، وليضربوا لهم أمثالها ، وليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها وأسقامها (2) ، وليبصروهم عيوبها وحلالها وحرامها ، وما
    __________________
    (1) المنصبة ـ كمصطبة ـ : التعب ، وفعله نصب ينصب نصبا ـ مثل تعب يتعب تعبا ، وزنا ومعنى ـ و «هم ناصب» أى : ذو نصب ، مثل تامر ولابن ، وهو فى قول النابغة كلينى لهم يا أميمة ناصب وقيل هو فاعل بمعنى مفعول فيه ، لأنه ينصب فيه ويتعب ، مثل قولهم نهار صائم وليل نائم ويوم عاصف
    (2) هجم عليه ـ كنصر ـ : دخل غفلة ، والمعتبر : مصدر ميمى بمعنى الاعتبار والاتعاظ ، والتصرف : التبدل ، والمصاح : جمع مصحة ـ بكسر الصاد وفتحها ـ بمعنى الصحة والعافية. كان الناس فى غفلة عن سر تعاقب الصحة والمرض على بدن الانسان حتى نبهتهم رسل اللّه إلى أن هذا ابتلاء منه سبحانه ليعرف الانسان عجزه ، وأن أمره بيد خالقه

    أعدّ اللّه للمطيعين منهم والعصاة من جنّة ونار وكرامة وهوان.
    أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه (1) ، وجعل لكلّ شىء قدرا ، ولكلّ قدر أجلا ، ولكلّ أجل كتابا.
    منها : [فى ذكر القرآن] : فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة اللّه على خلقه : أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم (2) ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه ، إلاّ وجعل له علما باديا ، وآية محكمة
    __________________
    (1) أى : كما طلب من خلقه أن يحمدوه
    (2) جعل القرآن آمرا زاجرا لما كان اللّه تعالى آمرا به زاجرا ، فأسند الأمر والزجر إليه كما تقول سيف قاطع وقاتل ، وإنما القاطع والقاتل الضارب به ، وجعله صامتا ناطقا باعتبارين ، فانه من حيث هو حروف وأصوات صامت ، إذ كان يستحيل أن تكون الحروف ناطقة ، وهو من حيث تضمنه الاخبار والأمر والنهى والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام التى ينطق بها كأنه ناطق ، لأنه الفهم يقع عنده ، وهذا من باب المجاز ، كما تقول : هذه ربوع ناطقة ، وأخبرتنى الديار بعد رحيلهم كذا ، وما أشبه ذلك ، وقوله «ارتهن عليه أنفسهم» حبس نفوسهم فى ضنك المؤاخذة حتى يؤدوا حق القرآن من العمل به ، فان لم يفعلوا لم يخلصوا بل يهلكوا.

    تزجر عنه أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقى واحد ، وسخطه فيما بقى واحد.
    واعلموا أنّه لن يرضى عنكم بشىء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشىء رضيه ممّن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون فى أثر بيّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم ، قد كفاكم مؤونة دنياكم ، وحثّكم على الشّكر ، وافترض من ألسنتكم الذّكر ، وأوصاكم بالتّقوى وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه ، فاتّقوا اللّه الّذى أنتم بعينه (1) ، ونواصيكم بيده ، وتقلّبكم فى قبضته : إن أسررتم علمه ، وإن أعلنتم كتبه ، قد وكّل بكم حفظة كراما ، لا يسقطون حقّا ، ولا يثبتون باطلا ، واعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ، ونورا من الظّلم ، ويخلده فيما اشتهت نفسه ، وينزله منزلة الكرامة عنده ، فى دار اصطنعها لنفسه : ظلّها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوّارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله. فبادروا المعاد ، وسابقوا الآجال ، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل ، ويرهقهم الأجل (2) ، ويسدّ عنهم باب التّوبة ، فقد أصبحتم فى مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم (3) ، وأنتم
    __________________
    (1) يقال «فلان بعين فلان» إذا كان بحيث لا يخفى عليه منه شىء
    (2) أى : يغشاهم بالمنية
    (3) أى : إنكم فى حالة يمكنكم فيها العمل لآخرتكم ، وهى الحالة التى ندم المهملون على فواتها وسألوا الرجعة إليها ، كما حكى اللّه عنهم إذ يقول الواحد منهم : «رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ»

    بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم ، وقد أوذنتم منها بالارتحال ، وأمرتم فيها بالزّاد ، واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها فى مصائب الدّنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه والعثرة تدميه ، والرّمضاء تحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، وقرين شيطان (1)؟! أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه (2) ، وإذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته؟؟!! أيّها اليفن الكبير (3) الّذى قد لهزه القتير! كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق ، ونشبت الجوامع (4) حتّى أكلت لحوم السّواعد؟!
    __________________
    (1) الرمضاء : الأرض للشديدة الحرارة. والرمض ـ بفتح الراء والميم ـ شدة وقع الشمس على الرمل وغيره. وقد رمض يومنا يرمض رمضا ـ مثل طرب يطرب طربا ـ أى : اشتد حره. ورمضت قدمه : احترقت بالرمضاء. والطابق ـ بفتح الياء ـ الآجرة الكبيرة ، وهو فارس معرب. وقوله «ضجيع حجر» يشير به إلى قوله تعالى «وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَاَلْحِجٰارَةُ» وقوله «وقرين شيطان» يشير به إلى قوله تعالى : «قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ»
    (2) مالك : هو الموكل بالجحيم ، و «حطم بعضها بعضا» معناه كسره أو أكله والحطمة : من أسماء النار لأنها تحطم ما تلاقيه ، ومنه سمى الرجل الكثير الأكل حطمة
    (3) اليفن ـ بالتحريك ـ : الشيخ المسن ، و «لهزه» أى : خالطه ، والقتير : الشيب ، ويقال : ملهوز ، ثم أشمط ، ثم أشيب
    (4) نشبت ـ كفرحت ـ علقت ، والجوامع : جمع جامعة ، وهى الغل والكيل ، لأنها تجمع اليدين إلى العنق

    فاللّه اللّه ، معشر العباد ، وأنتم سالمون فى الصّحّة قبل السّقم!! وفى الفسحة قبل الضّيق ، فاسعوا فى فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها (1) : أسهروا عيونكم. وأضمروا بطونكم ، واستعملوا أقدامكم ، وأنفقوا أموالكم ، وخذوا من أجسادكم فجدّدوا بها على أنفسكم ولا تبخلوا بها عنها ، فقد قال اللّه سبحانه : «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ» وقال تعالى : «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» ، فلم يستنصركم من ذلّ ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السّموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السّموات والأرض وهو الغنىّ الحميد ، [وإنّما] أراد أن يبلوكم (2) أيّكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران اللّه فى داره رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا (3) وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا (4)
    __________________
    (1) غلق الرهن ـ كفرح ـ استحقه صاحب الحق ، وذلك إذا لم يمكن فكاكه فى الوقت المشروط.
    (2) يختبركم
    (3) الحسيس : الصوت الخفى
    (4) لغب ـ كسمع ، ومنع ، وكرم ـ لغبا ولغوبا : أعيى أشد الأعياء ، والنصب التعب أيضا

    «ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَاَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ». أقول ما تسمعون ، واللّه المستعان على نفسى وأنفسكم. وهو حسبى ونعم الوكيل.
    179 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله للبرج بن مسهر الطائى (1) وقد قال له بحيث يسمعه :
    «لا حكم إلا للّه» ، وكان من الخوارج اسكت! قبّحك اللّه يا أثرم (2) فو اللّه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه ضئيلا شخصك ، خفيّا صوتك ، حتّى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز
    180 ـ ومن خطبة له عليه السّلام (3)
    الحمد للّه الّذى لا تدركه الشّواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النّواظر ، ولا تحجبه السّواتر ، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على
    __________________
    (1) أحد شعراء الخوارج وهو البرج بن مسهر ـ بضم الميم وكسر الهاء بينهما سين ساكنة ـ بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل
    (2) «قبحك اللّه» أى : نحاك وأبعدك عن الخير ، أو فل حدتك وكسر شوكتك نقول : قبحت الجوزة ـ من باب فتح ـ إذا كسرتها. والثرم ـ محركا ـ سقوط الثنية من الأسنان ، وكان البرج ساقط الثنية فأهانه بأن دعاه به كما يهان الأعور بأن يقال له يا أعور. والضئيل : النحيف المهزول ، كناية عن الضعف. ونعر : أى صاح. ونجمت : ظهرت وبرزت ، والتشبيه بقرن الماعز فى الظهور على غير شور
    (3) من هنا إلى آخر الجزء الثانى من هذه المطبوعة اختلف ترتيب النسخ بتقديم بعض الخطب على بعض ، وقد قوبلت كل خطبة على النسخ المتعددة كما صنع بسائر الكتاب

    وجوده ، وباشتباههم على أن لا شبه له ، الّذى صدق فى ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط فى خلقه ، وعدل عليهم فى حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد ، دائم لا بأمد (1) ، وقائم لا بعمد.
    تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة (2) ، وتشهد له المرائى لا بمحاضرة. لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها (3) ليس بذى كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذى عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا ، وعظم سلطانا.
    وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الصّفىّ وأمينه الرّضىّ ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، أرسله بوجوب الحجج (4) وظهور الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلّغ الرّسالة
    __________________
    (1) الأمد : الغاية
    (2) المشاعرة : انفعال إحدى الحواس بما تحسه من جهة عروض شىء منه عليها والمرائى : جمع مرآة ـ بالفتح ـ وهى المنظر ، أى : تشهد له مناظر الأشياء لا بحضوره فيها شاخصا للأبصار
    (3) أى : إنه بعد ما تجلى للأوهام بآثاره فعرفته امتنع عليها بكنه ذاته ، وحاكمها إلى نفسها حيث رجعت بعد البحث حاسئة وحسيرة معترفة بالعجز عن الوصول إليه
    (4) أى : ليلزم العباد بالحجج البينة على ما دعاهم اليه من الحق ، والفلج : الظفر والفوز ، وهو بفتح فسكون ، وتقول : فلج على خصمه ـ من باب نصر ـ وفى المثل «من يأت الحكم وحده يفلج» وتقول : أفلجه اللّه عليه ، أى : أظفره. والاسم الفلج ، بوزن القفل ، وظهور الفلج : علو كلمة الدين

    صادعا بها ، وحمل على المحجّة دالاّ عليها ، وأقام أعلام الاهتداء ، ومنار الضّياء ، وجعل أمراس الإسلام متينة (1) ، وعرى الإيمان وثيقة.
    منها : فى صفة [عجيب] خلق أصناف من الحيوانات :
    ولو فكّروا فى عظيم القدرة ، وجسيم النّعمة ، لرجعوا إلى الطّريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة! ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السّمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر (2)؟
    أنظروا إلى النّملة فى صغر جثّتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها ، وصبت على رزقها! تنقل الحبّة إلى جحرها ، وتعدّها فى مستقرّها ، تجمع فى حرّها لبردها ، وفى ورودها لصدرها (3) مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ، ولا يحرمها
    __________________
    (1) الأمراس : جمع مرس ـ بالتحريك ـ وهو جمع مرسة ـ بالتحريك ـ : وهو الحبل
    (2) جمع بشرة : وهى ظاهر الجلد الانسانى
    (3) الصدر ـ محركا ـ : الرجوع بعد الورود. وقوله «بوفقها» بكسر الواو أو فتحها ، مع سكون الفاء فيهما ـ أى : بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها ، أو بما هو قدر كفايتها منه

    الدّيّان ، ولو فى الصّفا اليابس ، والحجر الجامس (1) ، ولو فكّرت فى مجارى أكلها ، فى علوها وسفلها ، وما فى الجوف من شراسيف بطنها (2) وما فى الرّأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الّذى أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها! لم يشركه فى فطرتها فاطر ، ولم يعنه فى خلقها قادر. ولو ضربت فى مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلاّ على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة ، لدقيق تفصيل كلّ شىء (3) وغامض اختلاف كلّ حىّ!! وما الجليل واللّطيف ، والثّقيل والخفيف ، والقوىّ والضّعيف ، فى خلقه إلاّ سواء!! وكذلك السّماء والهواء ، والرّياح والماء.
    فانظر إلى الشّمس والقمر ، والنّبات والشّجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا اللّيل والنّهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه
    __________________
    (1) الجامس : الجامد
    (2) الشراسيف : مقاط الأضلاع ، وهى أطرافها التى تشرف على البطن ، والواحد شرسوف ـ بزنة عصفور ـ أو الشرسوف : غضروف معلق بكل عضو مثل غضروف الكتف ، وقال ابن الأعرابى : الشرسوف : رأس الضلع مما يلى البطن ، وقال أعشى بأهلة يرثى أخاه لأمه المنتشر بن وهب الباهلى : ـ
    لا يتأرى لما فى القدر يرقبه
    ولا يعض على شرسوفه الصفر

    (لا يتأرى : لا يتحبس. والصفر : الجوع ، وقيل : دابة تعض الضلوع والشراسيف)
    (3) أى : إن دقة التفصيل فى النملة ـ على صغرها ـ والنخلة ـ على طولها ـ تدلك على أن الصانع واحد

    القلال (1) ، وتفرّق هذه اللّغات ، والألسن المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر. زعموا أنّهم كالنّبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع! ولم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا (2) ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟ وإن شئت قلت فى الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين (3) ، وجعل لها السّمع الخفىّ ، وفتح لها الفم السّوىّ ، وجعل لها الحسّ القوىّ ، ونابين بهما تقرض ومنجلين بهما تقبض (4) يرهبها الزّرّاع فى زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها (5) ، ولو أجلبوا بجمعهم ، حتّى ترد الحرث فى نزواتها (6) وتقضى منه شهواتها! وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة فتبارك اللّه الّذى يسجد له من فى السّموات والأرض طوعا وكرها ، ويعنو له خدّا ووجها ، ويلقى إليه بالطّاعة سلما وضعفا ، ويعطى له القياد
    __________________
    (1) القلال : جمع قلة ـ بالضم ـ وهى رأس الجبل.
    (2) «لم يلجأوا» : لم يستندوا ، و «أوعاه» كوعاه ، بمعنى حفظه
    (3) أى : مضيئتين كأن كلا منهما ليلة قمراء أضاءها القمر
    (4) المنجل ـ كمنبر ـ : آلة من حديد معروفة يقضب بها الزرع. قالوا : أراد بهما هنا رجليها لاعوجاجهما وخشونتهما
    (5) دفعها
    (6) «نزواتها» أى : وثباتها ، وتقول : نزا عليه ، أى : وثب ، وبابه عدا ، وجاء المصدر على نزوان ـ بحركات ـ أيضا

    رهبة وخوفا. فالطّير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الرّيش منها والنّفس ، وأرسى قوائمها على النّدىّ واليبس (1) ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها :
    فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام. دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها (2) وعدّد قسمها ، فبل الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها.
    181 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة [غيرها] ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه (3). كلّ معروف بنفسه مصنوع (4) ، وكلّ
    __________________
    (1) المراد من الندى هنا : مقابل اليبس ـ بالتحريك ـ فيعم الماء ، كأنه يريد أن اللّه جعل من الطير ما تثبت أرجله فى الماء ، ومنه من لا يمشى إلا فى الأرض اليابسة
    (2) الهطل ـ بالفتح ـ : تتابع المطر والدمع ، والديم ـ كالهمم ـ جمع ديمة : وهى مطر يدوم فى سكون بلا رعد ولا برق ، و «تعديد القسم» إحصاء ما قدر منها لكل بقعة. و «جدوب الأرض» : يبسها لاحتجاب المطر عنها
    (3) صمده : قصده ، وبابه نصر
    (4) أى : كل معروف الذات بالكنه مصنوع ، لأن معرفة الكنه إنما تكون بمعرفة أجزاء الحقيقة. فمعروف الكنه مركب ، والمركب مفتقر فى الوجود لغيره ، فهو مصنوع.

    قائم فى سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنىّ لا باستفادة. لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات (1) ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله.
    بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له (2) ، وبمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ، ضادّ النّور بالظّلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصّرد (3). مؤلّف بين متعادياتها (4) مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين
    __________________
    (1) ترفده ـ كتضربه ـ أى : تعينه
    (2) مشعر ـ كمقعد ـ محل الشعور ، أى : الاحساس ، فهو الحاسة ، و «تشعيرها» إعدادها للانفعال المخصوص الذى يعرض لها من المواد ، وهو ما يسمى بالاحساس فالمشعر من حيث هو مشعر منفعل دائما ، ولو كان للّه مشعر لكان منفعلا ، والمنفعل لا يكون فاعلا ، وقد قلنا إنه هو الفاعل بتشعير المشاعر ، وهذا بمنزلة أن يقال : إن اللّه فاعل فى خلقه فلا يكون منفعلا عنهم ، كما يأتى التصريح به ، وإنما خص باب الشعور بالذكر ردا على من زعم أن للّه مشاعر ، وعقده التضاد بين الأشياء دليل على استواء نسبتها اليه ، فلا ضد له ، إذ لو كانت له طبيعة تضاد شيئا لاختص إيجاده بما يلائمها لا ما يضادها ، فلم تكن أضدادا. والمقارنة بين الأشياء فى نظام الخلقة دليل أن صانعها واحد ، إذ لو كان له شريك لخالفه فى النظام الايجادى فلم تكن مقارنة ، والمقارنة هنا : المشابهة
    (3) الصرد ـ محركا ـ : البرد ، أصلها فارسية
    (4) متعادياتها كالعناصر

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:51 pm

    متدانياتها (1). لا يشمل بحدّ ولا يحسب بعدّ ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير [الآلات] إلى نظائرها ، منعتها منذ القدميّة ، وحمتها قد الأزليّة ، وجنّبتها لو لا (2) التّكملة ، بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون ، لا يجرى عليه السّكون والحركة وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟! إذا لتفاوتت ذاته (3) ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ولكان له وراء إذ وجد له أمام! ولالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان! وإذا
    __________________
    (1) كالجزئين من عنصر واحد فى جسمين مختلفى المزاج
    (2) «منذ ، وقد ، ولو لا» : فواعل للأفعال قبلها ، ومنذ : لابتداء الزمان ، وقد لتقريبه ، ولا يكون الابتداء والتقريب إلا فى الزمان المتناهى ، وكل مخلوق يقال فيه : قد وجد ، ووجد منذ كذا ، وهذا مانع للقدم والأزلية ، وكل مخلوق يقال فيه : لو لا خالقه لما وجد ، فهو ناقص لذاته محتاج للتكملة بغيره ، و «الأدوات» أى : آلات الادراك التى هى حادثة ناقصة ، فكيف يمكن لها أن تحد الأزلى المتعالى عن النهاية فى الكمال. وقوله «بها» أى : بتلك الأدوات ، أى : بواسطة ما أدركته من شؤون الحوادث عرف الصانع فتجلى للعقول ، وبها ـ أى : بمقتضى طبيعة تلك الأدوات : من أنها لا تدرك إلا ماديا محدودا ـ امتنع سبحانه عن إدراك العيون ، التى هى نوع من تلك الأدوات
    (3) أى : لاختلفت ذاته باختلاف الأعراض عليها ، ولتجزأت حقيقته ، فان الحركة والسكون من خواص الجسم ، وهو منقسم ، ولصار حادثا ، فان الجسم بتركبه مفتقر لغيره.

    لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر فى غيره (1).
    الّذى لا يحول ، ولا يزول ، ولا يجوز عليه الأفول (2) ، ولم يلد فيكون مولودا (3) ولم يولد فيصير محدودا (4). جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النّساء ، لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدى فتمسّه. لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه اللّيالى والأيّام ، ولا يغيّره الضّياء والظّلام ، ولا يوصف بشىء من الأجزاء (5) ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيريّة والأبعاض. ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية.
    ولا أنّ الأشياء تحويه ، فتقلّه أو تهويه (6) أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
    __________________
    (1) «وحرج» ، عطف على قوله «لا يجرى عليه السكون» ، وسلطان الامتناع : هو سلطان العزة الأزلية
    (2) من «أفل النجم» ـ من بابى دخل وجلس ـ إذا غاب
    (3) المراد بالمولود المتولد عن غيره ، سواء أكان بطريق التناسل المعروف ، أم كان بطريق النشوء كتولد النبات عن العناصر. ومن ولد له كان متولدا باحدى الطريقتين
    (4) تكون بداية وجوده يوم ولادته.
    (5) أى : لا يقال ذو جزء كذا ، ولا ذو عضو كذا
    (6) «تقله» أى : ترفعه ، و «تهويه» أى : تحطه وتسقطه «10 ـ ن ـ ج ـ 2»

    وليس فى الأشياء بوالج (1) ولا عنها بخارج. يخبر لا بلسان ولهوات (2) ويسمع لا بخروق وأدوات. يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ (3) ويريد ولا يضمر ، يحبّ ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه «كن» فيكون! لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه ـ سبحانه ـ فعل منه (4) أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
    لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل (5) ولا له عليها فضل ، فيستوى الصّانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع. خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها
    __________________
    (1) «والج» أى : داخل. وتقول : ولج يلج ـ مثل وعد يعد ـ ولوجا ـ كجلوس ـ وأولجه غيره ، وفى التنزيل : «يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ»
    (2) اللهوات ، ومثله اللهيات : جمع لهاة ، وهى : اللحمة فى سقف أقصى الفم وتجمع على «لها» أيضا
    (3) أى : لا يتكلف الحفظ «وَلاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَهُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ»
    (4) «كلامه» أى : الألفاظ والحروف التى يطلق عليها كلام اللّه باعتبار ما دلت عليه وهى حادثة عند عموم الفرق ، ما خلا جماعة من الحنابلة ، أو المراد بالكلام هنا : ما أريد فى قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ـ الآية) وهو على ما قال بعض المفسرين أعيان الموجودات
    (5) «ولا يكون» عطف على «تجرى»

    على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج (1) ومنعها من التّهافت والانفراج (2) ، أرسى أوتادها (3) ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ أوديتها ، فلم يهن ما بناه (4) ، ولا ضعف ما قوّاه.
    هو الظّاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالى على كلّ شىء منها بجلاله وعزّته ، [و] لا يعجزه شىء منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السّريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه.
    خضعت الأشياء له ، وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرّه ، ولا كفء له فيكافيه ، ولا نظير له فيساويه ، هو المفنى لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
    وليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها واختراعها! وكيف [و] لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها (5)
    __________________
    (1) الاعوجاج : عطف تفسير على الأود
    (2) التهافت : التساقط قطعة قطعة ، والانفراج : الانشقاق
    (3) الأوتاد : جمع وتد ـ بزنة كتف ـ والأسداد : جمع سد ـ بفتح السين وضمها ـ والمراد بها الجبال. وقال الرازى «وفى الديوان : وقال بعضهم : السد ـ بالضم ما كان من خلق اللّه ، وبالفتح : ما كان من عمل بنى آدم» اه‍ و «خد» أى : شق
    (4) يهن : من الوهن ، بمعنى الضعف
    (5) مراحها ـ بضم الميم ـ اسم مفعول من «أراح الابل» إذا ردها إلى المراح ـ بالضم ـ أى : المأوى ، والسائم : الراعى : يريد ما كان فى مأواه وما كان فى مرعاه

    وأصناف أسناخها وأجناسها (1) ومتبلّدة أممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها فى علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة (2) عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضّعف عن إفنائها.
    وإنّ اللّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شىء معه : كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات [وزالت] والسّنون والسّاعات ، فلا شىء إلاّ الواحد القهّار الّذى إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها.
    لم يتكاءده صنع شىء منها إذ صنعه (3) ، ولم يؤده منها خلق ما خلقه وبرأه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة
    __________________
    (1) الأسناخ : الأصول ، واحدها سنخ ـ بكسر السين وسكون النون ـ والمراد منها الأنواع ، أى : الأصناف الداخلة فى أنواعها. «والمتبلدة» أى : الغبية ، والأكياس : جمع كيس ـ بالتشديد ـ وهو العاقل الحاذق
    (2) الخاسىء : الذليل ، والحسير : الكال المعيى
    (3) لم يتكاءده : لم يشق عليه ، ولم يؤده : لم يثقله. وبرأه : مرادف لخلقه

    بها على ندّ مكاثر (1) ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور ، ولا للازدياد بها فى ملكه ، ولا لمكاثرة شريك فى شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه فى تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شىء منها عليه. لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه ـ سبحانه ـ دبّرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشىء منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة.
    182 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    [يختص بذكر الملاحم]
    ألا بأبى وأمّى هم من عدّة ، أسماؤهم فى السّماء معروفة ، وفى الأرض مجهولة (2) ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم ، وانقطاع وصلكم ، واستعمال صغاركم.
    __________________
    (1) الند ـ بالكسر ـ المثل ، والمكاثرة : المغالبة بالكثرة. يقال : كاثره فكثره أى : غلبه ، والمثاور : المواثب المهاجم
    (2) يريد أهل الحق الذين سترتهم ظلمة الباطل فى الأرض فجهلهم أهلها ، وأشرقت بواطنهم فأضاءت بها السموات العلى فعرفهم سكانها

    ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حله (1) ، ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطى (2) ، ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النّعمة والنّعيم ، وتحلفون من غير اضطرار ، وتكذبون من غير إحراج (3) ، [و] ذلك اذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير (4) ما أطول هذا العناء ، وأبعد هذا الرّجاء.
    أيّها النّاس ، ألقوا هذه الأزمّة الّتى تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم (5) ولا تصدّعوا على سلطانكم فتذمّوا غبّ فعالكم ، ولا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة (6) ، وأميطوا عن سننها (7) وخلّوا قصد السّبيل لها ، فقد ـ لعمرى ـ يهلك فى لهبها المؤمن ، ويسلم فيها غير المسلم.
    __________________
    (1) لفساد المكاسب واختلاط الحرام بالحلال
    (2) أى : حيث يكون الخير فى الفقراء ، ويعم جميع الأغنياء : فيعطى الغنى سرفا وتبذيرا ، وينفق الفقير ما يأخذ من مال الغنى فى وجهه الشرعى
    (3) الاحراج : التضييق
    (4) القتب ـ محركا ـ الاكاف ، والغارب : ما بين العنق والسنام
    (5) الأزمة ـ كائمة ـ جمع زمام ، والمراد بظهورها ظهور المذمومات بها والكلام عن ترك الآراء الفاسدة التى يقاد بها قوم ويحملون أثقالا من الأوزار أى : لا تفرقوا ولا تختلفوا على إمامكم فتقبح عاقبتكم فتذموها
    (6) فور النار : ارتفاع لهبها ، أى : لا ترموا بأنفسكم فى الفتنة التى تقبلون عليها
    (7) «أميطوا» أى : تنحوا عن طريقها ، وسيلوا عن وجهة سيرها ، وخلوا لها سبيلها التى استقامت عليها

    إنّما مثلى بينكم مثل السّراج فى الظّلمة ليستضىء به من ولجها ، فاسمعوا أيّها النّاس وعوا ، وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا.
    183 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أوصيكم ـ أيّها النّاس ـ بتقوى اللّه ، وكثرة حمده على آلائه إليكم ، ونعمائه عليكم ، وبلائه لديكم (1). فكم خصّكم بنعمة ، وتدارككم برحمة! أعورتم له فستركم (2) ، وتعرّضتم لأخذه فأمهلكم ، وأوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه ، وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم (3) وطمعكم فيمن ليس يمهلكم؟! فكفى واعظا بموتى عاينتموهم ، حملوا إلى قبورهم غير راكبين (4) ، وأنزلوا فيها غير نازلين! فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا ، وكأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا ، أوحشوا ما كانوا يوطنون (5) ، وأوطنوا ما كانوا يوحشون ، واشتغلوا بما فارقوا وأضاعوا ما إليه انتقلوا ، لا عن قبيح
    __________________
    (1) البلاء : الاحسان
    (2) «أعورتم له» أى : ظهرت له عوراتكم وعيوبكم ، و «لأخذه» أى : أن يأخذكم بالعقاب
    (3) أغفله : سهى عنه وتركه
    (4) إنما يقال ركب ونزل ـ حقيقة ـ لمن فعل بارادته
    (5) أوطن المكان : اتخذه وطنا ، وأوحشه : هجره حتى لا أنيس منه به. وقوله «واشتغلوا» أى : وكانوا اشتغلوا بالدنيا التى فارقوها ، وأضاعوا العاقبة التى انتقلوا إليها

    يستطيعون انتقالا ، ولا فى حسنة يستطيعون ازديادا! أنسوا بالدّنيا فغرّتهم ووثقوا بها فصرعتهم. فسابقوا ـ رحمكم اللّه ـ إلى منازلكم الّتى أمرتم أن تعمروها ، والّتى رغّبتم فيها ، ودعيتم إليها ، واستتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته ، والمجانبة لمعصيته ، فإنّ غدا من اليوم قريب ، ما أسرع السّاعات فى اليوم ، وأسرع الأيّام فى الشّهور ، وأسرع الشّهور فى السّنة ، وأسرع السّنين فى العمر!
    184 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا فى القلوب ، ومنه ما يكون عوارى بين القلوب والصّدور إلى أجل معلوم (1) فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى يحضره الموت (2) ، فعند ذلك يقع حدّ البراءة. والهجرة قائمة على حدّها الأوّل (3). ما كان للّه فى أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة
    __________________
    (1) «عوارى ـ الخ» كناية عن كونه زعما بغير فهم
    (2) إذا ارتبتم فى أحد وأردتم البراءة منه فلا تسارعوا لذلك ، وانتظروا به الموت عسى أن تدركه التوبة
    (3) أى : لم يزل حكمها الوجوب على من بلغته دعوة الاسلام ورضى الاسلام دينا ، وهو المراد بمعرفة الحجة الآتى فى الكلام. فلا يجوز لمسلم أن يقيم فى بلاد حرب على المسلمين ، ولا أن يقبل سلطان غير المسلم ، بل تجب عليه الهجرة إلا إذا تعذر عليه ذلك لمرض أو عدم نفقة ، فيكون من المستضعفين المعفو عنهم. وقول النبى ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، «لا هجرة بعد الفتح» محمول على الهجرة من مكة

    ومعلنها (1) لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجّة فى الأرض ، فمن عرفها وأفرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه.
    إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ، ولا يعى حديثنا إلاّ صدور أمينة ، وأحلام رزينة (2).
    أيّها النّاس ، سلونى قبل أن تفقدونى! فلأنا بطرق السّماء أعلم منّى بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها (3) وتذهب بأحلام قومها.
    185 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أحمده شكرا لإنعامه ، وأستعينه على وظائف حقوقه. عزيز الجند ، عظيم المجد. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله دعا إلى طاعته ، وقاهر أعداءه جهادا على
    __________________
    (1) استسر الامر : كتمه ، والامة ـ بكسر الهمزة ـ : الحالة ، وبضمها الطاعة أى : إن الهجرة فرضت على المكلفين لمصلحتهم ، وإلا فاللّه لا حاجة به إلى مضمر إيمانه فى بلاد الكفر ، ولا إلى معلنه فى ديار الاسلام
    (2) أحلام : عقول
    (3) شعر برجله : رفعها ، ثم الجملة كناية عن كثرة مداخل الفساد فيها ، من قولهم «بلدة شاغرة برجلها» أى : معرضة للغارة لا تمتنع عنها. و «تطأ فى خطامها» أى : تتعثر فيه ، كناية عن إرسالها وطيشها ، وعدم قائد لها. أما قوله عليه السلام «فلأنا بطريق السماء أعلم الخ» فالقصد به أنه فى العلوم الملكوتية والمعارف الألهية أوسع إحاطة منه بالعلوم الصناعية. وفى تلك تظهر مزية العقول العالية والنفوس الرفيعة ، وبها ينال الرشد ، ويستضىء الفكر

    دينه. لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه ، والتماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، (1) وبادروا الموت فى غمراته ، وامهدوا له قبل حلوله ، وأعدّوا له قبل نزوله ، فإنّ الغاية القيامة وكفى بذلك واعظا لمن عقل ، ومعتبرا لمن جهل. وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس (2) ، وشدّة الإبلاس ، وهول المطّلع ، وروعات الفزع ، واختلاف الأضلاع ، واستكاك الأسماع ، وظلمة اللّحد ، وخيفة الوعد ، وعمّ الضّريح ، وردم الصّفيح.
    فاللّه اللّه عباد اللّه! ، فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن ، وأنتم والسّاعة فى قرن (3) وكأنّها قد جاءت بأشراطها ، وأزفت بأفراطها ، ووقفت بكم على
    __________________
    (1) المعقل ـ كمسجد ـ : الملجأ ، وذروة كل شىء : أعلاه ، ومبادرة الموت : سبقه بالاعمال الصالحة ، و «فى غمراته» : حال من الموت. والغمرات : الشدائد ، ومهد ـ كمنع ـ معناه هنا : عمل
    (2) الأرماس : القبور ، جمع رمس ، وأصله اسم للتراب. والابلاس : حزن فى خذلان ويأس. والمطلع ـ بضم فتشديد مع فتح ـ : المنزلة التى منها يشرف الانسان على أمور الآخرة ، وهى منزلة البرزخ. وأصل المطلع : موضع الاطلاع من ارتفاع إلى انحدار. و «اختلاف الاضلاع» : دخول بعضها فى موضع الآخر من شدة الضغط ، و «استكاك الاسماع» : صممها من التراب أو الأصوات الهائلة. والضريح : اللحد ، والردم : السد ، والصفيح : الحجر العريض. والمراد ما يسد به القبر.
    (3) «سنن» أى : على طريق معروف تفعل بكم فعلها بمن سبقكم. والقرن ـ محركا ـ : الحبل يقرن به البعيران ، كناية عن القرب وأن لا بد منها. والأشراط ، العلامات. وأزفت : قربت ، والافراط : جمع فرط ـ بسكون الراء ـ : وهو العلم المستقيم يهتدى به ، أى : بدلائلها

    صراطها. وكأنّها قد أشرفت بزلازلها ، وأناخت بكلاكلها (1) وانصرمت الدّنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، وصار جديدها رثّا (2) وسمينها غثّا ، فى موقف ضنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها (3) ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخيف وعيدها ، غمّ قرارها (4) ، مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها «وَسِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً» قد أمن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزحزحوا عن النّار ، واطمأنّت بهم الدّار ، ورضوا المثوى والقرار ، الّذين كانت أعمالهم فى الدّنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم فى دنياهم نهارا تخشّعا واستغفارا ، وكان نهارهم ليلا توحّشا وانقطاعا (5) فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا
    __________________
    (1) الكلاكل : الصدور ، كناية عن الأثقال
    (2) الرث : البالى ، والغث : المهزول
    (3) الكلب ـ محركا ـ : أكل بلا شبع ، واللجب : الصياح ، أو الاضطراب ، والتغيظ : الهيجان ، والزفير : صوت توقد النار ، وذكت النار : اشتد لهيبها
    (4) «غم» صفة من «غمه» إذا غطاه ، أى : مستور قرارها المستقر فيه أهلها ويروى «عم» بالعين المهملة ، من «عمى»
    (5) لا يريد من التوحش النفرة من الناس والجفوة فى معاملتهم ، بل يريد عدم الاستئناس بشؤون الدنيا والركون إليها.

    أحقّ بها وأهلها ، فى ملك دائم ، ونعيم قائم.
    فارعوا ـ عباد اللّه ـ ما برعايته يفوز فائزكم ، وبإضاعته يخسر مبطلكم.
    وبادروا آجالكم بأعمالكم فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم ، ومدينون بما قدّمتم ، وكأن قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون ، ولا عثرة تقالون.
    استعملنا اللّه وإيّاكم بطاعته وطاعة رسوله ، وعفا عنّا وعنكم بفضل رحمته ، الزموا الأرض (1) واصبروا على البلاء ، ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم فى هوى ألسنتكم ، ولا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيدا ووقع أجره على اللّه ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، وقامت النّيّة مقام إصلاته لسيفه ، وإنّ لكلّ شىء مدّة وأجلا.
    186 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الفاشى [فى الخلق] حمده ، والغالب جنده ، والمتعالى جدّه (2) ،
    __________________
    (1) «لزوم الأرض» : كناية عن السكون ، ينصحهم به عند عدم توافر أسباب الجهاد ، وينهاهم عن التعجل بحمل السلاح تلبية لقول يقوله أحدهم فى غير وقته ، ويأمرهم بالحكمة فى العمل لا يأتونه إلا عند رجحان نجحه. وإصلات السيف : سله.
    (2) الفاشى : المنتشر. والجد ـ بالفتح ـ : العظمة ، وفى التنزيل : «وَأَنَّهُ تَعٰالىٰ جَدُّ رَبِّنٰا مَا اِتَّخَذَ صٰاحِبَةً وَلاٰ وَلَداً» وفى الدعاء «وتبارك اسمك ، وتعالى جدك»

    أحمده على نعمه التّؤام (1) ، وآلائه العظام ، الّذى عظم حلمه فعفا ، وعدل فى كلّ ما قضى ، وعلم ما يمضى وما مضى ، مبتدع الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه بلا اقتداء ولا تعليم ، ولا احتذاء لمثال صانع حكيم ، ولا إصابة خطإ ، ولا حضرة ملأ. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ابتعثه والنّاس يضربون فى غمرة (2) ويموجون فى حيرة. قد قادتهم أزمّة الحين ، واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين.
    أوصيكم ـ عباد اللّه ـ بتقوى اللّه فإنّها حقّ اللّه عليكم ، والموجبة على اللّه حقّكم (3) ، وأن تستعينوا عليها باللّه وتستعينوا بها على اللّه ، فإنّ التّقوى فى اليوم الحرز والجنّة ، وفى غد الطّريق إلى الجنّة : مسلكها واضح ، وسالكها رابح ، ومستودعها حافظ (4) ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين
    __________________
    (1) جمع توءم ـ كجعفر ـ وهو المولود مع غيره فى بطن ، وهو مجاز عن الكثير ، أو المتواصل.
    (2) ضرب فى الماء : سبح ، وضرب فى الأرض بسرعة : أبعد ، والغمرة : الماء الكثير ، والشدة ، والمراد هنا إما شدة الفتن وبلاياها ، أو شدة الجهل ورزاياه. والأزمة : جمع زمام ، وهو ما تقاد به الدابة ، والحين ـ بفتح الحاء ـ : الهلاك ، والرين ـ بفتح الراء ـ : التغطية والحجاب ، وهو هنا حجاب الضلال
    (3) جرى فى الكلام على نحو قوله تعالى : «وَكٰانَ حَقًّا عَلَيْنٰا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» يريد أن التقوى جعلها اللّه سببا لاستحقاق ثوابه ، ومعينة على رضائه. والجنة ـ بضم الجيم ـ : الوقاية ، وبفتحها دار الثواب.
    (4) مستودع التقوى : هو الذى تكون التقوى وديعة عنده ، وهو اللّه.

    والغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدى. وأخذ ما أعطى. وسأل عمّا أسدى (1). فما أقلّ من قبلها وحملها حقّ حملها ، أولئك الأقلّون عددا. وهم أهل صفة اللّه ـ سبحانه ـ إذ يقول : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ». فأهطعوا بأسماعكم إليها (2) ، وكظّوا بجدّكم عليها ، واعتاضوها من كلّ سلف خلفا ، ومن كلّ مخالف موافقا ، أيقظوا بها نومكم ، واقطعوا بها يومكم ، وأشعروا بها قلوبكم ، وارحضوا بها ذنوبكم (3). وداووا بها الأسقام ، وبادروا بها الحمام ، واعتبروا بمن أضاعها ، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها (4). ألا وصونوها وتصوّنوا بها (5). وكونوا عن الدّنيا نزّاها ، وإلى الآخرة ولاّها ، ولا تضعوا من رفعته التّقوى ، ولا ترفعوا من رفعته الدّنيا ، ولا تشيموا بارقها (6) ولا تستمعوا ناطقها ، ولا [تجيبوا] ناعقها ، ولا تستضيئوا بإشراقها ، ولا تفتنوا
    __________________
    (1) أسدى : منح وأعطى.
    (2) الاهطاع : الاسراع ، أهطع البعير. مد عنقه وصوب رأسه ، والكظاظ ـ ككتاب ـ : الممارسة وطول الملازمة. وفعله ككتب
    (3) رحض ـ كمنع ـ : غسل ، والحمام ـ ككتاب ـ : الموت
    (4) أى : لا تكونوا عبرة يتعظ بسوء مصيركم من أطاع التقوى وأدى حقوقها
    (5) تصونوا : تحفظوا ، والنزاه : جمع نازه ، وهو العفيف النفس ، والولاه : جمع واله ، وهو الحزين على الشىء حتى يناله ، أى : المشتاق
    (6) شام البرق : نظر اليه أين يمطر ، والبارق : السحاب ، أى : لا تنظروا لما يغركم من مطامعها. والأعلاق : جمع علق ـ بالكسر ـ : بمعنى النفيس.

    بأعلاقها ، فإنّ برقها خالب (1) ونطقها كاذب ، وأموالها محروبة ، وأعلاقها مسلوبة ، ألا وهى المتصدّية العنون (2) والجامحة الحرون ، والمائنة الخؤون والجحود الكنود ، والعنود الصّدود ، والحيود الميود : حالها انتقال ، ووطأتها زلزال ، وعزّها ذلّ ، وجدّها هزل ، وعلوها سفل ، دار حرب وسلب (3) ونهب وعطب ، أهلها على ساق وسياق ، ولحاق وفراق (4)
    __________________
    (1) خالب : خادع ، والمحروبة : المنهوبة
    (2) المتصدية : المرأة تتعرض للرجال تميلهم إليها ، ومن الدواب : ما تمشى معترضة خابطة. والعنون ـ بفتح فضم ـ : مبالغة من «عن» إذا ظهر ، ومن الدواب : المتقدمة فى السير. شبه الدنيا بالمرأة المتبرجة المستميلة ، أو بالدابة تسبق الدواب ، وإن لم يدم تقدمها ، أو الخابطة على غير طريق. والجامحة : الصعبة على راكبها ، والحرون : التى إذا طلب بها السير وقفت ، والمائنة : الكاذبة ، والخؤون : مبالغة فى الخائنة. والكنود : من «كند» كنصر ـ : كفر النعمة ، وجحد الحق : أنكره وهو به عالم. والعنود : شديد العناد ، والصدود : كثيرة الصد والهجر. والحيود : مبالغة فى الحيد بمعنى الميل. والميود : من «ماد» إذا اضطرب. يريد بهذه الأوصاف أن الدنيا فى طبيعتها لؤم : فمن سالمها حاربته ، ومن حاربها سالمته
    (3) الحرب ـ بالتحريك ـ : سلب المال ، والعطب : الهلاك.
    (4) أى : قائمون على ساق استعدادا لما ينتظرون من آجالهم ، والساق : مصدر «ساق فلانا» إذا أصاب ساقه ، مثل «رأسه» إذا أصاب رأسه ، و «جلده» أى : أصاب جلده ، و «رآه» أى : أصاب رئته ، و «وجهه» أى : أصاب وجهه ، وهذه الأفعال كلها مفتوحة العين ، أى : ولا يلبثون أن يضربوا على سوقهم فينكبوا للموت على وجوههم ، أو هو السياق بمعنى الشروع فى نزع الروح ، من «ساق المريض سياقا» واللحاق : للماضين ، والفراق : للباقين

    قد تحيّرت مذاهبها ، وأعجزت مهاربها (1). وخابت مطالبها ، فأسلمتهم المعاقل ، ولفظتهم المنازل ، وأعيتهم المحاول (2) فمن ناج معقور (3) ، ولحم مجزور ، وشلو مذبوح ، ودم مسفوح ، وعاضّ على يديه ، وصافق بكفّيه ، ومرتفق بخدّيه (4) ، وزار على رأيه ، وراجع عن عزمه ، وقد أدبرت الحيلة ، وأقبلت الغيلة (5) ولات حين مناص ، هيهات [هيهات]!! قد فات ما فات ، وذهب ما ذهب ، ومضت الدّنيا لحال بالها (6) «فَمٰا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمٰاءُ وَاَلْأَرْضُ وَمٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ»
    __________________
    (1) تحير المذاهب : حيرة الناس فيها ، والمهارب : جمع مهرب ، وهو مكان الهرب ، وإنّما أعجزت الناس عن الهروب لأنها ليست كما يرونها مهارب بل هى مهالك
    (2) المحاول : جمع محال ـ بفتح الميم ـ أو محالة : بمعنى الحذق وجودة النظر ، أى : لم يفدهم ذلك خلاصا
    (3) أى : فمنهم ناج من الموت ، معقور : أى مجروح ، وهو من «عقر الشاة والبعير» إذا ضرب ساقه بالسيف وهو قائم. والمجزور : المسلوخ الذى أخذ عنه جلده ، والشلو ـ بالكسر ـ هنا البدن كله ، والمسفوح : المسفوك
    (4) المرتفق بخديه : واضع خديه على مرفقيه ، ومرفقيه على ركبتيه منصوبتين وهو جالس على إليته ، وهذه الأوصاف كناية عن الندم على التفريط والافراط. والزارى على رأيه : المقبح له اللائم لنفسه عليه
    (5) الغيلة : الشر الذى أضمرته الدنيا فى خداعها ، «ولات حين مناص» أى : ليس الوقت وقت التملص والفرار
    (6) البال : القلب والخاطر ، والمراد ذهبت على ما تهواه لا على ما يريد أهلها

    187 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    تسمى القاصعة (1)
    وهى تتضمن ذم إبليس [لعنه اللّه] على استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام وأنه أول من أظهر العصبية (2) وتبع الحمية ، وتحذير الناس من سلوك طريقته الحمد للّه الّذى لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره (3) ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده. ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب. «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ»
    __________________
    (1) من «قصع فلان فلانا» أى : حقره ، لأنه عليه السلام حقر فيها حال المتكبرين ، أو من «قصع الماء عطشه» إذا أزاله ، لأن سامعها لو كان متكبرا ذهب تأثيرها بكبره كما يذهب الماء بالعطش
    (2) العصبية : الاعتزاز بالعصبة ، وهى قوم الرجل الذين يدافعون عنه ، واستعمال قوتهم فى الباطل والفساد ، فهى هنا عصبية الجهل ، كما أن الحمية حمية الجاهلية. أما التناصر فى الحق والحمية عليه فهو أمر محمود فى جميع أحواله. والكبر على الباطل تواضع للحق
    (3) الحمى : ما حميته عن وصول الغير إليه والتصرف فيه. وفى الحديث : «ألا وإن لكل ملك حمى ، وحمى اللّه محارمه» (11 ـ ن ج ـ 2)

    اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ اللّه إمام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين ، الّذى وضع أساس العصبيّة ، ونازع اللّه رداء الجبريّة ، وادّرع لباس التّعزّز ، وخلع قناع التّذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره؟ ووضعه اللّه بترفّعه؟ فجعله فى الدّنيا مدحورا ، وأعدّ له فى الآخرة سعيرا.
    ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه (1) ، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه ، لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم.
    فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس ، إذ أحبط عمله الطّويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنى الدّنيا أم سنى الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة (2) فمن [ذا] بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته (3)؟ كلاّ! ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها
    __________________
    (1) الرواء ـ بضم ففتح ـ : حسن المنظر ، والعرف ـ بالفتح ـ : الرائحة
    (2) «عن» متعلق بأحبط ، أى : أضاع عمله بسبب كبر ساعة
    (3) أى : يسلم من عتابه ، وكأنه استعمل «سلم» بمعنى ذهب أو فات فأتى بعلى

    ملكا ، إنّ حكمه فى أهل السّماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة فى إباحة حمى حرّمه على العالمين (1) فاحذروا عباد اللّه [عدوّ اللّه] أن يعديكم بدائه (2) ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمرى لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنّزع الشّديد (3) ، ورماكم من مكان قريب (4) وقال : «رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظنّ مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة (5) وإخوان العصبيّة ، وفرسان الكبر والجاهليّة ، حتّى إذا انقادت له الجامحة منكم (6) ،
    __________________
    (1) الهوادة ـ بالفتح ـ : اللين والرخصة
    (2) «أن يعديكم بدائه» أى : أن يصيبكم بشىء من دائه بالمخالطة كما يعدى الأجرب السليم ، والضمير لابليس ، ويستفزكم : يستنهضكم لما يريد ، فان تباطأتم عليه أجلب عليكم بخيله ـ أى : ركبانه ـ ورجله ـ أى : مشاته ـ والمراد أعوان السوء
    (3) النزع فى القوس : مدها ، وأغرق النازع : إذا استوفى مد قوسه
    (4) لأنه يجرى من ابن آدم مجرى الدم
    (5) صدق إبليس فى توعد بنى آدم بالاغواء ، أولئك الغشماء أبناء الحمية الجاهلية
    (6) أى : استعان ببعضكم على من لم يطعه منكم ، وهو المراد بالجامحة. والطماعية : الطمع. وقوله «فنجمت الخ» أى : بعد أن كانت وسوسة فى الصدور وهمسا فى القول ظهرت إلى المجاهرة بالنداء ورفع الأيدى بالسلاح. ودلفت الكتيبة فى الحرب : تقدمت ، وأقحموكم : أدخلوكم بغتة ، والولجات : جمع ولجة ـ بالتحريك ـ : وهى كهف يستتر فيه المارة من مطر ونحوه ، «أوطأه» : أركبه ، وإثخان الجراحة : المبالغة فيها ، أى : أركبوكم الجراحات البالغة ، كناية عن إشعال الفتنة بينهم حتى يتقاتلوا. والخزائم : جمع خزامة ـ ككتابة ـ وهى حلقة توضع فى وترة أنف البعير فيشد فيها الزمام

    واستحكمت الطّماعية منه فيكم ، فنجمت الحال من السّرّ الخفىّ إلى الأمر الجلىّ ، استفحل سلطانه عليكم ، ودلف بجنوده نحوكم ، فأقحموكم ولجات الذّلّ ، وأحلّوكم ورطات القتل ، وأوطأوكم إثخان الجراحة : طعنا فى عيونكم وحزّا فى حلوقكم ، ودقّا لمناخركم ، وقصدا لمقاتلكم ، وسوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة [لكم] فأصبح أعظم فى دينكم جرحا (1) وأورى فى دنياكم قدحا ، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين ، وعليهم متألّبين ، فاجعلوا عليه حدّكم (2) وله جدّكم! فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم ، ووقع فى حسبكم ، ودفع فى نسبكم ، وأجلب بخيله عليكم ، وقصد برجله سبيلكم : يقتنصونكم بكلّ مكان ، ويضربون منكم كلّ بنان (3) لا تمتنعون بحيلة ، ولا تدفعون بعزيمة
    __________________
    (1) فأصبح : أى إبليس ، ويروى «فأصبحتم أعظم فى دينكم حرجا» وقوله «وأورى ـ الخ» أى : أشد قدحا للنار فى دنياكم لاتلافها. وعلى الجملة فهو أضر عليكم بوساوسه من إخوانكم فى الانسانية الذين أصبحتم لهن مناصبين ، أى : مجاهرين لهم بالعداوة ، ومتألبين : أى مجتمعين
    (2) حدكم ـ بالحاء المهملة ـ أى : غضبكم وحدتكم ، تقول : حددت على الرجل أحد ـ مثل خففت أخف ـ إذا غضبت عليه ، والمصدر الحد ـ بفتح الحاء ـ والحدة ـ بكسرها ـ «وله جدكم» ـ بفتح الجيم ـ أى : قطعكم ، يريد قطع الوصلة بينكم وبينه ، وتقول : جد الشىء يجده جدا ـ على مثال رده يرده ردا ـ إذا قطعه
    (3) البنان : الأصابع

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:53 pm

    فى حومة ذلّ ، وحلقة ضيق ، وعرصة موت ، وجولة بلاء. فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشّيطان ونخواته ، ونزغاته ونفثاته (1) واعتمدوا وضع التّذلّل على رءوسكم ، وإلقاء التّعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التّكبّر من أعناقكم ، واتّخذوا التّواضع مسلحة (2) بينكم وبين عدوّكم : إبليس وجنوده فإنّ له من كلّ أمّة جنودا وأعوانا ، ورجلا وفرسانا. ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، وقدحت الحميّة فى قلبه من نار الغضب ، ونفخ الشّيطان فى أنفه من ريح الكبر الّذى أعقبه اللّه به النّدامة ، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة.
    ألا وقد أمعنتم فى البغى (3) ، وأفسدتم فى الأرض ، مصارحة للّه بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة! فاللّه اللّه فى كبر الحميّة ، وفخر الجاهليّة ، فانّه ملاقح الشّنآن (4) ، ومنافخ الشّيطان ، الّتى خدع بها الأمم الماضية ، والقرون الخالية ،
    __________________
    (1) النخوة : التكبر والتعاظم. والنزغة : المرة من النزغ بمعنى الافساد. والنفثة : النفخة
    (2) المسلحة : الثغر يدافع العدو عنده ، والقوم ذوو السلاح
    (3) أمعنتم : بالغتم. والمصارحة : التظاهر
    (4) الملاقح : جمع ملقح كمكرم : الفحول التى تلقح الاناث وتستولد الأولاد ، والشنآن : البغض

    حتّى أعنقوا فى حنادس جهالته (1)! ومهاوى ضلالته ، ذللا على سياقه سلسا فى قياده ، أمرا تشابهت القلوب فيه ، وتتابعت القرون عليه ، وكبرا تضايقت الصّدور به ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم (2) ، وجاحدوا اللّه على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه (3)!! فإنّهم قواعد أساس العصبيّة ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهليّة (4) ، فاتّقوا اللّه ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ، ولا لفضله عندكم حسّادا! ولا تطيعوا
    __________________
    (1) أعنقوا : من «أعنقت الثريا» غابت ، أى غابوا واختفوا ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء ـ وهو الظلام الشديد ، والمهاوى : جمع مهواة ، وهى الهوة التى يتردى فيها الصيد. والذلل : جمع ذلول ، من الذل ـ بالضم ـ ضد الصعوبة ، والسياق هنا : السوق ، والسلس ـ بضمتين ـ جمع سلس ـ ككتف ـ : وهو السهل ، والقياد من أمام كالسوق من خلف
    (2) الهجينة : الفعلة القبيحة ، والتهجين : التقبيح ، وأصل هذه المادة الهجنة ـ بضم الهاء وسكون الجيم ـ وهى فى الناس والخيل أن يكون الأب كريما والأم ليست كذلك ، وعكس هذا يسمى الاقراف ، وهو أن تكون الأم كريمة والأب ليس كذلك ، أى : إنهم باحتقار غيرهم من الناس قبحوا خلق اللّه لهم
    (3) الآلاء : النعم
    (4) اعتزاء الجاهلية : تفاخرهم بأنسابهم : كل منهم يعتزى ـ أى : ينتسب ـ إلى أبيه وما فوقه من أجداده ، وكثيرا ما يجر التفاخر إلى الحرب ، وهى إنما تكون بدعوة الرؤساء ، فهم سيوفها

    الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم (1) وأدخلتم فى حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال ، وجندا بهم يصول على النّاس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم ، ودخولا فى عيونكم ، ونفثا فى أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله (2) ، وموطىء قدمه ، ومأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته ، ووقائعه ومثلاته (3) ، واتّعظوا بمثاوى خدودهم (4) ، ومصارع جنوبهم. واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر (5) كما تستعيذون [به] من طوارق الدّهر ، فلو رخّص اللّه فى الكبر لأحد من
    __________________
    (1) الأدعياء : جمع دعى ، وهو من ينتسب إلى غير أبيه. والمراد منهم الأخساء المنتسبون إلى الأشراف ، والأشرار المنتسبون إلى الأخيار. و «شربتم بصفوكم كدرهم» أى : خلطوا صافى إخلاصكم بكدر نفاقهم ، وبسلامة أخلاقكم مرض أخلاقهم. والأحلاس : جمع حلس ـ بالكسر ـ : وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له ، أو هو كساء تبسط تحت حر الثياب ، فقيل لكل ملازم لشىء هو حلسه ، وفى الحديث «كن حلس بيتك» أى : لا تبرحه ، والعقوق : العصيان
    (2) النبل ـ بالفتح ـ : السهام العربية ، وهى مؤنثة ولا واحد لها من لفظها ، وقد جمعوها على نبال ـ كرجال ـ وأنبال
    (3) المثلات ـ بفتح فضم ـ العقوبات
    (4) مثاوى : جمع مثوى بمعنى المنزل ، ومنازل الخدود : مواضعها من الأرض بعد الموت ، ويروى «بمثاوى خلودهم» ، ومصارع الجنوب : مطارحها على التراب
    (5) لواقح الكبر : محدثاته فى النفوس

    عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه [وأوليائه] ، ولكنّه ـ سبحانه ـ كرّه إليهم التّكابر ، ورضى لهم التّواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا فى التّراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، وكانوا أقواما مستضعفين وقد اختبرهم اللّه بالمخمصة (1) ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ، ومخضهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرّضا والسّخط بالمال والولد (2) جهلا بمواقع الفتنة ، والاختبار فى مواضع الغنى والاقتدار ، وقد قال سبحانه وتعالى «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَبَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ» فإنّ اللّه ـ سبحانه ـ يختبر عباده المستكبرين فى أنفسهم ، بأوليائه المستضعفين فى أعينهم ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون ، عليهما السّلام ، على فرعون وعليهما مدارع الصّوف وبأيديهما العصىّ فشرطا له إن أسلم بقاء
    __________________
    (1) المخمصة : الجوع ، والمجهدة : المشقة. ومخض اللبن : تحريكه ليخرج زبده وبابه قطع ونصر وضرب. والمكاره تستخلص إيمان الصادقين وتظهر مزاياهم العقلية والنفسية. وروى «محصهم» ـ بالحاء والصاد المهملتين ـ أى : طهرهم وزكاهم. وأصل المحص والتمحيص تخليص الشىء مما فيه من عيب ، تقول : محصت الذهب ـ مخففا ومشددا ـ إذا أزلته عنه ما يشوبه. وفى التنزيل : «وَلِيُمَحِّصَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا»
    (2) لا تجعلوا كثرة الأولاد ووفرة الأموال دليلا على رضا اللّه ، والنقص فيهما دليلا على سخطه ، فقد يكون الأول فتنة واستدراجا ، والثانى محنة وابتلاء

    ملكه ودوام عزّه فقال : «ألا تعجبون من هذين يشرطان لى دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذّلّ ، فهلاّ ألقى عليهما أساور من ذهب؟!» إعظاما للذّهب وجمعه ، واحتقارا للصّوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان (1) ومعادن العقيان ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طير السّماء ووحوش الأرض لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء (2) وبطل الجزاء ، واضمحلّت الأنباء ، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها (3) ولكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولى قوّة فى عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى (4)
    __________________
    (1) الذهبان ـ بضم الذال ـ : جمع ذهب ، والعقيان نوع من الذهب ينمو فى معدنه
    (2) لو كان الأنبياء بهذه السلطة لخضع لهم الناس كافة بحكم الاضطرار ، فسقط البلاء ـ أى : ما به يتميز الخبيث من الطيب ـ ولم يبق محل للجزاء على خير أو شر ، فان الفعل اضطرارى. وبذلك تضمحل أخبار السماء بالوعد والوعيد ، لعدم الحاجة ، ثم لا يكون للقابلين دعوة الأنبياء أجور المبتلين ـ أى : الممتحنين بالشدائد ـ الصابرين على المكاره ، لاستوائهم مع من قبل بالسطوة
    (3) فان الخضوع بالرهبة يسمى إذ ذاك إيمانا ، مع أن الايمان فى الحقيقة هو الاذعان والتصديق ، فلا يكون معنى الاسم لازما له
    (4) خصاصة : فقر وحاجة ، والخصاص ـ كسحاب ـ مثله

    ولو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزّة لا تضام ، وملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال ، وتشدّ إليه عقد الرّحال ، لكان ذلك أهون على الخلق فى الاعتبار (1) ، وأبعد لهم فى الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النّيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكنّ اللّه ـ سبحانه ـ أراد أن يكون الاتّباع لرسله ، والتّصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل.
    أ لا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ، صلوات اللّه عليه ، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، (2) ولا تسمع ولا تبصر.
    فجعلها بيته الحرام الّذى جعله للنّاس قياما ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض
    __________________
    (1) أى : أضعف تأثيرا فى القلوب من جهة اعتبارها واتعاظها ، وأبعد للناس ـ أى : أشد : توغلا بهم فى الاستكبار ـ لأن الأنبياء يكونون قدوة فى العظمة والكبرياء حينئذ. وقوله «فكانت النيات مشتركة» أى : لأن الايمان لم يكن خالصا للّه ، بل أعظم الباعث عليه الرغبة والرهبة
    (2) الأحجار : هى الكعبة ، والنتائق : جمع نتيقة ، وهى البقاع المرتفعة. ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط منها من البلدان ، والمدر : قطع الطين اليابس ، أو العلك الذى لا رمل فيه ، وأقل الأرض مدرا لا ينبت إلا قليلا

    حجرا ، وأقلّ نتائق الأرض مدرا. وأضيق بطون الأودية قطرا : بين جبال خشنة ، ورمال دمثة (1) ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خفّ ، ولا حافر ولا ظلف (2). ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه (3) ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم. تهوى إليه ثمار الأفئدة (4) من مفاوز قفار سحيقة. ومهاوى فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يهلّلون للّه حوله (5) ، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له ، قد
    __________________
    (1) دمثة : لينة يصعب السير فيها والاستنبات منها ، وتقول : دمث المكان دمثا فهو دمث ـ من باب تعب تعبا فهو تعب ـ إذا لان وسهل ، وقد يخفف المصدر بسكون ميمه. وتقول : دمث الرجل دماثة ، أى : سهل خلقه. والوشلة ـ كفرحة ـ : قليلة الماء
    (2) لا يزكو : لا ينمو ، والخف : عبارة عن الجمال ، والحافر : عبارة عن الخيل وما شاكلها. والظلف : عبارة عن البقر والغنم ، تعبير عن الحيوان بما ركبت عليه قوائمه
    (3) ثنى عطفه اليه : مال وتوجه اليه ، ومنتجع الأسفار : محل الفائدة منها ، ومكة صارت بفريضة الحج دارا للمنافع التجارية كما هى دار لكسب المنفعة الأخروية و «ملقى» : مصدر ميمى من «ألقى» أى : نهاية حط رحالهم عن ظهور إبلهم
    (4) تهوى : تسرع اليه ، والثمار : جمع ثمرة. والمراد هنا الأرواح ، والمفاوز : جمع مفازة ، وهى الفلاة لا ماء بها ، والسحيقة : البعيدة ، والمهاوى كالهوات : منخفضات الأراضى ، والفجاج : الطرق الواسعة بين الجبال ، واجد هافج
    (5) «يهزوا» أى : يحركوا مناكبهم ـ أى : روءوس أكتافهم ـ للّه ، يرفعون أصواتهم بالتلبية ، وذلك فى السعى والطواف. والرمل : ضرب من السير فوق المشى ودون الجرى. والأشعث : المنتشر الشعر مع تلبد فيه ، والأغبر : من علا بدنه الغبار

    نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم (1) ، وشوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم ، ابتلاء عظيما ، وامتحانا شديدا ، واختبارا مبينا ، وتمحيصا بليغا ، جعله اللّه سببا لرحمته ، ووصلة إلى جنّته. ولو أراد ـ سبحانه ـ أن يضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام ، بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار (2) ، جمّ الأشجار ، دانى الثّمار ، ملتفّ البنى ، متّصل القوى ، بين برّة سمراء (3) ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، ورياض ناضرة ، وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ، ولو كان الإساس المحمول عليها (4) ، والأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ فى الصّدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الرّيب من النّاس (5) ، ولكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع
    __________________
    (1) السرابيل : الثياب ، واحدها سربال ـ بكسر فسكون ـ وسربله فتسربل ، أى : ألبسه السربال فلبسه ، وإعفاء الشعور : تركها بلا حلق ولا قص
    (2) القرار : المطمئن من الأرض ، وجم الأشجار : كثيرها. والبنى : جمع بنية ـ بضم الباء ، وكسرها ـ : ما ابتنيته ، وملتف البنى : كثير العمران
    (3) البرة : الحنطة ، والسمراء أجودها. والأرياف : الأراضى الخصبة ، والعراص : جمع عرصة ، وهى الساحة ليس بها بناء ، والمحدقة : من «أحدقت الروضة» إذا صارت ذات شجر ، والمغدقة : من «أغدق المطر» إذا كثر ماؤه
    (4) الاساس ـ بكسر الهمزة ـ : جمع أس ـ مثلثها ـ أو أساس
    (5) الاعتلاج : الالتطام ، تقول «اعتلجت الأمواج» إذا التطمت ، أى : زال تلاطم الريب والشك من صدور الناس

    الشّدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم ، وإسكانا للتّذلّل فى نفوسهم ، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله (1) ، وأسبابا ذللا لعفوه.
    فاللّه اللّه فى عاجل البغى ، وآجل وخامة الظّلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنّها مصيدة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة (2) ، فما تكدى أبدا (3) ، ولا تشوى أحدا : لا عالما لعلمه ، ولا مقلاّ فى طمره (4) ، وعن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين (5) بالصّلوات والزّكوات ، ومجاهدة الصّيام فى الأيّام المفروضات ، تسكينا لأطرافهم (6) ،
    __________________
    (1) فتحا ـ بضمتين ـ أى : مفتوحة واسعة
    (2) «تساور القلوب» أى : تواثبها وتقاتلها
    (3) أكدى الحافر : إذا عجز عن التأثير فى الأرض ، وأشوت الضربة : أخطأت المقتل ، وأصله الشوى ـ بوزان النوى ـ وهو الأطراف وكل ما ليس مقتلا كالقوائم ، فقالوا «اشواه» أى : أصاب شواه ولم يقتله
    (4) الطمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق ، أو الكساء البالى من غير الصوف ، أى : إن البغى والظلم والكبر هى آلات إبليس وأسلحته المهلكة : لا ينجو منها العالم فضلا عن الجاهل ، ولا الفقير فضلا عن الغنى
    (5) «ما حرس» أى : حراسة اللّه للمؤمنين بالصلوات الخ ناشئة عن ذلك ، فهذه الفرائض لتخليص النفوس من تلك الوسائل
    (6) الأطراف : الأيدى والأرجل

    وتخشيعا لأبصارهم ، وتذليلا لنفوسهم ، وتخفيضا لقلوبهم ، وإذهابا للخيلاء عنهم ، لما فى ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا (1) ، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا ، ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا ، مع ما فى الزّكاة من صرف ثمرات الأرض ، وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر (2). انظروا إلى ما فى هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر (3) وقدع طوالع الكبر ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشىء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء ، غيركم (4) ، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب ولا علّة : أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله ، وطعن عليه فى خلقته. فقال : (أنا نارىّ وأنت طينىّ) وأمّا
    __________________
    (1) عتاق الوجوه : كرامها ، وهو جمع عتيق من «عتق» إذا رقت بشرته. والمتون : الظهور
    (2) هذا نوع من تحكيم الفقراء فى أموال الأغنياء ، وتسليط لهم عليهم ، وفيه إضعاف لكبر الأغنياء
    (3) القمع : القهر ، وتقول : قمعته ـ مثل منعته ـ وأقمعته ، أى : قهرته وأذللته والنواجم : جمع ناجمة من «نجم» إذا طلع وظهر ، والقدع : الكف والمنع ، وتقول : قدعه ـ مثل منعه ـ وأقدعه أيضا ، إذا كفه وكبح جماحه
    (4) «تليط ، وتلوط» أى : تلصق ، وقوله «غيركم» أى : أنتم ، فانكم تتعصبون لا عن حجة يقبلها السفيه ، ولا عن علة تحتمل التمويه

    الأغنياء من مترفة الأمم (1) فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم ، فقالوا : «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَأَوْلاٰداً وَمٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الأفعال ، ومحاسن الأمور الّتى تفاضلت فيها المجداء والنّجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل (2) بالأخلاق الرّغيبة ، والأحلام العظيمة ، والأخطار الجليلة ، والآثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد : من الحفظ للجوار (3) ، والوفاء بالذّمام ، والطّاعة للبرّ ، والمعصية للكبر ، والأخذ بالفضل ، والكفّ عن البغى ، والإعظام للقتل ، والإنصاف للخلق ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفساد فى الأرض واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (4) بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال ، فتذكّروا فى الخير والشّرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم
    __________________
    (1) المترف ـ على صيغة اسم المفعول ـ الموسع له فى النعم يتمتع بما شاء من الملذات. و «آثار مواقع النعم» ما ينشأ عنها من التعالى والتكبر. وعلة إبليس والأمم المترفة وإن كانت فاسدة إلا أنها شىء فى جانب ما تتعلل به القبائل فى مقاتلة بعضها بعضا
    (2) اليعاسيب : جمع يعسوب ، وهو أمير النحل ، ويستعمل مجازا فى رئيس القوم كما هنا. و «الأخلاق الرغيبة» : المرضية المرغوبة. والأحلام : العقول
    (3) الجوار ـ بالكسر ـ : المجاورة ، بمعنى الاحتماء بالغير من الظلم ، والذمام ـ ككتاب ـ : العهد
    (4) العقوبات

    فإذا تفكّرتم فى تفاوت حاليهم (1) ، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم (2) وزاحت الأعداء له عنهم ، ومدّت العافية فيه عليهم ، وانقادت النّعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم : من الاجتناب للفرقة (3) واللّزوم للألفة ، والتّحاضّ عليها ، والتّواصى بها ، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم (4) وأوهن منّتهم : من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصّدور ، وتدابر النّفوس ، وتخاذل الأيدى ، وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم : كيف كانوا فى حال التّمحيص والبلاء (5)؟ ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدّنيا حالا؟ اتّخذتهم الفراعنة عبيدا ، فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المرار (6) فلم تبرح الحال بهم فى ذلّ الهلكة ، وقهر
    __________________
    (1) من سعادة وشقاء
    (2) «لزمت العزة به شأنهم» أى : كان سببا فى عزتهم وما يتبعها من الأحوال الآتية ، و «مدت» أى : انبسطت
    (3) «من الاجتناب» بيان لأسباب العزة وبعد الأعداء وانبساط العافية وانقياد النعمة والصلة بحبل الكرامة
    (4) الفقرة ـ بالكسر والفتح ـ كالفقارة ـ بالفتح ـ ما انتظم من عظم الصلب من الكاهل إلى عجز الذنب. و «أوهن» أى : أضعف ، والمنة ـ بضم الميم ـ القوة
    (5) التمحيص : الابتلاء والاختبار
    (6) المرار ـ بضم ففتح ـ : شجر شديد المرارة تتقلص منه شفاه الابل إذا أكلته ، أى : جرعوهم عصارته

    الغلبة : لا يجدون حيلة فى امتناع ، ولا سبيلا إلى دفاع ، حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على الأذى فى محبّته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضايق البلاء فرجا : فأبدلهم العزّ مكان الذّلّ ، والأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكّاما ، وأئمّة أعلاما ، و [قد] بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تبلغ الآمال إليه بهم فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة (1) ، والأهواء متّفقة ، والقلوب معتدلة ، والأيدى مترادفة ، والسّيوف متناصرة ، والبصائر نافذة والعزائم واجدة؟! ألم يكونوا أربابا فى أقطار الأرضين (2) وملوكا على رقاب العالمين؟؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه فى آخر أمورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتّتت الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته (3) وبقى قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين [منكم] واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبنى إسحاق وبنى إسرائيل ـ عليهم السّلام ـ
    __________________
    (1) الأملاء : جمع ملأ ، بمعنى الجماعة والقوم. والأيدى المترادفة : المتعاونة
    (2) أربابا : سادات.
    (3) غضارة النعمة ـ كسحابة ـ سعتها ، وقصص الأخبار : حكايتها وروايتها «12 ـ ن ـ ج ـ 2»

    فما أشدّ اعتدال الأحوال (1) ، وأقرب اشتباه الأمثال!!!
    تأمّلوا أمرهم فى حال تشتّتهم ونفرّقهم ، ليالى كانت الأكاسرة والقياصرة أربابا لهم يحتازونهم عن ريف الآفاق (2) وبحر العراق ، وخضرة الدّنيا ، إلى منابت الشّيح ، ومهافى الرّيح (3) ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر ووبر (4) أذلّ الأمم دارا ، وأجدبهم قرارا ، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها (5) ولا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها ، فالأحوال مضطربة ، والأيدى مختلفة ، والكثرة متفرّقة. فى بلاء أزل (6) وأطباق جهل من بنات موءودة (7) وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة
    __________________
    (1) الاعتدال هنا : التناسب ، والاشتباه : التشابه
    (2) يحتازونهم : يقبضونهم عن الأراضى الخصبة
    (3) المهافى : المواضع التى تهفو فيها الرياح ـ أى : تهب ـ والنكد ـ بالتحريك ـ أى : الشدة والعسر
    (4) الدبر ـ بالتحريك ـ القرحة فى ظهر الدابة. والوبر : شعر الجمال. والمراد أنهم رعاة
    (5) لا يأوون : لم يكن فيهم داع إلى الحق فيأوون إليه ويعتصمون بمناصرة دعوته.
    (6) «بلاء أزل» على الاضافة ، والأزل ـ بالفتح ـ : الشدة
    (7) من «وأد بنته» كوعد ـ أى : دفنها وهى حية ، وكان بنو إسماعيل من العرب يفعلون ذلك ببناتهم. وشن الغارة عليهم : صبها من كل وجه

    فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم ، حين بعث إليهم رسولا (1) فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفنهم ، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، والتفّت الملّة بهم فى عوائد بركتها (2) ، فأصبحوا فى نعمتها غرقين ، وفى خضرة عيشها فكهين (3)؟! قد تربّعت الأمور بهم (4) فى ظلّ سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب ، وتعطّفت الأمور عليهم فى ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين ، وملوك فى أطراف الأرضين : يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم ، لا تغمز لهم قناة (5) ، ولا تقرع لهم صفاة!! ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة ، وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة (6) ، وإنّ اللّه ـ سبحانه ـ قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة
    __________________
    (1) هو نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم
    (2) يقال «التف الحبل بالحطب» إذا جمعه ، فملة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم جمعتهم بعد تفرقهم وجعلتهم جميعا فى بركاتها العائدة إليهم
    (3) راضين طيبة نفوسهم
    (4) تربعت : أقامت
    (5) هذا وما بعده كناية عن القوة والامتناع من الضيم ، والقناة : الرمح ، وغمزها : جسها باليد لينظر هل هى محتاجة للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك. والصفاة : الحجر الصلد ، وقرعها : صدمها لتكسر
    (6) ثلمتم : خرقتم. وقوله «بأحكام الجاهلية» متعلق بثلمتم

    فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة : الّتى ينتقلون فى ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ـ بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.
    واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا (1) ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه!! تقولون «النّار ولا العار» ، كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه (2) الّذى وضعه اللّه لكم حرما فى أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم ، إلاّ المقارعة بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم.
    وانّ عندكم الأمثال من بأس اللّه وقوارعه ، وأيّامه ووقائعه ، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه ، وتهاونا ببطشه ، ويأسا من بأسه ، فانّ اللّه ـ سبحانه ـ لم يلعن القرن الماضى بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنّهى عن
    __________________
    (1) أى : صرتم من أعراب البادية الذين يكتفى فى إسلامهم بذكر الشهادتين ، وإن لم يخالط الأيمان قلوبهم ، بعد أن كنتم من المهاجرين الصادقين ، والموالاة : المحبة ، والأحزاب المتفرقون : المتقاطعون.
    (2) هو ميثاق الأخوة الدينية

    المنكر ، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصى ، والحلماء لترك التّناهى ألا وقد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتّم أحكامه ، ألا وقد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى والنّكث (1) والفساد فى الأرض : فأمّا النّاكثون فقد قاتلت ، وأمّا القاسطون فقد جاهدت (2) ، وأمّا المارقة فقد دوّخت ، وأمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه ، ورجّة صدره (3) وبقيت بقيّة من أهل البغى ، ولئن أذن اللّه فى الكرّة عليهم لأديلنّ منهم (4) إلاّ ما يتشذّر فى أطراف البلاد تشذّرا.
    أنا وضعت فى الصّغر بكلاكل العرب (5) ، وكسرت نواجم القرون ربيعة
    __________________
    (1) نقض العهد
    (2) القاسطون : الجائرون عن الحق ، وفى التنزيل : «وَأَمَّا اَلْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» بخلاف «المقسطين» من «أقسط» المهموز فان معناه العادلون ، فالهمزة فى فعله للازالة ، ومنه ورد فى أسماء اللّه تعالى «المقسط» والمارقة : الذين مرقوا من الدين ـ أى : خرجوا منه ـ و «دوخهم» أى : أضعفهم وأذلهم.
    (3) الردهة ـ بالفتح ـ : النقرة فى الجبل قد يجتمع فيها ، وشيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا فى ردهة. والصعقة : الغشية تصيب الانسان من الهول. ووجبة القلب : اضطرابه وخفقانه ، ورجة الصدر : اهتزازه وارتعاده
    (4) لأديلن منهم : لأمحقنهم ، ثم أجعل الدولة لغيرهم ، و «ما يتشذر» أى : يتفرق ، أى : لا يفلت منى إلا من يتفرق فى أطراف البلاد
    (5) الكلاكل : الصدور ، عبر بها عن الأكابر ، والنواجم من القرون : الظاهرة الرفيعة يريد بها أشراف القبائل ، و «ربيعة» بدل من القرون ، ويروى «نواجم قرون ربيعة» على الاضافة

    ومضر ، وقد علمتم موضعى من رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعنى فى حجره وأنا ولد يضمّنى إلى صدره ، ويكنفنى فى فراشه ، ويمسّنى جسده ، ويشمّنى عرفه (1) ، وكان يمضغ الشّىء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة فى فعل (2) ، ولقد قرن اللّه به ، صلّى اللّه عليه وآله ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه (3) يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه علما ، ويأمرنى بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء (4) ، فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وخديجة ، وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحى والرّسالة ، وأشمّ ريح النّبوّة ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحى عليه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الرّنّة؟ فقال : «هذا الشّيطان أيس من عبادته ،
    __________________
    (1) عرفه ـ بالفتح ـ : رائحته الذكية
    (2) الخطلة : واحدة الخطل ، كالفرحة واحدة الفرح ، والخطل : الخطأ ينشأ من عدم الروية.
    (3) الفصيل : ولد الناقة
    (4) حراء ـ بكسر الحاء ـ : جبل على القرب من مكة. كان الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم يتعبد فيه قبل البعثة

    إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير». ولقد كنت معه ، صلّى اللّه عليه وآله ، لمّا أتاه الملأ من قريش ، فقالوا له : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن [أنت] أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبىّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. فقال صلّى اللّه عليه وآله :
    وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك. فقال صلّى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ اللّه على كلّ شىء قدير ، فإن فعل اللّه لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّى سأريكم ما تطلبون ، وإنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير (1) ، وإنّ فيكم من يطرح فى القليب (2) ، ومن يحزّب الأحزاب ، ثمّ قال صلّى اللّه عليه وآله : يا أيّتها الشّجرة ، إن كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر وتعلمين أنّى رسول اللّه فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ بإذن اللّه. والّذى بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوىّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطّير (3) ، حتّى وقفت
    __________________
    (1) لا تفيئون : لا ترجعون
    (2) القليب ـ كأمير ـ : البئر ، والمراد منه قليب بدر طرح فيه نيف وعشرون من أكابر قريش ، والأحزاب : طوائف متفرقة من القبائل اجتمعوا على حربه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فى وقعة الخندق
    (3) القصف : الصوت الشديد. و «ريح قاصف» أى : شديدة. و «رعد قاصف» أى : شديد الصوت.

    بين يدى رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، وببعض أغصانها على منكبى وكنت عن يمينه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا واستكبارا : فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّا ، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فقالوا كفرا وعتوّا : فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فرجع فقلت أنا : لا إله إلاّ اللّه ، فإنّى أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه ، وأوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى تصديقا بنبوّتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلّهم : بل ساحر كذّاب! عجيب السّحر خفيف فيه ، وهل يصدّقك فى أمرك إلاّ مثل هذا؟! (يعنوننى) وإنّى لمن قوم لا تأخذهم فى اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصّدّيقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمّار اللّيل ومنار النّهار (1) ، متمسّكون بحبل القرآن ، يحيون سنن اللّه وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون (2) ، ولا يفسدون : قلوبهم فى الجنان ، وأجسادهم فى العمل
    __________________
    (1) عمار : جمع عامر ، أى : يعمرونه بالسهر للفكر والعبادة
    (2) يغلون : يخونون ، وفى التنزيل : (ومن يغلل يأت بما غل) وقال ابن الأثير : الغلول : الخيانة فى المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة ، يقال : غل فى المغنم يغل

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:54 pm

    191 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام ـ يقال له : همام ـ كان رجلا عابدا ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى المتقين حتى كأنى أنظر إليهم! فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همّام اتّق اللّه وأحسن ف‍ «إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» فلم يقنع همام بهذا بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم قال :
    أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق ـ حين خلقهم ـ غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدّنيا مواضعهم ، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصّواب ، وملبسهم الاقتصاد (1) ، ومشيهم التّواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم فى البلاء كالّتى نزّلت فى الرّخاء (2) ، ولو لا الأجل الّذى
    __________________
    غلولا فهو غال ، وكل من خان خفية فقد غل ، وسميت غلولا لأن الأيدى فيها مغلولة أى : ممنوعة ، مجعول فيها غل ، وهو الحديدة التى تجمع يد الأسير إلى عنقه ، وتسمى جامعة أيضا ـ والأحاديث التى فيها لفظ الغلول كثيرة اه‍
    (1) «ملبسهم ـ الخ» أى : إنهم لا يأتون من شهواتهم إلا بقدر حاجاتهم فى تقويم حياتهم ، فكان الانفاق كثوب لهم على قدر أبدانهم ، لكنهم يتوسعون فى الخيرات
    (2) «نزلت إلى ـ الخ» أى إنهم إذا كانوا فى بلاء كانوا بالأمل فى اللّه كأنهم كانوا فى رخاء ، لا يجزعون ولا يهنون ، وإذا كانوا فى رخاء كانوا من خوف اللّه وحذر النقمة كأنهم فى بلاء ، لا يبطرون ولا يتجبرون.

    كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق فى أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها (1) فهم فيها منعّمون ، وهم والنّار كمن قد رآها ، فهم فيها معذّبون : قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة (2) ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.
    تجارة مربحة (3) يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن : يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم (4) ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى أصول آذانهم (5) ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون
    __________________
    (1) أى : هم على يقين من الجنة والنار كيقين من رآهما ، فكأنهم فى نعيم الأولى وعذاب الثانية ، رجاء وخوفا
    (2) نحافة أجسادهم من الفكر فى صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم
    (3) يقال «أربحت التجارة» إذا أفادت ربحا
    (4) استثار الساكن : هيجه ، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحى للجهل ، فهو دواؤه
    (5) زفير النار : صوت توقدها ، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء أو نهيق الحمار ، أى : إنهم من كمال يقينهم بالنار يتخيلون صوتها تحت جدران آذانهم ، فهم من شدة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلطوا الانحناء على أوساطهم. وفكاك الرقاب : خلاصها.

    لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطّلبون إلى اللّه تعالى فى فكاك رقابهم. وأمّا النّهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف برى القداح (1) ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا (2) ولقد خالطهم أمر عظيم : لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون (3) ، إذا زكّى أحدهم (4) خاف ممّا يقال له! فيقول : أنا أعلم بنفسى من غيرى ، وربّى أعلم بى منّى بنفسى. اللّهمّ لا تؤاخذنى بما يقولون ، واجعلنى أفضل ممّا يظنّون ، واغفر لى ما لا يعلمون.
    فمن علامة أحدهم : أنّك ترى له قوّة فى دين ، وحزما فى لين ، وإيمانا فى يقين ، وحرصا فى علم ، وعلما فى حلم ، وقصدا فى غنى (5) ، وخشوعا فى عبادة ،
    __________________
    (1) القداح : جمع قدح ـ بالكسر ـ وهو السهم قبل أن يراش. وبراه : نحته ، أى : رقق الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنحت
    (2) «خولط فى عقله ، أى : مازجه خلل فيه ، والأمر العظيم الذى خالط عقولهم هو الخوف الشديد من اللّه.
    (3) مشفقون : خائفون من التقصير فيها
    (4) زكى : مدحه أحد
    (5) «قصد» أى : اقتصادا. والتجمل : التظاهر باليسر عند الفاقة ، أى : الفقر

    وتجمّلا فى فاقة ، وصبرا فى شدّة ، وطلبا فى جلال ، ونشاطا فى هدى ، وتحرّجا عن طمع (1) ، يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجل ، يمسى وهمّه الشّكر ويصبح وهمّه الذّكر ، يبيت حذرا ، ويصبح فرحا : حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفضل والرّحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره (2) لم يعطها سؤلها فيما تحبّ ، قرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى (3) ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريبا أمله ، قليلا زلله ، خاشعا قلبه ، قانعة نفسه ، منزورا أكله ، سهلا أمره ، حريزا دينه (4) ، ميتة شهوته ، مكظوما غيظه ، الخير منه مأمول ، والشّرّ منه مأمون ، إن كان فى الغافلين كتب فى الذّاكرين ، وإن كان فى الذّاكرين لم يكتب من الغافلين (5) ، يعفو عمّن ظلمه ، ويعطى من حرمه ، ويصل من قطعه ، بعيدا فحشه (6) ، ليّنا قوله ، غائبا منكره ،
    __________________
    (1) التحرج : عد الشىء حرجا ، أى : إثما ، أى : تباعدا عن طمع
    (2) «إن استصعبت» أى : إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشق عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطائها ما ترغبه من الشهوة
    (3) «ما لا يزول» هو الآخرة ، و «ما لا يبقى» هو الدنيا
    (4) منزورا : قليلا ، و «حريزا» أى : حصينا
    (5) أى : إن كان بين الساكنين عن ذكر اللّه فهو ذاكر له بقلبه ، وإن كان بين الذاكرين بلسانهم لم يكن مقتصرا على تحريك اللسان مع غفلة القلب
    (6) الفحش : القبيح من القول.

    حاضرا معروفه ، مقبلا خيره ، مدبرا شرّه ، فى الزّلازل وقور (1) ، وفى المكاره صبور ، وفى الرّخاء شكور ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحبّ (2) يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكّر ، ولا ينابز بالألقاب (3) ، ولا يضارّ بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل فى الباطل ، ولا يخرج من الحقّ. إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعل صوته ، وإن بغى عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذى ينتقم له. نفسه منه فى عناء ، والنّاس منه فى راحة. أتعب نفسه لآخرته ، وأراح النّاس من نفسه. بعده عمّن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوّه ممّن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوّه بمكر وخدعة قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها (4) ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام :
    أما واللّه لقد كنت أخافها عليه! ثمّ قال : أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟
    __________________
    (1) «فى الزلازل» أى : الشدائد المرعدة ، والوقور : الذى لا يضطرب
    (2) «لا يأثم ـ الخ» أى : لا تحمله المحبة على أن يرتكب إثما لارضاء حبيبه
    (3) أى : لا يدعو غيره باللقب الذى يكرهه ويشمئز منه
    (4) صعق : غشى عليه

    فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين (1) فقال : ويحك! إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه ، وسببا لا يتجاوزه ، فمهلا لا تعد لمثلها ، فإنّما نفث الشّيطان على لسانك!!
    189 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    يصف فيها المنافقين
    نحمده على ما وفّق له من الطّاعة ، وذاد عنه من المعصية (2) ، ونسأله لمنّته تماما ، وبحبله اعتصاما ، ونشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله : خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة (3) ، وتجرّع فيه كلّ غصّة ، وقد تلوّن له الأدنون (4) ، وتألّب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنّتها وضربت لمحاربته بطون رواحلها حتّى أنزلت بساحته عدوانها : من أبعد الدّار ، وأسحق المزار (5)
    __________________
    (1) فما بالك لا تموت مع انطواء سرك على هذه المواعظ البالغة؟ وهذا سؤال الوقح البارد
    (2) ذاد عنه : حمى عنه
    (3) الغمرة : الشدة
    (4) «تلون» أى : تقلب له الأدنون ـ أى : الأقربون ـ فلم يثبتوا معه ، و «تألب» أى : اجتمع على عداوته الأقصون ـ أى : الأبعدون ـ وخلعت العرب أعنتها : جمع عنان ، وهو حبل اللجام ، أى : خرجت عن طاعته فلم تنقد له بزمام. والمراد أنها خلعت الأعنة سرعة إلى حربه ، فان ما لا يمسكه عنان يكون أسرع جريا ، والرواحل : جمع راحلة ، وهى الناقة ، أى : ساقوا ركائبهم إسراعا لمحاربته
    (5) أسحق : أقصى

    أوصيكم ، عباد اللّه بتقوى اللّه ، وأحذّركم أهل النّفاق ، فإنّهم الضّالّون المضلّون ، والزّالّون المزلّون (1) : يتلوّنون ألوانا ، ويفتنّون افتتانا (2) ، ويعمدونكم بكلّ عماد ، ويرصدونكم بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة (3) ، وصفاحهم نقيّة ، [و] يمشون الخفاء (4) ، ويدبّون الضّرّاء. وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العياء (5) ، حسدة الرّخاء (6) ، ومؤكّدو البلاء ، ومقنطو الرّجاء ، لهم بكلّ طريق صريع (7) ، وإلى كلّ قلب شفيع ، ولكلّ شجو دموع (Cool يتقارضون
    __________________
    (1) الزالون : من «زل» أى : أخطأ ، والمزلون : من «أزله» إذا أوقعه فى الخطأ :
    (2) «يفتنون» أى : يأخذون فى فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا : و «يعمدونكم» أى : يقيمونكم بكل عماد ، والعماد : ما يقام عليه البناء ، أى : إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم. والمرصاد : محل الارتقاب ، ويرصدونكم : يقعدون لكم بكل طريق ليحولوكم عن الاستقامة
    (3) «دوية» أى : مريضة ، من الدوى ـ بالقصر ـ وهو المرض ، والصفاح : جمع صفحة ، والمراد منها صفاح وجوههم ، ونقاوتها : صفاؤها من علامات العداوة ، وقلوبهم ملتهبة بنارها.
    (4) يمشون مشى التستر ، و «يدبون» أى : يمشون على هينة دبيب الضراء ، أى : يسرون سريان المرض فى الجسم ، أو سريان النقص فى الأموال والأنفس والثمرات ، كذا قال الأستاذ الامام ، وهو يقتضى ضبط الضراء بالتشديد من الضر ، وعندى أنه كسحاب ، والجملة بمعنى سابقتها
    (5) الداء العياء ـ بالفتح ـ الذى أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.
    (6) حسدة : جمع حاسد ، أى : يحسدون على السعة وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه ، وإذا رجا أحد شيئا أوقعوه فى القنوط واليأس
    (7) الصريع ، المطروح على الأرض ، أى : إنهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أوقعوهم فى الهلكة
    (Cool الشجو : الحزن ، أى : يبكون تصنعا متى أرادوا

    الثّناء (1) ، ويتراقبون الجزاء : إن سألوا ألحفوا (2) ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا ، ولكلّ حىّ قاتلا ، ولكلّ باب مفتاحا ، ولكلّ ليل مصباحا : يتوصّلون إلى الطّمع باليأس ليقيموا به أسواقهم ، وينفقوا به أعلاقهم (3) : يقولون فيشبّهون (4) ، ويصفون فيوهّمون ، قد هوّنوا الطّريق (5) ، وأضلعوا المضيق :
    فهمّ لمّة الشّيطان (6) ، وحمة النّيران «أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ»
    __________________
    (1) يتقارضون : كل واحد منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه إليه ، وكل يعمل للأخر عملا يرتقب جزاءه عليه
    (2) بالغوا فى السؤال وألحوا ، و «إن عذلوا» أى : لاموا كشفوا ـ أى فضحوا ـ من يلومونه
    (3) «ينفقون» أى : يروجون من النفاق ـ بالفتح ـ ضد الكساد ، والأعلاق جمع علق ـ بالكسر ـ وهو الشىء النفيس. والمراد ما يزينونه من خدائعهم
    (4) «يشبهون» الحق بالباطل وقوله «فيوهمون» أى : يبعثون الوهم إلى أذهان سامعيهم ، وفى رواية «فيموهون» أى : يزينون
    (5) يهونون على الناس طرق السير معهم على أهوائهم الفاسدة ، ثم بعد أن ينقادوا لهم يضلعون عليهم المضائق ، أى : يجعلونها معوجة يصعب تجاوزها فيهلكون
    (6) اللمة ـ بضم ففتح ـ الجماعة من الثلاثة إلى العشرة ، والمراد هنا مطلق الجماعة. والحمة ـ بالتخفيف ـ الأبرة تلسع بها العقرب ونحوها. والمراد لهيب النيران.

    190 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الّذى أظهر من آثار سلطانه ، وجلال كبريائه ، ما حيّر مقل العيون من عجائب قدرته (1) ، وردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته (2).
    وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة إيمان وإيقان ، وإخلاص وإذعان. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أرسله وأعلام الهدى دارسة ، ومناهج الدّين طامسة (3) ، فصدع بالحقّ ، ونصح للخلق ، وهدى إلى الرّشد ، وأمر بالقصد ، صلّى اللّه عليه وآله [وسلم].
    واعلموا ، عباد اللّه ، أنّه لم يخلقكم عبثا ، ولم يرسلكم هملا. علم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم ، فاستفتحوه ، واستنجحوه (4) ، واطلبوا إليه واستمنحوه ، فما قطعكم عنه حجاب ، ولا أغلق عنكم دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفى كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ، لا يثلمه العطاء (5) ،
    __________________
    (1) المقل ـ بضم ففتح ـ : جمع مقلة ، وهى شحمة العين التى تجمع البياض والسواد.
    (2) هماهم النفوس : همومها فى طلب العلم
    (3) من «طمس» ـ بفتحات ـ أى : انمحى واندرس ، و «صدع» أى : شق بناء الباطل بصدمة الحق. والقصد : الاعتدال فى كل شىء
    (4) استفتحوه : اسالوه الفتح على أعدائكم ، واستنجحوه : اسألوه النجاح فى أعمالكم واستمنحوه : التمسوا منه العطاء
    (5) ثلم السيف ـ كضرب ـ كسر جانبه ، مجاز عن عدم انتقاص خزائنه بالعطاء. والحباء «13 ـ ن ـ ج ـ 2» ـ ككتاب ـ : العطية لا مكافأة عليها. واستنفده : جعله نافد المال لا شىء عنده. واستقصاه : أتى على آخر ما عنده ، واللّه سبحانه لا نهاية لما لديه من المواهب ، و «لا يلويه» أى : لا يميله ، وتولهه : تذهله ، ويجنه : مضارع أجنه ، ويقال جنه يجنه ـ كيظنه ـ ومعناه يستره ، وكأنه يريد رضى اللّه عنه أن صور الموجودات حجاب بين الوهم وسبحات وجهه وعلو ذاته مانع للعقل عن اكتناهه ، فهو بهذا باطن ، ومع ذلك فالأشياء بذاتها لا وجود لها ، وإنما وجودها نسبتها إليه. فالوجود الحقيقى البرىء من شوائب العدم وجوده ، فالموجودات أشعة ضياء لوجود الحق ، فهو الظاهر على كل شىء ، وبهذا تتبين الأوصاف الآتية

    ولا ينقصه الحباء ، ولا يستنفده سائل ، ولا يستقصيه نائل ، ولا يلويه شخص عن شخص ، ولا يلهيه صوت عن صوت ، ولا تحجزه هبة عن سلب ، ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولهه رحمة عن عقاب ، ولا يجنّه البطون عن الظّهور ، ولا يقطعه الظّهور عن البطون. قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن (1) ، لم يذرإ الخلق باحتيال (2) ، ولا استعان بهم لكلال.
    أوصيكم ، عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، فإنّها الزّمام والقوام (3) ، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة (4) وأوطان السّعة ، ومعاقل
    __________________
    (1) دان : جازى وحاسب ، ولم يحاسبه أحد
    (2) «ذرأ» أى : خلق ، والاحتيال : التفكر فى العمل وطلب التمكن من إبرازه ولا يكون إلا من العجز ، والكلال : الملل من التعب
    (3) التقوى : زمام يقود للسعادة ، وقوام ـ بالفتح ـ أى : عيش يحيا به الأبرار
    (4) الأكنان : جمع كن ـ بالكسر ـ وهو ما يستكن به ، والدعة : خفض العيش وسعته ، والمعاقل : الحصون ، والحرز : الحفظ

    الحرز ، ومنازل العزّ ، فى يوم تشخص فيه الأبصار ، وتظلم الأقطار ، وتعطّل فيه صروم العشار (1) ، وينفخ فى الصّور ، فتزهق كلّ مهجة ، وتبكم كلّ لهجة ، وتذلّ الشّمّ الشّوامخ (2) ، والصّمّ الرّواسخ ، فيصير صلدها سرابا رقرقا (3) ومعهدها قاعا سملقا ، فلا شفيع [يشفع] ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة تنفع
    191 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بعثه حين لا علم قائم (4) ، ولا منار ساطع ، ولا منهج واضح : أوصيكم عباد اللّه ، بتقوى اللّه ، وأحذّركم الدّنيا ، فإنّها دار شخوص (5) ومحلّة تنغيص ،
    __________________
    (1) الصروم : جمع صرمة بالكسر ـ وهى قطعة من الابل فوق العشرة إلى تسعة عشر ، أو فوق العشرين إلى الثلاثين ، أو الأربعين أو الخمسين. والعشار : جمع عشراء ـ بضم ففتح ، كنفساء ـ وهى الناقة مضى لحملها عشرة أشهر. وتعطيل جماعات الابل : إهمالها من الرعى ، والمراد أن يوم القيامة تهمل فيه نفائس الأموال لاشتغال كل شخص بنجاة نفسه
    (2) الشم : جمع أشم ، أى : رفيع ، والشامخ : المتسامى فى الارتفاع ، والصم : جمع أصم ، وهو الصلب المصمت ، أى : الذى لا تجويف فيه. والراسخ : الثابت
    (3) الصلد : الصلب الأملس ، والسراب : ما يخيله ضوء الشمس كالماء خصوصا فى الأراضى السبخة وليس بماء ، والرقرق ـ كجعفر ـ المضطرب ، ومعهدها : المحل الذى كان يعهد وجودها فيه ، والقاع : ما اطمأن من الأرض ، والسملق ـ كجعفر ـ المستوى ، أى : تنسف تلك الجبال ويصير مكانها قاعا صفصفا ، أى : مستويا
    (4) الضمير البارز فى «بعثه» للنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم
    (5) الشخوص : الذهاب والانتقال إلى بعيد ، وبابه خضع

    ساكنها ظاعن ، وقاطنها بائن (1) ، تميد بأهلها ميدان السّفينة تقصفها العواصف فى لجج البحار (2) ، فمنهم الغرق الوبق (3) ، ومنهم النّاجى على بطون الأمواج ، تحفزه الرّياح بأذيالها ، وتحمله على أهوالها ، فما غرق منها فليس بمستدرك ، وما نجا منها فإلى مهلك!! عباد اللّه ، الآن فاعملوا ، والألسن مطلقة ، والأبدان صحيحة ، والأعضاء لدنة (4) ، والمنقلب فسيح ، والمجال عريض ، قبل إرهاق الفوت (5) ، وحلول الموت ، فحقّقوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه!
    192 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم (6) ، أنّى
    __________________
    (1) بائن : مبتعد منفصل
    (2) تميد : تضطرب اضطراب السفينة ، تقصفها ـ أى : تكسرها ـ الرياح الشديدة
    (3) الوبق ـ بكسر الباء ـ : الهالك ، أى : منهم من هلك عند تكسر السفينة ، ومنهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج ، كأن الأمواج فى انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره وبطنه أعلى ، و «تحفزه» أى : تدفعه ، ومصير هذا الناجى أيضا إلى الهلاك بعد طول العناء
    (4) اللدن ـ بالفتح ـ اللين ، أى : والأعضاء فى لين الحياة يمكن استعمالها فى العمل ، والمنقلب ـ بفتح اللام ـ مكان الانقلاب من الضلال إلى الهدى فى هذه الحياة
    (5) أرهقه الشىء ، أعجله فلم يتمكن من فعله ، والفوت : ذهاب الفرصة بحلول الأجل
    (6) المستحفظون ـ بفتح الفاء ـ اسم مفعول ، أى : الذين أودعهم النبى صلّى اللّه عليه وسلم أمانة سره وطالبهم بحفظها ، و «لم يردد على اللّه ورسوله» : لم يعارضهما فى أحكامهما

    لم أردّ على اللّه ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسى فى المواطن الّتى تنكص فيها الأبطال (1) ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمنى اللّه بها (2) ولقد قبض رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وإنّ رأسه لعلى صدرى ، ولقد سالت نفسه فى كفّى ، فأمررتها على وجهى (3) ، ولقد ولّيت غسله ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والملائكة أعوانى ، فضجّت الدّار والأفنية (4) ، ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعى هينمة منهم (5) يصلّون عليه حتّى واريناه فى ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّى حيّا وميّتا؟! فانفذوا على بصائركم (6) ، ولتصدق نيّاتكم فى جهاد عدوّكم. فو الّذى لا إله إلاّ هو إنّى لعلى جادّة الحقّ ،
    __________________
    (1) المواساة بالشىء : الاشراك فيه ، فقد أشرك النبى فى نفسه ، ولا تكون بالمال إلا أن يكون كفافا ، فان أعطيت عن فضل فليس بمواساة. قالوا : والفصيح فى الفعل «آسيته» ولكن نطق الامام حجة
    (2) النجدة ـ بالفتح ـ الشجاعة ، ونصبها هنا على المصدرية لفعل محذوف
    (3) نفسه : دمه. روى أن النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم قاء فى مرضه فتلقى قيأه أمير المؤمنين فى يده ومسح به وجهه
    (4) ضجيج الدار : كان بالملائكة النازلين والعارجين ، والأفنية : جمع فناء ـ بكسر الفاء ـ وهو ما اتسع أمام الدار
    (5) الهينمة : الصوت الخفى
    (6) البصيرة : ضياء العقل ، كأنه يقول : فاذهبوا إلى عدوكم محمولين على اليقين الذى لا ريب فيه

    وإنّهم لعلى مزلّة الباطل (1) ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر اللّه لى ولكم.
    193 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    يعلم عجيج الوحوش فى الفلوات ، ومعاصى العباد فى الخلوات ، واختلاف النّينان فى البحار الغامرات (2) ، وتلاطم الماء بالرّياح العاصفات. وأشهد أنّ محمّدا نجيب اللّه (3) ، وسفير وحيه ، ورسول رحمته.
    أمّا بعد ، فأوصيكم بتقوى اللّه الّذى ابتدأ خلقكم ، وإليه يكون معادكم ، وبه نجاح طلبتكم ، وإليه منتهى رغبتكم ، ونحوه قصد سبيلكم ، وإليه مرامى مفزعكم (4) ، فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم (5) ، وضياء سواد ظلمتكم ، فاجعلوا طاعة
    __________________
    (1) المزلة : مكان الزلل الموجب للسقوط فى الهلكة ، وتقول : زل فى طين أو منطق يزل ـ بكسر الزاى فى المضارع ـ زليلا ، وقال الفراء : زل يزل ـ بالفتح ـ زللا ، والاسم الزلة ـ بالفتح واستزله غيره وأزله
    (2) النينان : جمع نون ، وهو الحوت ، وفى التنزيل : (وذا النون إذ نادى ربه فى الظلمات) وفسر بعضهم به قوله تعالى : «ن وَاَلْقَلَمِ وَمٰا يَسْطُرُونَ» وهو بعيد
    (3) النجيب : المختار المصطفى
    (4) مرمى الفزع : ما يدفع إليه الخوف ، وهو الملجأ ، أى : وإليه ملاجىء خوفكم
    (5) الجأش : ما يضطرب فى القلب عند الفزع أو التهيب أو توقع المكروه ، ويقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يضطرب ولا يفزع

    اللّه شعارا دون دثاركم (1) ، ودخيلا دون شعاركم ، ولطيفا بين أضلاعكم ، وأميرا فوق أموركم ، ومنهلا لحين ورودكم (2) ، وشفيعا لدرك طلبتكم ، وجنّة ليوم فزعكم ، ومصابيح لبطون قبوركم ، وسكنا لطول وحشتكم ، ونفسا لكرب مواطنكم ، فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة ، ومخاوف متوقّعة ، وأوار نيران موقدة (3). فمن أخذ بالتّقوى عزبت عنه الشّدائد بعد دنوّها (4) ، واحلولت له الأمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصّعاب بعد إنصابها (5) ، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها ، وتحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها (6) ، وتفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها ، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها
    __________________
    (1) الشعار : ما يلى البدن من الثياب ، والدثار : ما فوقه
    (2) المنهل : ما ترده الشاربة من الماء للشرب ، والدرك ـ بالتحريك ـ اللحاق ، والطلبة ـ بالكسر ـ المطلوب. والجنة ـ بالضم ـ : الوقاية
    (3) الأوار ـ بالضم ـ : حرارة النار ولهيبها
    (4) عزبت : غابت ، وبعدت
    (5) الانصاب : مصدر بمعنى الاتعاب ، وتقول : نصب ـ من باب تعب ـ وأنصبه غيره
    (6) تحدب عليه : عطف. ونضب الماء نضوبا : غار وذهب فى الأرض ، ونضوب النعمة : قلتها أو زوالها. ووبلت السماء : ـ من باب وعد ـ أمطرت مطرا شديدا قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : «أَخْذاً وَبِيلاً» أى : شديدا ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أى : شديد. وأرذت ـ بتشديد الذال ـ إرذاذا : أمطرت مطرا ضعيفا فى سكون كأنه الغبار المتطاير ، وأصله الرذاذ ـ كسحاب ـ وهو المطر الضعيف

    فاتّقوا اللّه الّذى نفعكم بموعظته ، ووعظكم برسالته ، وامتنّ عليكم بنعمته ، فعبّدوا أنفسكم لعبادته (1) ، واخرجوا إليه من حقّ طاعته.
    ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذى اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه (2) خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته ، أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه بنصره (3) ، وهدم أركان الضّلالة بركنه ، وسقى من عطش من حياضه ، وأتأق الحياض لمواتحه (4) ، ثمّ جعله لا انفصام لعروته ، ولا فكّ لحلقته ، ولا انهدام لأساسه ، ولا زوال لدعائمه ، ولا انقلاع لشجرته ، ولا انقطاع لمدّته ، ولا عفاء لشرائعه (5) ،
    __________________
    (1) «فعبدوا» أى : فذللوا
    (2) اصطناع الشىء على العين : الأمر بصنعته تحت النظر ، خوف المخالفة فى المطلوب من صنعته ، والمراد هنا تشريع الدين وتكميله على حسب علم اللّه الأعلى وتحت عنايته بحفظه ، ووجه التجوز ظاهر. وأصفاه العطاء وبه : أخلص له وآثره به ، وخيرة ـ بفتح الخاء ـ : أفضل ما يضاف إليه. أى : وآثر هذا الدين بأفضل الخلق ليبلغه للناس ، وتكسر خاؤه وياؤه حينئذ ساكنة أو مفتوحة
    (3) محاديه : جمع محاد : وهو الشديد المخالفة. والركن : العز والمنعة
    (4) تئق الحوض ـ كفرح ـ : امتلأ ، وأتاقه : ملأه. والمواتح : جمع ماتح وهو نازع الماء من الحوض
    (5) العفاء ـ كسحاب ـ : الدروس والاضمحلال ، تقول : عفا المنزل ، أى : درس. وعفته الريح ، يتعدى ويلزم ، وبابهما عدا ، وعفته الريح ـ بالتشديد ـ أيضا ، شدد للمبالغة ، وتعفى المنزل : مثل عفا ، والجذ : القطع ، والضنك : الضيق والوعوثة : رخاوة فى السهل تغوص بها الأقدام عند السير فيعسر المشى فيه. والوضح ـ محركة ـ : بياض الصبح ، والعصل ـ بفتح الصاد ـ : الاعوجاج يصعب تقويمه ، ووعث الطريق : تعسر المشى فيه ، وبابه قرب وتعب. والفج : الطريق الواسع بين جبلين

    ولا جذّ لفروعه ، ولا ضنك لطرقه ، ولا وعوثة لسهولته ، ولا سواد لوضحه ، ولا عوج لانتصابه ، ولا عصل فى عوده ، ولا وعث لفجّه ، ولا انطفاء لمصابيحه ، ولا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها (1) ، وثبّت لها أسسها ، وينابيع غزرت عيونها ، ومصابيح شبّت نيرانها ، ومنار اقتدى بها سفّارها (2) ، وأعلام قصد بها فجاجها ، ومناهل روى بها ورّادها : جعل اللّه فيه منتهى رضوانه ، وذروة دعائمه ، وسنام طاعته ، فهو عند اللّه وثيق الأركان ، رفيع البنيان ، منير البرهان ، مضىء النّيران ، عزيز السّلطان ، مشرف المنار (3) ، معوز المثار ، فشرّفوه ، واتّبعوه ، وأدّوا إليه حقّه ، وضعوه مواضيعه ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، بالحقّ حين دنا من الدّنيا
    __________________
    (1) أساخ : أثبت ، وأصل «ساخ» غاص فى لين وخاض فيه. والأسناخ : الأصول ، وغزرت : كثرت ، وشبت النار : ارتفعت من الايقاد
    (2) المنار : ما ارتفع لتوضع عليه نار يهتدى إليها ، والسفار ـ بضم فتشديد ـ ذوو السفر ، أى : يهتدى إليها المسافرون فى طريق الحق ، والأعلام : ما يوضع على أوليات الطرق أو وساطها ليدل عليها ، فهو هدايات بسببها قصد السالكون طرقها
    (3) مشرف المنار : مرتفعه ، وأعوزه الشىء : احتاج إليه فلم ينله ، والمثار : مصدر من «ثار الغبار» إذا هاج ، أى : لو طلب أحد إثارة هذا الدين لما استطاع لثباته

    الانقطاع ، وأقبل من الآخرة الاطّلاع (1). وأظلمت بهجتها بعد إشراق (2) وقامت بأهلها على ساق ، وخشن منها مهاد ، وأزف منها قياد ، فى انقطاع من مدّتها ، واقتراب من أشراطها (3) ، وتصرّم من أهلها ، وانفصام من حلقتها ، وانتشار من سببها ، وعفاء من أعلامها ، وتكشّف من عوراتها ، وقصر من طولها. جعله اللّه بلاغا لرسالته ، وكرامة لأمّته ، وربيعا لأهل زمانه ، ورفعة لأعوانه ، وشرفا لأنصاره ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده (4) ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضلّ نهجه (5) ، وشعاعا لا يظلم ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ،
    __________________
    (1) الاطلاع : الاتيان ، تقول : اطلع فلان علينا ، أى : أتانا
    (2) الضمير فى «بهجتها» للدنيا ، و «قامت بأهلها على ساق» أى : أفزعتهم ، وخشونة المهاد : كناية عن شدة آلامها ، وأزف ـ كفرح ـ أى : قرب ، والمراد من القياد انقيادها للزوال
    (3) الأشراط : جمع شرط ـ كسبب ـ أى : علامات انقضائها ، والتصرم : التقطع ، والانفصام : الانقطاع ، وإذا انفصمت الحلقة انقطعت الرابطة ، وانتشار الأسباب : تبددها حتى لا تضبط ، وعفاء الأعلام : اندراسها
    (4) خبت النار : طفئت
    (5) المنهاج : الطريق الواسع. والنهج هنا : السلوك. و «يضل» رباعى ، أى : لا يكون من سلوكه إضلال

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:55 pm

    وعزّا لا تهزم أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان وبحبوحته (1) ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه (2) ، وأثافىّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه (3). وبحر لا ينزفه المنتزفون (4) ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السّائرون ، وآكام لا يجوز عنها (5) القاصدون ، جعله اللّه ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصّلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا
    __________________
    (1) بحبوحة المكان ـ بضم الباءين ـ : وسطه
    (2) الرياض : جمع روضة ، وهى مستنقع الماء فى رمل أو عشب ، والغدران : جمع غدير ، وهو القطعة من الماء يغادرها السيل ، والمراد أن الكتاب مجمع العدالة تلتقى فيه متفرقاتها. والأثافى : جمع أثفية ، وهى الحجر يوضع عليه القدر ، أى : عليه قام الاسلام
    (3) غيطان الحق : جمع غاط أو غوط ، وهو المطمئن من الأرض ، أى : إن هذا الكتاب منابت طيبة يزكو بها الحق وينمو.
    (4) «لا ينزفه» أى : لا يفنى ماءه ، ولا يستفزعه المغترفون ، ولا ينضبها ـ كيكرمها ـ أى : ينقصها. والماتحون : جمع ماتح : نازع الماء من الحوض. والمناهل : مواضع الشرب من النهر. و «لا يغيضها» من «أغاض الماء» نقصه
    (5) آكام : جمع أكمة ، وهو الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله ، وهو دون الجبل فى غلظ لا يبلغ أن يكون حجرا فطرق الحق تنتهى إلى أعالى هذا الكتاب ، وعندها ينقطع سير السائرين إليه لا يتجاوزونها ، والمتجاوز هالك ، والمحاج : جمع محجة ، وهى الجادة من الطريق

    ذروته ، وعزا لمن تولاّه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به (1) ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم (2) ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى.
    194 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كان يوصى به أصحابه
    تعاهدوا أمر الصّلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حين سئلوا : «مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ» وإنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق (3) وتطلقها إطلاق الرّبق (4) ، وشبّهها رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلم بالحمّة (5) تكون على باب الرّجل فهو يغتسل منها
    __________________
    (1) الفلج ـ بالفتح ـ : الظفر والفوز ، وباب فعله نصر
    (2) الجنة ـ بالضم ـ : ما به يتقى الضرر ، و «استلأم» أى : لبس اللأمة ، وهى الدرع أو جميع أدوات الحرب ، أى : إن من جعل القرآن لأمة حربه لمدافعة الشبه والتوقى من الضلالة كان القرآن وقاية له
    (3) حت الورق عن الشجرة : قشره
    (4) الربق ـ بالكسر ـ : حبل فيه عدة عرى كل منها ربقة ، أى : إطلاق الحبل ممن ربط به ، فكأن الذنوب ربق فى الأعناق والصلاة تفكها منها.
    (5) الحمة ـ بالفتح وتشديد الميم ـ : كل عين تنبع بالماء الحار يستشفى بها من العلل ، الدرن : الوسخ. روى فى الحديث أن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم قال «أيسر أحدكم أن يكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس مرات فلا يبقى من درنه شىء؟» قالوا نعم ، قال : «إنها الصلوات الخمس»

    فى اليوم واللّيلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن؟! وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرّة عين من ولد ولا مال. يقول اللّه سبحانه : «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَإِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَإِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ». وكان رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نصبا بالصّلاة (1) بعد التّبشير له بالجنّة ، لقول اللّه سبحانه : «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَاِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا» فكان يأمر أهله ، ويصبر عليها نفسه.
    ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الاسلام ، فمن أعطاها ، طيّب النّفس بها ، فانّها تجعل له كفّارة ، ومن النّار حجازا ووقاية. فلا يتبعنّها أحد نفسه (2) ، ولا يكثرنّ عليها لهفه ، فانّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها فهو جاهل بالسّنّة ، مغبون الأجر ، ضالّ العمل ، طويل النّدم.
    ثمّ أداء الأمانة ، فقد خاب من ليس من أهلها ، إنّها عرضت على السّموات
    __________________
    (1) نصبا ـ بفتح فكسر ـ أى : تعبا
    (2) أى : من أعطى الزكاة فلا تذهب نفسه مع ما أعطى تعلقا به ولهفا عليه. ومغبون الأجر : منقوصه ، وأصله من «غبنه فى البيع» ـ من باب ضرب ـ إذا خدعه فأعطاه أقل مما أخذ منه ، وقد غبن ـ مبنيا للمجهول ـ فهو مغبون

    المبنيّة ، والأرضين المدحوّة (1) ، والجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ، ولو امتنع شىء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن ، ولكن أشفقن من العقوبة ، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ وهو الإنسان «إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً» إنّ اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخفى عليه ما العباد مقترفون فى ليلهم ونهارهم (2) لطف به خبرا ، وأحاط به علما ، أعضاؤكم شهوده ، وجوارحكم جنوده ، وضمائركم عيونه ، وخلواتكم عيانه.
    195 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    واللّه ما معاوية بأدهى منّى ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى النّاس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، واللّه ما أستغفل بالمكيدة ، ولا أستغمز بالشّديدة (3) ،
    __________________
    (1) المدحوة : المبسوطة
    (2) «مقترفون» أى : مكتسبون ، والخبر ـ بضم الخاء ـ : العلم ، واللّه لطيف العلم بما يكسبه الناس ، أى : دقيقه ، كأنه ينفذ فى سرائرهم كما ينفذ لطيف الجواهر فى مسام الأجسام ، بل هو أعظم من ذلك. والعيان ـ بكسر العين ـ : المعاينة والمشاهدة وهو مصدر «عاين الأمر» إذا شاهده ورآه بعينه
    (3) «لا أستغمز» ـ بالبناء للمجهول ـ أى : لا أستضعف بالقوة الشديدة ، والمعنى

    196 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، لا تستوحشوا فى طريق الهدى لقلّة أهله ، فانّ النّاس [قد] اجتمعوا على مائدة شبعها قصير (1) ، وجوعها طويل!! أيّها النّاس ، إنّما يجمع النّاس الرّضا والسّخط (2) ، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرّضا ، فقال سبحانه : «فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ» فما كان إلاّ أن خارت أرضهم بالخسفة (3) خوار السّكّة المحماة فى الأرض الخوّارة.
    أيّها النّاس ، من سلك الطّريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع فى التّيه
    197 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    [روى عنه أنه قاله] عند دفن سيدة النساء فاطمة عليها السلام [كالمناجى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند قبره] السّلام عليك يا رسول اللّه عنّى وعن ابنتك النّازلة فى جوارك ، والسّريعة
    __________________
    لا يستضعفنى شديد القوة ، والغمز ـ محركة ـ : الرجل الضعيف
    (1) المائدة : هى مائدة الدنيا ، فلا تغرنكم رغباتها فتنضم بكم مع الضالين فى محبتها ، فذلك متاع قليل.
    (2) أى : يجمعانهم فى استحقاق العقاب ، فان الراضى بالمنكر كفاعله ، ومن لم ينه عنه فهو به راض
    (3) خارت : صوتت كخوار الثور ، والسكة المحماة : حديدة المحراث إذا أحميت فى النار ، فهى أسرع غورا فى الأرض الخوارة ـ أى : السهلة اللينة ـ وقد يكون لها

    اللّحاق بك ، قلّ ، يا رسول اللّه عن صفيّتك صبرى ، ورقّ عنها تجلّدى ، إلاّ أنّ لى فى التّأسّى بعظيم فرقتك (1) ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك فى ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ، إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة ، أما حزنى فسرمد ، وأمّا ليلى فمسهّد (2) إلى أن يختار اللّه لى دارك الّتى أنت بها مقيم ، وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها (3) ، فأحفها السّؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع لا قال ولا سئم (4) فان أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصّابرين
    __________________
    صوت شديد إذا كان فى الأرض شىء من جذور النبات : يشتد الصوت كلما اشتدت السرعة.
    (1) يريد بالتأسى : الاعتبار بالمثال المتقدم ، والفادح : المثقل ، وتقول : فدحه الدين ، إذا أثقله ، وبابه قطع ، وفى حديث ابن جريح أن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : «وعلى المسلمين أن لا يتركوا مفدوحا فى فداء أو عقل» أى : مثقلا قد حمل فوق طوقه ، والتعزى : التصبر ، وملحودة القبر : الجهة المشقوقة منه
    (2) ينقضى بالسهاد : وهو السهر
    (3) هضمها : ظلمها ، وإحفاء السؤال : الاستقصاء فيه
    (4) القالى : المبغض ، والسئم : من السآمة وهى ملال الشىء ، وتقول : سئم من الشىء ـ من باب طرب ـ وسآما وسأمة ، إذا مله ، وهو رجل سؤوم

    198 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، إنّما الدّنيا دار مجاز (1) ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم ، إنّ المرء إذا هلك قال النّاس : ما ترك؟ وقالت الملائكة : ما قدّم؟ للّه آباؤكم! فقدّموا بعضا يكن لكم ، ولا تخلّفوا كلاّ فيكون عليكم
    199 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كان كثيرا [ما] ينادى به أصحابه
    تجهّزوا ، رحمكم اللّه ، فقد نودى فيكم بالرّحيل ، وأقلّوا العرجة على الدّنيا (2) وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد ، فإنّ أمامكم عقبة كؤودا ، ومنازل مخوفة مهولة ، لا بدّ من الورود عليها ، والوقوف عندها. واعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانية (3) ، وكأنّكم بمخالبها وقد نشبت فيكم ، وقد دهمتكم
    __________________
    (1) أى : ممر إلى الآخرة
    (2) العرجة ـ بالضم ـ : اسم من التعريج ، بمعنى حبس المطية على المنزل ، أى : اجعلوا ركونكم إليها قليلا. والكؤود : الصعبة المرتقى
    (3) ملاحظ المنية : منبعث نظرها ، ودانية : قريبة ، ويروى «دائبة» أى : جادة ، وبابه قطع ، ونشبت : علقت بكم «14 ـ ن ـ ج ـ 2»

    فيها مفظعات الأمور ، ومعضلات المحذور ، فقطّعوا علائق الدّنيا ، واستظهروا بزاد التّقوى (1) وقد مضى شىء من هذا الكلام فيما تقدم ، بخلاف هذه الرواية
    200 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا [عليه] من ترك مشورتهما ، والاستعانة فى الأمور بهما لقد نقمتما يسيرا (2) ، وأرجأتما كثيرا ، ألا تخبرانى أىّ شىء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ وأىّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أىّ حقّ رفعه إلىّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه؟
    واللّه ما كانت لى فى الخلافة رغبة ، ولا فى الولاية إربة (3) ، ولكنّكم دعوتمونى إليها ، وحملتمونى عليها ، فلمّا أفضت إلىّ نظرت إلى كتاب اللّه وما وضع لنا ، وأمرنا بالحكم به ، فاتّبعته ، وما استنّ النّبىّ ، صلّى اللّه عليه وآله ، وسلّم فاقتديته. فلم أحتج فى ذلك إلى رأيكما ، ولا رأى غيركما ، ولا وقع حكم جهلته ، فأستشيركما وإخوانى المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ، ولا عن
    __________________
    (1) استظهروا : استعينوا
    (2) «نقمتما» أى : غضبتما ليسير ، وأخرتما مما يرضيكما كثيرا لم تنظرا إليه
    (3) الاربة ـ بالكسر ـ : الغرض ، والطلبة.

    غيركما. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة (1) ، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيى ، ولا ولّيته هوى منّى ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قد فرغ منه فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ اللّه من قسمه ، وأمضى فيه حكمه ، فليس لكما ، واللّه ، عندى ولا لغيركما فى هذا عتبى. أخذ اللّه بقلوبنا وقلوبكم إلى الحقّ ، وألهمنا وإيّاكم الصّبر ثم قال عليه السلام : رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه ، أو رأى جورا فردّه ، وكان عونا بالحقّ على صاحبه.
    201 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين إنّى أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب فى القول ، وأبلغ فى العذر ، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم :
    اللّهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، وأهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ من جهله ، ويرعوى عن الغىّ والعدوان من لهج به (2)
    __________________
    (1) الأسوة ههنا : التسوية بين المسلمين فى قسمة الأموال ، وكان ذلك قد أغضبهما ، على ما روى.
    (2) الارعواء : النزوع عن الغى والرجوع عن وجه الخطأ ، و «لهج به» أى : أولع به فثابر عليه ، وبابه طرب

    202 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى بعض أيام صفين وقد رأى الحسن [ابنه] عليه السلام يتسرع إلى الحرب املكوا عنّى هذا الغلام لا يهدّنى (1) فإنّنى أنفس بهذين (يعنى الحسن والحسين عليهما السلام) على الموت ، لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال الرضى أبو الحسن : قوله عليه السلام «املكوا عنى هذا الغلام» من أعلى الكلام وأفصحه
    203 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله لما اضطرب عليه أصحابه فى أمر الحكومة
    أيّها النّاس ، إنّه لم يزل أمرى معكم على ما أحبّ حتّى نهكتكم الحرب (2) ، وقد ، واللّه ، أخذت منكم وتركت ، وهى لعدوّكم أنهك لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لى أن أحملكم على ما تكرهون
    __________________
    (1) «املكوا عنى» أى : خذوه بالشدة وأمسكوه «لئلا يهدنى» أى : يهدمنى ويقوض أركان قوتى بموته فى الحرب. ونفس به ـ كفرح ـ أى : ضن به ، أى : أبخل بالحسن والحسين على الموت
    (2) نهكته الحمى ـ من باب نفع وطرب ـ : أضعفته ، أى : كنتم مطيعين حتى أضعفتم فجبنتم ، مع أنها فى غيركم أشد تأثيرا. وقد ألزمه قومه بقبول التحكيم فالتزم بأجابتهم ، فكأنهم أمروه ونهوه فامتثل لهم

    204 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    بالبصرة ، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثى ـ وهو من أصحابه ـ يعوده ، فلما رأى سعة داره قال :
    ما كنت تصنع بسعة هذه الدّار فى الدّنيا؟ أما أنت إليها فى الآخرة كنت أحوج؟! وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة : تقرى فيها الضّيف ، وتصل فيها الرّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها (1) فإذا أنت [قد] بلغت بها الآخرة فقال له العلاء. يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخى عاصم بن زياد. قال : وما له؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال : علىّ به ، فلما جاء قال :
    يا عدىّ نفسه (2) لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ، أترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك! قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت فى خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال : ويحك ، إنّى لست كأنت ، إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس. كيلا يتبيّغ بالفقير فقره (3)
    __________________
    (1) أطلع الحق مطلعه : أظهره حيث يحب أن يظهر
    (2) عدى : تصغير عدو ، وفى هذا الكلام بيان أن لذائذ الدنيا لا تبعد العبد عن اللّه لطبيعتها ، ولكن لسوء القصد فيها
    (3) «يقدروا أنفسهم» أى : يقيسوا أنفسهم بالضعفاء ليكونوا قدوة للغنى فى الاقتصاد ، وصرف الأموال فى وجوه الخير ومنافع العامة ، وتسلية الفقير على فقره ، حتى لا يتبيغ ـ أى : يهيج به ألم الفقر فيهلكه ـ وقد روى المعنى بتمامه بل بأكثر تفصيلا عنه كرم اللّه وجهه فى عبارة أخرى

    205 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد سأله سائل عن أحاديث البدع ، وعما فى أيدى الناس
    من اختلاف الخبر (1) فقال عليه السلام :
    إنّ فى أيدى النّاس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما. ولقد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، على عهده حتّى قام خطيبا ، فقال : «من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار»
    وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :
    رجل منافق مظهر للإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج (2) يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، متعمّدا ، فلو علم النّاس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدّقوا قوله ، ولكنّهم قالوا صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : رآه ، وسمع منه ، ولقف عنه (3) فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما اخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثمّ بقوا بعده ـ عليه وآله السّلام ـ فتقرّبوا إلى أئمّة
    __________________
    (1) الخبر : الحديث المروى عن النبى صلى اللّه عليه وآله وسلم
    (2) «لا يتأثم» أى : لا يخاف ، و «لا يتحرج» : لا يخشى الوقوع فى الحرج ، وهو الجرم
    (3) تناول وأخذ عنه

    الضّلالة ، والدّعاة إلى النّار بالزّور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكّاما على رقاب النّاس ، وأكلوا بهم الدّنيا ، وإنّما النّاس مع الملوك والدّنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا أحد الأربعة (1) ورجل سمع من رسول اللّه شيئا لم يحفظه على وجهه ، فوهم فيه (2) ولم يتعمّد كذبا ، فهو فى يديه ويرويه ويعمل به ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه ، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه! ورجل ثالث : سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله شيئا يأمر به ثمّ [إنّه] نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شىء ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ، ولم يحفظ النّاسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
    وآخر رابع : لم يكذب على اللّه ، ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه ، وتعظيما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم يهم (3) بلّ حفظ ما سمع
    __________________
    (1) فهو ـ أى : من عصم اللّه ـ أحد الأربعة وهو خيرهم الرابع
    (2) وهم : غلط وأخطأ.
    (3) «لم يهم» أى : لم يخطىء ولم يظن خلاف الواقع

    على وجهه ، فجاء به على سمعه : لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ النّاسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه (1) وعرف الخاصّ والعامّ ، فوضع كلّ شىء موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه (2) وقد كان يكون من رسول اللّه ، صلّى اللّه عليه وآله ، الكلام له وجهان :
    فكلام خاصّ ، وكلام عامّ ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه [سبحانه] به ، ولا ما عنى رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فيحمله السّامع ، ويوجّهه على غير معرفة بمعناه ، وما قصد به ، وما خرج من أجله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وسلم ، من كان يسأله ويستفهمه ، حتّى إن كانوا ليحبّون أن يجىء الأعرابىّ والطّارىء فيسأله عليه السّلام حتّى يسمعوا ، وكان لا يمرّ بى من ذلك شىء إلاّ سألت عنه وحفظته ، فهذه وجوه ما عليه النّاس فى اختلافهم ، وعللهم فى رواياتهم.
    206 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته ، أن جعل من ماء البحر
    __________________
    (1) جنب تجنبا ، أى : تجنب
    (2) أى : عرف المتشابه من الكلام ، وهو ما لا يعلمه إلا اللّه والراسخون فى العلم. و «محكم الكلام» أى : صريحه الذى لم ينسخ.

    الزّاخر المتراكم المتقاصف يبسا جامدا (1) ، ثمّ فطر منه أطباقا (2) ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بأمره ، وقامت على حدّه ، وأرسى أرضا يحملها الأخضر المثعنجر ، والقمقام المسخّر (3) ، قد ذلّ لأمره ، وأذعن لهيبته ، ووقف الجارى منه لخشيته ، وجبل جلاميدها (4) ، ونشوز متونها وأطوادها ، فأرساها فى مراسيها ، وألزمها قرارتها. فمضت رءوسها فى الهواء ،
    __________________
    (1) زخر البحر ـ كمنع ـ وزخورا ، وتزخر : طمى وامتلأ. والمتقاصف : المتزاحم ، كأن أمواجه فى تزاحمها يقصف بعضها بعضا ، أى : يكثره ، واليبس ـ بالتحريك ـ : اليابس
    (2) «فطر منه» أى : من اليبس ، والأطباق : طبقات مختلفه فى تركيبها إلا أنها كانت رتقا : يتصل بعضها ببعض ففتقها سبعا ، وهى السموات ، وقف كل منها حيث مكنه اللّه على حسب ما أودع فيه من السر الحافظ له ، فاستمسكت بأمر اللّه التكوينى وقامت على حده ، أى : حد الأمر الالهى ، وليس المراد من البحر هذا الذى نعرفه ، ولكن مادة الأجرام قبل تكاثفها ، فانما كانت مائرة مائجة أشبه بالبحر بل هى البحر الأعظم
    (3) المراد من الأخضر الحامل للأرض : هو البحر ، والمثعنجر ـ بفتح الجيم ـ : معظم البحر وأكثر مواضعه ماء ، وبكسر الجيم : هو السائل مطلقا من ماء أو دمع والقمقام ـ بفتح القاف وتضم ـ : البحر أيضا ، وهو مسخر بقدرة اللّه تعالى. وحمله للأرض : إحاطته بها كأنها قارة فيه
    (4) جبل : خلق ، والجلاميد : الصخور الصلبة. والنشوز : جمع نشز ـ بسكون الشين وفتحها وفتح النون ـ : ما ارتفع من الأرض. والمتون : جمع متن ، وهو ما صلب منها وارتفع ، والأطواد : عطف على المتون ، وهى عظام الناتئات ، وقرارتها : ما استقرت فيه كمراسيها : ما رست ـ أى : رسخت ـ فيه

    ورست أصولها فى الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها (1) ، وأساخ قواعدها فى متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فأشهق قلالها (2) ، وأطال أنشازها (3) ، وجعلها للأرض عمادا ، وأرّزها فيها أوتادا ، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها (4) ، أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا (5) وبسطها لهم فراشا! فوق بحر لجّىّ راكد لا يجرى (6) ، وقائم لا يسرى ، تكركره الرّياح العواصف (7). وتمخضه الغمام الذّوارف «إِنَّ فِي ذٰلِكَ»
    __________________
    (1) قوله «فأنهد الخ» كأن النشوز والمتون والأطواد كانت فى بداية أمرها على ضخامتها غير ظاهرة الامتياز ولا شامخة الارتفاع عن السهول ، حتى إذا ارتجت الأرض بما أحدثت يد القدرة الالهية فى بطونها نهدت الجبال عن السهول فانفصلت كل الانفصال ، وامتازت بقواعد سائخة ـ اى : غائصة ـ فى المتون من أقطار الأرض ، ومواضع الأنصاب : جمع نصب ـ بضمتين ـ وهو ما جعل علما يشهد فيقصد ، فان الجبال إنما تشامخت من مرتفع الأرض وصلبها
    (2) قلال الجبال : أعلاها ، وأشهقها : جعلها شاهقة ، أى : بعيدة الارتفاع
    (3) «أطال أنشازها» أى : مد متونها المرتفعة فى جوانب الأرض ، وأرزها ـ بالتشديد ـ ثبتها
    (4) أى : إن الأرض على حركتها المخصوصة بها سكنت عن أن تميد ـ أى : تضطرب ـ بأهلها وتتزلزل بهم إلا ما يشاء اللّه فى بعض مواضعها لبعض الأسباب. وتسيخ كتسوخ أى : تغوص فى الهواء فتنخسف ، وزوالها عن مركزها المعين لها
    (5) المهاد : الفرش وما تهيئه لنوم الصبى
    (6) لا يسيل فى الهواء
    (7) تكركره : تذهب به وتعود ، وشبه اشتمال السحاب على خلاصة ماء البحر ـ وهو بخاره ـ بمخضها له كأنه لبن تخرج زبده. والذوارف : جمع ذارفة ، من «ذرف الدمع» إذا سال.

    «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ»
    207 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة ، والمصلحة غير المفسدة ، فى الدّين والدّنيا فأبى بعد سمعه لها إلاّ النّكوص عن نصرتك ، والإبطاء عن إعزاز دينك ، فإنّا نستشهدك عليه بأكبر الشّاهدين شهادة (1) ، ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسمواتك ، ثمّ أنت بعده المغنى عن نصره ، والآخذ له بذنبه
    208 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه العلىّ عن شبه المخلوقين (2) الغالب لمقال الواصفين ، الظّاهر بعجائب تدبيره للنّاظرين ، والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين ، العالم بلا اكتساب ، ولا ازدياد ، ولا علم مستفاد ، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة ولا ضمير ، الّذى لا تغشاه الظّلم ، ولا يستضىء بالأنوار ، ولا يرهقه ليل (3)
    __________________
    (1) أكبر الشاهدين هو النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم أو القرآن ، وفى رواية «نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة» وهى عندى أليق وأنسب لما بعده
    (2) شبه ـ بالتحريك ـ أى : مشابهة
    (3) رهقه ـ كفرح ـ غشيه

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:57 pm

    ولا يجرى عليه نهار ، ليس إدراكه بالأبصار ، ولا علمه بالإخبار
    ومنها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :
    أرسله بالضّياء ، وقدّمه فى الاصطفاء ، فرتق به المفاتق (1) وساور به المغالب وذلّل به الصّعوبة ، وسهّل به الحزونة ، حتّى سرّح الضّلال عن يمين وشمال
    209 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وأشهد أنّه عدل عدل ، وحكم فصل ، وأشهد أنّ محمّدا عبده [ورسوله] وسيّد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين (2) جعله فى خيرهما ، لم يسهم فيه عاهر (3) ولا ضرب فيه فاجر
    ألا وإنّ اللّه قد جعل للخير أهلا ، وللحقّ دعائم ، وللطّاعة عصما (4) وإنّ
    __________________
    (1) الرتق : سد الفتق ، والمفاتق : مواضع الفتق ، وهى ما كان بين الناس من فساد وفى مصالحهم من اختلال. و «ساور به المغالب» أى : واثب بالنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم كل من يغالب الحق. والحزونة : غلظ فى الأرض ، والمراد سهل به خشونة الأخلاق الرديئة والعقائد الفاسدة بتهذيب الطباع وتنوير العقول حتى سرح به الضلال ، أى : أبعده ، عن يمين السالكين وهو : نهج الاعتدال ، وشمالهم ، وكأنه يريد جانبى الافراط والتفريط ، والابعاد : تجنبهما. ولزوم العدل : الوسط.
    (2) نسخ الخلق : نقلهم بالتناسل عن أصولهم فجعلهم بعد الوحدة فى الأصول فرقا.
    (3) أى : لم يكن لعاهر سهم فى أصوله ، والعاهر : من يأتى غير حله كالفاجر. وضرب فى الشىء : صار له نصيب منه
    (4) العصم ـ بكسر ففتح ـ جمع عصمة ، وهى ما يعتصم به ، وعصم الطاعات : الاخلاص للّه وحده

    لكم عند كلّ طاعة عونا من اللّه : يقول على الألسنة ، ويثبّت الأفئدة ، [فيه] كفاء لمكتف (1) وشفاء لمشتف
    واعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه (2) يصونون مصونه ، ويفجّرون عيونه ، يتواصلون بالولاية (3) ويتلاقون بالمحبّة ، ويتساقون بكأس رويّة (4) ويصدرون بريّة ، لا تشوبهم الرّيبة (5) ولا تسرع فيهم الغيبة ، على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم (6) فعليه يتحابّون ، وبه يتواصلون ، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى (7) فيؤخذ منه ويلقى ، قد ميّزه التّخليص ، وهذّبه التّمحيص (Cool فليقبل
    __________________
    (1) الكفاء ـ بالفتح ـ : الكافى أو الكفاية
    (2) المستحفظين ـ بصيغة اسم المفعول ـ : الذين أودعوا العلم ليحفظوه.
    (3) الولاية : الموالاة والمصافاة
    (4) الروية : فعيلة بمعنى فاعلة ، أى : يروى شرابها من ظمأ التباعد والنفرة. ورية ـ بكسر الراء وتشديد الياء ـ الواحدة من الرى ، وهو زوال العطش
    (5) لا يخالطهم الريب والشك فى عقائدهم ، ولا تسرع فيهم بالافساد لامتناعهم من الاغتياب وعدم إصغائهم إليه
    (6) «عقد خلقهم» أى : إنه وصل خلقهم الجسمانى وأخلاقهم النفسية بهذه الصفات وأحكم صلتهما بها حتى كأنهما معقودان بها
    (7) أى : كانوا إذا نسبتهم إلى سائر الناس رأيتهم يفضلونهم ويمتازون عليهم كتفاضل البذر ، فان البذر يعتنى بتنقيته ليخلص النبات من الزوان ـ وهو بكسر الزاى أو ضمها حب يخالط البر ـ ويكون النوع صافيا لا يخالطه غيره ، وبعد التنقية يؤخذ منه ويلقى فى الأرض ، فالبذر يكون أفضل الحبوب وأخلصها
    (Cool التهذيب : التنقية ، والتمحيص : الاختبار

    امرؤ كرامة بقبولها (1) وليحذر قارعة قبل حلولها ، ولينظر امرؤ فى قصير أيّامه ، وقليل مقامه ، فى منزله حتّى يستبدل به منزلا (2) فليصنع لمتحوّله ، ومعارف منتقله (3) فطوبى لذى قلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنّب من يرديه وأصاب سبيل السّلامة ببصر من بصّره (4) وطاعة هاد أمره ، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه ، وتقطع أسبابه ، واستفتح التّوبة ، وأماط الحوبة. فقد أقيم على الطّريق ، وهدى نهج السّبيل
    210 ـ ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيرا
    الحمد للّه الّذى لم يصبح بى ميّتا ولا سقيما (5) ولا مضروبا على عروقى بسوء ولا مأخوذا بأسوإ عملى ، ولا مقطوعا دابرى ، ولا مرتدّا عن دينى ، ولا منكرا لربّى ، ولا مستوحشا من إيمانى ، ولا ملتبسا عقلى ، ولا معذّبا
    __________________
    (1) الكرامة هنا : النصيحة ، أى : اقبلوا نصيحة لا أبتغى عليها أجرا إلا قبولها والقارعة : داعية الموت ، أو القيامة تأتى بغتة
    (2) حتى : غاية للقصر والقلة ، فقصير الأيام وما بعده ينتهى باستبدال المنزل بمنزل الآخرة
    (3) المتحول ـ بفتح الواو مشددة ـ : ما يتحول إليه. ومعارف المنتقل : المواضع التى يعرف الانتقال إليها
    (4) أى : باستنارته بارشاد من أرشد وطاعة الهادى الذى أمره ، تغلق أبواب الهدى بالموت. والحوبة ـ بفتح الحاء ـ : الاثم ، وإماطتها : تنحيتها
    (5) ميتا : حال من المجرور ، و «أصبح» تامة.

    بعذاب الأمم من قبلى. أصبحت عبدا مملوكا ظالما لنفسى ، لك الحجّة على ولا حجّة لى [و] لا أستطيع أن آخذ إلاّ ما أعطيتنى ، ولا أتّقى إلاّ ما وقيتنى اللّهمّ إنّى أعوذ بك أن أفتقر فى غناك ، أو أضلّ فى هداك ، أو أضام فى سلطانك ، أو أضطهد والأمر لك اللّهمّ اجعل نفسى أوّل كريمة تنتزعها من كرائمى ، وأوّل وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندى اللّهمّ إنّا نعوذ بك أن نذهب عن قولك ، أو نفتن عن دينك ، أو تتابع بنا أهواؤنا (1) دون الهدى الّذى جاء من عندك
    211 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    خطبها بصفين
    أمّا بعد ، فقد جعل اللّه لى عليكم حقّا بولاية أمركم ، ولكم علىّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء فى التّواصف (2) وأضيقها فى التّناصف ، لا يجرى لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجرى عليه إلاّ جرى له.
    __________________
    (1) التتابع : ركوب الأمر على خلاف الناس والاسراع إلى الشر ، واللجاجة ، يستعيذ من لجاجة الهوى به فيما دون الهدى
    (2) يتسع القول فى وصفه حتى إذا وجب على الانسان الواصف له فر من أدائه ولم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها

    ولو كان لأحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله فى كلّ ما جرت عليه صروف قضائه ، ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد أهله
    ثمّ جعل ـ سبحانه ـ من حقوقه حقوقا افترضها لبعض النّاس على بعض ، فجعلها تتكافأ فى وجوهها ، ويوجب بعضها بعضا ، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض (1). وأعظم ما افترض ـ سبحانه ـ من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرّعيّة ، وحقّ الرّعيّة على الوالى ، فريضة فرضها اللّه ـ سبحانه ـ لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، وعزّا لدينهم فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة ، فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالى حقّه ، وأدّى الوالى إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السّنن (2) ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع فى بقاء الدّولة ، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرّعيّة واليها ، أو أجحف
    __________________
    (1) فحقوق العباد التى يكافىء بعضها بعضا ولا يستحق أحد منها شيئا إلا بأدائه مكافأة ما يستحقه هى من حقوقه تعالى أيضا
    (2) ذل الطريق ـ بكسر الذال ـ : محجته. و «جرت أمور اللّه أذلالها ، وعلى أذلالها» أى : وجوهها ، والسنن : جمع سنة ، وطمع : مبنى للمجهول

    الوالى برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الادغال فى الدّين (1) ، وتركت محاجّ السّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النّفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل (2) ، ولا لعظيم باطل فعل!! فهنالك تذلّ الأبرار ، وتعزّ الأشرار ، وتعظم تبعات اللّه عند العباد ، فعليكم بالتّناصح فى ذلك وحسن التّعاون عليه ، فليس أحد ـ وإن اشتدّ على رضا اللّه حرصه ، وطال فى العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما اللّه أهله من الطّاعة [له] ولكن من واجب حقوق اللّه على العباد النّصيحة بمبلغ جهدهم ، والتّعاون على إقامة الحقّ بينهم ، وليس امرؤ ـ وإن عظمت فى الحقّ منزلته ، وتقدّمت فى الدّين فضيلته ـ بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه (3) ، ولا أمرؤ ـ وإن صعّرته النّفوس ، واقتحمته العيون (4) ـ بدون أن يعين على ذلك ، أو يعان عليه.
    فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له ، فقال عليه السلام :
    __________________
    (1) الادغال فى الأمر : إدخال ما يفسده فيه. ومحاج السنن : أوساط طرقها
    (2) أى : إذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب ، لتعودها على تعطيل الحقوق وأفعال الباطل
    (3) «بفوق أن يعان ـ الخ» أى : بأعلى من أن يحتاج إلى الاعانة ، أى : بغنى عن المساعدة
    (4) اقتحمته : احتقرته. «بدون أن يعين» أى : بأعجز أن يساعد غيره. «15 ـ ن ـ ج ـ 2»

    إنّ من حقّ من عظم جلال اللّه فى نفسه ، وجلّ موضعه من قلبه ، أن يصغر عنده ـ لعظم ذلك ـ كلّ ما سواه (1) ، وإنّ أحقّ من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللّه عليه (2) ، ولطف إحسانه إليه ، فإنّه لم تعظم نعمة اللّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّه عليه عظما ، وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح النّاس أن يظنّ بهم حبّ الفخر (3) ، ويوضع أمرهم على الكبر ، وقد كرهت أن يكون جال فى ظنّكم أنّى أحبّ الإطراء ، واستماع الثّناء (4) ، ولست ـ بحمد اللّه ـ كذلك ، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء ، وربّما استحلى النّاس الثّناء بعد البلاء (5) ، فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء لإخراجى نفسى إلى اللّه وإليكم من التّقيّة فى حقوق لم أفرغ من أدائها (6) ، وفرائض لا بدّ من إمضائها ، فلا تكلّمونى
    __________________
    (1) «كل» فاعل «يصغر» أى : يصغر عنده كل ما سوى اللّه لعظم ذلك الجلال الالهى.
    (2) وأحق المعظمين للّه بتصغير ما سواه : هو الذى عظمت نعمة اللّه عليه
    (3) أصل السخف رفة العقل وغيره ، أى : ضعفه. والمراد أدنى حالة للولاة أن يظن بهم الصالحون أنهم يحبون الفخر ويبنون أمورهم على أساس الكبر.
    (4) كره الامام أن يخطر ببال قومه كونه يحب الاطراء ، أى : المبالغة فى الثناء عليه ، فان حق الثناء للّه وحده ، فهو رب العظمة والكبرياء
    (5) البلاء : إجهاد النفس فى إحسان العمل
    (6) «لاخراجى» متعلق بتثنوا. والتقية : الخوف ، والمراد لازمه ، وهو العقاب. و «من» متعلق باخراجى ، أى : إذا أخرجت نفسى من عقاب اللّه فى حق من

    بما تكلّم به الجبابرة (1) ، ولا تتحفّظوا منّى بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطونى بالمصانعة ، ولا تظنّوا بى استثقالا فى حقّ قيل لى ، ولا التماس إعظام لنفسى ، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّى لست فى نفسى بفوق أن أخطىء ، ولا آمن ذلك من فعلى إلاّ أن يكفى اللّه من نفسى ما هو أملك به منّى (2) ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره : يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا ، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى ، وأعطانا البصيرة بعد العمى.
    212 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    اللّهمّ إنّى أستعديك على قريش (3) [ومن أعانهم] فإنّهم قد قطعوا رحمى
    __________________
    الحقوق أو قضاء فريضة من الفرائض فلا تثنوا على ذلك ، فانما وقيت نفسى ، وعملت لسعادتى ، على أنى ما أديت الواجب على فى ذلك ، وما أجزل هذا القول وأجمعه
    (1) ينهاهم عن مخاطبتهم له بألقاب العظمة كما يلقبون الجبابرة ، وعن التحفظ منه بالتزام الذلة والموافقة على الرأى صوابا أو خطأ كما يفعل مع أهل البادرة ـ أى : الغضب ـ و «صانعه» إذا أتى ما يرضيه وإن كان غير راض عنه ، والمصانعة : المداراة
    (2) يقول : لا آمن الخطأ فى أفعالى إلا إذا كان يسر اللّه لنفسى فعلا هو أشد ملكا له منى فقد كفانى اللّه ذلك الفعل فأكون على أمن من الخطأ فيه.
    (3) أستعديك : أستعينك ، و «إكفاء الأناء» أى : قلبه ، مجاز عن تضييعهم لحقه.

    وأكفأوا إنائى ، وأجمعوا على منازعتى حقّا كنت أولى به من غيرى ، وقالوا ألا إنّ فى الحقّ أن تأخذه وفى الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متأسّفا فنظرت فإذا ليس لى رافد ، ولا ذابّ ، ولا مساعد (1) إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقى على الشّجى ، وصبرت من كظم الغيظ علىّ أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشّفار (2) قال الرضى : وقد مضى هذا الكلام فى أثناء خطبة متقدمة إلا أنى كررته ههنا لاختلاف الروايتين
    213 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام
    فقدموا على عمّالى وخزّان بيت مال المسلمين الّذى فى يدى وعلى أهل مصر كلّهم فى طاعتى وعلى بيعتى ، فشتّتوا كلمتهم ، وأفسدوا علىّ جماعتهم ، ووثبوا على شيعتى ، فقتلوا طائفة منهم غدرا ، وطائفة منهم عضّوا على أسيافهم (3) فضاربوا بها حتّى لقوا اللّه صادقين
    __________________
    (1) الرافد : المعين ، والذاب : المدافع ، و «ضننت» أى : بخلت ، والقذى : ما يقع فى العين ، والشجى : ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه ، يريد غصة الحزن
    (2) الشفار : جمع شفرة ، وهى حد السيف ونحوه
    (3) العض على السيوف : مجاز عن ملازمة العمل بها

    214 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريبا! أما واللّه لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب ، أدركت وترى من بنى عبد مناف (1) وأفلتنى أعيان بنى جمح ، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله (2) فوقصوا دونه
    215 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قد أحيا عقله (3) وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له
    __________________
    (1) الوتر : الثأر ، وهو بفتح الواو فى لغة أهل العالية ، وبكسرها فى لغة نجد وتميم. وطلحة كان من بنى عبد مناف كالزبير ، وقاتله مروان بن الحكم وهما فى عسكر واحد فى حرب الجمل : رماه بسهم على غرة انتقاما لعثمان رضى اللّه عنه. وأفلته الشىء : خلص منه فجأة ، وجمح : قبيلة عربية كان من أعيانها ـ أى : عظمائها ـ جماعة مع أم المؤمنين فى واقعة الجمل ، ولم يصبهم ما أصاب غيرهم ، ومن هذه القبيلة صفوان ابن أمية بن خلف ، واسمه عبد اللّه ، وعبد الرحمن بن صفوان ، ويروى «وأفلتنى أعيار بنى جمح» جمع عير ـ بفتح فسكون ـ وهو الحمار أو الوحشى خاصة
    (2) «أتلعوا» أى : رفعوا أعناقهم ومدوها لتناول أمر ، وهو مناوأة أمير المؤمنين على الخلافة ، فوقصوا ، أى : كسرت أعناقهم ، دون الوصول إليه ، وتقول : قد وقصت الناقة براكبها ـ من باب وعد ـ إذا رمت به فدقت عنقه ، فالعنق موقوصة
    (3) حكاية عن صاحب التقوى. وإحياء العقل بالعلم والفكر والنفوذ فى الأسرار الالهية ، وإماتة النفس بكفها عن شهواتها ، والجليل العظيم ، و «دق» أى : صغر حتى خفى أو كاد. وبروق اللامع من نور المقام الآلهى يوضح طريق السعادة فلا يزال

    لامع كثير البرق ، فأبان له الطّريق ، وسلك به السّبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السّلامة ، ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه فى قرار الأمن والرّاحة : بما استعمل قلبه ، وأرضى ربّه
    216 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    [قاله] بعد تلاوته : «أَلْهٰاكُمُ اَلتَّكٰاثُرُ حَتّٰى زُرْتُمُ اَلْمَقٰابِرَ» (1)
    يا له مراما ما أبعده (2) وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أىّ مدّكر (3) وتناوشوهم من مكان بعيد!! أ [ف‍] بمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟! يرتجعون منهم أجسادا خوت (4) وحركات
    __________________
    السالك يتنقل من مقام عرفان وفضل إلى مقام آخر من مقامات الكمال ، وهذا هو التدافع من باب إلى باب حتى يصل إلى أعلى ما يمكن له ، وهناك سعادته ومقر نعيمه الأبدى.
    (1) ألهاه عن الشىء : صرفه عنه باللهو ، أى : صرفكم عن اللّه اللهو بمكاثرة بعضكم لبعض وتعديد كل منكم مزايا أسلافه حتى بعد زيارتكم المقابر.
    (2) المرام : الطلب ، بمعنى المطلوب ، والزور ـ بالفتح ـ : الزائرون ، وهم يرومون نيل الشرف بمن تقدمهم ، وتلك غفلة ، فانما ينالون الشرف مما يكون من موجباته فى ذواتهم ، فما أبعد ما يرومون بغفلتهم
    (3) «استخلوهم» أى : وجدوهم خالين ، والمدكر : الادكار ، بمعنى الاعتبار ، أى : خلوا أسلافهم من الاعتبار ، ثم قلب المعنى فى عبارة الامام ، فكان أخلوا الأدكار من آبائهم ، مبالغة فى تقريعهم حيث أخلوهم منه وهو محيط بهم ، و «أى» صفة محذوف تقديره مدكرا ، وتناوشوهم : تناولوهم بالمفاخرة من مكان بعيد عنها
    (4) خوت : سقط بناؤها وخلت من أرواحها

    سكنت ، ولأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزّة (1)!! لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة (2) وضربوا منهم فى غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الدّيار الخاوية (3) والرّبوع الخالية ، لقالت ذهبوا فى الأرض ضلاّلا ، وذهبتم فى أعقابهم جهّالا ، تطأون فى هامهم (4) ، وتستثبتون فى أجسادهم وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خرّبوا ، وإنّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم (5)
    __________________
    (1) أحجى : أقرب للحجى ، أى : العقل ، فان موت الآباء دليل الفناء ، ومن عاقبته فناء كيف يفتخر
    (2) العشوة ـ مثلث العين ـ ركوب الأمر على غير بيان ، وبفتح العين ليس غير : الظلمة. وأما سوء البصر فعشا ـ بالقصر ـ
    (3) الخاوية : المتهدمة ، والربوع : المساكن ، والضلال ـ كعشاق ـ : جمع ضال
    (4) جمع هامة : أعلى الرأس و «تستثبتون» أى : تحاولون إثبات ما تثبتون من الأعمدة والأوتاد والجدران فى أجسادهم لذهابها ترابا وامتزاجها بالأرض التى تقيمون فيها ما تقيمون ، ويروى «وتستنبتون فى أجسادهم» أى : تزرعون النبات فى أجسادهم ، وذلك لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى فالزرع لا محالة يكون ثابتا فى الأجزاء الترابية التى هى أبدان الحيوانات ، وترتعون : تأكلون وتتلذذون بما لفظوه ، أى : طرحوه وتركوه
    (5) بواك : جمع باكية ، ونوائح : جمع نائحة ، وبكاء الأيام على السابقين واللاحقين حفظها لما يكون من مصابهم

    أولئكم سلف غايتكم (1) وفرّاط مناهلكم ، الّذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكا وسوقا ، سلكوا فى بطون البرزخ سبيلا (2) سلّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا فى فجوات قبورهم جمادا لا ينمون ، وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ، ولا يأذنون للقواصف ، غيّبا لا ينتظرون ، وشهودا لا يحضرون ، وإنّما كانوا جميعا فتشتّتوا ، وألاّفا فافترقوا (3) ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلّهم عميت أخبارهم ، وصمّت ديارهم (4) ، ولكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا ،
    __________________
    (1) سلف الغاية : السابق إليها ، وغايتهم : حد ما ينتهون إليه ، وهو الموت ، والفراط : جمع فارط ، وهو كالفرط ـ بالتحريك ـ : متقدم القوم إلى الماء ليهيىء لهم مواضع ما تشرب الشاربة من النهر مثلا ، ومقاوم : جمع مقام ، والحلبات : جمع حلبة ـ بالفتح ـ وهى الدفعة من الخيل فى الرهان ، أو هى الخيل تجتمع للنصرة من كل أوب. والسوق ـ بضم ففتح ـ جمع سوقة ـ بالضم ـ بمعنى الرعية
    (2) البرزخ : القبر ، والفجوات : جمع فجوة ، وهى الفرجة ، والمراد منها شق القبر ، و «لا ينمون» من النمو وهو الزيادة من الغذاء ، والضمار ـ ككتاب ـ : المال لا يرجى رجوعه ، وخلاف العيان ، ولا يحفلون ـ بكسر الفاء ـ أى : لا يبالون والرواجف : جمع راجفة ، وهى الزلزلة توجب الاضطراب ، والقواصف : من «قصف الرعد» إذا اشتدت هدهدته ، وأذن له : استمع
    (3) ألافا : جمع أليف ، أى : مؤتلف مع غيره
    (4) صم يصم ـ بالفتح فيهما ـ : خرس عن الكلام ، وخرس الديار : عدم صعود الصوت من سكانها

    وبالسّمع صمما ، وبالحركات سكونا ، فكأنّهم فى ارتجال الصّفة صرعى سبات (1) ، جيران لا يتآنسون ، وأحبّاء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التّعارف (2) ، وانقطعت منهم أسباب الإخاء ، فكلّهم وحيد وهم جميع ، وبجانب الهجر وهم أخلاّء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، ولا لنهار مساء ، أىّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (3) ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظع ممّا خافوا ، ورأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا ، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة (4) ، فأتت مبالغ الخوف والرّجاء ، فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا (5) ، ولئن عميت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر (6) ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من غير جهات النّطق ،
    __________________
    (1) ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل فالوصف لهم باول النظر يظنهم صرعوا من السبات ـ بالضم ـ أى : النوم
    (2) العرى : جمع عروة ، وهى مقبض الدلو والكوز مثلا ، وبليت : رثت وفنيت. والمراد زوال نسبة التعارف بينهم
    (3) الجديدان : الليل والنهار ، فان ذهبوا فى نهار فلا يعرفون له ليلا ، أو فى ليل فلا يعرفون له نهارا
    (4) الغايتان : الجنة والنار ، والمباءة : مكان التبوؤ والاستقرار ، والمراد منها ما يرجعون إليه فى الآخرة ، و «قد مدت الغاية» أى : أخرت عنه فى الدنيا إلى مرجع يفوق فى سعادته أو شقائه كل غاية سما إليها الخوف والرجاء.
    (5) عيوا : عجزوا
    (6) رجعت فيهم أبصار العبر : نظرت إليهم بعد الموت نظرة ثانية. والعبر : جمع عبرة

    فقالوا : كلحت الوجوه النّواضر (1) ، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البلى (2) ، وتكاءدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتهكّعت علينا الرّبوع الصّموت ، فانمحت محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت فى مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرجا ، ولا من ضيق متّسعا! فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام فاستكّت (3) ، واكتحلت أبصارهم بالتّراب فخسفت ، وتقطّعت الألسنة فى أفواههم بعد ذلاقتها ، وهمدت القلوب فى صدورهم بعد يقظتها ، وعاث فى كلّ جارحة منهم جديد بلى سمّجها (4) وسهّل طرق الآفة
    __________________
    (1) كلح ـ من باب خضع ـ كلوحا : تكشر فى عبوس ، والنواضر : الحسنة البواسم ، وخوت : تهدمت بنيتها وتفرقت أعضاؤها
    (2) الأهدام : جمع هدم ـ بكسر الهاء ـ وهو الثوب البالى أو المرقع ، و «تكاءده الأمر» أى : شق عليه ، وتهكعت : تهدمت ، والربوع : أماكن الاقامة. والصموت : التى لا تنطق ، والمراد بها القبور ، ويروى «وتهكمت ينا الربوع الصموت» بالميم. والتهكم : الاستهزاء والسخرية
    (3) ارتسخ : مبالغة فى رسخ ، ورسخ الغدير : نش ماؤه ، أى : أخذ فى النقصان ، و «نضب» أى : نضب مستودع قوة السماع وذهبت مادته بامتصاص الهوام ، وهى الديدان هنا ، واستكت الأذن : صمت ، وخسف عين فلان : فقأها ، وذلاقة الألسن : حدتها فى النطق
    (4) عاث : أفسد ، والبلى : التحلل والفناء ، وسمح الصورة تسميجا : قبحها ، أى : أفسد الفناء كل عضو منهم فقبحه

    إليها ، مستسلمات فلا أيد تدفع ، ولا قلوب تجزع ، لرأيت أشجان قلوب (1) وأقذاء عيون ، لهم من كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل ، وغمرة لا تنجلى (2).
    وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان فى الدّنيا غذىّ ترف (3) ، وربيب شرف ، يتعلّل بالسّرور فى ساعة حزنه (4) ، ويفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به ، ضنّا بغضارة عيشه ، وشحاحة بلهوه ولعبه؟! فبينما هو يضحك إلى الدّنيا وتضحك [الدّنيا] إليه فى ظلّ عيش غفول (5) إذ وطىء الدّهر به حسكه ونقضت الأيّام قواه ونظرت إليه الحتوف من كثب (6) فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجىّ همّ ما كان يجده ، وتولّدت فيه فترات
    __________________
    (1) لرأيت : جواب «لو مثلتهم» ، وأشجان القلوب : همومها واحدها شجن ـ بالتحريك ـ وأقذاء العيون : ما يسقط فيها فيؤلمها
    (2) الغمرة : الشدة
    (3) الأنيق : رائق الحسن ، والغذى : اسم بمعنى المفعول ، أى : مغذى بالنعيم ، والربيب : بمعنى المربى ، ربه يربه ، أى : رباه
    (4) يتشاغل بأسباب السرور ليتلهى بها عن حزنه ، والسلوة : انصراف النفس عن الألم بتخيل اللذة «ضنا» أى : بخلا ، وغضارة العيش : طيبه
    (5) وصف العيش بالغفلة لأنه إذا كان هنيئا يوجبها ، والحسك : نبات تعلق قشرته بصوف الغنم ورقه كورق الرجلة وأدق ، وعند ورقه شوك ملزز صب ذو ثلاث شعب. تمثيل لمس الآلام.
    (6) الحتوف : المهلكات ، وأصل الحتف الموت ، من كثب ـ بالتحريك ـ أى : قرب ، أى : توجهت إليه المهلكات على قرب منه ، والبث : الحزن ، والنجى : المناجى ، وخالطه الحزن : مازج خواطره

    علل آنس ما كان بصحّته (1) ، ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء من تسكين الحارّ بالقارّ (2) وتحريك البارد بالحارّ ، فلم يطفىء ببارد إلاّ ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء (3) ، حتّى فتر معلّله (4) ، وذهل ممرّضه ، وتعايا أهله بصفة دائه (5) وخرسوا عن جواب السّائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجىّ خبر يكتمونه : فقائل هو لما به (6) وممنّ لهم إياب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكّرهم أسى الماضين من قبله (7) فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه فتحيّرت نوافذ فطنته (Cool ، ويبست
    __________________
    (1) آنس : حال من ضمير «فيه» ، والفترات : جمع فترة ، وهى انحطاط القوة ، أى : تولد فيه الضعف بسبب العلل حال كونه أشد أنسا بصحته من جميع الأوقات السابقة
    (2) القار : هنا البارد
    (3) أى : ما طلب تعديل مزاجه بدواء يمازج ما فيه من الطبائع ليعد لها إلا وساعد كل طبيعة تولد الداء
    (4) معلل المريض : من يسليه عن مرضه بترجية الشفاء ، كما أن ممرضه من يتولى خدمته فى مرضه لمرضه
    (5) «تعايا أهله» أى : اشتركوا فى العجز عن وصف دائه ، واختلف الحاضرون بين يدى المريض فى الخبر المحزن : يكتمونه عنه.
    (6) «هو لما به» أى : هو مملوك لعلته فهو هالك ، والممنى : مخيل الأمنية ، والاياب : الرجوع
    (7) أسى : جمع أسوة
    (Cool نوافذ الفطنة : ما كان من أفكار نافذة ، أى : مصيبة للحقيقة

    رطوبة لسانه فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعىّ عن ردّه (1) ، ودعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه : من كبير كان يعظّمه ، أو صغير كان يرحمه ، وإنّ للموت لغمرات هى أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على قلوب أهل الدّنيا (2)
    217 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله عند تلاوته : «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَلاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ» إنّ اللّه سبحانه [وتعالى] جعل الذّكر جلاء القلوب (3) ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح للّه ـ عزّت آلاؤه ـ فى البرهة بعد البرهة وفى أزمان الفترات (4) عباد ناجاهم فى فكرهم ، وكلّمهم فى ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأبصار والأسماع والأفئدة (5) يذكّرون بأيّام اللّه ، ويخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلّة فى الفلوات (6) ، من أخذ
    __________________
    (1) عى : عجز لضعف القوة المحركة للسان.
    (2) «تعتدل» أى : تستقيم عليها بالقبول والادراك ، أى : لغفلتهم عنها لا تتناسب عند عقولهم فيدركوها
    (3) الذكر : استحضار الصفات الآلهية ، والوقرة : ثقل فى السمع. والعشوة : ـ مثلثة العين ـ ضعف البصر
    (4) الفترة بين العملين. زمان بينهما يخلو منهما ، والمراد أزمنة الخلو من الأنبياء مطلقا ، و «ناجاهم» أى : خاطبهم بالالهام
    (5) استصبح : أضاء مصباحه ، أى : أضاء مصباح الهدى لهم بنور اليقظة فى أبصارهم الخ
    (6) الفلوات : المفازات والقفار واحدها فلاة

    القصد حمدوا إليه طريقه (1) وبشّروه بالنّجاة ، ومن أخذ يمينا وشمالا ذمّوا إليه الطّريق وحدّروه من الهلكة ، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات ، وأدلّة تلك الشّبهات ، وإنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه : يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه فى أسماع الغافلين (2) ، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا الدّنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ فى طول الإقامة فيه (3) ، وحقّقت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى النّاس ، ويسمعون ما لا يسمعون. فلو مثّلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة (4) ومجالسهم المشهودة ، وقد نشروا دواوين أعمالهم ، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصّروا عنها ، أو نهوا عنها ففرّطوا فيها ،
    __________________
    (1) «أخذ القصد» أى : ركب الاعتدال فى سلوكه
    (2) هتف به ـ كضرب ـ صاح ودعا ، وهتفت الحمامة : صاتت
    (3) «فى طول الاقامة» حال من أهل البرزخ ، والعدات : جمع عدة ـ بكسر ففتح مخفف ـ أى : كأنما القيامة كشفت لهم عن الوعود التى وعد بها الأخيار والأشرار
    (4) مقاوم : جمع مقام ، مقاماتهم فى خطاب الوعظ ، والدواوين : جمع ديوان ، وهو مجتمع الصحف ، والدفتر : ما يكتب فيه أسماء الجيش وأهل الأعطيات.

    وحمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم (1) ، فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجا ، وتجاوبوا نحيبا ، يعجّون إلى ربّهم من مقام ندم واعتراف ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى ، قد حفّت بهم الملائكة ، وتنزّلت عليهم السّكينة ، وفتحت لهم أبواب السّماء ، وأعدّت لهم مقاعد الكرامات ، فى مقام اطّلع اللّه عليهم فيه فرضى سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتسمّون بدعائه روح التّجاوز (2) رهائن فاقة إلى فضله ، وأسارى ذلّة لعظمته ، جرح طول الأسى قلوبهم (3) ، وطول البكاء عيونهم ، لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة ، يسألون من لا تضيق لديه المنادح (4) ، ولا يخيب عليه الرّاغبون ، فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك
    __________________
    (1) أى : نسبوا ما صدر عنهم إلى تقصير هممهم عن أداء الواجب عليهم ، ولم يحولوه على ربهم ، فجعلوا الأوزار حملا على ظهورهم ، فاحسوا بالضعف عن الاستقلال بها ، أى : القيام بحملها ، ونشج الباكى ينشج ـ كضرب يضرب ـ نشيجا : غص بالبكاء فى حلقه ، والنحيب : أشد البكاء ، وتجاوبوا به : أجاب بعضهم بعضا يتناحبون ، وعج يعج ـ كضرب ومل ـ : صاح ورفع صوته ، فهم يصيحون من مواقف الندم والاعتراف بالخطأ
    (2) تنسم النسيم : تشممه ، والروح ـ بالفتح ـ النسيم ، أى : يتوقعون التجاوز بدعائهم له
    (3) الأسى : الحزن
    (4) المنادح : جمع مندوحة ، وهى كالندحة ـ بالضم والفتح ـ والمنتدح ـ بفتح الدال ـ : المتسع من الأرض

    218 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله عند تلاوته «يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ» أدحض مسئول حجّة (1) ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح جهالة بنفسه.
    يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما آنسك بهلكة نفسك؟ أما من دائك بلول (2) ، [أم] ليس من نومك يقظة؟ أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك؟ فربّما ترى الضّاحى من حرّ الشّمس فتظلّه (3) ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده (4) فتبكى رحمة له ، فما صبّرك على دائك ، وجلّدك بمصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهى أعزّ الأنفس عليك؟ وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (5) وقد تورّطت بمعاصيه مدارج سطواته ، فتداو من داء
    __________________
    (1) أدحض : خبر محذوف ، تقديره الانسان ، ودحضت الحجة ـ كمنع ـ : بطلت ، و «أبرح بنفسه» أى : أعجبته بجهالتها
    (2) بل من مرضه يبل ـ كقل يقل ـ بلولا : حسنت حاله بعد هزال
    (3) ضحا ضحوا : برز فى الشمس ، وفى المختار «ضحى للشمس ـ بكسر الحاء ـ ضحاء ـ بالفتح والمد ـ أى : برز لها ، وضحى يضحى ـ كسعى يسعى ـ ضحاء أيضا ـ بالفتح والمد مثله ـ» اه‍ وفى القاموس «ضحا ضحوا وضحوا وضحيا ـ الأول بفتح فسكون ، والثانى بضمتين ، والثالث بضم فكسر ـ برز للشمس ، وكسعى ورضى ضحوا وضحيا : أصابته الشمس»
    (4) يمض جسده : يبالغ فى نهكه
    (5) أى : خوف أن تبيت بنقمة من اللّه ورزية تذهب بنعيمك ، وقد وقعت بمعاصيه فى طرق سطوته وتعرضت لانتقامه

    الفترة فى قلبك بعزيمة ، ومن كرى الغفلة فى ناظرك بيقظة (1) وكن للّه مطيعا ، وبذكره آنسا ، وتمثّل فى حال تولّيك عنه إقباله عليك (2) : يدعوك إلى عفوه ، ويتغمّدك بفضله ، وأنت متولّ عنه إلى غيره ، فتعالى من قوىّ ما أكرمه (3) ، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته ، وأنت فى كنف ستره مقيم ، وفى سعة فضله متقلّب ، فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين فى نعمة يحدثها لك (4) ، أو سيّئة يسترها عليك ، أو بليّة يصرفها عنك!! فما ظنّك به لو أطعته ، وايم اللّه لو أنّ هذه الصّفة كانت فى متّفقين فى القوّة ، متوازنين فى القدرة ، لكنت أوّل حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ، ومساوئ الأعمال. وحقّا أقول ما الدّنيا غرّتك (5) ولكن بها اعتررت ، ولقد كاشفتك العظات ، وآذنتك على سواء ، ولهى بما
    __________________
    (1) الكرى ـ بالفتح والقصر ـ النوم
    (2) تمثل : تصور ، أى : واذكر عند إعراضك عن اللّه ، أى : عند لهوك ، أنه مقبل عليك بنعمه ، «ويتغمدك» أى : يغمرك
    (3) الضمير فى «تعالى» للّه
    (4) طرف عينه ـ كضرب ـ أطبق جفنيها ، والمراد من المطرف اللحظة يتحرك فيها الجفن «فى نعمة» يتعلق بلطفه
    (5) إن الدنيا ما خبأت عن نظرك شيئا من تقلباتها المفزعة ، ولكن غفلت عما ترى ، ولقد كاشفتك وأظهرت لك العظات ، أى : المواعظ ، وآذنتك : أعلمتك على عدل «16 ـ ن ـ ج ـ 2»

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج2   نهج البلاغه ج2 Emptyأمس في 9:59 pm

    تعدك من نزول البلاء بجسمك ، والنّقص فى قوّتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك ، أو تغرّك ، ولربّ ناصح لها عندك متّهم (1) ، وصادق من خبرها مكذّب ، ولئن تعرّفتها فى الدّيار الخاوية (2) ، والرّبوع الخالية ، لتجدنّها من حسن تذكيرك ، وبلاغ موعظتك ، بمحلّة الشّفيق عليك ، والشّحيح بك (3) ، ولنعم دار من لم يرض بها دارا ، ومحلّ من لم يوطّنها محلاّ (4)! وإنّ السّعداء بالدّنيا غدا هم الهاربون منها اليوم
    إذا رجفت الرّاجفة (5) ، وحقّت بجلائلها القيامة ، ولحق بكلّ منسك أهله وبكلّ معبود عبدته ، وبكلّ مطاع أهل طاعته ، فلم يجز فى عدله [وقسطه] يومئذ حرق بصر فى الهواء (6) ، ولا همس قدم فى الأرض إلاّ بحقّه. فكم
    __________________
    (1) رب حادث من حوادثها يلقى إليك النصيحة بالعبرة فتتهمه وهو مخلص
    (2) تعرفتها : طلبت معرفتها وعاقبة الركون إليها
    (3) البخيل بك على الشقاء والهلكة
    (4) وطنه ـ بالتشديد ـ اتخذه وطنا
    (5) الراجفة : النفخة الأولى حين تهب ريح الفناء فتنسف الأرض نسفا ، وحقت القيامة : وقعت وثبتت بعظائمها ، والمنسك ـ بفتح الميم والسين ـ العبادة ، أو مكانها
    (6) يجز : من الجزاء مبنى للمجهول نائب فاعله «خرق بصر وهمس قدم» أى : لا تجازى لمحة البصر تنفذ فى الهواء ولا همسة القدم فى الأرض إلا بحق وذلك بعدل اللّه ويروى «فلم يجر فى عدله» من «جار» أى : عدل عن الطريق ، أى : لم يذهب عنه سبحانه ولم يضل ولم يشذ عن حسابه شىء من أمر محقرات الأمور إلا بحقه ، أى : إلا ما لا فائدة فى إثباته. ورواه قوم «لم يجز» مضارع «جاز يجوز» أى لم يسغ ولم

    حجّة يوم ذاك داحضة ، وعلائق عذر منقطعة ، فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك (1) ، وتثبت به حجّتك ، وخذ ما يبقى لك ممّا لا تبقى له (2) ، وتيسّر لسفرك ، وشم برق النّجاة ، وارحل مطايا التّشمير
    219 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    واللّه لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّدا (3) ، وأجرّ فى الأغلال مصفّدا أحبّ إلىّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشىء من الحطام ، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها (4) ويطول فى الثّرى حلولها؟! واللّه لقد رأيت عقيلا (5) وقد أملق حتّى استماحنى من برّكم صاعا ، ورأيت
    __________________
    خص ذلك اليوم لأحد من المكلفين فى حركة من الحركات المحقرات المستصغرات إلا إذا كانت قد فعلها بحقّ ، قاله ابن أبى الحديد
    (1) تحر : من التحرى ، أى : اطلب ما هو أحرى وأليق لأن يقوم به عذرك
    (2) ما يبقى لك هو العمل الصالح ، فخذه من الدنيا التى لا تبقى لها ، وتيسر : تأهب ، وشام البرق : لمحه ، ورحل المطية : وضع عليها رحلها للسفر
    (3) كأنه يريد من الحسك : الشوك ، والسعدان : نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدى ، والمسهد : من «سهده» إذا أسهره ، والمصفد : المقيد
    (4) يريد من النفس نفسه كرم اللّه وجهه ، أى : كيف أظلم لأجل منفعة نفس يسرع إلى الفناء قفولها ، أى : رجوعها ، والثرى : التراب
    (5) عقيل : أخوه ، وأملق : افتقر أشد الفقر ، واستماحنى : استعطانى ، والبر : القمح

    صبيانه شعث الشّعور ، غبر الألوان من فقرهم ، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم ، وعاودنى مؤكّدا (1) وكرّر علىّ القول مردّدا ، فأصغيت إليه سمعى فظنّ أنّى أبيعه دينى ، وأتّبع قياده (2) مفارقا طريقتى ، فأحميت له حديدة ، ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضجّ ضجيج ذى دنف من ألمها (3) وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثّواكل يا عقيل (4) ، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرّنى إلى نار سجرها جبّارها لغضبه؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى؟!! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة فى وعائها (5) ومعجونة شنئتها ، كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها ، فقلت : أصلة ، أم زكاة ، أم صدقة؟؟؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنّها
    __________________
    (1) شعث : جمع أشعث ، وهو من الشعر المتلبد بالوسخ ، والغبر ـ بضم الغين ـ جمع أغبر ، وهو متغير اللون شاحبه ، وأصله الغبار وهو التراب ، والعظلم ـ كزبرج ـ سواد يصبغ به ، قيل : هو النيلج ، أى : النيلة
    (2) القياد : ما يقاد به كالزمام
    (3) الدنف ـ بالتحريك ـ المرض ، والميسم ـ بكسر الميم وفتح السين ـ المكواة
    (4) ثكل ـ كفرح ـ أصاب ثكلا ـ بالضم ـ وهو فقدان الحبيب ، أو خاص بالولد ، والثواكل : النساء ، دعاء عليه بالموت لتألمه من نار ضعيفة الحرارة وطلبه عملا ـ وهو تناول شىء من بيت المال زيادة عن المفروض له ـ يوجب الوقوع فى نار سجرها ، أى : أضرمها ، الجبار وهو اللّه للانتقام ممن عصاه ، ولظى : اسم جهنم
    (5) الملفوفة : نوع من الحلواء أهداها إليه الأشعث بن قيس ، و «شنئتها» أى : كرهتها ، والصلة : العطية

    هديّة ، فقلت : هبلتك الهبول (1) ، أعن دين اللّه أتيتنى لتخدعنى؟ أمختبط ، أم ذو جنّة ، أم تهجر (2)؟ واللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه فى نملة أسلبها جلب شعيرة (3) ما فعلت ، وإنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها (4) ما لعلىّ ولنعيم يفنى ، ولذّة لا تبقى نعوذ باللّه من سبات العقل (5) ، وقبح الزّلل ، وبه نستعين
    220 ـ ومن دعاء له عليه السلام
    اللّهمّ صن وجهى باليسار (6) ، ولا تبذل جاهى بالإقتار ، فأسترزق طالبى رزقك ، وأستعطف شرار خلقك ، وأبتلى بحمد من أعطانى ، وأفتن بذمّ من منعنى ، وأنت من وراء ذلك كلّه ولىّ الاعطاء والمنع «إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
    __________________
    (1) هبلتك ـ بكسر الباء ـ ثكلتك. والهبول ـ بفتح الهاء ـ المرأة لا يعيش لها ولد. «عن دين اللّه» متعلق بتخدعنى
    (2) أمختبط فى رأسك فاختل نظام إدراكك ، أم أصابك جنون ، أم تهجر. أى : تهذى بما لا معنى له
    (3) جلب الشعيرة ـ بكسر الجيم ـ قشرتها ، وأصل الجلب : غطاء الرحل فتجوز فى إطلاقه على غطاء الحبة
    (4) قضمت الدابة الشعير ـ من باب علم ـ كسرته بأطراف أسنانها
    (5) سبات العقل : نومه ، والزلل : السقوط فى الخطأ
    (6) صيانة الوجه : حفظه من التعرض للسؤال ، وبذل الجاه : إسقاط المنزلة من القلوب ، واليسار : الغنى ، والاقتار : الفقر ، وقوله «فأسترزق» ترتيب على البذل بالاقتار ، فانه لو افتقر لطلب الرزق من طلاب رزق اللّه ، وهم الناس

    221 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    دار بالبلاء محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزّالها (1) ، أحوال مختلفة ، وتارات متصرّفة ، العيش فيها مذموم ، والأمان منها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها (2)
    واعلموا ، عباد اللّه ، أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى قبلكم (3) ، ممّن كان أطول منكم أعمارا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة (4) ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة ، والنّمارق الممهّدة (5) الصّخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاّطئة الملحدة (6) ، الّتى قد بنى بالخراب
    __________________
    (1) النزال ـ بالضم وتشديد الزاى ـ جمع نازل
    (2) الحمام ـ بالكسر ـ الموت
    (3) أنتم وما تتمتعون به قيام على سبيل الماضيين ، منتهون إلى نهايته ، وهو الفناء ، وبعد الآثار : طول بقائها بعد ذويها
    (4) راكدة : ساكنة ، وركود الريح : كناية عن إبطال العمل وبطلان الحركة «آثارهم عافية» أى : مندرسة
    (5) النمارق : جمع نمرقة ، تطلق على الوسادة الصغيرة أو على الطنفسة ـ أى : البساط ـ ولعله المراد هنا ، والممهدة : المفروشة ، والصخور : مفعول «استبدلوا»
    (6) لطأ بالأرض ـ كمنع وفرح ـ لصق ، والملحدة : من «ألحد القبر» جعل له لحدا ، أى : شقا فى وسطه أو جانبه

    فناؤها (1) ، وشيد بالتّراب بناؤها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلّة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين (2) ، لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنوّ الدّار ، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى (3) ، وأكلنهم الجنادل والثّرى؟ وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه (4) ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور (5) ، وبعثرت القبور؟ «هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ»
    __________________
    (1) فناء الدار ـ بالكسر ـ ساحتها وما اتسع أمامها ، وبناء الفناء بالخراب تمثيل لما يتخيله الفكر فى ديار الموتى من الفناء الدائم إلى نهاية العالم
    (2) متشاغلين بما شاهدوا من عقبى أعمالهم
    (3) الكلكل : هو صدر البعير ، كأن البلى ـ بكسر الباء ، أى : الفناء ـ جمل برك عليهم فطحنهم ، والجنادل : الحجارة ، والثرى : التراب
    (4) ولقرب آجالكم كأنكم قد صرتم إلى مصيرهم ، وحبستم فى ذلك المضجع كما يحبس الرهن فى يد المرتهن
    (5) تناهى به الأمر : وصل إلى غايته ، والمراد انتهاء مدة البرزخ ، وبعثرت القبور : قلب ثراها وأخرج موتاها
    (6) «تبلوه» أى : تخبره ، فتقف على خيره وشره

    222 ـ ومن دعائه عليه السّلام
    اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك (1) ، وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك ، تشاهدهم فى سرائرهم ، وتطّلع عليهم فى ضمائرهم ، وتعلم مبلغ بصائرهم ، فأسرارهم لك مكشوفة ، وقلوبهم إليك ملهوفة (2) ، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك ، وإن صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك علما بأنّ أزمّة الأمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك
    اللّهمّ إن فههت عن مسألتى (3) ، أو عميت عن طلبتى ، فدلّنى على مصالحى ، وخذ بقلبى إلى مراشدى ، فليس ذلك بنكر من هداياتك (4) ، ولا ببدع من كفاياتك
    اللّهمّ احملنى على عفوك (5) ، ولا تحملنى على عدلك
    __________________
    (1) آنس : أشد أنسا ، فقلوب الأولياء أشد أنسا باللّه من كل أليف فاللّه آنس الموجودات عندها ، وهو أشد النصراء حضورا بما يكفى المعتمدين عليه
    (2) الملهوف : المضطر ، يستغيث ويتحسر
    (3) فهه ـ كفرح ـ عى فلم يستطع البيان ، والطلبة ـ بكسر الطاء ـ المطلوب ، وقوله «او عميت عن طلبتى» يروى فى مكانه «أو عمهت ـ الخ» والمراشد : جمع مرشد ، وهو مواضع الرشد
    (4) النكر ـ بالضم ـ المنكر ، والبدع ـ بالكسر ـ الأمر يكون أولا ، أى : الغريب غير المعهود
    (5) اعتراف منه بالتقصير ، فلو عامله اللّه بالعدل لاشتد عليه الهول فالتجأ إلى العفو

    223 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    للّه بلاد فلان (1) ، فقد قوّم الأود ، وداوى العمد ، وخلّف الفتنة ، وأقام السّنّة ، ذهب نقّى الثّوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرّها ، أدّى إلى اللّه طاعته ، واتّقاه بحقّه ، رحل وتركهم فى طرق متشعّبة (2) : لا يهتدى فيها الضّالّ ، ولا يستيقن المهتدى
    224 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى وصف بيعته بالخلافة ، وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة وبسطتم يدى فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علىّ (3) تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها ، حتّى انقطعت النّعل ، وسقط الرّداء ، ووطىء الضّعيف ، وبلغ من سرور النّاس ببيعتهم إيّاى أن ابتهج بها الصّغير ،
    __________________
    (1) فلان : هو الخليفة الثانى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، والعرب تقول «للّه بلاد فلان» و «للّه در فلان» و «للّه نادى فلان» و «للّه نائح فلان» والمراد بالأول للّه البلاد التى أنشأته وابتنته ، وبالثانى للّه الثدى الذى أرضعه ، وبالثالث للّه المجلس الذى تربى فيه ، وبالرابع للّه النائحة التى تنوح عليه وتندبه ، ما ذا تعد مما تعهده من محاسنه؟ ويروى «للّه بلاء فلان» أى : للّه ما صنع. وقوم الأود : عدل الاعوجاج ، والعمد ـ بالتحريك ـ العلة ، وخلف الفتنة : تركها خلفا : لا هو أدركها ، ولا هى أدركته
    (2) عبارة عن الاختلاف
    (3) التداك : الازدحام ، كأن كل واحد يدك الآخر ، أى يدقه ، «والهيم» أى : العطاش : جمع هيماء ، كعيناء وعين

    وهدج إليها الكبير (1) ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب
    225 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فإنّ تقوى اللّه مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة (2) ، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطّالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرّغائب ، فاعملوا والعمل يرفع (3) ، والتوبة تنفع ، والدّعاء يسمع ، والحال هادئة ، والأقلام جارية ، وبادروا بالأعمال عمرا ناكسا ، أو مرضا حابسا ، أو موتا خالسا ، فإنّ الموت هادم لذّاتكم ، ومكدّر شهواتكم ، ومباعد طيّاتكم (4) ، زائر غير محبوب ، وقرن غير مغلوب ، وواتر غير مطلوب ، قد أعلقتكم
    __________________
    (1) هدج : مشى مشية الضعيف ، وهدج الظليم : إذا مشى فى ارتعاش ، والكعاب ـ كسحاب ـ الجارية حين يبدو ثديها للنهود ، وهى الكاعب ـ بلا هاء ـ و «حسرت» أى : كشفت عن وجهها متوجهة إلى البيعة لتعقدها بلا استحياء لشدة الرغبة والحرص على إتمام الأمر لأمير المؤمنين ، والغرض من الكلام الاحتجاج على المخالفين بأن الأمة بايعته مختارة
    (2) الملكة ـ بالتحريك ـ الرق ، أى : عتق من رق الشهوات والأهواء ، والهلكة ـ بالتحريك ـ : الهلاك
    (3) «والعمل الخ» الواو واو الحال و «بادروا» أى : اسبقوا بأعمالكم : حلول آجالكم التى تنكسكم ـ أى : تقلبكم ـ من الحياة إلى الموت ، والحابس : المانع من العمل ، والخالس : الخاطف
    (4) طياتكم : جمع طية ـ بالكسر ـ وهى القصد ، أى : يحول بينكم وبين مقاصدكم فيبعدها ، والقرن ـ بالكسر ـ الكفء فى الشجاعة. والتسمية تبكيت

    حبائله ، وتكنّفتكم غوائله ، وأقصدتكم معابله ، وعظمت فيكم سطوته ، وتتابعت عليكم عدوته (1) ، وقلّت عنكم نبوته ، فيوشك أن تغشاكم دواجى ظلله ، واحتدام علله ، وحنادس غمراته ، وغواشى سكراته ، وأليم إزهاقه ، ودجوّ إطباقه ، وجشوبة مذاقه ، فكأن قد أتاكم بغتة ، فأسكت نجيّكم (2) ، وفرّق نديّكم ، وعفّى آثاركم ، وعطّل دياركم ، وبعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم ، بين حميم خاصّ لم ينفع ، وقريب محزون لم يمنع ، وآخر شامت لم يجزع ، فعليكم بالجدّ والاجتهاد ، والتّأهّب والاستعداد ، والتّزوّد فى منزل الزّاد ، ولا تغرّنّكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية ، والقرون
    __________________
    لمن يظن مغالبة الموت فلا يستعد له بالصالحات ، كأنه يقول : إذا كنتم أقوياء ، فالموت كفء لكم غير مغلوب ، والواتر : الجانى. والموت لا يطالب بالقصاص على جنايته ، أعلقتكم الحبائل : أوقعتكم فيها ، فاقتنصتكم ، وهى جمع حبالة ـ بكسر الحاء ـ وهى المصيدة من الحبال ، وتقول : حبلته حبلا ـ من باب قتل ـ واحتبلته أيضا ، إذا صدته بالحبالة. وتكنفتكم : أحاطتكم ، وأقصده : رماه بسهم فأصاب مقتله ، والمعابل : جمع معبلة ـ كمكنسة : بكسر الميم ـ وهى النصل الطويل العريض
    (1) العدوة ـ بالفتح ـ العدوان ، والنبوة ـ بالفتح ـ أن يخطىء فى الضربة فلا يصيب ، والدواجى : جمع داجية ، أى : مظلمة ، والظلل : جمع الظلة ، أى : السحابة ، والاحتدام : الاشتداد ، والحنادس : جمع حندس ـ بكسر الحاء والدال ـ وهى الظلمة الشديدة ، والغمرات : الشدائد ، والدجو : الاظلام ، والجشوبة : الخشونة
    (2) النجى : القوم يتناجون ، والندى : الجماعة يجتمعون للمشاورة ، وعفى الآثار : محاها ، والتراث : الميراث ، والحميم : الصديق

    الخالية ، الّذين احتلبوا درّتها (1) ، وأصابوا غرّتها ، وأفنوا عدّتها ، وأخلقوا جدّتها ، [و] أصبحت مساكنهم أجداثا (2) ، وأموالهم ميراثا ، لا يعرفون من أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم (3) ، ولا يجيبون من دعاهم ، فاحذروا الدّنيا ، فإنّها غدّارة غرّارة خدوع ، معطية منوع ، ملبسة نزوع (4) ، لا يدوم رخاؤها ، ولا ينقضى عناؤها ، ولا يركد بلاؤها
    منها فى صفة الزهاد :
    كانوا قوما من أهل الدّنيا وليسوا من أهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها : عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون (5) ، تقلّب أبدانهم بين ظهرانى أهل الآخرة (6) يرون أهل الدّنيا يعظّمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم
    __________________
    (1) الدرة ـ بالكسر ـ اللبن ، والغرة ـ بالكسر ـ الغفلة ، أى : أصابوا منها غفلة فتمتعوا بلذاتها ، وأفنوا العدد الكثير من أيامها ، وجعلوا جديدها خلقا قديما بطول أعمارهم
    (2) الأجداث : القبور
    (3) يحفلون يبالون
    (4) ما ألبست : إلا نزعت لباسها عمن ألبسته ، و «لا يركد» أى : لا يسكن
    (5) بادر المحذور : سبقه فلم يصبه
    (6) «تقلب أبدانهم» أى : تتقلب ، أى : إن أبدانهم وهى فى الدنيا تتقلب بين أظهر أهل الآخرة ، و «هو بين ظهرانيهم» أى : بينهم حاضرا ظاهرا

    226 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    خطبها بذى قار ، وهو متوجه إلى البصرة ، ذكرها الواقدى فى كتاب الجمل فصدع بما أمر [به] (1) ، وبلّغ رسالات ربّه ، فلمّ اللّه به الصّدع ، ورتق به الفتق ، وألّف به [الشّمل] بين ذوى الأرحام ، بعد العداوة الواغرة فى الصّدور ، والضّغائن القادحة فى القلوب
    227 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كلم به عبد اللّه بن زمعة ، وهو من شيعته ، وذلك أنه قدم عليه
    فى خلافته يطلب منه مالا ، فقال عليه السلام : ـ
    إنّ هذا المال ليس لى ولا لك ، وإنّما هو فىء للمسلمين (2) وجلب أسيافهم ، فإن شركتهم فى حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.
    __________________
    (1) الضمير : فى «صدع» للنبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، ولم الصدع : لحم المنشق فأعاده إلى القيام بعد الاشراف على الانهدام ، والفتق : نقض خياطة الثوب ، فينفصل بعض أجزائه عن بعض ، والرتق : خياطتها ليعود ثوبا ، أى : جمع اللّه به متفرق القلوب ومتشتت الأحوال ، والواغرة : الداخلة ، والقادحة : المشتعلة
    (2) الفىء : الخراج والغنيمة ، وشركه ـ كعلمه ـ : شاركه ، والجناة ـ بفتح الجيم ـ ما يحنى من الشجر ، أى : يقطف

    228 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    ألا إنّ اللّسان بضعة من الإنسان (1) ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النّطق إذا اتّسع ، وإنّا لأمراء الكلام ، وفينا تنشّبت عروقه ، وعلينا تهدّلت غصونه
    واعلموا ـ رحمكم اللّه ـ أنّكم فى زمان القائل فيه بالحقّ قليل ، واللّسان عن الصّدق كليل (2) ، واللاّزم للحقّ ذليل ، أهله معتكفون على العصيان ، [مصطلحون على الإدهان] فتاهم عارم (3) ، وشائبهم آثم ، وعالمهم منافق ، وقارئهم مماذق ، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم ، ولا يعول غنيّهم فقيرهم
    __________________
    (1) البضعة ـ بفتح الباء ، وقد تكسر ـ القطعة من اللحم ، أى : إن اللسان آلة تحركها سلطة النفس فلا يسعد بالنطق. ناطق امتنع عليه ذهنه من المعانى فلم يستحضرها ، ولا يمهله النطق إذا هو اتسع فى فكره بل تنحدر المعانى إلى الألفاظ جارية على اللسان قهرا عنه. فسعة الكلام تابعة لسعة العلم ، وتنشبت الأصول : علقت وثبتت ، والمراد من العروق الأفكار العالية والعلوم السامية ، والغصون : وجوه القول فى فصاحته ، وصفاته الفاعلة فى النفوس ، و «تهدلت» أى : تدلت علينا فأظلتنا
    (2) كل لسانه : نبا عن الغرض. وإذا مرنت الأسماع على سماع الكذب نبا عنها لسان الصدق فلم يصب منها خطأ
    (3) شرس : سيىء الخلق ، والمماذق : من يمزج وده بالغش. وهو من صنف المنافقين

    229 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    روى [ذعلب] اليمانى عن أحمد بن قتيبة عن عبد اللّه بن يزيد عن مالك بن دحية قال : كنا عند أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس فقال :
    إنّما فرّق بينهم مبادى طينهم (1) ، وذلك أنّهم كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها ، وحزن تربة وسهلها ، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون ، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون ، فتامّ الرّواء (2) ، ناقص العقل ، ومادّ القامة ، قصير الهمّة ، وذاكى العمل ، قبيح المنظر ، وقريب القعر ، بعيد السّير ، ومعروف الضّريبة ، منكر الجليبة ، وتائه القلب ، متفرّق اللّبّ ، وطليق اللّسان ، حديد الجنان
    230 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله وهو يلى غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتجهيزه بأبى أنت وأمّى [يا رسول اللّه] لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة والأنباء ، وأخبار السّماء ، خصصت (3) حتّى صرت مسليا عمّن سواك ،
    __________________
    (1) جمع طينة : يريد عناصر تركيبهم ، والفلقة ـ بكسر الفاء ـ القطعة من الشىء ، وسبخ الأرض : مالحها ، والحزن ـ بفتح الحاء ـ الخشن ، ضد السهل ، فتقارب الناس حسب تقارب العناصر المؤلفة لبناهم. وكذلك تباعدهم بتباعدها
    (2) الرواء ـ بالضم والمد ـ حسن المنظر ، وماد القامة : طويلها ، والقعر : يريد به قعر البدن ، أى : إنه قصير الجسم. لكنه داهى الفؤاد ، والضريبة. الطبيعة والجليبة : ما يتصنعه الانسان على خلاف طبعه
    (3) النبى صلّى اللّه عليه وسلم خص أقاربه وأهل بيته حتى كان فيه الغنى والسلوة لهم

    وعممت حتّى صار النّاس فيك سواء
    ولو لا أنّك أمرت بالصّبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشّئون (1) ، ولكان الدّاء مماطلا ، والكمد محالفا ، وقلاّلك (2) ولكنّه ما لا يملك ردّه (3) ولا يستطاع دفعه ، بأبى أنت وأمّى ، اذكرنا عند ربّك ، واجعلنا من بالك
    231 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبى صلّى اللّه عليه وآله ، ثم لحاقه به فجعلت أتّبع مأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج (4) (فى كلام طويل)
    قال الشريف : قوله عليه السلام «فأطأ ذكره» من الكلام الذى رمى به إلى غايتى الإيجاز والفصاحة ، أراد إنى كنت أعطى خبره (5) صلّى اللّه عليه
    __________________
    عن جميع من سواه ، وهو برسالته عام للخلق : فالناس فى النسبة إلى دينه سواء ـ
    (1) «لأنفدنا» أى : لأفنينا على فراقك ماء عيوننا الجارى من شؤونه ، وهى منابع الدمع من الرأس
    (2) مماطلا بالشفاء ، والكمد : الحزن ، ومحالفته : ملازمته ، و «قلا» فعل ماض متصل بألف التثنية ، أى : مماطلة الداء ، ومحالفة الكمد ، قليلتان لك
    (3) «ما» خبر «لكن» أى : لكنه الموت لا يملك رده الخ ، وما حتم وقعه فلا يفيد الأسف عليه ، لأن الأسف وضع فى النفوس لمداركة الفائت والحذر من الآتى
    (4) العرج ـ بالتحريك ـ موضع بين مكة والمدينة
    (5) أعطى : بالبناء للمجهول

    وآله وسلم من بدء خروجى إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع ، فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة
    232 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فاعلموا وأنتم فى نفس البقاء (1) ، والصّحف منشورة ، والتّوبة مبسوطة ، والمدبر يدعى ، والمسىء يرجى ، قبل أن يخمد العمل ، وينقطع المهل ، وينقضى الأجل ، ويسدّ باب التّوبة ، وتصعد الملائكة (2)
    فأخذ امرؤ من نفسه لنفسه (3) ، وأخذ من حىّ لميّت ، ومن فان لباق ، ومن ذاهب لدائم ، امرؤ خاف اللّه (4) وهو معمّر إلى أجله ، ومنظور إلى
    __________________
    (1) نفس ـ بالتحريك ـ أى : سعة البقاء ، وصحف الأعمال منشورة لكتابة الصالحات والسيئات ، وبسط التوبة : قبولها ، و «المدبر» أى : المعرض عن الطاعة يدعى إليها ، والمسىء : يرجى إحسانه ورجوعه عن إساءته ، وخمود العمل : انقطاعه بحلول الموت
    (2) صعود الملائكة لعرض أعمال العبد إذا انتهى أجله ليس بعده توبة
    (3) «أخذ» أمر بصيغة الماضى ، أى : فليأخذ ، أو هو على حقيقته مرتب على قوله فاعملوا ، أى : لو عملتم لأخذ امرؤ ، وأخذه من نفسه تعاطى الأعمال الجليلة لنفسه ، أى : لتسعد بها نفسه ، والحى والميت : هو المرء نفسه ، ولكنه فى حياته قادر على العمل ، فاذا مات فليس له إلا ما أخذه من حياته ، و «من فان» أى : حياة فانية وهى الدنيا «لباق» وهو الآخرة ، وهكذا الذاهب والدائم
    (4) «امرؤ خاف ـ الخ» أى : الناجى هو امرؤ خاف اللّه. فأدى الواجب عليه له وللناس وهو فى مهلة الحياة تمتد به إلى أجله ، و «منظور» أى : ممهل من اللّه لا يأخذه بالعقاب إلى أن يعمل : فيعفو عن تقصيره ، ويثيبه على عمله «17 ـ ن ـ ج ـ 2»

    عمله ، امرؤ لجّم نفسه بلجامها ، وزمّها بزمامها (1) ، فأمسكها بلجامها عن معاصى اللّه ، وقادها بزمامها إلى طاعة اللّه
    233 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى شأن الحكمين ، وذم أهل الشام
    جفاة طغام (2) ، عبيد أقزام ، جمّعوا من كلّ أوب ، وتلقّطوا من كلّ شوب ، ممّن ينبغى أن يفقّه ويؤدّب (3) ، ويعلّم ويدرّب ، ويولّى عليه ، ويؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين والأنصار ، ولا من الّذين تبوّأوا الدّار [والإيمان] ألا وإنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يحبّون ، وإنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون (4) ، وإنّما عهدكم بعبد اللّه بن قيس بالأمس
    __________________
    (1) «زمها» أى : قادها بقيادها
    (2) الجفاة ـ بضم الجيم ـ جمع جاف ، أى : غليظ فظ ، والطغام ـ كسحاب ـ أوغاد الناس ، والعبيد : كناية عن رديئى الأخلاق ، والأقزام : جمع قزم ـ بالتحريك ـ وهم أرذال الناس ، «جمعوا من كل أوب» أى : ناحية ، والشوب : الخلط ، كناية عن كونهم أخلاطا ليسوا من صراحة النسب فى شىء
    (3) «ممن ينبغى» أى : إنهم على جهل ، فينبغى أن يفقهوا ويؤدبوا ويعلموا فرائضهم ، ويمرنوا على العمل بها ، وهم سفهاء الأحلام ، فينبغى أن يولى عليهم ، أى : يقام لهم الأولياء ، ليلزموهم بمصالحهم ويعلموهم ويأخذوا على أيديهم ، فلا يبيحون لهم التصرف من أنفسهم ، وإلا جرتهم إلى الضرر بالجهل والسفه ، «تبوأوا الدار» أى : نزلوا المدينة المنورة ، كناية عن الأنصار الأولين
    (4) أقرب القوم : يريد به أبا موسى الأشعرى ، وهو عبد اللّه بن قيس ، وهو لعدم وقوفه على وجوه الحيل يؤخذ بالخديعة فيكون أقرب إلى موافقة الأعداء

    يقول «إنّها فتنة فقطّعوا أوتاركم ، وشيموا سيوفكم» فإن كان صادقا (1) فقد أخطأ بمسيره غير مستكره ، وإن كان كاذبا فقد لزمته التّهمة ، فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبد اللّه بن عبّاس ، وخذوا مهل الأيّام ، وحوطوا قواصى الإسلام ألا ترون إلى بلادكم تغزى ، وإلى صفاتكم ترمى
    234 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    يذكر فيها آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلم
    هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، [وظاهرهم عن
    __________________
    على أغراضهم. وهو ما يكرهه أصحاب أمير المؤمنين ، خصوصا وقد عهدوه بالأمس ـ أى : عند إعداد الجيش للحرب ـ يقول : إن الحادثة فتنه فقطعوا أوتار القسى ، و «شيموا» أى : اغمدوا السيوف ، ولا تقاتلوا ، يثبط بذلك أصحاب على عن الحرب
    (1) إن صح قول أبى موسى «إنها فتنة» ولم يكرهه أحد على الدخول فيها ، فقد أخطأ بمسيره إليها ، وكان عمله خلاف عقيدته ، ومن كان من شأنه ذلك فلا يصلح للحكم ، وإن كان كاذبا فيما يقول ، فقد كان عارفا بالحق ونطق بالباطل فهو متهم. ويخشى أن يكون منه مثل ذلك فى الحكم ، وقوله : «فادفعوا ـ الخ» أى : اختاروا ابن عباس حكما فانه كفء لعمرو بن العاص ، وخذوا مهل الأيام ـ أى : فسحتها ـ فاستعدوا فيها بجمع قواكم ، وتوفير عددكم ، وتجنيد جيوشكم ، وحوطوا قواصى الاسلام ، أى : احفظوها من غارة أهل الفتنة عليها ، واجعلوا كل قاصية لكم لا عليكم ، وقواصى الاسلام : أطرافه ، ورمى الصفاة ـ بفتح الصاد ـ كناية عن طمع العدو فيما باليد. وأصل الصفاة : الحجر الصلد ، يراد منها القوة. وما يحميه الانسان

    باطنهم] وصمتهم عن حكم منطقهم : لا يخالفون الحقّ ، ولا يختلفون فيه ، هم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام (1) ، بهم عاد الحقّ فى نصابه (2) ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدّين عقل وعاية ورعاية (3) لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل
    235 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله لعبد اللّه بن عباس ، وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة (4) بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل ، فقال عليه السلام :
    __________________
    (1) ولائج : جمع وليجة ، وهى ما يدخل فيه السائر اعتصاما من مطر أو برد ، أو توقيا من مفترس
    (2) نصاب الحق : أصله ، والأصل فى معنى النصاب : مقبض السكين ، فكأن الحق نصل ينفصل عن مقبضه ويعود إليه ، وانزاح : زال ، وانقطاع لسان الباطل عن منبته ـ بكسر الباء ، وقياسه الفتح ، وورد به أيضا ـ أى : عن أصله ، مجاز عن بطلان حجته ، وانخذاله عند هجوم جيش الحق عليه
    (3) عقل الوعاية : حفظ فى فهم ، والرعاية : ملاحظة أحكام الدين وتطبيق الأعمال عليها ، وهذا هو العلم بالدين حقيقة ، أما السماع والرواية مجردين عن الفهم والرعاية فمنزلتهما لا تخالف منزلة الجهل إلا فى الاسم.
    (4) كان الناس يهتفون باسم أمير المؤمنين للخلافة ، أى : ينادون به وعثمان رضى اللّه عنه محصور ، فأرسل إليه عثمان يأمره أن يخرج إلى ينبع ـ وكان فيها رزق لأمير المؤمنين ـ فخرج ، ثم استدعاه لينصره فحضر ، ثم عاود الأمر بالخروج مرة ثانية

    يا ابن عبّاس ، ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلنى جملا ناضحا بالغرب (1) أقبل وأدبر : بعث إلىّ أن أخرج ، ثمّ بعث إلىّ أن أقدم ، ثمّ هو الآن يبعث إلىّ أن أخرج ، واللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما
    239 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    يحث أصحابه على الجهاد
    واللّه مستأديكم شكره (2) ومورثكم أمره ، وممهلكم فى مضمار محدود (3) لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر (4) واطووا فضول الخواصر [و] لا تجتمع
    __________________
    (1) نضح الجمل الماء ـ من باب نفع ـ حمله من بئر أو نهر ليسقى به الزرع فهو ناضح ، والأنثى ناضحة بالهاء ، سمى ناضحا لأنه ينضح العطش ، أى : يبله بالماء الذى يحمله ، هذا أصله ، ثم استعمل الناضح فى كل بعير وإن لم يحمل الماء ، وفى الحديث «أطعمه ناضحك» أى : بعيرك ، والجمع نواضح. والغرب ـ بفتح فسكون ـ : الدلو العظيمة ، والكلام تمثيل للتسخير
    (2) مستأديكم : طالب منكم أداء شكره ، وأمره : سلطانه فى الأرض يورثه الصالحين المحافظين على رعاية أوامره ونواهيه
    (3) «ممهلكم» أى : معطيكم مهلة فى مضمار الحياة المحدود بالأجل ، وأصل المضمار : المكان تضمر فيه الخيل ، أى : تحضر للسباق ، «لتتنازعوا» أى : تتنافسوا فى سبقه ، والسبق ـ بالتحريك ـ : الخطر يوضع بين المتسابقين يأخذه السابق منهم ، وهو هنا الجنة
    (4) العقد : جمع عقدة ، والمآزر : جمع مئزر ، وشد عقد المآزر : كناية عن الجد والتشمير : فان من شد العقدة أمن من انحلالها فيمضى فى عمله غير خائف ، و «اطووا فضول الخواصر» أى : ما فضل من مآزركم يلتف على أقدامكم فاطووه حتى تخفوا فى العمل ، ولا يعوقكم شىء عن الاسراع فى عملكم

    عزيمة ووليمة (1) ما أنقض النّوم لعزائم اليوم (2) وأمحى الظّلم لتذاكير الهمم!! وصلى اللّه على سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله مصابيح الدجى ، والعروة الوثقى ، وسلم تسليما كثيرا.
    __________________
    (1) أى : لا يجتمع طلب المعالى مع الركون إلى اللذائذ.
    (2) «ما» تعجبية ، أى : ما أشد النوم نقضا لعزيمة النهار : يعزم السائر على قطع جزء من الليل فى السير ، فاذا جاء الليل غلبه النوم ، فنقض عزيمته. والظلم : جمع ظلمة ، متى دخلت محت تذكار الهمة التى كانت فى النهار. واللّه أعلم
    تمّ بحمد اللّه وحسن تيسيره طبع الجزء الثانى من كتاب «نهج البلاغة» وبه يتم الباب الأول ، وهو باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره ، وكلامه الجارى مجرى الخطب ، ويليه ـ إن شاء اللّه تعالى ـ الجزء الثالث ، وأوله باب المختار من كتب أمير المؤمنين إلى أعدائه وأمراء بلاده .. نسأل اللّه أن يعين على إكماله بمنه وكرمه.

    فهرست الجزء الثانى
    من كتاب
    نهج البلاغة
    وهو النصف الثانى من مختار خطب أمير المؤمنين
    أبى الحسن على بن أبى طالب كرم الله وجهه
    وكلامه الذى يجرى مجرى الخطب


    2 من كلام له عليه السلام خاطب به الخوارج عند إقامتهم على إنكار التحكيم ، وفيه الاحتجاج عليهم ، وفيه الاحتجاج ، وفيه الاحتجاج عليهم بأنهم هم الذين دعوا إلى الحكومة أوتى علم الغيب
    3 من كلام له قال لأصحابه في ساعة الحرب 15 من خطبة في المكاييل ، وفيها ذكر وصف الزمان وأهله واستهواء الشيطان لهم
    4 ومن كلام له في حث أصحابه على القتال ، وفيه النصيحة الغالية ، وتعليم المقاتلة طريق الانتصار على الخصوم 17 ومن كلام خاطب به أباذر لما نفاه عثمان رصى الله عنه إلى الربذة
    7 ومن كلام له في التحكيم ، والاعتذار عن جعل له. وفيه الحث على علمل بالحق والتمسك به 18 ومن كلامفي حال نفسه مع أصحابه ، وأوصاف الامام مطلقا
    10 ومن كلام له لما عوتب على التسويه في العطاء 20 ومن خطة في الوعظ ، والتخويف بالموت.
    11 ومن كلام له في الرد على من زعم أن من أخطأ أو أذنب فقد كفر ، وفيه أن المحب المفرط والمبغض المفرط هالكان 22 من خطبة في تمجيد الله ، وصفة القرآن ، وصفات النبي ، وأوصفا الدنيا وبيان لحكمة الله في خوف الموت ، ثم وصف لحالة الناس في المباغضة
    13 ومن خطبة له فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة ، وفيها الرد على من زعم من أصحابه أنه 24 كلام في مشورة على عمر رضى الله عنه بعدم الخروج بنفسه لحرب الروم.
    25 ومن كلام في تقريع المغيرة ابن الأخنس
    26 ومن كلام في وصف بيعته ونيته فيها ونية الناس


    26 ومن كلام في طلحة والزبير وفتنهما الرشد إنما تكون بعد معرفة ضده
    29 من حطبه له في الملاحم بذكر أوصاف ها وأوصاف ناكث 44 من خطبه في شأن طلحة والزبير كل مع صاحبه ، وذكر أهل البصرة
    31 من كلام له وقت الشورى في وصف نفسه والتحذير من عاقبة الأمر ومن كلام في الزجر عن الغيبة 45 ومن كلام في وصيته قبل موته
    32 من كلام في النهى عن التسرع بسوء الظن 47 من خطبة في الملاحم يذكر ضالا ،ثم فتنة يفوز فيها أهل القرآن ، ثم حال الناس في الحاهلية وبعد البعثة
    33 ومن كلام في وضع المعروف عند غير أهله 49 من خطبة له في فتنة وما يكون فيها ، وفي صدرها كلام بديع في أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إزالة أرجاس الجاهلية وظلمتها
    34 ومن خطبه في الاستقساء 53 من خطبة في تمجيد الله ، وفي منزلة الأئمة من الناس ، وفي صفة الاسلام وفي وصف قوم بالخيبة والنهى عن سلوك مسالكهم ، وفيه صفات لاينفع العيد مع إحداها عمل ووصف المؤمنين وغيرهم
    36 من كلام في بعثة آل البيت ، وقوم آخرين 55 ومن خطبة في صفة الضال ، وبيان أن الناس يعودون إلى
    38 من خطبة في شؤون الدنيا مع الناس ، وفي البدع والسنن
    39 ومن كلام في مشورته لعمر عند حرب الفرس
    40 من خطبة فيما هدى الله الناس بيعة النبي ، وأوصاف أهل زمان ينحرفون عن القرآن ، ثم تنبيه من عرف عظمة الله أن لا يتعاطم ، ثم بيان أن معرفة


    الضلال بعد معرفة الهداية الله ، ومنها في شخص يزعم أنه يرجوا الله وهو لا يعمل لرجائه وفي الحث على الاقتداء بالأنبياء في احتقار الدنيا.
    57 من خطبة له في الداعي ووصف آل البيت ولزوم العمل بالعلم والعلم للعمل. وبيان أن كل عمل نبات 77 من خطبة في مزايا النبي وشريعته ، وفي التبصير بالدنيا وعواقب أهلها
    60 من خطبة في وصف الخفاش وبديع خلقته 79 من كلام له جوابا لقائل : مالقومكم دفعوكم عن حقكم
    62 من كلام خاطب به أهل البصرة في وصف حاقدة عليه ، وبين فيها سبيل النجاة ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووصف القرآن 81 من خطبة له في تنزيه الله ، وتذكير الانسان بهداية الله له إلى سبيل معيشته
    66 من خطبة في الدهر والتحفظ منه ، وفي التقوى والفجور ، وفي الوصية بالنفس والعمل لنجاتها ، وفي تحقير المال وتعظيم موعود الله ، وفي التنبيه على أن علينا رصداً من جوارحنا وفي تهويل يوم الجزاء. 84 من كلام له لعثمان رضى الله عنه عند ما أرسله القائمون عليه سفيراً إليه ، وهو من أحاسن الكلام ، وفيه بيان منزلة عثمان في دينه ، وصفة الامام العادل
    69 من خطبة في حال الناس قبل البعثة وبعدها ، ثم في حالهم عند ما ينحرفون عن القرآن 86 من خطبة له في وصف الطاووس ، وهي من غرر كلامه وفيها شيء من وصف الجنة
    70 من خطبة في وصف حاله مع أصحابه في تمجيد 95 من خطبة له يوصى فيها بالرأفة وجعل الباطن موافقاً للظاهر ، ويوعد بني أمية ، ويبين أن الضعف قرين التخاذل


    97 من خطبة له أول خلافته : عظم فيها حقوق المؤمن ، ووصى بمبادرة أمر العامة تتم البيعة ، ومن يجب قتاله ، وفي ذم الدنيا والتزهيد فيها
    98 من كلام في وصف الناس بعد قتل عثمان 107 من كلام له في طلحة بن عبيد الله ، وأمر قتل عثمان
    99 من خطبة له عند مسير أصحاب الجمل : يوصى فيها بالطاعة والوفاق ، ويوعد على الخلاف بانتقال السلطه من أيديهم 108 من خطبة له في خطاب الغافلين يشبهمم بالأنعام تحسب يومها دهرها
    100 ومن كلام له مع رجل جاء من البصرة يستخبره عن أمر أصحاب الجمل ، وهو من أقوم الحجج التي لا يسع سامعها إلا الانقياد لها 109 ومن خطبة له يحذر من متابعة الهوى ، ثم يبين منزلة القرآن ويطلب متابعته ، ثم يحث على الاستقامة وينهي عن تهزيع الأخلاق ، ثم يأمر بحفظ اللسان ولزوم الصدق ، ثم يقسم اللظم إلى أقسام ثلاثة
    101 دعا عند عزمه على لقاء القوم بصفين ومن كلام له الحجة على من رماه بالحرص ، ثم دعاؤ على قريش ، ثم كلام في أصحاب الجمل وما فعلوا بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم 117 من كلام له في الحكمين
    104 من خطبة له في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي بيان من هو أحق بالخلافة ، وبمن 118 ومن خطبة يمجد الله فيها ، ثم يحذر من الدنيا ، ثم يؤكد أن زوال النعم من سوء الفعال
    120 كلام في التنزيه جواباً لمن سأله هل رأيت ربك
    121 ومن خطبة في ذم أصحابه وتحريضهم
    123 ومن كلام في ذم قوم زعول للحاق بالخوارج


    124 من خطبة له في تنزيه الله وذكر آثار قدرته. ثم تذكير الناس بما نزل بسابقين ، ثم وصف للمسلم الحكيم ، ثم تأسف على إخوانه الذين قتلوا بصفين ، مع ذكر بعض أوصافهم وبيان أطوار الناس في بعض الأزمان المستقلة ، وفيها الوصية بتجنب الفتن
    132 من خطبة في تنزيه الله والحث على تعظيمه ، ثم في بيان منزلة الانسان من الدنيا ، ثم التخويف من عقاب الآخرة ، وفيها ذكر القرآن وصفته 151 من خطبة له في التذكير بنعم الله والعظة بأحوال الموتى ، وتفصيل فيها
    137 كلام في ذم البرج بن مسهر الطائي الخارجي 152 من خطبة في تقسيم الإيمان ، والنهي عن البراءة من أحد حتى يحضره الموت ، وفي الهجرة ، وفي صعوبة أمر نفسه
    ومن خطبة في تنزيه الله ، ثم في صفة خلق بعض الحيوانات وفي وصف النملة ، والجرادة وصفا دقيقاً 153 من خطبة له في الأمر بالتقوى ، والتخويف الدنيا ، وتهويل الجيحم ووصف أهل الجنة ، والوصية بلزوم السكون والصبر على البلاء
    142 من خطبة له في التوحيد ، وهي من جلائل الخطب : تجمع كثيراً من أصول العلم 156 من خطبة في الوصية بالتقوى ، ثم وصف الدنيا ، ثم حالها مع المغرورين بها
    149 من خطبة له تختص بذكر للاحم ، وفيها بيان صفة أهل الحق الذين سترتهم ظلمة الباطل 161 الخطبة «القاصعة» في ذم الكبر وتقبيح الاختلاف ، وفيها بيان بعض أسرار التكاليف وهي من جلائل الخطب
    185 خطبة في وصف المتقين وهى


    التي صعق همام فمات بعد صماغها وإن قدر عليه
    190 خطبة يصف بها المنافقين 207 ومن كلام في النهى عن الاعوجاج وإن قل المستقيمون ، والوصية بالنكار المنكر
    193 من خطبة في تمجيد الله وأنه لا يسلبه شأن شأنا ؛ ثم الوصية بالتقوى ، ووصف اليوم الآخره من كلام له عند دفن السيدة فاطمة
    195 من خطبة في التحذير من الدنيا ، وبيان شيء من تصرفها بأبنها ، والوصية بالتقوى فيها 209 ومن كلام في أن الدنيا دار مجاز ومن كلام له كان ينادي به أصحابه في الازعاج عن الدنيا ، والتذكير بالموت
    196 ومن كلام في بيان اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم 210 من كلام لطلحة والزبير عند مانقما عليه عدم الرجوع إليهما في الرأى.
    198 من خطبة في بيان إحاطه علم الله بالموجودات ؛ وبيان مزايا التقوى والوصية بها ؛ ثم وصف دين الاسلام ؛ ثم في وصف دين الاسلام ؛ ثم حال بعثة النبي ؛ ثم وصف القرآن 211 ومن كلام له في بعض أيام صفين ، وقد رأى الحسن ابنه يتسرع إلى الحرب
    204 من كلام له كان يوصى به أصحابه في العبادات ومكارم الأخلاق ، وشيء من حكم : الصلاة ، والزكاة ، وأداء الأمانة من كلام قاله عند اضطراب أصحابه عليه في الحكومة
    206 من كلام له في تنزهه عن الغدر 213 ومن كلام له في أن نعيم الدنيا يؤدي إلى الآخرة إن صلحت فيه النية وحسن العمل


    214 من كلام له في تقسيم الأحاديث الواردة عن النبي ، وتصنيف روانها وعبد الرحمن بن عتاب وهما قتيلان يوم الجمل
    216 من خطبة له في تمجيد الله ، ووصف خلق البحار والسموات والأرض 229 ومن كلام له في وصف تقي
    219 من خطبة في التفويض الله فيمن خذله بعد معرفة عدالته وإصلاحه 230 ومن كلام عند تلاوته (ألهاكم التكاثر) وصف فيه الموتى والسائرين إلى الموت ، وهى من أجل الخطب
    من كلام في تمجيد الله ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم 237 من كلام له عند تلأوته (رجال لا تلهيهم تجارة) فيها وصف الصديقين
    220 ومن خطبة في شرف النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر أوصاف أهل الخير ، والوصية باستماع النصحية من مخلصها 240 من كلام عند تلاوته (ياأيها الانسان ما غرك بربك الكريم) وفيها تبرئه الدنيا من الذهم ، وإلزامه للمغرورين بها. من خطبة له في تهويل الظلم وتبرئه منه ، وبيان صغر الدنيا في نظره
    222 دعاء كان يدعو به كثيراً 245 من دعاء له
    223 من خطبة له بصفين بين حق الخليفة وحق الرعية ، ومضار إغفال الحقوق ، ونهى أصحابه عن الثناء عليه 246 من خطة له في ذم الدنيا ، ووصف سكان القيور
    227 كلام له في الشكوى من قريش وظلمهم له 249 ومن كلام له في الثناء على عمر ابن الخطاب. من كلام له في وصف بيعته بالخلاقه
    228 من كلام له في وصف السائرين إلى البصرة لحربه 250 ومن خطبة له في الوصية بالتقوى وتخويف الموت ، والتحذير من الدنيا ، ثم وصف الزهاد
    229 من كلام له لمامر بلطلحة


    253 كلمات من خطبة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم 257 ومن خطبة له في طلب العمل قبل الأجل ، والاخذ من الفاني للباقي
    من كلام قال هفي رد طالب منه مالا 258 من كلام في شأن الحكمين ، ووصف أهل الشام
    254 من كلام في إجحام اللسان عن الكلام ، ثم في حال الناس يبعض الأزمان 259 من خطبة له يصف فيها آل البيت الكريم
    255 ومن كلام في سبب اختلاف الناس في أخلاقهم 260 ومن كلام له عند ما أمره عثمان بالخروج إلى ينبع ، وفيه بيان حاله مع عثمان
    من كلام قاله وهو يلى غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم 261 من كلام له يحث به أصحابه على الجهاد
    266 كلمة له في اقتفائه أثر الرسول بعد الهجرة
    تم الفهرس
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    نهج البلاغه ج2
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » نهج البلاغه ج3

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 46- منتدى كتاب نهج البلاغه 123-
    انتقل الى: