الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

»  أحاديث / شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا) شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)
نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 9:50 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     نهج البلاغه ج1

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:01 pm

    بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    أما بعد حمد اللّه الذى جعل الحمد ثمنا لنعمائه ، ومعاذا من بلائه ، وسبيلا إلى جنانه (1) وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبى الرحمة ، وإمام الأئمة ، وسراج الأمة. المنتخب من طينة الكرم (2) وسلالة المجد الأقدم. ومغرس الفخار المعرق (3) وفرع العلاء المثمر المورق. وعلى أهل بيته مصابيح الظّلم ، وعصم الأمم (4) ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى اللّه عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاء لفضلهم (5) ومكافأة لعملهم ، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع ، وخوى نجم طالع (6) ـ فإنى كنت فى عنفوان السن (7) وغضاضة الغصن ، ابتدأت
    __________________
    (1) فى بعض النسخ ووسيلا وهو جمع وسيلة ، وهى : ما يتقرب به ، ورواية سبيلا أحسن.
    (2) طينة الكرم : أصله ، وسلالة المجد : فرعه
    (3) الفخار : قال بعضهم بالكسر ، ويغلط من يقرأ بالفتح لأنه مصدر فاخر ، والمصدر من فاعل الفعال بكسر أوله ، غير أنه لا يبعد أن يكون مصدر فخر ، والثلاثى إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق جاء المصدر منه على فعال بالفتح نحو سمح سماحا
    (4) العصم جمع عصمة : وهو ما يعتصم به ، والمنار : الأعلام واحدها منارة ، والمثاقيل جمع مثقال وهو : مقدار وزن الشىء ، تقول : مثقال حبة ، ومثقال دينار ، فمثاقيل الفضل : زناته ، أى : أن الفضل يعرف بهم مقداره
    (5) إزاء لفضلهم : أى مقابلة له
    (6) خوى النجم : سقط ، وخوت النجوم : أمحلت فلم تمطر كأخوت وخوت بالتشديد
    (7) عنفوان السن : أولها

    بتأليف كتاب فى خصائص الأئمة عليهم السلام : يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حدانى عليه غرض ذكرته فى صدر الكتاب ، وجعلته أمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التى تخص أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان (1) ومماطلات الأيام ، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء فى آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير فى الحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة ، والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه (2) وسألونى عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوى على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فى جميع فنونه ، ومتشعبات غصونه : من خطب ، وكتب ، ومواعظ ، وآداب. علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ، ما لا يوجد مجتمعا فى كلام (3) ولا مجموع الأطراف فى كتاب ، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها (4) ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (5) ، وبكلامه
    __________________
    (1) محاجزات الزمان : ممانعاته. ومماطلات الأيام : مدافعاتها
    (2) النواصع : الخالصة ، وناصع كل شىء خالصه.
    (3) الثواقب : المضيئة ، ومنه الشهاب الثاقب. ومن الكلم ما يضىء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدى بها إليه.
    (4) المشرع : تذكير المشرعة. مورد الشاربة كالشريعة
    (5) حذا كل قائل : اقتفى واتبع

    استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذى عليه مسحة من العلم الإلهى (1) وفيه عبقة من الكلام النبوى ، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام فى هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدّثرة ، والفضائل الجمة (2). وأنه ، عليه السلام ، انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد (3). وأما كلامه فهو من البحر الذى لا يساجل (4) والجم الذى لا يحافل (5) وأردت أن يسوغ لى التمثل فى الافتخار به عليه السلام ، بقول الفرزدق : ـ أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا ، يا جرير ، المجامع
    ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة : أولها : الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، وثالثها : الحكم والمواعظ ، فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، (6) ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والأدب. مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصّلا فيه
    __________________
    (1) عليه مسحة من جمال مثلا ، أى : شىء منه. وكأنه يريد بهاء منه وضياء ، والعبقة : الرائحة.
    (2) اعتمدت : قصدت ، والدثرة بفتح فسكون : الكثيرة
    (3) يؤثر : أى ينقل عنهم ويحكى.
    (4) لا يغالب فى الامتلاء وكثرة الماء.
    (5) لا يغالب فى الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل ، أى : ممتلىء كثير اللبن.
    (6) أجمع عليه : عزم ، والمحاسن : جمع حسن على غير قياس.

    أوراقا ، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عنى عاجلا ، ويقع إلىّ آجلا ، وإذا جاء شىء من كلامه عليه السلام الخارج فى أثناء حوار (1) أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الأغراض ـ فى غير الأنحاء التى ذكرتها ، وقررت القاعدة عليها ـ نسبته إلى أليق الأبواب به ، وأشدها ملامحة لغرضه (2). وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة ، ومحاسن كلم غير منتظمة ، لأنى أورد النكت واللّمع ، ولا أقصد التتالى والنسق. ومن عجائبه ، عليه السلام ، التى انفرد بها ، وأمن المشاركة فيها ، أن كلامه عليه السلام ، الوارد فى الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمله المتأمل ، وفكر فيه المتفكر ، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ، ونفذ أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك فى أنه من كلام من لاحظ له فى غير الزّهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع فى كسر بيت (3) أو انقطع فى سفح جبل ، لا يسمع إلا حسّه ، ولا يرى إلا نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس فى الحرب مصلتا سيفه (4) فيقطّ الرقاب ، ويجدّل
    __________________
    (1) بالفتح وبالكسر : المحاورة.
    (2) الملامحة : الابصار والنظر ، والمراد هنا المناسبة ، لأن من ينظر إلى شىء ويبصره كان كأنه يميل إليه ويلائمه.
    (3) قبع القنفذ ، كمنع : أدخل رأسه فى جلده ، والرجل أدخل رأسه فى قميصه أراد منه : انزوى. وكسر البيت : جانب الخباء ، وسفح الجبل : أسفله.
    (4) أصلت سيفه : جرده من غمده ، ويقط الرقاب : يقطعها عرضا. فان كان القطع طولا ، قيل : يقد. قال ابن عائشة : كانت ضربات على أبكارا إن اعتلى قد وإن اعترض قط. ومنه قط القلم

    الأبطال (1) ويعود به ينطف دما ، ويقطر مهجا. وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد ، وبدل الأبدال (2). وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التى جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات (3). وكثيرا ما أذكر الإخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهى موضع للعبرة بها ، والفكرة فيها وربما جاء فى أثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد ، والمعنى المكرر. والعذر فى ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا : فربما اتفق الكلام المختار فى رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك فى رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول : إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضى الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام (4) وربما بعد العهد أيضا بما اختير أوّلا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا ، لا قصدا واعتمادا.
    __________________
    (1) يجدل الأبطال : يلقيهم على الجدالة كسحابة : وهى وجه الأرض وينطف من نطف كنصر وضرب ، نطفا وتنطافا : سال ، والمهج : جمع مهجة ، وهى : دم القلب
    (2) الأبدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات منهم واحد ابدل؟؟؟ اللّه مكانه آخر.
    (3) موضع العجب أن أهل الشجاعة والاقدام والمغامرة والجرأة يكونون فى العادة أقسياء فتاكا متمردين جبارين. والغالب على أهل الزهد وأعداء الدنيا وهاجرى ملاذها المشتغلين بالوعظ والنصيحة والتذكير أن يكونوا ذوى رقة ولين وضعف قلوب وخور طباع ، وهاتان حالتان متضادتان فاجتماعهما فى أمير المؤمنين على كرم اللّه وجهه مما يوجب العجب : فكان كرم اللّه وجهه أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم ، وأزهدهم وأبعدهم عن ملاذ الدنيا ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا وأشدهم اجتهادا فى العبادة ، وكان أكرم الناس أخلاقا وأسفرهم وجها وأوفاهم هشاشة وبشاشة حتى عيب بالدعابة
    (4) عقائل الكلام : كرائمه. وعقيلة الحى : كريمته

    ولا أدعى ـ مع ذلك ـ أنى أحيط باقطار جميع كلامه عليه السلام (1) حتى لا يشذ عنى منه شاذ ، ولا يند ناد. بل لا أبعد أن يكون القاصر عنى فوق الواقع إلىّ ، والحاصل فى ربقتى دون الخارج من يدى (2) وما علىّ إلا بذل الجهد ، وبلاغ الوسع ، وعلى اللّه سبحانه وتعالى نهج السبيل (3) ورشاد الدليل ، إن شاء اللّه. ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب ب‍ «نهج البلاغة» إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، فيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد. ويمضى فى أثنائه من الكلام فى التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة (4) وجلاء كل شبهة ومن اللّه سبحانه أستمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان ، قبل خطأ اللسان ، ومن زلة الكلام ، قبل زلة القدم وهو حسبى ونعم الوكيل.
    باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره
    . ويدخل فى ذلك المختار من كلامه الجارى مجرى الخطب فى المقامات المحصورة ، والمواقف المذكورة والخطوب الواردة
    __________________
    (1) أقطار الكلام : جوانبه. والناد. المنفرد.
    (2) الربقة : عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.
    (3) نهج السبيل : إبانته وإيضاحه.
    (4) الغلة : العطش ، وبلالها : ما تبل به وتروى

    1 ـ فمن خطبة له عليه السّلام
    يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض ، وخلق آدم. وفيها ذكر الحج
    الحمد للّه الّذى لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصى نعماءه العادّون ، ولا يؤدّى حقّه المجتهدون ، الّذى لا يدركه بعد الهمم (1) ولا يناله غوص الفطن (2) الّذى ليس لصفته حدّ محدود (3) ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود : فطر الخلائق بقدرته ، ونشر الرّياح برحمته ، ووتّد بالصّخور ميدان أرضه (4) أوّل الدّين معرفته (5) وكمال معرفته التّصديق به ، وكمال
    __________________
    (1) أى. أن همم النظار وأصحاب الفكر ، وإن علت وبعدت ، فانها لا تدركه تعالى ولا تحيط به علما.
    (2) والفطن : جمع فطنة ، وغوصها : استغراقها فى بحر المعقولات لتلتقط درر الحقيقة وهى وإن بعدت فى الغوص لا تنال حقيقة الذات الأقدس.
    (3) فرغ من الكلام فى الذات وامتناعها على العقول إدراكا ، ثم هو الآن فى تقديس صفاته عن مشابهة الصفات الحادثة ، فكل صفات الممكن لها فى أثرها حد تنقطع إليه ، كما نجده فى قدرتنا وعلمنا مثلا ، فان لكل طورا لا يتعداه. أما قدرة اللّه وعلمه فلا حد لشمولهما ، وكذا يقال فى باقى الصفات الكمالية. والنعت يقال لما يتغير ، وصفاتنا لها نعوت ، فحياتنا مثلا لها أطوار : من طفولية ، وصبا ، وما بعدهما ، وقوة ، وضعف ، وتوسط ، وقدرتنا كذلك. وعلمنا له أدوار نقص وكمال ، وغموض ووضوح. أما صفاته تعالى فهى منزهة عن هذه النعوت وأشباهها. ثم هى أزلية أبدية ، لا تعد الأوقات لوجودها واتصاف ذاته بها ، ولا تضرب لها الآجال
    (4) الميدان : الحركة ، ووتد بالتخفيف والتشديد أى : ثبت ، أى : سكن الأرض بعد اضطرابها بما رسخ من الصخور الجامدة فى أديمها ، وهو يشير إلى أن الأرض كانت مائدة مضطربة قبل جمودها
    (5) أساس الدين معرفة اللّه ، وهو قد يعرف بأنه صانع العالم ، وليس منه

    التّصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفى الصّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة : فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله (1) ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه (2) ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال «فيم؟» فقد ضمّنه ،
    __________________
    ، بدون تنزيه ، وهى معرفة ناقصة ، وكمالها التصديق به ذاته : بصفته الخاصة التى لا يشركه فيها غيره ، وهى وجوب الوجود ، ولا يكمل هذا التصديق حتى يكون معه لازمه وهو التوحيد ، لأن الواجب لا يتعدد كما عرف فى فن الالهيات والكلام ولا يكمل التوحيد إلا بتمحيض السر له دون ملامحة لشىء من شؤون الحوادث فى التوجه إليه واستشراق نوره. ولا يكون هذا الاخلاص كاملا حتى يكون معه نفى الصفات الظاهرة فى التعينات المشهودة فى المشخصات ، لأن معرفة الذات الأقدس فى نحو تلك الصفات اعتبار للذات ولشىء آخر مغاير لها معها ، فيكون قد عرف مسمى اللّه مؤلفا لا متوحدا ، فالصفات المنفية بالاخلاص صفات المصنوعين ، وإلا فللامام على كلام قد ملئ بصفاته سبحانه ، بل هو فى هذا الكلام يصفه أكمل الوصف
    (1) جهله : أى : جهل أنه منزه عن مشابهة الماديات ، مقدس عن مضارعة المركبات ، وهذا الجهل يستلزم القول بالشخص الجسمانى ، وهو يستلزم صحة الاشارة إليه ، تعالى اللّه عن ذلك.
    (2) إنما تشير إلى شىء إذا كان منك فى جهة ، فأنت تتوجه إليها باشارتك وما كان فى جهة فهو منقطع عن غيرها ، فيكون محدودا ـ أى : له طرف ينتهى إليه ـ فمن أشار إليه فقد حده ، ومن حد فقد عد ـ أى : أحصى وأحاط بذلك المحدود ـ لأن الحد حاصر لمحدوده. وإذا قلت لشىء «فيم هو» فقد جعلته فى ضمن شىء ، ثم تسأل عن تعيين ذلك الذى تضمنه. وإذا قلت «على أى شىء» فأنت ترى انه مستعل على شىء بعينه وما عداه خال منه

    ومن قال «علام؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث (1) موجود لا عن عدم ، مع كلّ شىء لا بمقارنة ، وغير كلّ شىء لا بمزايلة (2) فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه (3) متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (4) أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها (5) ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها (6) أحال الأشياء لأوقاتها (7) ولأم بين مختلفاتها (Cool وغرّز
    __________________
    (1) الحدث : الابداء ، أى : هو موجود لكن لا عن إبداء وإيجاد موجد. والفقرة الثانية لازمة لهذه ، لأنه إن لم يكن وجوده عن إيجاد موجد فهو غير مسبوق الوجود بالعدم.
    (2) المزايلة : المفارقة والمباينة.
    (3) أى : بصير بخلقه قبل وجودهم.
    (4) العادة والعرف على انه لا يقال «متوحد» إلا لمن كان له من يستأنس بقربه ويستوحش لبعده ، فانفرد عنه. واللّه متوحد مع التنزه عن السكن.
    (5) الروية : الفكر ، وأجالها : أدارها ورددها. وفى نسخة : أحالها ـ بالمهملة ـ أي : صرفها.
    (6) همامة النفس ـ بفتح الهاء ـ : اهتمامها بالأمر ، وقصدها إليه.
    (7) حولها من العدم إلى الوجود فى أوقاتها ، أو هو من «حال فى متن فرسه» أى : وثب. وأحاله غيره : أوثبه. ومن أقر الأشياء فى أحيانها صار كمن أحال غيره على فرسه.
    (Cool كما قرن النفس الروحانية بالجسد المادى

    غرائزها (1) وألزمها أشباحها (2) عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها عارفا بقرائنها وأحنائها (3) ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء (4) وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء (5) فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره (6) متراكما زخّاره. حمله
    __________________
    (1) الغرائز : جمع غريزة ، وهى : الطبيعة وغرز الغرائز كضوأ الأضواء ، أى : جعلها غرائز ، والمراد أودع فيها طبائعها.
    (2) الضمير فى «أشباحها» للغرائز ، أى : ألزم الغرائز أشباحها ، أى : أشخاصها لأن كل مطبوع على غريزة فانها تلازمه : فالشجاع لا يكون خوارا مثلا.
    (3) جمع حنو بالكسر ، أى : الجانب. أو ما اعوج من الشىء بدنا كان أو غيره كناية عما خفى. أو من قولهم أحناء الأمور ، أى : مشتبهاتها ، وقرائنها : ما يقترن بها من الأحوال المتعلقة بها والصادرة عنها.
    (4) ثم أنشأ الخ الترتيب والتراخى فى قول الامام لا فى الصنع الالهى ، كما لا يخفى والأجواء : جمع جو ، وهو هذا الفضاء العالى بين السماء والأرض. واستفيد من كلامه أن الفضاء مخلوق ، وهو مذهب قوم ، كما استفيد منه أن اللّه خلق فى الفضاء ماء حمله على متن ريح فاستقل عليها حتى صارت مكانا له ، ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه الأجرام العليا وإلى هذا يذهب قوم من الفلاسفة منهم تالسين الاسكندرى ، يقولون : إن الماء ـ أى : الجوهر السائل ـ أصل كل الأجسام كثيفها من متكاثفه ، ولطيفها من شفائفه. والأرجاء : الجوانب واحدها رجا
    (5) السكائك : جمع سكاكة ـ بالضم ـ وهى : الهواء الملاقى عنان السماء وبابها نحو ذوابة وذوائب.
    (6) التيار : الموج ، والمتراكم : ما يكون بعضه فوق بعض ، والزخار : الشديد الزخر ـ أى : الامتداد والارتفاع ـ والريح العاصفة الشديدة الهبوب ، كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها ، وكذلك الزعزع ، كأنها تزعزع كل ثابت ، وتقصف ـ أى : تحطم كل قائم

    على متن الرّيح العاصفة ، والزّعزع القاصفة. فأمرها بردّه (1) وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه. الهواء من تحتها فتيق (2) والماء من فوقها دفيق. ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها (3) وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار (4) وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السّقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء. تردّ أوّله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره (5). حتّى عبّ عبابه. ورمى بالزّبد ركامه ، فرفعه فى هواء منفتق
    __________________
    (1) امرها برده ، أى : منعه من الهبوط ، لأن الماء ثقيل وشأن الثقيل الهوى والسقوط ، وسلطها على شده ، أى : وثاقه ، كأنه سبحانه أوثقه بها أو منعه من الحركة إلى السفل التى هى من لوازم طبعه ، وقرنها إلى حده ، أى : جعلها مكانا له أى : جعل حد الماء المذكور ، وهو سطحه الأسفل ، مماسا لسطح الريح التى تحمله أو أراد من الحد المنع ، أى : جعل من لوازمها ذلك.
    (2) الفتيق : المفتوق ، والدفيق : المدفوق.
    (3) اعتقم مهبها : جعل هبوبها عقيما ، والريح العقيم التى لا تلقح سحابا ولا شجرا وكذلك كانت هذه ، لأنها أنشئت لتحريك الماء ليس غير ، والمرب مصدر ميمى من «أرب بالمكان» مثل ألب به ، أى : لازمه ، فأدام مربها ، أى : ملازمتها أو أن أدام من أدمت الدلو ملأتها ، والمرب ، بكسر أوله : المكان والمحل.
    (4) تصفيقه : تحريكه وتقليبه ، ومخضته : حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده ، والسقاء : جلد السخلة يجذع فيكون وعاء للبن والماء جمعه أسقية وأسقيات وآساق. و «عصفت به الخ» الريح إذا عصفت بالفضاء الذى لا أجسام فيه كانت شديدة لعدم المانع. وهذه الريح عصفت بهذا الماء ذلك العصف الذى يكون لها لو لم يكن مانع.
    (5) الساجى : الساكن ، والمائر : الذى يذهب ويجىء ، أو المتحرك مطلقا. وعب

    وجوّ منفهق (1) فسوّى منه سبع سموات جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا (2) وعلياهنّ سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها (3) ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، وضياء الثّواقب (4) وأجرى فيها سراجا مستطيرا (5) وقمرا منيرا : فى فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر (6) ثمّ فتق ما بين السّموات العلا ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته (7) منهم سجود لا يركعون ،
    __________________
    عبابه : ارتفع علاه. وركامه : ثبجه ، وهضبته ، وما تراكم منه بعضه على بعض
    (1) المنفهق : المفتوح الواسع.
    (2) المكفوف : الممنوع من السيلان ، ويدعمها : يسندها ويحفظها من السقوط.
    (3) الدسار : واحد الدسر ، وهى المسامير ، أو الخيوط تشد بها ألواح السفينة من ليف ونحوه.
    (4) الثواقب : المنيرة المشرقة.
    (5) مستطيرا : منتشر الضياء ، وهو الشمس.
    (6) الرقيم : اسم من أسماء الفلك : سمى به لأنه مرقوم بالكواكب ، ومائر : متحرك ، ويفسر الرقيم باللوح ، وشبه الفلك باللوح لأنه مسطح فيما يبدو للنظر.
    (7) جعل الملائكة أربعة أقسام : الأول : أرباب العبادة ، ومنهم الراكع ، والساجد ، والصاف ، والمسبح. وقوله «صافون» أى : قائمون صفوفا. لا يتزايلون أى : لا يتفارقون. والقسم الثانى : الأمناء على وحى اللّه لأنبيائه ، والألسنة الناطقة فى أفواه رسله ، والمختلفون بالأقضية إلى العباد : بهم يقضى اللّه على من شاء بما شاء. والقسم الثالث : حفظة العباد ، كأنهم قوى مودعة فى أبدان البشر ونفوسهم ، يحفظ اللّه الموصولين بها من المهالك والمعاطب ، ولو لا ذلك لكان العطب ألصق بالانسان من السلامة ، ومنهم سدنة الجنان ، جمع سادن : وهو الخادم ، والخادم يحفظ ما عهد إليه وأقيم على خدمته. والقسم الرابع : حملة العرش ، كأنهم القوة العامة التى أفاضها اللّه فى العالم الكلى ، فهى الماسكة له ، الحافظة لكل جزء منه :

    وركوع لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النّسيان. ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده ، والسّدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثّابتة فى الأرضين السّفلى أقدامهم ، والمارقة من السّماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم (1) متلفّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة ، وأستار القدرة. لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنّظائر
    صفة خلق آدم عليه السلام
    ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها ، وعذبها وسبخها (2) تربة
    __________________
    مركزه؟؟؟ ، وحدود مسيره فى مداره ، فهى المخترقة له ، النافذة فيه ، الآخذة من أعلاه إلى أسفله ، ومن أسفله إلى أعلاه. وقوله «المارقة من السماء» : المروق الخروج ، وقوله «الخارجة من الأقطار أركانهم» : الأركان الأعضاء والجوارح ، والتمثيل فى الكلام لا يخفى على أهل البصائر.
    (1) الضمير فى «دونه» للعرش كالضمير فى «تحته» ، ومتلفعون : من تلفعت بالثوب ، إذا التحفت به.
    (2) الحزن ـ بفتح فسكون ـ : الغليظ الخشن ، والسهل ما يخالفه ، والسبخ :

    سنّها بالماء حتّى خلصت. ولاطها بالبلّة حتّى لزبت (1) فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول (2) وأعضاء وفصول : أجمدها حتّى استمسكت وأصلدها حتّى صلصلت (3) لوقت معدود ، وأمد معلوم ، ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها (4) ، وفكر يتصرّف بها ، وجوارح يختدمها (5) ،
    __________________
    ما ملح من الأرض. وأشار باختلاف الأجزاء التى جبل منها الانسان إلى أنه مركب من طباع مختلفة ، وفيه استعداد للخير والشر ، والحسن والقبيح.
    (1) سن الماء : صبه. والمراد صب عليها ، أو «سنها» هنا بمعنى ملسها كما قال : ـ
    ثم خاصرتها إلى القبة الخض
    راء تمشى فى مرمر مسنون

    وقوله «حتى خلصت» أى : صارت طينة خالصة ، وفى بعض النسخ «حتى خضلت» بتقديم الضاد المعجمة على اللام ، أى : ابتلت ولعلها أظهر : لاطها : خلطها وعجنها ، أو هو من لاط الحوض بالطين : ملطه وطينه به ، والبلة ـ بالفتح ـ من البلل. ولزب ـ ككرم ـ : تداخل بعضه فى بعض وصلب ، ومن باب نصر بمعنى التصق وثبت واشتد.
    (2) الأحناء : جمع حنو وهو ـ بالكسر والفتح ـ : كل ما فيه اعوجاج من البدن كعظم الحجاج ، واللحى ، والضلع ، أو هى الجوانب مطلقا. وجبل : أى خلق.
    (3) أصلدها : جعلها صلبة ملساء متينة ، وصلصلت : يبست حتى كانت تسمع لها صلصلة إذا هبت عليها رياح ، وذلك هو الصلصال ، واللام فى قوله «لوقت» متعلقة بمحذوف ، كأنه قال : حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم. ويمكن أن تكون متعلقة بجبل ، أى : جبل من الأرض هذه الصورة ولا يزال يحفظها لوقت معدود ينتهى يوم القيامة.
    (4) مثل ، ككرم : قام منتصبا. والأذهان : قوى التعقل ، ويجيلها : يحركها فى المعقولات.
    (5) يختدمها : يجعلها فى مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم فى خدمتك

    وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرق بها بين الحقّ والباطل والأذواق والمشامّ ، والألوان والأجناس ، معجونا بطينة الألوان المختلفة (1) والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة ، من الحرّ والبرد ، والبلّة والجمود ، واستأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم (2) وعهد وصيّته إليهم ، فى الإذعان بالسّجود له ، والخشوع لتكرمته ، فقال سبحانه : «اُسْجُدُوا لِآدَمَ» فسجدوا إلاّ إبليس اعترته الحميّة وغلبت عليه الشّقوة (3) وتعزّز بخلقة النّار واستهون خلق الصّلصال ، فأعطاه اللّه النّظرة استحقاقا للسّخطة ، واستتماما
    __________________
    فى شؤونك كلها ، والأدوات : جمع أداة ، وهى الآلة ، وتقليبها : تحريكها فى العمل بها فيما خلقت له.
    (1) معجونا صفة «إنسانا» ، والألوان المختلفة : الضروب والفنون ، وتلك الألوان هى التى ذكره من الحر والبرد والبلة والجمود.
    (2) استأدى الملائكة وديعته : طلب منهم أداءها ، والوديعة هى عهده إليهم بقوله : «إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ» ويروى الخنوع بالنون بدل الخشوع وهو بمعنى الخضوع. وقوله «فقال اسجدوا الخ» عطف على استأدى.
    (3) الشقوة ـ بكسر الشين وفتحها ـ ما حتم عليه من الشقاء. والشقاء : ضد السعادة ، وهو النصب الدائم والألم الملازم ، وتعززه بخلقة النار : استكباره مقدار نفسه بسبب أنه خلق من جوهر لطيف ومادة أعلى من مادة الصلصال ، والصلصال : الطين الحر خلط بالرمل ، أو الطين ما لم يجعل خزفا. والمراد من الصلصال هنا مادة الأرض التى خلق آدم عليه السلام منها ، وجوهر ما خلق منه الجن ـ وهم من الجواهر اللطيفة ـ أعلى من جوهر ما خلق منه الانسان ، وهو مجبول من عناصر الارض ، والنظرة ـ بفتح فكسر ـ : الانتظار به حيا ، ما دام الانسان عامرا

    للبليّة ، وإنجازا للعدة ، فقال (إنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ) ثمّ أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه ، وآمن فيها محلّته ، وحذّره إبليس وعداوته ، فاغترّه عدوّه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار (1) فباع اليقين بشكّه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجذل وجلا (2) ، وبالاغترار ندما ثمّ بسط اللّه سبحانه له فى توبته ، ولقّاه كلمة رحمته ، ووعده المردّ إلى جنّته ، وأهبطه إلى دار البليّة (3) وتناسل الذّرّيّة (4) ، واصطفى سبحانه من ولده
    __________________
    للأرض متمتعا بالوجود ، فيكون من الشيطان فى هذا الأمد ما يستحق به سخط اللّه وما تتم به بلية الشقاء عليه ، ويكون اللّه جل شأنه قد أنجز وعده فى قوله : (إنك لمن المنظرين).
    (1) اغتر آدم عدوه الشيطان ، أى : انتهز منه غرة فأغواه ، وكان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود فى دار المقام ، ومرافقته الأبرار من الملائكة الأطهار.
    (2) أدخل الشيطان عليه الشك فى أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان فى نهى اللّه له عن تناوله ما يوجب له اليقين بحظره عليه ، وكانت العزيمة فى الوقوف عند ما أمر اللّه فاستبد بها الوهن الذى أفضى إلى المخالفة ، والجذل ـ بالتحريك ـ الفرح ، وقد كان فى راحة الأمن بالاخبات إلى اللّه وامتثال الأمر ، فلما سقط فى المخالفة تبدل ذلك بالوجل والخوف من حلول العقوبة ، وقد ذهبت عنه الغرة ، وانتبه إلى عاقبة ما اقترف ، فاستشعر الندم بعد الاغترار.
    (3) أهبطه من مقام مرشده فيه الالهام الالهى الخالص من الشوائب لانسياق قواه إلى مقتضى الفطرة السليمة الأولى ، إلى مقر قد خلط له فيه الخير والشر ، واختط له فيه الطريقان ، ووكل إلى نظره العقلى ، وابتلى بالتمييز بين النجدين. واختيار أى الطريقين ، وهو العناد الذى تكدر به صفو هذه الحياة على الآدميين.
    (4) تناسل الذرية من خصائص تلك المنزلة الثانية التى أنزل اللّه فيها آدم ، وهو

    أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم (1) ، وعلى تبليغ الرّسالة أمانتهم ، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم (2) فجهلوا حقّه واتّخذوا الأنداد معه (3) واجتالتهم الشّياطين عن معرفته (4) واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه (5) ليستأدوهم ميثاق فطرته (6) ويذكّروهم منسىّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول (7) ويروهم الآيات المقدّرة : من سقف فوقهم
    __________________
    مما ابتلى به الانسان امتحانا لقوته على التربية ، واقتداره على سياسة من يعولهم ، والقيام بحقوقهم ، وإلزامهم بتأدية ما يحق عليهم.
    (1) أخذ عليهم الميثاق أن يبلغوا ما أوحى إليهم ، ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له. وأخذ عليهم ألا يشرعوا للناس إلا ما يوحى إليهم.
    (2) عهد اللّه إلى الناس هو ما سيأتى يعبر عنه بميثاق الفطرة.
    (3) الأنداد : الأمثال ، وأراد المعبودين من دونه سبحانه وتعالى.
    (4) اجتالتهم ـ بالجيم ـ صرفتهم عن قصدهم الذى وجهوا إليه بالهداية المغروزة فى فطرهم ، وأصله من الدوران ، كأن الذى يصرفك عن قصدك يصرفك تارة هكذا وأخرى هكذا ، تقول : اجتال فلان فلانا ، واجتاله عن كذا ، واجتاله على كذا ، أى : أداره عليه ، يحسن له فعله ، ويغريه به ، ويزينه له.
    (5) واتر إليهم أنبياءه : أرسلهم وبين كل نبى ومن بعده فترة ، لا بمعنى أرسلهم تباعا بعضهم يعقب بعضا.
    (6) كأن اللّه تعالى ـ بما أودع فى الانسان من الغرائز والقوى ، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى ـ قد أخذ عليه ميثاقا بأن يصرف ما أوتى من ذلك فيما خلق له ، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه ، لو لا ما اعترضه من وساوس الشهوات ، فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق ، أى : ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم ، وما ينبغى أن تسوقهم إليه غرائزهم.
    (7) دفائن العقول : أنوار العرفان التى تكشف للانسان أسرار الكائنات

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:03 pm

    مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم (1) وأحداث تتابع عليهم ، ولم يخل سبحانه خلقه من نبىّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة ، أو محجّة قائمة (2) : رسل لا تقصّر بهم قلّة عددهم ، ولا كثرة المكذّبين لهم : من سابق سمّى له من بعده ، أو غابر عرّفه من قبله (3) : على ذلك نسلت القرون (4) ، ومضت الدّهور ، وسلفت الآباء وخلفت الأبناء ، إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لإنجاز عدته (5) وتمام نبوّته ، مأخوذا على النّبيّين ميثاقه ، مشهورة سماته (6)
    __________________
    وترتفع به إلى الايقان بصانع الموجودات ، وقد تحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام ، وحجب من الخيال ، فيأتى النبيون لاثارة تلك المعارف الكامنة ، وإبراز تلك الأسرار الباطنة. (3 ـ ن ـ ج ـ (1)
    (1) السقف المرفوع : السماء ، والمهاد الموضوع : الأرض ، والأوصاب : المتاعب
    (2) المحجة : الطريق القويمة الواضحة
    (3) من سابق : بيان للرسل ، وكثير من الأنبياء السابقين سميت لهم الأنبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم كما ترى ذلك فى التوراة ، وفى القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام بشر بخاتم الرسل صلى اللّه عليه وسلم والغابر : الذى يأتى بعد أن يبشر به السابق ، جاء معروفا بتعريف من قبله.
    (4) نسلت ـ بالبناء للمجهول ـ ولدت ، وبالبناء للفاعل : مضت متتابعة.
    (5) الضمير فى «عدته» للّه تعالى ، لأن اللّه وعد بارسال محمد صلى اللّه عليه وسلم على لسان أنبيائه السابقين ، وكذلك الضمير فى «نبوته» لأن اللّه تعالى أنبأبه وأنه سيبعث وحيا لأنبيائه ، فهذا الخبر الغيبى قبل حصوله يسمى نبوة : ولما كان اللّه هو المخبر به أضيفت النبوة إليه ، هكذا نسب للامام ، ولكن الأظهر أن الضمير فى «نبوته» عائد إلى النبى صلى اللّه عليه وسلم
    (6) سماته : علاماته التى ذكرت فى كتب الأنبياء السابقين الذين بشروا به

    كريما ميلاده. وأهل الأرض يومئذ ملل متفرّقة ، وأهواء منتشرة وطوائف متشتّتة ، بين مشبّه للّه بخلقه أو ملحد فى اسمه ، أو مشير إلى غيره (1) ، فهداهم به من الضّلالة ، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثمّ اختار سبحانه لمحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم لقاءه ، ورضى له ما عنده ، وأكرمه عن دار الدّنيا ، ورغب به عن مقارنة البلوى ، فقبضه إليه كريما صلّى اللّه عليه وآله وخلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء فى أممها ـ إذ لم يتركوهم هملا : بغير طريق واضح ، ولا علم قائم (2) كتاب ربّكم فيكم : مبيّنا حلاله وحرامه (3) وفرائضه وفضائله ، وناسخه __________________
    (1) الملحد فى اسم اللّه : الذى يميل به عن حقيقة مسماه ، فيعتقد فى اللّه صفات يجب تنزيهه عنها ، والمشير إلى غيره : الذى يشرك معه فى التصرف إلها آخر فيعبده ويستعينه
    (2) العلم ـ بفتحتين ـ ما يوضع ليهتدى به ، أى : أن الأنبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت أنبيائهم ، وقد كان من محمد صلى اللّه عليه وسلم مثل ما كان منهم ، فانه خلف فى أمته كتاب اللّه تعالى حاويا لجميع ما يحتاجون إليه فى دينهم.
    (3) حلاله كالأكل من الطيبات ، وحرامه كأكل أموال الناس بالباطل ، وفرائضه كالزكاة أخت الصلاة ، وفضائله كنوافل الصدقات التى يعظم الأجر فيها ولا حرج على من لا يؤديها ، وناسخه : ما جاء قاضيا بمحو ما كان عليه الضالون من العقائد ، أو إزالة السابق من الأحكام لحكمة إلهية اقتضت تغييره وإن خفيت على بعض العقول كقوله تعالى : «قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ» الآية ، ومنسوخه ما كان حكاية عن تلك الأحكام كقوله : «وَعَلَى اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» الآية ، ورخصه كقوله : «فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» وعزائمه كقوله : «وَلاٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ» وخاصه كقوله : «وَاِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا» الآية ، وكقوله «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكَ» وعامه ،

    ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ، ومحكمه ومتشابهه ، مفسّرا مجمله ، ومبيّنا غوامضه ، بين مأخوذ ميثاق فى علمه ، وموسّع على العباد فى جهله ، وبين مثبت فى الكتاب فرضه ومعلوم فى السّنّة نسخه ، وواجب فى السّنّة أخذه ، ومرخّص فى الكتاب تركه ، وبين واجب بوقته ، وزائل فى مستقبله ، ومباين بين محارمه (1) : من كبير
    __________________
    كقوله : «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ». والعبر كالآيات التى تخبر عما أصاب الأمم الماضية من النكال ، وعما نزل بهم من العذاب لما حادوا عن الحق وركبوا طرق الظلم والعدوان ، والأمثال كقوله «ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً» ، الآية ، وقوله : «كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً» ، وأشباه ذلك كثيرة ، والمرسل : المطلق ، والمحدود : المقيد ، والمحكم كآيات الأحكام والأخبار الصريحة فى معانيها ، والمتشابه كقوله : «يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» ، والموسع على العباد فى جهله كالحروف المفتتحة بها السور نحو الم والر ، والمثبت فى الكتاب فرضه مع بيان السنة لنسخه نحو قوله تعالى : «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ اَلْمَوْتُ» فانه نسخ بما سنه عليه السلام من رجم الزانى المحصن. وكالصلاة ، فانها فرضت على الذين من قبلنا ، غير أن السنة بينت لنا الهيئة التى اختصنا اللّه بها ، وكلفنا أن نؤدى الصلاة عليها ، فالفرض فى الكتاب ، وتبيين نسخه لما كان قبله فى السنة ، والمرخص فى الكتاب تركه ما لم يكن منصوصا على عينه ، بل ذكر فى الكتاب ما يشتمله وغيره كقوله : «فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ» ، وقد عينته السنة بسورة مخصوصة فى كل ركعة فوجب الأخذ بما عينته السنة ، ولو بقينا عند مجمل الكتاب لكان لنا أن نقرأ فى الصلاة غير الفاتحة جوازا لا مؤاخذة معه ، والواجب بوقته الزائل فى مستقبله كصوم رمضان يجب فى جزء من السنة ولا يجب فى غيره
    (1) و «مباين بين محارمه» ، بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وليس مجرورا بالعطف على الأقسام التى سبق تفصيلها ، أى : والكتاب قد فرق بين المحارم التى حظرها : فمنها كبير أوعد عليه نيرانه كالزنا وقتل النفس ، ومنها

    أوعد عليه نيرانه ، أو صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول فى أدناه ، موسّع فى أقصاه (1)
    منها فى ذكر الحج
    وفرض عليكم حجّ بيته الحرام ، الّذى جعله قبلة للأنام ، يردونه ورود الأنعام ، ويألهون إليه ولوه الحمام (2) جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم لعزّته ، واحتار من خلقه سمّاعا أجابوا إليه دعوته ، وصدّقوا كلمته ، ووقفوا مواقف أنبيائه ، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه : يحرزون الأرباح فى متجر عبادته ، ويتبادرون عند موعد مغفرته ، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما ، وللعائذين حرما ، فرض حجّه ، وأوجب حقّه ، وكتب عليكم وفادته (3) فقال سبحانه : «وَلِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ».
    __________________
    صغيرا رصد له غفرانه كالنظرة بشهوة ونحوها ، ومنهم من رواه «مباينا» منصوبا على أنه صفة من صفات الكتاب
    (1) رجوع إلى تقسيم الكتاب ، والمقبول فى أدناه الموسع فى أقصاه كما فى كفارة اليمين يقبل فيها إطعام عشرة مساكين وموسع فى كسوتهم وعتق الرقبة
    (2) يألهون إليه : أى يفزعون إليه أو يلوذون به ، ويعكفون عليه ، وروى «يولهون» بفتح اللام ، من الوله ، وهو شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب.
    (3) الوفادة : الزيارة

    2 ـ ومن خطبة له بعد انصرافه من صفين (1)
    أحمده استتماما لنعمته ، واستسلاما لعزّته ، واستعصاما من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته ، إنّه لا يضلّ من هداه ، ولا يئل من عاداه (2) ، ولا يفتقر من كفاه ، فإنّه أرجح ما وزن (3) ، وأفضل ما خزن. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، شهادة ممتحنا إخلاصها ، معتقدا مصاصها (4) نتمسّك بها أبدا ما أبقانا ، وندّخرها لأهاويل ما يلقانا (5) ، فإنّها عزيمة الإيمان ، وفاتحة الإحسان ، ومرضاة الرّحمن ، ومدحرة الشّيطان (6). وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالدّين المشهور ، والعلم المأثور (7) والكتاب المسطور ، والنّور السّاطع ، والضّياء اللاّمع ، والأمر الصّادع ، إزاحة للشّبهات ، واحتجاجا بالبيّنات ، وتحذيرا بالآيات ، وتخويفا بالمثلات (Cool
    __________________
    (1) صفين كسجين : محلة عدها الجغرافيون من بلاد الجزيرة (ما بين الفرات والدجلة) والمؤرخون من العرب عدوها من أرض سوريا ، وهى اليوم فى ولاية حلب الشهباء. وهذه الولاية كانت من أعمال سوريا
    (2) وأل يئل : خلص
    (3) الضمير فى «فانه» للحمد المفهوم من «أحمده»
    (4) مصاص كل شىء خالصه
    (5) الأهاويل : جمع أهوال ، وأهوال جمع هول ، فهى جمع الجمع
    (6) مدحرة الشيطان أى : تبعده وتطرده
    (7) العلم ـ بالتحريك ـ ما يهتدى به ، وهو هنا الشريعة الحقة ، والمأثور : المنقول عنه.
    (Cool المثلات ، بفتح فضم : العقوبات ، جمع مثلة ـ بضم التاء وسكونها بعد الميم ـ وجمعها مثولات ومثلات ، وقد تسكن تاء الجمع تخفيفا

    والنّاس فى فتن انجذم فيها حبل الدّين (1) وتزعزعت سوارى اليقين (2) واختلف النّجر (3) وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج وعمى المصدر (4) فالهدى خامل ، والعمى شامل : عصى الرّحمن ، ونصر الشّيطان ، وخذل الإيمان ، فانهارت دعائمه (5) ، وتنكّرت معالمه (6) ودرست سبله (7) وعفت شركه : أطاعوا الشّيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله (Cool ، بهم سارت أعلامه وقام لواؤه ، فى فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها (9) وقامت على سنابكها ، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون ، فى خير دار ، وشرّ
    __________________
    (1) انجذم : انقطع
    (2) السوارى : جمع سارية ، وهى : العمود والدعامة
    (3) النجر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ : الأصل ، أى : اختلفت الأصول فكل يرجع إلى أصل يظنه مرجع حق ، وما هو من الحق فى شىء.
    (4) مصادرهم فى أوهامهم وأهوائهم مجهولة غير معلومة ، خفية غير ظاهرة : فلا عن بينة يعتقدون ، ولا إلى غاية صالحة ينزعون.
    (5) انهارت : هوت وسقطت والدعائم : جمع دعامة ، وهى : ما يستند إليه الشىء ويقوم عليه. ودعامة السقف ، مثلا : ما يرتفع عليه من الأعمدة
    (6) التنكر : التغير من حال تسر إلى حال تكره ، أى : تبدلت علاماته وآثاره ، بما أعقب السوء وجلب المكروه
    (7) درست ، كاندرست ، أى : انطمست. والشرك قال بعضهم : جمع شراك ككتاب ، وهى الطريق. والذى يفهم من القاموس أنها بفتحات جواد الطريق أو ما لا يخفى عليك ولا يستجمع لك من الطرق اسم جمع لا مفرد له من لفظه ، وعفت : بمعنى درست
    (Cool المناهل : جمع منهل ، وهو : مورد الشاربة من النهر.
    (9) الاظلاف : جمع ظلف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة ، وشبههما ، كالخف للبعير والقدم للانسان. السنابك : جمع سنبك كقنفذ ، وهو : طرف الحافر

    جيران (1). نومهم سهاد ، وكحلهم دموع ، بأرض عالمها ملجم ، وجاهلها مكرّم.
    ومنها يعنى آل النبى عليه الصلاة والسلام :
    موضع سرّه ، ولجأ أمره (2) ، وعيبة علمه (3) ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه : بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه (4)
    ومنها يعنى قوما آخرين :
    زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثّبور (5) ، لا يقاس بآل
    __________________
    (1) خير دار : هى مكة المكرمة ، وشر الجيران : عبدة الأوثان من قريش. وقوله «نومهم سهاد الخ» كما تقول فلان جوده بخل وأمنه مخافة ، فهم فى أحداث أبدلتهم النوم بالسهر والكحل بالدمع. والعالم ملجم لأنه لو قال حقا والجمهور على الباطل لا نتاشوه ونهشوه ، والجاهل مكرم لأنه على شاكلة العامة مشايع لهم فى أهوائهم : فمنزلته عندهم منزلة أوهامهم وعاداتهم ، وهى فى المقام الأعلى من نفوسهم ، وهذه الأوصاف كلها لتصوير حال الناس فى الجاهلية قبل بعثة النبى صلى اللّه عليه وسلم
    (2) اللجأ ـ محركة ـ : الملاذ وما تلتجىء إليه كالوزر ـ محركة ـ ما تعتصم به
    (3) العيبة ـ بالفتح ـ : الوعاء. والموئل : المرجع أى : أن حكمه وشرعه يرجع اليهم وهم حفاظ كتبه ـ يحوونها كما تحوى الكهوف والغيران ما يكون فيها. والكتب القرآن ، وجمعه لأنه فيما حواه كجملة ما تقدمه من الكتب ، ويزيد عليها ما خص اللّه به هذه الأمة
    (4) كنى بانحناء الظهر عن الضعف ، وباقامته عن القوة. وبهم آمنه من الخوف الذى ترتعد منه الفرائص
    (5) جعل ما فعلوا من القبائح كزرع زرعوه ، وما سكنت إليه نفوسهم من الامهال واغترارهم بذلك بمنزلة السقى ، فان الغرور يبعث على مداومة القبيح والزيادة فيه ، ثم كانت عاقبة أمرهم

    محمّد صلّى اللّه عليه وآله من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا : هم أساس الدّين ، وعماد اليقين : إليهم يفىء الغالى ، وبهم يلحق التّالى (1) ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله (2) ونقل إلى منتقله
    3 ـ ومن خطبة له وهى المعروفة بالشقشقية (3)
    أما واللّه لقد تقمّصها فلان (4) وإنّه ليعلم أنّ محلّى منها محلّ القطب من الرّحى : ينحدر عنّى السّيل (5) ولا يرقى إلىّ الطّير ، فسدلت دونها ثوبا (6) ،
    __________________
    هذا الثبور ، وهو الهلاك
    (1) يريد أن سيرتهم صراط الدين المستقيم : فمن غلا فى دينه وتجاوز بالافراط حدود الجادة فانما نجاته بالرجوع إلى سيرة آل النبى وتفىء ظلال أعلامهم. وقوله «وبهم يلحق التالى» يقصد به أن المقصر فى عمله المتباطئ فى سيره الذى أصبح وقد سبقه السابقون إنما يتسنى له الخلاص بالنهوض ليلحق بآل النبى ويحذو حذوهم
    (2) «الآن» ظرف متعلق برجع ، و «إذ» زائدة للتوكيد ، سوغ ذلك ابن هشام فى نقله عن أبى عبيدة. أو أن «إذ» للتحقيق بمعنى قد ، كما نقله بعض النحاة
    (3) لقوله فيها : «إنها شقشقة هدرت ثم قرت» كما يأتى
    (4) الضمير يرجع إلى الخلافة ، وفلان كناية عن الخليفة الأول أبى بكر رضى اللّه عنه
    (5) تمثيل لسمو قدره كرم اللّه وجهه وقربه من مهبط الوحى ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فانما يتدفق من حوضه ثم ينحدر عن مقامه العالى فيصيب منه من شاء اللّه. وعلى ذلك قوله «ولا يرقى الخ» ، غير أن الثانية أبلغ من الأولى فى الدلالة على الرفعة
    (6) فسدلت الخ : كناية عن غض نظره عنها ، وسدل الثوب : أرخاه. وطوى عنها كشحا : مال عنها ، وهو مثل ، لأن من جاع فقد طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه. فهو قد جاع عن الخلافة ، أى : لم يلتقمها

    وطويت عنها كشحا. وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذّاء (1) أو أصبر على طخية عمياء (2) يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه (3) فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى (4) فصبرت وفى العين قذى ، وفى الحلق شجا (5) أرى تراثى نهبا ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده (6) (ثمّ تمثّل بقول الأعشى) شتّان ما يومى على كورها ويوم حيّان أخى جابر (7)
    __________________
    (1) وطفقت الخ : بيان لعلة الاغضاء ، والجذاء بالجيم والذال المعجمة وبالحاء المهملة والدال المهملة أيضا بدلا من الجيم والذال المعجمتين : بمعنى المقطوعة. ويقولون : رحم جذاء ، أى : لم توصل ، وسن جذاء أى متهتمة. والمراد هنا ليس ما يؤيدها. كأنه قال : تفكرت فى الأمر فوجدت الصبر أولى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا.
    (2) طخية ـ بطاء فخاء بعدها ياء ، ويثلث أولها ـ أى : ظلمة ، ونسبة العمى اليها مجاز عقلى ، وإنما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.
    (3) يكدح : يسعى سعى المجهود.
    (4) أحجى : ألزم ، من حجى به كرضى : أولع به ولزمه. ومنه هو حجى بكذا أى : جدير ، وما أحجاه وأحج به ، أى : أخلق به ، وأصله من الحجا بمعنى العقل فهى أحجى أى أقرب إلى العقل ، وهاتا بمعنى هذه ، أى : رأى الصبر على هذه الحالة التى وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.
    (5) الشجا : ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه. والتراث : الميراث
    (6) أدلى بها : ألقى بها إليه.
    (7) الكور بالضم : الرحل أو هو مع أداته ، والضمير راجع إلى الناقة المذكورة

    فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها فى حياته (1) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ
    __________________
    فى الأبيات قبل فى قوله : ـ
    وقد أسلى الهم إذ يعترى
    بجسرة دوسرة عاقر

    والجسرة : العظيم من الابل ، والدوسرة : الناقة الضخمة. وحيان : كان سيدا فى بنى حنيفة مطاعا فيهم ، وكان ذا حظوة عند ملوك فارس ، وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة ، وكان الأعشى ينادمه ، والأعشى هذا : هو الأعشى الكبير أعشى قيس ، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل وأول القصيدة : ـ علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر وجابر : أخو حيان أصغر منه ، ومعنى البيت أن فرقا بعيدا بين يومه فى سفره وهو على كور ناقته وبين يوم حيان فى رفاهيته ، فان الأول كثير العناء شديد الشقاء ، والثانى وافر النعيم وافى الراحة. ويتلو هذا البيت أبيات منها : ـ فى مجدل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر ما يجعل الجد الظنون الذى جنب صوب اللجب الماطر مئل الفراتى إذا ما طما يقذف بالبوصى والماهر (المجدل ، كمنبر : القصر ، والجد بضم أوله : البئر القليلة الماء ، والظنون : البئر لا يدرى أفيه ماء أم لا. واللجب : المراد منه السحاب لاضطرابه وتحركه ، والفراتى : الفرات. وزيادة الياء للمبالغة. والبوصى : ضرب من السفن معرب بوزى. والماهر السابح المجيد) ووجه تمثل الامام بالبيت ظاهر بأدنى تأمل.
    (1) رووا أن أبا بكر قال بعد البيعة «أقيلونى فلست بخيركم» وأنكر الجمهور هذه الرواية عنه ، والمعروف عنه : «وليتكم ولست بخيركم»

    ما تشطّرا ضرعيها (1) فصيّرها فى حوزة خشناء يغلظ كلامها (2) ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة (3) إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمنى النّاس لعمر اللّه ـ بخبط وشماس (4) وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة ، حتّى
    __________________
    (1) لشد ما تشطر ضرعيها : جملة شبه قسمية اعترضت بين المتعاطفين فالفاء فى فصيرها عطف على عقدها. وتشطر مسند إلى ضمير التثنية. وضرعيها تثنية ضرع وهو للحيوانات مثل الثدى للمرأة. قالوا : إن للناقة فى ضرعها شطرين كل خلفين شطر. ويقال : شطر بناقته تشطيرا ، صر خلفيها وترك خلفين. والشطر أيضا : أن تحلب شطرا وتترك شطرا ، فتشطرا أى : أخذ كل منهما شطرا. وسمى شطرى الضرع ضرعين مجازا : وهو ههنا من أبلغ أنواعه حيث إن من ولى الخلافة لا ينال الأمر إلا تاما ، ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهما ، فأطلق على تناول الأمر واحدا بعد واحد اسم التشطر والاقتسام ، كأن أحدهما ترك منه شيئا للآخر ، وأطلق على كل شطر اسم الضرع نظرا لحقيقة ما نال كل
    (2) الكلام ـ بالضم ـ الأرض الغليظة وفى نسخة كلمها. وإنما هو بمعنى الجرح كأنه يقول : خشونتها تجرح جرحا غليظا
    (3) الصعبة من الابل : ما ليست بذلول ، وأشنق البعير ، وشنقة : كفه بزمامه حتى ألصق ذفراه (العظم الناتىء خلف الأذن) بقادمة الرحل ، أو رفع رأسه وهو راكبه ، واللام هنا زائدة للتحلية ولتشاكل أسلس. وأسلس : أرخى ، وتقحم : رمى بنفسه فى الفحمة ، أى : الهلكة ، وسيأتى معنى هذه العبارة فى الكتاب ، وراكب الصعبة : إما أن يشنقها فيخرم أنفها ، وإما أن يسلس لها فترمى به فى مهواة تكون فيها هلكته
    (4) منى الناس : ابتلوا وأصيبوا ، والشماس ـ بالكسر ـ إباء ظهر الفرس عن الركوب ، والنفار والخبط : السير على غير جادة. والتلون : التبدل والاعتراض : السير على غير خط مستقيم ، كأنه يسير عرضا فى حال سيره طولا يقال : بعير عرضى ، يعترض فى سيره لأنه لم يتم رياضته ، وفى فلان عرضية ، أى. عجرفة وصعوبة

    إذا مضى لسبيله جعلها فى جماعة زعم أنّى أحدهم ، فياللّه وللشّورى (1) متى
    __________________
    (1) إجمال القصة أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه لما دنا أجله وقرب مسيره إلى ربه استشار فيمن يوليه الخلافة من بعده فأشير عليه بابنه عبد اللّه فقال : لا يليها (أى الخلافة) اثنان من ولد الخطاب ، حسب عمر ما حمل! ثم رأى أن يكل الأمر إلى رأى ستة قال : إن النبى صلّى اللّه عليه وسلم مات وهو راض عنهم وإليهم بعد التشاور أن يعينوا واحدا منهم يقوم بأمر المسلمين والستة رجال الشورى هم : على ابن أبى طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص ، رضى اللّه عنهم. وكان سعد من بنى عم عبد الرحمن كلاهما من بنى زهرة ، وكان فى نفسه شىء من على كرم اللّه وجهه من قبل أخواله لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، ولعلى فى قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور. وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان ، لأن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط كانت أختا لعثمان من أمه ، وكان طلحة ميالا لعثمان لصلات بينهما ، على ما ذكره بعض رواة الأثر. وقد يكفى فى ميله إلى عثمان انحرافه عن على لأنه تيمى وقد كان بين بنى هاشم وبنى تيم مواجد لمكان الخلافة فى أبى بكر وبعد موت عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا ، وانضم طلحة فى الرأى إلى عثمان ، والزبير إلى على ، وسعد إلى عبد الرحمن. وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام ، وأن لا يأتى الرابع إلا ولهم أمير وقال : إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذى فيه عبد الرحمن. فأقبل عبد الرحمن على على وقال : عليك عهد اللّه وميثاقه لتعملن بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فقال على : أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمى وطاقتى ، ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك ، فأجابه بنعم. فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة وقال : اللهم اسمع واشهد. اللهم إنى جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان ، وصفق بيده فى يد عثمان. وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين وبايعه. قالوا : وخرج الامام على واجدا ، فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن واللّه لقد تركت عليا وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال : يا مقداد لقد تقصيت الجهد للمسلمين. فقال المقداد : واللّه إنى لأعجب من قريش ، إنهم تركوا

    اعترض الرّيب فىّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر (1)!! لكنّى أسففت إذ أسفّوا (2) وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (3) ومال الآخر لصهره (4) مع هن وهن (5) إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (6) بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع (7) إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله (Cool وكبت به
    __________________
    رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق ولا أعلم به منه. فقال عبد الرحمن : يا مقداد ، إنى أخشى عليك الفتنة فاتق اللّه. ثم لما حدث فى عهد عثمان ما حدث من قيام الأحداث من أقاربه على ولاية الأمصار ووجد عليه كبار الصحابة روى أنه قيل لعبد الرحمن : هذا عمل يديك ، فقال : ما كنت أظن هذا به! ولكن للّه على أن لا أكلمه أبدا ، ثم مات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان ، حتى قيل : إن عثمان دخل عليه فى مرضه يعوده فتحول إلى الحائط لا يكلمه! واللّه أعلم ، والحكم للّه يفعل ما يشاء
    (1) المشابه بعضهم بعضا دونه
    (2) أسف الطائر : دنا من الأرض ، يريد أنه لم يخالفهم فى شىء
    (3) صغى صغيا وصغا صغوا : مال ، والضغن : الضغينة يشير إلى سعد
    (4) يشير إلى عبد الرحمن
    (5) يشير إلى أغراض أخرى يكره ذكرها
    (6) يشير إلى عثمان وكان ثالثا بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه كما تراه فى خبر القضية. ونافجا حضنيه : رافعا لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح. يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه. ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما والنثيل : الروث. والمعتلف : من مادة علف موضع العلف وهو معروف ، أى : لا هم له إلا ما ذكر
    (7) الخضم ، على ما فى القاموس : الأكل مطلقا ، أو بأقصى الاضراس ، أو ملء الفم بالمأكول ، أو خاص بالشىء الرطب. والقضم : الأكل بأطراف الأسنان أخف من الخضم. والنبتة ـ بكسر النون ـ كالنبات فى معناه
    (Cool انتكث فتله : انتقض. وأجهز عليه عمله : تمم قتله ، تقول : أجهزت على الجريح ، وذففت عليه

    بطنته (1) فما راعنى إلاّ والنّاس كعرف الضّبع إلىّ (2) ينثالون علىّ من كلّ جانب ، حتّى لقد وطىء الحسنان ، وشقّ عطفاى ، مجتمعين حولى كربيضة الغنم (3) فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون (4) كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول : «تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلاٰ فَسٰاداً وَاَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» بلى! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدّنيا فى أعينهم (5) وراقهم زبرجها ، أما والّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة (6) لو لا حضور الحاضر (7)
    __________________
    (1) البطنة ـ بالكسر ـ البطر والأشر والكظة (أى : التخمة والاسراف فى الشبع) ، وكبت به : من كبا الجواد إذا سقط لوجهه
    (2) عرف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، وهو ثخين ، يضرب به المثل فى الكثرة والازدحام. وينثالون : يتتابعون مزدحمين ، والحسنان : ولداه الحسن والحسين وشق عطفاه : خدش جانباه من الاصطكاك. وفى رواية «شق عطافى» والعطاف الرداء. وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة.
    (3) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم ، يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه.
    (4) الناكثة : أصحاب الجمل ، والمارقة : أصحاب النهروان. والقاسطون ـ أى الجائرون ـ أصحاب صفين.
    (5) حليت الدنيا : من حليت المرأة إذا تزينت بحليها. والزبرج : الزينة من وشى أو جوهر.
    (6) النسمة ـ محركة ـ الروح ، وبرأها : خلقها.
    (7) من حضر لبيعته ، ولزوم البيعة لذمة الامام بحضوره

    وقيام الحجّة بوجود النّاصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم (1) ، لألقيت حبلها على غاربها (2) ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز (3). قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد (4) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه ، قال له ابن عباس رضى اللّه عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت فقال : هيهات يابن عبّاس ، تلك شقشقة (5) هدرت ثمّ قرّت قال ابن عباس : فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفى على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد
    __________________
    (1) والناصر : الجيش الذى يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول فى البيعة الصحيحة ، والكظة : ما يعترى الآكل من امتلاء البطن بالطعام ، والمراد استئثار الظالم بالحقوق. والسغب : شدة الجوع ، والمراد منه هضم حقوقه
    (2) الغارب : الكاهل ، والكلام تمثيل للترك وإرسال الأمر
    (3) عفطة العنز : ما تنثره من أنفها ، تقول : عفطت تعفط من باب ضرب ، غير أن أكثر ما يستعمل ذلك فى النعجة. والأشهر فى العنز النفطة بالنون ، يقال : ما له عافط ولا نافط ، أى : نعجة ولا عنز. كما يقال : ما له ثاغية ولا راغية. والعفطة الحبقة أيضا ، لكن الأليق بكلام أمير المؤمنين هو ما تقدم
    (4) السواد : العراق ، وسمى سوادا لخضرته بالزرع والأشجار ، والعرب تسمى الأخضر أسود. قال اللّه تعالى «مُدْهٰامَّتٰانِ» يريد الخضرة ، كما هو ظاهر
    (5) الشقشقة ـ بكسر فسكون فكسر ـ شىء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، وصوت البعير بها عند إخراجها هدير ، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الآلة ، قال فى القاموس : والخطبة الشقشقية العلوية ، وهى هده

    (قوله «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم» يريد أنه إذا شدد عليها فى جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها : يقال : أشنق الناقة ، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه ، وشنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت فى إصلاح المنطق : وإنما قال : «أشنق لها» ولم يقل «أشنقها» لأنه جعله فى مقابلة قوله «أسلس لها» فكأنه عليه السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها)
    4 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بنا اهتديتم فى الظّلماء ، وتسنّمتم العلياء (1) ، وبنا انفجرتم عن السّرار. وقر سمع لم يفقه الواعية (2) وكيف يراعى النّبأة من أصمّته الصّيحة (3). ربط
    __________________
    (1) تسنمتم العلياء : ركبتم سنامها وارتقيتم الى أعلاها ، والسرار ـ كسحاب وكتاب ـ آخر ليلة من الشهر يختفى فيها القمر. وانفجرتم : دخلتم فى الفجر ، والمراد كنتم فى ظلام حالك ، وهو ظلام الشرك والضلال ، فصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا وارشادنا ، والضمير لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، والامام ابن عمه ونصيره فى دعوته ، ويروى «أفجرتم» بدل «انفجرتم» وهو أفصح وأوضح ، لأن انفعل لا يأتى لغير المطاوعة إلا نادرا ، أما أفعل فيأتى لصيرورة الشىء إلى حال لم يكن عليها ، كقولهم : أجرب الرجل : إذا صارت إبله جربى ، وأمثاله كثير.
    (2) الواعية : الصاخة والصارخة والصراخ نفسه ، والمراد هنا العبر والمواعظ الشديدة الأثر ، ووقرت أذنه فهى موقورة ، ووقرت كسمعت : صمت ، دعاء بالصمم على من لم يفهم الزواجر والعبر
    (3) الصيحة هنا : الصوت الشديد ، والنبأة : أراد منها الصوت الخفى ، أى : من أصمته الصيحة فلم يسمعها كيف يمكن أن يسمع النبأة فيراعيها ، ويشير بالصيحة إلى زواجر كتاب اللّه ومقال رسوله. وبالنبأة إلى ما يكون منه رضى اللّه عنه. وقد رأينا هذا أقرب مما أشرنا إليه فى الطبعة السابقة (3 ـ ن ـ ج ـ 1)

    جنان لم يفارقه الخفقان (1) ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر ، وأتوسّمكم بحلية المغترّين (2) سترنى عنكم جلباب الدّين (3) وبصّرنيكم صدق النّيّة ، أقمت لكم على سنن الحقّ فى جوادّ المضلّة (4) حيث تلتقون ولا دليل ، وتحتفرون ولا تميهون (5) اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان (6) غرب رأى امرئ تخلّف عنّى (7) ما شككت فى الحقّ مذ أريته ، لم يوجس موسى عليه السّلام
    __________________
    (1) ربط جأشه رباطة بكسر الراء : اشتد قلبه ، ومثله رباطة الجنان ، أى : القلب ، وهو دعاء للقلب الذى لازمه الخفقان والاضطراب خوفا من اللّه بأن يثبت ويستمسك
    (2) ينتظر بهم الغدر : يترقب غدرهم ثم كان يتفرس فيهم الغرور والغفلة وأنهم لا يميزون بين الحق والباطل ، ولهذا لا يبعد أن يجهلوا قدره فيتركوه إلى من ليس من الحق على مثل حاله ، والحلية هنا : الصفة
    (3) جلباب الدين : ما لبسوه من رسومه الظاهرة ، أى : أن الذى عصمكم منى هو ما ظهرتم به من الدين وإن كان صدق نيتى قد بصرنى ببواطن أحوالكم وما تكنه صدوركم ، وصاحب القلب الطاهر تنفذ فراسته إلى سرائر النفوس فتستخرجها
    (4) المضلة ـ بكسر الضاد وفتحها ـ الأرض يضل سالكها ، وللضلال طرق كثيرة ، لأن كل ما جاز عن الحق فهو باطل وللحق طريق واحد مستقيم وهو الوسط بين طرق الضلال ، لهذا قال : أقمت لكم على سنن الحق ، وهو طريقه الواضح فيما بين جواد المضلة وطرقها المتشعبة حيث يلاقى بعضكم بعضا وكلكم تائهون ، فلا فائدة فى التقائكم حيث لا يدل أحدكم صاحبه لعدم علمه بالدليل
    (5) تميهون : تجدون ماء ، من أماهوا أركيتهم : أنبطوا ماءها : أو تستقون ، من أماهوا دوابهم : سقوها
    (6) أراد من العجماء رموزه وإشاراته ، فانها وإن كانت غامضة على من لا بصيرة لهم لكنها جلية ظاهرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لهذا سماها ذات البيان مع أنها عجماء
    (7) غرب : غاب ، أى : لا رأى لمن تخلف عنى ولم يطعنى

    خيفة على نفسه (1) أشفق من غلبة الجهّال ودول الضّلال. اليوم توافقنا على سبيل الحقّ والباطل ، من وثق بماء لم يظمأ
    5 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان ابن حرب فى أن يبايعا له بالخلافة أيّها النّاس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة ، وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة (2) أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح (3) ، هذا ماء آجن (4) ولقمة يغصّ بها آكلها. ومجتنى الثّمرة لغير وقت إيناعها
    __________________
    (1) يتأسى بموسى عليه السلام ، إذ رموه بالخيفة ، ويفرق بين الواقع وبين ما يزعمون ، فانه لا يخاف على حياته ولكنه يخاف من غلبة الباطل ، كما كان من نبى اللّه موسى ، وهو أحسن تفسير لقوله تعالى : (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) وأفضل تبرئة لنبى اللّه من الشك فى أمره
    (2) قلب قصد به المبالغة ، والقصد ضعوا تيجان المفاخرة رءوسكم. وكأنه يقول : طأطئوا رءوسكم تواضعا ، ولا ترفعوها بالمفاخرة إلى حيث تصيبها تيجانها. ويروى وضعوا تيجان المفاخرة بدون لفظ «عن» وهو ظاهر ، وعرج عن الطريق : مال عنه وتنكبه
    (3) المفلح أحد رجلين : إما ناهض للأمر بجناح ، أى : بناصر ومعين يصل بمعونته إلى ما نهض إليه ، وإما مستسلم يريح الناس من المنازعة بلا طائل ، وذلك عند عدم الناصر. وهذا ينحو نحو قول عنترة لما قيل له : إنك أشجع العرب ، فقال : لست بأشجعهم ، ولكنى أقدم إذا كان الاقدام عزما ، وأحجم إذا كان الاحجام حزما
    (4) الآجن : المتغير الطعم واللون لا يستساغ ، والاشارة إلى الخلافة ، أى : أن الامرة على الناس والولاية على شئونهم مما لا يهنأ لصاحبه ، بل ذلك أمر يشبه تناوله تناول الماء الآجن ، ولا تحمد عواقبه : كاللقمة يغص بها آكلها فيموت بها

    كالزّارع بغير أرضه (1) فإن أقل يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت (2) هيهات بعد اللّتيا والّتى (3) واللّه لابن أبى طالب آنس بالموت من الطّفل بثدى أمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو تحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية فى الطّوىّ البعيدة (4)
    6 ـ ومن كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير
    ولا يرصد لهما القتال (5)
    واللّه لا أكون كالضّبع : تنام على طول اللّدم (6) ، حتّى يصل إليها طالبها ،
    __________________
    (1) يشير إلى أن ذلك لم يكن الوقت الذى يسوغ فيه طلب الأمر ، فلو نهض إليه كان كمجتنى الثمرة قبل إيناعها ونضجها ، وهو لا ينتفع بما جنى ، كما أن الزارع فى غير أرضه لا ينتفع بما زرع
    (2) إن تكلم بطلب الخلافة رماه من لا يعرف حقيقة قصده بالحرص على السلطان ، وإن سكت ـ وهم يعلمونه أهلا للخلافة ـ يرمونه بالجزع من الموت فى طلب حقه
    (3) أى : بعد ظن من يرمينى بالجزع بعد ما ركبت الشدائد وقاسيت المخاطر صغيرها وكبيرها ، قيل : إن رجلا تزوج بقصيرة سيئة الخلق فشقى بعشرتها ، ثم طلقها وتزوج أخرى طويلة ، فكان شقاؤه بها أشد ، فطلقها ، وقال : لا أتزوج بعد اللتيا والتى ، يشير بالأولى إلى الصغيرة وبالثانية إلى الكبيرة ، فصارت مثلا فى الشدائد والمصاعب صغيرها وكبيرها. وقوله «هيهات الخ» : نفى لما عساهم يظنون من جزعه من الموت عند سكوته
    (4) أدمجه : لفه فى ثوب ، فاندمج ، أى : انطويت على علم والتففت عليه ، والأرشية : جمع رشاء ، بمعنى الحبل. والطوى : جمع طوية ، وهى البئر. والبعيدة بمعنى العميقة ، أو هى بفتح الطاء كعلى بمعنى السقاء : ويكون البعيدة نعتا سببيا ، أى : البعيدة مقرها من البئر : أو نسبة البعد إليها فى العبارة مجاز عقلى
    (5) يرصد : يترقب ، أو هو رباعى من الارصاد بمعنى الاعداد أى : ولا يعد لهما القتال
    (6) اللدم : الضرب بشىء ثقيل يسمع صوته : قال

    ويختلها راصدها ، ولكنّى أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه ، وبالسّامع المطيع العاصى المريب أبدا ، حتّى يأتى علىّ يومى. فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّى مستأثرا علىّ منذ قبض اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى يوم النّاس هذا
    7 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    اتّخذوا الشّيطان لأمرهم ملاكا (1) واتّخذهم له أشراكا ، فباض وفرّخ فى صدورهم (2) ودبّ ودرج فى حجورهم (3) فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزّلل وزيّن لهم الخطل (4) فعل من قد شرّكه الشّيطان فى سلطانه ونطق بالباطل على لسانه.
    __________________
    أبو عبيد : يأتى صائد الضبع فيضرب بعقبه الأرض عند باب جحرها ضربا غير شديد ، وذلك هو اللدم ، ثم يقول : خامرى أم عامر ، بصوت ضعيف ، يكررها مرارا ، فتنام الضبع على ذلك ، فيجعل فى عرقوبها حبلا ويجرها فيخرجها ، وخامرى أى : استترى فى جحرك. ويقال : خامر الرجل منزله ، اذا لزمه.
    (1) ملاك الشىء ـ بالفتح ، ويكسر ـ قوامه الذى يملك به ، والأشراك : جمع شريك كشريف وأشراف ، فجعلهم شركاءه أو جمع شرك. وهو ما يصاد به ، فكأنهم آلة الشيطان فى الاضلال
    (2) باض وفرخ : كناية عن توطنه صدورهم وطول مكثه فيها ، لأن الطائر لا يبيض إلا فى عشه ، وفراخ الشيطان : وساوسه
    (3) دب ودرج الخ : أى أنه تربى فى حجورهم كما يربى الطفل فى حجر والديه حتى يبلغ فتوته ويملك قوته
    (4) الخطل : أقبح الخطأ. والزلل : الغلط والخطأ

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:06 pm

    8 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    يعنى به الزبير فى حال اقتضت ذلك
    يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه ، فقد أقرّ بالبيعة ، وادّعى الوليجة (1) فليأت عليها بأمر يعرف ، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه
    9 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد أرعدوا وأبرقوا ، ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع (2) ولا نسيل حتّى نمطر
    10 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ألا وإنّ الشّيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجله ، وإنّ معى لبصيرتى : ما لبّست على نفسى ، ولا لبّس علىّ. وايم اللّه لا أفرطنّ لهم حوضا أنا ماتحه (3) لا يصدرون عنه ، ولا يعودون إليه (4)
    __________________
    (1) الوليجة : الدخيلة ، وما يضمر فى القلب ويكتم ، والبطانة
    (2) وإذا أوقعنا بعدو أوعدنا آخر بأن يصيبه ما أصاب سابقه ، وإذا أمطرنا أسلنا ، أما أولئك الذين يقولون نفعل ونفعل وما هم بفاعلين فهم بمنزلة من يسيل قبل المطر ، وهو محال غير موجود ، فهم كالعدم فيما به يوعدون.
    (3) أفرطه : ملأه حتى فاض ، والماتح : من متح الماء ، أى : نزعه ، أى : أنا نازع ماءه من البئر فمالىء به الحوض ، وهو حوض البلاء والفناء ، أو أنا الذى أسقيهم منه.
    (4) أى : أنهم سيردون الحرب فيموتون عندها ، ولا يصدرون عنها ، ومن نجا منهم فلن يعود إليها

    11 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
    تزول الجبال ولا تزل! عضّ على ناجذك (1) ، أعر اللّه جمجمتك ، تد فى الأرض قدمك (2) ، ارم ببصرك أقصى القوم ، وغضّ بصرك (3) واعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه
    12 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما أظفره اللّه باصحاب الجمل ، وقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخى فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال له عليه السّلام : أهوى أخيك معنا (4)؟ فقال : نعم. قال : فقد شهدنا ولقد شهدنا فى عسكرنا هذا أقوام فى أصلاب الرّجال وأرحام النّساء ،
    __________________
    (1) النواجذ : أقصى الأضراس ، أو كلها ، أو الأنياب ، والناجذ واحدها ، قيل : إذا عض الرجل على أسنانه اشتدت أعصاب رأسه وعظامه ولهذا يوصى به عند الشدة ليقوى ، والصحيح أن ذلك كناية عن الحمية ، فان من عادة الانسان إذا حمى واشتد غيظه على عدوه عض على أسنانه. وأعر : أمر من أعار ، أى : ابذل جمجمتك للّه تعالى ، كما يبذل المعير ماله للمستعير
    (2) أى : ثبتها ، من وتد يتد
    (3) ارم ببصرك الخ ، أى : أحط بجميع حركاتهم ، وغض النظر عما يخيفك منهم ، أى : لا يهولنك منهم هائل
    (4) هوى اخيك : أى : ميله ومحبته

    سيرعف بهم الزّمان (1) ويقوى بهم الإيمان
    13 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذم أهل البصرة كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة (2) : رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، أخلاقكم دقاق (3) وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق (4) والمقيم بين أظهركم
    __________________
    (1) يرعف بهم ، أى : سيجود بهم الزمان كما يجود الأنف بالرعاف : يأتى بهم على غير انتظار
    (2) يريد الجمل. ومجمل القصة أن طلحة والزبير بعد ما بايعا أمير المؤمنين فارقاه فى المدينة وأتيا مكة مغاضبين ، فالتقيا بعائشة زوج النبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فسألتهما الأخبار ، فقالا : إنا تحملنا هربا من غوغاء العرب بالمدينة ، وفارقنا قومنا حيارى لا يعرفون حقا ، ولا ينكرون باطلا ، ولا يمنعون أنفسهم. فقالت : ننهض إلى هذه الغوغاء أو نأتى الشام؟ فقال أحد الحاضرين : لا حاجة لكم فى الشام قد كفاكم أمرها معاوية فلنأت البصرة ، فان لأهلها هوى مع طلحة ، فعزموا على المسير ، وجهزهم يعلى بن منبه ، وكان واليا لعثمان على اليمن وعزله على كرم اللّه وجهه ، وأعطى للسيدة عائشة جملا اسمه عسكر ، ونادى مناديها فى الناس بطلب ثار عثمان ، فاجتمع نحو ثلاثة آلاف ، فسارت فيهم إلى البصرة ، وبلغ الخبر عليا فأوسع لهم النصيحة وحذرهم الفتنة ، فلم ينجح النصح ، فتجهز لهم وأدركهم بالبصرة ، وبعد محاولات كثيرة منه يبغى بها حقن الدماء نشبت الحرب بين الفريقين واشتد القتال ، وكان الجمل يعسوب البصريين : قتل دونه خلق كثير من الفئتين ، وأخذ خطامه سبعون قرشيا ما نجا منهم أحد. وانتهت الموقعة بنصر على كرم اللّه وجهه بعد عقر الجمل ، وفيها قتل طلحة والزبير ، وقتل سبعة عشر ألفا من أصحاب الجمل ، وكانوا ثلاثين ألفا ، وقتل من أصحاب على ألف وسبعون
    (3) دقة الأخلاق : دناءتها مالح
    (4) مالح

    مرتهن بذنبه ، والشّاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه ، كأنّى بمسجدكم كجؤجؤ سفينة (1) قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من فى ضمنها وفى رواية : وايم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتّى كأنّى أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة ، أو نعامة جاثمة (2) وفى رواية : كجؤجؤ طير فى لجّة بحر وفى رواية أخرى : بلادكم أنتن بلاد اللّه تربة : أقربها من الماء وأبعدها من السّماء ، وبها تسعة أعشار الشّرّ ، المحتبس فيها بذنبه ، والخارج بعفو اللّه ، كأنّى أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتّى ما يرى منها إلاّ شرف المسجد كأنّه جؤجؤ طير فى لجّة بحر
    14 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى مثل ذلك
    أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السّماء ، خفّت عقولكم وسفهت حلومكم
    __________________
    (1) الجؤجؤ : الصدر
    (2) من «جثم» إذا وقع على صدره ، أو تلبد بالأرض وقد وقع ما أوعد به أمير المؤمنين ، فقد غرقت البصرة ، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ولم يبق ظاهرا منها إلا مسجدها الجامع. ومعنى قوله «أبعدها من السماء» : أنها فى أرض منخفضة ، والمنخفض أبعد عن السماء من المرتفع بمقدار انخفاضه وارتفاع المرتفع.

    فأنتم غرض لنابل (1) ، وأكلة لآكل ، وفريسة لصائل.
    15 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضى اللّه عنه (2)
    واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء ، وملك به الإماء ، لرددته فإنّ فى العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (3)
    16 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما بويع بالمدينة
    ذمّتى بما أقول رهينة (4) وأنا به زعيم ، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات (5) حجزته التّقوى عن تقحّم الشّبهات ، ألا وإنّ بليّتكم
    __________________
    (1) الغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام. والنابل : الضارب بالنبل
    (2) قطائع عثمان : ما منحه للناس من الأراضى
    (3) أى : أن من عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو عن التدبير بالجور أشد عجزا ، فان الجور مظنة أن يقاوم ويصد عنه. وهذه الخطبة رواها الكلبى مرفوعة إلى أبى صالح عن ابن عباس أن عليا خطب ثانى يوم من بيعته فى المدينة فقال : ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللّه ، فهو مردود فى بيت المال فان الحق القديم لا يبطله شىء ، ولو وجدته قد تزوج الخ
    (4) الذمة : العهد ، تقول : هذا الحق فى ذمتى ، كما تقول فى عنقى. وذلك كناية عن الضمان والالتزام. والزعيم : الكفيل ، يريد أنه ضامن لصدق ما يقول ، كفيل بأنه الحق الذى لا يدافع
    (5) العبر ـ بكسر ففتح ـ جمع عبرة بمعنى الموعظة ، والمثلات : العقوبات ، أى : من كشف له النظر فى أحوال من سبق بين يديه وحقق له الاعتبار والاتعاظ أن العقوبات التى نزلت بالأمم والأجيال والافراد من ضعف وذل وفاقة وسوء حال

    قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم (1) والّذى بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر (2) حتّى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا (3) واللّه ما كتمت وشمة (4) ولا كذبت كذبة ،
    __________________
    إنما كانت بما كسبوا من ظلم وعدوان وما لبسوا من جهل وفساد أحوال ، ملكته التقوى وهى التحفظ من الوقوع فيما جلب تلك العقوبات لأهلها فمنعته عن تقحم الشبهات والتردى فيها ، فان الشبهة مظنة الخطيئة ، والخطيئة مجلبة العقوبة.
    (1) إن بلية العرب التى كانت محيطة بهم يوم بعث اللّه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم هى بلية الفرقة ، ومحنة الشتات : حيث كانوا متباغضين متنافرين ، يدعو كل إلى عصبيته ، وينادى نداء عشيرته ، يضرب بعضهم رقاب بعض ، فتلك الحالة التى هى مهلكة الأمم قد صاروا إليها بعد مقتل عثمان : بعثت العداوات التى كان قد قتلها الدين ، ونفخت روح الشحناء بين الأمويين والهاشميين وأتباع كل ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
    (2) «لتبلبلن» أى : لتخلطن من نحو «تبلبلت الألسن» اختلطت ، «ولتغربلن» أى : لتقطعن من : غربلت اللحم ، أى : قطعته و «لتساطن» من السوط ، وهو أن تجعل شيئين فى الاناء وتضربهما بيدك حتى يختلطا. وقوله «سوط القدر» أى : كما تختلط الأبزار ونحوها فى القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ، وكل ذلك حكاية عما يؤولون إليه من الاختلاف وتقطع الأرحام وفساد النظام.
    (3) ولقد سبق معاوية إلى مقام الخلافة وقد كان فى قصوره عنه بحيث لا يظن وصوله إليه ، وقصر آل بيت النبوة عن بلوغه وقد كانوا أسبق الناس إليه.
    (4) الوشمة : الكلمة ، وقد كان رضى اللّه عنه لا يكتم شيئا يحوك بنفسه : كان أمارا بالمعروف ، نهاء عن المنكر ، لا يحابى ، ولا يدارى ، ولا يكذب ، ولا يداجى وهذا القسم توطئة لقوله : ولقد نبئت بهذا المقام ، أى : أنه قد أخبر من قبل على لسان النبى صلّى اللّه عليه وسلم بأن سيقوم هذا المقام ويأتى عليه يوم مثل هذا اليوم

    ولقد نبّئت بهذا المقام وهذا اليوم ، ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحّمت بهم فى النّار (1) ألا وإنّ التّقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها ، فأوردتهم الجنّة ، حقّ وباطل ، ولكلّ أهل (2) فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولقلّما أدبر شىء فأقبل (3)
    __________________
    (1) الشمس ـ بضمتين وبضم فسكون ـ جمع شموس وهى من «شمس» كنصر أى منع ظهره أن يركب ، وفاعل الخطيئة إنما يقترفها لغاية زينت له يطلب الوصول إليها ، فهو شبيه براكب فرس يجرى به إلى غايته ، لكن الخطايا ليست إلى الغايات بمطايا ، فانها اعتساف عن السبيل واختباط فى السير ، لهذا شبهها بالخيل الشمس التى قد خلعت لجمها ، لأن من لم يلجم نفسه بلجام الشريعة أفلتت منه إلى حيث ترديه وتتقحم به فى النار. وتشبيه التقوى بالمطايا الذلل ظاهر ، فان التقوى تحفظ النفس من كل ما ينكها عن صراط الشريعة ، فصاحبها على الجادة لا يزال عليها حتى يوافى الغاية. والذلل : جمع ذلول ، وهى المروضة الطائعة السلسة القياد.
    (2) أى : أن ما يمكن أن يكون عليه الانسان ينحصر فى أمرين : الحق ، والباطل ، ولا يخلو العلم منهما. ولكل من الأمرين أهل : فللحق أقوام ، وللباطل أقوام ، ولئن أمر الباطل ـ أى : كثر بكثرة أعوانه ـ فلقد كان منه قديما لأن البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها. ولئن كان الحق قليلا بقلة أنصاره فلربما غلبت قلته كثرة الباطل ، ولعله يقهر الباطل ويمحقه
    (3) هذه الكلمة صادرة من ضجر نفسه يستبعد بها أن تعود دولة لقوم بعد ما زالت عنهم. ومن هذا المعنى قول الشاعر : ـ
    وقالوا يعود الماء فى النهر بعد ما
    ذوى نبت جنبيه وجف المشارع

    فقلت : إلى أن يرجع النهر جاريا
    ويوشب جنباه تموت الضفادع



    قال الشريف : أقول : إنّ فى هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به ، وفيه ـ مع الحال الّتي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطّلع فجّها إنسان (1) ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب فى هذه الصّناعة بحقّ ، وجرى فيها على عرق (2) «وَمٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ»
    ومن هذه الخطبة
    شغل من الجنّة والنّار أمامه (3) ساع سريع نجا (4) ، وطالب بطىء رجا ،
    __________________
    (1) «لا يطلع» من قولهم : اطلع الأرض ، أى : بلغها ، والفج : الطريق الواسع بين جبلين فى قبل من أحدهما
    (2) العرق : الأصل ، أى : سلك فى العمل بصناعة الفصاحة والصدور عن ملكتها على أصولها وقواعدها
    (3) «شغل» مبنى للمجهول نائب فاعله من ، والجنة والنار مبتدأ خبره أمامه ، والجملة صلة من ، أى : كفى شاغلا أن تكون الجنة والنار أمامك ومن كانت أمامه الجنة والنار ـ على ما وصف اللّه سبحانه ـ فحرى به أن تنفد أوقاته جميعها فى الاعداد للجنة والابتعاد عما عساه يؤدى إلى النار.
    (4) يقسم الناس الى ثلاثة أقسام : الأول : الساعى إلى ما عند اللّه السريع فى سعيه ، وهو الواقف عند حدود الشريعة لا يشغله فرضها عن نفلها ، ولا شاقها عن سهلها. والثانى : الطالب البطىء له قلب تعمره الخشية ، وله ميل إلى الطاعة ، لكن ربما قعد به عن السابقين ميل إلى الراحة فيكتفى من العمل بفرضه ، وربما انتظر به غير وقته ، وينال من الرخص حظه ، وربما كانت له هفوات ، ولشهوته نزوات على أنه رجاع إلى ربه ، كثير الندم على ذنبه ، فذلك الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يرجو أن يغفر له. والقسم الثالث : المقصر ، وهو الذى حفظ الرسم ونسى الاسم ، وقال بلسانه إنه مؤمن ، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمال ظاهرة كصوم وصلاة وما شابههما ، وظن أن ذلك كل ما يطلب منه ، ثم لا تورده شهوته

    ومقصّر فى النّار هوى ، اليمين والشّمال مضلّة ، والطّريق الوسطى هى الجادّة (1) عليها باقى الكتاب وآثار النّبوّة ، ومنها منفذ السّنّة ، وإليها مصير العاقبة ، هلك من ادّعى ، وخاب من افترى من أبدى صفحته للحقّ هلك (2) وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، لا يهلك على التّقوى سنخ أصل (3) ، ولا يظمأ عليها
    __________________
    منهلا إلا عب منه ، ولا يميل به هواه إلى أمر إلا انتهى إليه ، فذلك عبد الهوى ، وجدير به أن يكون فى النار هوى
    (1) اليمين والشمال مثال لما زاع عن جادة الشريعة والطريق الوسطى مثال للشريعة القويمة ، ثم أخذ يبين أن الجادة والطريق الوسطى هى سبيل النجاة ، جاء الكتاب هاديا إليها ، والسنة لا تنفذ إلا منها ، فمن خالف الكتاب ونبذ السنة ثم ادعى أنه على الجادة فقد كذب ، ولهذا يقول : خاب من ادعى ، أى : من ادعى دعوة وكذب فيها ولم يكن عنده مما يدعيه إلاّ مجرد الدعوى فقد هلك لأنه مائل عن الجادة
    (2) الرواية الصحيحة هكذا : من أبدى صفحته للحق هلك ، أى : من كاشف الحق مخاصما له مصارحا له بالعداوة هلك. ويروى من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس. وعلى هذه الرواية يكون المعنى : من ظاهر الحق ونصره غلبته الجهلة بكثرتهم ـ وهم أعوان الباطل ـ فهلك
    (3) السنخ المثبت ، يقال : ثبتت السن فى سنخها ، أى : منبتها. والأصل لكل شىء : قاعدته وما قام عليه بقيته ، فأصل الجبل مثلا أسفله الذى يقوم عليه أعلاه وأصل النبات جذره الذاهب فى منبته ، وهلاك النسخ فساده حتى لا تثبت فيه أصول ما اتصل به ، ولا ينمو غرس غرس فيه. وكل عمل ذهبت أصوله فى أسناخ التقوى كان جديرا بأن تثبت أصوله وتنمو فروعه ويزكو بزكاء منبته ومغرس أصله ، وهو التقوى ، وكما أن التقوى سنخ لأصول الأعمال كذلك منها تستمد الأعمال غذاءها وتستقى ماءها من الأخلاص ، وجدير بزرع يسقى بماء التقوى أن لا يظمأ و «عليها» فى الموضعين : فى معنى معها. وقد يقال فى قوله سنخ أصل : إنه هو على نحو قول القائل : إذا خاض عينيه كرى النوم. والكرى هو النوى ، والسنخ هو الأصل. والأليق بكلام الامام ما قدمناه

    زرع قوم. فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتّوبة من ورائكم ، ولا يحمد حامد إلاّ ربّه ، ولا يلم لائم إلاّ نفسه.
    17 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل
    إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه رجلان : رجل وكله اللّه إلى نفسه (1) فهو جائر عن قصد السّبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به فى حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته (2) ، ورجل قمش جهلا (3) موضع فى جهّال الأمّة (4) عاد
    __________________
    (1) وكله اللّه إلى نفسه : تركه ونفسه ، وهو كناية عن ذهابه خلف هواه فيما يعتقد لا يرجع إلى حقيقة من الدين ولا يهتدى بدليل من الكتاب ، فهذا جائر عن قصد السبيل وعادل عن جادته. والمشغوف بشىء : المولع به ، وكلام البدعة : ما اخترعته الأهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين.
    (2) هذا الضال المولع بتنميق الكلام لتزيين البدعة الداعى إلى الضلالة قد غرر بنفسه وأوردها هلكتها فهو رهن بخطيئته لا مخرج له منها ، وهو مع ذلك حامل لخطايا الذين أضلهم وأفسد عقائدهم بدعائه ، كما قال تعالى : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَأَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ»
    (3) قمش جهلا : جمعه ، والجهل هنا بمعنى المجهول ، كما يسمى المعلوم علما. بل قال قوم : إن العلم هو صورة الشىء فى العقل ، وهو المعلوم حقيقة ، كذلك يسمى المجهول جهلا بل الصورة التى اعتبرت مثالا لشىء وليست بمنطبقة عليه هى الجهل حقيقة بالمعنى المقابل للعلم بذلك التفسير السابق. فالجهل المجموع : هو المسائل والقضايا التى يظنها جامعها تحكى واقعا ولا واقع لها
    (4) «موضع فى جهال الأمة» مسرع فيهم بالغش والتغرير : وضع البعير أسرع ،

    فى أغباش الفتنة ، عم بما فى عقد الهدنة (1) قد سمّاه أشباه النّاس عالما وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر (2) حتّى إذا ارتوى من آجن ، واكتنز من غير طائل (3) ، جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره (4) ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ، ثمّ
    __________________
    وأوضعه راكبه فهو موضع به ، أى : مسرع به. وقوله «عاد فى أغباش الفتنة» الاغباش : الظلمات ، واحدها غبش بالتحريك ، وأغباش الليل بقايا ظلمته. وعاد : بمعنى مسرع فى مشيته ، أى : أنه ينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم فى فتنتهم فيعدو إلى غايته من التصدر فيهم والسيادة عليهم بما جمع مما يظنه الجهلة علما وليس به ، ويروى «غار فى أغباش الفتنة» : من «غره يغره» إذا غشه وهو ظاهر
    (1) عم : وصف من العمى ، أى : جاهل بما أودعه اللّه فى السكون والاطمئنان من المصالح ، وقد يراد بالهدنة إمهال اللّه له فى العقوبة وإملاؤه فى أخذه ، ولو عقل ما هيأ اللّه له من العقاب لأخذ من العلم بحقائقه ، وأوغل فى النظر لفهم دقائقه ، ونصح للّه ولرسوله وللمؤمنين.
    (2) بكر : بادر إلى الجمع كالجاد فى عمله يبكر إليه من أول النهار ، فاستكثر : أى : احتاز كثيرا «من جمع» بالتنوين ، أى : مجموع قليله خير من كثيره ، إن جعلت ما موصولة ، فان جعلتها مصدرية كان المعنى : قلته خير من كثرته. ويروى جمع بغير تنوين ولا بد من حذف على تلك الرواية ، أى : من جمع شىء قلته خير من كثرته
    (3) الماء الآجن : الفاسد المتغير الطعم واللون ، شبه به تلك المجهولات التى ظنها معلومات ، وهى تشبه العلم فى أنها صور قائمة بالذهن فكأنها من نوعه ، كما أن الآجن من نوع الماء ، لكن الماء الصافى ينقع الغلة ويطفىء من الأوار. والآجن يجلب العلة ويفضى بشاربه إلى البوار. واكتنز : أى عد ما جمعه كنزا ، وهو غير طائل ، أى دون ، خسيس.
    (4) التخليص : التبيين ، والتبس على غيره : اشتبه عليه

    قطع به (1) ، فهو من لبس الشّبهات فى مثل نسج العنكبوت (2) : لا يدرى أصاب أم أخطأ : فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهل خبّاط جهالات. عاش ركّاب عشوات (3) لم يعضّ على العلم بضرس قاطع (4) يذرى الرّوايات إذراء الرّيح الهشيم (5)
    __________________
    (1) المبهمات. المشكلات لأنها أبهمت عن البيان ، كالصامت الذى لم يجعل على ما فى نفسه دليلا. ومنه قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة. والحشو : الزائد الذى لا فائدة فيه. والرث : الخلق البالى ضد الجديد ، أى : أنه يلاقى المبهمات برأى ضعيف لا يصيب من حقيقتها شيئا ، بل هو حشو لا فائدة له فى تبينها ، ثم يزعم بذلك أنه بينها
    (2) الجاهل بالشىء : من ليس على بينة منه فاذا أثبته عرضت له الشبهة فى نفيه وإذا نفاه عرضت له الشبهة فى إثباته. فهو فى ضعف حكمه فى مثل نسخ العنكبوت ضعفا ، ولا بصيرة له فى جوه الخطأ والاصابة فاذا حكم لم يقطع بأنه مصيب أو مخطىء وقد جاء الامام فى تمثيل حاله بأبلغ ما يمكن من التعبير عنه.
    (3) خباط : صيغة مبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هدى ، ومنه خبط عشواء. وشبه الجهالات بالظلمات التى يخبط فيها السائر ، وأشار إلى التشبيه بالخبط والعاشى : الأعمى أو ضعيف البصر أو الخابط فى الظلام ، فيكون كالتأكيد لما قبله والعشوات : جمع عشوة مثلثة الأول ، وهى ركوب الأمر على غير هدى.
    (4) من عادة عاجم العود ـ أى : مختبره ليعلم صلابته من لينه ـ أن يعضه فلهذا ضرب المثل فى الخبرة بالعض بضرس قاطع. أى : أنه لم يأخذ العلم اختبارا بل تناوله كما سول الوهم وصور الخيال ، ولم يعرض على محض الخبرة ليتبين أحق هو أم باطل
    (5) الهشيم : ما يبس من النبت وتفتت ، وأذرته الريح إذراء : أطارته ففرقته. ويروى يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم ، وهى أفصح ، قال اللّه تعالى : «فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ» وكما أن الريح فى حمل الهشيم وتبديده لا تبالى بتمزيقه واختلال نسقه ، كذلك هذا الجاهل يفعل فى الروايات ما تفعل الريح بالهشيم (4 ـ ن ـ ج ـ 1)

    لاملىء واللّه بإصدار ما ورد عليه ، ولا هو أهل لما فوّض إليه (1) لا يحسب العلم فى شىء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم أمر اكتتم به (2) لما يعلم من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدّماء ، وتعجّ منه المواريث (3) إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا (4) ويموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حقّ تلاوته (5) ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر.
    18 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذم اختلاف العلماء فى الفتيا
    ترد على أحدهم القضيّة فى حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد
    __________________
    (1) الملىء بالقضاء : من يحسنه ويجيد القيام عليه ، وهذا لا ملىء باصدار القضايا التى ترد عليه وإرجاعها عنه مفصولا فيها النزاع ، مقطوعا فيها الحكم. أى : غير قيم بذلك ، ولا غناء فيه لهذا الأمر الذى تصدر له. وروى ابن قتيبة بعد قوله لا ملىء واللّه باصدار ما ورد عليه (ولا أهل لما قرظ به) أى : مدح به ـ بدل ولا هو أهل لما فوض إليه
    (2) اكتتم به : أى كتمه وستره
    (3) العج : رفع الصوت. وصراخ الدماء وعج المواريث تمثيل لحدة الظلم وشدة الجور
    (4) إلى اللّه متعلق بأشكو ، وفى رواية إسقاط لفظ أشكو فيكون إلى اللّه متعلقا بتعج. وقوله من معشر : يشير إلى أولئك الذين قمشوا جهلا
    (5) تلى حق تلاوته : أخذ على وجهه وما يدل عليه فى جملته وفهم كما كان النبى وأصحابه صلّى اللّه عليه وسلّم يفهمونه. وأبور من بارت السلعة : كسدت. وأنفق من النفاق ـ بالفتح ـ وهو الرواج. وما أشبه حال هذا المعشر بالمعاشر من أهل هذا الزمان

    تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذى استقضاهم (1) فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرّسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : (مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْءٍ) وقال : (فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَىْءٍ) وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضا ، وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : (وَلَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً). وإنّ القرآن ظاهره أنيق (2) وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تكشف الظّلمات إلاّ به.
    19 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب ، فمضى فى بعض كلامه شىء اعترضه الأشعث فقال : يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك (3) فخفض عليه السّلام إليه بصره ثم قال : ما يدريك ما علىّ ممّا لى؟ عليك لعنة اللّه ولعنة اللاّعنين ، حائك بن
    __________________
    (1) الامام الذى استقضاهم : الخليفة الذى ولاهم القضاء
    (2) أنيق : حسن معجب وآنقنى الشىء : أعجبنى
    (3) كان أمير المؤمنين يتكلم فى أمر الحكمين

    حائك (1) منافق ابن كافر (2) واللّه لقد أسرك الكفر مرّة والإسلام أخرى (3). فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإنّ امرءا دلّ
    __________________
    فقام رجل من أصحابه وقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فلم ندر أى الأمرين أرشد؟ فصفق باحدى يديه على الأخرى ، وقال : هذا جزاء من ترك العقدة ، فقال الأشعث ما قال ، وأمير المؤمنين يريد هذا جزاؤكم فيما تركتم الحزم وشغبتم وألجأتمونى لقبول الحكومة
    (1) قيل : إن الحائكين أنقص الناس عقلا : وأهل اليمن يعيرون بالحياكة. والأشعث يمنى من كندة. قال خالد بن صفوان فى ذم اليمانيين : ليس فيهم إلا حائك برد ، أو دابغ جلد ، أو سائس قرد ، ملكتهم امرأة وأغرقتهم فأرة ، ودل عليهم هدهد.
    (2) كان الأشعث فى أصحاب على كعبد اللّه بن أبى بن سلول فى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كل منهما رأس النفاق فى ذمته.
    (3) أسر مرتين : مرة وهو كافر فى بعض حروب الجاهلية ، وذلك أن قبيلة مراد قتلت قيسا الأشج أبا الأشعث فخرج الأشعث طالبا بثار أبيه فخرجت كندة متساندين إلى ثلاثة ألوية على أحدها كبش بن هانىء ، وعلى أحدها القشعم ابن الأرقم ، وعلى أحدها الأشعث فأخطأوا مرادا ووقعوا على بنى الحارث بن كعب فقتل كبش والقشعم وأسر الأشعث ، وفدى بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربى قبله ولا بعده ، فمعنى قول أمير المؤمنين «فما فداك» لم يمنعك من الأسر. وأما أسر الاسلام له فذلك أن بنى وليعة لما ارتدوا بعد موت النبى صلّى اللّه عليه وسلّم وقاتلهم زياد بن لبيد البياضى الأنصارى لجأوا إلى الأشعث مستنصرين به فقال : لا أنصركم حتى تملكونى ، فتوجوه كما يتوج الملك من قحطان ، فخرج معهم مرتدا يقاتل المسلمين وأمد أبو بكر زيادا بالمهاجر بن أبى أمية فالتقوا بالأشعث فتحصن منهم فحاصروه أياما ثم نزل إليهم على أن يؤمنوه وعشرة من أقاربه حتى يأتى أبا بكر فيرى فيه رأيه ، وفتح لهم الحصن فقتلوا كل من فيه من قوم الأشعث إلا العشرة الذين عزلهم وكان المقتولون ثمانمائة ثم حملوه أسيرا مغلولا إلى أبى بكر فعفا عنه وعمن كان معه وزوجه أخته أم فروة بنت أبى قحافة.

    على قومه السّيف ، وساق إليهم الحتف ، لحرىّ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد (1)
    20 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (2) وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب (3) ولقد بصّرتم إن أبصرتم ، وأسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، بحقّ أقول لكم لقد جاهرتكم العبر (4) وزجرتم بما فيه مزدجر. وما يبلّغ عن اللّه بعد
    __________________
    (1) دلالة السيف ـ على قوله ـ وسوق الحنف إليهم تسليمهم لزياد بن لبيد ، وفتح الحصن عليهم حتى قتلهم كما تقدم وإن كان الذى ينقل عن الشريف الرضى أن ذلك إشارة إلى وقعة جرت بين الأشعث وخالد بن الوليد فى حرب المرتدين باليمامة ، وإن الأشعث دل خالدا على مكامن قومه ومكربهم حتى أوقع بهم خالد فان ما نقله الشريف لا يتم إلا إذا قلنا إن بعض القبائل من كندة كانت انتقلت من اليمن إلى اليمامة. وشاركت أهل الردة فى حروبهم وفعل بهم الأشعث ما فعل. وعلى كل حال فقد كان الأشعث ملوما على ألسنة المسلمين والكافرين ، وكان نساء قومه يسمينه عرف النار ، وهو اسم للغادر عندهم
    (2) الوهل : الخوف ، من وهل يوهل
    (3) ما مصدرية ، أى قريب طرح الحجاب ، وذلك عند نهاية الأجل ، ونزول المرء فى أول منازل الآخرة.
    (4) جاهرتكم العبر : انتصبت لتنبهكم جهرا وصرحت لكم بعواقب أموركم ، والعبر : جمع عبرة ، والعبرة : الموعظة ، لكنه أطلق اللفظ وأراد ما به الاعتبار مجازا ، فان العبر التى جاهرتهم إما قوارع الوعيد المنبعثة عليهم من ألسنة الرسل الالهيين وخلفائهم. وإما ما يشهدونه من تصاريف القدرة الربانية ومظاهر العزة الالهية

    رسل السّماء إلاّ البشر (1)
    21 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فإنّ الغاية أمامكم (2) وإنّ وراءكم السّاعة تحدوكم ، تخفّفوا تلحقوا (3) فإنّما تنتظر بأوّلكم آخركم (4) قال الشريف أقول : إن هذا الكلام لو وزن ، بعد كلام اللّه سبحانه وبعد كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، بكل كلام لمال به راجحا ، وبرّز عليه سابقا. فأما قوله عليه السّلام «تخففوا تلحقوا» فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا وما أبعد غورها من كلمة ، وأنقع نطفتها من حكمة (5) ، وقد نبهنا فى كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها
    __________________
    (1) رسل السماء : الملائكة ، أى : إن قلتم لم يأتنا عن اللّه شىء فقد أقيمت عليكم الحجة بتبليغ رسول اللّه وإرشاد خليفته.
    (2) الغاية : الثواب أو العقاب ، والنعيم والشقاء. فعليكم أن تعدوا للغاية ما يصل بكم إليها ، ولا تستبطئوها فان الساعة التى تصيبونها فيها ـ وهى يوم القيامة ـ آزفة إليكم فكأنها ـ فى تقربها نحوكم وتقليل المسافة بينها وبينكم ـ بمنزلة سائق يسوقكم إلى ما تسيرون إليه
    (3) سبق سابقون بأعمالهم إلى الحسنى ، فمن أراد اللحاق بهم فعليه أن يتخفف من أثقال الشهوات وأوزار العناء فى تحصيل اللذات ، ويحفز بنفسه عن هذه الفانيات فيلحق بالذين فازوا بعقبى الدار. وأصله الرجل يسعى وهو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه
    (4) أى : أن الساعة لا ريب فيها ، وإنما ينتظر بالأول مدة لا يبعث فيها حتى يرد الآخرون وينقضى دور الانسان من هذه الدنيا ولا يبقى على وجه الأرض أحد فتكون الساعة بعد هذا ، وذلك يوم يبعثون
    (5) من قولهم ماء ناقع ونقيع أى ناجع ، أى إطفاء العطش. والنطفة : الماء الصافى

    22 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ألا وإنّ الشّيطان قد ذمر حزبه (1) ، واستجلب جلبه. ليعود الجور إلى أوطانه ، ويرجع الباطل إلى نصابه (2). واللّه ما أنكروا علىّ منكرا ، ولا جعلوا بينى وبينهم نصفا (3) ، وإنّهم ليطلبون حقّا هم تركوه ، ودما هم سفكوه ، فلئن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم منه ، ولئن كانوا ولّوه دونى فما التّبعة إلاّ عندهم ، وإنّ أعظم حجّتهم لعلى أنفسهم! يرتضعون أمّا قد فطمت (4) ويحيون بدعة قد أميتت ، يا خيبة الدّاعى!! من دعا؟ وإلام أجيب؟ (5) وإنّى لراض بحجّة اللّه عليهم ، وعلمه فيهم ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف وكفى به شافيا من الباطل ، وناصرا للحقّ ، ومن العجب بعثهم إلىّ أن أبرز للطّعان! وأن أصبر للجلاد ، هبلتهم الهبول (6) لقد كنت وما أهدّد بالحرب ، ولا
    __________________
    (1) حثهم : وحضهم من قولهم «ذمر فلانا بكذا» من بابى ضرب ونصر ، إذا أغراه به والجلب ـ بالتحريك ـ ما يجلب من بلد إلى بلد ، وهو فعل بمعنى مفعول مثل سلب بمعنى مسلوب ، وجمع الجلب أجلاب.
    (2) النصاب ـ بكسر النون ـ الأصل ، أو المنبت وأول كل شىء
    (3) النصف ـ بالكسر ـ العدل أو المنصف ، أى : لم يحكموا العدل بينى وبينهم ، أو لم يحكموا عادلا
    (4) إذا فطمت الأم ولدها فقد انقضى إرضاعها وذهب لبنها ، يمثل به طلب الأمر بعد فواته
    (5) من : استفهامية ، وما المحذوفة الألف لدخول إلى عليها كذلك ، وهذا استفهام عن الداعى ودعوته تحقيرا لهما ، والكلام فى أصحاب الجمل. والداعى هو أحد الثلاثة الذين تقدم ذكرهم فى قصة الجمل عند الكلام فى ذم البصرة
    (6) هبلتهم : ثكلتهم ، والهبول ـ بالفتح ـ

    أرهب بالضّرب ، وإنّى لعلى يقين من ربّى ، وغير شبهة من دينى.
    23 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمّا بعد فانّ الأمر ينزل من السّماء إلى الأرض كقطرات المطر : إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة ونقصان ، فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة فى أهل أو مال أو نفس (1) فلا تكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت وتغرى بها لئام النّاس ، كان كالفالج الياسر (2) الّذى ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم ، ويرفع بها عنه المغرم ، وكذلك المرء المسلم البرىء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعى اللّه فما عند اللّه خير له ، وإمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه دينه وحسبه ، إنّ المال والبنين حرث الدّنيا ، والعمل الصّالح حرث الآخرة ، وقد
    __________________
    من النساء التى لا يبقى لها ولد ، وهو دعاء عليهم بالموت ، لعدم معرفتهم بأقدار أنفسهم ، فالموت خير لهم من حياة جاهلية
    (1) غفيرة : زيادة وكثرة
    (2) الفالج : الظافر ، فلج يفلج ـ كنصر ينصر ـ ظفر وفاز. ومنه المثل : من يأت الحكم وحده يفلج ، والياسر : الذى يلعب بقداح الميسر أى : المقامر. وفى الكلام تقديم وتأخير ، ونسقه كالياسر الفالج كقوله تعالى «وَغَرٰابِيبُ سُودٌ» ، وحسنه ان اللفظتين صفتان وإن كانت إحداهما إنما تأتى بعد الأخرى إذا صاحبتها ، يريد أن المسلم إذا لم يأت فعلا دنيئا يخجل لظهوره وذكره ، ويبعث لئام الناس على التكلم به ، فقد فاز بشرف الدنيا وسعادة الآخرة ، فهو شبيه بالمقامر الفائز فى لعبه لا ينتظر إلا فوزا. أى : أن المسلم إذا برىء من الدناءات لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين : إما نعيم الآخرة ، أو نعيم الدارين ، فجدير به أن لا يأسف على فوت حظ من الدنيا. فانه إن فاته ذلك لم يفته نصيبه من الآخرة ، وهو يعلم أن الأرزاق بتقدير رزاقها ، فهو أرفع من أن يحسد أحدا على رزق ساقه اللّه اليه. وقوله «فاحذروا ما حذركم اللّه من نفسه» : يريد احذروا الحسد ، فان مبعثه انتقاص صنع اللّه تعالى واستهجان بعض أفعاله ، وقد حذرنا اللّه من الجرأة على عظمته فقال : «وَإِيّٰايَ فَارْهَبُونِ» «وَإِيّٰايَ فَاتَّقُونِ».) وما يفوق الكثرة من الآيات الدالة على ذلك

    يجمعهما اللّه لأقوام ، فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه ، واخشوه خشية ليست بتعذير (1) واعملوا فى غير رياء ولا سمعة ، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه لمن عمل له (2) نسأل اللّه منازل الشّهداء ، ومعايشة السّعداء ، ومرافقة الأنبياء. أيّها النّاس إنّه لا يستغنى الرّجل ، وإن كان ذا مال ، عن عشيرته ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم النّاس حيطة من ورائه (3) وألمّهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. ولسان الصّدق يجعله اللّه للمرء فى النّاس خير له من المال يورّثه (4) غيره. ومنها : ألا لا يعدلن عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالّذى
    __________________
    (1) مصدر عذر تعذيرا لم يثبت له عذر ، أى : خشية لا يكون فيها تقصير يتعذر معه الاعتذار
    (2) العامل لغير اللّه لا يرجو ثواب عمله من اللّه وإنما يطلبه ممن عمل له ، فكأن اللّه قد تركه إلى من عمل له وجعل أمره اليه
    (3) حيطة كبيعة أى : رعاية وكلاءة ، ويروى حيطة ـ بكسر الحاء كبنية ، وسكون الياء مخففة ـ مصدر حاطه يحوطه. أى : صانه ، وتعطف ، عليه وتحنن ، والشعث ـ بالتحريك ـ : التفرق والانتشار
    (4) لسان الصدق : حسن الذكر بالحق ،

    لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه (1) ، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة. قال الشريف : أقول : الغفيرة ههنا الزيادة والكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ، والجماء الغفير. ويروى «عفوة من أهل أو مال» والعفوة الخيار من الشىء ، يقال : أكلت عفوة الطعام ، أى : خياره ، وما أحسن المعنى الذى أراده عليه السّلام بقوله : «ومن يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام ، فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة فاذا احتاج إلى نصرتهم واضطرّ إلى مرافدتهم (2) قعدوا عن نصره ، وتثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدى الكثيرة ، وتناهض الأقدام الجمّة.
    24 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ولعمرى ما علىّ من قتال من خالف الحقّ ، وخابط الغىّ ، من إدهان ولا
    __________________
    وهو فى القرابة أولى وأحق
    (1) الخصاصة : الفقر والحاجة الشديدة ، وهى مصدر خص الرجل ـ من باب علم ـ خصاصا ، وخصاصة ، وخصاصاء ـ بفتح الخاء فى الجميع ـ إذا احتاج وافتقر ، قال تعالى : «وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ» وقال الشاعر : واذا تصبك خصاصة فتحمل ينهى أمير المؤمنين عن إهمال القريب إذا كان فقيرا ، ويحث على سد حاجته بالمال وأنواع المعاونة. فان ما يبذله فى سد حاجة القريب لو لم يصرفه فى هذا السبيل وأمسكه لنفسه لم يزده فى غناه أو فى جاهه شيئا ، ولو بذله لم ينقصه من ذلك كذلك. ومعنى أهلكه : بذله
    (2) المرافدة : المعاونة

    إيهان (1) فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، وامضوا فى الّذى نهجه لكم ، وقوموا بما عصبه بكم (2). فعلىّ ضامن لفلجكم آجلا ، إن لم تمنحوه عاجلا (3)
    25 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وقد تواترت (4) عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن ، وهما عبيد اللّه بن عباس وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة (5) فقام عليه السّلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه
    __________________
    (1) الادهان : المنافقة والمصانعة ، ولا تخلو من مخالفة الظاهر للباطن والغش. والايهان : الدخول فى الوهن ، وهو من الليل نحو نصفه وهو هنا عبارة عن التستر والمخاتلة ، وقد يكون مصدر أوهنته بمعنى أضعفته ، أى : لا يعرض على فيه ما يضعفنى. وخابط الغى والغى يخبطه وهو أشد اضطرابا ممن يخبط فى الغى
    (2) عصبه بكم من باب ضرب ربطه بكم أى : كلفكم به ، وألزمكم أداءه. ونهجه لكم : أوضحه وبينه
    (3) لفلجكم ، أى لظفركم وفوزكم
    (4) تواترت عليه الأخبار : مثل ترادفت وتواصلت وتتابعت ، ومن الناس من زعم أن التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الاتيان ، وزعم أن قوله تعالى «ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا» يدل على ذلك لأنه بين كل نبيين فترة
    (5) يقال بسر بن أبى أرطاة وبسر بن أرطاة ، وهو عامرى من بنى عامر بن لؤى بن غالب ، سيره معاوية إلى الحجاز بعسكر كثيف ، فأراق دماء غزيرة ، واستكره الناس على البيعة لمعاوية. وفر من بين يديه والى المدينة أبو أيوب الأنصارى. ثم وجه واليا على اليمن فتغلب عليها ، وانتزعها من عبيد اللّه بن العباس ، وفر عبيد اللّه ناجيا من شره ، فأتى بسر بيته فوجد له ولدين صبيين فذبحهما ، وباء باثمهما ، قبح اللّه القسوة وما تفعل ، ويروى أنهما ذبحا فى بنى كنانة أخوالهما ، وكان أبوهما تركهما هناك ، وفى ذلك تقول زوجة عبيد اللّه : ـ
    يا من أحس بابنى اللذين هما
    كالدرتين تشطى عنهما الصدف

    يا من أحس بابنى اللذين هما
    قلبى وسمعى ، فقلبى اليوم مختطف

    من ذل والهة حيرى مدلهة
    على صبيين ذلا ، إذ غدا السلف


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:08 pm

    عن الجهاد ومخالفتهم له فى الرأى ، فقال : ـ ما هى إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها (1) ، إن لم تكونى إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك (2) فقبّحك اللّه وتمثل بقول الشاعر [لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّنى على وضر من ذا الإناء قليل (3)
    ثم قال عليه السّلام :
    أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن (4) وإنّى واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم : باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم (5) ، وبمعصيتكم إمامكم فى الحقّ ، وطاعتهم إمامهم فى الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم
    __________________
    خبرت بسرا وما صدقت ما زعموا
    من إفكهم ومن القول الذى اقترفوا

    أنحى على ودجى ابنى مرهفة
    مشحوذة ، وكذاك الاثم يقترف

    وتروى هذه الأبيات بروايات شتى فيها تغيير وزيادة ونقص
    (1) أقبضها وأبسطها ، أى : أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب فى ثوبه يقبضه أو يبسطه
    (2) الأعاصير : جمع إعصار ، وهى ريح تهب وتمتد من الأرض نحو السماء كالعمود ، أو كل ريح فيها العصار : وهو الغبار الكثير. إن لم يكن لى ملك الكوفة على ما فيها من الفتن والآراء المختلفة فأبعدها اللّه ، وشبه الاختلاف والشقاق بالأعاصير لاثارتها التراب وإفسادها الأرض
    (3) الوضر ـ بالتحريك ـ : غسالة السقاء والقصعة ، وبقية الدسم فى الاناء وتقول. وضر الاناء ـ من باب طرب ـ إذا اتسخ بالدسم أو اللبن
    (4) اطلع اليمن : بلغها وتمكن منها وغشيها بجيشه
    (5) سيدالون منكم : ستكون لهم الدولة بدلكم ، بذلك السبب القوى ، وهو اجتماع كلمتهم ، وطاعتهم

    وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته (1)! اللّهمّ إنّى قد مللتهم وسئمتهم وسئمونى ، فأبدلنى بهم خيرا منهم وأبدلهم بى شرّا منّى ، اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح فى الماء (2) ، أما واللّه لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فرس بن غنم (3) نالك ، لو دعوت ، أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم
    ثم نزل عليه السّلام من المنبر. قال الشريف : أقول : الأرمية جمع رمى وهو السحاب ، والحميم ههنا : وقت الصيف ، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا
    __________________
    لصاحبهم ، وأداؤهم الأمانة ، وإصلاحهم بلادهم. وهو يشير إلى أن هذا السبب متى وجد كان النصر والقوة معه ، ومتى فقد ذهبت القوة والعزة بذهابه. فالحق ضعيف بتفرق أنصاره ، والباطل قوى بتضافر أعوانه
    (1) القعب ـ بالضم ـ القدح الضخم ـ وعلاقته ـ بكسر العين ـ ما يعلق منه من ليف أو نحوه.
    (2) مث قلوبهم : أذابها ، ماثه يميثه : دافه ، أى : أذابه
    (3) بنو فراس بن غنم بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، أو هم بنو فراس ابن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حى مشهور بالشجاعة ، ومنهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ، ومنهم ربيعة بن مكدم ، حامى الظعن حيا وميتا ، ولم يحم الحريم أحد وهو ميت غيره : عرض له فرسان من بنى سليم ومعه ظعائن من أهله يحميهن وحده فرماه أحد الفرسان بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه فى الأرض واعتمد عليه وأشار إليهن بالمسير فسرن حتى بلغن بيوت الحى وبنو سليم قيام ينظرون إليه لا يتقدم أحد منهم نحوه خوفا منه حتى رموا فرسه بسهم فوثبت من تحته فسقط وقد كان ميتا

    وأسرع خفوفا (1) لأنه لا ماء فيه. وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء ، وذلك لا يكون فى الأكثر إلا زمان الشتاء ، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ، والإغاثة إذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله هنالك لو دعوت أتاك منهم
    26 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وسلّم وآله نذيرا للعالمين ، وأمينا على التّنزيل ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين ، وفى شرّ دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صمّ (2) تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب (3) ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة (4) ومنها. فنظرت فإذا ليس لى معين إلاّ أهل بيتى فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت عن القذى ، وشربت على الشّجى ، وصبرت على أخذ
    __________________
    (1) مصدر غريب لخف بمعنى انتقل وارتحل مسرعا ، والمصدر المعروف خفا
    (2) الخشن : جمع خشناء من الخشونة ، ووصف الحيات بالصم لأنها أخبثها إذ لا تنزجر ، وبادية الحجاز وأرض العرب يغلب عليها القفر والغلظ ، فأكثر أراضيها حجارة خشنة ، غليظة ، ثم إنه يكثر فيها الأفاعى والحيات ، فأبدلهم اللّه منها الريف ولين المهاد من أرض العراق والشام ومصر وما شابهها
    (3) الجشب : الطعام الغليظ ، أو ما يكون منه بغير أدم
    (4) معصوبة : مشدودة تمثيل للزومها لهم وقد جمع فى وصف حالهم بين فساد المعيشة وفساد العقيدة والملة

    الكظم (1) وعلى أمرّ من طعم العلقم. ومنها : ولم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا (2) فلا ظفرت يد البائع ، وخزيت أمانة المبتاع ، فخذوا للحرب أهبتها ، وأعدّوا لها عدّتها ، فقد شبّ لظاها ، وعلا سناها ، واستشعروا الصّبر فانّه أدعى إلى النّصر
    27 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمّا بعد ، فانّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التّقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة (3) فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ وشملة البلاء ، وديّث بالصّغار والقماء (4) وضرب على قلبه بالأسداد (5) ، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف (6) ومنع
    __________________
    (1) الكظم بالتحريك وبضم فسكون : الحلق ، أو الفم ، أو مخرج النفس ، والكل صحيح ههنا. والمراد أنه صبر على الاختناق ، وأغضيت : غضضت طرفى على قذى فى عينى ، وما أصعب أن يغمض الطرف على قذى فى العين. والشجا : ما يعترض فى الحلق. وكل هذا تمثيل للصبر على المضض الذى ألم به من حرمانه حقه وتألب القوم عليه
    (2) ضمير يبايع إلى عمرو بن العاص ، فانه شرط على معاوية أن يوليه مصر لو تم له الأمر
    (3) جنته ـ بالضم ـ وقايته
    (4) ديث مبنى للمفعول من ديثه ، أى : ذلله ، وقمؤ الرجل كجمع وككرم قمأة وقماءة بزنة رحمة وسحابة ـ أى : ذل وصغر
    (5) الأسداد جمع سد ، يريد الحجب التى تحول دون بصيرته والرشاد. قال اللّه «وَجَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ» ويروى بالاسهاب وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام ، أى : حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة
    (6) أديل الحق منه ، أى : صارت الدولة للحق بدله ،

    النّصف ، ألا وإنّى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم فى عقر دارهم إلاّ ذلّوا (1) فتواكلتم ، وتخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار (2) وقد قتل حسّان بن حسّان البكرىّ وأزال خيلكم عن مسالحها (3) ولقد بلغنى أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (4) ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام (5) ثمّ انصرفوا
    __________________
    وسيم الخسف ، أى : أولى الخسف وكلفه ، والخسف : الذل والمشقة أيضا. والنصف بالكسر وبالتحريك ـ العدل ومنع مجهول ، أى : حرم العدل بأن يسلط اللّه عليه من يغلبه على أمره فيظلمه
    (1) عقر الدار ـ بالضم ـ وسطها وأصلها. وتواكلتم وكل كل منكم الأمر إلى صاحبه ، أى : لم يتوله أحد منكم. بل أحاله كل على الآخر ومنه يوصف الرجل بالوكل ، أى : العاجز ، لأنه يكل أمره إلى غيره. وشنت الغارات : فرقت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقا دفعة بعد دفعة. وما كان إرسالا غير متفرق يقال فيه : سن بالمهملة
    (2) أخو غامد : هو سفيان بن عوف ، من بنى غامد ، قبيلة من اليمن من أزد شنوءة ، بعثه معاوية لشن الغارات على أطراف العراق تهويلا على أهله ، والأنبار : بلدة على الشاطىء الشرقى للفرات ويقابلها على الجانب الغربى هبت
    (3) جمع مسلحة ـ بالفتح ـ وهى الثغر والمرقب حيث يخشى طروق الأعداء ، وفى الحديث : «كان أدنى مسالح مسالح فارس إلى العرب العذيب»
    (4) المعاهدة الذمية ، والحجل ، بالكسر ، وبالفتح وبكسرتين ـ خلخالها ، والقلب ، بالضم كقفل : سوارها. والرعاث : جمع رعثة ـ بالفتح ويحرك ـ بمعنى القرط. ويروى رعثها ـ بضم الراء والعين ـ جمع رعاث ، وجمع رعثة
    (5) الاسترجاع : ترديد الصوت بالبكاء. والاسترحام : أن تناشده الرحم

    وافرين (1) ما نال رجلا منهم كلم ، ولا أريق لهم دم ، فلو أنّ امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندى جديرا ، فيا عجبا ـ واللّه ـ يميت القلب ويجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم وترحا (2) حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى اللّه وترضون ، فاذا أمرتكم بالسّير إليهم فى أيّام الصّيف قلتم هذه حمارّة القيظ (3) أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ (4) وإذا أمرتكم بالسّير إليهم فى الشّتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ (5) أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ والقرّ ، فأنتم واللّه من السّيف أفرّ ، يا أشباه الرّجال ولا رجال! حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال (6) لوددت أنّى لم أركم ولم أعرفكم!
    __________________
    (1) وافرين : تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم ، والكلم ـ بالفتح ـ الجرح
    (2) ترحا ـ بالتحريك ـ أى : هما وحزنا أو فقرا ، والغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها. فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون وهم نصب لا يدفعون وقوله «ويعصى اللّه» : يشير إلى ما كان يفعله قواد جيش معاوية من السلب والنهب والقتل فى المسلمين والمعاهدين. ثم أهل العراق راضون بذلك إذ لو غضبوا لهموا بالمدافعة
    (3) حمارة القيظ ـ بتشديد الراء ، وربما خففت فى ضرورة الشعر ـ شدة الحر
    (4) التسبيخ ـ بالخاء المعجمة ـ التخفيف والتسكين
    (5) صبارة الشتاء بتشديد الراء : شدة برده ، والقر ـ بالضم ـ البرد ، وقيل : هو برد الشتاء خاصة ، أما البرد فعام فيه وفى الصيف ، وتقول : قر يومنا ـ من باب ضرب ـ أى : برد ، وتقول قر فلان ـ مبنى لما لم يسم فاعله ـ قرا ـ بفتح القاف وكسرها ـ إذا أصابه القر وهو البرد
    (6) حجال : جمع حجلة وهى القبة ، وموضع يزين بالستور ، والثياب (5 ـ ن ـ ح ـ 1) للعروس ، وربات الحجال : النساء

    معرفة واللّه جرّت ندما ، وأعقبت سدما (1) قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبى قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرّعتمونى نغب التّهمام أنفاسا (2) وأفسدتم علىّ رأيى بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش : إنّ ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم!! وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا ، وأقدم فيها مقاما منّى (3)؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على السّتّين (4) ، ولكن لا رأى لمن لا يطاع!!
    28 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، (5) وإنّ الآخرة قد
    __________________
    (1) السدم ـ محركة ـ الهم مع أسف أو غيظ وفعله كفرح ، والقيح : ما فى القرحة من الصديد ، وفعله كباع ، وشحنتم صدرى : ملأتموه
    (2) النغب : جمع نغبة كجرعة وجرع لفظا ومعنى ، والتهمام ـ بالفتح ـ الهم ، وكل تفعال فهو بالفتح ، إلا التبيان والتلقاء فانهما بالكسر. وأنفاسا : أى جرعة بعد جرعة
    (3) مراسا : مصدر مارسه ممارسة ومراسا ، أى : عالجه ، وزاوله وعاناه
    (4) ذرفت على الستين : زدت عليها ، وروى المبرد «نيفت» وهو بمعناه وفى الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف فى المعنى ، وإن اختلفت عنها فى بعض الألفاظ ، انظر الكامل للمبرد
    (5) آذنت : أعلمت ، وإيذانها بالوداع إنما هو بما أودع فى طبيعتها من التقلب والتحول ، فأول نظرة من العاقل إليها تحصل له اليقين بفنائها وانقضائها ، وليس وراء الدنيا إلا الآخرة ، فان كانت الأولى مودعة فالأخرى مشرفة ، والاطلاع : من «اطلع فلان علينا» أتانا فجأة.

    أشرفت باطّلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار (1) وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة (2) والغاية النّار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه (3)؟ ألا وإنّكم فى أيّام أمل (4) من ورائه أجل ، فمن عمل فى أيّام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ، ولم يضرره أجله ، ومن قصّر فى أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله ، ألا فاعملوا فى الرّغبة كما تعملون فى الرّهبة (5) ، ألا وإنّى لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها (6) ،
    __________________
    (1) المضمار : الموضع والزمن الذى تضمر فيه الخيل ، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ، ثم يقال علفها وماؤها وتجرى فى الميدان حتى تهزل. وقد يطلق التضمير على العمل الأول أو الثانى ، وإطلاقه على الأول لأنه مقدمة للثانى ، وإلا فحقيقة التضمير : إحداث الضمور ، وهو الهزال وخفة اللحم ، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف فى الجرى يوم السباق ، كما أننا نعمل اليوم فى الدنيا للحصول على السعادة فى الأخرى
    (2) السبقة ـ بالتحريك ـ الغاية التى يجب على السابق أن يصل إليها وبالفتح المرة من السبق. والشريف رواها فى كلام الامام بالتحريك أو الفتح وفسرها بالغاية المحبوبة ، أو المرة من السبق. وهو مطلوب لهذا ، وروى الضم بصيغة رواية أخرى. ومن معانى السبقة ـ بالتحريك ـ الرهن الذى يوضع من المتراهنين فى السباق ، أى : الجعل الذى يأخذه السابق. إلا أن الشريف فسرها بما تقدم
    (3) البؤس بالضم : اشتداد الحاجة ، وسوء الحالة ، ويوم البؤس : يوم الجزاء مع الفقر من الأعمال الصالحة ، والعامل له هو الذى يعمل الصالح لينجو من البؤس فى ذلك اليوم
    (4) يريد الأمل فى البقاء واستمرار الحياة.
    (5) الرهبة ـ بالفتح ـ هى مصدر رهب الرجل ـ من باب علم ـ رهبا ، بالفتح وبالتحريك ورهبانا ـ بالتحريك وبالضم ـ ومعناه : خاف ، أى : اعملوا للّه فى السراء كما تعملون له فى الضراء لا تصرفكم النعم عن خشيته والخوف منه
    (6) من أعجب العجائب الذى لم ير له مثيل أن ينام طالب الجنة فى عظمها

    ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرره الباطل (1) ، ومن لم يستقم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ، ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن (2) ، ودللتم على الزّاد ، وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل ، تزوّدوا من الدّنيا ما تحرزون أنفسكم به غدا (3) قال الشريف : أقول : لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد فى الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ، ومن أعجبه قوله عليه السلام «ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السّباق والسّبقة الجنّة والغاية النّار» فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله عليه السلام : «والسبقة الجنة ، والغاية النار» فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل «السبقة النار» كما قال «السبقة الجنة» ، لأن
    __________________
    واستكمال أسباب السعادة فيها ، وأن ينام الهارب من النار فى هولها واستجماعها أسباب الشقاء
    (1) النفع الصحيح كله فى الحق. فان قال قائل : إن الحق لم ينفعه فالباطل أشد ضررا له ، ومن لم يستقم به الهدى المرشد إلى الحق ـ أى : لم يصل به إلى مطلوبه من السعادة ـ جرى به الضلال إلى الردى والهلاك
    (2) الظعن ـ بالفتح ، وبالتحريك ـ الرحيل عن الدنيا ، وفعله كقطع ، وأمرنا به أمر تكوين ، أى كما خلقنا اللّه خلق فينا أن نرحل عن حياتنا الأولى لنستقر فى الأخرى ، والزاد الذى دلنا عليه : هو عمل الصالحات ، وترك السيئات.
    (3) تحرزون أنفسكم : تحفظونها من الهلاك الأبدى ، ويقال : حرز نفسه ـ كنصر ـ أو هذا إبدال والأصل حرس بالسين فأبدلت زايا ، وتقول : حرز فلان ككرم ، إذا تحصن ، وحرز كفرح ، إذا كثر ورعه.

    الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا فى النار نعوذ باللّه منها ، فلم يجز أن يقول «والسبقة النار» بل قال «والغاية النار» ، لأن الغاية ينتهى إليها من لا يسره الانتهاء ومن يسره ذلك ، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا ، فهى فى هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال اللّه تعالى : «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ» ولا يجوز فى هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ، فتأمل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام ، وفى بعض النسخ ، وقد جاء فى رواية أخرى «والسبقة الجنة» ـ بضم السين ـ والسبقة عندهم : اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض ، والمعنيان متقاربان لأن ذلك لا يكون جزاء على فعل الأمر المذموم ، وإنما يكون جزاء على فعل الأمر المحمود.
    29 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم (1) ، كلامكم يوهى الصّمّ الصّلاب (2) وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون فى المجالس : كيت
    __________________
    (1) أهواؤهم : آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم والأهواء : جمع هوى ، بالقصر ـ وأصله إرادة النفس وما تميل إليه محمودا كان أو مذموما ، ثم غلب فى الاستعمال على غير المحمود
    (2) الصم : جمع أصم ، وهو من الحجارة الصلب المصمت ، والصلاب : جمع صليب ، والصليب : الشديد ، وبابه ظريف وظراف وضعيف وضعاف. ويوهيها : يضعفها ويفتتها. يقال : وهى الثوب ووهى يهى وهيا ـ من باب ضرب وحسب ـ تخرق وانشق ، وأوهاه يوهيه إيهاء : شقه وخرقه : أى : تقولون من الكلام ما يفلق الحجر بشدته وقوته ، ثم يكون فعلكم ، من الضعف والاختلال

    وكيت ، فإذا جاء القتال قلتم : حيدى حياد (1)! ما عزّت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم (2) أعاليل بأضاليل ، دفاع ذى الدّين المطول (3) لا يمنع الضّيم الذّليل. ولا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ ، أىّ دار بعد داركم تمنعون ومع أىّ إمام بعدى تقاتلون؟ المغرور واللّه من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز واللّه بالسّهم الأخيب (4) ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (5)
    __________________
    بحيث يطمع فيكم العدو!!
    (1) كيت وكيت بكسر آخرهما ـ كلمتان لا تستعملان إلا مكررتين : إما مع واو العطف ، وإما بدونها. وأصل تائهما هاء ، وربما قيل «كيه كيه» ومعناهما كذا وكذا ، وقيل : كيت كيت كناية عن الحديث وذيت ذيت كناية عن الفعل ، وكذا كذا كناية عن العدد ، تقول : قال فلان كيت كيت ، وفعل ذيت ذيت ، وأخذ كذا كذا درهما. وحيدى حياد : كلمة يقولها الهارب ، كأنه يسأل الحرب أن تتنحى عنه ، من الحيدان ، وهو الميل والانحراف عن الشىء ، وحياد : مبنى على الكسر كما فى قولهم : فيحى فياح ، أى : اتسعى ، وحمى حمام : للداهية ، أى : أنهم يقولون فى المجلس : سنفعل بالأعداء ما نفعل ، فاذا جاء القتال فروا وتقاعدوا
    (2) أى : من دعاهم وحملهم بالترغيب على نصرته لم تعز دعوته لتخاذلهم ، فان قاساهم وقهرهم انتقضوا عليه فأتعبوه. والأعاليل : إما جمع إعلال جمع علل جمع علة ، أو جمع أعلولة. كما أن الأضاليل جمع أضلولة. والأضاليل متعلقة بالأعاليل ، أى : أنكم تتعللون بالأباطيل التى لا جدوى لها
    (3) أى ، أنكم تدافعون الحرب اللازمة لكم كما يدافع المدين المطول غريمه ، والمطول : الكثير المطل ، وهو تأخير أداء الدين بلا عذر. وقوله «لا يمنع الضيم ـ الخ» أى : أن الذليل الضعيف البأس الذى لا منعة له لا يمنع ضيما ، إنما يمنع الضيم القوى العزيز
    (4) فاز بكم : من «فاز بالخير» إذا ظفر به ، أى : من ظفر بكم وكنتم نصيبه فقد ظفر بالسهم الأخيب ، وهو من سهام الميسر الذى لا حظ له
    (5) الأفوق من السهام : مكسور الفوق ، والفوق ، موضع الوتر من السهم ،

    أصبحت واللّه لا أصدّق قولكم ، ولا أطمع فى نصركم ، ولا أوعد العدوّ بكم ما بالكم! ما دواؤكم! ما طبّكم! القوم رجال أمثالكم! أقولا بغير علم؟ وغفلة من غير ورع؟ وطمعا فى غير حقّ؟!
    30 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى معنى قتل عثمان
    لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه لكنت ناصرا (1) غير أنّ من
    __________________
    والناصل : العارى عن النصل ، أى : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت فى الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له. وهذه الخطبة خطبها أمير المؤمنين عند إغارة الضحاك بن قيس ، فان معاوية لما بلغه فساد الجند على أمير المؤمنين دعا الضحاك بن قيس وقال له : سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت ، فمن وجدت من الأعراب فى طاعة على فأغر عليه ، وإن وجدت له خيلا أو مسلحة فأغر عليها ، وإذا أصبحت فى بلدة فأمس فى أخرى. ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها. وسرحه فى ثلاثة آلاف ، فأقبل الضحاك فنهب الأموال ، وقتل من لقى من الأعراب ، ثم لقى عمر بن عميس بن مسعود الذهلى فقتله ـ وهو ابن أخى عبد اللّه بن مسعود ـ ونهب الحاج ، وقتل منهم وهم على طريقهم عند القطقطانة ، فساء ذلك أمير المؤمنين ، وأخذ يستنهض الناس إلى الدفاع عن ديارهم ، وهم يتخاذلون ، فوبخهم بما تراه فى هذه الخطبة ، ثم دعا بحجر بن عدى فسيره إلى الضحاك فى أربعة آلاف ، فقاتله ، فانهزم فارا إلى الشام يفتخر بأنه قتل ونهب
    (1) يقول : إنه لم يأمر بقتل عثمان ، وإلا كان قاتلا له ، مع أنه برىء من قتله ، ولم ينه عن قتله ـ أى : لم يدافع عنه بسيفه ، ولم يقاتل دونه ـ وإلا كان ناصرا له. أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت ، وهو الذى أمر الحسن والحسين أن يذبا الناس عنه

    نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه ، ومن خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير منّى (1) وأنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع (2) وللّه حكم واقع فى المستأثر والجازع.
    31 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لابن العباس لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل (3)
    لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثّور عاقصا قرنه (4) يركب الصّعب ويقول : هو الذّلول. ولكن الق الزّبير فإنّه ألين عريكة (5) فقل له : يقول لك
    __________________
    (1) أى : أن الذين نصروه ليسوا بأفضل من الذين خذلوه ، لهذا لا يستطيع ناصره أن يقول : إنى خير من الذى خذله ، ولا يستطيع خاذله أن يقول : إن الناصر خير منى ، يريد أن القلوب متفقة على أن ناصريه لم يكونوا فى شىء من الخير الذى يفضلون به على خاذليه
    (2) أى : أنه استبد عليكم فأساء الاستبداد ، وكان عليه أن يخفف منه حتى لا يزعجكم ، وجزعتم لاستبداده فأسأتم الجزع ، أى : لم ترفقوا فى جزعكم ، ولم تقفوا عند الحد الأولى بكم. وكان عليكم أن تقتصروا على الشكوى ولا تذهبوا فى الاساءة إلى حد القتل. وللّه حكمه فى المستأثر وهو عثمان ، وفى الجازع وهو أنتم : فاما آخذه وآخذكم ، أو عفا عنه وعفا عنكم ، والأثرة ـ بفتحات ـ الاسم من قولهم «استأثر بالشىء» إذا استبد به وخص نفسه به.
    (3) «يستفيئه» أى : يسترجعه.
    (4) ويروى «إن تلقه تلفه» الأولى بالقاف والثانية بالفاء من «ألفاه يلفيه» ، وهى بمعنى تجده. و «عاقصا قرنه» من «عقص الشعر» إذا ضفره وفتله ولواه ، وهو تمثيل له فى تغطرسه وكبره وعدم انقياده و «يركب الصعب» يستهين به ويزعم أنه ذلول سهل
    (5) العريكة : الطبيعة ، وعرفه بالحجاز : أطاعه فيه حيث عقد له البيعة. وأنكره

    ابن خالك : عرفتنى بالحجاز وأنكرتنى بالعراق ، فما عدا ممّا بدا (1) قال الشريف : أقول : هو أول من سمعت منه هذه الكلمة ، أعنى «فما عدا مما بدا»
    32 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، إنّا قد أصبحنا فى دهر عنود ، وزمن كنود (2) يعدّ فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظّالم عتوّا ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عمّا جهلنا ، ولا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا (3) فالنّاس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعهم الفساد إلا مهانة نفسه ، وكلالة حدّه ، ونضيض وفره (4) ، ومنهم المصلت لسيفه ، والمعلن بشرّه ، والمجلب بخيله ورجله ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ، لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه (5). ولبئس
    __________________
    بالعراق حيث خرج عليه وجمع لقتاله
    (1) عداه الأمر : صرفه ، وبدا : ظهر ، و «من» هنا بمعنى عن. نقل ابن قتيبة «حدثنى فلان من فلان» أى : عنه ، و «نهيت من كذا» أى : عنه ، أى : ما الذى صرفك عما كان بدا وظهر منك
    (2) العنود : الجائر من «عند يعند» كنصر ، جار عن الطريق وعدل : والكنود : الكفور ، ويروى «وزمن شديد» أى : بخيل كما فى قوله تعالى «وَإِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» أى : إن الانسان ـ لأجل حبه للمال ـ بخيل. والوصف لأهل الزمن والدهر كما هو ظاهر ، وسوء طباع الناس يحملهم على عد المحسن مسيئا.
    (3) القارعة : الخطب يقرع من ينزل به ، أى : يصيبه
    (4) القسم الأول من يقعد به عن طلب الامارة والسلطان حقارة نفسه ، فلا يجد معينا ينصره ، وكلالة حده ، أى : ضعف سلاحه عن القطع فى أعدائه يقال : كل السيف كلالة ، إذا لم يقطع. والمراد إعوازه من السلاح ، أو لضعفه عن استعماله ونضيض وفره : قلة ماله. وكان مقتضى النسق أن يقول : ونضاضة وفره ، لكنه عدل إلى الوصف تفننا ، والنضيض : القليل ، والوفر : المال
    (5) القسم الثانى الذى

    المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند اللّه عوضا ، ومنهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا : قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية (1) ، ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (2) ، وانقطاع سببه ، فقصرته الحال على حاله ، فتحلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس أهل الزّهادة ، وليس من ذلك فى مراح ولا مغدى. وبقى رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع (3) ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم
    __________________
    يطلب الامارة وما هى من حقه ، ويجهر بذلك فهو مصلت لسيفه ـ أى : سال له ـ على أعناق الذين لا يسمعون لسلطان الباطل ، والمعلن : المظهر ، والمجلب بخيله : من «أجلب القوم» أى : جلبوا وتجمعوا من كل أوب للحرب ، والرجل : جمع راجل ، كالركب جمع راكب والصحب جمع صاحب ، وهو قليل ، و «أشرط نفسه» أى : هيأها وأعدها للشر والفساد فى الأرض ، أو للعقوبة وسوء العاقبة و «أوبق دينه» أهلكه. والحطام : المال ، وأصله ما تكسر من اليبس. ينتهزه : يغتنمه أو يختلسه ، والمقنب : طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، وإنما يطلب قود المقنب تعززا على الناس وكبرا ، وفرع المنبر ـ بالفاء ـ أى علاه وفى علو المنبر والخطبة على الناس من الرفعة ما يبعث على الطلب فهذا القسم قد أضاع دينه وأفسد الناس فى طلب هذه الشهوات المذكورة.
    (1) الذريعة : الوسيلة ، وهذا قسم ثالث
    (2) الضؤولة ـ بالضم ـ : الضعف ، وهذا هو القسم الرابع ، وليس من الزهادة فى ذهاب ولا إياب ، أى : لا فعل ولا ترك
    (3) هذا قسم خامس للناس مطلقا ، والأقسام الأربعة للناس المعروفين الواقعين تحت نظر العامة. فقوله فيما سبق : «فالناس أربعة أصناف» إنما يريد به الذين يعرفهم النظر الجلى ناسا ، أما الرجال الذين غضوا

    بين شريد نادّ (1) ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وثكلان موجع. قد أخملتهم التّقيّة (2) وشملتهم الذّلّة ، فهم فى بحر أجاج ، أفواههم ضامزة (3) ، وقلوبهم قرحة ، وقد وعظوا حتّى ملّوا (4) ، وقهروا حتّى ذلّوا ، وقتلوا حتّى قلّوا. فلتكن الدّنيا فى أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم (5) واتّعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة ، فإنّها رفضت من كان أشغف بها منكم (6)
    __________________
    أبصارهم عن مطامع الدنيا خوفا من الآخرة وتذكرا لمعادهم فهؤلاء لا يعرفون عند العامة ، وإنما يتعرف أحوالهم أمثالهم ، فكأنهم فى نظر الناس ليسوا بناس.
    (1) الناد : الهارب من الجماعة إلى الوحدة ، والمقموع : المقهور. والمكعوم : من «كعم البعير» شد فاه لئلا يأكل أو يعض ، وما يشد به كعام ككتاب. والثكلان : الحزين
    (2) أخمله : أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة. والتقية : اتقاء الظلم باخفاء الحال ، والأجاج : الملح : أى : أنهم فى الناس كمن وقع فى البحر الملح لا يجد ما يطفىء ظمأه أو ينقع غلته
    (3) ضامزة : ساكنة ، من «ضمز يضمز» بالزاى المعجمة ـ كنصر وضرب ـ سكت يسكت. والقرحة ـ بفتح فكسر ـ المجروحة
    (4) أى : أنهم أكثروا من وعظ الناس حتى ملهم الناس وسئموا من كلامهم
    (5) الحثالة ـ بالضم ـ : القشارة وما لا خير فيه ، وأصله ما يسقط من قشر الشعير والأرز والتمر وكل ذى قشر إذا نقى. والقرظ ـ محركة ـ ورق السلم أو ثمر السنط يدبغ به ، والجلم ـ بالتحريك ـ مقراض يجز به الصوف ، وقراضته : ما يسقط منه عند القرض والجز. وإنما طالبهم باحتقار الدنيا بعد التقسيم المتقدم لما ثبت من أن الدنيا لم تصف إلا للأشرار. أما المتقون الذين ذكرهم فانهم لم يصيبوا منها إلا العناء ، وكل ما كان من شأنه أن يأوى إلى الأشرار ويجافى الأخيار فهو أجدر بالاحتقار
    (6) أى : من كان أشد تعلقا بها منكم

    قال الشريف : أقول : هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية ، وهى من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الذى لا يشك فيه ، وأين الذهب من الرغام (1) والعذب من الأجاج؟ وقد دل على ذلك الدليل الخرّيت (2) ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة فى كتاب البيان والتبيين ، وذكر من نسبها إلى معاوية ، ثم قال : هى بكلام على عليه السّلام أشبه وبمذهبه فى تصنيف الناس ، وبالإخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ، ومن التقية والخوف ـ أليق (3) قال : ومتى وجدنا معاوية فى حال من الأحوال يسلك فى كلامه مسلك الزهاد ، ومذاهب العباد؟؟!!
    33 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    عند خروجه لقتال أهل البصرة (4)
    قال عبد اللّه بن العباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار (5) وهو يخصف نعله (6) فقال لى : ما قيمة هذه النعل؟ فقلت : لا قيمة لها. فقال عليه السّلام : واللّه لهى أحب إلى من إمرتكم إلا أن أقيم حقا ، أو أدفع باطلا ، ثم خرج فخطب الناس فقال : ـ
    __________________
    (1) الرغام ـ بالفتح ـ : التراب ، وقيل : هو الرمل المختلط بالتراب
    (2) الخريت ـ بوزن سكيت ـ الحاذق فى الدلالة ، وفعله كفرح
    (3) تصنيف الناس : تقسيمهم ، وتبيين أصنافهم
    (4) فى وقعة الجمل.
    (5) بلد بين واسط والكوفة ، وهو قريب من البصرة ، وكانت فيه الحرب بين العرب والفرس ونصرت فيه العرب قبل الاسلام
    (6) يخصف نعله : يخرزها

    إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ، فساق النّاس حتّى بوّأهم محلّتهم ، وبلّغهم منجاتهم (1) فاستقامت قناتهم (2) ، واطمأنّت صفاتهم. أما واللّه إن كنت لفى ساقتها (3) حتّى ولت بحذافيرها : ما ضعفت ولا جبنت وإنّ مسيرى هذا لمثلها (4) فلأنقبنّ الباطل حتّى يخرج الحقّ من جنبه (5) مالى ولقريش! واللّه لقد قاتلتهم كافرين
    __________________
    (1) بوأهم محلتهم ، أى : أنزلهم منزلتهم ، فالناس قبل الاسلام كأنهم كانوا غرباء مشردين والاسلام هو منزلهم الذى يسكنون فيه ويأمنون من المخاوف ، فالنبى صلّى اللّه عليه وسلم ساق الناس حتى أوصلهم إلى منزلهم من الاسلام الذين كانوا قد ضلوا عنه وبلغهم بذلك مكان نجاتهم من المهالك
    (2) القناة : العود ، والرمح ، والكلام تمثيل لاستقامة أحوالهم ، والصفاة : الحجر الصلد الضخم ، وأراد به مواطئ أقدامهم. والكلام تصوير لاستقرارهم على راحة كاملة وخلاصهم مما كان يرجف قلوبهم ويزلزل أقدامهم
    (3) «إن كنت الخ». إن هذه هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والأصل «إنه كنت الخ» والمعنى قد كنت ، والساقة : مؤخر الجيش السائق لمقدمه ، و «ولت بحذافيرها» : بجملتها وأسرها ، ويقال : «أخذه بحذفاره» بكسر الحاء وسكون الذال ـ و «أخذه بحذفوره» ـ بضم فسكون ـ و «أخذه بحذافيره» والضمائر فى «ساقتها» و «ولت بحذافيرها» عائدة إلى الحادثة المفهومة من الحديث وهى ما أنعم اللّه به من بعثة النبى صلّى اللّه عليه وسلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الذلة للعزة. وقال الشارح ابن أبى الحديد : الضمائر للجاهلية المفهومة من الكلام ، وكونه فى ساقتها أنه طارد لها. ويضعفه أن ساقة الجيش منه لا من مقاتليه ، فلو كان فى ساقة الجاهلية لكان من جيشها ، نعوذ باللّه ، ويمكن تصحيح كلام الشارح يجعل الساقة جمع سائق ، أى : كنت فى الذين يسوقونها طردا حتى ولت
    (4) أى : أنه يسير إلى الجهاد فى سبيل الحق
    (5) الباطل يبادو الاوهام

    ولأقاتلنّهم مفتونين ، وإنّى لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم!
    34 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى استنفار الناس إلى أهل الشام
    أفّ لكم ، لقد سئمت عتابكم!! أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذّلّ من العزّ خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت فى غمرة (1) ، ومن الذّهول فى سكرة ، يرتج عليكم حوارى فتعمهون (2). فكأنّ قلوبكم مألوسة (3) فأنتم لا تعقلون ، ما أنتم لى بثقة سجيس اللّيالى (4) وما أنتم بركن يمال بكم ، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم (5)
    __________________
    فيشغلها عن الحق ، ويقوم حجابا مانعا للبصيرة عن الحقيقة ، فكأنه شىء اشتمل على الحق فستره ، وصار الحق فى طيه ، والكلام تمثيل لحال الباطل مع الحق ، وحال الامام فى كشف الباطل وإظهار الحق
    (1) دوران الأعين : اضطرابها من الجزع ، ومن غمره الموت يدور بصره ، فانهم يريدون من غمرة الموت الشدة التى تنتهى إليه ، يشير إلى قوله تعالى : «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ»
    (2) الحوار ـ بالفتح وربما كسر ـ هو مراجعة الكلام. و «يرتج» بمعنى يغلق ، وتقول : رتج الباب ـ كضرب ـ أى : أغلقه ، أى : لا تهتدون لفهمه ، فتعمهون : مضارع عمه ـ كعلم وقطع ـ أى : تتحيرون وتترددون
    (3) المألوسة : المخلوطة بمس الجنون
    (4) سجيس ـ بفتح فكسر ـ كلمة تقال بمعنى أبدا ، وسجيس : أصله من «سجس الماء» بمعنى تغير وكدر ، وكان أصل الاستعمال ما دامت الليالى بظلامها ، أى : ما دام الليل ليلا. ويقال : سجيس الأوجس ـ بفتح الجيم وضمها ـ و «سجيس عجيس» مصغرا ، كل ذلك بمعنى أبدا أى : أنهم ليسوا بثقاة عنده يركن إليهم أبدا
    (5) الزافرة من البناء : ركنه ، ومن الرجل عشيرته. وقوله «يمال بكم» أى : يمال على العدو بعزكم وقوتكم

    ما أنتم إلاّ كإبل ضلّ رعاتها ، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر ، لبئس ـ لعمر اللّه ـ سعر نار الحرب أنتم (1) تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون (2) لا ينام عنكم وأنتم فى غفلة ساهون ، غلب واللّه المتخاذلون ، وايم (3) اللّه إنّى لأظنّ بكم ، أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج الرّأس (4). واللّه إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه (5) ، ويهشم عظمه ، ويفرى جلده ، لعظيم عجزه ، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره (6) أنت فكن ذاك إن شئت (7) فأمّا
    __________________
    (1) السعر : أصله مصدر سعر النار ـ من باب نفع ـ أوقدها ، أى : لبئس ما توقد به الحرب أنتم ، ويقال : إن «سعر» جمع ساعر كشرب جمع شارب وركب جمع راكب
    (2) امتعض : غضب
    (3) غلب ـ مبنى للمجهول ـ والمتخاذلون الذين يخذل بعضهم بعضا ولا يتناصرون.
    (4) حمس ـ كفرح ـ اشتد وصلب فى دينه فهو حمس كفرح وحذر ، والوغى : الحرب ، واستحر : بلغ فى النفوس غاية حدته ، وقوله «انفراج الرأس» أى : انفراجا لا التئام بعده ، فان الرأس إذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام
    (5) يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شىء على العظم ، وفراه يفريه : مزقه يمزقه
    (6) ما ضمت عليه الجوانح : هو القلب وما يتبعه من الأوعية الدموية ، والجوانح : الضلوع تحت الترائب ، والترائب : ما يلى الترقوتين من عظم المصدر ، أو ما بين الثديين والترقوتين ، يريد ضعيف القلب
    (7) يمكن أن يكون خطابا عاما لكل من يمكن عدوه من نفسه. ويروى أنه خطاب للأشعث بن قيس عند ما قال له «هلا فعلت فعل ابن عفان» فأجابه بقوله : إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له ، وإن امرا الخ

    أنا فو اللّه دون أن أعطى ذلك ضرب بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام ، وتطيح السّواعد والأقدام (1) ويفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء. أيّها النّاس ، إنّ لى عليكم حقّا ، ولكم علىّ حقّ : فأمّا حقّكم علىّ فالنّصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، (2) وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلّموا ، وأمّا حقّى عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنّصيحة فى المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطّاعة حين آمركم.
    35 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بعد التحكيم
    الحمد للّه وإن أتى الدّهر بالخطب الفادح (3) والحدث الجليل. وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ليس معه إله غيره ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صلّى اللّه عليه وآله.
    __________________
    (1) أى : لا يمكن عدوه من نفسه حتى يكون دون ذلك ضرب بالمشرفية ، وهى السيوف التى تنسب إلى مشارف ، وهى قرى من أرض العرب تدنو من الريف. ولا يقال فى النسبة إليها مشارفى ، لأن الجمع ينسب إلى واحده ، ويقال : إن المشرفية نسبة إلى موضع فى بلاد اليمن لا إلى مشارف الشام ، وفراش الهام : العظام الرقيقة التى تلى القحف ، و «تطيح السواعد» أى : تسقط وفعله كباع وقال
    (2) الفىء : الخراج وما يحويه بيت المال
    (3) من فدحه الدين ـ كقطع ـ أى : أثقله وعاله وبهظه ، والحدث ـ بالتحريك ـ الحادث

    أمّا بعد ، فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحيرة ، وتعقب النّدامة. وقد كنت أمرتكم فى هذه الحكومة أمرى ونخلت لكم مخزون رأيى (1) لو كان يطاع لقصير أمر (2) فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجناة ، والمنابذين العصاة ، حتّى ارتاب النّاصح بنصحه (3) وضنّ الزّند بقدحه ،
    __________________
    (1) الحكومة : حكومة الحكمين : عمرو بن العاص ، وأبى موسى الأشعرى وذلك بعد ما وقف القتال بين على أمير المؤمنين ومعاوية بن أبى سفيان فى حرب صفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة ، فان جيش معاوية لما رأى أن الدبرة تكون عليه رفعوا المصاحف على الرماح يطلبون رد الحكم إلى كتاب اللّه ، وكانت الحرب أكلت من الفريقين ، فانخدع القراء وجماعة تتبعوهم من جيش على ، وقالوا : دعينا إلى كتاب اللّه ونحن أحق بالاجابة إليه ، فقال لهم أمير المؤمنين : إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها ليرجعوا إلى حكمها ، إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيرونى سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا ، فخالفوا واختلفوا ، فوضعت الحرب أوزارها وتكلم الناس فى الصلح وتحكيم حكمين يحكمان بما فى كتاب اللّه ، فاختار معاوية عمرو ابن العاص ، واختار بعض أصحاب أمير المؤمنين أبا موسى الأشعرى ، فلم يرض أمير المؤمنين واختار عبد اللّه بن عباس فلم يرضوا ، ثم اختار الأشتر النخعى فلم يطيعوا ، فوافقهم على أبى موسى مكرها بعد أن أعذر فى النصيحة لهم فلم يذعنوا ، فقد نخل لهم ، أى أخلص رأيه فى الحكومة أولا وآخرا. ثم انتهى أمر التحكيم بانخداع أبى موسى لعمرو بن العاص وخلعه أمير المؤمنين ومعاوية ثم صعود عمرو بعده وإثباته معاوية وخلعه أمير المؤمنين. وأعقب ذلك ضعف أمير المؤمنين وأصحابه.
    (2) هو مولى جذيمة المعروف بالأبرش ، وكان حاذقا وكان قد أشار على سيده جذيمة أن لا يأمن للزباء ملكة الجزيرة فخالعه وقصدها؟؟؟ إجابة لدعوتها إلى زواجه فقتلته فقال قصير : «لا يطاع لقصير أمر» فذهبت مثلا
    (3) يريد بالناصح نفسه ، أى : أنهم أجمعوا على مخالفته حتى شك فى نصيحته

    فكنت وإيّاكم كما قال أخو هوازن : ـ أمرتكم أمرى بمنعرج اللّوى فلم تستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
    36 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    (فى تخويف أهل النهروان (1)
    فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النّهر ، وبأهضام هذا الغائط (2)
    __________________
    (6 ـ ن ـ ج ـ (1) وظن أن النصح غير نصح ، وأن الصواب ما أجمعوا عليه وتلك سنة البشر : إذا كثر المخالف للصواب اتهم المصيب نفسه. وقوله «ضن الزند بقدحه» أى : أنه لم يعدله بعد ذلك رأى صالح لشدة ما لقى من خلافهم ، وهكذا المشير الناصح إذا اتهم واستغش عشت بصيرته وفسد رأيه. «وأخو هوازن» هو دريد بن الصمة ، ومنعرج اللوى : اسم مكان ، وأصل اللوى من الرمل : الجدد يعد الرملة. ومنعرجه : منعطفه يمنة ويسرة. وفى هذه القصيدة.
    فلما عصونى كنت منهم ، وقد أرى
    غوايتهم ، وأننى غير مهتدى

    وما أنا إلا من غزية إن غوت
    غويت ، وإن ترشد غزية أرشد

    (1) النهروان : اسم لأسفل نهر بين لخافيق ، وطرفاء على مقربة من الكوفة فى طرف صحراء حروراء. ويقال لأعلى ذلك النهر «تامر» ، وكأن الذين خرجوا على أمير المؤمنين وخطأوه فى التحكيم قد نقضوا بيعته ، وجهروا بعداوته ، وصاروا له حربا ، واجتمع معظمهم عند ذلك الموضع ، وهؤلاء يلقبون بالحرورية لما تقدم أن الأرض التى اجتمعوا فيها كانت تسمى حروراء ، وكان رئيس هذه الفئة الضالة حرقوص بن زهير السعدى ، ويلقب بذى الثدية (تصغير ثدية) خرج اليهم أمير المؤمنين يعظهم فى الرجوع عن مقالتهم ، والعودة إلى بيعتهم ، فأجابوا النصيحة برمى السهام وقتال أصحابه كرم اللّه وجهه ، فأمر بقتالهم ، وتقدم القتال بهذا الانذار الذى تراه
    (2) صرعى : جمع صريع ، أى : طريح ، أى : إنى أحذركم من اللجاج فى العصيان فتصبحوا مقتولين مطروحين : بعضكم فى أثناء هذا النهر ، وبعضكم بأهضام هذا الغائط. والأهضام : جمع هضم وهو المطمئن من الوادى. والغائط : ما سفل من

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:10 pm

    على غير بيّنة من ربّكم ، ولا سلطان مبين معكم : قد طوّحت بكم الدّار (1) واحتبلكم المقدار ، وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علىّ إباء المخالفين المنابذين (2) ، حتّى صرفت رأيى إلى هواكم ، وأنتم معاشر أخفّاء الهام (3) ، سفهاء الأحلام ولم آت ـ لا أبا لكم ـ بجرا (4) ، ولا أردت لكم ضرّا.
    __________________
    الأرض والمراد منها المنخفضات
    (1) أى : صرتم فى متاهة ومضلة ، لا يدع الضلال لكم سبيلا إلى مستقر من اليقين ، فأنتم كمن رمت به داره وقذفته. ويقال : «تطاوحت به النوى» أى : ترامت. وقد يكون المعنى أهلكتكم دار الدنيا ، كما اخترناه فى الطبعة الأولى. والمقدار : القدر الالهى ، واحتبلهم : أوقعهم فى حبالته فهم مقيدون للهلاك لا يستطيعون منه خروجا
    (2) نهاهم عن إجابة أهل الشام فى طلب التحكيم بقوله : «إنهم ما رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمها ـ إلى آخر ما تقدم فى الخطبة السابقة». وقد خالفوه بقولهم : دعينا إلى كتاب اللّه فنحن أحق بالاجابة اليه ، بل أغلظوا فى القول حتى قال بعضهم : لئن لم تجبهم إلى كتاب اللّه أسلمناك لهم وتخلينا عنك
    (3) الهام : الرأس وخفتها كناية عن قلة العقل
    (4) البجر ـ بالضم ـ : الشر والأمر العظيم والداهية ، وقال الراجز أرمى عليها وهى شىء بجر أى : داهية ويقال «لقيت منه البجارى» وهى الدواهى ، واحدها بجرى مثل قمرى وقمارى

    37 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    (يجرى مجرى الخطبة (1))
    فقمت بالأمر حين فشلوا ، وتطلّعت حين تقبّعوا (2) ونطقت حين تمنّعوا ومضيت بنور اللّه حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا (3) وأعلاهم فوتا (4) فطرت بعنانها ، واستبددت برهانها (5) كالجبل لا تحرّكه القواصف ، ولا
    __________________
    (1) هذا الكلام ساقه الرضى كأنه قطعة واحدة لغرض واحد ، وليس كذلك ، بل هو قطع غير متجاورة ، كل قطعة منها فى معنى غير ما للأخرى ، وهو أربعة فصول الأول من قوله : فقمت بالأمر إلى قوله : واستبددت برهانها ، والفصل الثانى من قوله : كالجبل لا تحركه القواصف إلى قوله : حتى أخذ الحق منه. والفصل الثالث من قوله : رضينا من اللّه قضاءه ، إلى قوله : فلا أكون أول من كذب عليه. والفصل الرابع ما بقى
    (2) يصف حاله فى خلافة عثمان رضى اللّه عنه ، ومقاماته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أيام الأحداث ، أى : أنه قام بانكار المنكر حين فشل القوم ، أى : حين جبنهم وخورهم ، والتقبع : الاختباء ، والتطلع : ضده ، ويقال : امرأة طلعة قبعة : تطلع ثم تقبع رأسها ، أى : تدخله كما يقبع القنفذ ، أى : يدخل رأسه فى جلده وقبع الرجل : أدخل رأسه فى قميصه. أى : أنه ظهر فى إعزاز الحق والتنبيه على مواقع الصواب حين كان يختبئ القوم من الرهبة ، ويقال : «تقبع فلان فى كلامه» إذا تردد من عى أو حصر ، فقد كان ينطق بالحق ويستقيم به لسانه ، والقوم يترددون ولا يبينون
    (3) كناية عن ثبات الجأش ، فان رفع الصوت عند المخاوف إنما هو من الجزع ، وقد يكون كناية عن التواضع أيضا
    (4) الفوت : السبق
    (5) هذا الضمير وسابقه يعودان إلى الفضيلة المعلومة من الكلام : فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو يمثل حاله مع القوم بحال خيل الحلبة ، والعنان للفرس معروف ، وطار به : سبق به. والرهان : الجعل

    تزيله العواصف : لم يكن لأحد فىّ مهمز (1) ولا لقاتل فىّ مغمز ، الذّليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له ، والقوىّ عندى ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه ، رضينا عن اللّه قضاءه وسلّمنا للّه أمره (2) ، أترانى أكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ واللّه لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. فنظرت فى أمرى فإذا طاعتى قد سبقت بيعتى ، وإذا الميثاق فى عنقى لغيرى (3)
    38 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وإنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ : فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى (4) وأمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضّلال ، ودليلهم العمى ، فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه
    __________________
    الذى وقع التراهن عليه
    (1) الهمز والغمز : الوقيعة ، أى : لم يكن فى عيب أعاب به وهذا هو الفصل الثانى ، يذكر حاله بعد البيعة ، أى أنه قام بالخلافة كالجبل الخ. وقوله الذليل عندى ـ الخ» أى : إننى أنصر الذليل فيعز بنصرى ، حتى إذا أخذ حقه رجع إلى ما كان عليه قبل الانتصار بى. ومثل ذلك يقال فيما بعده.
    (2) قوله «رضينا ـ الخ» كلام قاله عند ما تفرس فى قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به من أنباء الغيب
    (3) قوله «فنظرت الخ» هذه الجملة قطعة من كلام له فى حال نفسه بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. بين فيه أنه مأمور بالرفق فى طلب حقه ، فأطاع الأمر فى بيعة أبى بكر وعمر وعثمان رضى اللّه عنهم ، فبايعهم امتثالا لما أمره النبى به من الرفق ، وإيفاء بما أخذ عليه النبى من الميثاق فى ذلك.
    (4) سمت الهدى : طريقته ، وقوله «فما ينجو من الموت الخ» ليس ملتئما مع ما قبله فهو قطعة من كلام آخر ضمه إلى هذا على نحو ما جمع الفصول المتقدمة

    39 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    منيت بمن لا يطيع إذا أمرت (1) ولا يجيب إذا دعوت ، لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم؟ أما دين يجمعكم ولا حميّة تحمشكم (2) أقوم فيكم مستصرخا ، وأناديكم متغوّثا ، فلا تسمعون لى قولا ، ولا تطيعون لى أمرا ، حتّى تكشّف الأمور عن عواقب المساءة (3) فما يدرك بكم ثار ، ولا يبلغ بكم مرام ، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ ، وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر (4) ، ثمّ خرج إلىّ منكم جنيد متذائب ضعيف (كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (5) قال الشريف : أقول. قوله عليه السّلام : «متذائب» أى : مضطرب ، من قولهم تذاءبت الريح ، اى : اضطرب هبوبها. ومنه يسمى الذئب ذئبا ، لاضطراب مشيته.
    __________________
    (1) منيت : بليت.
    (2) حمشه ـ كنصره ـ جمعه ، وحمش القوم : ساقهم بغضب. أو من أحمسه : بمعنى أغضبه ، أى : تغضبكم على أعدائكم ، والمستصرخ : المستنصر ، و «متغوثا» أى قائلا «وا غوثاه»
    (3) تكشف : مضارع حذف زائده ، والأصل تتكشف ، أى أنكم لا تزالون تخالفوننى وتخذلوننى حتى تنجلى الأمور والأحوال عن العواقب التى تسوءنا ولا تسرنا
    (4) الجرجرة : صوت يردده البعير فى حنجرته ، والأسر : المصاب بداء السرور ، وهو مرض فى الكركرة ينشأ من الدبرة. والنضو : المهزول من الابل والأدبر : المدبور ، أى : المجروح المصاب بالدبرة ـ بالتحريك ـ وهى العقر والجرح من القتب ونحوه
    (5) وهذا الكلام خطب به أمير المؤمنين فى غارة النعمان بن بشير الأنصارى على عين النمر من أعمال أمير المؤمنين ، وعليها إذ ذاك من قبله

    40 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى الخوارج لما سمع قولهم : لا حكم إلا للّه ، قال عليه السّلام
    كلمة حقّ يراد بها الباطل!! نعم إنّه لا حكم إلاّ للّه ، ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلاّ للّه ، وإنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر (1) يعمل فى إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلّغ اللّه فيها الأجل ، ويجمع به الفىء ، ويقاتل به العدوّ ، وتأمن به السّبل ، ويؤخذ به للضّعيف من القوىّ حتّى يستريح برّ ويستراح من فاجر وفى رواية أخرى أنه عليه السّلام لما سمع تحكيمهم قال : حكم اللّه أنتظر فيكم وقال : ـ أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقىّ ، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقىّ ، إلى أن تنقطع مدّته ، وتدركه منيّته.
    __________________
    مالك بن كعب الأرحى.
    (1) برهان على بطلان زعمهم أنه لا إمرة إلاّ للّه بأن البداهة قاضية أن الناس لا بد لهم من أمير بر أو فاجر حتى تستقيم أمورهم ، وولاية الفاجر لا تمنع المؤمن من عمله لاحراز دينه ودنياه ، وفيها يستمتع الكافر حتى يوافيه الأجل ويبلغ اللّه فيها الأمور آجالها المحدودة لها بنظام الخلقة ، وتجرى سائر المصالح المذكورة. ويمكن أن يكون المراد بالمؤمن هو الأمير البار ، وبالكافر الأمير الفاجر ، كما تدل عليه الرواية الأخرى. وقوله «أما الامرة البرة الخ»

    41 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    إنّ الوفاء توءم الصّدق (1) ولا أعلم جنّة أوقى منه. ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا فى زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا (2) ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ، ما لهم؟ قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له فى الدّين (3)
    42 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل (4) ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسى
    __________________
    (1) التوءم : الذى يولد مع الآخر فى حمل واحد ، فالصدق والوفاء قرينان فى المنشأ لا يسبق أحدهما الآخر فى الوجود ولا فى المنزلة : والجنة ـ بالضم ـ الوقاية ومن علم أن مرجعه إلى اللّه ، وهو سريع الحساب ، لا يمكن أن يعدل عن الوفاء إلى الغدر
    (2) الكيس ـ بالفتح ـ العقل ، وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة ، كأنهم أهل السياسة من بنى زماننا ، وأمير المؤمنين يعجب من زعمهم ، ويقول : ما لهم قاتلهم اللّه يزعمون ذلك مع أن الحول القلب ـ بضم الأول وتشديد الثانى من اللفظين ، أى : البصير بتحويل الأمور وتقليبها ـ قد يرى وجه الحيلة فى بلوغ مراده ، لكنه يجد دون الأخذ به مانعا من أمر اللّه ونهيه ، فيدع الحيلة وهو قادر عليها ، خوفا من اللّه ، ووقوفا عند حدوده.
    (3) الحريجة. التحرج ، أى : التحرز من الآثام
    (4) طول الأمل : هو استفساح الأجل ، والتسويف بالعمل ، طلبا للراحة العاجلة ، وتسلية للنفس بامكان

    الآخرة. ألا وإنّ الدّنيا قد ولّت حذّاء (1) فلم يبق منها إلاّ صبابة (2) كصبابة الإناء اصطبّها صابّها ، ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت ولكلّ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدّنيا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأمّه يوم القيامة ، وإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل. قال الشريف : أقول : الحذاء. السريعة ، ومن الناس من يرويه جذاء (3)
    43 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير ابن عبد اللّه البجلى إلى معاوية
    إنّ استعدادى لحرب أهل الشّام وجرير عندهم إغلاق للشّام ، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه. ولكن قد وقّتّ لجرير وقتا لا يقيم بعده إلاّ مخدوعا أو عاصيا. والرّأى عندى مع الأناة فأرودوا ولا أكره لكم الإعداد (4)
    __________________
    التدارك فى الأوقات المقبلة ، وهذا من أقبح الصفات ، أما قوة الأمل فى نجاح الأعمال الصالحة ، ثقة باللّه ويقينا بعونه ، فهى حياة كل فضيلة ، وسائقة لكل مجد ، والمحرومون منها آيسون من رحمة اللّه ، تحسبهم أحياء وهم أموات لا يشعرون.
    (1) الحذاء ـ بالتشديد ـ الماضية السريعة
    (2) الصبابة ـ بالضم ـ البقية من الماء واللبن فى الاناء. و «اصطبها صابها» كقولك : أبقاها مبقيها ، أو تركها تاركها
    (3) جذاء ـ بالجيم ـ أى : مقطوع خيرها ودرها
    (4) يقول أمير المؤمنين إنه أرسل جريرا ليخابر معاوية وأهل الشام فى البيعة له ، والدخول فى طاعته ، ولم ينقطع الأمل منهم ، فاستعداده للحرب ، وجمعه الجيوش ، وسوقها إلى أرضهم ، إغلاق لأبواب السلم على أهل الشام ، وصرف لهم عن الخير إن كانوا يريدونه

    ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه (1) ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أر لى إلاّ القتال أو الكفر ، إنّه قد كان على النّاس وال أحدث أحداثا ، وأوجد للنّاس مقالا ، فقالوا ، ثمّ نقموا فغيّروا (2)
    44 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيبانى إلى معاوية ، وكان قد ابتاع سبى بنى ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السّلام وأعتقه (3) فلما طالبه بالمال خاس
    __________________
    فالرأى الأناة ، أى : التأنى ، ولكنه لا يكره الاعداد ، أى : أن يعد كل شخص لنفسه ما يحتاج إليه فى الحرب من سلاح ونحوه ، ويفرغ نفسه مما يشغله عنها لو قامت حتى إذا دعى إليها لم يبطىء فى الاجابة ، ولم يجد ما يمنعه عن اقتحامها. وقوله «أرودوا» أى : سيروا برفق
    (1) مثل تقوله العرب فى الاستقصاء فى البحث والتأمل والفكر ، وإنما خص الأنف والعين لأنهما أظهر شىء فى صورة الوجه ، وهما مستفلت النظر. والمراد من الكفر فى كلامه الفسق ، لأن ترك القتال تهاون بالنهى عن المنكر ، وهو فسق لا كفر.
    (2) يريد من الوالى الخليفة الذى كان قبله ، وتلك الأحداث معروفة فى التاريخ ، وهى التى أدت بالقوم إلى التألب على قتله ، ويروى : «قال» بالقاف بدل «وال» ، ولا أظنها إلا تحريفا ، وإن كنت أتيت على تفسيرها فى الطبعة الأولى
    (3) كان الخريت بن راشد الناجى ـ أحد بنى ناجية ـ مع أمير المؤمنين فى صفين ، ثم نقض عهده بعد صفين ، ونقم عليه فى التحكيم ، وخرج يفسد الناس ، ويدعوهم للخلاف ، فبعث إليه أمير المؤمنين كتيبة مع معقل ابن قيس الرياحى ، لقتاله هو ومن انضم اليه ، فأدركته الكتيبة بسيف البحر بفارس ، وبعد دعوته إلى التوبة وإبائه قبولها شدت عليه ، فقتل وقتل معه كثير من قومه ، وسبى من أدرك فى رحالهم من الرجال والنساء والصبيان : فكانوا خمسمائة أسير. ولما رجع معقل بالسبى مر على مصقلة بن هبيرة الشيبانى ، وكان عاملا لعلى على أردشير ، خرج فبكى

    به وهرب إلى الشام (1) : ـ
    قبّح اللّه مصقلة فعل فعل السّادات ، وفرّ فرار العبيد ، فما أنطق مادحه حتّى أسكته ، ولا صدّق واصفه حتّى بكّته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره (2) وانتظرنا بماله وفوره (3)
    45 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه غير مقنوط من رحمته ، ولا مخلوّ من نعمته ، ولا مأيوس من مغفرته ، ولا مستنكف من عبادته ، الّذى لا تبرح منه رحمة ، ولا تفقد له نعمة. والدّنيا دار منى لها الفناء (4) ، ولأهلها منها الجلاء ، وهى حلوة خضرة (5) ، وقد عجلت للطّالب (6) والتبست بقلب النّاظر ، فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد (7) ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف (Cool ولا
    __________________
    اليه النساء والصبيان ، وتصايح الرجال يستغيثون فى فكاكهم ، فاشتراهم من معقل بخمسمائة ألف درهم ، ثم امتنع من أداء المبلغ. ولما ثقلت عليه المطالبة بالحق لحق بمعاوية فرارا تحت أستار الليل.
    (1) خاس به : خان
    (2) ميسوره : ما تيسر له
    (3) وفوره : زيادته
    (4) منى لها الفناء ـ ببناء الفعل للمجهول ـ أى : قدر لها ، والجلاء : الخروج من الأوطان
    (5) تمثيل لها بما يألفه الذوق ، ويروق النظر
    (6) عجلت للطالب : أسرعت اليه والتبست بقلب الناظر : اختلطت به محبة وعلقة
    (7) أحسن ما بحضرتكم ، أى : أفضل الأشياء الحاضرة عندكم ، وذلك فاضل الأخلاق ، وصالح الأعمال.
    (Cool الكفاف : ما يكفك ـ أى : يمنعك ـ عن سؤال غيرك ، وهو مقدار القوت

    تطلبوا منها أكثر من البلاغ (1)
    46 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    عند عزمه على المسير إلى الشام (2)
    اللّهمّ إنّى أعوذ بك من وعثاء السّفر (3) ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر فى الأهل والمال. اللّهمّ أنت الصّاحب فى السّفر ، وأنت الخليفة فى الأهل ولا يجمعهما غيرك ، لأنّ المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون مستخلفا.
    47 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذكر الكوفة
    كأنّى بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظىّ (4) تعركين بالنّوازل ،
    __________________
    (1) البلاغ : ما يتبلغ به ، أى : يقتات به.
    (2) وذلك بعد حرب الجمل حيث اختلف عليه معاوية بن أبى سفيان ، ولم يدخل فى بيعته ، وقام للمطالبة بدم عثمان ، واستهوى أهل الشام ، واستنصرهم لرأيه فعززوه على الخلاف ، وسار اليه أمير المؤمنين ، والتقيا بصفين ، واقتتلا مدة غير قصيرة ، وانتهى القتال بتحكيم الحكمين : عمرو بن العاص ، وأبى موسى الأشعرى.
    (3) الوعثاء : المشقة ، والكآبة : الحزن. والمنقلب : مصدر بمعنى الرجوع ، وأول الكلام مروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى الكتب الصحيحة ، وأتمه أمير المؤمنين بقوله : «ولا يجمعهما غيرك ـ الخ». وذات اللّه تستوى عندها الأمكنة كما تستوى الأزمنة : فالحضر والسفر عندها سواء ، وليس هذا الشأن لغير الذات الأقدس.
    (4) العكاظى : نسبة إلى عكاظ كغراب ـ وهو سوق كانت تقيمه العرب فى صحراء بين نخلة والطائف ، يجتمعون اليه من بداية شهر ذى القعدة ليتعاكظوا ـ أى : يتفاخروا ـ كل بما لديه من فضيلة وأدب ، ويستمر إلى عشرين يوما ، وليتبايعوا أيضا ، وأكثر ما كان يباع الأديم بتلك السوق فنسب اليها ، والأديم : الجلد المدبوغ ، وجمعه أدم ـ بفتحتين ، وضمتين ـ ، وآدمة ـ كأرغفة ـ وقوله «تمدين ـ الخ» : تصوير لما ينالها من العسف والخبط ، و «تعركين» : من «عركتهم الحرب» إذا مارستهم ، والنوازل : الشدائد ، والزلازل : المزعجات من الخطوب

    وتركبين بالزّلازل ، وإنّى لأعلم أنّه ما أراد بك جبّار سوءا إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل ، ورماه بقاتل.
    48 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    عند المسير إلى الشام
    الحمد للّه كلّما وقب ليل وغسق (1) ، والحمد للّه كلّما لاح نجم وخفق (2) ، والحمد للّه غير مفقود الانعام ولا مكافئ الإفضال. أمّا بعد ، فقد بعثت مقدّمتى (3) وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتّى يأتيهم أمرى ، وقد أردت أن أقطع هذه النّطفة إلى شرذمة منكم موطنين أكناف
    __________________
    (1) وقب : دخل ، وغسق : اشتدت ظلمته
    (2) خفق النجم : غاب ، ولاح : ظهر
    (3) أراد بمقدمته صدر جيشه ومقدمة الانسان ـ بفتح الدال ـ صدره ، والملطاط : حافة الوادى وشفيره وساحل البحر ، والسمت أى : الطريق ، وقول الشريف «يعنى بالملطاط السمت» تبيين لمراد أمير المؤمنين من لفظ الملطاط فى كلامه ، لا تفسيرا للفظ فى نفسه ، وقوله «وهو شاطىء الفرات» : بيان للسمت ، أى : الطريق ، وقوله : «ويقال ذلك» أى : لفظ الملطاط ، تفسير للفظ الملطاط فى استعمال اللغويين ، فاندفع بهذا ما اورده ابن أبى الحديد على عبارته من أنها خالية من المعنى.

    دجلة (1) فأنهضهم معكم إلى عدوّكم ، وأجعلهم من أمداد القوّة لكم (2) قال الشريف : أقول : يعنى عليه السّلام بالملطاط السمت الذى أمرهم بنزوله وهو شاطى الفرات ، ويقال ذلك لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الأرض. ويعنى بالنطفة ماء الفرات. وهو من غريب العبارات وأعجبها
    49 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    الحمد للّه الّذى بطن خفيّات الأمور (3) ، ودلّت عليه أعلام الظّهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره : (4) سبق فى العلوّ فلا شىء أعلى منه. وقرب فى الدّنوّ فلا شىء أقرب منه (5) فلا استعلاؤه باعده عن شىء من خلقه ، ولا قربه ساواهم فى المكان
    __________________
    (1) الشرذمة : النفر القليلون ، والأكناف : الجوانب و «موطنين الأكناف» أى : جعلوها وطنا ، يقال : أوطنت البقعة
    (2) الأمداد : جمع مدد ، وهو ما يمد به الجيش لتقويته ، وهذه الخطبة نطق بها أمير المؤمنين وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين
    (3) بطن الخفيات : علمها والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو ما يهتدى به ، ثم عم فى كل ما دل على شىء وأعلام الظهور : الأدلة الظاهرة التى بظهورها تظهر غيرها
    (4) كان الأليق بعد قوله «وامتنع على عين البصير» يفسره ما جاء فى رواية أخرى ، وهو «فلا قلب من لم يره ينكره ولا عين من أثبته تبصره» وما جاء فى الكتاب معناه أن من لم يره لا ينكره اعتمادا على عدم رؤيته لظهور الأدلة عليه ، ومن أثبته لا يستطيع اكتناه حقيقته
    (5) علا كل شىء بذاته وكماله وجلاله. وقرب من كل شىء بعلمه وإرادته وإحاطته

    به : لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الّذى تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذى الجحود (1) تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به ، والجاحدون له ـ علوّا كبيرا.
    50 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولّى عليها رجال رجالا (2) على غير دين اللّه ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحقّ خلص من الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين (3) ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث (4) فيخرجان! فهنالك يستولى الشّيطان على أوليائه ، وينجو الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى.
    __________________
    وعنايته ، فلا شىء إلا وهو منه ، فأى شىء يبعد عنه؟
    (1) إن قلب الجاحد إن انكره فما إنكاره إلا افتعال مما عرض عليه من أثر الفواعل الخارجة عن فطرته وظهور أعلام الوجود فى الدلالة عليه لا يقوى على مدافعة تأثيره قلب الجاحد ، فلا مناص له من الاقرار فى الواقع ، وإن ظهر الجحود فى كلامه وبعض أعماله.
    (2) يستعين عليها رجال برجال
    (3) المرتادين : الطالبين للحقيقة ، أى : لو كان الحق خالصا من ممازجة الباطل ومشابهته لكان ظاهرا لا يخفى على من طلبه
    (4) الضغث ـ بالكسر ـ قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس ، يريد أنه إن أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيها له من الباطل يلتبس به ، وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به ، فذلك ضغث الحق ، وهذا ضغث الباطل ومصادر الأهواء التى ينشأ عنها وقوع الفتن إنما هى من الالتباس الواقع بين الحق والباطل

    51 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على شريعة (1)
    الفرات بصفين ومنعوهم الماء
    قد استطعموكم القتال (2) فأقرّوا على مذلّة ، وتأخير محلّة ، أو روّوا السّيوف من الدّماء ترووا من الماء ، فالموت فى حياتكم مقهورين والحياة فى موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمّة من الغواة (3). وعمس عليهم الخبر (4) حتّى جعلوا نحورهم أغراض المنيّة.
    52 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت ، وآذنت بوداع ، وتنكّر معروفها ، وأدبرت حذّاء (5) فهى تحفز بالفناء سكّانها (6) وتحدو بالموت جيرانها ، وقد (7)
    __________________
    (1) الشريعة : مورد الشاربة من النهر
    (2) طلبوا منكم أن تطعموهم القتال كما يقال «فلان يستطعمنى الحديث» أى : يستدعيه منى. وقوله «فأقروا الخ» أى إما تثبتوا على الذل وتأخر المنزلة ، وإما أن ترووا سيوفكم الخ
    (3) اللمة ـ بضم اللام وتشديد الميم ـ الأصحاب فى السفر ، وبتخفيفها : الجملة القليلة مطلقا ، أو من الثلاثة إلى العشرة. والتقليل مستفاد من الأول بطريق الكناية ، ومن الثانى على الحقيقة الصريحة ، وفى الأول الاشارة إلى أنهم ليسوا بأهل حرب
    (4) عمس الكتاب والخبر ـ كنصر ـ أخفاه و «عمست عليه» أى : أريته أنك لا تعرف الأمر وأنت به عارف ، والأغراض : جمع غرض ، وهو الهدف
    (5) حذاء : مسرعة ورحم حذاء : مقطوعة غير موصولة ، وفى رواية «جذاء» ـ بالجيم ـ أى : مقطوعة الدر والخير
    (6) تحفزهم. تدفعهم وتسوقهم ، حفزه يحفزه : دفعه من خلفه أو هو بمعنى تطعنهم من «حفزه بالرمح» إذا طعنه
    (7) تحدر ـ بالراء ، من باب

    أمرّ منها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا (1) فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة (2) أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع (3) فأزمعوا عباد اللّه الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال (4) ولا يغلبنّكم فيها الأمل ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فو اللّه لو حننتم حنين الولّه العجال (5) ودعوتم بهديل الحمام (6) وجأرتم جؤار متبتّل الرّهبان (7) وخرجتم إلى اللّه من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه فى ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيّئة أحصتها كتبه ، وحفظها رسله (Cool ، لكان قليلا فيما أرجو لكم
    __________________
    نصر وضرب ـ أى : تحوطهم بالموت ، وفى رواية ـ وهى الصحيحة ـ «تحدو» بالواو بعد الدال ، أى : تسوقهم بالموت إلى الهلاك ، فكون الفقرة فى معنى سابقتها مؤكدة لها
    (1) أمر الشىء : صار مرا ، وكدر كدرا ـ كفرح فرحا ـ وكدر ـ بالضم كظرف ـ كدورة : تعكر ، وتغير لونه ، واختلط بما لا يستساغ هو معه
    (2) السملة ـ محركة بقية الماء فى الحوض ، والاداوة : المطهرة ، وهى إناء الماء الذى يتطهر به ، والمقلة ـ بالفتح ـ حصاة يضعها المسافرون فى إناء ، ثم يصبون الماء فيه ليغمرها ، فيتناول كل منهم مقدار ما غمره ، لا يزيد أحدهم عن الآخر فى نصيبه : يفعلون ذلك إذا قل الماء ، وأرادوا قسمته بالسوية
    (3) التمزز : الامتصاص قليلا قليلا ، والصديان العطشان ، وقوله «لم ينقع» أى : لم يرو
    (4) فأزمعوا الرحيل : أى اعزموا عليه ، يقال : أزمع الأمر ، ولا يقال أزمع عليه ، وجوزه الفراء بمعنى عزم عليه وأجمع ، والمراد من العزم على الرحيل مراعاته والعمل له
    (5) كل أنثى فقدت ولدها فهى واله ووالهة ، والعجال من الابل : التى فقدت ولدها
    (6) هديل الحمام : صوته فى بكائه لفقد إلفه
    (7) جأرتم : رفعتم أصواتكم ، والجؤار : الصوت المرتفع ، أى : تضرعتم إلى اللّه بأرفع أصواتكم كما يفعل الراهب المتبتل ، والمتبتل : المنقطع للعبادة.
    (Cool المراد من الرسل هنا الملائكة الموكلون

    من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه. واللّه لو انماثت قلوبكم انمياثا (1) ، وسالت عيونكم ، من رغبة إليه أو رهبة منه ، دما ، ثمّ عمّرتم فى الدّنيا ما الدّنيا باقية (2) ما جزت أعمالكم ، ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم ، أنعمه عليكم العظام وهداه إيّاكم للإيمان (3)
    53 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذكر يوم النحر
    ومن كمال الأضحية استشراف أذنها (4) وسلامة عينها. فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمّت ولو كانت عضباء القرن (5) تجرّ رجلها إلى المنسك (6) قال الشريف : والمنسك هنا المذبح
    __________________
    (7 ـ ن ـ ج ـ (1) بحفظ أعمال العباد
    (1) انماثت : ذابت
    (2) «ما الدنيا باقية» أى : مدة بقائها
    (3) قوله «ما جزت» جواب «لو انماثت» وقوله «أنعمه عليكم العظام» مفعول «جزت» أى : ما كافأ ذلك أنعمه الكبار عليكم. وقوله «ولو لم تبقوا شيئا ـ الخ» اعتراض بين الفاعل والمفعول لبيان غاية النفى فى الجواب ، وقوله «وهداه إياكم» عطف على أنعمه : من عطف الخاص على العام ، فان الهداية إلى الايمان من أكبر النعم
    (4) الأضحية : الشاة التى طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الأضحى واستشراف الأذن : تفقدها حتى لا تكون مجدوعة أو مشقوقة. وفى الحديث : «أمرنا أن نستشرف العين والأذن» ، أى : نتفقدها. وذلك من كمال الأضحية ، أى : من كمال عملها وتأدية سنتها. وتكون سلامة عينها عطفا على أذنها. وقد يراد من استشراف الأذن طولها وانتصابها يقال : «أذن شرفاء» أى : منتصبة طويلة ، فسلامة عينها عطف على استشراف. والتفسير الأول أمس بقوله «فاذا سلمت الأذن»
    (5) عضباء القرن : مكسورته
    (6) «تجر رجلها إلى المنسك» أى : عرجاء

    54 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فتداكّوا علىّ تداكّ الإبل الهيم يوم وردها (1) قد أرسلها راعيها ، وخلعت مثانيها (2) حتّى ظننت أنّهم قاتلىّ ، أو بعضهم قاتل بعض لدىّ ، وقد قلّبت هذا الأمر ، بطنه وظهره ، فما وجدتنى يسعنى إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاءنى به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم (3) فكانت معالجة القتال أهون علىّ من معالجة العقاب ، وموتات الدّنيا أهون علىّ من موتات الآخرة
    55 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم فى القتال بصفين
    أمّا قولكم : أكلّ ذلك كراهية الموت؟! فو اللّه ما أبالى أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلىّ (4). وأمّا قولكم شكّا فى أهل الشّام! فو اللّه ما دفعت
    __________________
    والمنسك ، المذبح : وفى صفات الأضحية وعيوبها المخلة بها تفصيل وخلافات تطلب من كتب الفقه
    (1) تداكوا : تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه ، والهيم : العطاش ويوم وردها : يوم شربها
    (2) جمع المثناة ـ بفتح الميم وكسرها ـ حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير.
    (3) قتال البغاة من الواجب على الامام ، فان لم يقاتلهم ـ على قدرة منه ـ كان منابذا لأمر اللّه فى ترك ما أوجبه عليه ، فكأنه جاحد لما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
    (4) روى أن أمير المؤمنين بعد ما ملك الماء على أصحاب معاوية ساهمهم فيه ، رجاء أن يعطفوا إليه ، ولزوما للمعدلة وحسن السيرة ، ومكث أياما لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه منه شىء ، واستبطأ الناس إذنه فى قتال أهل الشام

    الحرب يوما إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بى طائفة فتهتدى بى ، وتعشو إلى ضوئى ، وذلك أحبّ إلىّ من أن أقتلها على ضلالها ، وإن كانت تبوء بآثامها.
    56 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    ولقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا : ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا وتسليما ومضيّا على اللّقم (1) وصبرا على مضض الألم ، وجدّا فى جهاد العدوّ. ولقد كان الرّجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما (2) أيّهما يسقى صاحبه كأس المنون : فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا ، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت (3) وأنزل علينا النّصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه (4) ، ومتبوّئا
    __________________
    واختلفوا فى سبب التريث ، فقال بعضهم : كراهة الموت ، وذهب بعضهم إلى الشك فى جواز قتال أهل الشام ، فأجابهم : أما الموت فلم يكن ليبالى به ، وأما الشك فلا موضع له ، وإنما يرجو بدفع الحرب أن ينحازوا إليه بلا قتال ، فان ذلك أحب إليه من القتال على الضلال ، وإن كان الاثم عليهم ، وتبوء بآثامها : ترجع بها ، وتعشو إلى ضوئه : تستدل عليه ـ وإن كان ببصر ضعيف ـ فى ظلام الفتن فتهتدى إليه. عشا إلى النار وعشاها ـ من باب نصر ـ عشوا ـ بفتح فسكون كقول ـ وعشو ـ بضمتين مثل سمو ـ أى : أبصرها ليلا ببصر ضعيف فقصدها مستضيئا راجيا الهدى أو القرى
    (1) اللقم ـ بالتحريك وبوزن صرد أيضا ـ : معظم الطريق أو جادته ، ويقال : عليك بلقم الطريق فالزمه ، ويقال أيضا : لقم الطريق ـ من باب نصر ـ إذا سد فمه. ومضض الألم : لذعته وبرحاؤه
    (2) يتخالسان : كل منهما يطلب اختلاس روح الآخر ، والتصاول : أن يحمل كل قرن على قرنه
    (3) الكبت : الذل والخذلان ، وفعله من باب ضرب
    (4) جران البعير ـ بالكسر ـ مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره

    أوطانه. ولعمرى لو كنّا نأتى ما أتيتم ما قام للدّين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم اللّه لتحتلبنّها دما (1) ولتتبعنّها ندما
    57 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لأصحابه
    أما إنّه سيظهر عليكم بعدى رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن (2) يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ، ولن تقتلوه (3) ألا وإنّه سيأمركم بسبّى والبراءة منّى : أمّا السّبّ فسبّونى ، فإنّه لى زكاة ، ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّأوا منّى ، فإنّى ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة (4)
    __________________
    وجمعه جرن ـ بوزان كتب ـ وأجرنة ـ بوزان أغربة ـ وإلقاء الجران : كناية عن التمكن
    (1) الاحتلاب : استخراج ما فى الضرع من اللبن ، والضمير المنصوب يعود إلى أعمالهم المفهومة من قوله «ما أتيتم» واحتلاب الدم تمثيل لاجترارهم على أنفسهم سوء العاقبة من أعمالهم ، وسيتبعون تلك الأعمال بالندم عند ما تصيبهم دائرة السوء أو تحل قريبا من دارهم
    (2) مندحق البطن : عظيم البطن بارزه ، كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه ، وأصل «اندحق» بمعنى اندلق ، وفى الرحم خاصة. والدحوق ـ من النوق ـ التى يخرج رحمها عند الولادة ، ورحب البلعوم : واسعه ، يقال : عنى به زيادا ، وبعضهم يقول : عنى المغيرة بن شعبة ، والبعض يقول : معاوية
    (3) أمرهم أولا بقتله ، لأنه يستحق ذلك ، ثم أخبر أنهم ليسوا بقاتليه ، وأنهم سيخالفون هذا الأمر
    (4) قد تسب شخصا وأنت مكره ، ولحبه مستبطن ، فتنجو من شر من أكرهك ، وما أكرهك على سبه إلا مستعظم لأمره يريد أن يحط منه وذلك زكاة للمسبوب. أما البراءة من شخص فهى : الانسلاخ من مذهبه ويقال : برىء من فلان ـ من باب علم ـ براءة ، أى : تخلص منه

    58 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كلم به الخوارج (1)
    أصابكم حاصب (2) ، ولا بقى منكم آبر. أبعد إيمانى باللّه وجهادى مع رسول اللّه أشهد على نفسى بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين! فأوبوا شرّ مآب ، وارجعوا على أثر الأعقاب ، أما إنّكم ستلقون بعدى ذلاّ شاملا وسيفا قاطعا وأثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة (3) قال الشريف : قوله عليه السّلام «ولا بقى منكم آبر» يروى بالباء والراء من قولهم للذى يأبر النخل ـ أى : يصلحه ـ ويروى «آثر» وهو الذى يأثر الحديث ، أى : يرويه ويحكيه ، وهو أصح الوجوه عندى ، كأنه عليه السّلام قال : لا بقى منكم مخبر. ويروى «آبز» ـ بالزاى المعجمة ـ وهو الواثب. والهالك أيضا يقال له آبز
    __________________
    (1) زعم الخوارج خطأ الامام فى التحكيم وغلوا فشرطوا فى العودة إلى طاعته أن يعترف بأنه كان قد كفر ثم آمن ، فخاطبهم بكلام منه هذا الكلام
    (2) الحاصب : ريح شديدة تحمل التراب والحصباء ، وقيل : هو ما تناثر من دقاق الثلج والبرد ، وفى التنزيل «إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ حٰاصِباً» والجملة دعاء عليهم بالهلاك
    (3) «أوبوا شر مآب» انقلبوا شر منقلب بضلالكم فى زعمكم ، وارتدوا على أعقابكم بفساد هواكم ، فلن يضرنى ذلك شيئا وأنا على بصيرة فى أمرى. ثم أنذرهم بما سيلاقون من سوء المنقلب والأثرة والاستبداد فيهم ، والاختصاص بفوائد الملك دونهم ، وحرمانهم من كل حق لهم ، وتقول : استأثر بالشىء على غيره ، إذا استبد به ، وخص به نفسه ، والاسم منه الأثرة ـ بفتحات

    59 ـ وقال عليه السّلام
    لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنهم قد عبروا جسر النهروان
    مصارعهم دون النّطفة ، واللّه لا يفلت منهم عشرة (1) ولا يهلك منكم عشرة قال الشريف : يعنى بالنطفة ماء النهر ، وهو أفصح ، كناية وإن كان كثيرا جما ولما قتل الخوارج قيل له : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم!
    قال عليه السّلام :
    كلاّ واللّه إنّهم نطف فى أصلاب الرّجال وقرارات النّساء (2) كلّما نجم منهم قرن قطع ، حتّى يكون آخرهم لصوصا سلاّبين
    وقال عليه السّلام :
    لا تقتلوا الخوارج بعدى ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه (يعنى معاوية وأصحابه (3)
    __________________
    (1) إنه ما نجا منهم إلا تسعة تفرقوا فى البلاد ، وما قتل من أصحاب أمير المؤمنين إلا ثمانية
    (2) «قرارات النساء» كناية عن الأرحام ، و «كلما نجم منهم قرن» أى : كلما ظهر وطلع منهم رئيس قتل ، حتى ينتهى أمرهم إلى أن يكونوا لصوصا سلابين لا يقومون بملك ، ولا ينتصرون إلى مذهب ، ولا يدعون إلى عقيدة ، شأن الأشرار الصعاليك الجهلة ، ويقال : نجم القرن ـ مثل نصر ـ إذا نبت
    (3) الخوارج من بعده ـ وإن كانوا قد ضلوا بسوء عقيدتهم فيه ، إلا أن ضلتهم لشبهة تمكنت من نفوسهم : فاعتقدوا الخروج عن طاعة الامام مما يوجبه الدين عليهم ، فقد طلبوا حقا وأرادوا تقريره شرعا فأخطأوا الصواب فيه ـ لكنهم بعد أمير المؤمنين يخرجون بزعمهم هذا على من غلب على الامرة بغير حق ، وهم الملوك الذين طلبوا الخلافة باطلا فأدركوها وليسوا من أهلها ، فالخوارج على ما بهم أحسن حالا منهم

    60 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما خوف من الغيلة (1)
    وإنّ علىّ من اللّه جنّة حصينة (2) فإذا جاء يومى انفرجت عنّى وأسلمتنى ، فحينئذ لا يطيش السّهم ، ولا يبرأ الكلم (3)
    61 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ألا وإنّ الدّنيا دار لا يسلم منها إلاّ فيها (4) ولا ينجى بشىء كان لها (5) : ابتلى النّاس فيها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه (6)
    __________________
    (1) الغيلة : القتل على غرة بغير شعور من المقتول كيف يأتيه القاتل
    (2) الجنة ـ بالضم ـ الوقاية ، والملجأ ، والحصن
    (3) طاش السهم عن الهدف ـ من باب باع ـ أى : جاوره ولم يصبه. الكلم بالفتح ـ الجرح وجمعه كلوم وكلام ، مثل جرح وجروح وجراح
    (4) أى : من أراد السلامة من محنتها فليهيىء وسائل النجاة وهو فيها ، إذ بعد الموت لا يمكر التدارك ، ولا ينفع الندم : فوسائل النجاة إما عمل صالح ، أو إقلاع عن خطيئة بتوبة تصوح ، وكلاهما لا يكون إلا فى دار التكاليف وهى دار الدنيا
    (5) أى : لا نجاة بعمل يعمل للدنيا ، إذ كل عمل يقصد به لذة دنيوية فانية فهو هلكة لا نجاة معه
    (6) «ما أخذوه منها لها» كالمال يدخر للذة ، ويقتنى لقضاء الشهوة ، و «ما أخذوه لغيرها» كالمال ينفق فى سبيل الخيرات ، يقدم صاحبه فى الآخرة على ثوابه بالنعيم المقيم

    وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه ، فإنّها عند ذوى العقول كفىء الظّلّ (1) : بينا تراه سابغا حتّى قلص (2) ، وزائدا حتّى نقص.
    62 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    واتّقوا اللّه عباد اللّه ، وبادروا آجالكم بأعمالكم (3) ، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم (4) وترحّلوا فقد جدّ بكم (5) ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم (6) وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا (7) وعلموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا
    __________________
    (1) إضافة «الفىء» إلى «الظل» إضافة الخاص للعام ، لأن الفىء لا يكون إلا بعد الزوال ، أما الظل فعام فى كل وقت ، وقيل : الظل بالغداة ، والفىء بالعشى ، وقيل : كل موضع تكون فيه الشمس ثم تزول عنه فهو ظل.
    (2) سابغا : ممتدا ساترا للأرض ، وقلص : انقبض ، وحتى هنا لمجرد الغاية بلا تدريج ، أى : إن غاية سبوغه الانقباض ، وغاية زيادته النقص
    (3) «بادروا الآجال بالأعمال» أى : سابقوها وعاجلوها بها ، أى : استكملوا اعمالكم قبل حلول آجالكم
    (4) ابتاعوا : اشتروا ما يبقى من النعيم الأبدى ، بما يفنى من لذة الحياة الدنيا وشهواتها المنقضية
    (5) «الترحل» الانتقال ، والمراد منه هنا لازمه ، وهو : إعداد الزاد الذى لا بد منه للراحل والزاد فى الانتقال عن الدنيا ليس إلا زاد التقوى وقوله «فقد جد بكم» أى : فقد حثثتم وأزعجتم إلى الرحيل ، أو فقد أسرع بكم مسترحلكم وأنتم لا تشعرون
    (6) الاستعداد للموت : إعداد العدة له ، أو طلب العدة للقائه ، ولا عدة له إلا الأعمال الصالحة. وقوله «فقد أظلكم» أى : قرب منكم حتى كأن له ظلا قد ألقاه عليكم
    (7) أى : كونوا قوما حذرين إذا استامتهم الغفلة وقتا ما ، ثم صاح بهم صائح الموعظة ، انتبهوا من نومهم ، وهبوا لمطلب نجاتهم وقوله «وعلموا ـ الخ» أى : عرفوا الدنيا ، وأنها ليست بدار بقاء وقرار ، فاستبدلوها

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:12 pm



    فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى (1) ، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به (2) وإنّ غاية تنقصها اللّحظة وتهدمها السّاعة لجديرة بقصر المدّة (3) وإنّ غائبا يحدوه الجديدان اللّيل والنّهار لحرىّ بسرعة الأوبة (4) وإنّ قادما يقدم بالفوز والشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة ،
    __________________
    بدار الآخرة ، وهى الدار التى ينتقل إليها
    (1) تعالى اللّه أن يفعل شيئا عبثا وقد خلق الانسان ، وآتاه قوة العقل التى تصغر عندها كل لذة دنيوية ، ولا تقف رغائبها عند حد منها مهما علت رتبته ، فكأنها مفطورة على استصغار كل ما تلاقيه فى هذه الحياة وطلب غاية أعلى مما يمكن أن ينال فيها ، فهذا الباعث الفطرى لم يوجده اللّه تعالى عبثا ، بل هو الدليل الوجدانى المرشد إلى ما وراء هذه الحياة ، و «سدى» أى : مهملين بلا راع يزجركم عما يضركم ويسوقكم إلى ما ينفعكم وأصل السدى ـ بضم السين ، وتفتح ـ الابل المهملة بلا راع ، ويقال بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، ورعاتنا الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام وخلفاؤهم
    (2) «أن ينزل به» فى محل رفع بدل من الموت ، أى : ليس بين الواحد منا وبين الجنة إلا نزول الموت به إن كان قد أعد للجنة عدتها ، ولا بينه وبين النار إلا نزول الموت به إن كان قد عمل بعمل أهلها ، فما بعد هذه الحياة إلا الحياة الأخرى ، وهى إما شقاء وإما نعيم
    (3) تلك الغاية هى الأجل. و «تنقصها» أى : تنقص أمد الانتهاء إليها ، وكل لحظة تمر فهى نقص فى الأمد بيننا وبين الأجل ، والساعة تهدم ركنا من ذلك الأمد ، وما كان كذلك فهو جدير بقصر المدة.
    (4) ذلك الغائب هو الموت. ويحدوه : يسوقه ، والجديدان : الليل والنهار ، لأن الأجل المقسوم لك إن كان بعد ألف سنة فالليل والنهار بكرورهما عليك يسوقان إليك ذلك المنتظر على رأس الألف ، وما أسرع مرهما ، والانتهاء إلى الغاية ، وما أسرع أوبة ذلك الغائب الذى يسوقانه إليك ـ أى : رجوعه ـ والموت هو ذلك القادم إما بفوز وإما بشقوة ، وعدته الأعمال الصالحة ، والملكات الفاضلة

    فتزوّدوا فى الدّنيا ، من الدّنيا ، ما تحرزون به أنفسكم غدا (1) فاتّقى عبد ربّه نصح نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته (2) فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشّيطان موكّل به : يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التّوبة ليسوّفها (3) حتّى تهجم منيّته عليه أغفل ما يكون عنها (4) فيا لها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجّة (5) ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى شقوة ، نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة ، (6) ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة.
    63 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الّذى لم يسبق له حال حالا (7) فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ،
    __________________
    (1) «ما تحرزون به أنفسكم» أى : تحفظونها به ، وذلك هو تقوى اللّه فى السر والنجوى ، وطاعة الشرع ، وعصيان الهوى
    (2) قوله «فاتقى عبد ربه» وما بعده : أوامر بصيغة الماضى ، ويجوز أن يكون بيانا للتزود المأمور به فى قوله «فتزودوا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم» أو بيانا لما يحرزون به أنفسهم
    (3) «يسوفها» أى : يؤجلها ، ويؤخرها.
    (4) قوله «أغفل ما يكون» حال من الضمير فى «عليه». والمنية : الموت ، أى : لا يزال الشيطان يزين له المعصية ويمنيه بالتوبة أن تكون فى مستقبل العمر ليسوفها حتى يفاجئه الموت وهو فى أشد الغفلة عنه
    (5) يكون عمره حجة عليه لأنه أوتى فيه المهلة ، ومكن فيه من العمل ، فلم ينشط له
    (6) لا تبطره النعمة : لا تطغيه ، ولا تسدل على بصيرته حجاب الغفلة عما هو صائر إليه
    (7) ما للّه من وصف فهو كذاته يجب بوجوبها ، فكما أن ذاته ـ سبحانه ـ لا يدنو منها التغير والتبدل ، فكذلك أوصافه هى ثابتة له معا : لا يسبق منها وصف وصفا ، وإن كان مفهومها قد يشعر بالتعاقب ـ إذا أضيفت إلى غيره ـ فهو أول وآخر أزلا وأبدا ، أى : هو السابق بوجوده لكل موجود ، وهو بذلك السبق باق لا يزول. وكل وجود سواه ، فعلى أصل الزوال مبناه ، ثم هو ، فى ظهوره بأدلة وجوده ، باطن بكنهه : لا تدركه العقول ، ولا تحوم عليه الأوهام

    ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل (1) ، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قوىّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها (2) وكلّ بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ،
    __________________
    (1) الواحد : أقل العدد ، ومن كان واحدا منفردا عن الشريك محروما من المعين كان محتقرا لضعفه ، ساقطا لقلة أنصاره ، أما الوحدة ـ فى جانب اللّه ـ فهى علو الذات عن التركيب المشعر بلزوم الانحلال ، وتفردها بالعظمة والسلطان ، وفناء كل ذات سواها إذا اعتبرت منقطعة النسبة إليها ، فوصف غير اللّه بالوحدة تقليل ، والكمال فى عالمه أن يكون كثيرا ، إلا اللّه : فوصفه بالوحدة تقديس وتنزيه. وبقية الأوصاف ظاهرة.
    (2) السامعون من الحيوان والانسان : لقوى سمعهم حد محدود ، فما خفى من الأصوات لا يصل إليها ، فهى صماء عنه ، فيصم ـ بفتح الصاد ـ مضارع «صم» ـ من باب علم ـ إذ أصيب بالصمم ، وفقد السمع ، وما عظم من الأصوات حتى فات المألوف الذى يستطاع احتماله يحدث فيها الصمم بصدعه لها ، فيصم ـ بكسر الصاد ، وصم حرف المضارعة ـ مضارع «أصم» وما بعد من الأصوات عن السامع ـ بحيث لا يصل موج الهواء المتكيف بالصوت إليه ـ ذهب عن تلك القوى فلا تناله. كل ذلك فى غيره سبحانه. أما هو ـ جل شأنه ـ فيستوى عنده الخفى والشديد ، والقريب والبعيد : لأن نسبة الأشياء إليه واحدة. ومثل ذلك يقال فى البصر والبصراء

    وكلّ باطن غيره غير ظاهر (1) ، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ، ولا تخوّف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ندّ مثاور (2) ، ولا شريك مكابر ، ولا ضدّ منافر ، ولكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون (3) ، لم يحلل فى الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن (4) لم يؤده خلق ما ابتدأ (5) ولا تدبير ما ذرأ (6) ، ولا وقف به عجز عمّا خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر (7) ، بل قضاء متقن ، وعلم محكم ، وأمر مبرم (Cool : المأمول مع
    __________________
    (1) الباطن هنا غيره فيما سبق ، أى : كل ما هو ظاهر بوجوده الموهوب من اللّه سبحانه فهو باطن بذاته ، أى : لا وجود له فى نفسه ، فهو معدوم بحقيقته ، وكل باطن سواه فهو بهذا المعنى ، فلا يمكن أن يكون ظاهرا بذاته ، بل هو باطن أبدا
    (2) الند ـ بكسر النون ـ النظير ، والمثل ، ولا يكون إلا مخالفا ، وجمعه أنداد ، مثل حمل وأحمال ، ويقال : فلان ند فلان ، أى : نظيره ويقال : فلانة ند فلانة ، ولا يقال : فلانة ند فلان. والمثاور : المواثب والمحارب. والشريك المكاثر : أى المفاخر بالكثرة ، هذا إذا قرئ بالثاء المثلثة. ويروى المكابر ـ بالباء الموحدة ـ أى : المفاخر بالكبر والعظمة ، و «الضد المنافر» أى المحاكى فى الرفعة والحسب ، يقال : نافرته فى الحسب فنفرته ، أى : غلبته وأثبت رفعتى عليه
    (3) مربوبون : أى مملوكون ، وداخرون : أذلاء ، من قولهم «دخر» ـ من باب قطع وعلم ـ دخرا ـ بالتحريك ـ ودخورا ، أى ذل وصغر ، وفى التنزيل «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ» أى : مقهورين أذلاء
    (4) «لم ينأ عنها» أى : لم ينفصل انفصال الجسم حتى يقال هو بائن ، أى : منفصل
    (5) «يؤده» أى : لم يثقله ، تقول : آده الأمر يؤوده ، أودا ـ مثل قال يقول قولا ـ أى : أثقله ، وأتعبه ، وبلغ منه الجهد ، وفى التنزيل «وَلاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا»
    (6) ذرأ ـ كقطع ـ أى : خلق
    (7) ولجت عليه : دخلت
    (Cool أى محتوم ، وأصله من «أبرم الحبل» جعله طاقين ، ثم فتله. وبهذا أحكمه

    النّقم ، والمرجوّ من النّعم.
    64 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كان يقوله لأصحابه فى بعض أيام صفين
    معاشر المسلمين ، استشعروا الخشية (1) وتجلببوا السّكينة ، وعضّوا على النّواجذ (2) فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام ، وأكملوا اللّأمة (3) وقلقلوا السّيوف فى أغمادها قبل سلّها (4) ، والحظوا الخزر (5) واطعنوا الشّزر (6) ونافحوا
    __________________
    (1) استشعر : لبس الشعار ، وهو ما يلى البدن من الثياب. وتجلبب : لبس الجلباب ، وهو ما تغطى به المرأة ثيابها من فوق ، ولكون الخشية ـ أى : الخوف من اللّه ـ غاشية قلبية عبر فى جانبها بالاستشعار ، وعبر بالتجلبب فى جانب السكينة لأنها عارضة تظهر فى البدن ، كما لا يخفى
    (2) النواجذ. جمع ناجذ ، وهو : أقصى الأضراس. ولكل إنسان أربعة نواجذ ، وهى بعد الأرحاء. ويسمى الناجذ ضرس العقل ، لأنه ينبت بعد البلوغ. وإذا عضضت على ناجذك تصلبت أعصابك وعضلاتك المتصلة بدماغك فكانت هامتك أصلب وأقوى على مقاومة السيف ، فكان أنبى عنها ، وأبعد عن التأثير فيها ، والهام : جمع هامة ، وهى الرأس.
    (3) اللأمة : الدرع. وإكمالها أن يزاد عليها البيضة ونحوها. وقد يراد من اللأمة آلات الحرب الدفاع ، وإكمالها على هذا : استيفاؤها
    (4) مخافة أن تستعصى عن الخروج عند السل
    (5) الخزر ـ محركة ـ النظر ، كأنه من أحد الشقين ، وهو علامة الغضب ، وفعله من باب تعب
    (6) اطعنوا ـ بضم العين ـ فاذا كان فى النسب مثلا كان المضارع مفتوحها ، وقد يفتح فيهما. والشزر ـ بالفتح ـ الطعن فى الجوانب يمينا وشمالا

    بالظّبا (1) ، وصلوا السّيوف بالخطا (2). واعلموا أنّكم بعين اللّه (3) ، ومع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فعاودوا الكرّ واستحيوا من الفرّ (4) فإنّه عار فى الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، وطيبوا عن أنفسكم نفسا وامشوا إلى الموت مشيا سجحا (5) ، وعليكم بهذا السّواد الأعظم ، والرّواق المطنّب (6) فاضربوا ثبجه (7) فإنّ الشّيطان كامن فى كسره (Cool ، قد قدّم للوثبة يدا ، وأخّر للنّكوص رجلا ، فصمدا صمدا (9) حتّى ينجلى لكم عمود الحقّ
    __________________
    (1) نافحوا : كافحوا وضاربوا ، والظبا ـ بالضم ـ جمع ظبة ، وهى طرف السيف وحده
    (2) «صلوا» من الوصل ، أى : اجعلوا سيوفكم متصلة بخطا أعدائكم جمع خطوة ، أو إذا قصرت سيوفكم عن الوصول إلى أعدائكم نصلوها بخطاكم
    (3) «بعين اللّه» أى : ملحوظون بها.
    (4) الفر : الفرار ، وهو عار فى الأعقاب ، أى : فى الأولاد ، لأنهم يعيرون بفرار آبائهم. وقوله «وطيبوا عن أنفسكم نفسا» أى : ارضوا ببذلها فانكم تبذلونها اليوم لتحرزوها غدا.
    (5) السجح ـ بضمتين ـ السهل اللين ، ومثله السجيح ، وهما من قولهم «سجح خد فلان» ـ من باب فرح ـ سجحا وسجاحة ، إذا سهل ولان وطال فى اعتدال
    (6) الرواق ـ ككتاب وغراب ـ الفسطاط ، والمطنب : المشدود بالأطناب ، جمع طنب ـ بضمتين ـ وهو حبل يشد به سرادق البيت. وأراد بالسواد الأعظم جمهور أهل الشام ، والرواق : رواق معاوية
    (7) الثبج ـ بالتحريك ـ الوسط
    (Cool كسره ـ بالكسر ـ شقه الأسفل ، كناية عن الجوانب التى يفر إليها المنهزمون ، والشيطان الكامن فى الكسر : مصدر الأوامر بالهجوم والرجوع ، فان جبنتم مديده للوثبة ، وإن شجعتم أخر للنكوص والهزيمة رجله
    (9) الصمد : القصد ، وتقول : صمده ، وصمد له ، وصمد إليه ، وبابه ضرب ونصر ، أى : فاثبتوا على قصدكم

    «وَأَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَاَللّٰهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ»
    65 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى معنى الأنصار ، قالوا : لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباء السقيفة (2) بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال عليه السّلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير ، قال عليه السّلام : فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم؟! قالوا : وما فى هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السّلام : لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم!! ثم قال عليه السّلام : فما ذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عليه السّلام : احتجّوا بالشّجرة ، وأضاعوا الثّمرة (3)
    __________________
    (1) لن ينقصكم شيئا من جزائها
    (2) سقيفة بنى ساعدة : اجتمع فيها الصحابة بعد وفاة النبى صلّى اللّه عليه وسلم لاختيار خليفة له
    (3) يريد من الثمرة آل بيت الرسول صلّى اللّه عليه وسلم

    66 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما قلد محمد بن أبى بكر مصر فملكت عليه فقتل
    وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة (1) ، ولا أنهزهم الفرصة ، بلا ذمّ لمحمّد بن أبى بكر (2) فلقد كان إلىّ حبيبا ، وكان لى ربيبا (3).
    67 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة (4) ، والثّياب المتداعية! (5) كلّما حيصت (6) من جانب تهتّكت من آخر؟ أكلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ رجل منكم بابه ، وانجحر انجحار الضّبّة فى جحرها ، والضّبع فى وجارها؟! (7) ، الذّليل واللّه من نصرتموه! ومن رمى بكم
    __________________
    (1) العرصة : كل بقعة واسعة بين الدور. والمراد ما جعل لهم مجالا للمغالبة. وأراد بالعرصة عرصة مصر ، وكان محمد قد فر من عدوه ظنا منه أنه ينجو بنفسه ، فأدركوه وقتلوه
    (2) «بلا ذم لمحمد ـ الخ» : لما يتوهم من مدح عتبة
    (3) قالوا : إن أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبى طالب ، فلما قتل تزوجها أبو بكر فولدت منه محمدا ، ثم تزوجها على بعده ، وتربى محمد فى حجره ، وكان جاريا مجرى أولاده ، حتى قال على كرم اللّه وجهه : محمد ابنى من صلب أبى بكر
    (4) البكار ـ ككتاب ـ جمع بكر : الفتى من الابل. والعمدة ـ بفتح فكسر ـ التى انفضخ داخل سنامها من الركوب ، وظاهره سليم
    (5) المتداعية : الخلقة المتخرقة ، ومداراتها : استعمالها بالرفق التام
    (6) حيصت : خيطت ، وتهتكت : تخرقت
    (7) المنسر ـ كمجلس ومنبر ـ (8 ـ ن ـ ج ـ (1) القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكثير ، وأطل : أشرف ، وانجحر : دخل الجحر والوجار ـ بالكسر ـ جحر الضبع وغيرها

    فقد رمى بأفوق ناصل (1). وإنّكم ، واللّه ، لكثير فى الباحات (2) قليل تحت الرّايات ، وإنّى لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم (3) ولكنّى لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسى! أضرع اللّه خدودكم (4) ، وأتعس جدودكم (5) ، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل ، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ
    68 ـ وقال عليه السّلام
    فى سحرة اليوم الذى ضرب فيه (6)
    ملكتنى عينى وأنا جالس (7) فسنح لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت : يا رسول اللّه ، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود واللّدد؟ فقال : «ادع عليهم» فقلت : أبدلنى اللّه بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بى شرّا لهم منّى قال الشريف : يعنى بالأود الاعوجاج ، وباللدد الخصام. وهذا من أفصح الكلام
    __________________
    (1) الأفوق من السهام : ما كسر فوقه ، أى : موضع الوتر منه. والناصل : العارى من النصل ، والسهم إذا كان مكسور الفوق عاريا عن النصل لم يؤثر فى الرمية ، فهم فى ضعف أثرهم وعجزهم عن النكاية بعدوهم أشبه به
    (2) الباحات : الساحات
    (3) أودكم ـ بالتحريك ـ اعوجاجكم
    (4) أى : أذل اللّه وجوهكم
    (5) وأتعس جدودكم ، أى : حط من حظوظكم والتعس : الانحطاط والهلاك والعثار
    (6) السحرة ـ بالضم ـ السحر الأعلى من آخر الليل
    (7) ملكتنى عينى : غلبنى النوم وسنح لى رسول اللّه : مر بى كما تسنح الظباء والطير

    69 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى ذم أهل العراق
    أمّا بعد يا أهل العراق فإنّما أنتم كالمرأة الحامل! حملت فلمّا أتمّت أملصت (1) ومات قيّمها ، وطال تأيّمها ، وورثها أبعدها (2) أما واللّه ما أتيتكم اختيارا ، ولكن جئت إليكم سوقا (3) ولكنّى بلغنى أنّكم تقولون : علىّ يكذب! قاتلكم اللّه ، فعلى من الكذب؟ أعلى اللّه؟ فأنا أوّل من آمن به! أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدّقه (4). كلاّ واللّه ، ولكنّها لهجة غبتم عنها (5)
    __________________
    (1) أملصت : ألقت ولدها ميتا
    (2) قيمها : زوجها ، وتأيمها : خلوها من الأزواج ، يريد انهم لما شارفوا استئصال أهل الشام وبدت لهم علامات الظفر بهم جنحوا إلى السلم إجابة لطلاب التحكيم ، فكان مثلهم مثل المرأة الحامل ، لما أتمت أشهر حملها ، ألقت ولدها بغير الدافع الطبيعى ، بل بالحادث العارضى كالضربة والسقطة ، وقلما تلقيه كذلك إلا هالكا ، ولم يكتف فى تمثيل خيفتهم فى ذلك حتى قال : ومات مع هذه الحالة زوجها ، وطال ذلها بفقدها من يقوم عليها ، حتى إذا هلكت عن غير ولد ورثها الأباعد السافلون فى درجة القرابة ممن لا يلتفت إلى نسبه
    (3) يقسم أنه لم يأت العراق مستنصرا بأهله اختيارا لتفضيله إياهم على من سواهم ، وإنما سيق إليهم بسائق الضرورة ، فانه لو لا وقعة الجمل لم يفارق المدينة المنورة ، ويروى هذا الكلام بعبارة أخرى وهى «ما أتيتكم اختيارا ولا جئت إليكم شوقا» بالشين المعجمة
    (4) كان كرم اللّه وجهه كثيرا ما يخبرهم بما لا يعرفون ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، فيقول المنافقون من أصحابه : إنه يكذب! كما كان المنافقون يقولون مثل ذلك للنبى صلّى اللّه عليه وسلم ، فهو يرد عليهم قولهم بأنه أول من آمن باللّه وصدق برسوله فكيف يجترئ على الكذب على اللّه أو على رسوله مع قوة إيمانه وكمال يقينه؟ ولا يجتمع كذب وإيمان صحيح!
    (5) «لهجة غبتم عنها» أى : ضرب من الكلام أنتم فى غيبة عنه ، أى : بعد عن معناه ، ونبو طبع عما حواه ، فلا تفهمونه ، ولهذا تكذبونه

    ولم تكونوا من أهلها. ويلمّه؟ كيلا بغير ثمن (1)! لو كان له وعاء (ولتعلمنّ نبأه بعد حين)
    70 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    علم فيها الناس الصلاة على النبى صلّى اللّه عليه وآله
    اللّهمّ داحى المدحوّات (2) ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب على
    __________________
    (1) ويلمه : كلمة استعظام تقال فى مقام المدح وإن كان أصل وضعها لضده ، ومثل ذلك معروف فى لسانهم يقولون للرجل يعظمونه ويقرظونه «لا أبا لك» وفى الحديث «فاظفر بذات الدين تربت يداك» وفى كلام الحسن يحدث عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه ويعظم أمره : وما لك والتحكيم ، والحق فى يديك ، ولا أبا لك؟ وأصل الكلمة. ويل أمه. وقوله «كيلا» مصدر يقع مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أى : أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلا بلا ثمن ، لو أجد وعاء أكيل فيه ، أى : لو أجد نفوسا قابلة ، وعقولا عاقلة
    (2) «داحى المدحوات» أى : باسط المبسوطات ، وأراد منها الأرضين ، وبسطها أن تكون كل قطعة منها صالحة لأن تكون مستقرا ومجالا للبشر وسائر الحيوان ، تتصرف عليها هذه المخلوقات فى الأعمال التى وجهت إليها ، بهادى الغريزة كما هو المشهود لنظر الناظر ، وإن كانت الأرض فى جملتها كروية الشكل. و «داعم المسموكات» : مقيمها وحافظها ، تقول : دعمه ـ كمنعه ـ : أقامه وحفظه. والمسموكات : المرفوعات ، وهى السموات ، وتقول : سمكت الشىء سمكا ـ كنصرته نصرا ـ فسمك هو سموكا ـ كخرج خروجا ـ يتعدى ويلزم ، ومعناه رفعته وقد يراد من هذا الوصف المجعول لها سمكا يفوق كل سمك ، والسمك : الثخن المعروف فى اصطلاح أهل الكلام بالعمق ، ودعمه للسموات إقامته لها ، وحفظها من الهوى بقوة معنوية ، وإن لم يكن ذلك بدعامة حسية. قال صاحب القاموس : المسموكات لحن ، والصواب مسمكات ، ولعل هذا فى إطلاق اللفظ اسما للسموات ، أما لو أطلق صفة كما فى كلام الامام فهو صحيح فصيح ، بل لا يصح غيره ، فان الفعل سمك لا أسمك

    فطرتها (1) شقيّها وسعيدها : اجعل شرائف صلواتك ونوامى بركاتك على محمّد عبدك ورسولك (2) : الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّافع جيشات الأباطيل ، والدّامغ صولات الأضاليل ، كما حمّل فاضطلع (3) قائما بأمرك ، مستوفزا فى مرضاتك ، غير ناكل عن قدم ، ولا واه فى عزم (4) واعيا لوحيك ، حافظا على عهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك
    __________________
    (1) «جابل القلوب» : خالقها ، وطابعها عليه ، وتقول : جبلنا اللّه ـ من بابى نصر وضرب ـ والفطرة ـ بكسر فسكون ـ : أول حالات المخلوق التى يكون عليها فى بدء وجوده ، وهى للانسان : حالته خاليا من الآراء والأهواء والديانات والعقائد وقوله «شقيها وسعيدها» بدل من القلوب ، أى : جابل الشقى والسعيد من القلوب على فطرته الأولى التى هو بها كاسب محض : فحسن اختياره يهديه إلى السعادة ، وسوء تصرفه يضلله فى طرق الشقاوة
    (2) الشرائف : جمع شريفة ، والنوامى : الزوائد ، والخاتم لما سبق : أى لما تقدمه من النبوات ، والفاتح لما انغلق : كانت أبواب القلوب قد أغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية فافتتحها صلّى اللّه عليه وآله وسلم بآيات نبوته ، وأعلن الحق ، وأظهره بالحق والبرهان ، والأباطيل : جمع باطل على غير قياس ، كما أن الأضاليل جمع ضلال على غير قياس ، وجيشاتها : جمع جيشة ـ بفتح فسكون ـ من جاشت القدر ، إذا ارتفع غليانها ، والصولات : جمع صولة ، وهى السطوة ، والدامغ : من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة دماغه ، والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل ، والكاسر لشوكة الضلال وسطوته ، وذلك بسطوع البرهان ، وظهور الحجة
    (3) أى : أعلن الحق بالحق ، وقمع الباطل ، وقهر الضلال ، كما حمل تلك الأعمال الجليلة بتحمله أعباء الرسالة ، فاظطلع ـ أى : نهض بها قويا ـ والضلاعة : القوة ، والمستوفز : المسارع المستعجل ، وقد تكون الكاف
    فى «كما حمل» للتعليل كما فى قوله : ـ
    فقلت له أبا الملحاء خذها
    كما أوسعتنا بغيا وعدوا

    (4) الناكل : الناكص والمتأخر ، أى : غير جبان يتأخر عند وجوب الاقدام ،

    حتّى أورى قبس القابس ، وأضاء الطّريق للخابط (1) وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن ، وأقام موضحات الأعلام ، ونيّرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون (2) ، وشهيدك يوم الدّين (3) وبعيثك بالحقّ (4) ، ورسولك إلى الخلق. اللّهمّ افسح له مفسحا فى ظلّك (5) ، واجزه
    __________________
    والقدم ـ بضمتين ـ المشى إلى الحرب ، ويقال : مضى قدما ، أى : سار ولم يعرج والواهى : الضعيف. واعيا : أى حافظا وفاهما ، تقول : وعيت الحديث ، إذا حفظته وفهمته. و «ماضيا على نفاذ أمرك» أى : ذاهبا فى سيره على ما فيه نفاذ أمر اللّه سبحانه
    (1) يقال : ورى الزند ـ كوعى ـ وورى ـ كولى ـ يرى وريا وريا ورية فهو وار : خرجت ناره ، وأوريته ووريته واستوريته. والقبس : شعلة من النار ، والقابس : الذى يطلب النار ، يقال : قبست نارا فأقبسنى ، أى : طلبت منها فأعطانى والكلام تمثيل لنجاح طلاب الحق ببلوغ طلبتهم منه وإشراق النفوس المستعدة لقبوله بما سطع من أنواره ، والخابط : الذى يسير ليلا على غير جادة واضحة ، فأضاء الطريق له : جعلها مضيئة ظاهرة ، فاستقام عليها سائرا إلى الغاية ، وهى السعادة فكان من ذلك أن هديت به القلوب إلى ما فيه سعادتها ، بعد أن خاضت الفتن أطوارا ، واقتحمتها مرارا ، والخوضات : جمع خوضة ، وهى المرة من الخوض ، كما قال : «وهديت به القلوب ـ الخ». والأعلام : جمع علم ـ بالتحريك ـ وهو ما يستدل به على الطريق كالمنار ونحوه ، والأعلام موضحات الطرق لأنها تبينها للناس وتكشفها
    (2) العلم المخزون : ما اختص اللّه به من شاء من عباده ، ولم يبح لغير أهل الحظوة به أن يطلعوا عليه ، وذلك مما لا يتعلق بالأحكام الشرعية
    (3) شهيدك : شاهدك على الناس ، كما قال اللّه تعالى : «فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً»
    (4) «بعيثك» ، أى : مبعوثك ، فهو فعيل بمعنى مفعول كجريح وطريح
    (5) افسح له : وسع له ما شئت أن توسع «فى ظلك» أى : إحسانك وبرك ، فيكون الظل مجازا ، ومضاعفات الخير : أطواره ودرجاته

    مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه (1) ، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشّهادة ، ومرضىّ المقالة (2) ذا منطق عدل ، وخطّة فصل. اللّهمّ اجمع بيننا وبينه فى برد العيش وقرار النّعمة (3) ومنى الشّهوات ، وأهواء اللّذّات ، ورخاء الدّعة ، ومنتهى الطّمأنينة ، وتحف الكرامة (4)
    __________________
    (1) أراد من بنائه : ما شيده صلّى اللّه عليه وسلم بأمر ربه : من الشريعة العادلة ، والهدى الفاضل ، مما يلجأ إليه التائهون ويأوى إليه المضطهدون ، فالامام يسأل اللّه أن يعلى بناء شريعته على جميع الشرائع ، ويرفع شأن هديه فوق كل هدى لغيره ، وإكرام المنزلة باتمام النور. والمراد من إتمام النور : تأييد الدين حتى يعم أهل الأرض ، وبظهر على الدين كله ، كما وعده بذلك ، وإكرام المنزلة فى الآخرة قد تقدم فى قوله «افسح له ، واجزه مضاعفات الخير»
    (2) أى : اجزه على بعثتك له إلى الخلق وقيامه بما حملته ، واجعل ثوابه ـ على ذلك ـ الشهادة المقبولة ، والمقالة المرضية يوم القيامة : وتلك الشهادة والمقالة تصدران منه ، وهو ذو منطق عدل ، و «خطة» أى : أمر فاصل. ويروى «وخطبة» ـ بزيادة باء بعد الطاء ـ أى : مقال فاصل. وقد روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم يقوم ذلك المقام يوم القيامة فيشهد على أمته وعلى غيرها من الأمم ، فيكون كلامه الفصل
    (3) تقول العرب «عيش بارد» أى : لا حرب فيه ولا نزاع لأن البرد والسكون متلازمان تلازم الحرارة والحركة ، وقرار النعمة : مستقرها حيث تدوم ولا تفنى
    (4) منى : جمع منية ـ بالضم ـ وهى ما يتمناه الانسان لنفسه ، والشهوات : ما يشتهيه ، يدعو بأن يتفق مع النبى صلّى اللّه عليه وسلم فى جميع رغباته وميله والرخاء : من قولهم «رجل رخى البال» أى : واسع الحال. والدعة : سكون النفس واطمئنانها ، والتحف : جمع تحفة ، وهى ما يكرم به الانسان من البر واللطف وقد كان صلّى اللّه عليه وسلم من أرخى الناس بالا ، وألزمهم للطمأنينة ، وأعلاهم منزلة فى القلوب فالامام يطلب من اللّه أن يدنيه منه فى جميع هذه الصفات الكريمة

    71 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله لمروان بن الحكم بالبصرة
    قالوا : أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل ، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السّلام (1) إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه ، فخلى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السّلام : أولم يبايعنى قبل قتل عثمان؟ لا حاجة لى فى بيعته! إنّها كفّ يهوديّة (2) لو بايعنى بكفّه لغدر بسبته (3) أما إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه (4) ، وهو أبو الأكبش الأربعة (5) وستلقى الأمّة منه ومن ولده يوما أحمر!
    72 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما عزموا على بيعة عثمان
    لقد علمتم أنّى أحقّ النّاس بها من غيرى ، وو اللّه لأسلّمنّ ما سلمت أمور
    __________________
    (1) استشفعهما إليه : سألها أن يشفعا له عنده وليس من الجيد قولهم : استشفعت به
    (2) «كف يهودية» أى : غادرة ماكرة لا يستقيم لها عهد ، ولا يدوم لها وفاء ، ولا تستقر على أمان ، ولا يطول بها أمد الولاء :
    (3) السبت ـ بالفتح ـ الاست ، وهو مما يحرص الانسان على إخفائه ، وكنى به عن الغدر الخفى ، واختاره لتحقير الغادر. وقد يكون ذلك إشارة إلى ما كانت تفعله سفهاء العرب عند الغدر بعقد أو عهد : من أنهم كانوا يحبقون عند ذكره استهزاء
    (4) تصوير لقصر مدتها ، وكانت تسعة أشهر
    (5) جمع كبش ، وهو من القوم : رئيسهم ، وفسروا الأكبش ببنى عبد الملك بن مروان هذا ، وهم : الوليد ، وسليمان ، ويزيد ، وهشام ، قالوا : ولم يتول الخلافة أربعة إخوة سوى هؤلاء. ويجوز أن يراد بهم بنو مروان لصلبه ، وهم : عبد الملك ، وعبد العزيز ، وبشر ، ومحمد ، وكانوا كباشا أبطالا : أما عبد الملك فولى الخلافة ، وولى محمد الجزيرة ، وعبد العزيز مصر ، وبشر العراق.

    المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ علىّ خاصّة التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (1)
    73 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    لما بلغه اتهام بنى أمية له بالمشاركة فى دم عثمان
    أولم ينه أميّة علمها بى عن قرفى (2)؟ أوما وزع الجهّال سابقتى عن تهمتى! ولما وعظهم اللّه به أبلغ من لسانى (3)! أنا حجيج المارقين (4) وخصيم
    __________________
    (1) يقسم باللّه ليسلمن الأمر فى الخلافة لعثمان ما دام التسليم غير ضار بالمسلمين وحافظا لهم من الفتنة ، طلبا لثواب اللّه على ذلك ، وزهدا فى الأمرة التى تنافسوها ـ أى : رغبوا فيها ـ وإن كان فى ذلك جور عليه خاصة. وأصل الزخرف : الذهب وكذلك الزبرج ـ بكسرتين ، بينهما سكون ـ ثم أطلق على كل مموه مزور ، وأغلب ما يقال الزبرج على الزينة من وشى أو جوهر ، و «من زخرفه» ليس للبيان ، ولكن حرف الجر للتعليل ، أى : إن الرغبة إنما كان الباعث عليها الزخرف والزبرج ، ولو لا لزوم ذلك للامارة ما كان فيها التنافس
    (2) قرفه قرفا ـ بالفتح ـ : عابه ، و «علمها» فاعل «ينه» و «أمية» مفعول. أى : ألم يكن فى علم بنى أمية بحالى ومكانى من الدين والتحرج من سفك الدماء بغير حق ما ينهاهم عن أن يعيبونى بالاشتراك فى دم عثمان؟ خصوصا وقد علموا أنى كنت له لا عليه ، ومن أحسن الناس قولا فيه ، و «سابقته» حاله المعلومة لهم مما تقدم. ووزع بمعنى : كف ، والتهمة ـ بفتح الهاء بعد ضم التاء ـ : رميه بعيب الاشتراك فى دم عثمان.
    (3) «ولما ـ الخ» : اللام هى التى للتأكيد ، «وما» موصول مبتدأ. و «أبلغ» خبره. واللّه قد وعظهم فى الغيبة بأنها فى منزلة أكل لحم الأخ ميتا
    (4) «حجيج المارقين» أى : خصيمهم ، والمارقون : الخارجون من الدين ، والمرتابون : الذين لا يقين لهم ، وهو ـ كرم اللّه وجهه ـ قارعهم بالبرهان الساطع فغالبهم

    المرتابين وعلى كتاب اللّه تعرض الأمثال (1) وبما فى الصّدور تجازى العباد.
    74 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    رحم اللّه امرأ سمع حكما فوعى ، ودعى إلى رشاد فدنا (2) وأخذ بحجزة هاد فنجا (3) : راقب ربّه ، وخاف ذنبه ، قدّم خالصا ، وعمل صالحا ، اكتسب مذخورا (4) واجتنب محذورا ، رمى غرضا ، وأحرز عوضا (5) كابر هواه ، وكذّب مناه ، جعل الصّبر مطيّة نجاته ، والتّقوى عدّة وفاته ، ركب الطّريقة الغرّاء (6) ، ولزم المحجّة البيضاء ، اغتنم المهل (7) وبادر الأجل ، وتزوّد
    __________________
    (1) الأمثال : متشابهات الأعمال والحوادث : تعرض على القرآن فما وافقه فهو الحق المشروع ، وما خالفه فهو الباطل الممنوع ، وهو ـ كرم اللّه وجهه ـ قد جرى على حكم كتاب اللّه فى أعماله ، فليس للغامز عليه أن يشير إليه بمطعن ، ما دام ملتزما لأحكام الكتاب
    (2) الحكم هنا : الحكمة ، قال اللّه تعالى : «وَآتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا» ووعى : حفظ وفهم المراد واعتبر بما سمع وعمل عليه ، ودنا : قرب من الرشاد الذى دعى إليه
    (3) الحجزة ـ بالضم ـ : معقد الازار ، ومن السراويل موضع التكة. والمراد الاقتداء والتمسك ، يقال : أخذ فلان بحجزة فلان ، إذا اعتصم به ، ولجأ إليه
    (4) اكتسب مذخورا : كسب بالعمل الجليل ثوابا يذخره ويعده لوقت حاجته فى الآخرة ، وتقول : ذخر الشىء ـ وزان قطع ـ ذخرا ـ بفتح الذال وسكون الخاء ـ إذا خبأه لوقت يحتاجه فيه ، والذخر ـ بضم فسكون ـ الاسم من ذلك
    (5) رمى غرضا : قصد إلى الحق فأصابه ، وكابر هواه : غالبه. ويروى «كاثر» بالمثلثة ـ أى : غالبه بكثرة أفكاره الصائبة فغلبه
    (6) الغراء : النيرة الواضحة ، والمحجة : جادة الطريق ومعظمه ، والطريقة الغراء والمحجة البيضاء : سبيل الحق ومنهج العدل
    (7) المهل هنا : مدة الحياة مع العافية ، فانه أمهل فيها دون أن يؤخذ بالموت ، أو تحل به بائقة عذاب ، فهو يغتنم ذلك ليعمل فيه لآخرته ، فيبادر الأجل قبل حلوله بما يتزوده من طيب العمل

    من العمل.
    75 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    إنّ بنى أميّة ليفوّقوننى تراث محمّد صلّى اللّه عليه وآله تفويقا ، لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة ويروى «التراب الوذمة». وهو على القلب (1) قال الشريف : وقوله عليه السّلام «ليفوقوننى» أى : يعطوننى من المال قليلا كفواق الناقة ، وهو الحلبة الواحدة من لبنها ، والوذام : جمع وذمة وهى : الحزة من الكرش أو الكبد تقع فى التراب فتنفض (2)
    76 ـ ومن كلمات كان يدعو بها
    اللّهمّ اغفر لى ما أنت أعلم به منّى ، فإن عدت فعد علىّ بالمغفرة ، اللّهمّ اغفر لى ما وأيت من نفسى ، ولم تجد له وفاء عندى (3) اللّهمّ اغفر لى ما تقرّبت
    __________________
    (1) على القلب ، أى : إن الحقيقة «الوذام التربة» كما فى الرواية الأولى ، لا «التراب الوذمة» إذ لا معنى له ، فهذه الرواية يراد منها مقلوبها
    (2) الحزة ـ بالضم ـ القطعة ، وفسر صاحب القاموس «الوذمة» بمجموع المعى والكرش
    (3) وأيت : وعدت ، وأى ـ كوعى ـ وعد وضمن ، وإذا عزمت على عمل خير فكأنك وعدت من نفسك بتأدية أمر اللّه فان لم توف به فكأن اللّه لم يجد عندك وفاء بما وعدته ، فتكون قد أخلفته ، ومخلف الوعد مسىء ، فهو يطلب المغفرة على هذا النوع من الاساءة

    به إليك بلسانى ثمّ خالفه قلبى (1). اللّهمّ اغفر لى رمزات الألحاظ ، وسقطات الألفاظ ، وشهوات الجنان ، وهفوات اللّسان (2)
    77 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن سرت فى هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك ، من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام : أتزعم أنّك تهدى إلى السّاعة الّتى من سار فيها صرف عنه السّوء؟ وتخوّف من السّاعة الّتى من سار فيها حاق به الضّرّ (3)؟ فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الإعانة باللّه فى نيل المحبوب ودفع المكروه ، وتبتغى
    __________________
    (1) تقريب باللسان مع مخالفة القلب ، كأن يقول : الحمد للّه على كل حال ، ويسخط على أغلب الأحوال ، أو يقول : إياك نعبد وإياك نستعين ، وهو يستعين بغير اللّه ، ويعظم أشباها ممن دونه
    (2) رمزات الألحاظ : الاشارة بها ، وتقول : رمز إليه ـ من بابى نصر وضرب ـ رمزا ، أى : أشار ، وقيل : أومأ بشفتيه ، أو عينيه ، أو حاجبه ، أو فمه ، وقيل : هو خاص بالشفة ، والألحاظ : جمع لحظ ، وهو باطن العين : أما اللحاظ ـ وهو مؤخر العين ـ فلا أعرف له جمعا إلا لحظ ـ بضمتين ـ وسقطات الألفاظ : لغوها ، والجنان القلب ، واللب ، وشهواته : ما يكون من ميل منه إلى غير الفضيلة ، وهفوات اللسان : زلاته
    (3) حاق به الضر : أحاط به

    فى قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربّه ، لأنّك ـ بزعمك أنت ـ هديته إلى السّاعة الّتى نال فيها النّفع وأمن الضّرّ!!
    ثم أقبل عليه السّلام على الناس فقال :
    أيّها النّاس ، إيّاكم وتعلّم النّجوم ، إلاّ ما يهتدى به فى برّ أو بحر (1) فإنّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن (2) والكاهن كالسّاحر والسّاحر كالكافر! والكافر فى النّار ، سيروا على اسم اللّه.
    78 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بعد حرب الجمل ، فى ذم النساء
    معاشر النّاس ، إنّ النّساء نواقص الإيمان (3) ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول : فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة والصّيام فى أيّام حيضهنّ
    __________________
    (1) طلب لتعلم علم الهيئة الفلكية وسير النجوم وحركاتها للاهتداء بها ، وإنما ينهى عما يسمى علم التنجيم ، وهو : العلم المبنى على الاعتقاد بروحانية الكواكب ، وأن لتلك الروحانية العلوية سلطانا معنويا على العوالم العنصرية ، وأن من يتصل بأرواحها ـ بنوع من الاستعداد ومعاونة من الرياضة ـ تكاشفه بما غيب من أسرار الحال والاستقبال
    (2) الكاهن : من يدعى كشف الغيب ، وكلام أمير المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل ، والجفر ، والتنجيم ، وما شاكلها ، ودليل واضح على عدم صحتها ، ومنافاتها للأصول الشرعية والعقلية
    (3) خلق اللّه النساء ، وحملهن على ثقل الولادة وتربية الأطفال إلى سن معينة لا تكاد تنتهى حتى تستعد لحمل وولادة ، وهكذا ، فلا يكدن يفرغن من الولادة والتربية. فكأنهن قد خصصن لتدبير أمر المنزل وملازمته ، وهو دائرة محدودة يقوم عليهن فيها أزواجهن ، فخلق لهن من العقول بقدر ما يحتجن إليه فى هذا ، وجاء الشرع مطابقا للفطرة ، فكن ـ فى أحكامه ـ غير لاحقات للرجال ، لا فى العبادة ، ولا الشهادة ولا الميراث

    وأمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد ، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرّجال ، فاتّقوا شرار النّساء ، وكونوا من خيارهنّ على حذر ، ولا تطيعوهنّ فى المعروف حتّى لا يطمعن فى المنكر (1)
    79 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أيّها النّاس ، الزّهادة قصر الأمل ، والشّكر عند النّعم ، والورع عند المحارم (2) فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ، ولا (3) تنسوا عند النّعم
    __________________
    (1) لا يريد أن يترك المعروف لمجرد أمرهن به ، فان فى ترك المعروف مخالفة السنة الصالحة ، خصوصا إن كان المعروف من الواجبات ، بل يريد أن لا يكون فعل المعروف صادرا عن مجرد طاعتهن ، فاذا فعلت معروفا فافعله لأنه معروف ولا تفعله امتثالا لأمر المرأة. ولقد قال الامام قولا صدقته التجارب فى الأحقاب المتطاولة ، ولا استثناء مما قال ، إلا بعضا منهن وهبن فطرة تفوق فى سموها ما استوت به الفطن ، أو تقاربت ، أو أخذت بسلطان من التربية طباعهن على خلاف ما غرز فيها وحولتها إلى غير ما وجهتها الجبلة إليه
    (2) الورع : الكف عن الشبهات خوف الوقوع فى المحرمات ، يقال : ورع الرجل ـ من باب علم وقطع وكرم وحسب ـ ورعا ، مثل وعد ، وورعا ـ بفتحتين كطلب ـ ووروعا ، أى : جانب الاثم ، وكف عن المعاصى ، وترك الشبهات. أى : إذا عرض المحرم فمن الزهادة أن تكف عما يشتبه به ، فضلا عنه. والشكر عند النعم : الاعتراف بأنها من اللّه ، والتصرف فيها على وفق ما شرع ، وقصر الأمل : توجس الموت والاستعداد له بالعمل ، وليس المراد منه انتظار الموت بالبطالة
    (3) عزب عنكم ـ من بابى ضرب ودخل ـ عزوبا ، بضمتين كدخول ـ أى : بعد عنكم ، وفاتكم ، والاشارة إلى ما تقدم من قصر الأمل ، أى : فان عسر عليكم أن تقصروا آمالكم ، وتكونوا من الزهادة على الكمال المطلوب لكم ، فلا يغلب الحرام صبركم ، أى : فلا يفتكم الركنان الآخران ، وهما : شكر النعم ، واجتناب المحرم ، فان نسيان الشكر يجر إلى البطر ، وارتكاب المحرم يفسد نظام الحياة المعاشية والمعادية ، والبطر والفساد مجلبة للنقم فى الدنيا والشقاء فى الآخرة

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:14 pm

    شكركم ، فقد أعذر اللّه إليكم بحجج مسفرة ظاهرة ، وكتب بارزة العذر واضحة (1).
    80 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى صفة الدنيا
    ما أصف من دار أوّلها عناء ، وآخرها فناء ، فى حلالها حساب ، وفى حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته (2) ، ومن قعد عنها واتته ، ومن أبصر بها بصّرته (3) ، ومن أبصر
    __________________
    (1) أعذر : بمعنى أنصف ، وأصله مما همزته للسلب ، فأعذرت فلانا سلبت عذره ، أى : ما جعلت له عذرا يبديه لو خالف ما نصحته به. ويقال «أعذرت إلى فلان» أى : أقمت لنفسى عنده عذرا واضحا فيما أنزله به من العقوبة ، حيث حذرته ، ويصح أن تكون العبارة فى الكتاب على هذا المعنى أيضا ، بل هو الأقرب من لفظ «إليكم» ويكون الكلام على المجاز ، وتنزيل قيام الحجة له منزلة قيام العذر لنا. والمسفرة : الكاشفة عن نتائجها الصحيحة ، و «بارزة العذر» ظاهرته
    (2) من جرى معها فى مطالبها ، والقصد بذلك أنه اهتم بها وجد فى طلبها. وقوله «فاتته» أى : سبقته ، فانه كلما نال شيئا فتحت له أبواب الآمال فيها ، فلا يكاد يقضى مطلوبا واحدا حتى يهتف به ألف مطلوب ، وقوله «ومن قعد عنها واتته» يريد به أن من قوم اللذائذ الفانية بقيمتها الحقيقية ، وعلم أن الوصول إليها إنما يكون بالعناء ، وفواتها يعقب الحسرة عليها ، والتمتع بها لا يكاد يخلو من شوب الألم فقد واتته هذه الحياة وأراحته ، فانه لا يأسف على فائت منها ، ولا يبطر لحاضر ، ولا يعانى ألم الانتظار لمقتبل.
    (3) «أبصر بها» أى : جعلها مرآة نيرة : تجلو لقلبه آثار الجد فى عظائم الأعمال ، وتمثل له هياكل المجد؟؟؟ الباقية ، مما رفعته أيدى الكاملين ، وتنكشف له عواقب أهل الجهالة من المترفين ، فقد صارت الدنيا له بصرا وحوادثها عبرا. وأما من أبصر إليها واشتغل بها فانه يعمى عن كل خير فيها ويلهو عن الباقيان بالزائلات وبئس ما اختار لنفسه! ،

    إليها أعمته. قال الشريف : أقول : وإذا تامل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ، ولا سيما إذا قرن إليه قوله «ومن أبصر إليها أعمته» ، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحا نيرا وعجيبا باهرا
    81 ـ ومن خطبة له عجيبة
    الحمد للّه الّذى علا بحوله (1) ، ودنا بطوله (2) ، مانح كلّ غنيمة وفضل ، وكاشف كلّ عظيمة وأزل (3) أحمده على عواطف كرمه ، وسوابغ نعمه (4) ، وأومن به أوّلا باديا (5) ، وأستهديه قريبا هاديا ، وأستعينه قادرا قاهرا ،
    __________________
    (1) «علا بحوله» أى : عز وارتفع عن جميع ما سواه ، لقوته المستعلية بسلطة الايجاد على كل قوة
    (2) «دنا بطوله» أى : إنه مع علوه ، سبحانه ، وارتفاعه فى عظمته فقد دنا وقرب من خلقه بطوله ، أى : عطائه وإحسانه
    (3) الأزل ـ بالفتح ـ الضيق والشدة ، وكاشف الشدة : المنقذ منها ، كما أن مانح الغنيمة : معطيها المتفضل بها
    (4) العواطف : ما يعطفك على غيرك ، ويدنيه من معروفك. وصفة الكرم فى الجناب الالهى ، وخلقه فى البشر ، مما يعطف الكريم على موضع الاحسان وسوابغ النعم : كواملها ، من سبغ الظل : إذا عم وشمل
    (5) أولا باديا : موضعه من سابقه كموضع «قريبا هاديا» وما جاء به بعده من سوابقها ، فهى أحوال من الضمائر الراجعة إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فيكون «أول» صفة نصبت على الحال من ضمير به ، أى : أصدق باللّه حال كونه سابق كل شىء فى الوجود ، فهو البادى :

    وأتوكّل عليه كافيا ناصرا ، وأشهد أنّ محمّدا ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ عبده ورسوله ، أرسله لإنفاذ أمره ، وإنهاء عذره (1) وتقديم نذره (2). أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذى ضرب الأمثال (3) ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرّياش ، وأرفغ لكم المعاش ، وأحاطكم بالإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنّعم السّوابغ ، والرّفد الرّوافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، وأحصاكم عددا ، ووظّف لكم مددا ، فى قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ،
    __________________
    أى الظاهر بذاته المظهر لغيره ، ومن كان كذلك لم تخالط التصديق به ريبة. والقريب الهادى جدير بأن تطلب منه الهداية ، والقادر القاهر حقيق بأن يستعان به ، لأنه قوى على المعونة ، والكافى الناصر حرى بأن يتوكل عليه
    (1) إنهاء عذره : إبلاغه ، والعذر هنا : كناية عن الحجج العقلية والنقلية التى أقيمت ببعثة النبى صلّى اللّه عليه وسلم على أن من خالف شريعة اللّه استحق العقاب ، ومن جرى عليها استحق جزيل الثواب
    (2) النذر : جمع نذير ، أى : الأخبار الالهية المنذرة بالعقاب على سوء الأعمال أو هو مفرد بمعنى الانذار
    (3) ضرب الأمثال : جاء بها فى الكلام ، لايضاح الحجج ، وتقريرها فى الأذهان ، و «وقت الآجال» جعلها فى أوقات محدودة لا متقدم عنها ولا متأخر ، والرياش : ما ظهر من اللباس ، ووجه النعمة فيه أنه ساتر للعورة واق من الحر والبرد. وقد يراد بالرياش الخصب والغنى ، فيكون «ألبسكم» على المجاز و «أرفغ لكم» أى : أوسع ، يقال : رفغ عيشه ـ بالضم ـ رفاغة ، أى : اتسع ، و «أحاطكم بالاحصاء» أى : جعل إحصاء أعمالكم والعلم بها عملا كالسور : لا تنفذون منه ولا تتعدونه ، ولا تشذ عنه شاذة و «أرصد لكم الجزاء» أعده لكم فلا محيص عنه ، والرفد : جمع رفدة ـ ككسرة وكسر ـ وهى : العطية ، والروافغ : الواسعة والحجج البوالغ : الظاهرة البينة ، و «وظف لكم مددا» أى : قدر لكم ، والمدد : جمع مدة ، أى : عين لكم أزمنة تحيون فيها «فى قرار خبرة» أى : فى دار ابتلاء واختبار (9 ـ ن ـ ج ـ 1) وهى دار الدنيا ، وفيها الاعتبار والاتعاظ ، والحساب عليها ، أى : على ما يؤتى من خير وشر

    ومحاسبون عليها ، فإنّ الدّنيا رنق مشربها (1) ردغ مشرعها : يونق منظرها (2) ويوبق مخبرها ، غرور حائل (3) وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل (4) حتّى إذا أنس نافرها ، واطمأنّ ناكرها ، قمصت بأرجلها (5) ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنيّة (6) قائدة له إلى ضنك
    __________________
    (1) رنق ـ كفرح ـ كدر ، والأصل أنه يقال «عيش رنق» ـ بكسر النون أى : كدر ، ويقال «ماء رنق» بسكون النون ـ أى : كدر ، ويقال : رنق الماء رنقا ـ بوزان طرب طربا ـ وقد رويت هذه الكلمة بروايتين : الأولى بكسر النون وهى المشهورة فيكون على الاستعمال الأول ، ووضع المشرب موضع العيش ، والثانية بسكون النون وهى على حقيقتها. وردغ : كثير الطين والوحل. والمشرع : مورد الشاربة للشرب ، ويقال «مشرع ردغ» إذا كان ذا طين ووحل
    (2) يونق : يعجب ، ويوبق : يهلك
    (3) حائل : اسم فاعل من «حال» إذا تحول وانتقل ، أى : إن شأنها الغرور الذى لا بقاء له وسقط من بعض الروايات قوله «وضوء آفل» أى : غائب لا يلبث أن يظهر حتى يغيب
    (4) السناد ـ بالكسر ـ ما يستند إليه ، أو دعامة يسند بها السقف ، وناكرها : اسم فاعل من «نكر الشىء» ـ من باب علم ـ أى : جهله فأنكره
    (5) قمص الفرس وغيره يقمص ـ من باب ضرب ونصر ـ قمصا وقماصا ، أى : استن ، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجب وفى المثل المضروب لضعيف لا حراك به وعزيز ذل «ما بالعير من قماص» وإنما قال «أرجل» وليس للدابة إلا رجلان لأنه نزل اليدين لها منزلة الأرجل ، لأن المشى على جميعها. وروى «بأرحلها» بالحاء ـ جمع رحل الناقة ، و «قنصت بأحبلها» أى : اصطادت وأوقعت من اغتربها فى شباكها وحبالها ، و «أقصدت» قتلت مكانها من غير تأخير
    (6) أعلقت به : ربطت بعنقه ، وأوهاق المنية : جمع وهق ـ بالتحريك ـ أو بفتح فسكون ، كما يقال نهر ونهر ، أى : حبال الموت

    المضجع (1) ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحلّ (2) ، وثواب العمل. وكذلك الخلف يعقب السّلف : لا تقلع المنيّة اختراما (3) ولا يرعوى الباقون اجتراما (4) يحتذون مثالا ، ويمضون أرسالا ، إلى غاية الانتهاء ، وصيّور الفناء (5) حتّى إذا تصرّمت الأمور ، وتقضّت الدّهور ، وأزف النّشور (6) أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطّيور ، وأوجرة السّباع ، ومطارح المهالك ، سراعا
    __________________
    (1) ضنك المضجع : ضيق المرقد ، والمراد القبر
    (2) معاينة المحل : مشاهدة مكانه من النعيم والجحيم ، وثواب العمل : جزاؤه الأعم من شقاء وسعادة ، والخلف : المتأخرون ، والسلف : المتقدمون. و «يعقب السلف» أى : يتبع ، ويروى «بعقب» بباء الجر ـ فيكون عقب بالسكون بمعنى بعد ، وأصله جرى الفرس بعد جريه ، يقال : لهذا الفرس عقب حسن
    (3) «لا نقلع» أى : لا تكف المنية عن اخترامها ، أى : استئصالها للأحياء
    (4) «لا يرعوى الباقون» أى : لا يرجعون ولا يكفون عن اجترام السيئات وثلاثى «ارعوى» رعى يرعو ، أى : كف ، ويقال : فلان حسن الرعوة والرعاء والرعوى والارعواء. و «الاجترام» افتعال من الجرم ، وهو الذنب والجريرة ، ويقال : جرم وأجرم بمعنى واحد. و «يحتذون مثالا» أى : يشاكلون بأعمالهم صور أعمال من سبقهم ، ويقتدون بهم و «يمضون أرسالا» جمع رسل بالتحريك ـ وهو القطيع من الابل والغنم والخيل يقال : جاءت الغنم أرسالا ، أى : قطيعا قطيعا
    (5) صيور الأمر ـ كتنور ـ مصيره وما يؤول إليه ، يريد الامام من ذلك أن الدنيا لا تزال تغر بنيها ، حتى يأنسوا إليها بالارتياح إلى لذائذها ، واستسهال احتمال آلامها ، ثم تنقلب بهم إلى ما لا بد منه ، وهم فى غفلة لاهون
    (6) «أزف النشور» قرب البعث ، والضمير فى «أخرجهم» إلى البعث على سبيل المجاز ، أو إلى اللّه تعالى ، والضرائح : جمع ضريح وهو الشق وسط القبر ، وأصله من «ضرحه» أى : دفعه وأبعده ، فان المقبور مدفوع منبوذ ، وهو أبعد الأشياء عن الأحياء ، والأوكار : جمع وكر ، وهو مسكن الطير وجمع الكثرة وكور ، والأوجرة : جمع وجار ـ ككتاب وسحاب ـ وهو الجحر والذين يبعثون من الأوكار والأوجرة هم الذين افترستهم الطيور الصائدة والسباع الكاسرة

    إلى أمره ، مهطعين إلى معاده (1) رعيلا صموتا ، قياما صفوفا ، ينفذهم البصر (2) ويسمعهم الدّاعى ، عليهم لبوس الاستكانة (3) ، وضرع الاستسلام والذّلّة قد ضلّت الحيل ، وانقطع الأمل ، وهوت الأفئدة كاظمة (4) ، وخشعت الأصوات مهينمة ، وألجم العرق ، وعظم الشّفق ، وأرعدت الأسماع لزبرة الدّاعى إلى فصل الخطاب (5) ومقايضة الجزاء ، ونكال العقاب ، ونوال الثّواب ، عباد مخلوقون اقتدارا ، ومربوبون اقتسارا (6) ، ومقبوضون
    __________________
    (1) «مهطعين» أى : مسرعين إلى معاده ، سبحانه ، الذى وعد أن يعيدهم فيه. وقوله : «رعيلا صموتا» الرعيل : القطعة من الخيل ، شبههم فى تلاحق بعضهم ببعض برعيل الخيل ـ أى : الجملة القليلة منها ـ لأن الاسراع لا يدع أحدا منهم ينفرد عن الآخر ، فان الانفراد من الابطاء ، ولا يدعهم يجتمعون جما ، فان التضام والالتفاف إنما يكون من الاطمئنان
    (2) «ينفذهم البصر» يجاوزهم ، أى : يأتى عليهم ويحيط بهم ، أى : لا يعزب واحد منهم عن بصر اللّه
    (3) اللبوس ـ بالفتح ـ : ما يلبس ، والاستكانة : الخضوع ، والضرع ـ بالتحريك ـ : الوهن والضعف والخشوع ، هذا لو جعلنا «عليهم» متعلقا بمحذوف خبر عن «لبوس وضرع» ، فان جعلناه متعلقا بالداعى ـ بمعنى : المنادى والصائح عليهم ـ جعلنا لبوس جملة مبتدأة ويكون «لبوس» جمع لابس ، وضرع ـ محركة ـ اسم جمع للضريع بمعنى الذليل
    (4) «هوت الأفئدة» خلت من المسرة والأمل من النجاة ، «كاظمة» أى : ساكنة كاتمة لما يزعجها من الفزع ، و «مهينمة» أى : متخافية ، والهينمة : الكلام الخفى ، و «ألجم العرق» كثر حتى امتلأت به الأفواه لغزارته فمنعها من النطق ، وكان كاللجام ، والشفق ـ محركة ـ الخوف
    (5) أرعدت : عرتها الرعدة ، و «زبرة الداعى» : صوته وصيحته ، ولا يقال «زبرة» إلا إذا كان فيها زجر وانتهار ، فانها واحدة الزبر ـ أى : الكلام الشديد ـ والمقايضة : المعاوضة ، أى : مبادلة الجزاء الخير بالخير ، والشر بالشر
    (6) «مربوبون» : مملوكون ، والاقتسار : الغلبة والقهر ،

    احتضارا ، ومضمّنون أجداثا ، وكائنون رفاتا ، ومبعوثون أفرادا ، ومدينون جزاء ، ومميّزون حسابا ، قد أمهلوا فى طلب المخرج (1) ، وهدوا سبيل المنهج ، وعمّروا مهل المستعتب ، وكشف عنهم سدف الرّيب (2) وخلّوا لمضمار
    __________________
    أى : إنهم كما خلقوا باقتدار اللّه سبحانه وقوته ، فهم مملوكون له بسطوة عزته ، لا خيرة لهم فى ذلك ، وإذا جاء الأجل قبضت أرواحهم إليه ، بما يحضر عند الأجل من مزهقات الأرواح والقوى المسلطة على الفناء ، و «احتضر فلان» حضرته الملائكة تقبض روحه. وكانت العرب تقول «لبن محتضر» أى : فاسد ، يعنون أن الجن حضرته ، يقال : اللبن محتضر فغط إناءك ، والأجداث. جمع جدث ـ بفتحتين ـ : وهو القبر واجتدث الرجل : اتخذ جدثا ، ويقال : جدف ـ بالفاء ـ و «مضمنون الأجداث» مجعولون فى ضمنها ، والرفات : الحطام ، ويقال : رفته ـ كنصر وضرب ـ أى : كسره ودقه ، أى : فته بيده كما يفت المدر والعظم البالى ، و «مبعوثون أفرادا» أى : كل يسأل عن نفسه ، لا يلتفت لرابطة تجمعه مع غيره ، و «مدينون» أى : مجزيون ، والدين : الجزاء ، قال : «مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» ، و «مميزون حسابا» كل يحاسب على عمله منفصلا عمن سواه : «لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ»
    (1) المخرج : المخلص من ربقة المعصية بالتوبة والانابة المخلصة ، والمنهج : الطريق الواضحة التى دلت عليها الشريعة المطهرة والمستعتب : المسترضى ، ويقال أيضا : «استعتبه» إذا أناله العتبى ، وهى : الرضا ، وإنما ضرب المثل بمهل المستعتب لأنك إذا استرضيت شخصا وطلبت منه أن يرضى فلا ترهقه فى المطالبة ، بل تفسح له حتى يرضى بقلبه لا بلسانه. أى : إن اللّه أفسح لهم فى الآجال حتى يتمكنوا من إرضائه ، وأوتوا من العمر مهلة من ينال العتبى ـ أى : الرضا ـ لو أحسن العمل : استعتبه : أناله العتبى ، فهو المستعتب ، والمفعول مستعتب
    (2) السدف : جمع سدفة ـ بالفتح ـ وهى : الظلمة ، والريب : جمع ريبة. وهى الشبهة وإبهام الأمر ، وكشف ذلك بما أتى من البراهين الواضحة

    الجياد (1) ورويّة الارتياد ، وأناة المقتبس المرتاد (2) فى مدّة الأجل ، ومضطرب المهل ، فيا لها أمثالا صائبة ، ومواعظ شافية ، لو صادفت قلوبا زاكية ، وأسماعا واعية ، وآراء عازمة ، وألبابا حازمة ، فاتّقوا تقيّة من سمع فخشع ، واقترف فاعترف (3) ووجل فعمل ، وحاذر فبادر ، وأيقن فأحسن وعبّر فاعتبر ، وحذّر فازدجر ، وأجاب فأناب (4) ، ورجع فتاب ، واقتدى فاحتذى ، وأرى فرأى ، فأسرع طالبا ، ونجا هاربا ، فأفاد ذخيرة (5) ، وأطاب
    __________________
    (1) خلوا : تركوا فى مجال يتسابقون فيه إلى الخيرات. والجياد من الخيل : كرامها ، والمضمار : المكان الذى تضمر فيه الخيل ، والمدة التى تضمر فيها أيضا ، والروية : إعمال الفكر فى الأمر ليأتى على أسلم وجوهه ، والارتياد هنا : طلب ما يراد
    (2) الاناة : الانتظار والتؤدة ، والمقتبس : المرتاد ، أى : الذى أخذ بيده مصباحا ليرتاد على ضوئه شيئا غاب عنه ، ومثل هذا يتأنى فى حركته خوف أن يطفأ مصباحه ، وخشية أن يفوته فى بعض خطواته ما يفتش عليه لو أسرع ، فلذا ضرب المثل به. والمضطرب : مدة الاضطراب. أى : الحركة فى العمل
    (3) اقترف : اكتسب ، ومثله «قرف يقرف لعياله» أى : كسب يكسب وفى التنزيل : «وَلِيَقْتَرِفُوا مٰا هُمْ مُقْتَرِفُونَ» وقال صاحب اللسان : واقترف المال اقتناه. واقترف الذنب أتاه. ووجل : خاف ، وجلا وموجلا ـ بفتح الميم والجيم ـ وبادر سارع ، وعبر ـ مبنى للمجهول مشدد الباء ـ أى : عرضت عليه العبر مرارا كثيرة فاعتبر ، أى : اتعظ ، وحذر ـ مبنى للمجهول أيضا ـ أى : خوف من عواقب الخطايا فازدجر ، أى : امتنع عنها. ويروى «وحذر فحذر ، وزجر فازدجر»
    (4) أجاب داعى اللّه إلى طاعته فأناب إليه ، أى : رجع ، و «احتذى» شاكل بين عمله وعمل مقتداه ، أى : أحسن القدوة ، و «أرى» ـ بضم الهمزة مبنى للمجهول أى : أرته الشريعة ما يجب عليه وما يجب له وما يعقب الطاعة وما يعقب المعصية ، فرأى ذلك رؤية صحيحة تب عليها حسن العمل
    (5) أفاد الذخيرة : استفادها

    سريرة ، وعمّر معادا ، واستظهر زادا (1) ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، وقدّم أمامه لدار مقامه. فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له (2) ، واحذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه (3) واستحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده (4) والحذر من هول معاده منها : جعل لكم أسماعا لتعى ما عناها وأبصارا لتجلو عن عشاها (5) ، وأشلاء جامعة لأعضائها ملائمة لأجنائها (6) : فى تركيب صورها ، ومدد
    __________________
    واقتناها ، وهو من الاضداد
    (1) «استظهر زادا» حمل زادا حمله ظهر راحلته إلى الآخرة ، والكلام تمثيل ، ووجه السبيل : المقصد الذى يركب السبيل لأجله
    (2) الجهة ـ مثلثة ـ الناحية والجانب ، وهو ظرف متعلق بحال من ضمير «اتقوا» أى : متوجهين جهة ما خلقكم لأجله من العمل النافع لكم ، الباقى أثره لأخلافكم
    (3) حذرنا من نفسه سبحانه أن نتعرض لما يغضبه بمخالفة أوامره ونواهيه ، و «كنه ذلك» : غايته ونهايته ، أى : احذروا نهاية ما حذركم ، ولا تقعوا فى شىء مما يغضبه. وقد يكون المراد من كنه ما حذرنا هو البحث عن كنهه وحقيقته ، فيأمرنا الامام بالتقوى والبعد عن البحث فى حقيقته وكنهه ، فان الوصول إلى كنه ذاته محال
    (4) «تنجز الوعد» طلب وفائه على عجل ، وتنجز ما وعد اللّه إنما يكون بالعمل له ، وبهذا التنجز العملى يستحق ما أعد اللّه للصالحين ، والحذر : معطوف على التنجز.
    (5) عناها : أهمها ، وتعيه : تحفظه ، وتجلو : من «جلا عن المكان» إذا فارقه أى : تخلص من عماها ، أى : لتبصر ، ولا تكون مبصرة حقيقة حتى يفيدها الابصار حركة إلى نافع ، وانقباضا عن ضار ، والأشلاء : جمع شلو ـ بالكسر ـ وهو الجسد ، أو العضو ، وعلى الثانى يكون المعنى أن كل عضو فيه أعضاء : باطنة أو صغيرة
    (6) الأحناء جمع حنو ـ بالكسر ـ : وهو كل ما اعوج من البدن ، وملاءمه الأعضاء لها : تناسها معها. وقد يراد من الأحناء : الجهات والجرانب ، و «ملاءمة»

    عمرها ، بأبدان قائمة بأرفاقها (1) وقلوب رائدة لأرزاقها ، فى مجلّلات نعمه (2) وموجبات مننه ، وحواجز عافية ، وقدّر لكم أعمارا سترها عنكم ، وخلّف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم ، من مستمتع خلاقهم ، ومستفسح خناقهم أرهقتهم المنايا دون الآمال ، وشذّ بهم عنها تخرّم الآجال ، لم يمهدوا فى سلامة الأبدان ، ولم يعتبروا فى أنف الأوان (3) ، فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حوانى الهرم؟ وأهل غضارة الصّحّة إلاّ نوازل السّقم؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء (4) مع قرب الزّيال (5) وأزوف الانتقال ، وعلز القلق ، وألم المضض ، وغصص الحرض ، وتلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء
    __________________
    حال من الأعضاء وملاءمة الأعضاء للجهات التى وضعت فيها : أن يكون العضو فى تلك الجهة أنفع منه فى غيرها : فتكون العين فى موضعها المعروف أنفع من كونها فى قمة الرأس مثلا. وقوله «تركيب صورها» أى : آتية فى صورها المركبة ، كما تقول ركب فى سلاحه ، أى : متسلحا
    (1) الأرفاق جمع رفق ـ بالكسر ـ : المنفعة ، أو ما يستعان به عليها ، و «رائدة» أى : طالبة
    (2) مجللات ـ على صيغة اسم الفاعل ـ من «جلله» بمعنى غطاه ، أى : غامرات نعمه ، يقولون : سحاب مجلل ، أى : يطبق الأرض
    (3) الخلاق : النصيب الوافر من الخير ، والخناق ـ بالفتح ـ : حبل يخنق به ، وبالضم : داء يمتنع معه نفوذ النفس. وأرهقتهم : أعجلتهم ، وأنف ـ بضمتين ـ يقال : أمر أنف ، أى : مستأنف لم يسبق به قدر. والأنف أيضا : المشية الحسنة ، وتقدير الكلام : خلف لكم عبرا من القرون الماضية : منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثم فناؤهم ، ومنها فسحة خناقهم وطول إمهالهم ثم كانت عاقبتهم الهلكة
    (4) البضاضة : رخص الجلد ورقته وامتلاؤه. والغضارة : النعمة والسعة والخصب
    (5) الزيال : مصدر زايله مزايلة وزيالا ، أى : فارقه

    والأعزّة والقرناء ، فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النّواحب (1) وقد غودر فى محلّة الأموات رهينا (2) وفى ضيق المضجع وحيدا ، قد هتكت الهوامّ جلدته (3) وأبلت النّواهك جدّته ، وعفت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه (4) وصارت الأجساد شحبة بعد بضّتها ، والعظام نخرة بعد قوّتها (5) والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها (6) موقنة بغيب أنبائها ، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سيّىء زللها (7) أولستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم
    __________________
    (1) الأزوف : الدنو والقرب ، والعلز : قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر. والمضض : بلوغ الحزن من القلب ، والجرض : الريق ، والحفدة : البنات وأولاد الأولاد والأصهار
    (2) غودر : ترك ، وبقى ، ورهينا : حبيسا
    (3) هتكت : جذبت جلدته فقطعتها ، والهوام : الحيات وكل ذى سم يقتل
    (4) النواهك : من قولهم «نهكه السلطان» إذا بالغ فى عقوبته ، و «عفت» أى محت ، والعواصف : الرياح الشديدة ، والمعالم : جمع معلم ، وهو ما يستدل به
    (5) الشحبة ـ بفتح فكسر ـ ، أى : الهالكة ، تقول : شحب الرجل يشحب ـ مثل علم يعلم ـ إذا هلك ، وفيه لغة أخرى من باب نصر ، وتقول : شحبه اللّه يشحبه ، يتعدى ويلزم ، البضة هنا : الوحدة من البض ، وهو : مصدر بض الماء إذا ترشح قليلا قليلا ، أى : بعد امتلائها حتى كأن الماء يترشح منها ، ونخرة : بالية
    (6) الأعباء : الأثقال ، جمع عبء ، أى : حمل ، وموقنة بغيب أنبائها ، أى : منكشفا لها ما كان غائبا عنها من أخبارها ، وما أعد لها فى الآخرة
    (7) «لا تستزاد ـ الخ» أى : لا يطلب منها زيادة العمل ، فانه لا عمل بعد الموت ، «ولا تستعب» مبنى للمفعول ـ أى : لا يطلب منها تقديم العتبى ، أى : التوبة من العمل القبيح ، أو مبنى للفاعل ، أى : لا يمكنها أن تطلب الرضا والاقالة من خطئها السىء

    والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قدّتهم (1) وتطأون جادّتهم؟! فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة فى غير مضمارها! كأنّ المعنىّ سواها (2) وكأنّ الرّشد فى إحراز دنياها. واعلموا أنّ مجازكم على الصّراط ومزالق دحضه ، وأهاويل زلله وتارات أهواله (3) فاتّقوا اللّه تقيّة ذى لبّ شغل التّفكّر قلبه ، وأنصب الخوف بدنه (4) ، وأسهر التّهجّد غرار نومه ، وأظمأ الرّجاء هواجر يومه ، وظلف الزّهد شهواته ، وأرجف الذّكر بلسانه وقدّم الخوف لإبّانه ، وتنكّب المخالج عن وضح السّبيل ، وسلك أقصد المسالك إلى النّهج المطلوب ، ولم تفتله فاتلات الغرور (5) ولم تعم عليه
    __________________
    (1) القدة ـ بكسر فتشديد ـ الطريقة ، و «تطأون جادتهم» تسيرون على سبيلهم بلا انحراف عنهم فى شىء ، أى : يصيبكم ما أصابهم بلا أقل تفاوت
    (2) «كأن المعنى» أى : المقصود بالتكاليف الشرعية ، والموجه إليه التحذير والتبشير ، غيرها. وقوله «وكأن الرشد ـ الخ» أى : مع أن الرشد لم ينحصر فى هذا ، بل الرشد كل الرشد إحراز الآخرة لا الدنيا
    (3) «أن مجازكم ـ الخ» أنكم تجوزون على الصراط مع ما فيه من مزالق الدحض ، والدحض : هو انقلاب الرجل بغتة فيسقط المار ، والزلل. هو انزلاق القدم ، والتارات : النوب والدفعات
    (4) «أنصب الخوف بدنه» : أتعبه
    (5) والغرار ـ بالكسر ـ : القليل من النوم وغيره ، و «أسهره التهجد» أى : أزال قيام الليل نومه القليل ، فأذهبه بالمرة. و «أظمأ الرجاء ـ الخ» أى : أظمأ نفسه فى هاجرة اليوم ، والمعنى : صام رجاء الثواب. و «ظلف الزهد ـ الخ» أى : منعها وظلف : منع ، و «أرجف الذكر» تقول : «أرجف به» أى : حركه. ويروى

    مشتبهات الأمور ، ظافرا بفرحة البشرى ، وراحة النّعمى (1) فى أنعم نومه ، وآمن يومه ، قد عبر معبر العاجلة حميدا (2) وقدم ذات الآجلة سعيدا ، وبادر من وجل ، وأكمش فى مهل ، ورغب فى طلب ، وذهب عن هرب (3) وراقب فى يومه غده ، ونظر قدما أمامه (4) فكفى بالجنّة ثوابا ونوالا ، وكفى بالنّار عقابا ووبالا ، وكفى باللّه منتقما ونصيرا ، وكفى بالكتاب حجيجا
    __________________
    «أوجف» بالواو ـ أى : أسرع ، كأن الذكر لشدة تحريكه اللسان موجف به كما توجف الناقة براكبها ، و «إبان الشىء» بكسر فتشديد ـ وقته الذى يلزم ظهوره فيه أى : إنه خاف فى الوقت الذى ينفع فيه الخوف ، ويروى «لأمانه» أى : خاف فى الدنيا ليأمن فى الآخرة ، و «تنكب الشىء» مال عنه ، والمخالج : الشعوب من الطريق المائلة عن وضحه ، والوضح ـ محركة ـ الجادة ، و «عن وضح متعلق» بالمخالج ، أى : تنكب المائلات عن الجادة ، وأقصد المسالك : أقومها. و «لم تفتله الخ» أى : لم ترده ولم تصرفه ، و «لم تعم عليه» أى : لم تخف عليه الأمور المشتبهة حتى يقع فيها بحذر على غير بصيرة
    (1) النعمى ـ بالضم ـ : سعة العيش ونعيمه «ظافرا» حال من الضمائر السابقة العائدة على «ذى لب» ، و «فى أنعم» متعلق براحة النعمى ، وجعل اتصافه بتلك الأوصاف فى حال الظفر تمثيلا لالتصاق السعادة بالفضيلة وملازمتها إياها
    (2) العاجلة : الدنيا ، وسميت معبرا لأنها طريق يعبر منها إلى الآخرة ، وهى الآجلة. «بادر من وجل» أى : سبق الى خير الأعمال خوفا من لقاء الأهوال و «أكمش» أسرع ، ومثله انكمش ، وكمشته تكميشا : أعجلته ، والمراد جد السير فى مهلة الحياة
    (3) أى : رغب فيما ينبغى طلبه ، وذهب وانصرف عما يجب الهروب منه
    (4) القدم ـ بفتحتين ـ السابق ، أى : نظر إلى ما يتقدم أمامه من الأعمال ويروى قدما ـ بضمتين ـ وهو المضى إلى أمام ، أى. مضى متقدما

    وخصيما (1) أوصيكم بتقوى اللّه الّذى أعذر بما أنذر ، واحتجّ بما نهج (2) وحذّركم عدوّا نفذ فى الصّدور خفيّا ، ونفث فى الآذان نجيّا (3) فأضلّ وأردى ووعد فمنّى ، وزيّن سيّئات الجرائم ، وهوّن موبقات العظائم ، حتّى إذا استدرج قرينته (4) ، واستغلق رهينته ، أنكر ما زيّن (5) ، واستعظم ما هوّن وحذّر ما أمّن.
    ومنها فى صفة خلق الانسان :
    أم هذا الّذى أنشأه فى ظلمات الأرحام (6) وشغف الأستار ، نطفة دهاقا (7)
    __________________
    (1) الكتاب : القرآن ، و «حجيجا وخصيما» أى : مقنعا لمن خالفه بأنه قد جلب الهلاك على نفسه ، وقد يراد من الكتاب ما أحصى من الأعمال على العامل إذا عرض عليه يوم الحساب.
    (2) أعذر بما أنذر ، «ما» مصدرية ، أعذر : أى سلب عذر المعتذر بانذاره إياه بعواقب العمل ، وقامت له الحجة على الضالين بما نهج ووضح من طرق الخير والفضيلة
    (3) ذلك العدو هو الشيطان ، و «نفذ فى الصدور ـ الخ» : تمثيل لدقة مجارى وسوسته فى الأنفس ، فهو فيما يسوله يجرى مجرى الأنفاس ، ويسلك بما يأتى من مسالك الأصدقاء كأنه نجى يسارك ، وينفث فى أذنك بما تظنه خيرا لك ، وأردى أهلك ، و «وعد فمنى» أى : صور الأمانى كذبا
    (4) القرينة : النفس التى يقارنها بالوسوسة ، واستدرجها : أنزلها من درجة الرشد إلى درجته من الضلالة ، واستغلق الرهن : جعله بحيث لا يمكن تخليصه
    (5) «أنكر ـ الخ» بيان لعمل الشيطان وبراءته ممن أغواه عند ما تحق كلمة العذاب
    (6) «أم» بمعنى بل الانتقالية ، بعد ما بين وصف الشيطان انتقل لبيان صفة الانسان. و «شغف الأستار» : جمع شغاف ـ مثل سحاب وسحب ـ وهو فى الأصل غلاف القلب ، استعاره للمشيمة
    (7) دهاقا : متتابعا «دهقها» أى : صبها بقوة. وقد تفسر الدهاق بالممتلئة ، أى :

    وعلقة محاقا ، وجنينا وراضعا ، ووليدا ويافعا ، ثمّ منحه قلبا حافظا ، ولسانا لافظا ، ليفهم معتبرا ، ويقصّر مزدجرا ، حتّى إذا قام اعتداله ، واستوى مثاله (1) نفر مستكبرا ، وخبط سادرا (2) ماتحا فى غرب هواه (3) كادحا سعيا لدنياه ، فى لذّات طربه ، وبدوات أربه ، لا يحتسب رزيّة (4) ولا يخشع تقيّة ، فمات فى فتنته غريرا ، وعاش فى هفوته يسيرا ، لم يفد (5) عوضا ، ولم يقض مفترضا ، دهمته (6) فجعات المنيّة فى غبّر جماحه ، وسنن مراحه ،
    __________________
    ممتلئة من جراثيم الحياة ، و «علقة محافا» أى : خفى فيها ومحق كل شكل وصورته ، والجنين : الولد بعد تصويره ما دام فى بطن أمه ، واليافع : الغلام راهق العشرين ، وأصل اليافع المرتفع ، ويقال : أيفع فهو يافع ، وهذا من النوادر ، ومثله أمحلت الأرض فهى ماحل ، ويقصر : يكف عن الرذائل ممتنعا عنها بالعقل والروية
    (1) «استوى مثاله» أى : بلغت قامته حد ما قدر لها من النمو
    (2) خبط البعير : إذا ضرب بيديه الأرض لا يتوقى شيئا ، والسادر : المتحير والذى لا يهتم ولا يبالى ما صنع
    (3) متح الماء : نزعه وهو فى أعلى البئر ، والماتح الذى ينزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو ، والغرب : الدلو العظيمة ، أى : لا يستقى إلا من الهوى ، والكدح : شدة السعى ، والبدوات : جمع بدأة وهى ما بدا من الرأى ، أى : ذاهبا فيما يبدو له من رغائبه ، غير متقيد بشريعة ، ولا ملتزم صدور فضيلة
    (4) «لا يحتسب رزية» أى : لا يظنها ، ولا يفكر فى وقوعها ، ولا يخشع من التقية والخوف من اللّه تعالى ، وغريرا ـ براءين مهملتين ـ أى : مغرورا ، ويروى «عزيزا» ـ بمعجمتين ـ أى : شابا ، وهى رواية ضعيفة غير ملائمة سياق النظم و «عاش فى هفوته ـ الخ» : عاش فى أخطائه وخطيئاته الناشئة عن الخطأ فى تقدير العواقب زمنا يسيرا ، وهو مدة الأجل. ويروى «أسيرا»
    (5) «لم يفد» أى : لم يستفد ثوابا
    (6) دهمته : غشيته ، وغبر ـ بضم فتشديد ـ

    فظلّ سادرا (1) وبات ساهرا ، فى غمرات الآلام ، وطوارق الأوجاع والأسقام بين أخ شقيق ، ووالد شفيق ، وداعية بالويل جزعا ، ولادمة للصّدر قلقا (2) والمرء فى سكرة ملهية ، وغمرة كارثة (3) وأنّة موجعة ، وجذبة مكربة ، وسوقة متعبة. ثمّ أدرج فى أكفانه مبلسا (4) وجذب منقادا سلسا ، ثمّ ألقى على الأعواد رجيع وصب (5) ونضو سقم ، تحمله حفدة الولدان (6) وحشدة الإخوان ، إلى دار غربته ، ومنقطع زورته (7) حتّى إذا انصرف المشيّع ، ورجع المتفجّع ، أقعد فى حفرته نجيّا لبهتة السّؤال ، وعثرة (Cool الامتحان ، وأعظم
    __________________
    جمع غابر ، أى : باق ، أى : فى بقايا تعنته على الحق ، وعدم انقياده له ، والسنن : الطريقة ، والمرح : شدة الفرح والبطر
    (1) «ظل سادرا» أى : جائرا ، وذلك بعد ما غشيته فجعات المنية ، وهى عوارض الأمراض المهلكة التى تفضى إلى الموت
    (2) اللادمة : الضاربة
    (3) الغمرة : الشدة تحيط بالعقل والحواس ، والكارثة القاطعة للآمال ، أو من «كرثه الغم» إذا اشتد عليه ، والأنة ـ بفتح فتشديد ـ الواحدة من الأن ، أى : التوجع ، و «جذبة مكربة» أى : جذبات الأنفاس عند الاحتضار ، والسوقة : من ساق المريض نفسه عند الموت سوقا وسياقا ، وسيق ـ على المجهول ـ أسرع فى نزع الروح
    (4) أبلس يبلس : يئس ، فهو مبلس ، و «سلسا» أى : سهلا لعدم قدرته على الممانعة
    (5) الرجيع من الدواب : ما رجع به من سفر إلى سفر فكل ، والوصب : التعب ، ونضو ـ بالكسر ـ مهزول
    (6) الحفدة : الأعوان ، والحشدة : المسارعون فى التعاون
    (7) منقطع الزورة : حيث لا يزار
    (Cool النجى : من تحادثه سرا ، والميت لا يسمع كلامه سوى الملائكة المكلمين له ، وبهتة السؤال : حيرته

    ما هنالك بليّة نزول الحميم (1) ، وتصلية الجحيم ، وفورات السّعير ، وسورات الزّفير ، لا فترة مريحة (2) ولا دعة مزيحة ، ولا قوّة حاجزة ، ولا موتة ناجزة ، ولا سنة مسلية ، بين أطوار الموتات (3) وعذاب السّاعات!! إنّا باللّه عائذون. عباد اللّه ، أين الّذين عمّروا فنعموا (4) وعلّموا ففهموا ، وأنظروا فلهوا (5) وسلموا فنسوا (6)؟ أمهلوا طويلا ، ومنحوا جميلا ، وحذّروا أليما ، ووعدوا جسيما!! احذروا الذّنوب المورّطة ، والعيوب المسخطة (7) أولى الأبصار والأسماع ، والعافية والمتاع! هل من مناص ، أو خلاص
    __________________
    (1) الحميم فى الأصل : الماء الحار ، والتصلية : الاحراق. والمراد هنا دخول جهنم ، والسورة : الشدة ، والزفير : صوت النار عند توقدها
    (2) الفترة : السكون ، أى : لا يفتز العذاب حتى يستريح المعذب من الألم ، ولا تكون دعة ـ أى : راحة حتى تزيح ما أصابه من التعب ، وليست قوه تحجز عنه ، وترد غواشى العذاب ، ولا بموته يجد موتة حاضرة تذهب باحساسه عن الشعور بتلك الآلام ، والناجز : الحاضر ، والسنة ـ بالكسر ـ والتخفيف ـ أوائل النوم ، مسلية ملهية عن الألم
    (3) «أطوار الموتات ـ الخ» كل نوبة من نوب العذاب كأنها موت لشدتها ، وأطوار هذه الموتات : ألوانها ، وأنواعها
    (4) «عمروا ـ الخ» عاشوا فتنعموا
    (5) أمهلوا فألهاهم المهل عن العمل ، وذلك بعد أن علموا ففهموا ، وكان مقتضى الفهم أن لا يغتروا بالمهلة ، ويضيعوا الفرصة
    (6) سلمت عاقباتهم وأرزاقهم فنسوا نعمة اللّه فى السلامة.
    (7) المورطة : المهلكة

    أو معاذ ، أو ملاذ ، أو فرار ، أو محار؟ (1) أم لا؟ فأنّى تؤفكون (2)! أم أين تصرفون؟ أم بما ذا تغترّون؟ وإنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطّول والعرض قيد قدّه (3) متعفّرا على خدّه. الآن عباد اللّه والخناق مهمل (4) والرّوح مرسل ، فى فينة الإرشاد (5) وراحة الأجساد ، وباحة الاحتشاد (6) ومهل البقيّة ، وأنف المشيّة (7) وإنظار التّوبة ، وانفساح الحوبة (Cool قبل الضّنك والمضيق ، والرّوع والزّهوق (9) وقبل قدوم الغائب المنتظر (10) وأخذة العزيز المقتدر. قال الشريف : وفى الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود ، وبكت العيون ، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمى هذه الخطبة «الغراء»
    __________________
    (1) «محار» أى : مرجع إلى الدنيا بعد فراقها
    (2) تؤفكون : تقلبون ، أى : تنقلبون
    (3) قيد قده ـ بكسر القاف وفتحها من الثانى ـ مقدار طوله ، يريد مضجعه من القبر
    (4) الخناق : الحبل الذى يخنق به ، وإهماله : عدم شده على العنق مدى الحياة ، أى : وأنتم فى قدرة من العمل وسعة من الأمل
    (5) الفينة ـ بالفتح ـ الحال والساعة والوقت ويروى «فينة الارتياد» بمعنى الطلب
    (6) باحة الدار : ساحتها ، والاحتشاد : الاجتماع ، أى : أنتم فى ساعة يسهل عليكم فيها التعاون على البر بالاجتماع بعضكم على بعض
    (7) أنف ـ بضمتين ـ مستأنف المشيئة ، أى : لو أردتم استئناف مشيئة وإرادة حسنة لأمكنكم
    (Cool الحوبة : الحالة أو الحاجة
    (9) الروع : الخوف ، والزهوق الاضمحلال
    (10) الغائب المنتظر : الموت

    82 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فى ذكر عمرو بن العاص
    عجبنا لابن النّابغة (1) يزعم لأهل الشّام أنّ فىّ دعابة (2) وأنّى امرؤ تلعابة : أعافس وأمارس (3) لقد قال باطلا ، ونطق آثما. أما ، وشرّ القول الكذب إنّه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، ويسأل فيلحف (4) ويسأل فيبخل ، ويخون العهد ، ويقطع الإلّ (5) فإذا كان عند الحرب فأىّ زاجر وآمر هو؟؟!! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها (6) فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبّته (7) أما واللّه إنّى ليمنعنى من اللّعب ذكر الموت ، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة ، إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّة ، ويرضخ له على ترك الدّين رضيخة (Cool
    __________________
    (1) النابغة : المشهورة فيما لا يليق بالنساء ، من «نبغ» إذا ظهر
    (2) الدعابة ـ بالضم ـ المزاح واللعب ، وتلعابة ـ بالكسر ـ كثير اللعب
    (3) أعافس : أعالج الناس وأضاربهم مزاحا ، ويقال : المعافسة : معالجة النساء بالمغازلة ، والممارسة كالمعافسة
    (4) «فيلحف» أى : يلح «ويسأل» هاهنا مبنى للفاعل و «يسأل» فى الجملة بعدها مبنى للمفعول
    (5) الال ـ بالكسر ـ القرابة ، والمراد أنه يقطع الرحم
    (6) أى : إنه فى الحرب زاجر وآمر عظيم ، أى : محرض حاث. ما لم تأخذ السيوف مآخذها ، فعند ذلك يجبن كما قال «فاذا كان ذلك الخ»
    (7) السبة ـ بالضم ـ الاست. تقريع له بفعلته عند ما نازل أمير المؤمنين فى واقعة صفين ، فصال عليه وكاد يضرب عنقه ، فكشف عورته ، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه
    (Cool الأتية : العطية ، ورضخ له : أعطاه قليلا ، والمراد

    83 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له : الأوّل لا شىء قبله ، والآخر لا غاية له ، لا تقع الأوهام له على صفة ، ولا تقعد القلوب منه على كيفيّة (1) ولا تناله التّجزئة والتّبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب
    منها : فاتّعظوا عباد اللّه بالعبر النّوافع ، واعتبروا بالآى السّواطع (2) وازدجروا بالنّذر البوالغ (3) وانتفعوا بالذّكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة ، وانقطعت منكم علائق الأمنيّة ، ودهمتكم مفظعات الأمور (4) والسّياقة إلى الورد المورود (5) وكلّ نفس معها سائق وشهيد : سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها
    ومنها فى صفة الجنة :
    درجات متفاضلات ، ومنازل متفاوتات ، لا ينقطع نعيمها ، ولا يظعن
    __________________
    (10 ـ ن ـ ج ـ 1) بالأتية والرضيخة ولاية مصر
    (1) تقعد : مجاز عن استقرار حكمها ، أى : ليست له كيفية فتحكم بها.
    (2) الآى : جمع آية ، وهى الدليل. والسواطع : الظاهرة الدلالة
    (3) البوالغ : جمع البالغة غاية البيان لكشف عواقب التفريط. والنذر : جمع نذير ، بمعنى الانذار ، أو المخوف ، والمراد إنذار المنذرين
    (4) المفظعات : من «أفظع الأمر» إذا اشتد ، ويقال : أفظع الرجل ـ مبنيا للمجهول ـ إذا نزلت به الشدة
    (5) الورد ـ بالكسر ـ الأصل فيه الماء يورد للرى ، والمراد به الموت أو المحشر

    مقيمها ، ولا يهرم خالدها ، ولا يبأس ساكنها (1)
    84 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    قد علم السّرائر ، وخبر الضّمائر ، له الإحاطة بكلّ شىء ، والغلبة لكلّ شىء ، والقوّة على كلّ شىء. فليعمل العامل منكم فى أيّام مهله. قبل إرهاق أجله (2) ، وفى فراغه قبل أوان شغله ، وفى متنفّسه قبل أن يؤخذ بكظمه (3) وليمهّد لنفسه وقدومه ، وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته ، فاللّه اللّه ، أيّها النّاس ، فيما استحفظكم من كتابه ، واستودعكم من حقوقه ، فإنّ اللّه ، سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى ، ولم يدعكم فى جهالة ولا عمى : قد سمّى
    __________________
    (1) بئس ـ كسمع ـ اشتدت حاجته.
    (2) المهل ـ بفتحتين ـ المهلة والتؤدة ، والارهاق : مصدر «أرهق الرجل» تقول : «أرهقه قرنه فى الحرب» إذا غشيه ليقتله ، ومعنى «إرهاق الأجل» : أن يعجل المفرط عن تدارك ما فاته من العمل ، أى : يحول بينه وبينه والكلام من اول قوله «فليعمل العامل» إلى قوله «لدار إقامته» مأخوذ من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى خطبته المشهورة ، وهى «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم ، إن المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدرى ما اللّه صانع به ، وأجل قد بقى لا يدرى ما اللّه قاض فيه ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الهرم ، ومن الحياة قبل الموت ، فو الذى نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا من دار ، إلا الجنة أو النار»
    (3) «فى متنفسه» أى : فى سعة وقته ، يقال : «أنت فى متنفس؟؟؟ من أمرك» أى : فى سعة. والكظم ـ بالتحريك ـ الحلق ، أو مخرج النفس ، والأخذ بالكظم : كناية عن التضييق عند مداركة الأجل

    آثاركم (1) وعلّم أعمالكم ، وكتب آجالكم ، وأنزل عليكم الكتاب تبيانا لكلّ شىء ، وعمّر فيكم نبيّه أزمانا (2) حتّى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الّذى رضى لنفسه ، وأنهى إليكم ، على لسانه ، محابّه من الأعمال ومكارهه (3) ونواهيه وأوامره ، فألقى إليكم المعذرة ، واتّخذ عليكم الحجّة ، وقدّم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين يدى عذاب شديد ، فاستدركوا بقيّة أيّامكم ، واصبروا لها أنفسكم (4) ، فإنّها قليل فى كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة والتّشاغل عن الموعظة ، ولا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة (5) ولا تداهنوا فيهجم بكم (6) الإدهان على المصيبة.
    __________________
    (10 ـ ن ـ ج ـ 1) بالأتية والرضيخة ولاية مصر
    (1) بين لكم أعمالكم وحددها
    (2) عمر نبيه : مد فى أجله
    (3) محابه : مواضع حبه ، وهى الأعمال الصالحة
    (4) «اصبروا أنفسكم» اجعلوا لأنفسكم صبرا فيها ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : «وَاِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَاَلْعَشِيِّ» ويقال : «صبر فلان نفسه على كذا» أى : حبسها عليه ، يتعدى فينصب بنفسه
    (5) الظلمة : جمع ظالم ، وقد نهى عن الأخذ برخص المذاهب لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من ائمة الهدى فيما خف وسهل من الأحكام الشرعية. وقد يكون مراده : لا تساهلوا أنفسكم فى ترك تشديد المعصية ، ولا تسامحوها وترخصوا لها فى ارتكاب الصغائر والمحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر ، لأن من مرن على أمر تدرج من صغيرة إلى كبيرة ، فتسوء العاقبة ، وتقعوا فيما وقع فيه الظلمة من قبلكم
    (6) المداهنة : النفاق ، والمصانعة : إظهار خلاف ما فى الطوية ، والادهان : مثله وقال اللّه تعالى : «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:16 pm

    عباد اللّه ، إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه ، وإنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه ، والمغبون من غبن نفسه (1) والمغبوط من سلم له دينه (2) والسّعيد من وعظ بغيره ، والشّقىّ من انخدع لهواه. واعلموا أنّ يسير الرّياء شرك (3) ، ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان (4) ومحضرة للشّيطان. جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان ، الصّادق على شرف منجاة وكرامة ، والكاذب على شفا مهواة ومهانة ، ولا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب ، ولا تباغضوا فإنّها الحالقة (5) واعلموا أنّ الأمل يسهى العقل ، وينسى الذّكر (6) فأكذبوا الأمل فإنّه غرور ، وصاحبه مغرور.
    85 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    عباد اللّه ، إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه فاستشعر
    __________________
    (1) المغبون : المخدوع
    (2) والمغبوط : المستحق لتطلع النفوس إليه ، والرغبة فى نيل مثل نعمته
    (3) الرياء : أن تعمل ليراك الناس ، وقلبك غير راغب فيه
    (4) «منساة للايمان» : موضع لنسيانه ، وداعية الذهول عنه ، و «محضرة للشيطان» : مكان لحضوره ، وداع له
    (5) «فانها» أى : المباغضة «الحالقة» أى الماحية لكل خير وبركة.
    (6) الأمل الذى يذهل العقل وينسى ذكر اللّه وأوامره ونواهيه : هو استقرار النفس على ما وصلت إليه غير ناظرة إلى تغير الأحوال ، ولا آخذة بالحزم فى الأعمال

    الحزن ، وتجلبب الخوف ، (1) فزهر مصباح الهدى فى قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النّازل به ، (2) فقرّب على نفسه البعيد ، وهوّن الشّديد (3) : نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، (4) وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلا ، (5) وسلك سبيلا جددا ، (6) قد خلع سرابيل الشّهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به (7) فخرج من صفة العمى ، ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ، ومغاليق أبواب الرّدى ، قد أبصر
    __________________
    (1) استشعر : لبس الشعار ، وهو ما يلى البدن من اللباس ، وتجلبب : لبس الجلباب ، وهو ما يكون فوق جميع الثياب ، والحزن : العجز عن الوفاء بالواجب ، أو قلبى لا يظهر له أثر فى العمل الظاهر. أما الخوف فيظهر أثره فى البعد عما يغضب اللّه ، والمبادرة للعمل فيما يرضيه ، وذلك أثر ظاهر ، وزهر مصباح الهدى : تلألأ وأضاء
    (2) القرى ـ بالكسر ـ : ما يهيأ للضيف ، وهو هنا العمل الصالح يهيئه للقاء الموت وحلول الأجل
    (3) جعل الموت على بعده قريبا منه فعمل له ولذلك هان عليه الصبر عن اللذائذ الفانية ، والأخذ بالجد فى إحراز الفضائل السامية ، وذلك هو الشديد
    (4) ذكر اللّه فاستكثر من العمل فى رضاه ، والعذب والفرات : مترادفان
    (5) النهل : أول الشرب ، والمراد أخذ حظا لا يحتاج معه إلى العمل ، وهو الشرب الثانى ، وقال ابن أبى الحديد : «يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر من نهل ينهل نهلا ـ مثل طرب يطرب طربا ـ أى ، شرب حتى روى ، ويجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة ، ويريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل» اه‍ ببعض إيضاح.
    (6) الجدد ـ بالتحريك ـ : الأرض الغليظة ، أى : الصلبة المستوية ، ومثلها يسهل السير فيه.
    (7) الهم الواحد : هو هم الوقوف عند حدود الشريعة.

    طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره (1) ، استمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشّمس : قد نصب نفسه للّه ـ سبحانه ـ فى أرفع الأمور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كلّ فرع إلى أصله (2) مصباح ظلمات ، كشّاف عشاوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات (3) ، دليل فلوات (4) ، يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم : قد أخلص اللّه فاستخلصه فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها (5) ، ولا مظنّة إلاّ قصدها (6) ، قد أمكن الكتاب من زمامه (7)
    __________________
    (1) جمع غمر ـ بالفتح ـ وهو معظم البحر ، والمراد أنه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة
    (2) لأن من كان همه التزام حدود اللّه فى أوامره ونواهيه نفذت بصيرته إلى حقائق سر اللّه فى ذلك ، فصار من درجات العرفان بحيث لا يرد عليه أمر إلاّ أصدره على وجهه ، ولا يعرض له فرع إلا رده إلى أصله
    (3) عشاوات : جمع عشاوة ، وهى سوء البصر أو العمى ، أى : إنه يكشف عن ذوى العشاوات عشاواتهم. ويروى «عشوات» : جمع عشوة ـ بتثليث الأول ـ وهى الأمر الملتبس ، والمعضلات : الشدائد والأمور لا يهتدى لوجهها
    (4) الفلوات : جمع فلاة ، وهى الصحراء الواسعة ، مجاز عن مجالات العقول فى الوصول إلى الحقائق
    (5) أمها : قصدها
    (6) «مظنة» أى : موضع ظن لوجود الفائدة
    (7) الكتاب : القرآن ، وأمكنه من زمامه : تمثيل لانقياده لأحكامه ، كأنه مطية والكتاب يقوده إلى حيث شاء

    فهو قائده وإمامه ، يحلّ حيث حلّ ثقله (1) وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمّى عالما وليس به (2) فاقتبس جهائل من جهّال ، وأضاليل من ضلاّل ونصب للنّاس شركا من حبائل غرور ، وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمّن (3) من العظائم ، ويهوّن كبير الجرائم يقول «أقف عند الشّبهات» وفيها وقع ، «وأعتزل البدع» وبينها اضطجع : فالصّورة صورة إنسان ، والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه ، فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون؟ وأنّى تؤفكون؟ (4) والأعلام قائمة! والآيات واضحة! والمنار منصوبة! فأين يتاه بكم (5) بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام
    __________________
    (1) ثقل المسافر ـ محركة ـ : متاعه وحشمه ، وثقل الكتاب : ما يحمل من أوامر ونواه
    (2) «وآخر ـ الخ» : هذا عبد آخر غير العبد الذى وصفه بالأوصاف السابقة ، يخالف فى وصفه وصفه ، واقتبس : استفاد. جهائل : جمع جهالة ، ويراد منها هنا تصور الشىء على غير حقيقة ، ولا يستفاد من الجهال إلا ذلك ، والأضاليل الضلالات ، جمع ضلال على غير قياس ، أو هو جمع أضلولة ، ويقال : لا واحد لها من لفظها وهو الأشهر ، والضلال ـ بضم فتشديد ـ : جمع ضال
    (3) «عطف الحق ـ الخ» : حمل الحق على رغباته ، أى : لا يعرف حقا إلا إياها
    (4) تؤفكون : تقلبون وتصرفون ـ بالبناء للمجهول ـ والأعلام : الدلائل على الحق من معجزات ونحوها ، والمنار : جمع منارة ، والمراد هنا ما أقيم علامة على الخير والشر
    (5) يتاه بكم : من التيه بمعنى الضلال والحيرة ، وتعمهون : تتحيرون وعترة الرجل : نسله ورهطه

    الدّين ، وألسنة الصّدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن (1) وردوهم ورود الهيم العطاش (2) أيّها النّاس ، خذوها من خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت (3) ويبلى من بلى منّا وليس ببال» فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون (4) واعذروا من لا حجّة لكم عليه ، وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر (5)؟ وأترك فيكم الثّقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلى ، وفرشتكم المعروف من قولى وفعلى (6) وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسى ، فلا تستعملوا الرّأى فيما لا يدرك قعره البصر ، ولا تتغلغل إليه الفكر
    __________________
    (1) أى : أحلوا عترة النبى من قلوبكم محل القرآن من التعظيم والاحترام ، وإن القلب هو أحسن منازل القرآن
    (2) هلموا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم ـ أى : الابل العطشى ـ إلى الماء
    (3) خذوا هذه القضية عنه ، وهى «إنه يموت الميت من أهل البيت وهو فى الحقيقة غير ميت» لبقاء روحه ساطعة النور فى عالم الظهور
    (4) الجاهل يستغمض الحقيقة فينكرها ، وأشد الحقائق دقائق
    (5) الثقل هنا : بمعنى النفيس من كل شىء ، وفى الحديث عن النبى قال : «تركت فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتى» أى : النفيسين ، وأمير المؤمنين قد عمل بالثقل الأكبر ، وهو القرآن ، وترك الثقل الأصغر ـ وهو : ولداه ، ويقال : عترته ـ قدوة للناس
    (6) فرشتكم : بسطت لكم

    منها : حتّى يظنّ الظّانّ أنّ الدّنيا معقولة على بنى أميّة (1) تمنحهم درّها وتوردهم صفوها ، ولا يرفع عن هذه الأمّة سوطها ، ولا سيفها ، وكذب الظّانّ لذلك : بل هى مجّة من لذيذ العيش (2) يتطعّمونها برهة ، ثمّ يلفظونها جملة
    86 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمّا بعد ، فإنّ اللّه لم يقصم جبّارى دهر قطّ (3) إلاّ بعد تميّل ورخاء ، ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلاّ بعد أزل وبلاء ، وفى (4) دون ما استقبلتم من عتب ، وما استدبرتم من خطب ، معتبر! وما (5) كلّ ذى قلب بلبيب ، ولا كلّ ذى سمع بسميع ، ولا كلّ ناظر ببصير ، فيا عجبى ـ وما لى لا أعجب ـ من خطإ
    __________________
    (1) مقصورة عليهم ، مسخرة لهم ، كأنهم شدوها بعقال كالناقة «تمنحهم درها» أى : لبنها
    (2) مجة ـ بضم الميم ـ واحدة المج ـ بضمها أيضا ـ وهى نقط العسل أى : قطرة عسل تكون فى أفواههم كما تكون فى فم النحلة يذوقونها زمانا ثم يقذفونها وهذا التفسير أفضل من تفسير المجة ـ بالفتح ـ بالواحدة من مصدر «مج الشراب من فيه» إذا رمى به
    (3) يقصم : يهلك ، وحد القصم الكسر
    (4) جبر العظم طبه بعد الكسر حتى يعود صحيحا ، والأزل ـ بالفتح ـ الشدة
    (5) العتب ـ بسكون التاء ـ يريد منه عتب الزمان ، مصدر «عتب عليه» إذا وجد عليه ، وإذا وجد الزمان على شخص اشتد عليه وقهره ، والأصح أنه بتحريك التاء : إما مفرد بمعنى الأمر الكريه والفساد ، أو جمع عتبة ـ بالتحريك ـ بمعنى الشدة. يقال : «ما فى هذا الأمر رتبة ولا عتبة» أى : شدة. أى : إنكم لجديرون أن تعتبروا بأقل من الشدة المقبلة عليكم بعد ضعف أمركم وأقل من الخطب العظيم الذى مر بكم ، فكيف بمثل هذه الأمور الجسام ، فأنتم أجدر أن تعتبروا بها؟؟

    هذه الفرق على اختلاف حججها فى دينها! لا يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصىّ ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب (1) يعملون فى الشّبهات ويسيرون فى الشّهوات ، المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا (2) ، مفزعهم فى المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم فى المهمّات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرىء منهم إمام نفسه : قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات
    87 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أرسله على حين فترة من الرّسل ، وطول هجعة من الأمم ، واعتزام من الفتن (3) ، وانتشار من الأمور ، وتلظّ من الحروب (4) ، والدّنيا كاسفة النّور ظاهرة الغرور ، على حين اصفرار من ورقها (5) ، وإياس من ثمرها ، واغورار
    __________________
    (1) ولا يعفون ـ بكسر العين وتشديد الفاء ـ من «عففت عن الشىء» إذا كففت عنه
    (2) أى : يستحسنون ما بدا لهم استحسانه ، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليل بين. أو شريعة واضحة : يثق كل منهم بخواطر نفسه ، كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى ، على ما بها من جهل ونقص
    (3) الفترة بين الرسل : انقطاع الرسالة والوحى. والهجعة ـ بفتح فسكون ـ النومة ليلا ، والهجوع والتهجاع بفتح التاء ـ كذلك ، فأما الهجعة ـ بكسر فسكون ـ فهى الهيئة كالجلسة من الجلوس «اعتزام» من قولهم «اعتزم الفرس» إذا مر جامحا ، أى : وغلبة من الفتن. ويروى «اعترام» بالراء المهملة من العرام ، وهو الشرة ، ويقال : اعترمت الفرس ، إذا سقطت ومالت ، ويروى «اعتراض» بالضاد المعجمة بدل الميم
    (4) و «تلظ» أى : تلهب وفى التنزيل «فَأَنْذَرْتُكُمْ نٰاراً تَلَظّٰى»
    (5) هذا وما بعده تمثيل لتغير الدنيا ، وإشرافها على الزوال ، ويأس الناس من التمتع بها أيام الجاهلية. واغورار الماء : ذهابه ، ويروى «إعوار مائها» بالمهملة ـ من قولهم «فلاة عوراء» أى : لا ماء بها

    من مائها ، قد درست منار الهدى ، وظهرت أعلام الرّدى ، فهى متجهّمة لأهلها (1) عابسة فى وجه طالبها ، ثمرها الفتنة ، وطعامها الجيفة ، وشعارها الخوف ، ودثارها السّيف (2). فاعتبروا ، عباد اللّه ، واذكروا تيك الّتى آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون (3) وعليها محاسبون. ولعمرى ما تقادمت بكم ولا بهم العهود ، ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون ، (4) وما أنتم اليوم من يوم كنتم فى أصلابهم ببعيد. واللّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلاّ وها أنا ذا اليوم مسمعكموه ، وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس ولا شقّت لهم الأبصار ، ولا جعلت لهم الأفئدة فى ذلك الأوان إلاّ وقد أعطيتم مثلها فى هذا الزّمان. واللّه ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه ، ولا أصفيتم
    __________________
    (1) من «تجهمه» أى : استقبله بوجه كريه
    (2) «ثمرها الفتنة» أى : ليست لها نتيجة سوى الفتن والجيفة : إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار ، والشعار من الثياب : ما يلى البدن ، والدثار : فوق الشعار. ولما كان الخوف يتقدم السيف كان الخوف شعارا والسيف دثارا ، وأيضا فالخوف باطن والسيف ظاهر
    (3) «تيك» إشارة إلى سيئات الأعمال وبواطل العقائد ، وقبائح العادات ، و «هم بها مرتهنون» أى : محبوسون على عواقبها فى الدنيا من الذل والضعف
    (4) الأحقاب : جمع حقب ـ بالضم وبضمتين ـ قيل : ثمانون سنة ، وقيل : أكثر ، وقيل : هو الدهر

    به وحرموه (1) ولقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها (2) رخوا بطانها ، فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور ، فانّما هو ظلّ ممدود ، إلى أجل معدود.
    88 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، والخالق من غير رويّة (3) ، الّذى لم يزل قائما دائما ، إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج (4) ولا ليل داج ، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج ، ولا فجّ ذو اعوجاج ، ولا أرض ذات مهاد ، ولا خلق ذو اعتماد : ذلك مبتدع الخلق ووارثه (5) وإله الخلق
    __________________
    (1) يريد أن حالهم كحال من سبقهم ، وأن من السابقين من اهتدى بهدى الرسول فنجا من سوء عاقبة ما كان فيه ، ومنهم من جهل فحل به من النكال ما حل ، والامام اليوم مع هؤلاء كما كان الرسول مع أولئك ، وحال السامعين فى المدارك كحال السابقين ، وليسوا هؤلاء مختصين بشىء حرمه أولئك ، ولا عالمين بأمر جهلوه ، «أصفيتم» أى : خصصتم ، مبنى للمجهول
    (2) الخطام ـ ككتاب ـ : ما جعل فى أنف البعير لينقاد به ، وجولان الخطام : حركته وعدم استقراره لأنه غير مشدود. والعبارة تصوير لانطلاق الفتنة تأخذ فيهم مآخذها : لا مانع لها ولا مقاوم ، وبطان البعير : حزام يجعل تحت بطنه ، ومتى استرخى كان الراكب على خطر السقوط (3) روية : فكر ، وإمعان نظر
    (4) الأرتاج : جمع رتج ـ بالتحريك ـ وهو الباب العظيم ، والداجى : المظلم ، والساجى : الساكن ، والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، والمهاد ـ بزنة كتاب ـ الفراش. والخلق : بمعنى المخلوق و «ذو اعتماد» أى : بطش وتصرف بقصد وإرادة.
    (5) مبتدع الخلق : منشئه من العدم المحض ، ووارثه : الباقى بعده

    ورازقه ، والشّمس والقمر دائبان فى مرضاته (1) : يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد ، قسم أرزاقهم ، وأحصى آثارهم وأعمالهم ، وعدد أنفاسهم ، وخائنة أعينهم ، وما تخفى صدورهم من الضّمير (2) ومستقرّهم ومستودعهم من الأرحام والظّهور ، إلى أن تتناهى بهم الغايات ، هو الّذى اشتدّت نقمته على أعدائه فى سعة رحمته واتّسعت رحمته لأوليائه فى شدّة نقمته ، قاهر من عازّه (3) ومدمّر من شاقّه ، ومذلّ من ناوأه ، وغالب من عاداه ، ومن توكّل عليه كفاه ، ومن سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه (4) ، ومن شكره جزاه. عباد اللّه ، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا (5) وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السّياق (6) واعلموا أنّه من
    __________________
    (1) دائبان : تثنية دائب ، وهو المجد المجتهد ، وصفهما بذلك لتعاقبهما على حال واحدة لا يفتران ولا يسكنان ، وذلك كما أراد اللّه سبحانه
    (2) «من الضمير» بيان لما تخفى الصدور ، وذلك أخفى من خائنة الأعين ، وهى : ما يسارق من النظر إلى ما لا يحل ، وتلك أخفى مما قبلها من الأرحام والظهور ، أى : فيها. أو تكون «من» للتبعيض ، أى : الجزء الذى كانوا فيه من أرحام الأمهات وظهور الآباء
    (3) عازه : رام مشاركته فى شىء من عزته ، وشاقه : نازعه ، وناوأه : خالفه
    (4) جعل تقديم العمل الصالح بمنزلة القرض ، والثواب عليه بمنزلة قضاء الدين ، إظهارا لتحقق الجزاء على العمل. قال تعالى : «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً»
    (5) يقول : اعتبروا أعمالكم وأنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط قبل أن يكون هذا الاعتبار فعل غيركم وأنتم لا تقدرون على استدراك ما يكون قد فرط منكم
    (6) العنف ـ بضم فسكون ـ ضد الرفق ، ويقال : عنف عليه ، وعنف به ـ من باب كرم فيهما ـ وأصل العنيف الذى لا رفق له بركوب الخيل ، وجمعه عنف ـ وتقول أيضا : اعتنفت الأمر ، إذا أخذته بقوة وعنف ، أى : انقادوا إلى ما يطلب منكم بالحث الرفيق قبل أن تساقوا إليه بالعنف الشديد

    لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ (1)
    89 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    تعرف بخطبة الأشباح ، وهى من جلائل خطبه عليه السّلام ، وكان سأله سائل أن يصف اللّه حتى كأنه يراه عيانا ، فغضب عليه السّلام لذلك الحمد للّه الّذى لا يفره المنع والجمود (2) ، ولا يكديه الإعطاء والجود ، إذ كلّ معط منتقص سواه ، وكلّ مانع مذموم ما خلاه ، وهو المنّان بفوائد النّعم ، وعوائد المزيد والقسم ، عياله الخلق : ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم ، ونهج سبيل الرّاغبين إليه ، والطّالبين ما لديه ، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ، الأوّل الّذى لم يكن له قبل فيكون شىء قبله ، والآخر
    __________________
    (1) «من لم يعن» ـ مبنى للمجهول ـ أى : من لم يساعده اللّه على نفسه حتى يكون لها من وجدانها منبه لم ينفعه تنبيه غيره ، ويجوز أن يكون مبنيا للفاعل ، أى : من لم يعن الزواجر على نفسه ، والتذكير والاعتبار ، لم تؤثر فيه
    (2) لا يفره : لا يزيد ما عنده البخل والجمود ـ وهو أشد البخل ـ و «لا يكديه» أى : لا يفقره ، ولا ينفد خزائنه ، ويقال : كدت الأرض تكدى فهى كادية ، إذا أبطأ نبتها وقل خيرها ، وتقول : أكديت الأرض ، إذا جعلتها كادية ، ويقال : أكدى الرجل ، إذا قل خيره ، وفى التنزيل «وَأَعْطىٰ قَلِيلاً وَأَكْدىٰ»

    الّذى ليس له بعد فيكون شىء بعده ، والرّادع أناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه (1) ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولا كان فى مكان فيجوز عليه الانتقال ، ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال (2) وضحكت عنه أصداف البحار ، من فلزّ اللّجين والعقيان (3) ونثارة الدّرّ وحصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الإنعام ما لا تنفده مطالب الأنام (4) ، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين (5) ولا يبخله إلحاح الملحّين. فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به (6) ، واستضئ بنور هدايته ، وما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس فى
    __________________
    (1) أناسى : جمع إنسان ، وإنسان البصر : هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها فى لونها
    (2) أبدع الامام فى تسمية انفلاق المعادن عن الجواهر تنفسا ، فان أغلب ما يكون من ذلك ، بل كله ، عن تحرك المواد الملتهبة فى جوف الأرض إلى الخارج ، وهى فى تبخرها أشبه بالنفس ، كما أبدع فى تسمية انفتاح الصدف عن الدر ضحكا
    (3) الفلز ـ بكسر الفاء واللام ـ الجوهر النفيس ، واللجين : الفضة الخالصة ، والعقيان : ذهب ينمو فى معدنه ، ونثارة الدر ـ بالضم ـ منثوره ، وفعالة ـ بالضم ـ فاش كثير الورود فيما كان موضوعا للجيد المختار : كالخلاصة ، أو الساقط المتروك : كالقلامة ، وحصيد المرجان : محصوده يشير إلى أن المرجان نبات ، وقد حققته كاشفات الفنون جديدها وقديمها
    (4) أنفده : بمعنى أفناه ، ونفد ـ كفرح ـ أى : فنى
    (5) يغيض ـ بفتح حرف المضارعة ـ من «غاض» المتعدى يقال : غاض الماء لازما ، وغاضه اللّه متعديا. ويقال : أغاضه أيضا ، وكلاهما بمعنى أنقصه وأذهب ما عنده ، ويبخله ـ بالتخفيف ـ من «أبخلت فلانا» وجدته بخيلا. أما بخله ـ بالتشديد ـ فمعناه رماه بالبخل
    (6) «ائتم به» أى : اتبعه فصفه كما وصفه اقتداء به

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:22 pm

    الكتاب عليك فرضه ولا فى سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأئمّة الهدى أثره ، فكل علمه إلى اللّه سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك. واعلم أنّ الرّاسخين فى العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب (1) فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التّعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين : هو القادر الّذى إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته (2) وحاول الفكر المبرّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه فى عميقات غيوب ملكوته (3) وتولّهت القلوب إليه (4) لتجرى فى كيفيّة صفاته (5) وغمضت مداخل العقول فى حيث لا تبلغه الصّفات لتناول علم ذاته (6) ردعها وهى تجوب مهاوى سدف الغيوب (7) متخلّصة إليه ، سبحانه ، فرجعت
    __________________
    (1) السدد : جمع سدة ، وهى باب الدار ، والاقرار : فاعل «أغناهم»
    (2) ارتمت الأوهام : ذهبت أمام الأفكار كالطليعة لها ، ومنقطع الشىء : ما إليه ينتهى
    (3) «مبرأ ـ الخ» أما الملابس لهذه الخطرات فمعلوم أنه لا يصل إلى شىء لوقوفه عند وساوسه.
    (4) تولهت القلوب إليه : اشتد عشقها حتى أصابها الوله ـ وهو الحيرة ـ وقوى ميلها لمعرفة كنهه
    (5) لتجرى الخ : لتجول ببصائرها فى تحقيق كيف قامت صفاته بذاته ، أو كيف اتصف سبحانه بها
    (6) «وغمضت ـ الخ» أى : خفيت طرق الفكر ودقت ، وبلغت فى الخفاء والدقة إلى حد لا يبلغه الوصف
    (7) «ردعها ـ الخ» جواب للشرط فى قوله «إذا ارتمت ـ الخ» وردعها : كفها (11 ـ ن ـ ج ـ 1) وردها ، والمهاوى : المهالك ، والسدف ـ بضم ففتح ـ جمع سدفة ، وهى القطعة من الليل المظلم ، وجبهت : من جبهه إذا ضرب جبهته ، والمراد ردت بالخيبة

    إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بحور الاعتساف كنه معرفته (1) ولا تخطر ببال أولى الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته (2) الّذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله (3) ولا مقدار احتذى عليه ، من خالق معهود كان قبله ، وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك (4) قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، وظهرت فى البدائع الّتى أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ودليلا عليه ، وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم
    __________________
    (1) الجور : العدول عن الطريق ، والاعتساف : سلوك غير جادة. وسلوك العقول فى أى طريق طلبا لاكتناه ذاته ، وللوقوف على ما لم يكلف الوقوف عليه من كيفية صفاته ، يعد جورا أو عدولا عن الجادة ، فان العقول الحادثة ليس فى طبيعتها ما يؤهلها للاحاطة بالحقائق الأزلية ، اللهم إلا ما دلت عليه الآثار ، وذلك هو الوصف الذى جاء فى الكتاب والسنة ، و «كنه معرفته» نائب فاعل «ينال»
    (2) الرويات : جمع روية ، وهى الفكر
    (3) ابتدع الخلق : أوجده من العدم المحض على غير مثال سابق «امتثله» أى : حاذاه و «لا مقدار سابق احتذى عليه» أى : قاس وطبق عليه ، وكان ذلك المثال أو المقدار من خالق معروف سبقه بالخلقة ، أى : لم يقتد بخالق آخر فى شىء من الخلقة ، إذ لا خالق سواه
    (4) المساك ـ كسحاب ، ويكسر ـ ما به يمسك الشىء كالملاك ما به يملك «إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ» وقد جعل الحاجة الظاهرة من المخلوقات

    حقاق مفاصلهم (1) المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك (2) ولم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك ، وكأنّه لم يسمع تبرّؤ التّابعين من المتبوعين إذ يقولون : «تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ» كذب العادلون بك (3) إذ شبّهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم (4). وجزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم ، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى (5) بقرائح عقولهم ، وأشهد أنّ من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك ، والعادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك ، ونطقت عنه شواهد حجج
    __________________
    إلى إقامة وجودها بما يمسكها من قوته بمنزلة الناطق بذلك المعترف به ، وقوله «باضطرار» متعلق بدلنا ، و «على معرفته» متعلق به أيضا ، أى : دلنا على معرفته بسبب أن قيام الحجة اضطرنا لذلك ، و «ما دلنا» مفعول لأرانا ، و «ظهرت فى البدائع الخ» معطوف على «أرانا»
    (1) الحقاق : جمع حق ـ بضم الحاء ـ وهو رأس العظم عند المفصل ، واحتجاب المفاصل : استتارها باللحم والجلد ، وذلك الاستتار مما له دخل فى تقوية المفاصل على تأدية وظائفها التى هى الغاية من وضعها فى تدبير حكمة اللّه فى خلقة الأبدان ، والمراد من شبهه بالانسان ونحوه
    (2) غيب الضمير : باطنه ، والمراد منه هنا العلم واليقين ، أى : لم يحكم بيقينه فى معرفتك بما أنت أهل له.
    (3) العادلون بك. الذين عدلوا بك غيرك ، أى : سووه بك وشبهوك به
    (4) نحلوك : أعطوك ، وحلية المخلوقين : صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها ، أى : وصفوك بصفات المخلوقين ، وذلك إنما يكون من الوهم الذى لا يصل إلى غير الأجسام ولواحقها ، دون العقل الذى يحكم فيما وراء ذلك
    (5) قدروك : قاسوك

    بيّناتك ، وإنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه فى العقول فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا (1) ولا فى رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا (2)
    ومنها : قدّر ما خلق فألطف تقديره ، ودبّره فأحكم تدبيره ، ووجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصّر دون الانتهاء إلى غايته ، ولم يستصعب إذ أمر بالمضىّ على إرادته (3) وكيف وإنّما صدرت الأمور عن مشيئته؟ المنشىء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها (4) ولا تجربه أفادها من حوادث الدّهور (5) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ خلقه وأذعن لطاعته ، وأجاب إلى دعوته ، ولم يعترض دونه ريث المبطىء (6) ولا أناة المتلكّئ (7) فأقام من الأشياء أودها (Cool ونهج
    __________________
    (1) أى : لم تكن متناهيا محدود الأطراف حتى تحيط بك العقول فتكيفك بكيفية مخصوصة
    (2) «مصرفا» أى : تصرفك العقول بأفهامها فى حدودك
    (3) استصعب المركوب : لم ينقد فى السير لراكبه ، وكل مخلوق خلقه اللّه لأمر أراده بلغ الغاية مما أراد اللّه منه ولم يقصر دون ذلك منقادا غير مستصعب
    (4) غريزة : طبيعة ومزاج ، أى : ليس له مزاج كما للمخلوقات الحساسة فينبعث عنه إلى الفعل ، بل هو انفعال بما له بمقتضى ذاته ، لا بأمر عارض
    (5) أفادها : استفادها
    (6) «لم يعترض دونه» أى : دون الخلق وإجابة دعوة اللّه ، والريث : التثاقل عن الأمر ، أى : أجاب الخلق دعوة الخالق فيما وجهت إليه فطرته بدون مهل
    (7) الأناة : تؤدة يمازجها روية فى اختيار العمل وتركه والمتلكئ : المتعلل ، يقول : أجاب العبد ربه طائعا مقهورا بلا تلكؤ
    (Cool أودها : اعوجاجها

    حدودها (1) ، ولاءم بقدرته بين متضادّها ، ووصل أسباب قرائنها (2) وفرّقها أجناسا مختلفات فى الحدود والأقدار والغرائز والهيئات (3) بدايا خلائق أحكم صنعها (4) وفطرها على ما أراد وابتدعها.
    منها فى صفة السماء :
    ونظم بلا تعليق رهوات فرجها (5) ، ولاحم صدوع انفراجها (6) ، ووشّج بينها وبين أزواجها (7). وذلّل للهابطين بأمره ، والصّاعدين بأعمال
    __________________
    (1) نهج : عين ورسم
    (2) قرائنها : جمع قرينة ، وهى : النفس ، أى : وصل حبال النفوس ـ وهى من عالم النور ـ بالأبدان ، وهى من عالم الظلمة
    (3) الغرائز : الطبائع
    (4) بدايا : جمع بدىء ، أى : مصنوع
    (5) رهوات : جمع رهوة ، أى : المكان المرتفع. ويقال للمنخفض أيضا ، فهو من الأضداد ، والفرج : جمع فرجة ـ بضم فسكون ـ وهى المكان الخالى ، يقول : قد فرج اللّه ما بين جرم وآخر من الأجرام السماوية ، ونظمها على ذلك سماء ، بدون تعليق إحداها بالأخرى ، وربطها بها بآلة حسية
    (6) لاحم أى : ألصق ، والصدوع : جمع صدع ، وهو الشق ، أى : ما كان فى الجرم الواحد منها من صدع لحمه سبحانه ، وأصلحه فسواه ، وذلك كما كان فى بدء خلقه الأرض ، وانفصالها عن الأجرام السماوية ، وانفراج الأجرام عنها ، فما تصدع بذلك أصلحه اللّه : «أَوَلَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا»
    (7) «وشج» بالتضعيف ـ أى : شبك من «وشج حمله» إذا شبكه بالأربطة حتى لا يسقط منه شىء ، وتقول «وشجت الغصون» بالتخفيف ـ أى : اشتبكت ، وتقول : «بيننا رحم واشجة» أى : مشتبكة ، أى : أنه سبحانه شبك بين كل سماء وأجرامها ، وبين أزواجها ـ أى : أمثالها وقرنائها ـ من الأجرام الأخرى ، فى الطبقات العليا والسفلى عنها ، بالروابط الماسكة المعنوية العامة ، وهى من أعظم المظاهر لقدرته

    خلقه ، حزونة معراجها (1) ، ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها (2). وأقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها (3) وأمسكها من أن تمور فى خرق الهواء بأيده (4) ، وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها (5) وقمرها آية ممحوّة
    __________________
    (1) الهابطين والصاعدين : الأرواح العلوية والسفلية ، والحزونة : الصعوبة ، وقوله «ناداها ـ الخ» : رجوع إلى بيان بعض ما كانت عليه قبل النظم ، يقول : كانت السموات هباء مائرا أشبه بالدخان منظرا ، وبالبخار مادة ، فتجلى من اللّه فيها سر التكوين فالتحمت عرى أشراجها ، والأشراج : جمع شرج بالتحريك ـ : وهو العروة ، وهى مقبض الكوز والدلو وغيرهما ، وتقول «أشرجت العيبة» أى : أقفلت أشراجها ، وتسمى مجرة السماء شرجا ، تشبيها بشرج العيبة ، وأشراج الوادى ما انفسح منه ، على التشبيه ، وأشار باضافة العرى للاشراج إلى أن كل جزء من مادتها عروة للآخر يجذبه إليه ليتماسك به ، فكل ماسك وكل ممسوك : فكل عروة ، وله عروة.
    (2) بعد أن كانت جسما واحدا فتق اللّه رتقه ، وفصلها إلى أجرام بينها فرج وأبواب ، وأفرغ ما بينها بعد ما كانت صوامت ، أى : لا فراغ فيها
    (3) النقاب : جمع نقب ، وهو الخرق ، «والشهب الثواقب» أى : الشديدة الضياء والرصد : القوم يرصدون كالحرس. وكون الرصد من الشهب فى أصل تكوين الخلقة كما قال الامام : دليل على ما أثبته العلم من أن الشهب مغذيات لبعض أجرام الكواكب بما نظمه لها من التفاتق ، فما نقب وخرق من جرم عوض بالشهاب ، وذلك أمر آخر غير ما جاء فى الكتاب العزيز فما جاء فى الكتاب بمعنى آخر.
    (4) «وأمسكها من أن تمور» أى : تضطرب فى الهواء «بأيده» أى : بقوته : «وأمرها أن تقف» أى : تلزم مراكزها لا تفارق مداراتها ، لا بمعنى أن تسكن.
    (5) «مبصرة» أى : جعل شمس هذه الأجرام السماوية مضيئة يبصر بضوئها مدة النهار كله دائما

    من ليلها (1) فأجراهما فى مناقل مجراهما ، وقدّر سيرهما فى مدارج درجهما ليميّز بين اللّيل والنّهار بهما ، وليعلم عدد السّنين والحساب بمقاديرهما ، ثمّ علّق فى جوّها فلكها (2) ، وناط بها زينتها : من خفيّات دراريها ومصابيح كواكبها (3) ورمى مسترقى السّمع بثواقب شهبها ، وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ، ومسير سائرها ، وهبوطها وصعودها ، ونحوسها وسعودها (4)
    ومنها فى صفة الملائكة :
    ثمّ خلق سبحانه لاسكان سمواته ، وعمارة الصّفيح الأعلى (5) من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ، ملأ بهم فروج فجاجها ، وحشا بهم فتوق أجوائها (6) وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم فى حظائر القدس ، وسترات
    __________________
    (1) ممحوة : يمحى ضوءها فى بعض أطراف الليل فى أوقات من الشهر ، وفى جميع الليل أياما منه ، ومناقل مجراهما الأوضاع التى ينقلان فيها من مداريهما
    (2) فلكها : هو الجسم الذى ارتكزت فيه ، وأحاط بها ، وفيه مدارها. و «ناط بها» أى : علق بها وأحاطها ، ودراريها : كواكبها وأقمارها. والأذلال : جمع ذل ـ بالكسر ـ وهو محجة الطريق ، أى : على الطرق التى سخرها فيها
    (3) نجومها الصغار
    (4) نحوسها وسعودها : من إقفار بعضها فى عالمه ، وريع بعضها على كونه
    (5) الصفيح : السماء ، ويقال لوجه كل شىء عريض : صفيح ، وصفحة. والفروج الأماكن الخالية ، والفجاج : جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، وحائطين
    (6) الأجواء : جمع جو ، وأصله ما اتسع من الأودية ، ويقال لما بين السماء والأرض من الفضاء «جو» وروى فى مكانه «أجوابها» بالباء موحدة ـ وهو جمع جوبة ، وهى الفرجة فى السحاب وغيره

    الحجب ، وسرادقات المجد (1) ووراء ذلك الرّجيج الّذى تستكّ منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها (2) فتقف خاسئة على حدودها (3) ، أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات أولى أجنحة تسبّح جلال عزّته لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعته ، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا ممّا انفرد به ، بل عباد مكرمون «لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه ، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ، وعصمهم من ريب الشّبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ، وأمدّهم بفوائد المعونة ، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة (4) وفتح لهم أبوابا ذللا (5) إلى تماجيده ، ونصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده (6)
    __________________
    (1) الزجل : رفع الصوت ، والحظائر : جمع حظيرة وهى المواضع يحاط عليه لتأوى إليه الغنم والابل توقيا من البرد والريح ، وهو مجاز ههنا عن المقامات المقدسة للأرواح الطاهرة ، والقدس ـ بضم فسكون ، أو بضمتين ـ الطهر ، والتقديس : التطهير ، والأرض المقدسة : المطهرة. والسترات : جمع سترة ، وهى ما يستتر به ، والسرادقات : جمع سرادق ، وهو ما يمد على صحن البيت فيغطيه
    (2) الرجيج : الزلزلة والاضطراب ، و «تستك منه» أى : تصم منه الآذان لشدته ، «وسبحات نور» أى : طبقات نور ، وأصل السبحات الأنوار نفسها
    (3) خاسئة : مدفوعة مطرودة عن الترامى إليها
    (4) الاخبات : الخضوع ، والخشوع
    (5) جمع ذلول : خلاف الصعب
    (6) قال بعض أهل اللغة : إن منارة تجمع على منار ، وإن لم يذكره صاحب القاموس ، وأرى أن منارا ههنا جمع منارة بمعنى المسرجة ، وهى : ما يوضع فيه الصباح ، والأعلام : ما يقام للاهتداء به على أفواه الطرق ومرتفعات الأرض ، والكلام تمثيل لما أنار به مداركهم حتى انكشف لهم سر توحيده

    لم تثقلهم موصرات الآثام (1) ولم ترتحلهم عقب اللّيالى والأيّام (2) ولم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم (3) ولم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم (4) ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم (5) ، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم (6) وما سكن من عظمته وهيبة جلالته فى أثناء صدورهم ، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم (7) : منهم من هو فى خلق الغمام الدّلّح (Cool وفى عظم الجبال الشّمّخ ، وفى قترة الظّلام الأبهم (9) ، ومنهم من خرقت
    __________________
    (1) مثقلاتها ، مأخوذ من الاصر ، وهو الثقل
    (2) ارتحله : وضع عليه الرحل ليركبه ، والعقب : جمع عقبة ، وهى النوبة. والليل والنهار لتعاقبهما ، أى : لم يتسلط عليهم تعاقب الليل والنهار فيفنيهم أو يغيرهم
    (3) النوازع : جمع نازعة وهى النجم أو القوس ، وعلى الأول المراد منها الشهب ، وعلى الثانى تكون الباء فى بنوازعها بمعنى من ، وروى فى مكانه «بنوازغها» بالغين المعجمة ـ وهو مأخوذ من «نزغ بينهم» أى : أفسد
    (4) جمع معقد : محل العقد ، بمعنى الاعتقاد.
    (5) الاحن : جمع إحنة ، وهى الحقد والضغينة
    (6) لاق : لصق ، و «أثناء صدورهم» جمع ثنى ، وهى التضاعيف
    (7) تقترع : يروى بالقاف المثناة ـ من الاقتراع ، بمعنى ضرب القرعة ، ويروى بالفاء الموحدة ، أى : تعلو برينها فرعه ، أى : علاه ، والرين ـ بفتح الراء ـ الدنس ، وما يطبع على القلب من حجب الجهالة وفى التنزيل : «كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ»
    (Cool جمع دالح ، وهو : الثقيل بالماء من السحاب
    (9) القترة هنا : الخفاء والبطون ، ومنها قالوا : أخذه على قترة ، أى : من حيث لا يدرى ، والأبهم ـ بباء موحدة بعد الهمزة ـ أصله من لا يعقل ولا يفهم ، وصف به الليل وصفا للشىء بما ينشأ عنه ، فان الظلام الحالك يوقع فى الحيرة ، ويأخذ بالفهم عن رشاده.

    أقدامهم تخوم الأرض السّفلى ، فهى كرايات بيض قد نفذت فى مخارق الهواء (1) وتحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ، قد استفرغتهم أشغال عبادته (2) ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه (3) ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره ، قد ذاقوا حلاوة معرفته ، وشربوا بالكأس الرّويّة من محبّته (4) وتمكّنت من سويداء قلوبهم (5) وشيجة خيفته (6) فحنوا بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم ، ولم ينفذ طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم (7) ولا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم (Cool ، ولم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، ولا تركت لهم استكانة الإجلال (9) نصيبا فى تعظيم حسناتهم ، ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ، ولم تغض رغباتهم (10) فيخالفوا عن رجاء ربّهم ، ولم
    __________________
    (1) مواضع ما خرقت أقدامهم
    (2) جعلتهم فارغين من الاشتغال بغيرها.
    (3) شدة الشوق إليه
    (4) الروية : التى تروى وتطفىء العطش
    (5) محل الروح الحيوانى من مضغة القلب
    (6) الوشيجة : أصلها عرق الشجرة ، أراد منها هنا بواعث الخوف من اللّه
    (7) أى : إن شدة رجائهم لم تفن مادة خوفهم وتذللهم
    (Cool جمع ربقة ـ بالكسر ، والفتح ـ وهى : العروة من عرى الريق ـ بكسر الراء ـ وهو : حبل فيه عدة عرى تربط فيه البهم
    (9) الاستكانة : ميل للسكون من شدة الخوف ، ثم استعملت فى الخضوع
    (10) دأب فى العمل : بالغ فى مداومته حتى أجهده

    تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم (1) ، ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم (2) ولم تختلف فى مقاوم الطّاعة مناكبهم (3) ، ولم يثنوا إلى راحة التّقصير فى أمره رقابهم ، ولا تعدو (4) على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ، ولا تنتضل فى هممهم خدائع الشّهوات (5) قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم (6). ويمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم (7) لا يقطعون أمد غاية عبادته ، ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته (Cool إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته (9) لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم (10) فينوا فى جدّهم (11) ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم (12) ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم ، ولو استعظموا
    __________________
    (1) الأسلات : جمع أسلة ، وأسلة اللسان : طرفه ، أى : لم تيبس أطراف ألسنتهم فتقف عن ذكره
    (2) الهمس : الخفى من الصوت ، والجؤار : رفع الصوت بالتضرع ، أى : لم يكن لهم عن اللّه شاغل يضطرهم للهمس والاخفاء وخفض جؤارهم بالدعاء إليه
    (3) المقاوم : جمع مقام ، والمراد الصفوف
    (4) لا تسطو
    (5) انتضلت الابل : رمت بأيديها فى السير سرعة. وخدائع الشهوات للنفس منها ، أى : لم تسلك خدائع الشهوات طريقا إلى هممهم فتفترها
    (6) حاجتهم
    (7) يمموه : قصدوه بالرغبة والرجاء عند ما انقطعت الخلق سواهم إلى المخلوقين
    (Cool الاستهتار : التولع
    (9) مواد : جمع مادة ، أصلها من «مد البحر» إذا زاد ، وكل ما أعنت به غيرك فهو مادة ، ويريد بها البواعث المعينة على الأعمال ، أى : كلما تولعوا بطاعته زادت بهم البواعث عليها من الرغبة والرهبة
    (10) الشفقة : الخوف
    (11) ونى ينى : تأنى
    (12) وشيك السعى : مقاربه وهينه ، أى : إنه لا طمع فى غيره فيختاروا هين السعى

    ذلك لنسخ الرّجاء منهم شفقات وجلهم (1) ولم يختلفوا فى ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم ، ولم يفرّقهم سوء التّقاطع ، ولا تولاّهم غلّ التّحاسد ، ولا شعبتهم مصارف الرّيب (2) ولا اقتسمتهم أخياف الهمم (3) فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ ، ولا عدول ولا ونى ولا فتور (4) وليس فى أطباق السّماء موضع إهاب (5) إلاّ وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد (6) يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما ، وتزداد عزّة ربّهم فى قلوبهم عظما
    ومنها فى صفة الأرض ودحوها على الماء (7).
    كبس الأرض (Cool على مور أمواج مستفحلة ، ولجج بحار زاخرة (9) تلتطم أواذىّ أمواجها (10) وتصطفق متقاذفات أثباجها (11) وترغو زبدا كالفحول
    __________________
    (1) الشفقات : تارات الخوف وأطواره ، وهو فاعل نسخ ، والرجاء : مفعول. والوجل : الخوف أيضا
    (2) شعبتهم : فرفتهم صروف الريب : جمع ريبة ، وهى ما لا تكون النفس على ثقة من موافقته للحق
    (3) جمع خيف ـ بالفتح ـ وهو فى الأصل : ما انحدر عن سفح الجبل ، والمراد هنا سواقط الهمم ، فان التفرق والاختلاف كثيرا ما يكون من انحطاط الهمة ، بل أعظم ما يكون منه ينشأ عن ذلك ، وقد يكون الخيف بمعنى الناحية ، أى : متطرفات الهمم
    (4) الونى : مصدر ونى ـ كتعب ـ أى : تأنى
    (5) جلد حيوان
    (6) خفيف ، سريع
    (7) دحوها : بسطها
    (Cool كبس النهر والبئر ، أى : طمهما بالتراب ، وعلى هذا كان حق التعبير كبس بها مور أمواج. لكنه أقام الآلة مقام المفعول لأنها المقصود بالعمل. والمور : التحرك الشديد ، والمستفحلة : الهائجة التى يصعب التغلب عليها
    (9) ممتلئة
    (10) جمع آذى ، وهو أعلى الموج
    (11) اصطفقت الأشجار : اهتزت بالريح والأثباج : جمع ثبج ـ بالتحريك ـ وهو فى الأصل ما بين الكاهل والظهر ، أو صدر القطاة ، استعاره لأعالى الموج ، التى يقذف بعضها بعضا

    عند هياجها ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها (1) ، وذلّ مستخذيا (2) إذ تمعّكت عليه بكواهلها (3) فأصبح بعد اصطخاب أمواجه (4) ساجيا مقهورا (5) ، وفى حكمة الذّلّ منقادا أسيرا (6) وسكنت الأرض مدحوّة فى لجّة تيّاره ، وردّت من نخوة باؤه واعتلائه (7) وشموخ أنفه وسموّ غلوائه (Cool وكعمته (9) على كظّة جريته (10) فهمد بعد نزقاته (11) ولبد بعد زيفان وثباته (12) فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكنافها (13) وحمل شواهق الجبال الشّمّخ البذّخ على أكتافها (14)
    __________________
    (1) هو فى الأصل الصدر ، استعاره لما لاقى الماء من الأرض
    (2) منكسرا ، مسترخيا
    (3) من «تمعكت الدابة» أى : تمرغت فى التراب
    (4) اصطخاب : افتعال من الصخب بمعنى ارتفاع الصوت
    (5) ساجيا : ساكنا
    (6) الحكمة ـ محركة ـ ما أحاط بحنكى الفرس من لجامه وفيها العذاران
    (7) الكبر ، والزهو
    (Cool بضم الغين وفتح اللام : النشاط وتجاوز الحد
    (9) كعم البعير ـ كمنع ـ شد فاه لئلا يعض أو يأكل ، وما يشد به كعام ـ ككتاب ـ
    (10) الكظة ـ بالكسر ـ ما يعرض من امتلاء البطن بالطعام ويراد بها هنا ما يشاهد فى جرى الماء من ثقل الاندفاع
    (11) النزق والنزقان الطيش
    (12) الزيفان : التبختر فى المشية ، ولبد ـ كفرح ونصر ـ أى : قام ووثب
    (13) نواحيها
    (14) البذخ بمعنى الشمخ ، جمع شامخ وباذخ ، أى : عال ورفيع غير أنى أجد من لفظ الباذخ معنى أخص وهو الضخامة مع الارتفاع ، وحمل : عطف على أكتاف

    فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها (1) ، وفرّقها فى سهوب بيدها وأخاديدها (2) وعدل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها (3) وذوات الشّناخيب الشّمم (4) من صياخيدها (5) فسكنت من الميدان (6) لرسوب الجبال فى قطع أديمها (7) وتغلغلها متسرّبة فى جوبات خياشيمها (Cool وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها (9) وفسح بين الجوّ وبينها ، وأعدّ الهواء متنسّما لساكنها ، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها (10) ثمّ لم يدع جرز الأرض (11) الّتى تقصر مياه
    __________________
    (1) عرانين : جمع عرنين ـ بالكسر ـ وهو ما صلب من عظم الأنف والمراد اعالى الجبال ، غير أن الاستعارة من ألطف أنواعها فى هذا المقام
    (2) السهوب : جمع سهب ـ بالفتح ـ أى : الفلاة ، والبيد : جمع بيداء ، والأخاديد : جمع أخدود ، وهى الحفر المستطيلة فى الأرض ، والمراد منها مجارى الأنهار
    (3) الضمير للأرض ، كما يظهر من بقية الكلام ، والجلاميد : جمع جلود ، وهو الحجر الصلد
    (4) الشناخيب : جمع شنخوب ، وهو رأس الجبل ، والشم : الرفيعة
    (5) جمع صيخود ، وهو : الصخرة الشديدة
    (6) بالتحريك : الاضطراب
    (7) سطحها
    (Cool التغلغل : المبالغة فى الدخول ، و «متسربة» أى : داخلة ، والجوبات : جمع جوبة ، بمعنى الحفرة ، والخياشيم : جمع خيشوم ، وهو منفذ الأنف إلى الرأس ، أو مارق من الغراضيف الكائنة فوق قصبة الأنف متصلة بالرأس وضمير «تغلغلها» للجبال ، و «خياشيمها» للأرض ، والمجاز ظاهر
    (9) ركوب الجبال أعناق السهول : استعلاؤها عليها ، وأعناقها : سطوحها ، وجراثيمها : ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابية ، واستعلاء الجبال عليها ظاهر
    (10) مرافق البيت : ما يستعان به فيه ، وما يحتاج إليه فى التعيش ، خصوصا ما يكون من الأماكن ، أو هو ما يتم به الانتفاع بالسكنى كمصاب المياه والطرق الموصله إليه والأماكن التى لا بد منها للساكنين فيه لقضاء حاجاتهم وما يشبه ذلك
    (11) الأرض الجرز ـ بضمتين ـ التى تمر عليها مياه العيون فتنبت

    العيون عن روابيها (1) ولا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها (2) حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيى مواتها (3) وتستخرج نباتها ، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه (4) وتباين قزعه (5) حتّى إذا تمخّضت لجّة المزن فيه (6) والتمع برفه فى كففه (7) ، ولم ينم وميضه فى كنهور ربابه (Cool ومتراكم سحابه ، أرسله سحّا متداركا (9) ، قد أسفّ هيدبه (10) تمريه الجنوب درر أهاضيبه ودفع شآبيبه (11)
    __________________
    (1) مرتفعاتها
    (2) ذريعة : وسيلة
    (3) الموات من الأرض : ما لا يزرع
    (4) جمع لمعة ـ بضم اللام ـ وهى فى الأصل القطعة من النبات مالت لليبس ، استعارها لقطع السحاب للمشابهة فى لونها وذهابها إلى الاضمحلال ، لو لا تأليف اللّه لها مع غيرها
    (5) جمع قزعة ـ محركة ـ وهى : القطعة من الغيم
    (6) تمخضت : تحركت تحركا شديدا كما يتحرك اللبن فى السقاء بالمخض ، والضمير فى «فيه» راجع إلى المزن ، أى : تحركت اللجة التى يحملها المزن فيه ، ويصح أن يرجع للغمام فى أول العبارة
    (7) جمع كفة ـ بضم الكاف ـ وهى الحاشية والطرف لكل شىء ، أى : جوانبه
    (Cool نامت النار : همدت ، والوميض : اللمعان ، والكنهور ـ كسفرجل ـ القطع العظيمة من السحاب ، أو المتراكم منه. والرباب ـ كسحاب ـ الأبيض المتلاحق منه. أى : لم يهمد لمعان البرق فى ركام هذا الغمام
    (9) سحا : متلاحقا متواصلا
    (10) أسف الطائر : دنا من الأرض ، والهيدب ـ كجعفر ـ السحاب المتدلى ، أو ذيله. وقوله «تمريه» من «مرى الناقة» أى : مسح على ضرعها ليحلب لبنها. والدرر ـ كعلل ـ جمع درة ـ بالكسر ـ وهى اللبن ، والأهاضيب : جمع أهضاب ، وهو جمع هضبة ـ كضربة ـ وهى المطرة ، أى : دنا السحاب من الأرض لثقله بالماء ، وريح الجنوب تستدر الماء كما يستدر الحالب لبن الناقة ، فان الريح تحركه فيصب ما فيه
    (11) جمع شؤبوب ، وهو ما ينزل من المطر بشدة

    فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها (1) ، وبعاع ما استقلّت به (2) من العبء المحمول عليها (3) أخرج به من هوامد الأرض النّبات (4) ومن زعر الجبال الأعشاب (5) فهى تبهج بزينة رياضها (6) وتزدهى (7) بما ألبسته من ريط (Cool أزاهيرها (9) وحلية ما سمطت به (10) من ناضر أنوارها (11) وجعل ذلك بلاغا للأنام (12) ورزقا للأنعام ، وخرق العجاج فى آفاقها ، وأقام المنار للسّالكين على جوّاد طرقها ،
    __________________
    (1) البرك ـ بالفتح ـ فى الأصل : ما يلى الأرض من جلد صدر البعير كالبركة ، والبوانى : هى أضلاع الزور ، وشبه السحاب بالناقة إذا بركت وضربت بعنقها على الأرض ولاطمتها بأضلاع زورها. واشتبه ابن أبى الحديد فى معنى البرك والبوانى فأخرج الكلام عن بلاغته
    (2) «وبعاع» عطف على «برك» والبعاع ـ بالفتح ـ : ثقل السحاب من الماء ، وألقى السحاب بعاعة : أمطر كل ما فيه.
    (3) العبء : الحمل
    (4) الهوامد من الأرض : ما لم يكن بها نبات
    (5) زعر ـ بالضم ـ جمع أزعر ، وهو الموضع : القليل النبات. والأنثى زعراء
    (6) بهج ـ كمنع ـ : سر وأفرح
    (7) تعجب
    (Cool جمع ريطة ـ بالفتح ـ وهى كل ثوب رقيق لين
    (9) جمع أزهار الذى هو جمع زهرة بمعنى النبات
    (10) «سمط» من «سمط الشىء» أى : علق عليه السموط ، وهى : الخيوط تنظم فيها القلادة
    (11) الأنوار : جمع نور ـ بفتح النون ـ وهو الزهر بالمعنى المعروف أى : حلية القلائد التى علقت عليها من أزهار نباتها ، وفى رواية «شمطت» بالشين وتخفيف الميم ـ من «شمطه» إذا خلط لونه بلون آخر ، والشميط من النبات : ما كان فيه لون الخضرة مختلطا بلون الزهر
    (12) البلاغ : ما يتبلغ به من القوت

    فلمّا مهد أرضه (1) ، وأنفذ أمره ، اختار آدم ، عليه السّلام ، خيرة من خلقه (2) وجعله أوّل جبلّته (3) وأسكنه جنّته ، وأرغد فيها أكله وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أنّ فى الاقدام عليه التّعرّض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه ـ موافاة لسابق علمه ـ فأهبطه بعد التّوبة ، ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلى ودائع رسالاته ، قرنا ، فقرنا ، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره (4) ، وقدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها وقسّمها على الضّيق والسّعة فعدل فيها ليبتلى من أراد بميسورها ومعسورها ، وليختبر بذلك الشّكر والصّبر من غنيّها وفقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها (5) وبسلامتها طوارق آفاتها ، وبفرج أفراحها (6)
    __________________
    (1) مهد أرضه : سواها وأصلحها ، ومنه المهاد ، وهو الفراش ، وتقول : مهدت الفراش ـ من باب قطع ـ أى : بسطته وسويته
    (2) يجوز فى خيرة أن تكون بكسر الخاء وفتح الياء ـ بوزان عنبة ـ وهو الاسم من قولك : اختار اللّه محمّدا ، ويجوز أن تكون بكسر الخاء والياء ساكنة
    (3) خلقته
    (4) المقطع : النهاية التى ليس وراءها غاية
    (5) العقابيل : الشدائد. جمع عقبولة ـ بضم العين ـ وأصل العقابيل قروح صغار تخرج بالشفة من آثار المرض ، والفاقة : الفقر
    (6) الفرج : جمع فرجة ، وهى التفصى من الهم (12 ـ ن ـ ج ـ 1)

    غصص أتراحها (1) وخلق الآجال فأطالها وقصّرها ، وقدّمها وأخّرها ، ووصل بالموت أسبابها (2) وجعله خالجا لأشطانها (3) ، وقاطعا لمرائر أقرانها (4) عالم السّرّ من ضمائر المضمرين ، ونجوى المتخافتين (5) وخواطر رجم الظّنون (6) وعقد عزيمات اليقين (7) ومسارق إيماض الجفون (Cool وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب (9) وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع (10)
    __________________
    (1) جمع ترح ـ بالتحريك ـ وهو : الغم والهلاك
    (2) حبالها
    (3) خالجا : جاذبا لأشطانها جمع شطن ـ كسبب ـ وهو الحبل الطويل ، شبه به الأعمار الطويلة
    (4) المرائر : جمع مريرة ، وهو الحبل يفتل على أكثر من طاق ، أو الشديد الفتل ، والأقران : جمع قرن ـ بالتحريك ـ وهو الحبل يجمع به بعيران وذكره لقوته أيضا ، وإضافة المرائر للأقران بعد استعمالها فى الشديدة بلا قيد أن تكون حبالا.
    (5) التخافت : المكالمة سرا
    (6) رجم الظنون : ما يخطر على القلب أنه وقع أو يصح أن يقع بلا برهان
    (7) العقد : جمع عقدة ، وهو ما يرتبط القلب بتصديقه : لا يصدق نقيضه ، ولا يتوهمه. والعزيمات : جمع عزيمة ، وهو ما يوجب البرهان الشرعى أو العقلى تصديقه والعمل به.
    (Cool جمع مسرق : مكان مسارقة النظر أو زمانها ، أو البواعث عليها ، أو من «فلان يسارق فلانا النظر» ، أى : ينتظر منه غفلة فينظر إليه. والايماض : اللمعان ، وهو أحق أن ينسب إلى العيون لا إلى الجفون ، ونسبته إلى الجفون لأنه ينبعث من بينها
    (9) ضمنته : حوته ، والأكنان : جمع كن ـ بالكسر ـ وهو كل ما يستتر فيه ، وغيابات الغيوب : أعماقها
    (10) استراق الكلام : استماعه خفية ، والمصائخ : جمع مصاخ ، وهو مكان الاصاخة ، وهو ثقبة الأذن

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:24 pm

    ومصائف الذّرّ (1) ومشاتى الهوامّ (2) ورجع الحنين من المولهات (3) وهمس الأقدام (4) ومنفسح الثّمرة من ولائج غلف الأكمام (5) ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها (6) ، ومختبإ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها (7) ومغرز الأوراق من الأفنان (Cool ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب (9) وناشئة الغيوم ومتلاحمها ، ودرور قطر السّحاب فى متراكمها ، وما تسفى الأعاصير بذيولها (10) وتعفو الأمطار بسيولها (11) وعوم نبات الأرض فى
    __________________
    (1) الذر : صغار النمل ، ومصائفها : محل إقامتها فى الصيف ، وهو وما بعده عطف على ضمائر المضمرين
    (2) مشاتيها : محل إقامتها فى الشتاء
    (3) المولهات : الحزينات ، ورجع الحنين : ترديده
    (4) الهمس : أخفى ما يكون من صوت القدم على الأرض
    (5) منفسح الثمرة : مكان نموها ، من الولائج : جمع وليجة ، بمعنى البطانة الداخلية. والغلف : جمع غلاف. والأكمام جمع كم ـ بالكسر ـ وهو غطاء النوار ووعاء الطلع
    (6) منقمع الوحوش : موضع انقماعها ـ أى : اختفائها ـ والغيران : جمع غار
    (7) سوق : جمع ساق ، وهو أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها ، والألحية : جمع لحاء ، وهو قشر الشجرة
    (Cool الغصون
    (9) الأمشاج النطف : جمع مشيج ـ مثل يتيم وأيتام ـ وأصله مأخوذ من «مشج» إذا خلط ، لأنها مختلطة من جراثيم مختلفة كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن. ومسارب الأصلاب : جمع مسرب ، وهى : ما يتسرب المنى فيها عند نزوله أو عند تكونه
    (10) سفت الريح التراب : ذرته أو حملته ، والأعاصير : جمع إعصار ، وهى ريح تثير السحاب أو تقوم على الأرض كالعمود
    (11) تعفو : تمحو

    كثبان الرّمال (1) ، ومستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال (2) ، وتغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار (3) ، وما أوعبته الأصداف (4) وحضنت عليه أمواج البحار (5) وما غشيته سدفة ليل (6) أو ذرّ عليه شارق نهار (7) ، وما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير (Cool وسبحات النّور. وأثر كلّ خطوة ، وحسّ كلّ حركة ، ورجع كلّ كلمة ، وتحريك كلّ شفة ، ومستقرّ كلّ نسمة ، ومثقال كلّ ذرّة ، وهماهم كلّ نفس هامّة (9) وما عليها من ثمر شجرة (10) أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة (11) أو نقاعة دم ومضغة (12) أو ناشئة خلق وسلالة ، لم يلحقه فى ذلك كلفة ، ولا اعترضته فى حفظ ما ابتدعه من خلقه
    __________________
    (1) الكثبان : جمع كثيب ، وهو التل
    (2) الذرى : جمع ذروة ، وهى أعلى الشىء ، والشناخيب : رءوس الجبال واحدها شنخوب أو شنخوبة كعصفور وعصفورة
    (3) تغريد الطائر : رفع صوته بالغناء ، وهو نطقه ، والدياجير : جمع ديجور ، وهو الظلمة
    (4) أوعبته : جمعته
    (5) حضنت عليه : ربته فتولد فى حضنها ، كالعنبر ونحوه
    (6) سدفة : ظلمة
    (7) ذر : طلع
    (Cool اعتقبت : تعاقبت وتوالت ، والأطباق : الأغطية ، والدياجير : الظلمات ، وسبحات النور : درجاته وأطواره
    (9) هماهم : هموم ، مجاز من الهمهمة : وهى ترديد الصوت فى الصدر من الهم
    (10) «عليها» أى : على الأرض
    (11) قرارتها : مقرها.
    (12) نقاعة : عطف على نطفة ، ونقاعة الدم : ما ينقع منه فى أجزاء البدن ، والمضغة عطف على نقاعة ، أى : يعلم مقر جميع ذلك

    عارضة (1) ، ولا اعتورته فى تنفيذ الأمور وتدبير المخلوقين ملالة ولا فترة (2) بل نفذ فيهم علمه وأحصاهم عدّه ، ووسعهم عدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله.
    اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، والتّعداد الكثير (3) إن تؤمّل فخير مؤمّل ، وإن ترج فأكرم مرجوّ. اللّهمّ وقد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك ، ولا أثنى به على أحد سواك ، ولا أوجّهه إلى معادن الخيبة ومواضع الرّيبة (4) وعدلت بلسانى عن مدائح الآدميّين والثّناء على المربوبين المخلوقين. اللّهمّ ولكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة (5) من جزاء ، أو عارفة من عطاء ، وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة وكنوز المغفرة. اللّهمّ وهذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذى هو لك ، ولم ير مستحقّا لهذه المحامد والممادح غيرك ، وبى فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ، ولا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك (6) ، فهب لنا فى هذا المقام رضاك ، وأغننا عن مدّ الأيدى إلى سواك ، إنّك على كلّ شىء قدير.
    __________________
    (1) هى ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله
    (2) اعتورته : تداولته وتناولته
    (3) المبالغة فى عد كمالاتك إلى ما لا ينتهى
    (4) هم المخلوقون
    (5) ثواب وجزاء
    (6) الخلة ـ بالفتح ـ : الفقر ، والمن : الاحسان

    90 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضى اللّه عنه
    دعونى والتمسوا غيرى فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول (1) وإنّ الآفاق قد أغامت (2) ، والمحجّة قد تنكّرت ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب ، وإن تركتمونى فأنا كأحدكم ولعلّى أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا.
    91 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أمّا بعد أيّها النّاس ، فأنا فقأت عين الفتنة (3) ولم تكن ليجرؤ عليها أحد
    __________________
    (1) لا تصبر له ولا تطيق احتماله
    (2) أغامت : غطيت بالغيم ، والمحجة : الطريق المستقيمة. و «تنكرت» أى : تغيرت علائمها فصارت مجهولة ، وذلك أن الأطماع كانت قد تنبهت فى كثير من الناس ، على عهد عثمان رضى اللّه عنه ، بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم ـ فيما بعد ـ أن يكونوا فى مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه ، وطلبوا طائشة الفتنة ، طمعا فى نيل رغباتهم ، وأولئك هم أغلب الرؤساء فى القوم ، فان أقرهم الامام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما ، وخالف شرعا ، والناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالنصفة : إن لم ينالوها تحرشوا للفتنة ، فأين المحجة للوصول إلى الحق على أمن من الفتن؟؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرس به قبلها
    (3) شققتها وقلعتها : تمثيل لتغلبه عليها ، وذلك كان بعد انقضاء أمر النهروان وتغلبه على الخوارج

    غيرى بعد أن ماج غيهبها (1) واشتدّ كلبها (2) فاسألونى قبل أن تفقدونى ، فو الّذى نفسى بيده لا تسألونى عن شىء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدى مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها (3) وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ويموت منهم موتا ، ولو قد فقدتمونى ونزلت بكم كرائه الأمور (4) وحوازب الخطوب (5) لأطرق كثير من السّائلين ، وفشل كثير من المسئولين ، وذلك إذا قلصت حربكم (6) وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم ، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت (7) وإذا أدبرت نبّهت (Cool : ينكرن مقبلات ، ويعرفن مدبرات ، يحمن حول الرّياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا ، ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بنى أميّة ، فإنّها
    __________________
    (1) الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها
    (2) الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عضته أصيب به فجن ومات ، شبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا أهلكته
    (3) ناعقها : الداعى إليها ، مأخوذ من «نعق بغنمه» : إذا صاح بها لتجتمع
    (4) الكرائه : جمع كريهة
    (5) الحوازب : جمع حازب ، وهو الأمر الشديد ، تقول : «حزبه الأمر» إذا اشتد عليه
    (6) قلصت ـ بتشديد اللام ـ تمادت ، واستمرت ، وبتخفيفها : وثبت
    (7) اشتبه فيها الحق بالباطل.
    (Cool لأنها تعرف بعد انقضائها ، وتكشف حقيقتها فتكون عبرة

    فتنة عمياء مظلمة : عمّت خطّتها (1) وخصّت بليّتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها (2) وأخطأ البلاء من عمى عنها ، وايم اللّه لتجدنّ بنى أميّة لكم أرباب سوء بعدى كالنّاب الضّروس (3) : تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درّها ، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم أو غير ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه والصّاحب من مستصحبه (4) ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة (5) وقطعا جاهليّة ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى (6) نحن أهل البيت منها بمنجاة (7) ولسنا فيها بدعاة ، ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم (Cool : بمن يسومهم خسفا (9) ويسوقهم عنفا ، ويسقيهم بكأس مصبّرة (10) لا يعطيهم إلاّ السّيف ، ولا يحلسهم إلاّ الخوف (11) ، فعند ذلك تودّ قريش ، بالدّنيا وما فيها ، لو يروننى مقاما
    __________________
    (1) الخطة ـ بالضم ـ الأمر ، أى : شمل أمرها ، لأنها رآسة عامة ، وخصت بليتها آل البيت ، لأنها اغتصاب لحقهم
    (2) من عرف الحق فيها نزل به بلاء الانتقام من بنى أمية
    (3) الناب : الناقة المسنة ، والضروس : السيئة الخلق تعض حالبها ، وتعذم : من «عذم الفرس» إذا أكل بخفاء أو عض ، و «تزبن» أى : تضرب ، ودرها : لبنها ، والمراد خيرها
    (4) التابع من متبوعه ، أى : انتصار الأذلاء ، وما هو بانتصار
    (5) شوهاء : قبيحة المنظر ، ومخشية : مخوفة مرعبة
    (6) دليل يهتدى به
    (7) بمكان النجاة من إثمها
    (Cool كما يسلخ الجلد عن اللحم
    (9) يلزمهم ذلا ، وقوله «بمن» متعلق بيفرجها
    (10) مملوءة إلى أصبارها ، جمع صبر ـ بالضم ، والكسر ـ بمعنى الحرف ، أى : إلى رأسها
    (11) من «أحلس البعير» إذا ألبسه الحلس ـ بكسر الحاء المهملة ـ وهو : كساء يوضع فوق ظهره تحت البرذعة ، أى : لا يكسوهم إلا خوفا

    واحدا ، ولو قدر جزر جزور (1) لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطوننى
    92 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فتبارك اللّه الّذى لا يبلغه بعد الهمم ، ولا يناله حسن الفطن ، الأوّل الّذى لا غاية له فينتهى ، ولا آخر له فينقضى.
    منها فى وصف الأنبياء :
    فاستودعهم فى أفضل مستودع ، وأقرّهم فى خير مستقرّ ، تناسختهم كرائم الأصلاب (2) إلى مطهّرات الأرحام ، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين اللّه خلف ، حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا (3) وأعزّ الأرومات مغرسا (4) من الشّجرة الّتى صدع منها أنبياءه (5) ، وانتخب منها أمناءه (6) عترته خير العتر (7) وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشّجر ، نبتت فى حرم ، وبسقت فى كرم (Cool
    __________________
    (1) الجزور : الناقة المجزورة ، أو هو البعير مطلقا : والشاة المذبوحة ، أى : ولو مدة ذبح البعير أو الشاة
    (2) تناسختهم : تناقلتهم
    (3) كمجلس : موضع النبات ينبت فيه.
    (4) الأرومات جمع أرومة : وهى الأصل ، والمغرس : موضع الغرس.
    (5) صدع فلانا : قصده لكرمه ، أى : اختصهم بالنبوة من بين فروعها ، وهى شجرة إبراهيم عليه السلام
    (6) انتخب : اختار
    (7) عترته : آل بيته ، وأسرة الرجل : رهطه الأدنون
    (Cool بسقت : ارتفعت

    لها فروع طوال ، وثمرة لا تنال ، فهو إمام من اتّقى ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوءه ، وشهاب سطع نوره ، وزند برق لمعه ، سيرته القصد (1) وسنّته الرّشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، على حين فترة من الرّسل (2) وهفوة عن العمل (3) وغباوة من الأمم ، اعملوا ، رحمكم اللّه ، على أعلام بيّنة ، فالطّريق نهج (4) يدعو إلى دار السّلام وأنتم فى دار مستعتب على مهل وفراغ (5) ، والصّحف منشورة ، والأقلام جارية ، والأبدان صحيحة ، والألسن مطلقة ، والتّوبة مسموعة والأعمال مقبولة
    93 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    بعثه والنّاس ضلاّل فى حيرة ، وخابطون فى فتنة ، قد استهوتهم الأهواء واستزلّتهم الكبرياء (6) واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء (7). حيارى فى زلزال
    __________________
    (1) الاستقامة
    (2) الفترة : الزمان بين الرسولين
    (3) هفوة : زلة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر اللّه على ألسنة الأنبياء السابقين
    (4) واضح ، قويم ، ويدعو إلى دار السلام : يوصل إليها
    (5) مستعتب ـ بفتح التاءين ـ طلب العتبى ، أى : الرضا من اللّه بالأعمال النافعة
    (6) استزلتهم : أدت بهم للزلل والسقوط فى المضار ، وتأنيث الفعل على تأويل أن الكبرياء صفة ، وفى رواية «واستزلهم الكبراء» أى : أضلهم كبراؤهم وسادتهم
    (7) استخفتهم : طيشتهم ، والجاهلية : حالة العرب قبل نور العلم الاسلامى ، والجهلاء : وصف لها للمبالغة

    من الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فى النّصيحة ، ومضى على الطّريقة ، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة
    94 ـ ومن خطبة أخرى
    الحمد للّه الأوّل فلا شىء قبله ، والآخر فلا شىء بعده ، والظّاهر فلا شىء فوقه ، والباطن فلا شىء دونه.
    منها فى ذكر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم :
    مستقرّه خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت ، فى معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة (1) قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار (2) ، دفن به الضّغائن (3) ، وأطفأ به الثّوائر (4) ، ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا (5) أعزّ به الذّلّة (6) ، وأذلّ به العزّة ، كلامه بيان ، وصمته لسان
    __________________
    (1) المماهد : جمع ممهد ـ كمقعد ـ ما يمهد ، أى : يبسط ، فيه الفراش ونحوه ، أى : إنه ولد فى أسلم موضع وأنقاه من دنس السفاح
    (2) الأزمة ـ كأئمة ـ جمع زمام ، وانثناء الأزمة إليه عبارة عن تحولها نحوه
    (3) الأحقاد ، فهو رسول الألفة ، وأهل دينه المتآلفون المتعاونون على الخير ، ومن لم يكن فى عروة الألفة منهم فهو ـ واللّه أعلم ـ خارج عنهم
    (4) جمع ثائرة : وهى العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضره إن لم يقتله
    (5) وفرق به أقران الألفة على الشرك
    (6) ذلة الضعفاء من أهل الفضل المستترين بحجب الخمول ، وأذل به عزة الشرك والظلم والعدوان

    95 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ولئن أمهل الظّالم فلن يفوت أخذه (1) وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، وبموضع الشّجى من مساغ ريقه (2) أما والّذى نفسى بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّى. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتى : استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سرّا وجهرا فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغيّاب (3) وعبيد كأرباب؟؟!! أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل البغى فما آتى على آخر القول حتّى أراكم متفرّقين أيادى سبا (4) ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم ، أقوّمكم غدوة وترجعون إلىّ عشيّة كظهر الحيّة (5) عجز المقوّم ، وأعضل المقوّم (6).
    __________________
    (1) لا يذهب عنه أن يأخذه
    (2) الشجى : ما يعترض فى الحلق من عظم وغيره ، ومساغ الريق : ممره من الحلق ، والكلام تمثيل لقرب السطوة الالهية من الظالمين.
    (3) شهود : جمع شاهد ، بمعنى الحاضر ، وغياب : جمع غائب
    (4) قالوا : إن سبا هو أبو عرب اليمن ، كان له عشرة أولاد : جعل منهم ستة يمينا له ، وأربعة شمالا : تشبيها لهم باليدين ، ثم تفرق أولئك الأولاد أشد التفرق
    (5) أراد القوس لأنه معوج
    (6) أعضل : استعصى ، واستعصب ، وأعيا

    أيّها الشّاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلقة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشّام يعصى اللّه وهم يطيعونه؟! لوددت واللّه أنّ معاوية صارفنى بكم صرف الدّينار بالدّرهم ، فأخذ منّى عشرة منكم وأعطانى رجلا منهم ، يا أهل الكوفة ، منيت منكم بثلاث واثنتين : صمّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعمى ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللّقاء (1) ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلّما جمعت من جانب تفرّقت من جانب آخر ، واللّه لكأنّى بكم فيما إخال (2) أن لو حمس الوغى ، وحمى الضّراب ، وقد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراج المرأة عن قبلها (3) وإنّى لعلى بيّنة من ربّى ، ومنهاج من نبيّى ، وإنّى لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا (4) انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم (5) واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ،
    __________________
    (1) هاته وما بعدها هما الثنتان ، وما قبلها هى الثلاثة
    (2) إخال : أظن ، وحمس ـ كفرح ـ اشتد ، والوغى : الحرب
    (3) انفراج المرأة عن قبلها عند الولادة ، أو عند ما يشرع عليها سلاح ، والمشابهة فى العجز والدناءة فى العمل.
    (4) اللقط : أخذ الشىء من الأرض ، وإنما سمى اتباعه لمنهاج الحق لقطا لأن الحق واحد ، والباطل الوان مختلفة ، فهو يلتقط الحق من بين ضروب الباطل
    (5) السمت ـ بالفتح ـ طريقهم ، وحالهم ، أو قصدهم.

    ولن يعيدوكم فى ردى. فإن لبدوا فالبدوا (1) ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا ، لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، فما أرى أحدا منكم يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا (2) وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم (3) ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم ركب المعزى (4) من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف ، خوفا (5) من العقاب ، ورجاء للثّواب.
    96 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    واللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرّما إلاّ استحلّوه (6) ولا عقدا إلاّ حلّوه
    __________________
    (1) لبد ـ كنصر ـ أقام ، أى : إن أقاموا فأقيموا
    (2) شعثا : جمع أشعث ، وهو المغبر الرأس ، والغبر : جمع أغبر ، والمراد أنهم كانوا متقشفين
    (3) المراوحة بين العملين : أن يعمل هذا مرة وهذا مرة ، وبين الرجلين : أن يقوم على كل منهما مرة ، وبين جباههم وخدودهم : أن يضعوا الخدود مرة والجباه أخرى على الأرض ، خضوعا للّه وسجودا
    (4) ركب : جمع ركبة ، وهى موصل الساق من الرجل بالفخذ ، وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة ، أى : إنهم لطول سجودهم يطول سهودهم ، وكان بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم النوم والاستراحة
    (5) مادوا : اضطربوا ، وارتعدوا
    (6) الكلام فى بنى أمية ، والمحرم : ما حرمه اللّه ، واستحلاله : استباحته

    وحتّى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم (1) ونبا به سوء رعيهم (2) وحتّى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكى لدينه ، وباك يبكى لدنياه ، وحتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده : إذا شهد أطاعه ، وإذا غاب اغتابه ، وحتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا ، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا ، وإن ابتليتم فاصبروا ، فإنّ العاقبة للمتّقين
    97 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    نحمده على ما كان ، ونستعينه من أمرنا على ما يكون ، ونسأله المعافاة فى الأديان ، كما نسأله المعافاة فى الأبدان. عباد اللّه ، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم ، وإن لم تحبّوا تركها والمبلية لأجسامكم ، وإن كنتم تحبّون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه (3) ، وأمّوا علما (4) فكأنّهم قد بلغوه ، وكم
    __________________
    (1) بيوت المدر : المبنية من طوب وحجر ونحوها وبيوت الوبر : الخيام
    (2) أصله من «نبا به المنزل» إذا لم يوافقه فارتحل عنه ، وإن البيوت يستولى عليها سوء الحكمة فتكون عنها بمنجاة فيخسر العمران ، ولا تتبوأ الحكومة الظالمة إلا خرابا تنعق فيه فلا يجيبها إلا صدى نعيقها
    (3) السفر ـ بفتح فسكون ـ جماعة المسافرين ، أى : إنكم فى مسافة العمر كالمسافرين فى مسافة الطريق ، فلا يلبثون أن يأتوا على نهايتها ، لأنها محدودة
    (4) أموا : قصدوا

    عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها (1) حتّى يبلغها ، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه؟ وطالب حثيث يحدوه فى الدّنيا حتّى يفارقها (2)؟ فلا تنافسوا فى عزّ الدّنيا وفخرها ، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها ، ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها ، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع ، وإنّ زينتها ونعيمها إلى زوال وضرّاءها وبؤسها إلى نفاد (3) ، وكلّ مدّة فيها إلى انتهاء ، وكلّ حىّ فيها إلى فناء ، أوليس لكم فى آثار الأوّلين مزدجر (4) وفى آبائكم الأوّلين تبصرة ومعتبر ، إن كنتم تعقلون؟! أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون؟ وإلى الخلف الباقين لا يبقون؟ أولستم ترون أهل الدّنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتّى : فميّت يبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود (5) وطالب للدّنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه؟؟!! وعلى أثر الماضى ما يمضى الباقى ألا فاذكروا هاذم اللّذّات ، ومنغّص الشّهوات ، وقاطع الأمنيّات ، عند المساورة للأعمال القبيحة (6) واستعينوا اللّه على أداء واجب حقّه ،
    __________________
    (1) الذى يجرى فرسه إلى غاية معلومة ، أى مقدار من الجرى يلزمه حتى يصل لغايته
    (2) يحدوه : يتبعه ، ويسوقه فى بعض النسخ «وطالب حثيث من الموت يحدوه ، ومزعج فى الدنيا عن الدنيا حتى يفارقها ، فلا تنافسوا الخ»
    (3) فناء
    (4) مكان للانزجار والارتداع
    (5) من «جاد بنفسه» إذا قارب أن يقضى نحبه ، كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها
    (6) «عند» متعلق باذكروا ، والمساورة المواثبة ، كأن العمل القبيح ـ لبعده عن ملاءمة الطبع الانسانى بالفطرة الالهية ـ ينفر من مقترفه كما ينفر الوحش فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه ، وهو ـ فى غائلته على مجترمه ـ كالضاريات من الوحوش : فهو يثب على مواثبه ليهلكه ، فما ألطف التعبير بالمساورة فى هذا الموضع

    وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه.
    98 ـ من خطبة له أخرى
    الحمد للّه النّاشر فى الخلق فضله ، والباسط فيهم بالجود يده. نحمده فى جميع أموره ، ونستعينه على رعاية حقوقه ، ونشهد أن لا إله غيره. وأنّ محمّدا عبده ورسوله : أرسله بأمره صادعا (1) ، وبذكره ناطقا ، فأدّى أمينا ، ومضى رشيدا. وخلّف فينا راية الحقّ : من تقدّمها مرق (2) ، ومن تخلّف عنها زهق (3) ، ومن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام (4) بطئ القيام ، سريع إذا قام. فإذا أنتم ألنتم له رقابكم ، وأشرتم إليه بأصابعكم ، جاءه الموت فذهب به ، فلبثتم بعده ما شاء اللّه ، حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم ويضمّ نشركم (5) فلا تطمعوا فى غير مقبل (6) ولا تيأسوا من مدبر ، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ
    __________________
    (1) فالقا به جدران الباطل ، فهادمها
    (2) خرج عن الدين ، والذى يتقدم الحق هو من يزيد على ما شرع اللّه أعمالا وعقائد يظنها مزينة للدين ومتممة له ، ويسميها بدعة حسنة
    (3) اضمحل وهلك
    (4) رزين فى قوله : لا يبادر به عن غير روية ، بطىء القيام. لا ينبعث للعمل بالطيش ، وإنما يأخذ له عدة إتمامه ، فاذا أبصر منه وجه الفوز تام فمضى إليه مسرعا وكأنه يصف بذلك حال نفسه كرم اللّه وجهه
    (5) يصل متفرقكم
    (6) الاقبال والادبار فى الجملتين لا يتواردان على جهة واحدة : فالمقبل بمعنى المتوجه إلى الأمر الطالب له الساعى إليه ، والمدبر بمعنى من أدبرت حاله واعترضته الخيبة فى عمله وإن كان لم يزل طالبا

    إحدى قائمتيه (1) وتثبت الأخرى ، وترجعا حتّى تثبتا جميعا. ألا إنّ مثل آل محمّد ، صلى اللّه عليه وآله ، كمثل نجوم السّماء : إذا خوى نجم طلع نجم (2) فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون.
    99 ـ ومن خطبة له أخرى
    الأوّل قبل كلّ أوّل ، والآخر بعد كلّ آخر ، بأوّليّته وجب أن لا أوّل له وبآخريّته أن لا آخر له ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان ، والقلب اللسان. أيّها النّاس ، لا يجرمنّكم شقاقى (3) ولا يستهوينّكم عصيانى ، ولا تتراموا بالأبصار عند ما تسمعونه منّى (4) فو الّذى فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، إنّ الّذى أنبّئكم به عن النّبىّ ، صلّى اللّه عليه وآله ، ما كذب المبلّغ ، ولا جهل السّامع. ولكنّى أنظر إلى ضلّيل (5) قد نعق بالشّام ، وفحص براياته (6)
    __________________
    (1) رجليه
    (2) خوى : غاب
    (3) لا يكسبنكم ، والمفعول محذوف ، أى : خسرانا ، أى : لا تشاقونى فيكسبكم الشقاق خسرانا ، ولا تعصونى فيتيه بكم عصيانى فى ضلال وحيرة
    (4) لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامزا بالانكار لما أقول
    (5) ضليل ـ كشرير ـ شديد الضلال مبالغ فى الضلال
    (6) من «فحص القطا التراب» إذا اتخذ فيه أفحوصا ـ بالضم ـ وهو مجثمه ، أى : المكان الذى يقيم فيه عند ما يكون على الأرض ، يريد أنه نصب له رايات بحثت لها فى الأرض مراكز

    فى ضواحى كوفان (1). فإذا فغرت فاغرته (2) واشتدّت شكيمته (3) وثقلت فى الأرض وطأته ، عضّت الفتنة أبناءها بأنيابها ، وماجت الحرب بأمواجها ، وبدا من الأيّام كلوحها (4) ومن الليالى كدوحها (5) فإذا أينع زرعه (6) وقام على ينعه (7) وهدرت شقاشقه ، وبرقت بوارقه ، عقدت رايات الفتن المعضلة وأقبلن كالليل المظلم ، والبحر الملتطم ، هذا ، وكم يخرق الكوفة من قاصف (Cool ويمرّ عليها من عاصف ، وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون (9) ويحصد القائم ، ويحطم المحصود
    100 ـ ومن كلام له
    يجرى مجرى الخطبة
    وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب (10) وجزاء
    __________________
    (1) هى الكوفة ، أى : إنه كاد يصل الكوفة حيث إن راياته انتشرت على بعض بلدان من حدودها ، وهو ما أشار إليه بالضواحى
    (2) فغر الفم ـ كمنع ـ انفتح ، وفغرته. فهو لازم ومتعد أى : إذا انفتحت فاغرته ، وهى فمه
    (3) الشكيمة : الحديدة المعترضة فى اللجام فى فم الدابة ، ويعبر بقوتها عن شدة البأس وصعوبة الانقياد
    (4) عبوسها
    (5) جمع كدح ـ بالفتح ـ وهو الخدش ، وأثر الجراحات
    (6) نضج ، وحان قطافه
    (7) حالة نضجه
    (Cool هو ما اشتد صوته من الرعد والريح وغيرهما ، والعاصف : ما اشتد من الريح ، والمراد مزعجات الفتن
    (9) يكون الاشتباك بين قواد الفتنة وبين أهل الحق كما تشتبك الكباش بقرونها عند النطاح ، وما بقى من الصلاح قائما يحصد ، وما كان قد حصد يحطم ويهشم ، فلا يبقى إلا شر عام وبلاء تام ، إن لم يقم للحق أنصار
    (10) نقاش الحساب : الاستقصاء فيه

    الأعمال ، خضوعا ، قياما ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ، ولنفسه متّسعا ومنه : فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة (1) ولا تردّ لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة ، يحفزها قائدها ، ويجدّها راكبها ، أهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم (2) ، يجاهدهم فى سبيل اللّه قوم أذلة عند المتكبّرين ، فى الأرض مجهولون ، وفى السّماء معروفون ، فويل لك يا بصرة عند ذلك ، من جيش من نقم اللّه لا رهج له ، ولا حسّ (3) ، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر ، والجوع الأغبر.
    __________________
    (1) لا تثب لمعارضتها قائمة خيل ، وقوائم الفرس : رجلاه ، أو أنه لا يتمكن أحد من القيام لها وصدها ، وقوله «مزمومة مرحولة» قادها وزمها وركبها برحلها أقوام زحفوا بها عليكم ، يحفزونها ـ أى : يحثونها ـ ليقروا بها فى دياركم ، وفيكم يحطون الرحال.
    (2) السلب ـ محركة ـ : ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه فى الحرب ، أى : ليسوا من أهل الثروة
    (3) الرهج ـ بسكون الهاء ، ويحرك ـ : الغبار ، والحس ـ بفتح الحاء ـ الجلبة والأصواب المختلطة ، قالوا : يشير إلى فتنة صاحب الزنج ، وهو على بن محمد بن عبد الرحيم ، من بنى عبد القيس ، ادعى أنه علوى من ابناء محمد ابن أحمد بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين ، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ فى نواحى البصرة ، وخرج بهم على المهتدى العباسى ، فى سنة خمس وخمسين ومائتين ، واستفحل أمره ، وانتشرت أصحابه فى أطراف البلاد للسلب والنهب ، وملك أبلة عنوة ، وفتك بأهلها ، واستولى على عبادان والأهواز ، ثم كانت بينه وبين الموفق فى زمن المعتمد حروب انجلى فيها عن الأهواز وسلم عاصمة ملكه ، وكان سماها المختارة

    101 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها ، الصّادفين عنها (1) ، فإنّها واللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى السّاكن (2) وتفجع المترف الآمن (3) لا يرجع ما تولّى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوب بالحزن ، وجلد الرّجال فيها إلى الضّعف والوهن ، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها ، لقلّة ما يصحبكم منها. رحم اللّه امرأ تفكّر فاعتبر ، واعتبر فأبصر ، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن (4) وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ، وكلّ معدود منقض ، وكلّ متوقّع آت ، وكلّ آت قريب دان.
    ومنها: العالم من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، وإنّ من أبغض الرّجال لعبدا وكله اللّه إلى نفسه! جائرا عن قصد السّبيل ، سائرا بغير دليل ، إن دعى إلى حرث الدّنيا عمل ، وإن دعى إلى حرث الآخرة
    __________________
    بعد محاصرة شديدة ، وقتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين ، وفرح الناس بقتله لانكشاف رزئه عنهم
    (1) الصادفين : المعرضين
    (2) الثاوى : المقيم
    (3) المترف ـ بفتح الراء ـ : المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع
    (4) فان الذى هو موجود فى الدنيا بعد قليل كأنه لم يكن ، وإن الذى هو كائن فى الآخرة بعد قليل كأنه كائن لم يزل ، فكأنه ـ وهو فى الدنيا ـ من سكان الآخرة

    كسل! كأن ما عمل له واجب عليه (1) وكأنّ ما ونى فيه ساقط عنه (2)
    ومنها : وذلك زمن لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة (3) : إن شهد لم يعرف ، وإن غاب لم يفتقد ، أولئك مصابيح الهدى ، وأعلام السّرى (4) ليسوا بالمساييح ، ولا المذاييع البذر ، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته ، ويكشف عنهم ضرّاء نقمته. أيّها النّاس ، سيأتى عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه! أيّها ، النّاس ، إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم ، ولم يعذكم من أن يبتليكم (5) وقد قال جلّ من قائل : «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَإِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ» قال الشريف : قوله عليه السلام : «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر القليل الشر ، والمساييح : جمع مسياح ، وهو الذى يسيح بين الناس بالفساد والنمائم ، والمذاييع : جمع مذياع ، وهو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها ، والبذر : جمع بذور وهو الذى يكثر سفهه ويلغو منطقه (6)
    __________________
    (1) ما عمل له هو حرث الدنيا
    (2) ونى فيه : تراخى فيه ، وهو حرث الآخرة
    (3) نومة ـ بضم ففتح ـ : كثير النوم ، يريد به البعيد عن مشاركة الأشرار فى شرورهم ، فاذا رأوه لا يعرفونه منهم ، وإذا غاب لا يفتقدونه
    (4) السرى ـ كالهدى ـ : السير فى ليالى المشاكل ، وبقية الألفاظ يأتى شرحها بعد أسطر لصاحب الكتاب
    (5) ليتبين الصادق من الكاذب ، والمخلص من المريب ، فتكون للّه الحجة على خلقه
    (6) الذى فى القاموس أن البذور ـ بالفتح ـ كالبذير : هو النمام

    102 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية
    أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدّعى نبوّة ولا وحيا ، فقاتل بمن أطاعه من عصاه ، يسوقهم إلى منجاتهم ويبادر بهم السّاعة أن تنزل بهم ، يحسر الحسير (1) ويقف الكسير ، فيقيم عليه حتّى يلحقه غايته ، إلاّ هالكا لا خير فيه ، حتّى أراهم منجاتهم ، وبوّأهم محلّتهم ، فاستدارت رحاهم (2) واستقامت قناتهم ، وايم اللّه لقد كنت فى ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ، واستوثقت قيادها : ما ضعفت ولا جبنت ، ولا خنت ، ولا وهنت ، وايم اللّه لأبقرنّ الباطل (3) حتّى أخرج الحقّ من خاصرته.
    __________________
    (1) من «حسر البعير» كضرب ـ إذا أعيا وكل ، والكسير : المكسور ، أى : إن من ضعف اعتقاده ، أو كلت عزيمته ، فتراخى فى السير على سبيل المؤمنين ، أو طرقته الوساوس فهشمت قوائم همته بزلزال فى عقيدته ، فان النبى صلى اللّه عليه وسلم كان يقيم على ملاحظته وعلاجه حتى بنصل من مرضه هذا ويلحق بالمخلصين ، إلا من كان ناقص الاستعداد ، خبيث العنصر ، فلا ينجع فيه الدواء ، فيهلك
    (2) كناية عن وفرة أرزاقهم ، فان الرحا إنما تدور على ما تطحنه من الحب ، أو كناية عن قوة سلطانهم على غيرهم ، والرحا : رحا الحرب يطحنون بها ، والقناة الرمح ، واستقامتها : كناية عن صحة الأحوال وصلاحها
    (3) البقر ـ بالفتح ـ : الشق ، أى : لأشقن جوف الباطل : بقهر أهله ، فأنتزع الحق من أيدى المبطلين ، والتمثيل فى غاية من اللطف

    103 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    حتّى بعث اللّه محمّدا ، صلّى اللّه عليه وآله ، شهيدا ، وبشيرا ، ونذيرا ، خير البريّة طفلا ، وأنجبها كهلا ، أطهر المطهّرين شيمة ، وأمطر المستمطرين ديمة (1) فما أحلولت لكم الدّنيا فى لذّتها ، ولا تمكّنتم من رضاع أخلافها (2) إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (3) قلقا وضينها ، قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود (4) ، وحلالها بعيدا غير موجود ، وصادفتموها ، واللّه ، ظلاّ ممدودا إلى أجل معدود ، فالأرض لكم شاغرة (5) وأيديكم فيها مبسوطة. وأيدى القادة عنكم مكفوفة ، وسيوفكم عليهم مسلّطة وسيوفهم عنكم مقبوضة ، الاّ إنّ لكلّ دم ثائرا (6) ولكلّ حقّ طالبا ، وإنّ
    __________________
    (1) الديمة ـ بالكسر ـ المطر يدوم فى سكون ، والمستمطر ـ بفتح الطاء ـ : من يطلب منه المطر ، والمراد هنا النجدة والمعونة. فالنبى أغزر الناس فيضا للخير على طلابه
    (2) جمع خلف ـ بالكسر ـ : وهو حلمة ضرع الناقة
    (3) الخطام ـ ككتاب ـ : ما يوضع فى أنف البعير ليقاد به ، والوضين : بطان عريض منسوج من سيور أو شعر يكون للرحل ، كالحزام للسرج ، وجولان لخطام وقلق الوضين : إما كناية عن الهزال ، وإما كناية عن صعوبة القياد ، فان لخطام الجائل لا يشتد على البعير فيجذبه ، وعن قلق الراكب وعدم اطمئنانه ، لاضطراب رحل بقلق الوضين
    (4) السدر ـ بالكسر ـ : شجر النبق ، والمخضود : المقطوع شوك ، أو متثنى الأغصان من ثقل الحمل ، والتشبيه غاية فى اللذة
    (5) أى : بعد بعثة النبى شغرت لكم الأرض ، أى : لم يبق فيها من يحميها دونكم. يمنعكم عن خيرها
    (6) ثأره فهو ثائر ، أى : طلب بدمه ، وقتل قاتله

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:25 pm

    الثّائر فى دمائنا كالحاكم فى حقّ نفسه (1) ، وهو اللّه الّذى لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب. فأقسم باللّه يا بنى أميّة عمّا قليل لتعرفنّها فى أيدى غيركم وفى دار عدوّكم. الاّ وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ فى الخير طرفه ، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير وقبله. أيّها النّاس ، استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متّعظ ، وامتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر (2) عباد اللّه ، لا تركنوا إلى جهالتكم ، ولا تنقادوا إلى أهوائكم ، فإنّ النّازل بهذا المنزل (3) نازل بشفا جرف هار ، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع (4) لرأى يحدثه بعد رأى ، يريد أن يلصق ما لا يلتصق ، ويقرّب ما لا يتقارب ، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم (5).
    __________________
    (1) الطالب بدمائنا ينال ثأره حتما ، كأنه هو القاضى بنفسه لنفسه ، ليس هناك من يحكم عليه فيمانعه عن حقه
    (2) امتاحوا : استقوا ، وانزعوا الماء لرى عطشكم ، من عين صافية صفيت من الكدر ، وهى عين علومه عليه السلام
    (3) منزل الركون إلى الجهالة والانقياد للهوى ، وشفا الشىء : حرفه ، والجرف ـ بضمتين ـ : ما تجرفته السيول ، وأكلته من الأرض ، والهارى كالهائر : المتهدم ، أو المشرف على الانهدام ، أى : إنه بمكان التهور فى الهلكة
    (4) أى : إنّه إذا نقل حمل المهلكات فانما ينقله من موضع من ظهره إلى موضع آخر منه ، فهو حامل لها دائما ، وانما يتعب فى نقلها من أعلاه لوسطه وأسفله بآرائه وبدعه ، فهو فى كل رأى يتنقل من ضلالة إلى ضلالة ، حيث إن مبنى الكل على الجهالة والهوى
    (5) يقال «أشكاه» إذا أزال مشكاه ، والشجو : الحاجة ، يقول : إن ما تسوله

    ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنّه ليس على الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه ، إلاّ البلاغ فى الموعظة ، والاجتهاد فى النّصيحة ، والإحياء للسّنّة ، وإقامة الحدود على مستحقّيها ، وإصدار السّهمان على أهلها (1) : فبادروا العلم من قبل تصويح نبته (2) ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستنار العلم من عند أهله (3) وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنّما أمرتم بالنّهى بعد التّناهى.
    104 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الّذى شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده ، وأعزّ أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه (4) وسلما لمن دخله (5) وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، ونورا لمن استضاء به ، وفهما لمن عقل ، ولبّا لمن تدبّر ،
    __________________
    لكم الجهالات والأهواء من الحاجات يلزمكم أن تنصرفوا عن خيالها ، ولا تشكوها إلى ، فانى لا أتبع أهواءكم ، ولا أقضى هذه الرغبات الفاسدة ، ولا أستطيع أن أنقض برأيى ما أبرم لكم فى الشريعة الغراء
    (1) السهمان ـ بالضم ـ : جمع سهم ، بمعنى الحظ والنصيب ، وإصدار السهمان : إعادتها إلى أهلها المستحقين لها لا ينقصهم منها شيئا. وسماه إصدارا لأنها كانت منعت أربابها بالظلم فى بعض الأزمان ثم ردت إليهم ، كالصدور وهو رجوع الشاربة من الماء إلى أعطانها
    (2) التصويح : التجفيف ، أى : سابقوا إلى العلم وهو فى غضارته ، قبل أن يجف فلا تستطيعوا إحياءه بعد يبسه
    (3) مستثار : اسم مفعول بمعنى المصدر ، والاستنارة : طلب النور ، وهو السطوع والظهور
    (4) علقه ـ كعلمه ـ : تعلق به
    (5) من دخله لا يحارب

    آية لمن توسّم ، وتبصرة لمن عزم ، وعبرة لمن اتّعظ ، ونجاة لمن صدّق ، وثقة لمن توكّل ، وراحة لمن فوّض ، وجنّة لمن صبر (1) فهو أبلج المناهج (2) وأوضح الولائج (3) مشرف المنار (4) مشرق الجوادّ (5) مضىء المصابيح ، كريم المضمار (6) رفيع الغاية ، جامع الحلبة (7) متنافس السّبقة (Cool شريف الفرسان : التّصديق منهاجه ، والصّالحات مناره ، والموت غايته (9) والدّنيا مضماره (10) والقيامة حلبته ، والجنّة سبقته (11).
    منها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :
    حتّى أورى قبسا لقابس (12) وأنار علما لحابس (13) فهو أمينك المأمون ،
    __________________
    (1) جنة ـ بالضم ـ أى : وقاية وصونا
    (2) أشد الطرق وضوحا وأنورها
    (3) الولائج : جمع وليجة ، وهى : الدخيلة ، وهى المذهب
    (4) مشرف ـ بفتح الراء ـ : هو المكان ترتفع عليه فتطلع من فوقه على شىء ، ومنار الدين : هى دلائله من العمل الصالح يطلع منها البصير على حقائق العقائد ومكارم الأخلاق
    (5) جمع جادة ، وهى : الطريق الواضح
    (6) «كريم المضمار» أى : إذا سوبق سبق
    (7) الحلبة : خيل تتجمع من كل صوب للنصرة ، والاسلام جامعها : يأتى إليه الكرائم والعتاق
    (Cool السبقة ـ بالضم ـ : جزاء السابقين
    (9) يريد الموت عن الشهوات البهيمية ، والحياة بالسعادة الأبدية ، كما يعلم من قوله «رفيع الغاية» وإلا فالموت المعروف غاية كل حى
    (10) لأنها مزرعة الآخرة : من سبق فيها سبق فى الأخرى
    (11) سبقته : جزاء السابقين به.
    (12) أورى : أوقد ، والقبس ـ بالتحريك ـ الشعلة من النار تقتبس من معظم النار ، والقابس : آخذ النار من النار. والمراد أن النبى أفاد طلاب الحق ما به يستضيئون لاكتشافه
    (13) الحابس : من حبس ناقته وعقلها ، حيرة منه : لا يدرى كيف

    وشهيدك يوم الدّين ، وبعيثك نعمة (1) ، ورسولك بالحقّ رحمة. اللّهمّ اقسم له مقسما من عدلك (2) واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللّهمّ أعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك نزله (3) وشرّف عندك منزلته ، وآته الوسيلة وأعطه السّناء والفضيلة (4) ، واحشرنا فى زمرته غير خزايا (5) ولا نادمين ، ولا ناكبين (6) ولا ناكثين (7) ولا ضالّين ، ولا مضلّين ، ولا مفتونين. قال الشريف : وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم ، إلا أننا كررناه ههنا لما فى الروايتين من الاختلاف
    ومنها فى خطاب أصحابه :
    وقد بلغتم من كرامة اللّه لكم منزلة تكرم بها إماؤكم ، ويوصل بها جيرانكم ويعظّمكم من لا فضل لكم عليه ، ولا يد لكم عنده ، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة ، وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون وانتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون ، وكانت أمور اللّه عليكم ترد ، وعنكم
    __________________
    يهتدى فيقف عن السير ، و «أنار له علما» أى : وضع له نارا فى رأس جبل ليستنقذه من حيرته
    (1) بعيثك : مبعوثك
    (2) المقسم ـ كمقعد ومنبر ـ النصيب والحظ
    (3) النزل ـ بضمتين ـ ما هيىء للضيف لأن ينزل عليه
    (4) السناء ـ كسحاب ـ الرفعة.
    (5) خزايا : جمع خزيان ، من «خزى». من باب علم ـ إذا خجل من قبيح ارتكبه
    (6) عادلين عن طريق الحق
    (7) ناكثين : ناقضين للعهد

    تصدر ، وإليكم ترجع ، فمكّنتم الظّلمة من منزلتكم ، وألقيتم إليهم أزمّتكم وأسلمتم أمور اللّه فى أيديهم ، يعملون فى الشّبهات ، ويسيرون فى الشّهوات وايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ كوكب لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم (1)
    105 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد رأيت جولتكم ، وانحيازكم عن صفوفكم ، تحوزكم الجفاة الطّغام (2) وأعراب أهل الشّام ، وأنتم لهاميم العرب (3) ويآفيخ الشّرف (4) وأنف المقدم والسّنام الأعظم ، ولقد شفى وحاوح صدرى (5) أن رأيتكم بأخرة (6) تحوزونهم كما حازوكم ، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم ، حسّا بالنّضال (7) وشجرا بالرّماح (Cool تركب أولاهم أخراهم كالابل الهيم المطرودة (9) ترمى
    __________________
    (1) أى : إنكم ستجتمعون لقهر الظالمين ، ولن يكون فى طاقتهم أن يفرقوكم ، حتى لو شتتوكم تشتيت الكواكب فى السماء لاجتمعتم لقتالهم ، وقيل : إنه يريد أن البلاء سيعم ، حتى لو فرقكم بنو أمية تحت كل كوكب ـ طلبا لخلاصكم من البلاء ـ لجمعكم اللّه لشر يوم لهم حتى يأخذهم البلاء كما يأخذكم
    (2) الطغام ـ كجراد ـ أوغاد الناس
    (3) لهاميم : جمع لهميم ـ بالكسر ـ وهو السابق الجواد من الخيل والناس.
    (4) اليآفيخ : جمع يأفوخ ، وهو من الرأس حيث يلتقى عظم مقدمه مع مؤخره.
    (5) الوحاوح : جمع وحوحة : وهى صوت معه بحح يصدر عن المتألم ، والمراد حرقة الغيظ
    (6) الأخرة ـ محركة ـ آخر الأمر ، وجملة «أن رأيتكم» فاعل «شفى»
    (7) الحس ـ بالفتح ـ القتل ، والنضال : المباراة فى الرمى ، وفى رواية «النصال» بالصاد
    (Cool الشجر ـ كالضرب ـ الطعن
    (9) الهيم ـ بالكسر ـ

    عن حياضها ، وتذاد عن مواردها.
    106 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وهى من خطب الملاحم
    الحمد للّه المتجلّى لخلقه بخلقه ، والظّاهر لقلوبهم بحجّته ، خلق الخلق من غير رويّة ، إذ كانت الرّويّات لا تليق إلاّ بذوى الضّمائر. وليس بذى ضمير فى نفسه ، خرق علمه باطن غيب السّترات (1) وأحاط بغموض عقائد السّريرات
    منها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وآله وسلم :
    اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضّياء (2) ، وذؤابة العلياء (3) وسرّة البطحاء (4) ومصابيح الظّلمة ، وينابيع الحكمة ومنها : طبيب دوّار بطبّه : قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه (5) يضع من ذلك حيث الحاجة إليه : من قلوب عمى ، وآذان صمّ ، وألسنة بكم متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة (6)
    __________________
    (1) جمع سترة ، وهى ما يستر به أيا كان
    (2) المشكاة : كل كوة غير نافذة ، ومن العادة أن يوضع فيها المصباح
    (3) الذؤابة : الناصية ، أو منبتها من الرأس
    (4) البطحاء : ما بين أخشبى مكة ، وكانت تسكنه قبائل من قريش ، ويقال لهم «قريش البطاح»
    (5) مواسمه : جمع ميسم ـ بالكسر ـ وهو المكواة ، ويجمع على مواسم ومياسم
    (6) قوله «لم يستضيئوا» يحكى حال من لم ينفع فيهم الدواء ممن صار الفساد من مقومات أمزجتهم

    ولم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة ، فهم فى ذلك كالأنعام السّائمة والصّخور القاسية قد انجابت السّرائر لأهل البصائر (1) ، ووضحت محجّة الحقّ لخابطها (2) وأسفرت السّاعة عن وجهها ، وظهرت العلامة لمتوسّمها. مالى أراكم أشباحا بلا أرواح؟ وأرواحا بلا أشباح. ونسّاكا بلا صلاح ، وتجّارا بلا أرباح ، وأيقاظا نوّما ، وشهودا غيّبا ، وناظرة عمياء ، وسامعة صمّاء ، وناطقة بكماء؟ رأيت ضلالة قد قامت على قطبها (3) وتفرّقت بشعبها (4) تكيلكم بصاعها (5) وتخبطكم بباعها (6) قائدها خارج عن الملّة ، قائم على الضّلّة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة القدر (7) ، أو نفاضة كنفاضة العكم (Cool تعرككم
    __________________
    (1) «انجابت» من قولهم «انجابت الناقة» إذا مدت عنقها للحلب ، أى : إن السرائر خضعت لنور البصائر فهو يكشفها ويملكها ، وأهل البصائر يصرفون السرائر إلى ما يريدون
    (2) خابطها : السائر عليها
    (3) «قامت على قطبها» تمثيل لانتظام أمرها ، واستحكام قوتها
    (4) جمع شعبة ، أى : انتشرت بفروعها
    (5) «تكيلكم» أى : تأخذكم للهلاك جملة كما يأخذ الكيال ما يكيله من الحب
    (6) «تخبطكم» من «خبط الشجرة» أى : ضربها بالعصى ليتناثر ورقها ، أو من «خبط البعير بيده الأرض» أى : ضربها وعبر بالباع ليفيد استطالتها عليهم ، وتناولها لقريبهم وبعيدهم
    (7) الثفالة ـ بالضم ـ كالثفل والثافل : ما استقر تحت الشىء من كدورة ، وثفالة القدر : ما يبقى فى قعرها من عكارة. والمراد الأرذال والسفلة
    (Cool النفاضة : ما يسقط : بالنفض ، والعكم ـ بالكسر ـ العدل ـ بالكسر ـ أيضا وهو سفط تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والمراد ما يبقى بعد تفريغه فى خلال نسجه فينفض لينظف

    عرك الأديم (1) وتدوسكم دوس الحصيد (2) وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الحبّة البطينة (3) من بين هزيل الحبّ ، أين تذهب بكم المذاهب وتتيه بكم الغياهب ، وتخدعكم الكواذب؟؟ ومن أين تؤتون وأنّى تؤفكون؟ فلكلّ أجل كتاب ، ولكلّ غيبة إياب ، فاستمعوه من ربّانيّكم (4) وأحضروه قلوبكم ، واستيقظوا إن هتف بكم (5) وليصدق رائد أهله (6) وليجمع شمله ، وليحضر ذهنه ، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة ، وقرفه قرف الصّمغة (7) فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه ، وركب الجهل مراكبه ، وعظمت الطّاغية ، وقلّت الدّاعية ، وصال الدّهر صيال السّبع العقور ، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم (Cool ، وتواخى النّاس على الفجور ، وتهاجروا على الدّين ، وتحابّوا على الكذب ، وتباغضوا على الصّدق فإذا كان ذلك كان الولد غيظا (9)
    __________________
    (1) العرك ـ كالنصر ـ شديد الدلك ، وعركه : حكه حتى عفاه ، والأديم : الجلد
    (2) المحصود
    (3) البطينة : السمينة
    (4) الربانى ـ بتشديد الباء ـ المتأله ، العارف باللّه عز وجل
    (5) صاح بكم
    (6) الرائد : من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكلأ ، ويتعرف سهولة الوصول إليها من صعوبته وفى المثل : «لا يكذب الرائد أهله» يأمر الهداة والدعاة الذين يتلقون عنه ، ويوصيهم بالصدق فى النصيحة
    (7) «قرف الصمغة» قشرها ، وخص هذا بالذكر لأن الصمغة إذا قشرت لا يبقى لها أثر ، كذا قالوا
    (Cool الفنيق : الفحل من الابل و «بعد كظوم» أى : إمساك وسكون
    (9) يغيظ والده لشبوبه على العقوق ويكون المطر قيظا لعدم فائدته ، فان الناس منصرفون عن فوائدهم والانتفاع بما يفيض اللّه عليهم من خير إلى إضرار بعضهم ببعض ، وما أشبه هذه الحال بحال هذا الزمان

    والمطر قيظا ، وتفيض اللّئام فيضا ، وتغيض الكرام غيضا (1) ، وكان أهل ذلك الزّمان ذئابا ، وسلاطينه سباعا ، وأوساطه أكّالا ، وفقراؤه أمواتا ، وغار الصّدق ، وفاض الكذب ، واستعملت المودّة باللّسان ، وتشاجرت النّاس بالقلوب ، وصار الفسوق نسبا ، والعفاف عجبا ، ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا.
    107 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    كلّ شىء خاضع له ، وكلّ شىء قائم به : غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف ، ومن تكلّم سمع نطقه ، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه ، لم ترك العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ، لم تخلق الخلق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخذت (2) ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد فى ملكك من أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاءك ، ولا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك ، كلّ سرّ عندك علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ، أنت الأبد لا أمد لك ، وأنت المنتهى لا
    __________________
    (1) تغيض. من «غاض الماء» إذا غار فى الأرض وجفت ينابيعه
    (2) لا يفلتك : لا ينفلت منك (14 ـ ن ـ ج ـ 1)

    محيص عنك ، وأنت الموعد لا منجى منك إلاّ إليك ، بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة ، سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظمه فى جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملكوتك ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك فى الدّنيا ، وما أصغرها فى نعيم الآخرة. منها : من ملائكة أسكنتهم سمواتك ، ورفعتهم عن أرضك ، هم أعلم خلقك بك ، وأخوفهم لك ، وأقربهم منك ، لم يسكنوا الأصلاب ، ولم يضمّنوا الأرحام ، ولم يخلقوا من ماء مهين (1) ولم يشعبهم ريب المنون (2) وإنّهم ـ على مكانهم منك ، ومنزلتهم عندك ، واستجماع أهوائهم فيك ، وكثرة طاعتهم لك ، وقلّة غفلتهم عن أمرك ـ لو عاينوا كنه ما خفى عليهم منك لحقروا أعمالهم ، ولزروا على أنفسهم (3) ، ولعرفوا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك ، ولم يطيعوك حقّ طاعتك ، سبحانك خالقا ومعبودا : بحسن بلائك عند خلقك (4) خلقت دارا ،
    __________________
    (1) المهين : الحقير ، يريد النطفة
    (2) المنون : الدهر ، والريب : صرفه ، أى : لم تفرقهم صروف الزمان
    (3) زرى عليه ـ كرمى ـ عابه
    (4) البلاء : يكون نعمة ويكون نقمة ويتعين الأول باضافة الحسن إليه ، أى : ما عبدوك إلا شكرا لنعمك عليهم

    وجعلت فيها مأدبة (1) : مشربا ، ومطعما ، وأزواجا ، وخدما ، وقصورا ، وأنهارا ، وزروعا ، وثمارا ، ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها ، فلا الدّاعى أجابوا ، ولا فيما رغبت إليه رغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبّها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره (2) وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشّهوات عقله ، وأماتت الدّنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه فهو عبد لها ، ولمن فى يده شىء منها : حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، ولا يزدجر من اللّه بزاجر ، ولا يتّعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغرّة (3) ـ حيث لا إقالة ولا رجعة ـ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ، فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا (4) فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ، ويسمع بأذنه ـ على صحّة من عقله ، وبقاء من لبّه ـ يفكّر فيم أفنى عمره ،
    __________________
    (1) المادبة ـ بفتح الدال ، وضمها ـ : ما يصنع من الطعام للمدعوين فى عرس ونحوه ، والمراد منها الجنة
    (2) أعشاه : أعماه
    (3) «على الغرة» ـ بالكسر ـ بغتة وعلى غفلة
    (4) ولوجا : دخولا ، وفعله كوعد

    وفيم أذهب دهره ، ويتذكّر أموالا جمعها : أغمض فى مطالبها (1) وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها (2) وأشرف على فراقها : تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، ويتمتّعون بها ، فيكون المهنأ لغيره (3) والعبء على ظهره (4). والمرء قد غلقت رهونه بها (5) فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره (6) ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره ، ويتمنّى أنّ الّذى كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه! فلم يزل الموت يبالغ فى جسده حتّى خالط لسانه سمعه (7) ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولا يسمع بسمعه : يردّد طرفه بالنّظر فى وجوههم يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم. ثمّ ازداد الموت التياطا (Cool فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الرّوح من جسده فصار جيفة بين أهله : قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من
    __________________
    (1) أغمض : لم يفرق بين حلال وحرام كأنه أغمض عينيه فلا يميز ، أو «أغمض» أى : طلبها من أدق الوجوه وأخفاها ، فضلا عن أظهرها وأجلاها
    (2) تبعاتها ـ بفتح فكسر ـ : ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها ، وما يحاسبه به اللّه : من منع حقه منها ، وتخطى حدود شرعه فى جمعها
    (3) المهنأ : ما أتاك من خير بلا مشقة
    (4) العبء : الحمل ، والثقل
    (5) غلقت رهونه : استحقها مرتهنها ، وأعوزته القدرة على تخليصها ، كناية عن تعذر الخلاص
    (6) أصحر له : إذا برز فى الصحراء ، أى : على ما ظهر له وانكشف من أمره
    (7) «خالط لسانه سمعه» : شارك السمع اللسان فى العجز عن أداء وظيفته
    (Cool «التياطا» أى : التصاقا به

    قربه ، لا يسعد باكيا ، ولا يجيب داعيا. ثمّ حملوه إلى محطّ فى الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زورته (1) حتّى إذا بلغ الكتاب أجله والأمر مقاديره ، وألحق آخر الخلق بأوّله ، وجاء من أمر اللّه ما يريده : من تجديد خلقه ، أماد السّماء وفطرها (2) ، وأرجّ الأرض وأرجفها ، وقلع جبالها ونسفها ودكّ بعضها بعضا من هيبة جلالته ، ومخوف سطوته ، وأخرج من فيها فجدّدهم على أخلاقهم (3) وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الأعمال ، وخبايا الأفعال ، وجعلهم فريقين : أنعم على هؤلاء ، وانتقم من هؤلاء : فأمّا أهل طاعته فأثابهم بجواره ، وخلّدهم فى داره ، حيث لا يظعن النّزّال ، ولا يتغيّر لهم الحال ، ولا تنوبهم الأفزاع (4) ولا تنالهم الأسقام ، ولا تعرض لهم الأخطار ، ولا تشخصهم الأسفار (5) ، وأمّا أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدى إلى الأعناق ، وقرن النّواصى بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران (6) ومقطّعات النّيران (7) فى عذاب قد اشتدّ حرّه
    __________________
    (1) زيارته
    (2) «أماد» جواب «إذا بلغ الكتاب ـ الخ» وأمادها : حركها على غير انتظام ، وفطرها : صدعها
    (3) أخلاقهم ـ بالفتح ـ : من قولهم «توب أخلاق» إذا كانت الخلوقة شاملة له كله ، والخلوقة : البلى ، وتقول : خلق الثوب ـ بالضم ـ فهو خلق ـ بوزان بطل وحسن ـ أى : بلى ، و «أخلق الثوب» بالهمز لغة فيه ، وتقول «أخلقه صاحبه» فذو الهمزة لازم ومتعد
    (4) لا تنوبهم الأفزاع : جمع فزع ـ بفتحتين ـ بمعنى الخوف
    (5) أشخصه : أزعجه
    (6) السربال : القميص ، والقطران : معروف
    (7) المقطعات : كل ثوب يقطع كالقميص والجبة ونحوها ، بخلاف ما لا يقطع كالازار والرداء ، والمقطعات أشمل للبدن ، وأشد استحكاما فى احتوائه

    وباب قد أطبق على أهله فى نار لها كلب ولجب (1) ولهب ساطع ، وقصيف هائل (2) ، لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها ، ولا تفصم كبولها (3) لا مدّة للدّار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيقضى.
    ومنها فى ذكر النبى صلّى اللّه عليه وسلم :
    قد حقّر الدّنيا وصغّرها ، وأهونها وهوّنها ، وعلم أنّ اللّه زواها عنه اختيارا (4) ، وبسطها لغيره احتقارا ، فأعرض عنها بقلبه ، وأمات ذكرها عن نفسه ، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا (5) أو يرجو فيها مقاما ، بلّغ عن ربّه معذرا (6) ونصح لأمّته منذرا ، ودعا إلى الجنّة مبشّرا نحن شجرة النّبوّة ، ومحطّ الرّسالة ، ومختلف الملائكة (7) ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا ومحبّنا ينتظر الرّحمة ، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السّطوة
    __________________
    (1) عبر بالكلب ـ محركا ـ عن هيجانها ، واللجب ـ بالتحريك أيضا ـ الصوت المرتفع ، وأصله اضطراب موج البحر ، وتقول : جيش ذو لجب ، إذا كان ذا جلبة وصياح ، وباب فعله فرح
    (2) القصيف : أشد الصوت
    (3) جمع كبل ـ بفتح فسكون ـ وهو : القيد ، وتفصم : تنقطع
    (4) زواها : قبضها
    (5) الرياش : اللباس الفاخر
    (6) معذرا : مبينا للّه حجة تقوم مقام العذر فى عقابهم إن خالفوا أمره
    (7) مختلف الملائكة ـ بفتح اللام ـ محل اختلافهم ، أى : ورود واحد منهم بعد آخر فيكون الثانى كأنه خلف للأول ، وهكذا

    108 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه ، سبحانه ، الإيمان به وبرسوله والجهاد فى سبيله فإنّه ذروة الإسلام ، وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصّلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزّكاة فإنّها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب ، وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذّنب (1) ، وصلة الرّحم فإنّها مثراة فى المال ومنسأة فى الأجل (2) وصدقة السّرّ فإنّها تكفّر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقى مصارع الهوان. أفيضوا فى ذكر اللّه فإنّه أحسن الذّكر ، وارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّه أصدق الوعد ، واقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى ، واستنّوا بسنّته فإنّه أهدى السّنن ، وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص ، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذى لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند اللّه ألوم (3)
    __________________
    (1) رحضه ـ كمنعه ـ : غسله
    (2) منسأة : مطال فيه ومزيد
    (3) ألوم : أشد لوما لنفسه بين يدى اللّه ، لأنه لا يجد منها عذرا يقبل أو يرد

    109 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أما بعد ، فإنّى أحذّركم الدّنيا فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشّهوات ، وتحبّبت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها (1) ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة (2) نافدة بائدة (3) ، أكّالة غوّالة (4) لا تعدو إذا تناهت إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها والرّضاء بها (5) أن تكون كما قال اللّه سبحانه وتعالى : «كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَكٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» لم يكن امرؤ منها فى حبرة إلاّ أعقبتها عبرة (7) ولم يلق فى سرّائها بطنا (Cool إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا ، ولم تطلّه فيها ديمة رخاء (9) إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء ، وحرىّ ، إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسى له متنكّرة وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى (10) لا ينال امرؤ
    __________________
    (1) الحبرة ـ : بالفتح ـ السرور والنعمة
    (2) حائلة : متغيرة
    (3) نافدة : فانية «بائدة» ، أى : هالكة
    (4) غوالة : مهلكة
    (5) أى : إنها إذا وصلت بأهل الرغبة فيها إلى أمانيهم فلا تتجاوز الوصف الذى ذكره اللّه فى قوله «كماء ـ الخ» ، فقوله : «أن تكون» مفعول لتعدو
    (6) الهشيم : النبت اليابس المتكسر
    (7) بالفتح : الدمعة قبل أن تفيض ، أو تردد البكاء فى الصدر ، أو الحزن بلا بكاء
    (Cool كنى بالبطن والظهر عن الاقبال والادبار
    (9) الطل : المطر الضعيف ، وطلت السماء : أمطرته ، والديمة : مطر يدوم فى سكون لا رعد ولا برق معه ، والرخاء : السعة ، وهتنت المزن : انصبت
    (10) أوبى : صار كثير الوباء ، والوباء : هو المعروف بالريح الأصفر

    من غضارتها رغبا (1) إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا (2) ، ولا يمسى منها فى جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف (3) غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها لا خير فى شىء من أزوادها إلاّ التّقوى ، من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه (4) وزال عمّا قليل عنه ، كم من واثق بها فجعته (5) وذى طمأنينة قد صرعته ، وذى أبهة قد جعلته حقيرا (6) وذى نخوة قد ردّته ذليلا (7)؟ سلطانها دول (Cool ، وعيشها رنق (9) وعذبها أجاج (10) وحلوها صبر (11) وغذاؤها سمام (12) وأسبابها رمام (13) حيّها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وموفورها منكوب (14) ، وجارها محروب (15) ألستم فى مساكن من كان قبلكم أطول
    __________________
    (1) الغضارة : النعمة والسعة ، والرغب ـ بالتحريك ـ : الرغبة ، والمرغوب
    (2) أرهقته التعب : ألحقته به
    (3) القوادم : جمع قادمة ، وهى الواحدة من أربع أو عشر ريشات فى مقدم جناح الطائر ، وهى القوادم
    (4) يهلكه
    (5) أوجعته بفقد ما يعز عليه
    (6) أبهة ـ يضم فتشديد ـ : عظمة
    (7) النخوة ـ بالفتح ـ : الافتخار
    (Cool جمع دولة ، وهى : انقلاب الزمان.
    (9) رنق ـ بفتح فكسر ـ : كدر
    (10) مالح شديد الملوحة
    (11) الصبر ـ ككتف ـ : عصارة شجر مر
    (12) جمع ـ سم ـ مثلث السين ـ وهو من المواد : ما إذا خالط المزاج أفسده فقتل صاحبه
    (13) جمع رمة ـ بالضم ـ وهى : القطعة البالية من الحبل ، أى : ما يتمسك به منها فهو بال منقطع
    (14) موفورها : ما كثر منها مصاب بالنكبة ، وهى المصيبة ، أى : فى معرض لذلك
    (15) من حربه حربا ـ بالتحريك ـ : إذا سلب ماله

    أعمارا ، وأبقى آثارا ، وأبعد آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا : تعبّدوا للدّنيا أىّ تعبّد ، وآثروها أىّ إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع (1)؟؟!! فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية (2) أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالفوادح (3) وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنّوائب (4) وعفّرتهم للمناخر (5) ووطئتهم بالمناسم (6) وأعانت عليهم ريب المنون ، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها (7) وآثرها ، وأخلد لها (Cool حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد (9) وهل زوّدتهم إلاّ السّغب (10) أو أحلّتهم إلاّ الضّنك (11) أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة (12) أو أعقبتهم إلاّ النّدامة؟ فهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنّون ، أم عليها تحرصون؟؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا ـ وأنتم
    __________________
    (1) ظهر قاطع : راحلة تركب لقطع الطريق
    (2) أى : سخت نفسها لهم بفداء
    (3) أرهقتهم : غشيتهم بالقوادح ـ بالقاف ـ جمع قادح ، وهو : أكال يقع فى الشجر والأسنان ، أى : بما ينهكهم ويمزق أجسادهم وفى نسخة «الفوادح» بالفاء ـ من «فدحه الأمر» إذا أثقله
    (4) ضعضعتهم : ذللتهم
    (5) كبتهم على مناخرهم فى العفر ، وهو التراب
    (6) جمع منسم ، وهو مقدم خف البعير ، أو الخف نفسه.
    (7) دان لها : خضع
    (Cool ركن إليها
    (9) أى : فراق مدته لا نهاية لها
    (10) السغب ـ محركة ـ : الجوع
    (11) الضنك : الضيق
    (12) «أو نورت لهم ـ الخ» : لم يكن لهم مما ظنوه نورا لها إلا الظلام

    تعلمون ـ بأنّكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالّذين قالوا : (من أشدّ منّا قوّة) حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا (1) وأنزلوا الأجداث (2) فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصّفيح أجنان (3) ومن التّراب أكفان (4) ومن الرّفات جيران (5) فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة : إن جيدوا لم يفرحوا (6) وإن قحطوا لم يقنطوا : جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون (7) وقريبون لا يتقاربون حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم (Cool ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، وبالسّعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنّور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها (9) حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة ، والدّار الباقية ، كما قال سبحانه : «كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ»
    __________________
    (1) لا يقال لهم ركبان ، جمع راكب ، لأن الراكب من يكون مختارا وله التصرف فى مركوبه
    (2) القبور
    (3) الصفيح : وجه كل شىء عريض ، والمراد وجه الأرض ، والأجنان : جمع جنن ـ محركة ـ : وهو القبر
    (4) لأن أكفانهم تبلى ، ولا يغشى أبدانهم سوى التراب
    (5) الرفات : العظام المندقة المحطومة
    (6) جيدوا : مطروا
    (7) متقاربون لا يزور بعضهم بعضا.
    (Cool لا تخاف منهم أن يفجعوك بضرر
    (9) جاءوا إلى الأرض ، واتصلوا بها ، بعد ما فارقوها ، وانفصلوا عنها ، فى بدء خليقتهم ، فانهم خلقوا منها كما قال تعالى : «مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَفِيهٰا نُعِيدُكُمْ» وقوله : «قد ظعنوا عنها» يشير إلى أنهم بعد الموت يذهبون بأرواحهم : إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، كما يرشد إليه الاستشهاد بالآية

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نهج البلاغه ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نهج البلاغه ج1   نهج البلاغه ج1 Emptyأمس في 10:27 pm

    110 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    ذكر فيها ملك الموت
    هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين فى بطن أمّه؟ أيلج عليه من بعض جوارحها (1) أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو ساكن معه فى أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!!؟
    111 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    وأحذّركم الدّنيا فإنّها منزل قلعة (2) ، وليست بدار نجعة (3) قد تزيّنت بغرورها ، وغرّت بزينتها ، هانت على ربّها : فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرّها ، وحياتها بموتها ، وحلوها بمرّها : لم يصفها اللّه تعالى لأوليائه ، ولم يضنّ بها على أعدائه ، خيرها زهيد ، وشرّها عتيد (4) ، وجمعها ينفد ، وملكها يسلب وعامرها يخرب ، فما خير دار تنقض نقض البناء؟ وعمر يفنى فيها فناء الزّاد
    __________________
    (1) يلج : يدخل
    (2) القلعة ـ كهمزة ، وطرفة ، ودجنة ـ من لا يثبت على السرج ، أو من يزل قدمه عند الصراع ، أى : هى منزل من لا يستقر
    (3) النجعة ـ بالضم ـ طلب الكلأ فى موضعه ، أى : ليست محط الرحال ، ولا مبلغ الآمال
    (4) حاضر

    ومدّة تنقطع انقطاع السّير؟! اجعلوا ما افترض اللّه عليكم من طلبكم (1) واسألوه من أداء حقّه ما سألكم ، وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إنّ الزّاهدين فى الدّنيا تبكى قلوبهم وإن ضحكوا ، ويشتدّ حزنهم وإن فرحوا ، ويكنر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا (2) قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال ، وحضرتكم كواذب الآمال ، فصارت الدّنيا أملك بكم من الآخرة ، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة وإنّما أنتم إخوان على دين اللّه : ما فرّق بينكم إلاّ خبث السّرائر ، وسوء الضّمائر : فلا توازرون ، ولا تناصحون ، ولا تبادلون ، ولا توادّون!! ما بالكم تفرحون باليسير من الدّنيا تملكونه ، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه ، ويقلّقكم اليسير من الدّنيا يفوتكم حتّى يتبيّن ذلك فى وجوهكم وقلّة صبركم عمّا زوى منها عنكم (3)؟؟!! كأنّها دار مقامكم ، وكأنّ متاعها باق عليكم!! وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلاّ مخافة أن يستقبله بمثله ، قد تصافيتم على رفض الآجل ، وحبّ العاجل ، وصار دين أحدكم لعقة على لسانه (4)
    __________________
    (1) مطلوبكم ، أى : اجعلوا الفرائض من مطالبكم التى تسعون إليها ، واسألوا اللّه أن يمنحكم ما سألكم من أداء حقه ، أى : أى يمن عليكم بالتوفيق لأداء حقه
    (2) اغتبطوا : غبطهم غيرهم بما آتاهم اللّه من الرزق.
    (3) قلة صبركم : عطف على وجوهكم. وزوى : من «زواه» إذا نحاه
    (4) عبر باللعقة عن الاقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته

    صنيع من قد فرغ عن عمله وأحرز رضا سيّده!
    112 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    الحمد للّه الواصل الحمد بالنّعم ، والنّعم بالشّكر. نحمده على آلائه ، كما نحمده على بلائه ، ونستعينه على هذه النّفوس البطاء عمّا أمرت به (1) السّراع إلى ما نهيت عنه ، ونستغفره ممّا أحاط به علمه وأحصاه كتابه : علم غير قاصر وكتاب غير مغادر (2). ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ، ووقف على الموعود : إيمانا نفى إخلاصه الشّرك ، ويقينه الشّكّ. ونشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، شهادتين تصعدان القول ، وترفعان العمل : لا يخفّ ميزان توضعان فيه ، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّتى هى الزّاد ، وبها المعاد ، زاد مبلّغ ، ومعاد منجح ، دعا إليها أسمع داع ، ووعاها خير واع (3) فأسمع داعيها ، وفاز واعيها عباد اللّه ، إنّ تقوى اللّه حمت أولياء اللّه محارمه (4) ، وألزمت قلوبهم مخافته
    __________________
    (1) البطاء ـ بالكسر ـ جمع بطيئة ، والسراع : جمع سريعة
    (2) غير تارك شيئا إلا أحاط به
    (3) وعاها : فهمها وحفظها
    (4) حمى الشىء : منعه ، أى : منعتهم الارتكاب محرماته

    حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم (1) فأخذوا الرّاحة بالنّصب (2) والرّىّ بالظّمأ ، واستقربوا الأجل ، فبادروا العمل ، وكذّبوا الأمل ، فلاحظوا الأجل. ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء وعناء ، وغير وعبر : فمن الفناء أنّ الدّهر موتّر قوسه (3) لا تخطىء سهامه ، ولا تؤسى جراحه (4) يرمى الحىّ بالموت والصّحيح بالسّقم ، والنّاجى بالعطب ، آكل لا يشبع ، وشارب لا ينقع (5) ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن ، ثمّ يخرج إلى اللّه لا مالا حمل ، ولا بناء نقل ، ومن غيرها (6) أنّك ترى المرحوم مغبوطا ، والمغبوط مرحوما ، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ (7) وبؤسا نزل ، ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله ، فيقطعه حضور أجله ، فلا أمل يدرك ، ولا مؤمّل يترك! فسبحان اللّه!! ما أغرّ سرورها ، وأظمأ ريّها ، وأضحى فيئها (Cool ، لا جاء يردّ (9) ولا ماض
    __________________
    (1) أظمأتها بالصيام
    (2) التعب
    (3) فمن أسباب الفناء كون الدهر قد أوتر قوسه ليرمى بها أبناءه
    (4) تؤسى : تداوى ، من «أسوت الجرح» إذا داويته
    (5) لا ينقع ـ كينفع ـ : لا يشتفى من العطش بالشرب
    (6) غيرها ـ بكسر ففتح ـ تقلبها ، والمرحوم : الذى ترق له وترحمه لسوء حاله يصبح مغبوطا على ما تجدد له من نعمة
    (7) من «زل فلان زليلا وزلولا» اذا مر سريعا ، والمراد انتقل. أو هو الفعل اللازم من «أزل إليه نعمة» أسداها
    (Cool أضحى كضحا ، ـ كدعا ـ برز للشمس ، والفىء : الظل بعد الزوال ، أو مطلقا
    (9) الجائى : يريد به الموت.

    يرتدّ! فسبحان اللّه!! ما أقرب الحىّ من الميّت للحاقه به ، وأبعد الميّت من الحىّ لانقطاعه عنه. إنّه ليس شىء بشرّ من الشّرّ إلاّ عقابه ، وليس شىء بخير من الخير إلاّ ثوابه وكلّ شىء من الدّنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شىء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فليكفكم من العيان السّماع ، ومن الغيب الخبر ، واعلموا أنّ ما نقص من الدّنيا وزاد فى الآخرة خير ممّا نقص فى الآخرة وزاد فى الدّنيا ، فكم من منقوص رابح ومزيد خاسر. إنّ الّذى أمرتم به أوسع من الّذى نهيتم عنه ، وما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم ، فذروا ما قلّ لما كثر ، وما ضاق لما اتّسع ، قد تكفّل لكم بالرّزق ، وأمرتم بالعمل ، فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولى (1) بكم من المفروض عليكم عمله ، مع أنّه ، واللّه ، لقد اعترض الشّكّ ودخل اليقين (2) حتّى كأنّ الّذى ضمن لكم قد فرض عليكم ، وكأنّ الّذى قد فرض عليكم قد وضع عنكم! فبادروا العمل ، وخافوا بغتة الأجل ، فانّه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرّزق (3) ما فات من الرّزق رجى غدا زيادته ، وما فات أمس من العمر لم يرج
    __________________
    (1) طلبه : مبتدأ خبره «أولى» وجملتهما خبر «يكون»
    (2) دخل ـ كفرح ـ خالطه فساد الأوهام
    (3) الذى يفوت من العمر لا يرجى رجوعه ، بخلاف الذى يفوت من الرزق ، فانه يمكن تعويضه.

    اليوم رجعته. الرّجاء مع الجائى ، واليأس مع الماضى (فَاِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
    113 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    فى الاستسقاء
    اللّهمّ قد انصاحت جبالنا (1) ، واغبرّت أرضنا ، وهامت دوابّنا ، وتحيّرت فى مرابضها ، وعجّت عجيج الثّكالى على أولادها ، وملّت التّردّد فى مراتعها ، والحنين إلى مواردها. اللّهمّ فارحم أنين الآنّة ، وحنين الحانّة. اللّهمّ فارحم حيرتها فى مذاهبها ، وأنينها فى موالجها (2) اللّهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السّنين ، وأخلفتنا مخايل الجود (3) ، فكنت الرّجاء للمبتئس (4) والبلاغ للملتمس : ندعوك حين قنط الأنام ، ومنع الغمام ، وهلك السّوام (5) أن لا تؤاخذنا بأعمالنا ، ولا تأخذنا بذنوبنا ، وانشر علينا رحمتك بالسّحاب
    __________________
    (1) انصاحت : جفت أعالى بقولها ، ويبست من الجدب ، وليس من المناسب تفسير «انصاحت» بانشقت إلا أن يراد المبالغة فى الحرارة التى اشتدت لتأخر المطر حتى اتقد باطن الأرض نارا ، وتنفست فى الجبال فانشقت ، وتفسير بقية الألفاظ يأتى فى آخر الدعاء لصاحب الكتاب
    (2) مداخلها فى المرابض
    (3) مخايل : جمع مخيلة ـ كمصيبة ـ وهى السحابة تظهر كأنها ماطرة ثم لا تمطر والجود ـ بالفتح ـ المطر
    (4) الذى مسته البأساء والضراء ، والبلاغ : الكفاية
    (5) جمع سائمة : وهى البهيمة الراعية من الابل ونحوها

    المنبعق (1) والرّبيع المغدق (2) والنّبات المونق (3) سحّا وابلا (4) تحيى به ما قد مات ، وتردّ به ما قد فات. اللّهمّ سقيا منك ، محيية ، مروية ، تامّة ، عامّة ، طيّبة ، مباركة ، هنيئة ، مريعة (5) زاكيا نبتها (6) ، ثامرا فرعها ، ناضرا ورقها ، تنعش بها الضّعيف من عبادك ، وتحيى بها الميت من بلادك. اللّهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا (7) وتجرى بها وهادنا ، وتخصب بها جنابنا (Cool وتقبل بها ثمارنا ، وتعيش بها مواشينا ، وتندى بها أقاصينا (9) ، وتستعين بها ضواحينا (10) من بركاتك الواسعة ، وعطاياك الجزيلة على بريّتك المرملة (11) ووحشك المهملة ، وأنزل علينا سماء مخضلة (12) مدرارا هاطلة ، يدافع الودق منها الودق (13) ، ويحفز القطر منها القطر (14) غير خلّب برقها (15) ولا جهام
    __________________
    (1) «انبعق المزن» : انفرج عن المطر كأنما هو حى انشقت بطنه فنزل ما فيها
    (2) أغدق المطر : كثر ماؤه
    (3) من «آنقنى» : إذا أعجبنى ، أو من «آنقه» : إذا سره وأفرحه
    (4) سحا : صبا ، والوابل : الشديد من المطر الضخم القطر
    (5) المريعة ـ بفتح الميم ـ : الخصيبة
    (6) زاكيا : ناميا ، وثامرا : مثمرا آتيا بالثمر
    (7) جمع نجد : وهو ما ارتفع من الأرض ، والوهاد : جمع وهدة ، وهو ما انخفض منها
    (Cool الجناب : الناحية
    (9) القاصية : الناحية أيضا ، أو هى بمعنى البعيدة عنا من أطراف بلادنا ، فى مقابلة «جنابنا»
    (10) ضاحية المال : التى تشرب ضحى ، والضواحى : جمعها
    (11) بصيغة الفاعل : الفقيرة
    (12) مخضلة : من «أخضله» إذا بله
    (13) الودق : المطر
    (14) يحفز : يدفع
    (15) البرق الخلب : ما يطمعك فى المطر ولا مطر معه

    عارضها (1) ولا قزع ربابها ، (2) ولا شفّان ذهابها (3) حتّى يخصب لإمراعها المجدبون ، ويحيا ببركتها المسنتون (4) فإنّك تنزل الغيث بعد ما قنطوا ، وتنشر رحمتك وأنت الولىّ الحميد قال الشريف : قوله عليه السّلام «انصاحت جبالنا» أى : تشققت من المحول ، يقال : انصاح الثوب ، إذا انشق. ويقال أيضا : انصاح النبت وصاح وصوّح إذا جفّ ويبس. وقوله «وهامت دوابنا» أى : عطشت ، والهيام : العطش وقوله «حدابير السنين» جمع حدبار : وهى الناقة التى أنضاها السير فشبه بها السنة التى فشا فيها الجدب ، قال ذو الرمة : ـ حدابير ما تنفكّ إلاّ مناخة على الحسف أو نرمى بها بلدا قفرا
    وقوله «ولا قزع ربابها» : القزع : القطع الصغار المتفرقة من السحاب ، وقوله «ولا شفان ذهابها» فإن تقديره : ولا ذات شفان ذهابها ، والشفان : الريح الباردة ، والذهاب : الأمطار اللينة ، فحذف «ذات» لعلم السامع به
    114 ـ ومن خطبة له عليه السّلام
    أرسله داعيا إلى الحقّ ، وشاهدا على الخلق ، فبلّغ رسالات ربّه ، غير وان
    __________________
    (1) الجهام ـ بالفتح ـ : السحاب الذى لا مظر فيه ، والعارض : ما يعرض فى الأفق من السحاب.
    (2) الرباب : السحاب الأبيض
    (3) جمع ذهبة ـ بكسر الذال ـ : المطرة القليلة ، وهو المراد باللينة فى تفسير صاحب الكتاب المقحطون
    (4)

    ولا مقصّر (1) ، وجاهد فى اللّه أعداءه غير واهن ولا معذر (2) ، إمام من اتّقى وبصر من اهتدى
    منها : لو تعلمون ما أعلم ممّا طوى عنكم غيبه إذا لخرجتم إلى الصّعدات (3) تبكون على أعمالكم ، وتلتدمون على أنفسكم (4) ، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ، ولا خالف عليها (5) ولهمّت كلّ امرىء نفسه (6) لا يلتفت إلى غيرها ، ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم ، وأمنتم ما حذّرتم ، فتاه عنكم رأيكم (7) ، وتشتّت عليكم أمركم ، ولوددت أنّ اللّه فرّق بينى وبينكم ،
    __________________
    (1) وان : متباطىء متثاقل ، وتقول : ونى فى الأمر ونى وونيا ـ من بابى تعب ووعد ـ إذا ضعف وفتر ، فهو وان ، وفى التنزيل : «وَلاٰ تَنِيٰا فِي ذِكْرِي»
    (2) واهن : ضعيف ، وتقول : وهن وهنا ـ من باب وعد ـ إذا ضعف فهو واهن : فى الأمر والعمل والبدن ، وتقول : وهنته ، إذا أضعفته يتعدى ويلزم ، والأجود تعديته بالهمزة ، ووهن يهن ـ بالكسر فيهما ـ لغة ، وجاء مصدره بالتحريك ، والمعذر : من يعتذر ولا يثبت له عذر.
    (3) الصعدات ـ بضمتين ـ : جمع صعيد بمعنى الطريق ، والصعيد : التراب ، ويقال : هو وجه الأرض. ويجمع على صعد وصعدات ، مثل طريق وطرق وطرقات أى : لتركتم منازلكم وهممتم فى الطرق من شدة الخوف
    (4) الالتدام : ضرب النساء صدورهن أو وجوههن للنياحة
    (5) الخالف : من تتركه فى أهلك ومالك إذا خرجت لسفر أو حرب
    (6) همته : حزنته وشغلته ، ويروى «ولأهمت كل امرىء ـ الخ» وهو أفصح من الرواية المذكورة ، نقول : أهمنى الأمر ، أى : أحزننى
    (7) تقول : تاه عن فلان رأيه ، أى : عزب ، وغاب ، وضل

    وألحقنى بمن هو أحقّ بى منكم : قوم ، واللّه ، ميامين الرّأى (1) مراجيح الحلم مقاويل بالحقّ ، متاريك للبغى ، مضوا قدما (2) على الطّريقة ، وأوجفوا على المحجّة (3) فظفروا بالعقبى الدّائمة ، والكرامة الباردة (4) أما واللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف الذّيّال الميّال (5) : يأكل خضرتكم ، ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة! قال الشريف : أقول : الوذحة : الخنفساء ، وهذا القول يومىء به إلى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث (6) ليس هذا موضوع ذكره
    __________________
    (1) ميامين : جمع ميمون ، وهو المبارك ، و «مراجيح» : أى : حلماء من «رجح» إذا ثقل ومال بغيره ، والمراد الرزانة ، أى : رزناء الحلم ـ بكسر الحاء ـ وهو العقل ، ومقاويل : جمع مقوال ، وهو من يحسن القول ، ومتاريك : جمع متراك ، وهو المبالغ فى الترك
    (2) القدم ـ بضمتين ـ : المضى إلى أمام ، أى : سابقين
    (3) الوجيف : ضرب من سير الخيل والابل ، وأوجف خيله : سيرها بهذا النوع ، أى : أسرعوا على الطريق المستقيمة
    (4) من قولهم : «عيش بارد» أى : هنىء ويقال «غنيمة باردة ، وكرامة باردة» إذا كانت قد أخذت بغير حرب ولا عسف ، وذلك ان المأخوذ بالحرب حار فى المعنى ، لما يلاقيه كاسبه من العناء فى تحصيله.
    (5) الذيال : الطويل القد ، الطويل الذيل ، المتبختر فى مشيته ، وأصله من «ذال» إذا تبختر وجر ذيله على الأرض تيها وعجبا ، وجر الذيول من أعمال المتكبرين ، و «الميال» : الجائر الظالم العادل عن طريق الحق والعدل ، و «يأكل خضرتكم» يستأصل أموالكم ، و «يذيب شحمتكم» مثله ، وكلتا الجملتين استعارة ...
    (6) قالوا : إن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه فطردها ، فعادت ، ثم طردها فعادت ، فأخذها بيده فلسعته ، فورمت يده ، وأخذته حمى من اللسعة فأهلكته ، قتله اللّه بأضعف مخلوقاته وأهونها ، وأصل الوذح : ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف ، وسميت الخنفساء وذحة على التشبيه بالبعرة

    115 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    فلا أموال بذلتموها للّذى رزقها ، ولا أنفس خاطرتم بها للّذى خلقها ، تكرمون باللّه على عباده (1) ، ولا تكرمون اللّه فى عباده ، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم ، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم
    116 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    أنتم الأنصار على الحقّ ، والاخوان فى الدّين ، والجنن يوم البأس (2) والبطانة دون النّاس (3) بكم أضرب المدبر ، وأرجو طاعة المقبل (4) فأعينونى بمناصحة خليّة من الغشّ ، سليمة من الرّيب ، فو اللّه إنّى لأولى النّاس. بالنّاس
    117 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا (5)
    فقال عليه السّلام : أمخرسون أنتم؟ فقال قوم منهم : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك ، فقال عليه السّلام :
    __________________
    (1) كرم الشىء ـ كحسن يحسن ـ أى : عز ونفس ، أى : إنكم تصيرون أعزاء بنسبتكم للايمان باللّه ، ثم لا تبجلون اللّه ولا تعظمونه بالاحسان إلى عباده.
    (2) الجنن ـ بضم ففتح ـ : جمع جنة ـ بالضم ـ وهى الوقاية ، والبأس : الشدة
    (3) بطانة الرجل : خواصه ، وأصحاب سره
    (4) أما ضربه بهم المدبر فظاهر ، وأما رجاء طاعة المقبل فلأن من ينضوى إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعته وبطانته من الأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة أطاعه بقلبه باطنا ، بعد أن كان انضواؤه إليه على الظاهر
    (5) قال بعضهم : إن أمير المؤمنين قال هذا الكلام عند ما كان يغير أهل الشام على أطراف أعماله بعد واقعة صفين ، وقوله «سكتوا مليا» أى : ساعة طويلة ، وتقول : مضى ملى من النهار ، وفى التنزيل. «وَاُهْجُرْنِي مَلِيًّا» وكذلك تقول : أقمت عند فلان ملاوة من الدهر ـ والميم مثلثة ـ أى : حينا وبرهة

    ما بالكم لا سدّدتم لرشد (1) ولا هديتم لقصد؟ أفى مثل هذا ينبغى أن أخرج؟! إنّما يخرج فى مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم وذوى بأسكم ، ولا ينبغى لى أن أدع المصر ، والجند ، وبيت المال ، وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين ، والنّظر فى حقوق المطالبين ، ثمّ أخرج فى كتيبة أتّبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح فى الجفير الفارغ (2). وإنّما أنا قطب الرّحى : تدور علىّ وأنا بمكانى ، فإذا فارقتها استحار (3) مدارها ، واضطرب ثفالها (4) هذا ـ لعمر اللّه ـ الرّأى السّوء!! واللّه لو لا رجائى الشّهادة عند لقائى العدوّ لو قد حمّ لى لقاؤه (5) ، لقرّبت ركابى (6) ثمّ شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال. إنّه لا غناء فى كثرة عددكم (7) مع قلّة اجتماع
    __________________
    (1) سدده : وفقه للسداد.
    (2) القدح ـ بالكسر ـ : السهم قبل أن يراش وينصل ، والجفير : الكنانة توضع فيها السهام ، وقيل : الحفير وعاء للسهام أوسع من الكنانة ، وإنما خص القدح لأنه يكون أشد قلقلة من السهم المراش ، حيث إن حد الريش قد يمنعه من القلقة أو يخففها
    (3) استحار : تردد ، واضطرب
    (4) الثفال ـ كغراب ، وكتاب ـ : الحجر الأسفل من الرحى ، وككتاب : ما وقيت به الرحى من الأرض ، وهو جلد يبسط ثم توضع الرحى فوقه ويطحن ، ليسقط عليه الدقيق
    (5) حم : قدر
    (6) حزمت إبلى وأحضرتها للركوب «وشخصت» أى : بعدت عنكم ، وتخليت عن أمر الخلافة
    (7) الغناء ـ بالفتح والمد ـ : النفع

    قلوبكم. لقد حملتكم على الطّريق الواضح الّتى لا يهلك عليها إلاّ هالك (1) من استقام فإلى الجنّة ، ومن زلّ فإلى النّار
    118 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    تاللّه لقد علمت تبليغ الرّسالات ، وإتمام العدات (2) وتمام الكلمات ، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم ، وضياء الأمر ، ألا وإنّ شرائع الدّين واحدة ، وسبله قاصدة (3) من أخذ بها لحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم اعملوا ليوم تذخر له الذّخائر ، وتبلى فيه السّرائر ، ومن لا ينفعه حاضر لبّه فعازبه عنه أعجز (4) وغائبه أعوز (5) واتّقوا نارا حرّها شديد ، وقعرها بعيد ، وحليتها حديد ، وشرابها صديد (6)
    __________________
    (1) الذى حتم هلاكه لتمكن الفساد من طبعه وجبلته ، وإنما قال «الطريق الواضح» فذكر الطريق ، ثم قال «لا يهلك عليها» فأنث ، لأنه يذكر ويؤنث
    (2) جمع عدة ـ بكسر العين ـ وهى الوعد ، وقوله «لقد علمت» يروى الفعل مبنيا للمعلوم مخفف الحشو ، ويروى مبنيا للمجهول مشدد اللام ، والرواية الثانية أصح وأوفق ، وإتمام العدات : إنجازها والوفاء بها
    (3) مستقيمة ، أو قريبة سهلة ، يقال : بيننا وبين الماء ليلة قاصدة
    (4) عازبه : غائبه ، أى : من لم ينتفع بعقله الموهوب له الحاضر فى نفسه ، فأولى به أن لا ينتفع بعقل غيره الذى هو غائب عن نفسه ، أى : ليس من صفاتها ، بل من صفات الغير ، والمراد أن من لم يكن له من نفسه ومن ذاته واعظ وزاجر يردعه عن فعل القبيح وإتيان ما يلحقه العار بسببه ، فبعيد أن يرتدع بعظة غيره ، أو ينزجر بزجره ، كما قيل : من لم يكن له من نفسه واعظ ، لم تنفعه المواعظ
    (5) عوز الشىء ـ كفرح ـ أى : لم يوجد
    (6) الصديد : ماء الجرح الرقيق والحميم

    ألا وإنّ اللّسان الصّالح ، يجعله اللّه للمرء فى النّاس ، خير له من المال يورثه من لا يحمده (1)
    119 ـ ومن كلام له عليه السّلام
    وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أسرتنا بها ، فلم ندر أى الأمرين (2) أرشد؟ فصفق عليه السّلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال : هذا جزاء من ترك العقدة (3)! أما واللّه لو أنّى حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الّذى يجعل اللّه فيه خيرا : فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوى بكم وأنتم دائى ، كناقش الشّوكة بالشّوكة ، وهو يعلم أنّ ضلعها معها (4)
    __________________
    (1) اللسان الصالح : الذكر الحسن
    (2) هذه إحدى شبه الذين خرجوا على الامام رضى اللّه عنه ، يريدون بذلك أن يحكموا بأنه مخطىء لا محالة ، لأنه قد نهاهم أول الأمر عن الحكومة ثم أمرهم بها وسوغها : فان كانت الحكومة مصلحة فقد أخطأ فى بادىء الأمر حين نهاهم عنها ، وإن كانت الأخرى فقد أخطأ حين رجع عن رأيه الأول وجوزها. وهذا كلام من لا يعرف الحق ولا يذعن له إن ظهر ، فان لامام المؤمنين أن يأمرهم بما يغلب على ظنه أنه مصلحة ، ولا يمنعه ذلك من أن يغير أمره لمصلحة تظهر بعد خفاء
    (3) ما حصل عليه التعاقد من حرب الخارجين عن البيعة ، حتى يكون الظفر أو الهزيمة.
    (4) الضلع ـ بتسكين اللام ـ الميل ، وأصل المثل : «لا تنقش

    اللّهمّ قد ملّت أطبّاء هذا الدّاء الدّوىّ (1) وكلّت النّزعة بأشطان الرّكىّ (2) أين القوم الّذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه؟ وقرأوا القرآن فأحكموه ، وهيّجوا إلى القتال فولهوا وله اللّقاح إلى أولادها (3) وسلبوا السّيوف أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفّا صفّا؟ بعض هلك وبعض نجا! لا يبشّرون بالأحياء (4) ولا يعزّون بالموتى ، مره العيون من البكاء (5) خمص البطون (6) من الصّيام ، ذبّل الشّفاه من الدّعاء (7) صفر الألوان من السّهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين ، أولئك إخوانى الذّاهبون ، فحقّ لنا أن نظمأ
    __________________
    الشوكة بالشوكة فان ضلعها معها» يضرب للرجل يخاصم آخر ، ويستعين عليه بمن هو من قرابته ، أو أهل مشربه ، ونقش الشوكة : إخراجها من العضو تدخل فيه ومعنى المثل : لا تستخرج الشوكة الناشبة فى رجلك بشوكة مثلها ، فان إحداهما فى القوة والضعف كالأخرى : فكما أن الأولى انكسرت لما وطئتها فدخلت فى لحمك ، فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر وتلج فى لحمك
    (1) الدوى ـ بفتح فكسر ـ المؤلم الشديد
    (2) كلت : ضعفت ، والنزعة : جمع نازع ، وهو الذى يستقى الماء ، والأشطان : جمع شطن ، وهو الحبل ، والركى : جمع ركية ، وهى البئر ، أى : ضعفت قوة النازعين لمياه المعونة من آبار هذه الهمم الغائضة الغائرة
    (3) اللقاح : جمع لقوح ، وهى الناقة ، و «ولهها إلى أولادها» فزعها إليها إذا فارقتها
    (4) إذا قيل لهم : نجا فلان فبقى حيا لا يفرحون ، لأن أفضل الحياة عندهم الموت فى سبيل الحق ، ولا يحزنون إذا قيل لهم : مات فلان ، فان الموت عندهم حياة السعادة الأبدية
    (5) مره ـ بضم فسكون ـ جمع أمره ، من «مرهت عينه» إذا فسدت ، أو ابيضت حماليقها
    (6) خمص البطون : ضوامرها
    (7) ذبلت شفته : جفت ويبست لذهاب الريق

    إليهم ، ونعضّ الأيدى على فراقهم. إنّ الشّيطان يسنّى لكم طرقه (1) ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة (2) فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته (3) واقبلوا النّصيحة ممّن أهداها إليكم ، واعقلوها على أنفسكم (4)
    __________________
    (1) يسنى : يسهل
    (2) يعطيكم الفرقة بدل الجماعة ، كأنه يبيعهم الثانية بالأولى
    (3) فاصدفوا : أى فأعرضوا عن وساوسه
    (4) اعقلوها : احبسوها على أنفسكم لا تتركوها فتضيع منكم
    تم الجزء الأول من كتاب «نهج البلاغة» ويليه ـ إن شاء اللّه ـ
    الجزء الثانى ، أعان اللّه على إكماله بمنه وفضله

    فهرست الجزء الأول من «نهج البلاغة»
    وهو النصف الأول من مختار خطب أمير المؤمنين
    علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وكلامه الذي يجري مجرى الخطب
    1 خطبة جامع الكتاب «الشريف الرضى» 37 من خطبة له في ذم قوم باتباع الشيطان
    6 باب المختار من خطب أمير المؤمنين وما يجرى مجراها 38 من كلام له في دعوى الزبير أنه لم يبايع بقبله ومن كلام له في أنهم أو عدوا وهو لا يوعد حتى يوقع
    7 من خطبة له في ابتداء خلق السموات والأرض وخلق آدم ، وفيها تمجيد الله وبيان قدرته 39 كلام في وصيته لابنه بالثبات والحذق في الحرب ومن كلام في أن له محبين في كمين الرمان ومن كلام له في أن له محبين في كمين الرمان ومن كلام له في ذم أهل البصرة
    13 صفة خلق آدم عليه السلام 40 ومن كلام له فيما رد على المسلمين من قطائع عثمان كلام له لما بويع بالمدينة فيه إنباء بما يكون من أمر الناس ، وكلام في الوصية بلزوم الوسط
    21 منها في ذكر الحج وحكمته 47 كلام يصف به من يتصدى للحكم بين الناس وليس لذلك بأهل
    22 خطبة بعد انصرافه من صفين بين فيها حال الناس قبل بعثة النبي ، وتنتهي بمزايا آل البيت ، ومساوي قوم آخرين
    25 الخطبة الشقشقيه ، وفيها تألمه من جور الفاتنين في خلافته ، وحكاية حاله مع سبقة
    33 من خطبة في هدايته الناس وكمال يقينه
    35 من خطبة في النهى عن الفتنة
    36 من كلام له في أنه لايخدع


    50 كلام يذم به اختلاف العلماء في الفتيا 73 ومن خطبة له في ذم الدهر وأهله
    51 ومن كلام له أجاب به الأشعث ابن قيس 76 من خطبة له في حال الناس قبل البعثة وبعدها وتعديد أعماله ، عند خروجه لقتال أهل البصرة
    53 كلام به في تعظيم مابعد الموت ، وحث على العبرة 78 ومن خطبة له في استنفار. الناس لأهل الشام
    55 من خطبة له فيمن لتهموه بقتل عثمان رضى الله عنه 80 من خطبة له في لوم الناس بعد التحكيم
    56 من خطبة في النهى عن التحاسد والوصية بالقرابة والعشيرة 82 من خطبة له في تخويف أهل النهروان
    58 خطبة في الحث على قتال الخارجين 84 ومن كلام له في ثباته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
    59 ومن خطبة في الضجر على من تثاقل أصحابه وبيان أن الباطل قد يعلو بالاتحاد والحق يضيع بالاختلاف 85 من خطبة له في معنى الشبهة
    62 من خطبة في حالهم قبل البعثة وشكواه من انفراد بعدها وذمه لمن بايع بشرط 86 ومن خطبة في ذم المتقعادين عن القتال
    63 ومن خطبة له في الحث على الجهاد وذم القاعدين 87 كلام في الخوارج يبين فيه أن لابد للناس من أمير
    66 من خطبة له في إدبار الدنيا ، وإقبال الآخرة ، وألحت على التزود لها 88 ومن خطبة في الوفاء من كلام في اتباع الهوى وفي إدبار الدنيا
    69 من خطبة في ذم المتخاذلين 89 ومن كلام في الاناة بالحرب مع لزوم الاستعداد
    71 ومن خطبة في معنى قتل عثمان رضي الله عنه 90 من كلام في هروب مصقلة بن هبيرة إلى معاوية
    72 من كلام في وصف طلحة والزبير واستعطافهما 91 ومن خطبة في تعظيم الله وتصغير الدنيا
    92 ومن كلام له تضرعه إلى الله عند الذهاب الحرب


    ومن كلام له في ذكر الكوفة 112 من كلام له في الاحتجاج على الأنصار
    93 ومن خطبة له في تمجيد الله 113 من كلام له عند ماقتل محمد بن أبي بكر
    95 من كلام له يذكر فيه كيف تكون الفتن 113 من كلام له في توبيخ أصحابه
    96 ومن خطبة في التحريض ومن خطبة في الدنيا 114 وقال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
    98 من كلام له في ذكر الأضحية يوم النحر 115 ومن خطبة له ذم أهل العراق
    99 من كلام في تزاحم الناس لبيعته ثم اختلاف بعضهم عليه ومن كلام استهانته بالموت لكنه يحب السلم 116 من خطبة له يعلم الناس فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
    100 من كلام في وصف حربهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله 120 كلام قاله في مروان عند ما أسره في يوم الجمل وأطلقه يصف غدره ومن كلام له ما عزموا على بيعة عثمان
    101 ومن كلام يخبر به عمن يأمر بسبه 121 ومن كلام له فيمن اتهموه بالمشاركة في دم عثمان
    102 من كلام له مع الخوارج 122 ومن خطبة في الوعظ
    103 قال لما اعزم على حرب الخوارج 123 ومن كلام له في حال بني أمية ، ومن كلمات كان يدعو بها
    104 كلام له عند ماخوف بالغيلة ومن خطبة في الدنيا 124 ومن كلام له في بطلان التنجيم
    105 من خطبة في لزوم الاستعداد لما بعد الموت 125 ومن خطبة له في وصف النساء
    107 من خطبة له في تنزيه الله 126 من كلام في الزهاة
    110 كلام في التحريض كان يقوله في أيام صفين 127 ومن كلام في صفة الدنيا
    128 من خطبة له عجيبية فيما قبل الموت وبعده ، وفي صفة خلق الإنسان
    145 من كلام له في عمرو بن العاص


    146 من خطبة له في الوعظ من تغلبه على فتنة الخوارج وما يصيب من بني أمية
    147 ومن خطبة في الحث على العمل للآخرة ، وذكر نعمة الدين ، وذم الرياء والكذب 185 من خطبة له يمجد فيها الله تعالى ، ويصف الأنبياء
    149 من خطبة له بين فيها صفات من يحبه الله وحال أمير المؤمنين مع الناس 186 من خطبة له في حال الناس عند البعثة وما كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم
    154 من خطبة فيها وصف الأمة عند خطئها 187 منم خطبة له في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
    155 من خطبة له في حال الناس من قبل البعثة ، وأن الناس اليوم لايختلفون عن سلفهم 188 من كلام في توبيخ أصحابه على التباطؤ عن نصرة الحق
    157 من خطبة له في تعديد شيء من صفات الله تعالى 190 من كلام له في وصف بني أمية وحال الناس في دولتهم
    159 من خطبة تعرف بخطبة الأشباح ، وهي من جلائل الخطب ، وفيها شيء من وصف السماء ، والأرض والسحاب ، وغير ذلك 191 ومن خطبة في وصف الدنيا ، ووصيته للناس بتركها
    165 منها في صفة السماء 193 من خطبة أخرى فيها صفة دليل السنة وهو نفس أمير المؤمنين وبيان ما يكون من أمره مع أصحابه ، وبيان فضل المتبع ، وما يجنيه المارق
    167 ومنها في صفة الأرض ودحوها على الماء 194 من أخرى يوصى فيها بعدم عصيانه ويصف صاحب الفتنة عليه
    182 من خطبة له لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان 195 من كلام فيه وصف فتنة مقبلة
    من خطبة يذكر ما كان 197 ومن خطبة في التزهيد ، ووصف الناس في بعض الأزمان ، وفيها


    بيان فضل العالم ، وصورة من فساد الزمان 215 من خطبة له في فرائض الاسلام وبيان منازلها ، وفضل العمل بالعلم
    199 من خطئه له في حال الناس قبل البعثة وبما صاروا إليه بعدها 216 ومن خطبة له في وصف الدنيا والتحذير منها
    200 ومن خطبة في الموضوع نفسه مع زيادة كلام في شان آل البيت وبني أمية ، وفي النهي عن طلب مالا يطلب 220 من خطبة يذكر فيها ملك الموت ومن خطبة له في التحذير من الدنيا
    202 من خطبة له في شرف الاسلام ووصف النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وصل للمسلمين بالاسلام وتساهلهم في أمره 222 من خطبة فيها الحض على التقوى وذكر شيء من أوصاف الدينا ، والفرق بينها وبين الآخرة ، ووصف حال الناس في العمل لهما
    205 من كلام له عند ما تأخر قومه في الحرب ثم تراجعوا عن العدو 225 من خطبة في الاستقساء
    206 ومن خطبة له من خطب الملاحم يذكرها طيب الحكمة ، وحال الناس في بعض الأزمان 227 من خطبة في تعظيم ما حجب عن الناس وكشف له ، والاخبار بما سيكون من أمر الحجاج الثقفى
    209 من خطبة له في تمجيد الله ، ووصف ملائكته ، وانصراف الناس عما وعدهم الله ، ووصف الانسان عند الموت ، ثم ذكر المعاد وشأنه ، وفيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم 230 من كلام في التوبيخ على البخل بامال والنفسه ، والحث على طلب الحمد
    232 من كلام في توبيخ أصحابه ، وذكر الأولين في شجاعتهم وتقاهم ،
    233 من كلام في توبيخ أصحابه ، وذكر الأولين في شجاعتهم وتقاهم
    تمت الفهرس
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    نهج البلاغه ج1
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » نهج البلاغه ج3
    » نهج البلاغه ج2

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 46- منتدى كتاب نهج البلاغه 123-
    انتقل الى: