العشائر العراقية والدولة من الأقوى؟
تُعد العائلة (العشيرة) اللبنة الأساس لبُنية غالبية المجتمعات العربية والإسلامية، وتلعب العشائر دورا محوريا في النظام السياسي والاجتماعي لغالبية دول الشرق الأوسط، ومنها العراق.
والدولة العراقية منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي، استخدمت العديد من الأساليب في التعامل مع المجتمع، ومن بينها تقوية الدولة (الإدارة الرسمية القانونية والقضائية) على حساب كيان العشيرة، وقد وصلت في مراحل ما إلى حذف (خانة) اللقب في المستمسكات الرسمية لأنها تعتقد أن هذا الأمر، ربما، لا يتوافق مع مفهوم دولة المواطنة، أو يقود لشرخ اجتماعي!
ولكن وجدنا أن الدولة في مراحل أخرى قد اتبعت سياسة إبراز دور العشائر في الحفاظ على السلمي المجتمعي والوطني بشكل عام، وكان لشيوخ العشائر مخصصات ومكافئات ثمينة وذلك بسبب تفهم الدولة لدورهم المحوري في استقرار البلاد.
ويعود قانون العشائر في العراق إلى بدايات القرن الماضي، حيث سمحت الدولة حينها للشيوخ في حلّ غالبية النزاعات العشائرية المجتمعية التي تحدث في البلاد عبر محكمين عشائريين وفقا للقوانين والأعراف الفاعلة، وقد بقي هذا الدور المحور للعشائر حتى اليوم!
وتنوعت بعد العام 2003 الصراعات العشائرية بأشكال لم تكن معروفة خلال العقود الماضية، وقد ساهمت بشكل واضح في نشر حالة الخوف والرعب من الأعراف العشائرية التي أصبحت أقوى من الدولة ومؤسساتها العسكرية!
وتختلف أسباب النزاعات العشائرية، والتي يبدو أن أسبابها تطورت مع الأيام، فبعد أن كانت تحصل لأسباب واضحة، ومنها الاعتداءات التي تنتهي بالقتل أو الجوانب التي تتعلق بالشرف والسمعة وغيرها، نجد اليوم أنها تحدث لأسباب تافهة.
ومن بين هذه الأسباب الخلاف خلال مباراة لكرة قدم، وعلى ممتلكات الأراضي العامة، وأسعار البطيخ، وعلى خلافات الأطفال والأزواج والتعليقات بمواقع التواصل وغيرها المئات من الأسباب غير المنطقية!
وهنالك أيضا أسباب غير معلنة لتلك النزاعات ومنها تجارة المخدرات وتعاطيها، وقد أعلنت مديرية مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية العراقية مطلع العام 2022 أن "محافظتي البصرة وميسان تحتلان المرتبة الأولى بالتهريب والتعاطي في المحافظات الجنوبية، وخصوصا مادة الكريستال القاتلة!
يعود قانون العشائر في العراق إلى بدايات القرن الماضي، حيث سمحت الدولة حينها للشيوخ في حلّ غالبية النزاعات العشائرية المجتمعية التي تحدث في البلاد عبر محكمين عشائريين وفقا للقوانين والأعراف الفاعلة
وقد لاحظنا أن بعض تلك المناحرات وضحاياها تكون بين أبناء العائلة الضيقة ذاتها، وليس العشيرة (العائلة الكبيرة) ويكون القتل بالجملة، وكأننا أمام مشهد تمثيلي من أفلام الرعب أو الانتقام!
ولا يتوقف الأمر عند جرائم القتل بل يتجاوز ذلك إلى تهجير من بقي من أقرباء الطرف المُسْتَهْدَف في المنطقة التي تقع فيها الحادثة، وإلى حرق منازل (المطلوبين عشائريا)، وهي مشاهد تذكرنا بأفلام الهنود الحمر وهم يحرقون أكواخ القبائل التي يغزونها، وكأننا على كوكب آخر لا علاقة له بالتطور العلمي والتقني المُبهر الذي وصل إليه العالم!
فهل التراخي الأمني الرسمي هو السبب في تنامي الصراعات العشائرية، أم غياب هيبة الدولة في نظر غالبية المواطنين، أم عدم بناء مؤسسات أمنية مهنية، فضلا عن وفرة الأسلحة في المنازل وأسعارها الزهيدة في المنازل والاعتماد على العلاقات الحزبية للقفز فوق القانون هي الأسباب المشجعة لهذا التناحر العشائري؟
قد تكون جميع تلك الأسباب مجتمعة هي السبب في تنامي المناحرات العشائرية، وقد سجلت محافظة دي قار الجنوبية (منفردة) أكثر من 30 نزاعا مسلحا، خلال أربعة أشهر فقط من العام 2022، وهذا يعني بأننا أمام مئات المواجهات العشائرية المسلحة سنويا في عموم البلاد!
أما أدوات المواجهات العشائرية فقد تطورت هي الأخرى، ولم تعد تستخدم الأسلحة البسيطة أو الخفيفة بل وصلت لمراحل استخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وفي المرحلة الأخيرة استخدمت الطائرات المسيرة خلال مواجهات عشائرية بمنطقة الكرمة في البصرة النفطية نهاية حزيران/ يونيو 2022 بحسب رواية مصدر أمني!
والغريب أن ضحايا النزاعات العشائرية أحيانا من الأجهزة الأمنية، وحتى من كبار الضباط، وآخرهم العميد استخبارات علي جميل عبد خلف، مدير قسم استخبارات قيادة عمليات سومر، والذي قتل في العشرين من نيسان/ أبريل 2022 خلال محاولته إيقاف نزاع عشائري بين عشيرتين بقضاء الشطرة شمال شرق الناصرية.
وقد حاولت الدولة ربط الخلافات العشائرية بالإرهاب للتقليل منها، وقد ذكر مجلس القضاء العراقي أن المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أُقرّ في العام 2005 تنصّ على " أن التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يعد من الأفعال الإرهابية".
ومع ذلك لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من ضبط الخلافات العشائرية، للأسباب المذكورة آنفا، ولأن هنالك، مع الأسف، بعض المحسوبين على شيوخ العشائر وهم لا علاقة لهم أصلا بهذه المكانة الاجتماعية الضرورية في استقرار المجتمع، وهؤلاء لا يعملون على نشر السلم المجتمعي بل هم من تجار الأزمات، ويحاولون تشتيت كل الجهود الهادفة للاستقرار في أساليب تذكرنا بعالم تجار الحروب!
إن تنامي الفكر العشائري القافز على منظومة القوانين الضابطة يعني أن الفقير الذي لا يملك عشيرة قوية تؤكل حقوقه من القوي، وهذه قوانين تعود للعصور الحجرية والجاهلية!
فأين هو دور مؤسسات الدولة الرسمية والأمنية التي يفترض أن تفرض هيبة الدولة وتحمي المواطنين من القوى الشريرة المتنامية؟
وفي كل الأحوال يبقى دور العشائر مؤثرا في السياسة والأمن والسلم المجتمعي وحتى الأخلاقي والتربوي، ومع ذلك يفترض الحفاظ على هيبة الدولة، وإلا فلن تبقى هيبة للقانون والأعراف النقية وسنعود إلى العصور الحجرية!