وصولي إلى الأمير. ولكي يزيد من تشريفي ومن أجل السرعة طلب مني استخدام ذلولي. كنت امتطي كما في كل رحلاتي جملا رائعا يسري في شرايينه دم شراري. كانت ناقة في السابعة من العمر تثير إعجاب البدو بشكلها الأنيق. فتبادلنا المطايا ورحل مسرعا ، سعيدا بمطيته الرائعة.
كلما تقدمنا ازداد عدد القطعان وأصبحت الحركة أكثر نشاطا. كانت رؤية النفود فجأة عارما بالحركة ، مشهدا جديدا علينا بعد ما أمضينا أياما في الصحراء المطلقة. وقد حافظت الصحراء على مظهرها الذي بدت فيه منذ مغادرتنا جبه أي إن الأفلاج كانت نادرة وكأن تلالا استبدلت بها كان جزء منها موازيا لطريقنا لحسن الحظ. فبدلا من أن نضطر إلى اجتيازها ما كان علينا إلا أن نسير بمحاذاتها.
قبل وصولنا بدقائق ، رأيت محاربا يطل علينا من جديد منفرج الأسارير معلنا أنه قابل الأمير الذي بدا مسرورا وأراد أن يستقبلني على الفور. ما عاد دليلي يتوقف عن الثرثرة ارتياحا وفرحا ويصيح في كل لحظة" الحمد لله" ، وهذا ما ردّدته كل مرة بورع.
كنا نهبط عندئذ فلجا ضخما ، أحد أكبر الأفلاج التي شاهدتها في النفود حيث تقوم في قعره أم القلبان بنخيلها الأخضر المتمايز بشكل لطيف جدا عن الرمل الأحمر. كانت تسودها حركة هائلة. صفوف لا متناهية من الإبل تطلق كلها خوارها كما تفعل عادة لدى عودتها من المراعي في المساء ، تروح وتجيء. وصوت السواني يشنف الآذان.
انبسطت أمامنا ملكية واسعة سرنا بمحاذاتها حتى وسطها ورأينا آنذاك بابا كبيرا بمصراع واحد مواجها الشمال. وبدا في المحيط بعض الرجال بقمصان ناصعة البياض. فمنذ غادرت سورية لم أعد معتادا على هذه النظافة الفخمة. كان هؤلاء الرجال بكوفياتهم الحمراء الصارخة ، مزودين بعصي طويلة من أغصان النخيل يبلغ طولها حوالي 60 ، 1 متر طردوا بها البدو الجالسين بالقرب من الباب بقساوة شديدة.
اخذ أحد هؤلاء الرجال ناقتي من اللجام وسار بها عبر ممر طويل إلى باحة كبيرة ثم فتح بابا آخر يفضي إلى فناء حيث ترجلت. كان بانتظاري هنا رجل يعتمر كوفية من الحرير الأصفر وعقالا مقصب بالذهب وعلى كتفيه عباءة سوداء مطرزة بالذهب
حول العنق ، يحمل بيده سيفا بمقبض وزينة من الفضة الخالصة ، وبادرني ب" السلام عليك" فرددت بتودد" وعليك السلام" فأبلغني تحية الأمير وأنه مكلف بمرافقتي إليه.
أخذني بيميني ليثبت لي أنني في أمان وجعلني أعبر بابا صغيرا فوجدنا أنفسنا أمام حوض يغذيه ماء جار. وأبعد منه يمتد بستان جميل ، مزروع بشكل شبه حصري بالرمان يسود فيه ظل وبرودة لذيذان.
درنا حول الحوض ووجدت نفسي في حضرة أربعين رجلا مصفوفين بشكل دائري يجلسون جميعا القرفصاء على الأرض. ويمتد السجاد أمام منزل صغير. هنا كان يجلس الأمير وحيدا وظهره مسند إلى سرجه لدى وصولي ، وقف اثنان من المساعدين ليسمحا لي بدخول الدائرة. حييت الأمير فنهض عندئذ وأضاف في رده على تحيتي : " مرحبا" ثم أعطاني يده على الطريقة العربية أي دون أن يشدها ثم قبّل السبابة وجعلني أجلس إلى جانبه.
وسألني بكثير من الاهتمام ما إذا كانت رحلتي موفقة ولم ألق مشقة أو تعبا ثم استفسر عن هدف رحلتي وتطرق إلى هذا الموضوع مرارا ليس في هذا المساء فحسب بل لاحقا أيضا. فهو لا يعتقد أبدا أن العلم وحده يدفع أيا كان للسفر في صحاري الجزيرة العربية حيث لا يرى هو فيها أي شيء علمي على الإطلاق. ثم طلب مني أخبارا سياسية وبالأخص ما قيل في دمشق وحوران بشأن الغزو الذي قام به قبل شهرين في وادي سرحان متوغلا إلى ما هو أبعد من القصر الأزرق إلى ما يقل عن مسافة يوم من جبل الدروز وقد شعر مدحت باشا ، والي دمشق في ذلك الحين ، بقلق عميق من جراء ذلك. وحدثني أيضا عن السيد والسيدة بلانت اللذين امضيا ثمانية عشر شهرا في حائل. وقد احتفظ بذكرى طيبة عنهما ولكنه ابدى تعجبا شديدا لرؤية السيد بلانت لا يقبل أبدا فنجان القهوة إلا بعد زوجته ويجعلها دائما تمر قبله ، وتجلس دائما في المرتبة الثانية إلخ ... وسألني ما إذا كانت الأمور تجري على هذا النحو عند جميع النصارى. ولكن أكثر ما أدهش الأمير وجميع العرب كذلك هو رؤية ليدي آن بلانت تمتطي حصانا وعلى اكمل وجه.
بلغ الأمير محمد بن رشيد من العمر ستا وأربعين سنة طوله 65 ، 1 م. وجهه ينضح بالعزم ومعبّر. نظره ثاقب وكثير الحركة وهو يتنقل باستمرار من شخص إلى آخر
مما يجعله يبدو دائم القلق. في المقابل ابتسامته سخية وعذبة جدا ولحيته الخفيفة الشعر والسوداء تشهد على أنه بدوي. وهو محدث ويحب الدعابة.
رأيته شديد الاهتمام باستمرار بضيفه ، بأن يكون مرتاحا في جلوسه ويأخذ راحته تماما. وقد أوصاني دائما بألا أقلد مواطنيه بل أن أتبع تقاليدنا نحن مؤكدا لي أن ذلك يسعده.
وسرعان ما كسبت وده وقبل وصولي إلى حائل كنت متاكدا من أنه لن يضع أي مانع لإنجاز مهمتي. أما فيما يتعلق بعزمي على الذهاب إلى القصيم وأبعد منه ، فقد حثني منذ اليوم الأول على عدم تحقيق ذلك فتلك البلاد سيئة من كل الأوجه كما قال. وأضاف : " ستبقى معنا" ولكي أتكيف فورا مع المحيط الجيد الذي سيصبح محيطي بعد الآن ، شرع يعطيني أسماء ضباطه الرئيسين الماثلين أمامنا في الدائرة. إنما هاكم سمة تصور المسلم ، وهي من وراء المظاهر الأكثر توددا ولطافة تسمح ببروز الوهابي.
منذ اللحظات الأولى من محادثتنا ، بعد تبادل اللياقات ، وما إن عرف نيتي بالإقامة في بلد عربي ، حتى شعر بوخز ضمير إزاء البقاء طويلا على اتصال مع شخص غير مؤمن ، لكن فكره المتنور من نواح أخرى دفعه إلى كتم هذا الوخز. ولكي يريح ضميره سألني بغتة ما إذا كنت أعرف شهادة الدين الإسلامي فأجبت بالإيجاب فقال" ردّدها" فتلوت في الحال بمنتهى الجدية : " لا إله إلا الله محمد رسول الله".
الدقة تقضي بأن اذكر كلمة" أشهد" قبل الجملة المقدسة ، إلا أنه شاء التغاضي عن هذه الثغرة. ولم أكد ألفظ الشهادة العزيزة على المؤمنين والتي استقبلها كل الجمع بهمس مؤيد ، حتى صاح الأمير فرحا : " والله انت مسلم عندي". منذ تلك اللحظة التي لم يعد يخالجه فيها أي تأنيب ضمير ، تحرر من كل قيد وعاملني كأخ في الدين ، أي كندّ له.
وفي ختام دراسة العادات الموجزة ، أضيف أنه طوال إقامتي في الجبل وباستثناء مرة أو مرتين أصابتني بسبب حسد أشخاص آخرين ، فقد تمتعت بحظوة الأمير وابن عمه حمود وكل عائلتهما الثابتة. فكنت أدخل بحرية تامة إلى كل مكان والجميع كانوا ينادونني بالأخ والصديق. وفي نهاية إقامتي ، قال لي الأمير مرارا إنني اصبحت الآن واحدا منهم وإنني شمّري.
أوفر حظا من بالغرايف وليدي آن بلانت. لم أختبئ قطّ لتدوين ملاحظاتي وكتابة مذكراتي. وفي كثير من الأحيان عند ما كنت أرغب في الحصول على الكتابة الصحيحة للأسماء الجغرافية ، كان الأمير يكتبها لي بنفسه. الرسائل العديدة التي تسلّمتها من الأمير ومن أصدقائي في الجبل منذ مغادرتي الجزيرة العربية تثبت لي أنني تركت ذكرى طيبة فعلا. وأنا مدين للأمير بكل ما أنجزته في مهمتي وسأحفظ له امتناني دوما.
لقد بذل جهده باستمرار لثنيي عن القيام برحلاتي في القصيم وفي الحجاز لأن الخطر فيهما كان ، كما تبين لي لاحقا ، حقيقيا. ولكن عند ما أعطاني موافقته ، بذل كل ما في وسعه لضمان نجاحي. فعلى الرغم من غرابة الأمر وخطره على هيبته كأمير مسلم ووهابي كان دوما يعطيني رسائل توصية عند ما كان يرى ذلك ضروريا.
بعد وصولي بأربعة أيام ، غادر الأمير وحاشيته أم القلبان للعودة إلى حائل.
في فجر 12 حزيران كان الجميع ممتطين الرحال فسرنا ثلاث ساعات خببا باتجاه الجنوب الشرقي. في ختام هذا الوقت وصلنا إلى أحد حصون جبل شمر المسمى الاصور. وكانت مطابخ الأمير التي سبقتنا بوقت طويل ، قد أعدت الفطور. تلت الوجبة قيلولة طويلة وبعدها وضعت علامة تسديد من ورق على صخرة مجاورة ومارسنا الرماية لمدة ساعة. واكتشفت بهذه المناسبة أن الأمير كان في عداد رماة الجبل الماهرين.
الاصور هو مورد حيث تحبس مياه المطر على ارتفاع معين في الجبل في شق غرانيتي ، بقي فيه ماء إلى ما بعد رحيلنا.
على مسافة ساعة سير من أم القلبان ، توقف النفود فجأة كما بدأ. والحد الفاصل حاد إلى درجة يمكن معها وضع قدم في النفود والأخرى على الغرانيت الذي يليه. عند الثالثة من بعد الظهر ، امتطينا الجمال وغادرنا الاصور. وخببا وصلنا بعد ساعتين إلى اللقيثة (1) وهي قرية جميلة يملك فيها الأمير ملكية رائعة من النخيل وأشجار الفاكهة. فقضينا الليل فيها.
__________________
(1) والين يسميها لقيطة ، غوارماني ليشيته ، السيدة بلانت الاميتت.
فور وصولنا ، قدم لنا شيء من اللبن والفاكهة : بطيخ وشمام لذيذان وعنب لم ينضج بعد.
حائل
في اليوم التالي انطلقنا في الرابعة والنصف صباحا ووصلنا بعد ساعتين إلى حائل (1) عاصمة شمّر.
عند ما نصل من الشمال ، تكون حائل مخفية ، بفعل ارتفاع بزلتي يبلغ 100 متر بالحد الأقصى ويمتد من جبل أجا إلى جبل سلمى شرقي حائل. نجتاز هذه السلسلة الصغيرة عبر ممر يعلو 20 مترا تقريبا عن الأرض. وعند ما نصل إلى ذروة الممر ، يتراءى لنا فجأة منظر حائل الفرح. إلى اليسار وعلى مسافة قريبة جدا تهيمن كتلة سمرا السوداء على المدينة كليا. وإلى اليمين وعلى بعد بضعة كيلومترات ، ينطلق خط أجا جنوبا على مد النظر. شمالا وغربا تتناثر خمسون خيمة تقريبا لكل قبائل شمر. يأتي هؤلاء الزوار لبضعة أيام لتصريف منتوجاتهم وشراء بعض الحاجات ثم يعودون الى الصحراء. إنهم ينعشون الجزء الخارجي للمدينة بطريقة جذابة جدا.
لرغبتي في تقديم لمحة عن الطريق من سورية حتى جبل شمّر ، أسهبت حتى الآن في التفاصيل. أما اليوم فإنني لن أعطي سوى ملاحظة جغرافية عن المناطق التي قطعتها ، لذلك سأرجئ إلى وقت لاحق فصل العادات والتاريخ والمعطيات الإحصائية. حاليا أقدم وصفا سريعا لمختلف خطوط سيري. ومن ثم أقدم لائحة البلدات التي تؤلف حاليا إمارتي شمر والقصيم اللتين عبرتهما.
لقد جعلت حائل مركز عملياتي لأتمكن من تنفيذ سفرات طويلة جدا بسهولة اكبر. وقد سمح لي ذلك بجعل متاعي خفيفا جدا فلا احمل إلى جانب أسلحتي ومعدّاتي العلمية ، سوى بساط وبطانيتين. أما المؤن والماء فكان البدوي أو البدو المرافقون لي كمرشدين يحملونها.
__________________
(1) غوارماني Kail ، بلجريف Ha'yel.
كنت أترك صناديقي في بيتي في حائل خلال غيابي ويودع مفتاح المنزل لدى أحد ضباط الأمير الرئيسين المدعو حمود الإبراهيم المجراد (1).
واني أعرض فيما يلي تعداد مختلف رحلاتي وفق الترتيب الذي أجريتها به :
(1) رحلة في عقده ، وادي جبل شمّر (30 حزيران).
(2) في جبل سرا (9 تموز).
(3) في جبل شمّر (17 تموز).
(4) رحلة الى القصيم ، الى عنيزه والعودة (31 تموز).
(5) رحلة في جبل جلديه (22 أيلول).
(6) رحلة في الحجاز ، الى تيماء ، الهجر أو مداين صالح ، العلا والعودة عن طريق خيبر والحايط (30 تشرين الأول).
(7) من حائل إلى بغداد.
(
من بغداد الى دمشق عبر الحماد.
عقدة
عقدة (2) هي سلسلة من الوديان الصغيرة داخل جبل شمّر ، والممر الوحيد الضيق جدا الذي بعبرها يقع على بعد 9 كيلومترات تقريبا جنوبا ، 70 درجة غربي حائل. وقد ظهر اسم عقدة هذا للمرة الأولى كاسم جغرافي في الجزيرة العربية في تاريخ الوهابيين ل كورانسيز (3) في مدونة أسماء بلدات الجبل. غير أن هذا المكان كما برهنت ذلك لاحقا ، هو الأول وعلى الأرجح الوحيد على امتداد زمن طويل الذي سكنته قبيلة طيء التي قدمت من الجنوب.
__________________
(1) بديهي ان جيش أمير شمّر ليس جيشا بالمعنى الأوروبي للكلمة. فلا تجنيد ولا ثكنات. وهو يتألف من خمسمئة رجل تقريبا معظمهم من مدن الجبل يستخدمهم الأمير بشكل خاص للقيام بغزواته ولفرض وجباية الضرائب من القبائل الرحل واخيرا لمواكبة قافلة الحجاج العراقيين من بغداد الى مكة ذهابا وايابا. وهم لا يتقاضون اجرا ثابتا ولا يتلقون إلا ما هو ضروري لحياتهم. ما يقارب العشرين منهم الذين تميزوا بخدمات أسديت أو بالأحرى بذكائهم والذين يلازمون القصر باستمرار ولا يفارقون الأمير ، يلقون معاملة أفضل. من بين هؤلاء حمود الذي سبق للامير ان أرسله مرارا في مهمات استثنائية الى مصر لدى الخديوي.
(2) عقده عند : ص. 353Ritter ,Die Erdkunde von Asien ,Arabien II وعند غواراماني اكده ، وعند بلانت اجده
(3) ص. 118 ص. 214 ، 1810
Corancez, Histoire des Wahabis, ed. SyIvestre de Sacy, Paris,
ولا بد من البحث في عقدة نفسها عن مكان سكن حاتم طيء أكرم قدامى العرب. يتم الدخول الى عقدة من سهل حائل عبر ممر تضيق فتحته التي تبلغ بداية قرابة مئة متر تدريجيا حتى تصل ما بين 25 إلى 30 مترا. وقد بنى الأمير في هذه النقطة حائطا بارتفاع 3 أمتار وبسماكة متر لقطع الممر كليا. وقد تركت في طرف الحائط الجنوبي فتحة تبلغ 5 ، 1 متر للمرور.
وما ان نجتاز هذا السور حتى نجد أنفسنا في واد صغير يضم قرية القني El Qeny التي تعدّ 150 نسمة. وابتداء من هذه البلدة ، تنفتح الوديان من كل الجهات وجميعها على مستويات أعلى من الوادي الأول ومن ثمّ أعلى من سهل حائل أيضا.
الوادي التالي ، وداي القني ، يضم قرية أكبر من الأولى تدعى الويبار وتعد 300 نسمة. هاتان المقاطعتان الأوليان هما الكبريان من حيث تعداد السكان ومن حيث مساحتهما. في الوديان الأخرى تتوزع ثماني مجموعات سكانية صغيرة مجموعها 500 نسمة وهذه هي أسماؤها : النبيتة ، السقا ، حسنا ، المعا ، غضيان ، الحايط (1) رميض والعليّا.
في قرية الحايط جنوبي القني والويبار جزء من ترسانة ابن رشيد. إنه مبنى من الآجرّ ككل مباني الجبل يحتل مساحة تقارب 80 مترا مربعا إنما تجاوره بعض المباني أكثر حداثة شيّدها الأمير الحالي.
الأمير طلال هو الذي شيد المبنى الرئيس مكان مبنى آخر هدمه ومن المرجح أن قبيلة طيىء شهدت هنا اول استقرار لها منذ احتلالها الجبل لدى هجرتها من الجنوب. وحين وصل محمد ، الأمير الحالي ، الى الحكم ، كان هذا المبنى الترسانة الوحيدة لسلالة شمر. لكن محمد الذي كبر القصر الذي بناه الأمير طلال ، نقل إليه القسم الأكبر من الأسلحة التي كانت محفوظة في عقده. أما اليوم فإن هذا القصر ببابه الكبير المغطى بلوح من الفولاذ بات مجرد مخزن للطعام ولم يعد يحوي إلا مخزونا كبيرا من التمور وبعض السيوف والبنادق بفتيل التي لا قيمة لها. أما شجرات نخيل الحايط فملك الأمير ابن رشيد الخاص.
ما يميز عقدة هو النخيل الذي لا يحتاج إلى ري بفضل موقع الوديان بقاعها
__________________
(1) يجب تمييزها عن الحايث في حراه شرق ـ شمال ـ شرق خيبر.
الغرانيتي المملوء بالبطحا أو حصى الغرانيت (1) حتى ارتفاع 4 أو 5 أمتار والتي تشكل التربة. القاع على شكل أحواض تحجز ماء المطر الذي يهطل على عقدة في هذه الأحواض الطبيعية الصغيرة حيث تغوص جذور النخيل.
في كل الأماكن الأخرى ، عند ما تكون المياه على عمق بالغ لا تستطيع جذور النخيل الوصول إليها ، يجب حفر آبار واسعة جدا وسحب الماء منها عشرة أشهر على اثني عشر بمعدل خمس عشرة ساعة يوميا على الأقلّ. كما إن ذلك يجبر على شراء الإبل والعناية بها لهذا الغرض كذلك يلزم رجل لتشغيلها. ولكن سكان عقدة السعداء لا يعرفون شيئا من هذا ولا يأبهون. وجل تعبهم ينحصر في أن يتمنوا أن تمطر في الشتاء. وهم يتمادون في سعادتهم إلى حد الكسل إذ إنهم لا يبذلون أي عناية بشجرات النخيل التي كان بالإمكان ان تكون أجمل واكثر إنتاجا. وعلى أي حال فإن ضعف نخيلهم كان وبالا عليهم خلال شتاء 1879 ـ 1880 الذي انعكست قسوته على كلّ أرجاء الجزيرة العربية. فكثير منها مات وعدد أكبر منها لن يعطي سوى محصول لا يذكر لفترة طويلة.
وقد أكد لي حمود والمجراد بأن عقدة تملك سبعين ألف شجرة نخيل وقد يكون هذا صحيحا. يعود حوالي خمس هذا العدد إلى الأمير وخمسان إلى البدو المقيمين في البلدة طوال العام والباقي يعود إلى شمر الرحل.
يأتي هؤلاء الأخيرون من الصحراء في شهر مايو (أيار) لإخصاب إناث شجرات النخيل فيبنون لأنفسهم أكواخا من ورق النخيل ويقيمون هنا حتى القطاف في أيلول. أحد افراد العائلة يبقى في الصحراء مع القطعان. ويغتنم عدد منهم إقامتهم لزرع البطيخ والشمّام ويسقونها من مياه الآبار. ويبيعونها في حائل.
بما ان جزءا من السكان بدو فإن عادات الصحراء هي السائدة في عقدة. وتتمثل بالنسبة للغريب الذي يصل إليها بالضيافة. خلال الأيام الثلاثة التي أمضيتها فيها ، اضطررت الى الدخول إلى تسعة عشر منزلا أو خيمة حيث قدمت لي القهوة وطبق كبير من البطيخ أو الشمام المقطع مكعبات. أقول" اضطررت" إذ إن أحدهم ما ان يلمحني سائرا حتى يأخذ مطيتي من الرسن ويقودني الى بيته متجاهلا ملاحظاتي.
__________________
(1) ثمة خطا هنا على الارجح. فالكلمة العربية بطحاBathha كما كتبها السيد هوبير تعني باللغة الفصحى" مجرى نهر واسع جاف مملوء بالحصى" وقد احتفظت بهذا المعنى حتى عند عرب Wadai ويكون السيد هوبير قد خلط في الجزيرة العربية بين المحتوى والحاوي. [التحرير]
صحيح أن ما كان يقدّمه لي قليل وأن هذا القليل كان يعوضه تعويضا سخيا استقبال الشيخ الفرنساوي ، صديق الأمير والذي سيكون له الحق لاحقا بأن يناديه الأخ. إلا أنه لا بد لي من التصريح بأن البدوي الذي كان يراني في المساء خلال سعينا لإيجاد مأوى ، كان يبدي مسارعة مماثلة للتمسك بي مع علمه بأن هذا سيكلفه خروفا وإن حصته منه ستكون صغيرة نظرا لوجود رجلين من رجال الأمير معي.
من بعد ما ذكرته عن طوبوغرافية عقدة التي لا تملك سوى ممر مقطوع اصطناعيا بجدار ، والمحاطة كليا بصخور من الغرانيت لا يمكن الوصول إليها من الخارج ، ندرك كيف إن أمير حائل يعتبرها كمعقل وملجأ منيع في حال الاجتياح لكونها موفورة التموين وفي حماية فرقة شجاعة. وأنا من هذا الرأي شرط ان لا يكون المجتاحون قوات أوروبية وأن لا يكونوا متسلحين بمدفع لاقتحام الثغرة.
جبل سرا
في إحدى أولى السهرات التي أمضيتها عند الأمير علمت بوجود نقوش قديمة في الجبل ودلني الأمير على جبل سرا على مسافة يوم جنوبي حائل كنقطة يمكنني أن أعثر فيها على نقش. وقد استدعى مطوع شمّر ، الشيخ عواد الذي نسخها ذات يوم على غلاف كتاب زودني به.
وعرفت في الحال انها كتابة حميرية وسمح لي بأن أفترض أنها ليست الوحيدة وانه بإمكاني العثور على المزيد منها.
في 9 تموز أعطاني الأمير رجلين ليقوداني إلى جبل سرا. اذ غادرنا حائل في السابعة صباحا من الباب الغربي ، لم نلبث أن انعطفنا نحو اليسار تاركين جبل سرا إلى الشرق. كان اتجاهنا جنوبا تقريبا ، 10 درجات غربا بصرف النظر عن تبدلات العقرب.
بعد ساعتين من مغادرتنا حائل وصلنا إلى مستوى قفار التي تركناها إلى يميننا. عند الظهر توقفنا لتناول بعض التمر أمام صخرة عرجان التي كانت ترمي بعض الظل الى الشمال وبعد ساعة استأنفنا مسيرتنا.
منذ مغادرتي حائل كان جبل أجا باستمرار إلى يميني وتقريبا على المسافة نفسها.
فقط جنوبي قفار ابتعدت طريقي قليلا عن الجبل. أسجل هذه الملاحظة بشكل عابر لأبرر الاتجاه الذي أعطيته لهذا الجبل على خريطتي وهو اتجاه جديد ومغاير على نحو ملحوظ للاتجاه الذي اعتمدته أحدث الخرائط.
إلى بضعة كيلومترات شمالي جبل سرا يستمر السير بثبات على حصى الغرانيت الكبيرة واسمها البطحا كما ذكرت سابقا وهي قاحلة تماما. لكن طبقة الحصى ليست متساوية العمق في كل الأمكنة ومن حين إلى آخر يسمح برؤية التربة التحتية المكونة من حجر صلصالي رمادي صفراوي صلب. في هذه الأماكن تظهر أحيانا شجرة هزيلة أو ساق حنظل زاحفة.
كانت الشمس تلامس الأفق عند ما وصلت أمام النقش في جبل سرا. وهو في معبر يبلغ عرضه 80 مترا تقريبا ويفتح الطريق إلى مستجدMestagged والحجاز. كانت الكتابة محفورة في الصخر على الجدار الجنوبي للمعبر ، على ارتفاع 6 أمتار من الأرض وتواجه الشمال. بفضل انهيارات الصخور يمكن الاقتراب منها حتى مسافة مترين تقريبا. أخذت فورا وضعية تمكنني من نسخها وتبين لي أن الشيخ عواد قد نسخ بالضبط نصف الأحرف تقريبا وهذا ما اعتبره مرضيا بالنسبة الى شمّري متعلم ، خاصة بالنظر إلى حالة هذه الكتابة الخشنة وإلى التأثيرات البصرية التي يحدثها النور على هذا الغرانيت الفظ بحبوبه المتعددة الألوان والتي تتعب تموجاتها المتعرجة النظر بسرعة. وقد اغتبطت لاحقا بالعناية البالغة التي بذلتها في نسخ هذه الكتابة. فمن بين كل النقوش الحميرية التي صادفتها في رحلاتي اللاحقة ، لم تكن ولا واحدة بهذا الحجم. فقد كانت تحوي 98 حرفا.
هذا النقش الكبير موجود كما ذكرت آنفا على جدار الجبل بالذات. وقد عثرت على خمسة نقوش أصغر حجما على كتل ضخمة من الغرانيت يبلغ حجمها عدة أمتار مكعبة كانت قد انهارت على جانب النقش وأمامه. وقد بدا على إحدى الكتل رسم حيوان لا بد أنه كلب سلوقي كبير أو غزال. خط هذا الرسم جريء ، محدد ويدل على موهبة فنان. من بين مئات تماثيل الحيوانات المنحوتة في الصخر التي صادفتها ، كانت هذه الأخيرة الفضلى.
هبط الليل فيما كنت أنجز نسخي. وامتطينا جمالنا التي لم ننزع عنها خروجنا (1)
__________________
(1) الخرج حقيبة سفر مزدوجة تتدلّى على جانبي الجمل [التحرير].
واقتربنا من الآبار الواقعة على مسافة نصف كيلومتر شرقا. خيام بعض البدو الذين جاؤوا ليوردوا بعض الجمال والخراف كانت مضروبة إلى الجنوب. وبينما كانت جمالي ترتوي ، أخذت حرارة الماء التي بلغت+ 21 درجة وهي بلا طعم ومستواها على عمق 7 أمتار. وبما أن التخييم قرب الماء ينطوي دائما على مخاطر حتى في أراضي شمر ، فقد سرت ساعة أخرى إلى الشمال الغربي وتوقفت أخيرا في ثنية أرضية (1). صنع رفيقاي خبزا تناولناه مع الزبدة ثم التففنا بعباءاتنا لننعم براحة مستحقة. كنا قد بقينا إحدى عشرة ساعة راكبين وقطعنا 92 كيلومترا.
في صباح اليوم التالي نهضنا عند الفجر وسرنا مباشرة باتجاه الشمال. وقادتنا ساعة ونصف الساعة من السير إلى جبل والله OullaH حيث توقفنا أكثر من ساعة قرب الآبار لتناول وجبة الإفطار.
مياه آبار والله الأربع تقع على عمق 7 أمتار. ثلاث آبار محفورة في البطحا والآخر في الغرانيت. استأنفنا السير في التاسعة صباحا ووصلنا إلى قفار قرابة الرابعة مساء.
تقع الطريق المتبعة في جبل والله حتى قفار غربي الطريق التي سلكتها للذهاب من حائل إلى جبل سرا وهي موازية لها تقريبا. وهي إلى ذلك تقع تقريبا في منتصف المسافة بين طريقي الأولى وجبل أجا الذي لازمتني كتله الغرانيتية الداكنة باستمرار على مسافة 2 أو 3 كيلومترات الى يساري. الأرض مكوّنة من البطحا باستمرار ، ولكن جوار الجبل يحدد من حين إلى آخر تحت أقدامنا انتفاخا في الأرض يشير إلى وجود الصخر على عمق ضحل. عدة مرات ظهر الصخر وعشر مرات تقريبا اخترقت قمم طويلة من الرخام الأبيض المعرّق التربة في الاتجاه السائر من الشرق الى الغرب وكأنما يوجد انقلاب في الاتجاه المعاكس لاتجاه جبل أجا. تبدو الأرض من حين إلى آخر وقد ثلمتها جداول صغيرة تهبط من الجبل لتنزل إلى يميننا في وادي حائل.
لدى مغادرتي الأمير بالأمس ، دعاني ابن عمّه حمود العبيد الذي كان قد حدثني عن أقطاع واسعة يملكها في قفار ، إلى التوقف فيها لدى عودتي من جبل سرا ووعدني بأن يرسل الأوامر اللازمة لاستقبالي. هذه الملكية كانت الأخيرة في جنوب
__________________
(1) السيد هوبير يدلي هنا بقاعدة يجري التقيد بها في كل الاراضي المأهولة بالبدو الرحل وبالاخص في الصحراء.
حائل ومن ثمّ فهي الأولى البادية أمامنا فيما كنا نقترب من المدينة. وقد تبينت نقطة بيضاء على مسافة بعيدة تتمايز على جدران قفار الزهرية اللون المسننة بالمتاريس. كان ذلك طبعا رجلا لا لباس عليه سوى ثوبه بانتظارنا. وبالفعل فقد ظل واقفا حتى وصلنا إليه وانخنا جمالنا وترجّلنا. ذاك كان عنبر عبد حمود المفضل وقد أرسله هذا الأخير إلى هنا خصيصا ليستقبلني. فرحب بي وقادني إلى الحديقة حيث أعدّ لي فراشا من السجاد والأرائك.
بعد ما اغتسلت تجولت في البستان البديع الذي يحوي قرابة ألف ومئتي نخلة وبعض العرائش وشجر الدراق والتين وفي الزوايا قرب الجدران شجرات أثل أو طرفاء.
ثم عدت إلى جانب حوضي حيث أعدّت لي القهوة ونارجيلتي خلال نزهتي. بقيت هنا أتمتع بالراحة حتى المغيب حيث أعلن البرغش حضوره. فصعدت إلى سطوح المباني حيث قدّم لي ولرفيقي طبق هائل من الأرز ولحم الغنم. وبصفتنا بدوا حقا فقد فضلنا قضاء الليل خارج القرية في الصحراء.
في صبيحة اليوم التالي انطلقنا عند الخامسة وبعد ثلاث ساعات كنا قد عدنا إلى حائل.
سأعود في عمل آخر إلى قفار والى الدور المهم الذي أدّته هذه المدينة في تاريخ شمّر. وهي لا تزال اليوم الكبرى مساحة وتحتل المرتبة الثانية بتعداد سكانها في كل الإمارة.
جبل أجا
في 17 تموز ، ذهبت في رحلة الى الجبل الذي أعطى اسمه للبلد بأسره. من زمان كان اسمه طيىء وفيما بعد أصبح اسمه رميضا واليوم يطلق عليه عموما أسم أجا أو جبل شمر أو ببساطة الجبل.
هذه المرة انطلقت من شمال حائل متجها نحو الشمال 10 درجات شرقا ، باتجاه قرية اللقيطة حيث وصلت بعد ساعتين من الخبب برفقة الفارسين الجديدين اللذين أرسلهما الأمير معي وهما علي المجراد وعيسى.
قبل اللقيطة بميلين تركنا الى يميننا قريتي الوسيد والجثامية. توقفنا في اللقيطة في بساتين الأمير حتى بعد الساعة الثانية ، ثم استأنفنا طريقنا ولكن هذه المرة باتجاه الغرب. وسرعان ما أصبحنا وسط أول الكتل المنهارة من الجبل الذي وصلناه بعد ساعة من سير حثيث عبر وادي غلغل. يتسع هذا الوادي تدريجيا ولا يلبث أن يتحول الى سلسلة من الوديان الصغيرة الجذابة جدا وكلها مملوءة بالنخيل الذي ينمو دون ري كنخيل عقدة والذي يعود لبدو رحّل. بعد أن تبعنا غلغل لمدة ساعة ونصف الساعة وصلنا قرب مجموعة من تسع خيمات وضربنا مخيّمنا على مسافة قريبة منها.
النخيل في هذه المنطقة جميل النمو. والماء متوفر على عمق 6 أمتار.
استأنفنا سيرنا في صبيحة اليوم التالي عند الرابعة باتجاه الجنوب ، 80 درجة شرقا ، ولم نلبث أن تركنا غلغلا لندخل في وادي حقل الذي لا تتعدى مساحته بضعة كيلومترات. عند الخامسة والنصف كنا قد اجتزناه كليا وعدنا نسير غربا ودخلنا وادي قوارين الذي يقع على مستوى الوادي السابق نفسه.
في بداية الوادي تقريبا نجد الى اليسار نبع وتريمية الصغيرة التي تخرج من الصخر على ارتفاع عشرين مترا فوق الأرض يشكل الوصول إليها صعوبة. ومنسوبها لا يكاد يصل الى ثلاثة ليترات في الدقيقة ، تصب في حوض صغير حفر أمامها. ثلاث نخلات تظللها فيما بلغت حرارتها+ 1 ، 24 درجة.
ضربنا الخيمة على مسافة 4 كيلومترات منها قرب أطلال حصن صغير يسمى قصر الأصفر. ويحتل هذا القصر قمة خاصرة الجبل التي تنفصل بجرأة عن الجبل وتتقدم في الوادي في اتجاه الشمال الشرق ، 4 / 1 شمال ، الى جنوب غرب ، 4 / 1 جنوبا. ويحتل البناء كل المساحة الحرة للهضبة على أرتفاع 40 مترا تقريبا. وهو على شكل متوازي الأضلاع مضبوط مع برجين كاملين عند الزوايا الشرقية. يبلغ طوله 20 مترا وعرضه 12 مترا. لم يبق من جدرانه المبنية من الحصى من دون ملاط سوى ارتفاع متر الى مترين.
على المنحدر الجنوبي للكتف التي تحمل هذا القصر بعض شجرات نخيل وآثار حقول وأقنية وبئر يقع ماؤه على عمق 10 أمتار وآثار منازل. وأخبرني علي المجراد بأن هذه الحقول لم تزرع منذ خمس سنوات.
على مسافة 500 متر غربي قصر الأصفر توجد في الوادي بقايا مبنى مربع كبير يبلغ
ضلعه 25 مترا تقريبا ، مشيّد بالآجّر. جدرانه التي تتخللها أبراج لا تزال ترتفع الى 8 أمتار. كما أن هناك أيضا آبارا وحقولا مع بقايا سياج. كل ذلك مهجور منذ مدة طويلة.
على مسافة كيلومتر من هنا ينفتح واد صغير دائري وفيه بيوت من الآجرّ مهدومة وآبار وحقول مهجورة. يطلق على هذا المكان اسم مسجد وهنا على الصخور إلى اليسار اكتشفت بسرور للمرة الثانية نقوشا حميرية. كان هناك تسعة منها.
قرابة العاشرة خيّمنا تحت كتلة ضخمة من الغرانيت بقيت في سقوطها معلقة على كتلتين أخريين وتعطينا بعض الظل. منذ قرون طويلة يستعمل هذا المكان لحماية المسافرين العابرين لبضع ساعات. وما يدل على ذلك هو بعض أحرف حميرية ورسوم عديدة أكثر من بدائية تمثل فرسانا يمتشقون سيفا أو حربة والذين لا يزالون بمسافة تزيد عن ألفي سنة تماما كما كانوا وكما رسمهم لي الأمير مجيد في حائل على دفتر ملاحظاتي.
مما لا شك فيه أن وادي توارين هذا كان قديما مركزا مأهولا ومهما الى حد ما. ولا بد أن يكون الحميريون الأوائل قد استقروا هنا كما في عقدة في هجرتهم من الجنوب ، في هذه الوديان التي تسهل حمايتها وتحتوي على المياه. ولا بد أن تكون انعكاسات الثورات التي ما فتئت تهز الجزيرة العربية في كل الأزمنة قد أصابت السكان وقد فرغت مناطق الجبل من أهاليها مرات ومرات. ومن المرجح أن يكون هجر وادي توارن يعود الى الاضطرابات التي أعقبت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أي قبل مئة عام.
ينتهي وادي توارين بطريق مسدود من جهة الجنوب لذلك أحجمنا عن اجتيازه بالكامل. وغالب الظن أن طوله يبلغ 35 ميلا من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي لكننا لم نر إلا نصفه وعدنا أدراجنا.
عند الثالثة من بعد الظهر كنا قد عدنا الى وادي حقل. وبعد نصف ساعة مررنا قرب كتلة من الغرانيت مخروطية الشكل يبلغ حجمها 5 أمتار مكعبة. وفي سقوطها من الأعالي رست منتصبة على صخرة أخرى بحيث لا تلامسها إلا في ثلاث نقاط. الصخرة مفرغة من الأسفل وترن كجرس سميك جدا لدى قرعها بحجر أو بعصا. اسم هذه الصخرة الدنان وكالعادة فإن الرنين المعدني يعني بحسب قول العرب أن هذه الكتلة تغطّي كنوزا.
على مسافة ثمانية أميال من هنا أقمنا مخيّما قرب جذع نخلة ربما جرفتها أمطار غزيرة ذات يوم إلى هنا. وقد استخدمناه لطهو عشائنا.
يقدّم الموقع الذي خيّمنا فيه منظرا جميلا. وهو عبارة عن واد متساوي العرض البالغ 500 متر ترتفع على جانبه جدران غرانيتية بشكل عمودي الى 300 متر وتلوّن الشمس قممها بالألوان الزهري والأحمر والبني البنفسجي التي لم أرها من قبل قط. كان ينتابنا انطباع أننا في شارع بالغ الضخامة مرسوم بشكل واضح ومنتظم ثم رش الرمل عليه حديثا ومشط.
في صبيحة اليوم التالي غادرنا هذا المخيّم الجميل حيث كان جذع النخلة الجاف لا يزال يحترق. على مسافة خطوات الى الشرق نخرج من وادي حقل لندخل وادي جو عبر مسيل ضيق جدا حفره السيل في الغرانيت وتهيمن عليه من الجانبين كتل صخرية عالية. مجرى المسيل معرقل بكتل ضخمة تعيق أحيانا حتى مرور جمل ركوب. في الأجزاء المظللة لا تزال هناك بقع ماء. وتستمر الطريق على هذا النحو مسافة ميل تقريبا صعودا باستمرار ثم يتسع المسيل تدريجيا ونصل بعد حين الى هضبة عالية هي بمثابة جنة حقيقية على الأرض. فشجرات النخيل كثيرة وقوية وباقي النباتات في منتهى الجمال. العصافير تتطاير في كل الاتجاهات وزقزقتها التي لم أسمعها منذ مدة طويلة تبهج النظر بشكل مثير. ووجود ينبوع صغير يبلغ دفقه ثمانية ليترات في الدقيقة جعل هذا المكان مريحا للغاية. وكانت حرارة مياهه+ 5 ، 27 درجة.
من بعد هذه الهضبة الدائرية الشكل ، يستمر الوادي بجادة طويلة مزروعة كليا بشجر نخيل رائع معظمها مريض بسبب حريق اجتاحها في العام الماضي.
حتى نهاية هذا الوادي تصعد الأرض رويدا حتى تصل الى هضبة ثانية بمساحة كيلومترين مربعين تقريبا تشكل نقطة توزع المياه. ما إن وصلنا الى هنا حتى انعطفنا الى اليسار وسرنا جنوبا ، 67 درجة شرقا ، وبدأنا بالنزول رويدا حتى أصبحنا في وادي بولثيث (1).
بعد نصف ساعة من السير وصلنا الى نبع بولثيث الصغير المظلّل بمئة نخلة حيث توقفنا لمدة ثلاث ساعات بانتظار ان تمر ريح حارقة تحمل بعض الرمل.
__________________
(1) أو بولتية [التحرير].