(1) رجال الطوسي: ص81، وتاريخ الطبري: ج5، ص354، وإبصار العين في
أنصار الحسين عليه السلام: ص110.
الطف مبارزة، وقتل ابناه في الحملة الأولى.
وقد زاده شرفاً على شرف الشهادة، تسليم الحجة المنتظر عجل الله
تعالى فرجه، عليه بالخصوص في زيارة الناحية المقدسة.
هذا ما أحببنا أنْ نشيرَ إليه في هذه العاجلة والمقدمة وإلّا فأن هناك
جوانب كثيرة ومتعددة تخصُّ البصرة بالذات من حيث موقعها الجغرافي ـ
في الماضي والحاضر ـ ومنزلتها العلمية؛ لأنّها إحدى المدارس اللغوية
والنحوية التي يُشار لها بالبنان، وباللحاظ الاقتصادي؛ لكونها تعتبر عصب
العراق وشريانه وثغره، ونسأل الله تعالى أنْ يوفّق الباحثين والمحققين، أو
أحد أبنائها أن يكتبوا في هذه الجوانب وغيرها، إنه سميع الدعاء.
المقدمة
مؤلف هذا الكتاب الكسندر اداموف هو واحد من ديبلوماسي روسيا
القيصرية المعروفين، عمل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين قنصلاً لبلاده في البصر، وكتابه هذا الذي صدر في سانت
بطرسبورغ عام 1912م له أهمية خاصة. إنّ أهمية لا تكمن في كونه نتيجة
لملاحظاته المباشرة ومعايشته للأحداث التي جرت في ولاية البصرة
بشكل خاص والعراق بشكل عام والدولة العثمانية بشكل أعم فقط، وإنّما
في كونه أيضاً حصيلة لاطلاع المؤلف على عدد واسع من المصادر
والمراجع الروسية والفرنسية والألمانية والإنجليزية القيمة التي تتعلق
بالمواضيع المختلفة التي يعالجها في هذا الكتاب خصوصاً وأن القسم
الأغلب من هذه المصادر والمراجع إن لم يكن كلها غير متوفر في العراق،
هذا إلى جانب المصادر العثمانية المتمثلة بالسالنامات الخاصة بولايتي
البصرة وبغداد.
ومما يزيد من أهمية الكتاب أن مؤلفة، رغم تركيزه على ولاية
البصرة والقسم الجنوبي من العراق، كثيراً ما يتعدى ذلك فيبحث العديد من
الموضوعات التي تتعلق بالدولة العثمانية ككل فيقدم لنا بذلك صورة
متكاملة وواضحة لتلك الموضوعات. لقد فعل ذلك مثلاً في حديثه عن
التغلغل الاقتصادي الأجنبي في الدولة العثمانية وتكبيل الدول الأوربية لها
مالياً، وكذلك في حديثه عن الطوائف الدينية المسيحية وغير ذلك من
الموضوعات.
والكتاب كما هو واضح من عنوانه لا يقتصر عل موضوع معين، بل
يتناول بالبحث كلّ ما يتعلق بولاية البصرة فهو يتحدث عن النواحي
الجغرافية والإدارية والاقتصادية والصحية والتاريخية وأوضاع السكان وغير
ذلك من الموضوعات ولهذا فهو أشبه بالموسوعة منه بالكتاب العادي.
لقد حافظنا على حرفية النص عند ترجمة هذا الكتاب غير إننا ارتأينا
ضرورة الخروج عن هذه القاعدة في بعض الحالات القليلة منها إننا
استبدلنا كلمة (القسطنطينية) بـ (اسطنبول) عندما كان الحديث يجري عن
هذه المدينة باعتبارها عاصمة للدول العثمانية وأبقينا على التسمية القديمة
عندما يكون المقصود عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كما إننا استخدمنا
مصطلح (الدولة العثمانية) أو (الإمبراطورية العثمانية) بدلاً من (تركيا) وهي
التسمية التي كثيراً ما يطلقها الباحثون الأجانب ومنهم مؤلف هذا الكتاب
على الدولة العثمانية.
لقد ارتأينا أن نبقي على أسماء الأعلام والمصطلحات التي أوردها
المؤلف بلغات أجنبية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية بلغتها الأصلية التي
وردت بها في الكتاب ولكننا عمدنا إلى ترجمتها ـ عدا أسماء الأشخاص ـ
في الهامش تسهيلاً للقارئ الكريم وتمكيناً له من تكوين فكرة متكاملة عن
الموضوع.
كذلك حاولنا أن نشير إلى المصادر والمراجع التي استخدمها
المؤلف وفق الأسلوب العلمي المتعارف عليه بين الباحثين وهو أمر
تجاهله المؤلف تجاهلاً تاماً؛ إذ أنه يشير إلى المصادر التي استقى منها
معلوماته بشكل غير منظم بعيد عن الأصول المتبعة في هذا الشأن، كما إننا
عمدنا إلى ترجمة المصادر الروسية التي استخدمها المؤلف إلى اللغة
العربية تلافياً لما قد يحدث من مشاكل طباعية.
بقي أن نذكر إننا أثبتنا في متن الكتاب بعض الهوامش والتعليقات
توضيحاً لنقاط معينة أشار إليها المؤلف أو تصويباً لأخطاء وقع فيها سهواً،
وفي عدد من الحالات أحلنا القارئ إلى مراجع عامة تعطيه فكرة موسعة
عن الموضوع الذي يتطرق إليه المؤلف.
والكتاب في الأصل جزء واحد ولكننا ارتأينا تقسيمه على جزء أول
وجزء ثانٍ وذلك لأسباب فرضت هذا التقسيم في مقدمتها أنه يحتوي
مجالين في الدراسة منفصلين؛ يشمل الأوّل الذي نقدمه للقارئ الآن على
خمسة فصول يتناول المؤلف فيها موضوعات جغرافية واقتصادية وإدارية
وبشرية عامة. في حين يعرض الثاني الذي نأمل أن نقدِّمه قريباً للتطورات
التاريخية في ولاية البصرة، ولذلك وجدنا من الأنسب أن يقدم كتاب
ضخم كهذا إلى القارئ الكريم منفصلاً إلى جزئين. وفي الختام أملنا كبير
في أن نكون قد أدينا بهذا العمل المتواضع خدمة للمكتبة العربية وللقارئ.
هاشم التكريتي
الفصل الأوّل
لم تكن ولاية البصرة حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر أكثر
من جزء من باشوية بغداد التي تمتد من الخليج حتى مدينة ماردين طولاً
ومن كردستان وجبال فارس حتى صحراء سوريا وشبه جزيرة العرب
عرضا. لقد كانت الولاية لا تقل مساحته عن مساحة أي من الدول
الأوروبية (1) تعاني وضعاً شاذاً؛ فهي من ناحية كانت تفصلها عن بقية الدولة
العثمانية سلاسل جبلية وعرة وصحاري قاحلة أصعب منالاً، وهي من
الناحية الأخرى باعتبارها محاددة لفارس وتقطنها قبائل عربية وكردية تحب
الحرية، كانت على الدوام موضوعاً للنزاعات الاستيلائية لشاهات فارس
ومسرحاً لانتفاضات عربية وكردية متعددة ضد السيطرة التركية. وقد
تطلبت جدية الكفاح ضد العدو الخارجي والاضطرابات الداخلية في وقت
واحد ضرورة تقوية سلطة وأهمية باشا بغداد. وذلك أمر لم يكن ممكناً،
في الوضع السياسي والمإلى الذي كان سائداً في الإمبراطورية العثمانية
والذي يذكرنا كثيراً بنظام العصور الوسطى الإقطاعي، إلّا بتوسيع المناطق
الخاضعة لسلطنة هذا الباشا من أجل أن تزيد بهذه الوسيلة الأموال التي
______________________
(1) واضح أن حكماً كهذا يفتقر إلى الدقة فالحقيقة أن هناك العديد من الدول
الأوروبية التي تزيد مساحتها على مساحة هذه الولاية. (المترجم).
تلزمه للصرف على جيش دائمي لا يستهان به. لذا فلم يكن بالإمكان
تقسيم باشوية بغداد إلى أجزاء أصغر بهيئة ولايات الموصل وبغداد والبصرة
إلّا بعد تغير الظروف السياسية في تلك الأنحاء، ولم تستطع الحكومة العثمانية
أن تنهي ما كان يتمتع به ولاة بغداد من شبه استقلال غير مرغوب به من
وجهة نظر النزعة المركزية، إلّا بعد أن زال خطر الغزو الفارسي الدائم
واستكانت القبائل العربية والكردية المحلية لدرجة معروفة للنير التركي.
كانت ولاية الموصل هي الأولى التي فصلت عن باشوية بغداد حيث
تألفت في 1878م من سناجق الموصل وشهرزور والسليمانية وأصبحت
تحادد ولاية بغداد بخط يسير من عنه على الفرات إلى تكريت على دجلة.
وقد حتمت عودة السيطرة العثمانية في 1871م على القطيف وعلى واحة
الحسا وكذلك احتلال القوات العثمانية للبدع (1)، وهي المدينة الرئيسة في
شبه جزيرة قطر، حتمت ضرورة توحيد المنطقة التي أعيد الاستيلاء عليها
إدارياً مع باشوية بغداد. إن إدارة بغداد لمنطقة يفصلها عن بقية الباشوية
الخليج كانت أمراً بالغ الصعوبة في حين كانت البصرة التي تقع على نهر
شط العرب الصالح لسير السفن البحرية الميناء الطبيعي للخليج كما أنها
تبدو، باعتبارها مركزاً عثمانياً متقدماً في الزاوية الشمالية الشرقية لشبه
جزيرة العرب، كما لو أن الطبيعة نفسها قد خصصتها للغرض المشار إليه.
لقد فصلت ولاية البصرة لأول مرة عن باشوية بغداد في عام 1875م
وأعطيت إدارتها لناصر باشا الشيخ المنتفكي المشهور من عائلة السعدون
كمكافأة له على اشتراكه الفعال في إخضاع الحسا. ومع استدعاء ناصر باشا
في 1879م إلى اسطنبول انقطع مرة أخرى الوجود المستقل لولاية البصرة ،
______________________
(1) البدع هو الاسم القديم لمدينة الدوحة عاصمة قطر حاليا. (المترجم).
ولم يتقرر تحويل البصرة مجدداً إلى مركز إداري منفصل تحت إدارة والي
مستقل عن بغداد إلّا في 1884م. ومنذ ذلك التاريخ لم تنضم ولاية البصرة
إلى ولاية بغداد وكل ارتباطها بهذه الأخيرة يقتصر في الوقت الحاضر على
أن القوات المرابطة ضمن حدود ولاية البصرة تعود إلى الفيلق السادس
الذي يوجد مقر قيادته في بغداد وإن كلّ مؤسسات ولاية البصرة ودوائرها
كالكمارك والبريد والبرق والحجر الصحي وإدارة الدين العثماني العام
وشركة الريجي الخاصة بالتبغ والبنك العثماني الرسمي تتبع مباشرة كلّ
لمركزها الرئيس الموجود في بغداد.
تبلغ مساحة ولاية البصرة بما في ذلك الحسا والقطيف وقطر حسب
تقدير ف. كونيه (1) ما يقرب من 130000 كم مربع في حين تقدر المعطيات
العثمانية الرسمية الواردة في الحلويات الرسمية الخاصة بولاية البصرة هذه
المساحة بـ 150000 كم مربع. ويمكن اعتبار الرقمين كليهما تقريبيين فقط
بسبب من إن حدود الولاية كما سنرى لاحقاً لم تكن محددة بدقة ومع ذلك
فإن الرقم الأخير هو في رأينا الأقرب إلى الحقيقة على أية حال.
أما حدود ولاية البصرة فهي كالآتي: الصحراء السورية أو الشامية (2)
من الغرب والصحراء الرملية لشبه جزيرة العرب من الجنوب والخليج من
الجنوب الشرقي وفارس من الشرق، أما من الشمال فتحدها ولاية بغداد
التي تتصل بها ولاية البصرة إلى الأعلى من بلدة علي الغربي على دجلة
______________________
(1) V. cuinet: la turquire d Asia. Geographic Administrative. Paris 1891.T.iii. p. 215
(2) الشامية اسم يطلقه المؤلف على بادية الشام وواضح إن ذلك فضلاً عن عدم
دقته من الناحية العلمية، ربما يؤدي بالقارئ إلى الخلط بين بادية الشام ومدينة
الشامية المعروفة في العراق، ولهذا فإننا سنستخدم مصطلح بادية الشام كلما
ورد ذكر الصحراء السورية في المستقبل. (المترجم).
وحصن قلعة الدراج على الفرات. وهكذا تنتهي الحدود الغربية والجنوبية
إلى صحاري تسكنها قبائل عربية، حيث تعيق الظروف الطبيعية التي تمر
بها تلك الأصقاع بالطبع أي تخطيط للحدود. كذلك تتصف الحدود مع
فارس بقدر قليل من الدقة على الرغم من أن هذه القضيّة كانت طيلة
سنوات عديدة وابتداء من 1849م موضوعاً لعمل لجنة حدود خاصة تتألف
من ممثلي فارس والدولة العثمانية ومندوبين عن روسيا وبريطانيا (1). وقد
تمخضت جهود الدولتين الأخيرتين عن وضع خارطة عين عليها شريط
يتراوح عرضه بين 20 ـ 40 كم كان على فارس والدولة العثمانية أن تعينا
خط الحدود ضمنه. ومع ذلك لم تستطع لا فارس ولا الدولة العثمانية حتى
الآن أن تتفقا على ذلك نهائياً. وقد ظل الوضع غير المحدود للحدود
العثمانية ـ الفارسية على الدوام حجة لقيام خلافات على الحدود يكون
بعضها جدياً مثل الخلاف الأخير الذي أدى إلى استيلاء الدولة العثمانية
على قسم لا يستهان به من إقليم أذربيجان الفارسي وهو القسم الواقع إلى
الغرب من بحيرة أورميا.
وتتألف ولاية البصرة التي تمتد من منتصف المجرى الأدنى لنهري
دجلة والفرات حتى شبه جزيرة قطر من قسمين قليلي الشبه ببعضهما من
حيث الظروف الجغرافية، ففي الوقت الذي يتألف فيه الشريط الساحلي
الممتد من شبه جزيرة قطر إلى الكويت فيكون بذلك منطقة نجد أو الحسا (2)
من صحراء يغلب فيها السكان الرحل وتحتوي على واحات قليلة جداً، يعتبر
______________________
(1) ي. أي: تشيريكوف؛ سجل الطريق، بإشراف م. أ. كمازوف. سانت بطرسبورغ
1875م، ص55، من المقدمة وما بعدها. [بالروسية].
(2) لا يقصد المؤلف هنا نجد بالمعنى الجغرافي وهو الاقليم الذي يقع في وسط جزيرة
العرب وإنما يقصد سنجق نجد أو الحسا كان أحد سناجق ولاية البصرة. (المترجم).
القسم الثاني الذي ترويه أنهار دجلة والفرات وشط العرب واحدة من أخصب
بقاع الكرة الأرضية وقد اشتهرت منذ القدم بأنها (مخزن حبوب مقدمة آسيا).
وتبعاً لهذا التقسيم الطبيعي لولاية البصرة فإنها في وصفنا لها من
الناحية الجغرافية سنقوم بتقسيمها إلى قسمين نبحث في أولهما القسم
الشمالي والأكثر تحضراً من الولاية ونستعرض في القسم الثاني الحسا وهو
بلد مقفر لم يبحث إلّا قليلاً.
يطلق اسم العراق الجنوبي في الخرائط الجغرافية على القسم الشمالي
النهري من ولاية البصرة الذي يتميز بخصوبته غير إن كثيراً من الرحالة
الأوروبيين يسمونه ما بين النهرين الأدنى. وهذه التسمية الأخيرة ليست
صحيحة تماماً من الناحية العلمية لأن المصطلح العلمي (ما بين النهرين)
يعني في أعمال الجغرافيين فقط المثلث الذي يكونه المجرى الأوسط
لنهري دجلة والفرات من جهة وسفح هضبة أرمينيا من الجهة الأخرى أي
الأقليم المعروف عند العرب باسم (الجزيرة). لهذا فإن ما بين النهرين لا
يمتد إلى الجنوب من بغداد التي تقع تقريباً على الحدود بينها وبين بلاد
الكلدانيين القديمة أي العراق العربي الذي يشمل بالإضافة إلى ولاية
البصرة الأطراف الجنوبية لولاية بغداد أيضاً. ويعين العقيد (جسني) الباحث
المتخصص في ما بين النهرين الحدود التي تفصل ما بين النهرين عن
العراق العربي بشكل أكثر دقة فهو يؤكد أن العراق العربي يمتد في الشمال
إلى الموضع الذي كان يقوم به السور الميدي القديم الذي يتجه من صدر
قناة الدجيل على دجلة حتى مصب قناة الصقلاوية (1) في الفرات أي إلى ما
______________________
(1) الصحيح هو تفرع الصقلاوية من الفرات وليس مصبها فيه لأن جدول الصقلاوية
كما هو معروف لايصب في الفرات وإنما يأخذ مياهه منه. (المترجم).
يوازي مدينة سامراء الحالية (1).
وإذا توخينا الدقة فإن اسم العراق الجنوبي ليس مصطلحاً جغرافياً وإنما
هو على الأصح أثر أثنواغرافي وسياسي من آثار الماضي ظل قائماً منذ القرن
الثالث عشر أي منذ عهد الايلخانيين خلفاء هولاكو، إذ لم تتوحد تحت سلطة
هؤلاء الإيلخانيين ولايتا بغداد والبصرة الحاليتان فحسب وإنما شملت
سلطتهم أيضاً الاقاليم الفارسية: كرمنشاه وهمدان واصفهان وكاشان وقم،
ولهذا فإنهم أطلقوا على المنطقة التي يقطنها العرب اسم العراق العربي وعلى
البلاد التي يسكنها الفرس اسم العراق الفارسي وذلك تجنباً للبلبلة الإدارية (2).
والعراق الجنوبي من حيث السطح عبارة عن سهل ليس فيه
مرتفعات أو سلاسل جبلية عدا تل صغير بالقرب من الزبير هو جبال سنام
وجبال الحدود الفارسية المتاخمة للضفة الشرقية من دجلة وهي جبال
بشت كوه التي تمكن رؤيتها جيداً من النهر عند كوت الأمارة لأنها في هذا
الموضع لا تبعد عن دجلة إلّا مسافة 20 ميلاً. وسهل العراق الذي هو
امتداد لما بين النهرين ينحدر باتجاه الخليج وهذا أمر تؤكده مقارنة بسيطة
بين الأرقام التي تشير إلى مقدار ارتفاع المدن الواقعة على دجلة بالتتابع من
الشمال إلى الجنوب على مستوى سطح البحر. مثل الجزيرة (3) والموصل
وبغداد فالأولى تقع على ارتفاع 40 متراً فقط (4). ثم يستمر الانحدار بعد
______________________
(1) F. R. Chesney: the expedition for the survey of the Revir Euphrates and tigris.
Londan. 1850. vo. 1. pp. 29. 30.
(2) K. Ritter die Erdkunde von Asien. Berlin 1844. vII Abt. II. S. 925
(3) جزيرة أن عمر. (المترجم).
(3) E. Jung. Les puissances Devant La Revolit Arabe. Paris. 1906.
ذلك بشكل أكثر انتظاماً فمبموجب التحريات التي أجراها السيد ولكوكس
تقع كوت الأمارة على ارتفاع 17،5 متراً والعمارة على ارتفاع 8،5 متراً
والقرنة على ارتفاع 3 أمتار في حين لا ترتفع البصرة إلّا 2،5 متراً عن
مستوى سطح البحر (1).
وتتألف تربة العراق الجنوبي من الألومينا الجيرية أو من الطمي
الجيري الذي تكون نتيجة لترسبات دجلة والفرات وهما النهران العظيمان
في المدخل (الغربي) (2) ولذا فإن جزءاً صغيراً من الصحراء هناك يتكون
من السبخات وتغطيه طبقات من الرمال وذلك ما يميز تلك الصحراء عن
صحاري شبه جزيرة العرب بل ومصر أيضاً (3).
وعلى أي حال بإمكان سهل العراق حتى في حالته المهملة حالياً أن
يطعم عدداً كبيراً من الماشية التي تمتلكها القبائل العربية المتنقلة التي لا
تعاني قطعانها من النقص في عشب المرعى إلّا في سنوات الجفاف غير
الاعتيادي. وتساعد رواسب النهرين التي تزيد من خصوبة التربة على أن
ترتفع المنخفضات العراقية تدريجياً وباستمرار ويقوم نهر الفرات بالدور
الرئيسي في هذا المجال نظراً لأنه بسبب من جريانه الهادئ السلس يرسب
كمياب كبيرة من الغرين على ضفتيه في حين يحمل دجلة الذي يكون
ماؤه سريع الجريان القسم الأغلب من ترسباته إلى الخليج حيث تترسب
عند مصب شط العرب على هيئة حاجز فتستخلص من البحر بهذا الشكل
مساحة من اليابسة متزايدة باستمرار. وقد استمر هذا الصراع منذ آلاف
______________________
(1) W.Willcocks: the Irrigation of Meso potamia. London. 1911. pp 27. 30.
(2) أضفنا كلمة (الغربي) لوجود أنهار عديدة في مدخل آسيا الشرقي. (المترجم).
(3) K. Ritter; op. cit T. VII. Abs II s. 957. 958
السنين ولذا فليس من المستغرب أن نجد أن المواضع التي كانت قبل
3000 سنة أي منذ وقت قريب من وجهة نظر الجيولوجيا تحت الماء هي
الآن برُّ صلب، وتشير حسابات العالم الإنجليزي راولنسون إلى أن مياه
الخليج تراجعت في الفترة من 1793 إلى 1853 أي خلال 60 سنة بمقدار
3200 متراً باتجاه الجنوب أي بعدل 53م سنوياً الأمر الذي يسمح
بالافتراض بأن ضفة الخليج الشمالية كانت قبل ثلاثين قرناً تقع إلى الشمال
من القرنة الحالية بمسافة 30 ميل (1).
ويحتل الفرات ودجلة في حياة العراق نفس الأهمية التي يحتلها
النيل في مصر، وكما إنه لم يكن بالإمكان تصوّر قيام أية حضارة هناك
بدون ذلك النهر المقدس في نظر المصريين كذلك كان النهران كلاهما هنا
أساساً لازدهار المنطقة في السابق وضماناً لانبعاثها في المستقبل. ويمكن
الاختلاف بين النيل والنهرين العراقيين في أن موسم الفيضان بالنسبة للأول
يقع في آب ـ تشرين الأوّل حيث يتجمع الماء الفائض في أحواض يعود
منها مرة أخرى إلى النيل عند هبوط مياهه اعتباراً من شهر تشرين الثاني، في
حين يحل فيضان الفرات ودجلة في شهر آذار ـ أيار ثم يعقبه أكثر فصول
السنة حرارة وجفافاً اعتباراً من حزيران حتى نهاية أيلول حيث يضطر
المزارعون بسبب توافق موسم هبوط المياه في النهرين مع فصل الصيف إلى
اللجوء إلى ري الحقول اصطناعياً بواسطة القنوات أو مضخات المياه (2).
ويمكن أن يطلق على الفرات ودجلة اسم: النهرين التوأمين، فكل
منهما ينبع من هضبة أرمينيا من مواقع لا تبعد عن منابع الآخر ثم يفترقان
______________________
(1) E. Reclus. Novvelle Geographite Universelld. T. IX. P> 407$.
(2) W. willcocks: OP. cit. P. 5.
لبعض الوقت إلى جهات مختلفة حيث يعبران السلاسل الجبلية إلى سهل
ما بين النهرين فيظهر الفرات إلى الغرب من جبل مازيوس (قرة داغ حالياً)
ودجلة إلى الشرق منه. ومنذ هذه اللحظة لا يجد النهران عقبات تعيقهما
فيبدأن بالاقتراب من بعضهما حيث يأخذ الفرات ابتداءً من عنه اتجاهاً
موازياً لدجلة مقترباً منه إلى مسافة لا تزيد عن 27 فرستاً (1) تارة كما هي
الحالة عند بغداد ومبتعداً إلى مسافة 143 فرستاً تارة أخرى كما هي الحالة
مقابل علي الغربي. ويلتقي النهران عند القرنة ومن هناك تأخذ مياه الفرات
المتحدة مع مياه دجلة طريقها بقوة وأبهة نحو الخليج تحت اسم شط
العرب.
ويتكون الفرات الذي يبلغ طوله 2670 فرستاً من التقاء نهري قره ـ
هو الذي ينبع من موضع يقع على بعد 25 ميلاً إلى الشمال الغربي من
أرضروم ومرد ـ جاي الذي ينبع من السفح الجنوبي لجبل الاداغ الواقع إلى
الشمال من بحيرة وان. وتتحد مياه هذين النهرين تحت اسم الفرات (2)
الذي يتجه نحو البحر المتوسط وقبل أن يبلغه بمسافة 177 فرستاً
محسوبة على أساس خط مستقيم من حلب إلى الاسكندرونة ينحرف
بحدة عند موضع قلعة باليس باتجاه الجنوب الشرقي ويجتاز الصحراء
السورية.
وبعد ذلك يجتاز الفرات منطقة تلال طباشيرية تؤلف الذيول الأخيرة
للسلاسل الجبلية الواقعة في الشمال، ثم تكتنف مجراه بالقرب من مدينة
______________________
(1) الفرستا مقياس للطول مقداره 1060 متراً. (المترجمع).
(2) يرجع جنسي هذه التسمية إلى الفعل العبري فيرات أو فرات الذي يعني
يخصب أو يلقح.
عنه حوال 26 جزيرة ويمتلئ مجراه بسلسلة من الصخور تعيق الملاحة
وخصوصاً في موسم نقص المياه في الفرات أي اعتباراً من ايلول إلى
منتصف تشرين الأوّل حيث تقل المياه في النهر في هذا الشهر إلى درجة
كبيرة بحيث أن القوافل تعبر النهر في الموضع المذكور مخاضة.
يصل عرض الفرات عند مدينة عنه (عانة) إلى 450 ارشينا (1) ولكنه
يأخذ بعد ذلك بالضيق تدريجياً ابتداءً من الفلوجة حيث يذهب قسم من
مياهه إلى دجلة خلال قناة الصقلاوية وذلك بفضل الانحدار الذي تتميز به
الأرض في هذه المنطقة باتجاه هذا النهر الأخير (2).
في أربعينيات القرن الماضي جاءت إحدى أميرات الهند لزيارة
العتبات الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف وقررت أن تنعم على هاتين
المدينتين المقدستين بتجهيزهما بمياه جيدة للشرب، فحفرت لهذا الغرض
وعلى حساب الأميرة قناة تصل الفرات بالمدينتين المذكورتين عرفت باسم
الهندية. وأخذت القناة تتسع بمرور الزمن بضغط المياه ثم جاء إغلاق
فوهة قناة الصقلاوية على الفرات في 1870م بمبادرة مدحت باشا وإلى
بغداد آنذاك فأدى إلى أن يتجه النهر الذي ازداد حجمه لا إلى مجراه
الرئيسي وإنما إلى قناة الهندية التي تقع إلى الأسفل منه. لقد جذبت هذه
الأخيرة كلّ مجرى الفرات بحيث أدت إلى جفاف الفرع الرئيسي للنهر
تقريباً وهو الفرع الذي يتجه إلى مدينتي الحلة والديوانية اللتين أخذ
يهددهما لهذا السبب خطر البقاء دون مياه كلياً. فاضطر احتمال خراب هذه
المناطق الغنية الحكومة العثمانية لأن تباشر بنشاط عملية إعادة النهر إلى
______________________
(1) الأرشين مقياس روسي قديم للطول مقداره 71 سنتمتراً. (المترجم).
(2) F. R. Chesnesy. OP. cit. vol.I. p.55.
مجراه القديم فبنيت لهذا الغرض بالقرب من مدينة المسيب سدة أشادها
مهندسون فرنسيون استجلبوا خصيصاً لهذا الغرض لكن بناءها لم يساعد إلّا
جزئياً على إعادة الفرات إلى مجراه القديم (1).
ويمر الفرات إلى الأعلى من مدينة الحلة بالقرب من إطلال بابل التي
يشتغل الأثاريون بالتنقيب فيها منذ عدة سنوات، ثم يدخل بعد ذلك في
منطقة من القنوات والمسطحات المائية ذلك أن المياه تغمر المناطق
المتاخمة للنهر في فصل الفيضان الربيعي بسبب انخفاض ضفتيه فتكوّن
مستنقعاً مائياً متصلاً واسعاً ويمتد عشرات الفرستات على جانبي النهر.
ومما يساعد على زيادة مساحة المستنقعات أيضاً الشبكة الواسعة من
قنوات الري التي تتفرع من النهر حيث تمتلئ في الربيع بسبب انعدام
السدود إلى درجة بحيث تطفح المياه من ضفافها. وتعرف هذه المستنقعات
في الخرائط الجغرافية باسم مستنقعات لملون (2) والتسمية مأخوذة من اسم
قناتين رئيستين تتفرعان من الفرات هما لملون (3) القديم الذي يتفرع من
الفرات في موضع يقع على بعد 27 فرستاً إلى الجنوب من الديوانية ولملون
الجديد الذي تقع بدايته إلى الجنوب من بداية الأوّل بعض الشيء (4).
وتبتلع هذه القنوات الفروع جميعاً كمية وافرة من مياه الفرات إلى
درجة بحيث أن النهر نفسه يبدو وكأنه يختفي في الأهوار والمستنقعات.
وبالرغم من أن القياسات التي أجراها ضباط البحرية الإنجليزية في عام
______________________
(1) W. Willcocks. OP.cit.p.12.
(2) الصحيح لملوم. (المترجم).
(3) الصحيح لملوم. (المترجم).
(4) K. Ritter. OP. Cit. T. VII. Abs. II. S. 978 FF.
1840م تشير إلى أنه عبارة عن مجرى عرضه 70 أرشيناً وعمقه 12 قدماً
فإن القياسات التي جرت مؤخراً أظهرت أن المياه فيه لا تزيد في الكثير
من الأماكن على 75 سم (1).
ولا يستعيد الفرات منظره الجليل السابق فيأخذ بالجريان بسلاسة
اعتباراً من موضع سوق الشيوخ متجهاً شرقاً إلى أن يلتقي بدجلة في
القرنة، إلّا بعد عودة لملون القديم والجديد على المجرى الرئيسي في
موضع قلعة الكرة وعلى الأخص بعد أن تصب فيه بعض مياه دجلة
بواسطة قناة شط الحي (2).
أما دجلة الذي يبلغ طوله 1720 فرستاً لا غير فإنه يتكون كتوأمه
الفرات من التقاء جدولين ينبعان من السفوح الجنوبية لانتي طوروس وبعد
أن يتجه إلى الشمال الشرقي يأخذ مجراه في قلب كردستان ثم يتجه من
هناك إلى ديار بكر حيث تصب فيه في واديها عدة روافد منها الكبير ومنها
الصغير وبعد ذلك يشق طريقه إلى الموصل وأطلال نينوى المشهورة
الواقعة تجاهها على الضفة اليسرى من النهر. ويستمر دجلة في جريانه
دون أن يغير اتجاهه الجنوبي الشرقي إلى أن يصل إلى الموضع الذي
يصب به فيه الزاب الكبير فينحرف بشكل مباشر تقريباً نحو الجنوب.
ويصل إلى قلعة الشرقاط أو توبرك قلعة سي بالتركية أي إلى الأعلى قليلاً
من مصب الزاب الصغير عند جبال حمرين. وتأخذ هذه السلسلة الجبلية (3)
بخناق النهر من الجانبين فيسعى إلى الإفلات مسرعاً إلى سهل أسفل ما
______________________
(1) V. Berard: Le Sultan. I islam et Puissances. Paris. 1907.p.420.
(2) شط الحي أو الغراف. (المترجم).
(3) هي في الواقع ليست سوى سلسلة من التلال لا يرقى ارتفاعها إلى مستوى
أكثر الجبال انخفاصاً. (المترجم).
بين النهرين مشكلاً في هذا المكان خطراً كبيراً حتى على الملاحة بواسطة
الأكلاك والأطواف (1) التي تستخدم القرب المنفوخة بالهواء (2). ولا يصبح
دجلة صالحاً للملاحة إلّا ابتداء من تكريت التي ينساح فيها النهر عريضاً بعد
أن يصل إلى متسع رحب مكوناً العديد من الجزر حيث تكثر في موسم
الفيضانات أسراب الطيور المائية الكثيرة العدد وحيث يعمد العرب القاطنين
على الضفاف إلى زراعة بساتين الخضار (3) في موسم نقصان المياه.
ويستمر جريان دجلة منذ اللحظة التي يخرج فيها إلى السهل
وحتى القرنة باتجاه يوازي جبال فارس الواقعة على الحدود والتي
ترسل إليه كلّ جداولها الكبيرة منها كديالى والصغيرة كمندلي وبدرة
وطيب ودويريج. يصل النهر وهو يجري بسرعة إلى بغداد عاصمة
العباسيين سابقاً، ثم يدفع مياهه العكرة بعد ذلك لتجري بالقرب من
إطلال العاصمتين القديمتين طيسفون وسلوقيا الواقعتين على جانبي
النهر إحداهما مقابل الأخرى فكان ذلك سبباً دفع العرب إلى تسمية هذا
الموضع بـ (المدائن) أي المدينتين (4).
______________________
(1) F. R. Chesney. OP. cit. VoI.I. P. 16 FF.
(3) الحقيقة هي أن الأكلاك غير الأطواف فالأولى هي التي تستخدم فيها القرب
المنفوخة بالهواء، أما الثانية فلا تستعمل فيها هذه القرب وإنما تعتمد على قابلية
الخشب على الطوفان. (المترجم).
(3) يقصد المؤلف ما يسمى بالعامية (الشواطي) أو (الشطاطي) أي الرقي والبطيخ
والخيار وغير ذلك مما يزرعونه على ضفة النهر في تلك المناطق. (المترجم).
(4) المدائن لا تعني المدينتين، وإنما تعني المدن طبعاً. وبالفعل فقد أطلق عليها
هذا الاسم لأنها تتألف من عدة مدن. يذكر صاحب معجم البلدان إنها كانت
مسكناً لعدد من الملوك المختلفين «فكان كلّ واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه
وعند كوت الأمارة الواقعة على بعد 360 فرستاً أسفل بغداد يتفرع
دجلة إلى فرعين يتجه الكبير منهما وهو الفرع الرئيسي إلى القرنة أما
الأصغر فإنه يقطع العراق تحت اسم شط الحي ويصب في الفرات في
موضعين عند بلدة العرجة والآخر عند قرية أبي صوف التي تقع قبل القرنة
بما يقارب 112 كم.
وفي منتصف الطريق بين دجلة والفرات يتفرع شط الحي بدوره إلى
فرعين هما بوجي خيرات وشط العمه (1) ولا يزال الأوّل منهما أي الفرع
الغربي صالحاً للملاحة حتى الوقت الحاضر لمدة ستة أشهر في السنة حيث
يصل عرضه في موسم الفيضان إلى 140 أرشيناً وعمقه إلى 7 أرشينات،
وتستخدمه عادة المراكب الشراعية العربية لنقل الحبوب والغلال من المنطقة
الخصبة جداً التي يرويها شط الحي الذي يعرف أيضاً باسم (الغراف) (2).
وعلى امتداد المسافة من مصب نهر ديالى عند بلدة بعقوبة أي على
بعد 40 فرستاً إلى الجنوب من بغداد (3) وحتى بلدة علي الغربي يكون
_______________________________________________________
مدينة إلى جانب التي قبلها وسماها باسم. فأولها المدينة العتيقة التي لزاب ...
ثم مدينة الاسكندر ثم طيسفون من مدائنها ثم إسطانبر ثم مدينة يُقال لها رومية
فسميت المدائن بذلك». (ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، المجلد
الخامس، ص74 ـ 75) (المترجم).
(1) إن اسمي فرعي الغراف المذكورين هما البدعة والشطرة، وأما جدول (العمه)
كما يسمى محلياً فهو جدول يتفرع من الغراف إلى الجنوب من بلدة الحي
بقليل. (المترجم).
(2) F. R. Chesmey. OP. voI. I. Pp36 - 37.
(3) لا تقع مدينة بعقوبة عند مصب نهر ديالي، فديالي يصب في دجلة إلى
الجنوب من بغداد بحوالي 32 كم في حين تقع مدينة بعقوبة على بعد حوالي
56 كم إلى الشمال الشرقي من بغداد. (المترجم).
مجزى دجلة كثير التعاريج بحيث يكاد كلّ منعطف من منعطفاته أن
يشكل دائرة كاملة حتى ليبدو أحياناً للمسافر الذي يراقب من على ظهر
السفينة المراكب الشراعية التي تمر بهذه المنعطفات، إن هذه المراكب لا
تتحرك من مكانها وإنها تسحب على الأرض لأن من غير الممكن رؤية
تعرجات النهر بسبب ارتفاع ضفتيه.
وابتداءً من بغداد وحتى العمارة تقريباً يصبح دجلة نهراً عظيماً
يتراوح عرضه ما بين 420 و 490 أرشيناً وعمقه ما بين 11 أرشيناً في
موسم الفيضان وأرشينين في موسم الصيهود. وإلى الأعلى من العمارة قليلاً
يتفرع من الجانب الأيمن من دجلة أول تلك الفروع التي تنقل المياه من
النهر إلى المستنقعات الواقعة في مجراه الأدنى فتساعد بذلك على نقصان
المياه في هذا الشريان الوحيد الصالح للملاحة في العراق العربي. وتشير
حسابات السيد ولكوكس (1) إلى إن هذا الفرع الذي يعرف باسم باتره (2)
والفرع الآخر الذي يتفرع من جهة النهر اليسرى في العمارة نفسها والذي
يعرف باسم جالة (3) يستنزفان كمية كبيرة من المياه بحيث إن دجلة في هذا
الموضع لا يكاد يبلغ 250 أرشين عرضاً و 2/1، 5 أرشين عمقاً في موسم
الفيضان. إن فرع جالة شأنه في ذلك شأن المجر الكبير الذي يتفرع من
ضفة النهر اليمنى إلى الأسفل من العمارة والمشرح الذي يتفرع من جانبه
الأيسر تقع جميعها في مستوى النهر فتؤلف بسبب الكمية الكبيرة التي
تبتلعها من المياه الخطر الرئيسي على وجود دجلة كنهر صالح للملاحة
______________________
(1) W. Willcocks: OP. cit. pp. 28 – 29.
(2) يقصد البتيرة. (المترجم).
(3) يقصد الكحلاء أو الجحلة كما يسمى محلياً. (المترجم).
بحيث أنه يضيق في هذا الموضع حتى يبلغ عرضه 85 أرشيناً. ولا يستعيد
دجلة شكله السابق إلّا ابتداءً من موقع النبي عزرا (1) وذلك بفضل ورود المياه
إليه من الأهوار المحيطة به فيأخذ بالجريان متعاظماً حتى يصل إلى القرنة.
ودجلة بالمقارنة مع الفرات يكون أقصر بمقدار مرة ونصف تقريباً
ولكنه يفوق توأمه في سرعة الجريان ولهذا أسماه العرب السهم (2) (دجلة) (3).
ويتخذ دجلة بسبب سريعة تياره والارتفاع والهبوط السريعين لمياهه في
موسم الأمطار والفيضان طابع الجدول الجبلي الحقيقي الذي يستبعد أن
تكون الملاحة فيه، وعلى الأخص ضد التيار، ممكنة حتى فبل بغداد لو لم
توجد في مجراه المنعطفات التي أشرنا إليها أعلاه.
ومن الخصائص الأخرى التي ظل دجلة يتميز بها حتى الربع
الأخير من القرن التاسع هي غزارة مياهه، فالمعطيات التي أوردها
ريكلوس (4) (e. reclus) تشير إلى أن كمية المياه التي يحملها إلى الشمال
______________________
(1) يقصد بلدة العزيز. (المترجم).
(2) حول أصل تسمية دجلة وغيره من أنهار العراق راجع: جمال بابان. « أصول
أسماء العراق وأنهاره الرئيسية » مجلة آفاق عربية عدد آذار 1980 ص98 ـ 111
المترجم
(3) تشير حسابات الضباط البحريين الانجليزيين كليفلاند (Cleveland) ومورفي
(murphy) إلى أن سرعة جريان دجلة شمال بغداد هي 33،7 قدماً في الثانية
في حين يجري الفرات إلى الشمال من هيت بسرعة 46،4 قدماً في الثانية :
(f.r. Chesney: op. cit. vol. L. p. 62)
ولا تتعدى سرعة دجلة حسب آخر ملاحظات السيد ولكوكس الـ 9/4، 5 قدم في
الثانية ـ انظر: (w. willcockes: op. cit.p.28)؟
(4) (e. reclus: op. cit. t. lx.p.390).
من بغداد تبلغ 4656 متراً مكعباً في الثانية، في حين لا يحمل الفرات إلى
الشمال من هيت إلّا 2065 متراً مكعباً في الثانية، لا أكثر هذا في الوقت
الذي أعطت القياسات الحديثة التي أجراها المهندس الانجليزي السيد
ولكوكس (1) للفرات في هيت 2750 متر مكعب مكعباً كحدٍ أعلى و 400
متر كحد أدنى ولدجلة في بغداد 3000 متر مكعب كحد أعلى و 300 متر
مكعب كحد أدنى علماً بأن الحد الأعلى في الحالتين يقع في نيسان والحد
الأدنى يقع في تشرين الأول. وبمقابلة المعطيات القديمة والحديثة المتعلقة
بكمية المياه في دجلة والفرات يظهر بأنها متعادلة تقريباً بغض النظر عن
كثرة الروافد لدى الأول وقلتها عند الثاني، فبعد أن يخرج الفرات إلى سهل
ما بين النهرين لا يصب فيه رافد يستحق هذه التسمية إلّا الخابور ذلك إن
الوديان الأخرى التي تصب فيه ليست سوى سيول شتوية تجف مع حلول
حرارة الصيف.
كانت القرنة التي تقع على بعد 70 فرستاً إلى الأعلى من البصرة
تعتبر حتى وقت قريب الموضع الذي يلتقي فيه دجلة والفرات حيث
يعرف المجرى المائي الذي يتكون من التقائهما باسم «شط العرب» أي
النهر العربي. أما في الوقت الحاضر فإن المهندس الإنجليزي ولكوكس
الذي أجري قياسات وقام ببحوث في العراق العربي تتعلق بخطة لإحياء
نظام الري القديم في هذه المنطقة يؤكد بأن أية كمية من مياه الفرات لا
تصب في دجلة بل إن هذا الأخير هو الذي يرسل قسماً من مياهه لتسير
في المجرى الذي تركه توأمه الفرات. ويقودنا اكتشاف ولكوكس هذا إلى
الاستنتاج بأن جزء شط العرب الواقع بين القرنة وكرمة علي وهو إسم
______________________
(1) (w. willcockes: op. ci. p.
لموضع يقع على بعد 10 فرستات إلى الأعلى من البصرة يلتقي فيه الفرات
بدجلة حقيقة، ما هو إلّا استمرار لدجلة ولهذا فمن غير الصحيح تسميته
بشط العرب. وتشير قياسات السيد ولكوكس إلى أن عرض شط العرب،
وهو الأسم الذي سنستمر على استخدامه، بين القرنة وكرمة علي يتراوح
بين 350 و 530 أرشين في حين يبلغ عمقه 4/1، 11 أرشين ولا يكبر إلّا
بعد أن يصب فيه الفرات فيصل عرضه إلى 770 أرشيناً وعمقه إلى (2/19، 1)
أرشين. وتبلغ المسافة من البصرة حتى مصب شط العرب في الخليج 100
فرستاً يتراوح عرض النهر على امتدادها بين 770 أرشين في مجراه الأعلى
و 1540 أرشيناً على الأسفل من مصب الكارون فيه بواسطة قناة الحفار.
وتبلغ سرعة التيار في شط العرب عند البصرة 63، 5 قدم في الثانية ويصب
في شط العرب إضافة إلى نهر الكارون الذي ينبع من جبال خوزستان نهر
فارسي مهم آخر هو نهر كيركه (1) أو شط السويب وذلك في موضع يبعد 8
فرستات إلى الأسفل من القرنة. وقبل أن يصيب الخراب في 1837م السد
الذي كان قائماً في مدينة الحويزة كان فرع آخر من هذا النهر يصب
مباشرة في موضع غير بعيد عن مرقد النبي عزرا.
ويعترض مجرى شط العرب بين القرنة والمحمرة الواقعة عند مصب
الكارون في ذلك النهر عدد كبير من الجزر، تقع إثنتان منها إلى الأعلى من
______________________
(1) كيركة هي التسمية التي يطلقها المؤلف على نهر الكرخة (أنظر ص26 من هذا
الكتاب) وهو غير نهر السويب، فالأول أي الكرخة ينبع من المرتفعات الأيرانية
ويصب في الجانب الشرقي من هور الحويزة في حين أن الثاني أي نهر
السويب يأتي بمياه هذا الهور من أجزانه الواقعة جنوب العزير ويصبها في شط
العرب إلى الجنوب من القرنة بحوالي 9 كيلو مترات أنظر: حسن الخياط،
جغرافية أهوار ومستنقعات العراق، القاهرة 1975، ص24. 67 ـ المترجم.
البصرة، أما عن الجزر الواقعة إلى الأسفل من البصرة فأقر بها إلى هذه
الأخيرة جزيرة صلاحية (1). التي يعرفها جيداً جميع المسافرين الأوربيين
القادمين إلى البصرة بطريق البحر ذلك أنه كان يتحتم على أغلبيتهم أن
يقضوا فترة قد تمتد طويلاً في مركز الحجر الصحي الواقع في الطرف
الشمالي للجزيرة المذكورة. وتوجد إلى الأسفل من الصحلاحية على مسافة
غير بعيدة عن مصب قناة الحفار، جزيرتان صغيرتان آخريتان يفصلهما عن
بعضهما ممر ضيق، وتقعان على مقربة من الضفة اليسرى لشط العرب
لذلك فإنهما تشكلان مع تلك الضفة فرعاً صغيراً للنهر صالحاً لمرور
السفن.
ويكون شط العرب إلى الجنوب من المحمرة جزيرتين آخريتين هما
خضر والمحيلة تقع ألاولى التي سميت على اسم الخضر الشخصية
المقدسة عند المسلمين والمدفون فيها، بالقرب من قرية عبادان ويبلغ
طولها 12 ميلاً في حين يتراوح عرضها بين ميل واحد وأربعة أميال. أما
الثانية الواقعة في نفس موقع الأولى ويفصلها عنها شط العرب فإنها تتخلف
عن جارتها من حيث الحجم لدرجة ملحوظة.
ويحد جزيرة خضر من الجنوب الخليج ومن الشرق بهمشير وهو
فرع للكارون يأخذ قسماً من مياهه ويصب في الخليج. ومن الشمال قناة
الحفار ومن الغرب شط العرب ولذلك فإنها تبدو كما لو أنها امتداد
للضفة اليسرى لهذا النهر الأخير. وقد تنازلت الدولة العثمانية عن هذه
الجزيرة وعن منطقة المحمرة لفارس بموجب المادة الثانية من معاهدة
أرضروم لعام 1847 التي نصت على تأخذ فارس