الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» نثر الدر المكنون
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyاليوم في 6:12 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:43 pm

    هذه رحلة إلى العراق ليست كالرحالات الأخرى ممّا تعوّدنا قراءته منها ، إنها رحلة أديبة مؤرخة فرنسية أو مولعة بالتاريخ القديم ، في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد ، تمثّل لك ضروبا من الملاحظات في سيرة العراقيين الاجتماعية وغيرهم من الشعوب للمقابلة والمقايسة ، وتكشف لك عن ثقافة تاريخية قلّما تراها اليوم عند امرأة غربية مثقفة فضلا عن امرأة شرقية ، كما تذكر لك الرأي السياسي لهذه السائحة التي لم تتعود غير التصريح في كتابتها.
    وردت العراق السيدة «ديولافوا» المركّب اسم عائلتها من الله والإيمان سنة «1881 م ـ 1299 ه‍» في ولاية تقي الدين باشا الثانية على العراق ، وأساءت الثناء على الأتراك من ولاة وأتباع ، وجدّبت إدارتهم ، واستقبحت سيرهم ، ويفهم من أقوالها أنها كانت تكرههم كأكثر الأمم الأوروبية يومئذ وهي بغضاء موروثة ، كما يفهم من خلالها أنها كانت تحب الفرس وهم أعداء الأتراك إذ ذاك.

    وقد سجلت في رحلتها فوائد طريفة في عادات العراقيين وألبستهم ، وأحوالهم الاجتماعية الأخرى تسجيلا مفصلا يجعل رحلتها إلى القصة أقرب منها إلى الرحلة ، فلا ينفك القارئ فيها مقبلا على قراءتها حتى يتمّها مشغوفا بها ، مفتونا بما يتخلّلها من ملحوظات بارعة ، ونكت فائقة ، وانتقادات مرّة ، وفضول غريب يصوّر لنا طبيعة نسوية خاصة لا أثر لها عند السياح ، ولا عند كثير من النساء ، ويمثّل طرازا من التفكير ينبغي لنا أن نطلع عليه ، كما يعرب لنا عن حقيقة إخلاصها لزوجها ، ومكابدتها المشقات من أجله ، وأسلوب هذه السيدة السائحة أسلوب أدبي بارع ممتع ، تعمدت فيه الإطالة خوفا من الملالة ، التي تنشأ في العادة من الأسلوب الرياضي المألوف في أكثر الرحل الجافة ، فالرحلة قطعة أدبية جميلة.
    هذا وأرجو أن يستفيد قراء العربية المولعون بالرحل من هذه الرحلة فوائد جليلة في الاجتماع والتاريخ والآثار والذوق الأدبي.
    د. مصطفى جواد

    رحلة مدام ديولافوا
    عاش في فرنسا بين سنتي 1843 ـ 1920 م مهندس معماري معروف وعالم أثري كبير ، يدعى «مارسل ديولافوا» كانت له بحوث وتحقيقات قيّمة في فن العمارة والريازة في الحضارات الشرقية المختلفة. ومن المسائل التي تصدّى لها والأسئلة التي أثارها : هو أكان للحضارة الساسانية تأثير في الفن الإسلامي أم لا؟
    ولقد كلفت «مارسل ديولافوا» الإجابة عن هذا السؤال تكليفا كثيرا ، إذ لم يشف غليله كل ما وقع في يديه من كتب تعنى بمثل هذه الموضوعات في أوروبا كلها. ولم ير باحثنا المحقّق في الأخير بدّا من شدّ رحاله إلى الشرق نفسه ، ليستقي منه معلوماته ويلقى طلبته في الإجابة عن السؤال الذي عنّ له.
    يمّم وجهه شطر الشرق ـ أول مرّة ـ عام 1881 م على حسابه الخاص ، وأمضى ما يقرب من سنة في تركيا والقفقاز وإيران والعراق ، يدقّق النظر ويطلع على الأبنية التاريخية العتيقة فيها حتى فتح الله عليه الجواب واطمأنّ له!
    وفي هذه السفرة ـ الأولى ـ التي قام بها مارسل كانت زوجه معه وهي معروفة بأسلوبها الرقيق وبموهبتها الفنية في الرسم ولم تدع الفرصة تفوتها فأخذت على نفسها تسجيل يومياتها وخواطرها منذ إقلاعها من مرسيليا حتى عودتها ثانية إلى فرنسا في كتاب سمته «رحلة ديولافوا إلى إيران وشوش وكلدة» ولقد كان لصدور هذا السفر الجليل في باريس صداه البالغ وأثره البعيد في يومه ـ لا لما تضمن من طرائف مستملحة وأخبار غريبة عن تلك المناطق التاريخية فحسب ، بل لما احتوى عليه مما توصل إليه زوجها من

    حقائق واستكشافات وإن كان قد خانه التوفيق في بعضها فبالغ في أهمية الفن الساساني وأثره في فن العمارة الإسلامية.
    نرانا مضطرين إلى ترجمة القسم الخاص بالعراق فقط آملين أن يجد عشّاق كتب الرحلات والأسفار لذتهم ومتعتهم فيه كما نرجو أن نوفق في تقديم الصورة التي رسمتها المؤلفة للعراق يومئذ وتسليط الضوء على حوادث وشؤون العراق في تلك البرهة المظلمة ... والمغفلة من التاريخ.
    الناشر

    في شط كارون
    1 ـ سبتمبر 1881
    ذهبنا مع حراسنا المدججين بالسلاح لزيارة مقبرة كانت تتراءى لنا من بعيد ونحن نمخر شط كارون. ولقد وجدنا هذه المقبرة مهجورة ومتروكة تماما لم يلفت نظرنا منها شيء!
    وعند عودتنا كنت مبلبلة الخواطر ضجرة بحيث لم تكن عندي الرغبة في تسويد دفتر يومياتي كالمعتاد ورأيتني أترامى في حجرة الزورق الذي كان يقلّنا. أمّا زوجي مارسل فلقد كان يعمل بجد وبكثير من الصبر شراعا لزورقنا ...

    ولكن المؤسف بعد كل تلك الجهود أن الريح بدأت تسكن وتهدأ رويدا رويدا كما أن طعامنا أوشك أن ينفد!
    2 ـ سبتمبر
    مضى يومان كاملان وما زلنا نمخر عباب نهر كارون في صعود وهبوط ، كالأشخاص المصابين بالمالنخوليا. ففي أثناء المد انحرفنا عن الطريق الذي

    كنّا نسير فيه ـ في حالة الجزر ـ وهددنا الخطر واستولى علينا الخوف أكثر من قبل. ولكن الله كان في عوننا ، ولم يذهب دعاء الدرويش الشيخ (1) لنا عبثا إذ سرعان ما لاحت لنا عن كثب سفينة شراعية تحمل حنطة ، فبادرنا بالتلويح لها والإشارة إلى ما نحن فيه من مأزق. فدنت منّا ورمت إلينا بحبل محاولة إنقاذنا ولكن الطالع السيّئ أبى إلّا أن يحبط هذه المحاولة ويسقط الحبل دوننا وأن تحمل الريح السفينة الشراعية بعيدا عنّا بسرعة عقلت ألسنتنا وبعثت في نفوسنا اليأس والخوف.
    بيد أن مارسل أمر أن تحرّك ماكنة الزورق المطفأة وأن يغطى مخزن البخار بغطاء ثخين فورا. وعلى أثر هذا تزايدت قوة النار ودفعت الزورق بسرعة إلى أمام في أثر السفينة الشراعية. ومن حسن الحظ تباطأت السفينة بسيرها بسبب الرياح المعاكسة التي هبّت في تلك اللحظة ولانعطاف مجرى النهر فاستطعنا أن نلحق بها وأن نربط زورقنا ربطا محكما بمؤخرتها. وأخيرا وقبيل بزوغ الشمس وصلنا إلى المحمرة (2). وهنا قيل لنا إنه ينبغي لنا ترك زورقنا في هذا الساحل لأنه من الصعوبة بمكان أن يقدر على قطع الشط ويصل بسلام إلى الفيلية. أخذنا بهذا الرأي من غير تردد لما كنا قد لقيناه من المتاعب في عبور نهر كارون ومخافة أن تعاد المأساة مرّة أخرى. فتركنا زورقنا وذهبنا لزيارة البصرة وبغداد أوّلا على أن نعود لزيارة خوزستان في وقت آخر.
    الوصول إلى البصرة عمل سهل فالقوارب تستطيع أن تقطع المسافة إليها من المحمّرة في ثماني ساعات والطريق غير محفوف بمخاطر ولا بمشاق. ولكن الذي يشتد ويشق احتماله على المسافر من هذا الطريق هو وجوب بقائه مع كافة أمتعته في «الكرنتينة» في الساحل العثماني ـ وتقصد المؤلفة بالبداهة ساحل البصرة العراقي ـ زهاء عشرة أيام حال وصوله إليه بحجة منع انتقال وباء الطاعون إلى البلاد!
    __________________
    (1) صادفت الرحالة هذا الدرويش في إيران ودعا لها بالتوفيق في سفرها.
    (2) أمر رضا شاه بإبدال اسم هذه البلدة ب (خرمشهر).


    و «الكرنتينة» هذه ـ وقاك الله شرها ـ! عدّة أكواخ من الحصر أقيمت فوق أرض رطبة يلاقي نزلاؤه الأمرين فيها لا من حيث رطوبتها فحسب ، بل لما يقدم لهم من صنوف الطعام الرديء والماء العكر ... وكثيرا ما يقضي المسافرون نحبهم فيها من جرّاء ذلك إن لم يخترمهم الطاعون نفسه بعدواه!
    ومن الغريب أن تكون هذه الإجراءات القاسية لا مبرّر لها البتة فقد مضت سنوات عديد. ولم تظهر إصابة في الطاعون في إيران.
    ويعتقد أهالي لبصرة أن المحجر هذا لم ينشأ إلّا لإيجاد مصدر يدرّ المال الوفير على الموظفين الترك (1) في هذه المنطقة وأنه لم يكن ـ على أي حال ـ من باب رعاية السلطان العثماني لرعاياه أو رأفته بهم. إذ إنهم بوقاحة وبغير خجل يسطون على جيوب المسافرين فيتركونها صفرا ويتركونهم خالي
    __________________
    (1) تقصد المؤلفة بالترك رجال العهد العثماني البائد في زمن رحلتها.

    الوفاض ، إما بصورة مباشرة أو باتباع طرق شيطانية يتحايلون بها. منها أنهم يشترون الأطعمة الفاسدة الزهيدة ويعرضونها على المسافرين المحجورين بأسعار باهظة فلا يجد هؤلاء المساكين بدّا من شرائها وأكلها لأنه محظور عرض أطعمة سواها. ثم إن الموظفين الصغار يعرضون على المحجورين إطلاق سراحهم مقابل مبالغ معيّنة باسم الرشوة والحلوان «البقشيش» وما إن يخرجون من «الكرنتينة» المخيفة حتى يقبض عليهم ثانية رجال آخرون ولا يطلقون ولا يسرحون إلّا بعد دفع مبالغ جديدة تكون من حصة الموظفين الكبار منهم.

    وإذا رجعنا إلى الترك نراهم يقولون إن إيران موطن الأمراض المعدية لذا كانت إقامة الكرنتينة هنا أمرا ضروريا لا مندوحة منه على علّاته ، حرصا على سلامة الأهلين وللمحافظة على صحتهم!!!

    ولكن الواقع خلاف هذا ، إذ إن إيران لم تكن موطن هذه الأمراض الوبائية بل إن مصدرها

    أهوار ومستنقعات كربلاء والنجف التي يذهب الإيرانيون إليها بقصد زيارة العتبات المقدسة ويعودون إلى موطنهم وهم يحملون عدوى تلك الأمراض إن لم يموتوا هناك! (1)

    على أي حال إن خبر حجرنا في هذه «الكرنتينة» النتنة الرطبة لمدة عشرة أيام ـ كما نقل إلينا في الزورق قد صعقنا وأورثنا شيئا كثيرا من الضيق والهم .. لذلك صمّمنا على أن نفرّ من قبضة السلطات التركية عند نزولنا الساحل مهما كلفنا الأمر ، ورأينا أن يكون ذلك بالزوارق التجارية.
    __________________
    (1) كان وباء الطاعون والكوليرا (أبو زوعه) يفدان من الهند.


    البصرة بندقية الشرق

    3 ـ سبتمبر
    إن كان قد أتعبنا وأرهقنا الاختفاء تحت البضائع المكدّسة في الزورق التجاري ، فلكم سررنا الآن بأننا استطعنا أن نهرب من قبضة المحجر المخيف!
    ها نحن أولا نكاد نبلغ المرفأ وننظر إلى أنفسنا التي أخفيناها بين أكوام أطباق التمر بكثير من الدهشة والإشفاق. ففي يسارنا أقفاص جميلة صنعت من ألياف النخل تستعمل لخزن الأسماك التي تصاد والتي تفيض عن البيع فتوضع هناك لعرضها في السوق في الوقت المناسب!
    وتبدو أمامنا على سواحل الشط التي تبعد قليلا مناظر فاتنة جدّا. فهذه هي النخل السامقة وتلك أرض الحقول الزاهية تخترقها مجاري المياه الرقراقة وفيها قطعان الجاموس التي لا يظهر منها إلّا رؤوسها وهي تمرح وتسرح بمطلق حريتها!
    بعد مضي أربع ساعات من تركنا المحمرة بلغنا الجانب الثاني من الشط وها هو زورقنا يقف أمام غابة صغيرة من أشجار الموز المتكاثفة. وعلى مسافة


    منّا ترسو عدّة سفن بصواريها الطويلة التي تشاهد من مسافات بعيدة.
    وممّا لفت نظرنا في هذا الساحل النائي قلّة الحركة فيه إذ لم يمر بنا إلّا قاربان صغيران للنزهة. ولقد سأل من كان فيهما ملاحينا عن الوجهة التي نقصد إليها وعمّا نحمل. فأجابهم هؤلاء بأنهم متجهون إلى البصرة لبيع ما يحملونه من التمر. وعلى أثر هذا ابتعد القاربان عنا دون أن يحس أحد فيهما بوجودنا. إذ كنا قد بالغنا في إخفاء أنفسنا حتى لم نجرؤ أن نحرّك أيدينا أو سوقنا لشدّة خوفنا من «الكرنتينة» اللعين!!
    وما كاد ينتصف الليل حتى بدأ زورقنا بالحركة ثانية ، وأخيرا وبكثير من الحيطة والحذر دخل نهر العشار (1) وهنا تنفسنا الصعداء مسرورين بخلاصنا من المصيدة!!
    __________________
    (1) يسمى الآن شط العشار ويصل إلى مدينة البصرة وينتهي بالخوره.


    ولكن سرورنا لم يدم طويلا إذ سرعان ما وقعت حادثة أعادت الهلع والخوف إلى نفوسنا. ذلك أن ملاحي زورقنا سمعناهم يقولون من دون سابق إنذار! إنهم أن هرّبونا من شر «الكرنتينة» فإن ضميرهم لا يطاوعهم أن يهرّبونا من إدارة الكمرك أيضا! وكان عبثا وبغير جدوى أن صرخنا محتجين منكرين ما يريدون الإقدام عليه ... وفي هذه الأثناء قفز أحد الملاحين إلى الساحل وهرول إلى إدارة الكمرك وعاد بعد هنيهة ومعه عشرة من موظفيها الغلاظ!
    دخل هؤلاء الزورق وأخذوا يفتحون صناديق بضائعنا الواحد بعد الآخر ويفتشونها بتدقيق وعناية بحجة أنهم يبحثون عن أسلحة حربية مهربة!
    والواقع أني لم أكن أدري مع أي نمط من الناس كنت؟ لكي أضبط أعصابي وأمنع نفسي من أن تخرج عن طورها لتلك التصرفات الشائنة التي قابلونا بها ... فرأيتني أركب رأسي ويأخذ التأثير والانفعال مأخذا كبيرا مني وتتناثر من فمي كلمات قارصة وهو الأمر الذي أثار رئيس هؤلاء القوم فأمر أن يعيدونا ثانية إلى «الكرنتينة» فورا ..
    وما كدت أسمع كلمة «الكرنتينة» حتى ثبت إلى رشدي وضبطت أعصابي فغيّرت أسلوب حديثي وأخذنا ـ زوجي وأنا ـ نساعدهم في حل أربطة ما بقي


    من صناديق أمتعتنا ووضعنا كل ذلك تحت تصرفهم ووقفنا حيالهم مكتوفي الأيدي ، ننتظر بفارغ الصبر أوامرهم المطاعة!!
    ولقد أثمر موقفنا الجديد منهم هذا وما أعطيناهم من حلوان «بقشيش» إذ غيروا هم أيضا معاملتهم لنا وأخذوا يرفعون إلى أعينهم عدسات وأدوات المسح الخاصة بزوجي وهم يردّدون بقولهم : عجبا عجبا ليس بين هذه الأشياء وبين البنادق الأمريكية أي شبه؟! لشد ما نحن أغبياء!!
    وهنا حمل أحدهم قنينة خاصة بغسل أفلام التصوير وطلب أن أهبها له ظنّا منه بأنها غالية الثمن ولكي نتخلّص من شر هؤلاء القوم الغلاظ بسرعة أبديت كرما على خلاف عادتي ووهبتها له على الفور بلطف وود!! ورفع شخص آخر منهم إلى عينيه نوعا من صابون غسل الأيدي ثم قرّبه من أنفه يتشمّمه بدهش وجنون وأخيرا ذاقه بلسانه وقال : اني لم أر حتى الآن مثل هذه الحلويات اللذيذة فما ألذّها. وثالث ـ وكان يبدو أنه أذكى الآخرين ـ أخذ


    يجرّب في لبس زوج من أحذيتي النسائية ولمّا لم يوفق لصغرها تركها جانبا وأخذ يفتش عن شيء مناسب آخر ... والرابع رأيته يتقدّم مني ويسألني أن أهديه ما كان معنا من أقلام التلوين ودهان التصوير!
    وعلى أي حال وكيفما كان فقد أرضينا موظفي الكمرك الأتراك وأجبنا طلباتهم كلها وتابعنا سيرنا مبتعدين عنهم حتى كان أن دخلنا نهر البصرة غير مصدقين ولا مكذبين!!
    ها نحن أولا نخترق شط العرب فرحين مسرورين دون أن يعكّر صفونا شيء .. فليس ثمة «كرنتينة». ولا موظف من موظفي الكمرك المخيفين! ننظر إلى ضوء القمر الفضي بروعة وافتنان كأننا في البندقية .. ولكن لا. ليست هذه بندقية ايطاليا بل هي بندقية الأقاليم الاستوائية. فالسماء صافية رائقة لا تجد فيها قطعة صغيرة من الغيوم والبيوت مختفية تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة وأشجار الليمون المثقلة بأثمارها ذات اللون الأحمر الجميل وأشجار الموز


    بأوراقها العريضة التي تزيد هذا المشهد روعة وإبداعا.
    والدور الواقعة على الضفاف يخيّل للمرء تارة أنها تسبح في مياه النهر وتارة أخرى كأنها منتصبة على جانب سد ضيّق بإباء وإغراء!
    وأمام صف هذه الدور المترامية تجد الزوارق الجميلة وقد ربطت بالساحل بشكل رائق أخاذ. والخلاصة أنه لا يوجد شيء هنا إلّا وهو جميل فاتن من بساط أخضر زاه ومن أشجار الفاكهة ومجاري المياه الهادئة وسماء شفافة مرصعة بالنجوم المتلألئة!
    وأخيرا توقف زورقنا وهبطنا منه إلى ضفة النهر ، وكانت عليها كميات كبيرة من الحنطة وخلال مرورنا بها شاهدنا حارسين مدججين بالسلاح يحملان بأيديهما فانوسين خافتين وبعد لأي أوصلنا الدليل الذي استأجرناه ، إلى دار القنصلية (1) وكان أن طرقنا الباب ودخلنا إلى حجرة صغيرة أحكمنا رتاجها خلفنا ، لكي نستطيع أن نغيّر ملابسنا التي كانت مبتلّة بفعل رطوبة الجوّ لدرجة يظن معها بأننا قد خضنا بها مياه النهر!!
    4 ـ سبتمبر 1881
    الواقع أن البصرة مدينة غريبة ، إنها تريك مشاهد مختلفة في اليوم الواحد ، ففي حالة المد عند ما ترتفع المياه وتغطي الساحل يخيّل إلى المرء أنه
    __________________
    (1) القنصلية الفرنسية.


    في الجنة الموعودة! وعند ما تهبط المياه وترجع إلى حالتها الأولى فيتصوّر أنه قد ترك الجنة ووقع في غدران نتنة!!
    عصر هذا اليوم خرجت للنزهة .. وإذا أنا بمنظر الليلة الماضية الجميل قد تغيّر تماما. كان النهر قد صار منطقة أو حال عفنة تزكم ريحها الأنوف ، والقوارب والزوارق تبدو من بعيد وكأنها قطع من الأخشاب المتناثرة وقد غاصت في الوحل والطين. أمّا الهواء فقد كان عفنا فاسدا يمنع الإنسان من أن يتمتّع بمناظر النخل وأشجار الليمون الأخاذة!
    وفساد الهواء هذا الذي يتسبّب عن تتابع حالتي المد والجزر وارتفاع درجة الحرارة وزيادة نسبة الرطوبة كل ذلك يعمل على انتشار أمراض خطيرة في هذه المدينة يذهب ضحاياها عدد عظيم من أهلها. وهناك سبب آخر لانتشار هذه الأوبئة وهو عدم اهتمام السلطات التركية بصحة السكان والعناية بهم ... فالسدود التي أنشئت منذ ستين سنة أمام هذه المدينة قد تهدمت اليوم الواحد


    بعد الآخر ولم يجشم أحد نفسه ترميم هذه السدود المهدمة التي اخترقتها المياه وغمرت أراضي واسعة كوّنت منها أهوارا ومستنقعات تتولّد عنها الأمراض الخطيرة. وإذا سألت أحد الموظفين الترك عن علّة سكوتهم عن هذا الأمر أجابك بقوله : ليس هذا بمهم والله كريم!!!
    لا يستطيع علماء الآثار أن يفيدوا أي شيء في هذه المدينة ، لأنها حديثة البناء ولكن على العكس فالرسامون يجدون بغيتهم فيها لاقتباس «موديلات» جميلة للملابس؟!
    في هذه المدينة الموبوءة طبقات مختلفة متفاوتة كما فيها أنماط شتى من الأهلين كل له خصائصه المميّزة من حيث طرز اللباس والمعتقدات!!
    فالنساء التركيات يلففن أنفسهن ـ بدل العباءة ـ بقطعة رقيقة من القماش تسمى «ايزار» (1) وهي منسوجة من الحرير الأزرق أو الوردي أو الأبيض المصفر موشاة بأسلاك رقيقة من الفضة أو الذهب. ويلبسن تحت «الإيزار» عادة ثوبا قصيرا قد وشي بالفضة والذهب أيضا. وفوق هذه الأثواب القصيرة يرتدين في الغالب سترة دائرية الشكل (!) ويحتز من بحزام عريض صنع من الفضة محلّى بالجواهر النفيسة. وفي مقدمته قطعة كبيرة من الفضة. أمّا في أرجلهن فتجد (جزمات) صغيرة مثل التي تلبسها المرأة في مدينة بوشهر الواقعة في إيران!
    __________________
    (1) تصحيف «إزار» العربية. المترجم

    أما النساء الأرمنيات فإنهنّ يلبسن أثوابا فضفاضة يسحبنها على أتربة الشوارع وأقذارها إذا ما سرن بها خارج منازلهن! والمرأة الأرمنية لا تخرج سافرة ، كالمسلمة بيد أنها في أغلب الأحيان تضع على وجهها قطعة رقيقة من القماش الأسود أو تلفّ رأسها بمنديل حريري وتكتفي بهذا فقط. وهي في الوقت نفسه تحلي يديها بالأسورة الذهبية وصدرها بالحلي النفيسة وشعرها بجواهر ثمينة متلألئة .. أما حذاؤها فيبعث شكله على القرف والاشمئزاز لقبحه وأبشع ما فيه أزراره الزجاجية أو المعدنية!! وأكثر نساء البصرة الحسناوات يرتدين مثل هذه الأحذية الدميمة التي تستورد من المملكة المتحدة!!
    وإذا كانت النساء الأوروبيات هنا قد تطبّعن ببعض طباع نساء المدينة البلديات فالرجال منهم ـ أعني الأوروبيين ـ فما زالوا يحتفظون بملابسهم الخاصة المتكونة من بنطلون خاكي يميل إلى الصفرة وسترة لا يستطيع المرء أن يعين لها شكلا ولونا واحدا. وقد علمت أن هذا اللباس غير الجميل يقلّل من قيمة ومقام هؤلاء بين السكان الأصليين الذين يرتدون الكوفية والعقال والعباءة دائما تلك الملابس التي يعتزّون بها ويعتبرونها من مظاهرهم القومية الكريمة.


    الصابئة ، الذين يقبرون الأحياء!!
    7 ـ سبتمبر
    عادت الحمى إلينا مرّة أخرى ـ منذ يومين ـ ولقد استعنا بكافة أطباء هذه المدينة من محليين وأوروبيين لكي نقضي على دابر هذا المرض الخبيث قبل أن يستفحل خطره ويتمكّن منّا!
    والواقع أنه لو لا جهود ومساعي رسل الإنسانية أولئك ولا سيما طبيب القنصلية الخاص ما استطعنا أن ننجو من قبضة هذه الحمى الخطيرة (1). ولقد بذل طبيب القنصلية جهودا جبّارة سنذكرها له دائما بلسان يلهج بالشكر لإخلاصه ومودّته. فلقد كان يزورنا كل يوم مرتين ويعالجنا بتدقيق وعناية فائقة ولعلمه بأضرار الكنين الكثيرة ـ وهو الدواء الوحيد لمعالجة الحمى هذه ـ فقد كان يستعين في أغلب الأحايين بمعالجتنا نفسيّا وبتقوية أرواحنا المعنوية لتحمّل آلام ومشاق هذا المرض. إن إصابتنا بهذا المرض كان محتملا. إن بقاء مدّة خمسة عشر يوما في الفيلية تلك المنطقة القذرة بغير عمل ولا رغبة منا والتقلّب على أمواج شط كارون وتغير المناخ فجأة وقرب فصل المطر وعدم الوصول إلى بساتين هسپريد (2) كان كافيا في أن يبعث اليأس في نفوس من هم أكثر منّا صبرا
    __________________
    (1) هي حمى الملاريا.
    (2) Hespriedds إشارة إلى بنات «انلاس» الثلاث اللاتي كان لهن بستان خرافي أثماره تفاح من الذهب وفيه ثعابين كل منها له مائة رأس. وهذه الثعابين تقوم بحراسة هذه الأثمار الثمينة لذلك لم يجرأ أحد على التقرّب من هذه المحاصيل الذهبية حتى إذا جاء البطل هركول أبدى شجاعة خارقة واستطاع أن يدخل هذا البستان ويقتل الثعابين ويتصرّف

    واحتمالا للشدائد وأن يدعو إلى إصابتهم بأخطر من هذا المرض.
    أعود إلى ذكر الطبيب العطوف فأقول إنه كان من أجل أن يخلصنا من أفكارنا السوداء اليائسة يلهينا بسرد القصص الطريفة والأخبار عن مدينة البصرة وأهليها.
    كان يقول : إن البصرة قد شيدت فوق أرض رسوبية جديدة وإنها لم تكن من المدن القديمة جدّا إذ لم تنشأ إلّا بعد وفاة النبي العربي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بأمر من الخليفة الثاني عمر (رضي‌الله‌عنه) فقد اتخذ منها مركزا تجاريّا وعسكريّا مهمّا في العراق وإن تاريخ هذه المدينة الحديث مليء بأخبار الحروب المستعرة بين الترك والفرس للاستيلاء عليها أو التصرّف بها. ولقد كانت هذه الحروب سجالا بين الطرفين فكانوا يتناوبون في احتلال البصرة ، وأخيرا ، وفي نهاية القرن الماضي وبعد محاصرة دامت أكثر من أحد عشر شهرا دخلها الفرس ظافرين وبقيت تحت النفوذ الفارسي حتى زمن السلطان كريم خان الزند .. أما بعد هذا العهد فلم يستطيع خلفاء هذا السلطان أن يحافظوا عليها ضمن ممتلكات فارس لأنهم كانوا ضعافا وإن أخطارا كثيرة أخذت تهدّد البلاد في الصميم فدفعهم ذلك إلى أن يصرفوا النظر عن الممتلكات البعيدة ويدعوها للدول المجاورة! وهكذا انتقلت البصرة إلى نفوذ الحكم العثماني .. وأخذت تمر بها أخطار وأحداث تركت فيها أسوأ الآثار .. فنفوسها مثلا أخذت بالتناقص وهي اليوم نصف ما كانت عليه في السابق وتقدّر بأقل من أحد عشر ألف نسمة.
    ولكن البصرة على رغم ذلك كله ما زالت تحتفظ بمركزها التجاري الممتاز القديم ولها اليوم روابط وعلاقات سوقية مع الهند.
    وأردف الطبيب ذلك بقوله : وإن كميات الحنطة الكبيرة التي حدثتماني برؤيتها عند وصولكم البصرة ما هي ـ في الواقع ـ إلّا بعض الكميات التي يرسل بها التجار إلى الهند (1).
    __________________
    بالتفاح الذهبي وهذا العمل كان الحادي عشر من خوارق هركول المعروفة!! «م»
    (1) كانت البواخر حينذاك تنقل يوميّا آلاف الأكياس من حبوب العراق إلى الهند ـ والخليج ، أمّا الآن وبالرغم من تقدّم الزراعة واختراع الآلات فإننا نستورد الحنطة من الخارج؟؟!!

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:45 pm

    والتمر من محاصيل هذه المدينة المهمّة الأخرى يصدّر منها سنويّا ألوف الأطنان إلى الخارج أيضا ، وهذه الثمرة الغريبة تحوي شيئا كثيرا من المادة السكرية كما تحوي مقادير من الكحول التي لها شهرة عالمية لذا تكون لها أسواق رائجة خارج البلاد فتصدّر في سلال وأقفاص تصنع من الجريد وسعف النخل اللين تحملها السفن الشراعية والبخارية!!
    والنخل ـ زيادة على أثمارها تلك ـ لها فوائد جمّة أخرى إذ يستفاد من جذوعها في إقامة الأبنية ومن أوراقها في صناعة الحصران والحبال المحكمة والزنابيل.
    والخلاصة أنّ الطبيب بدل أن يذكر (360) فائدة للنخل كأي حمال شيخ ايراني ثرثار .. فقد اختصر القول بأنها النخل .. والنخل وحدها هي التي يدين لها الشرقيون في حياتهم .. ولا سيما المسلمين الذين يعدون وجودها مفخرة في بلادهم .. ولا غرو في ذلك إذ إن ثمرها يكوّن العنصر الأهم في طعامهم وشرابهم!
    يقول المؤرّخ المعروف القزويني (1) : «إن للنخل فوائد جمّة وإنها رمز الخير والبركة ولا تنمو إلّا في الأقطار الإسلامية».
    ويؤثر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قوله : «أن أكرموا عماتكم النخل فإنها خلقت من فضلة طينة آدم (2)».
    وممّا ذكره الطبيب لنا أيضا قوله : إن البصرة تكاد تكون مجمع المذاهب
    __________________
    (1) المعروف أن القزويني صاحب عجائب المخلوقات كان قاضيا وجغرافيّا لا مؤرخا.
    «المترجم»
    (2) هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة وقد ذكره السيوطي في كتابه اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة. «المترجم»

    المختلفة التي يقارب عددها عدد ما فيها من أنواع النخل! إنك تجد النساطرة فيها والسنة والشيعة والبابية والوهابية والمسيحية الرومية والمسيحية الكلدية والصابئة واليزيدية واليهود والأرمن وغيرهم كل بجنب الآخر وقلّما يحدث نزاع بين أنصار هذه الطوائف التي تمارس كل منها شعائرها المذهبية الخاصة بمطلق الحرية والاطمئنان. ومن الجدير بالذكر أن طائفة الصابئة لها تقاليد وعادات مذهبية عجيبة جدّا. فليس لديهم مثلا معبد أو محراب للعبادة كما هو الحال في المذاهب الأخرى وأصحاب هذا المذهب يقربون من الدين المسيحي باعتقادهم يوحنا كما أنهم يعتقدون أن عيسى خلفه!!
    أمّا أهم طقوس هذه الفئة فهو التعميد الذي يتم بالماء للتطهر من الذنوب والخطايا. وعملية التعميد هذه تتكرر في حياتهم وهي من الواجبات المذهبية المرعية ، وذلك كلما أحس امرؤ بآثامه .. وإن لم يقم الواحد منهم بغسل التعميد في الوقت المناسب فمن الواجب الختم عليه ـ مع بقية أفراد طائفته ـ أن يغتسل قبيل يوم العيد الكبير! ويسبق عملية الغسل هذه الاعتراف عند قساوستهم. كاعتراف المسيحيين تماما!
    والصابئة لا يستطيعون أن يتزوجوا بأكثر من امرأة واحدة في حياتهم كما أنهم لا يأخذون بالختان!
    وفي كل أسبوع يقوم القس عندهم بقراءة بعض الأدعية والأوراد على الخبز لكي يجعله مباركا وبعد أن يضع عليه السمسم ويأكل قليلا منه يوزّع البقية بين الذين اغتسلوا غسل التعميد للتبرك!
    إن حب المحافظة على الطهر وتجنّب الأقذار عند هذه الطائفة تكاد يبلغ مبلغ الهوس والوسواس. ومن الطريف أن قسوسهم لهم حق الزواج ولكن لا يسمح لنسائهم أن يعملن في الدور حتى بمجرد أن يمددن أيديهن إلى أثاثها أو أي شيء آخر. إذ ينبغي على القسوس أنفسهم أن يقوموا بالأعمال المنزلية كلها من طبخ وغسل وتدبير. وأغرب من ذلك أنه يحظر لديهم أكل لحم البقر والجاموس والضأن والجمل. ذلك لأنهم يعدون هذه الحيوانات بسبب خلقتها العجيبة نجسة غير طاهرة بيد أنه يسمح أكل لحم الخروف وحمله الصغير فقط

    شريطة أن يتم ذبح هذين الحيوانين على أيدي القساوسة أنفسهم كما أنه يجب عند طبخ لحومها أن تراعى أصول النظافة بتدقيق وعناية فائقة وأن توضع في صحاف نظيفة جدّا. ومن عمليات التعميد والغسل الضرورية التي لا بد منها اثنتان الأولى بعد الولادة والثانية بعد الزواج. أما بعد الوفاة فلا يكون ثمة غسل قط لأن الصابئة يعدون جثة الميت أنجس الأشياء قاطبة ولذلك يتقززون ولا يتقربون منها ويعاملون المحتضر على فراش الموت معاملة وحشية لا تكاد تصدّق.
    فعندما يشرف أحدهم على الموت في سكراته الأخيرة يأتي أصحابه إليه ويحملونه إلى حفرة يحتفرونها ويضعونه فيها والأنفاس تتردد في صدره ، وهم من حوله يجلسون القرفصاء ويبكون وينشجون في انتظار أن يجود بأنفاسه الأخيرة ، وعندما يحين ذلك يهيلون عليه التراب بسرعة ، ويعودون إلى منازلهم في مظاهرة طريفة!!
    وإذا سألت أحدهم لماذا تقومون بهذه الأدوار المضحكة والأعمال الوحشية ، أجابك .. إنه من أجل ألّا تمس أيديهم جثة الميت النجسة ولكيلا يقربوها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا!!
    وتعتقد هذه الفئة أن روح الميت تترك جسده بعد أربعين يوما من وفاته وأنها تصعد إلى الملكوت الأعلى وتمثل بحضرة ذات الجلالة بخشوع!
    وطول هذه المدة ـ الأربعين يوما ـ يجتمع أقرباء وأصدقاء الميت في داره يأكلون صباح مساء من غذاء خاص يصنعه القس لهم يتكوّن من لحم الخروف وسمك وفاكهة وبعد أكل هذا الغذاء يطلب أقرب أقرباء الميت من الحضور أن يدعو الله لميتهم بالعفو والمغفرة!
    ومن البديهي أن هذه الإجراءات التي تتم طول الأربعين يوما تكلّف أهل الميت الشيء الكثير من المال ، لذلك يجب على كل من يحضر هذه (الاحتفالات) أن يقدّم هدايا مناسبة إلى أهل الميت لسد تلك النفقات!!
    وإذا أغضينا عن هذا العمل الوحشي الذي تقدم عليه الصابئة للمحتضر فإننا نراهم يتميّزون بشيء كثير من سمو الخلق وكرم الطباع حتى ليضرب

    بأمانتهم وصدقهم المثل في تلك البلاد. ويكاد عمل وحرفة هذه الطائفة ينحصران في صياغة الحلي الفضة وفي مصنوعات فلزية من الفضة مزينة بالمينا والرسوم الأخاذة. والحق أن لهم براعة حقا يدعو للعجب في تلك المصنوعات (المينه)!!
    والصابئة ـ بعد كل ذلك ـ يتميّزون بتعصبهم لمذهبهم ومحافظتهم على شعائرهم بحيث لم يستطع قسوس الموصل ورهبان البروستانت بمواعظهم الطويلة وجهودهم الجبارة التي بذلوها طوال سنوات عديدة أن يتركوا أي أثر محسوس في عقائدهم وعاداتهم المتغلغلة في نفوسهم تغلغلا عجيبا!!
    سألت الدكتور عن محل إقامة هذه الطائفة وهل في استطاعتي زيارتهم والاطلاع على حياتهم الخاصة من قرب؟
    فأجابني مستنكرا بقوله : أتريدين أن تذهبي لزيارة هؤلاء القوم ولم تبرحي الفراش بعد .. وكيف تستطيعين والمياه تغطي السبل المؤدية إلى مدينتهم في هذا الفصل الذي تفيض فيه المياه ، ولو كان لك جناح لقدرت على الطيران ولم تلقي كبير عناء في الوصول إلى منازل الصابئة ، ولكن الآن عليك أن تقطعي الأهوار والمستنقعات ثمانية أيام كاملة لكي تبلغي قصدك وليس هذا في مكنتك وأنت على ما فيه من خور وضعف وما زالت الحمى تهدّدك بالعودة ، إذ إن حمى هذه المدينة لا يستطيع المصاب بها أن ينجو من براثنها مرّة واحدة وبسهولة ، وقد يخيل إليه أنه قضى عليها ولكنه سرعان ما يرى نفسه طريح الفراش يتجرّع أوصاب ألمها وسخونتها.
    وهنا رأيتني أقول فجأة وبغير وعي منّي : أيتها الصابئة ليحفظكم الله إنما أزهد في لقائكم مخافة أن تضعوني حيّة في اللحد كما تعملون بمحتضريكم وإلى اللقاء!!
    8 ـ ديسمبر
    ما إن تركنا الفراش واستطعنا أن نسير على أقدامنا حتى أخذنا نفكر جدّيا في السفر من البصرة بأسرع ما في الإمكان لننجو بجلودنا من جو هذه المدينة

    الرطب الخانق!
    ولقد سألنا عن طرق المواصلات التي تربط البصرة ببغداد فقيل لنا إن ثمة شركتين تقومان بتسيير السفن البخارية بينهما الأولى شركة «لنج لندن» التي تسير سفينة كل أسبوع وهي قذرة جدّا لأنه يترك للمسافرين فيها حرية القيام بعمليات الطبخ والغسل في ممراتها وعنابرها. والشركة الثانية يديرها جماعة من الأتراك وتسيّر شهريّا سفينتين بين بغداد والبصرة.
    ولقد شاء الحظ والقدر أن تتأخر إحدى سفن هذه الشركة في البصرة بسبب عطب أصابها منذ أسبوع. واغتنمنا هذه الفرصة فأسرعنا في حجز مكان لنا فيها ولكننا ندمنا كثيرا على ذلك ولقينا في سفرتنا هذه الأمرين بحيث لا تكاد تقل عن سائر أيام سفرتنا من الساحل الفارسي إلى هنا! من حيث المتاعب والمشاق.
    تسير الأمور في هذه السفينة حسب مشيئة الشيطان أو الترك إنهم على الدوام يتقاضون مبالغ مختلفة من المسافرين بحجج وأسباب واهية ولم يكتفوا بذلك فحسب بل إنهم أخذوا يستعينون بأي طريقة لا بتزاز المال وإن كان في ذلك ما يسيء إلى الركاب ويضايقهم. فإنهم مثلا ملأوا ممرات السفينة بأقفاص الدجاج التي اشتروها من البصرة لبيعها في بغداد بربح زهيد لا يسوى شروى نقير! كما أن الموظفين الترك المغرورين ملؤوا مخازن السفينة بأمتعتهم وحوائجهم كلها لدرجة أنهم لم يدعوا لمن سواهم مكانا يضعون فيه حقائبهم!!
    ولكن الذي يعزينا ويسرنا في هذه السفرة الموحشة وجود رفيق طريق معنا يدعى الكابتن ديمينيس من أهل (كرسي). ولقد كان هذا لمدة قريبة ربان هذه السفينة بالذات التي تدعى باسم الموصل ، وبقي يشغل هذا المنصب مدة طويلة حتى كان أن فضل عليه عملا آخر في بغداد منذ ما يقرب من عام.
    ولقد قص علينا هذا الرجل الشجاع قصته الطريفة مع الترك الشياطين كما يأتي :
    منذ سنة تقريبا فكّر أولياء الأمور العثمانيون أن يعاملوا المقاولين والمتعهدين مثل معاملتهم لموظفيهم الصغار القاسية وأن يقطعوا عنهم رواتبهم أو ما يستحقونه مما في ذمة الدولة العلية.

    ولم يكف ذلك أحد هؤلاء المقاولين ـ وهو يمون هذه السفينة بالفحم وله بذمة الباب العالي مبالغ مستحقة عن ذلك ـ وكان أن قطع الفحم عنا ذات يوم دون إنذار سابق ، وأبى أن يموننا بأي شيء منه إن لم تسلم ديونه السابقة وأن يتقاضى ثمن ما نحتاج إليه من الفحم سلفا كما قال. ولقد اضطرت «الموصل» بحسب هذا العمل أن تؤخر سفرها ويطول مدة وقوفها. ولكن الغريب هو أنني على رغم ذلك تلقيت أمرا بالحركة فورا. ففتّ ذلك في ساعدي واحترت فيما أعمله للخروج من هذا المأزق الحرج ولم أر بدّا من الذهاب إلى رئيس السفينة وتذكيره بأن المخزن ليس فيه من الفحم ما يمكن الحركة به والوصول بسلام إلى بغداد!
    وما كدت أقول هذا للرئيس المحترم حتى رأيته يركب رأسه ويرد علي بحدّة قائلا : إننا لسنا في حاجة إلى خدماتك بعد هذا الكلام الغريب .. إذا كان يتعذّر عليك السفر بغير فحم فأرى من الأجدر أن تترك العمل وتذهب في سبيلك!
    سمّرت فيه نظراتي هنيهة أتفحص هذا المخلوق العجيب ثم قلت له دون اكتراث : ليس في اللغة الفرنسية لفظة «يتعذر» ـ يستحيل ـ ثم وضعت يدي في جيبي وذهبت لحجرة قيادة السفينة.
    تحركت سفينة «الموصل» وتوسطت نهر دجلة وكانت تسير بخيلاء وغرور. وبعد يومين خلا المخزن من الفحم تماما. وتعذّر عليّ عندئذ تحريك ماكنة السفينة .. فكرت لحظة ولكن سرعان ما خطرت لي خاطرة هتفت لها من أعماقي فرحا وسرورا. تذكرت أن سفينتي تحمل كميات كبيرة من السمسم فأشرت على الملاحين أن يحرقوا السمسم بدل الفحم. ونفذ هؤلاء أوامري وبعد دقائق عادت جلجلة الماكنة إلى الأسماع وكان أن تحركت تسير الهوينى كالسابق. وبعد ثمانية أيام دخلت بغداد دخول الظافرين! وكانت قيمة كميات السمسم التي استعملناها بدل الفحم تقدر بأكثر من ثلاثين ألف فرنك .. ولكم كنت فخورا ساعة وصولنا إلى بغداد ، لأنني كنت قد أطعت أوامر الامبراطورية التركية إطاعة تامة ونفذتها بحذافيرها ورفعت اسم فرنسا العظيمة في مياه دجلة!

    ومن الإنصاف القول إن رئيس السفينة هذا لم يكن غبيّا بالدرجة التي تصورتها إذ إنه بعد هذه الحادثة عرف (بثاقب بصره البعيد)!! أن أمثال هذه السفرات تكلف دولته كثيرا وأنه لا سبيل إلى الحصول على الفحم لأن الباب العالي لا يدفع دانقا واحدا ، لذلك هداه تفكيره النير إلى حل وجيه وهو أن يسد نفقات الفحم من أثمان (800) جمل استولت عليها سلطات الأمن من قبيلة كانت خارجة عن القانون منذ وقت قريب!!
    قدم هذا الاقتراح إلى المسؤولين وأخذ هؤلاء به فورا. فدفع صاحبنا الرئيس إلى المقاول بكل هذا العدد الضخم من الجمال ولما رأى هذا أنه يأخذ أكثر مما يستحق ، قدم للرئيس ما بين 200 ـ 300 جملا حلوانا (بقشيشا) له. وهكذا تمّت الصفقة ربح المقاول والرئيس على السواء!!
    وعند ما بلغ الكابتن هذا الحد أردف قائلا : الخلاصة أن القضايا أخذت تجري على النحو المطلوب إلّا أنني وقعت في مأزق حرج إذ كان عليّ أن أزرع السمسم لكي ينضج جمالا!!
    وكان لنا رفيق سفر آخر ـ إلى جانب مسيو ديمينيس ـ إلّا أن مخايل البله والجنون كانت تبدو عليه. ومما حدثنا به رأيه أن السفن التركية تغوص في الطين أكثر من السفن الإنكليزية ، وهو لهذا السبب يفضل ركوب السفن الأولى في سفراته بين البصرة وبغداد لا لشيء إلّا لأنه يتاح له فيها الصيد على سواحل دجلة؟!
    وعند ما وصل الحديث إلى ذكر الصيد وغوص السفينة في الطين تذكرت ما لقيناه في شط كارون من نصب وعذاب ولهذا رأيتني أسأل الكابتن عن المدة التي تستغرقها سفرتنا هذه وعمّا يحتمل أن نلاقيه من مشاق ومتاعب ..
    فكّر بطل السمسم لحظة ثم قال : لا خوف على سفينتنا من الغوص في هذه الأيام التي ترتفع فيها المياه. أمّا المدّة التي تستغرقها سفرتنا فلا أرى أنها تتجاوز أسبوعا!! ولكني في الوقت نفسه لا أستطيع أن أجزم أو أقطع بقولي هذا ..
    إنني أعمل في هذا الطريق منذ سنوات عدّة ولم يتفق أن وصلت إلى بغداد في سفرتين متتاليتين بمدة واحدة ، كما لم تتوقف سفينتي مرتين في محل

    واحد بفعل وجود الطين والوحل. ذلك لأن تيار الماء السريع يتغيّر من يوم لآخر ، ومن أسبوع لآخر ثم هذا التيار يأخذ معه الطين إلى محلات عميقة من النهر وفي أغلب الأحايين يتحتم على الربان أن يستعين «بالشاقول» لمعرفة مدى عمق النهر ولا سيما في فصل الصيف عند ما يهبط الماء فتصعب عندئذ قيادة السفينة. ويتفق في مثل هذه الأحوال أن تغوص السفينة في الطين عدّة أيام إن لم تمتد إلى أسابيع ولا تستطيع أن تخرج إلّا بعد تفريغها من المسافرين ومما تحمل من بضائع بزوارق إلى الساحل حتى أن هذه العملية ربما لا تجد فيها نفعا بعض الأحيان فتضطر السفينة أن تنتظر مرور سفينة أخرى بها لتنتشلها من الأوحال والطين وتكون عندئذ خالية من ركابها ومن بضائعها ..
    وكثيرا ما يتفق أن تنتشل السفينة وتسير عشر كيلومترات وتضطر إلى الوقوف مرة أخرى بسبب الطين أيضا وتعاد العملية من جديد عندئذ وذلك بنقل المسافرين إلى الساحل بعد تفريغها من البضائع تفريغا يشارك فيه المسافرون أنفسهم صغارهم وكبارهم شيبهم وشبانهم نساؤهم ورجالهم!!
    كان رفيقنا الصياد يصغي إلى هذا الحديث باهتمام وعند ما اتمّ الكابتن كلامه قال : إنني لمتأسف جدّا أن أسافر في هذا الفصل وعلى مثل هذه السفينة ولو كنت أعلم بكل هذه التفاصيل لأجلت موعد سفري إلى الصيف الذي تزيد فيه حوادث غوص السفن في الأوحال!!
    ولقد زعقت عليه بقولي : وإني كذلك متأسفة لأنك لم تعلم ذلك قبل الآن ، وتسافر في وقت غير مناسب. ولكني أنا جد مسرورة لسفري الآن لأني لا أرغب ـ على أي حال ـ في أن أقوم بدور حمال وإن كان من مخزن السفينة إلى الساحل!
    بلغت السفينة بعد عدّة ساعات قرية صغيرة تسمّى «القرنة» وهي تقع في مكان يلتقي فيه نهرا دجلة والفرات ويتكوّن من هذا الالتقاء ما يسمّى بشط العرب. تشير المعلومات التاريخية القديمة إلى أن هذه القرية كانت من أجمل بقاع العالم يومئذ حتى إنها كانت تسمى جنة الأرض. ولكنها اليوم ويا للأسف الشديد ، لم يبق من ذلك الفتون أي شيء ، ولا يطالعك فيها إلّا ساحل قذر


    تغطّيه مياه الفيضان بحيث لا يبدو منه في بعض الأيام شيء!
    وبعد أن ينزاح عنها الماء تنقلب إلى منطقة واسعة من الأهوار تكون موطنا للأمراض الوبيئة كما تستخدم محلّا للجواميس فتغطي فيها أجسامها ، بحيث لا يبدو منها شيء سوى الرؤوس.
    تبدو لنا عن كثب عدّة بيوت من الطين وأمامها عدد من الجواميس وهي غاطسة في مجاري قذرة للمياه. ويبدو هناك جذع شجرة قديمة يخيّل لي أن عمرها ثلاثمائة سنة ، ولا شيء غير هذا في تلك المدينة التي كانت تعد جنة الله في أرضه! ولا ريب أن أجدادنا لو رفعوا رؤوسهم ورأوا «القرنة» على ما هي عليه الآن لأنكروا عيونهم وأخذهم العجب العجاب!
    9 ـ ديسمبر 1881
    وصلنا إلى مدينة بابل اليوم ، وهذه لم تكن أكثر من تل تراب بسيط ،


    ولكن «اسدراس» (1) الذي كان ضمن الأسرى الإسرائيليين واستطاع أن ينجي مواطنيه من ذل الأسر ويعود بهم إلى بيت المقدس يرقد هنا على ساحل دجلة في مرقد هادئ غير فخم.
    توقفت سفينتنا قبالة المرقد بعض الوقت لكي تحمل اليهود الذين جاؤوا لزيارته ومن السهولة أن أرسم صورة لمرقد هذا النبي. بنايته متكونة من قبة صنعت من الكاشي وذلك على طراز وأسلوب الأبنية الإيرانية التي كانت معروفة في زمن الشاه عباس الكبير. ويغلب على الظن أنه أنشئ مكان بناية قديمة مندثرة إذ تذكر روايات من التوراة أن اليهود كانوا يأتون لزيارة هذا المكان بالذات في الزمن القديم كما هو اليوم حال الذين يفدون زرافات ووحدانا وفي موسم خاصة لمرقد هذا النبي!
    تعتمد شركات السفر النهرية في بلاد ما بين النهرين على أمثال هؤلاء المسافرين الذين يقصدون زيارة أنبيائهم وأئمتهم المختلفين ، ولو حظر ذلك
    __________________
    (1) Esdras عزرا أحد أنبياء اليهود المعروفين وقد عاش في القرن الخامس قبل الميلاد واستطاع أن يحمل 4775 شخصا على الهجرة من بابل إلى بيت المقدس ليزيدوا من معنويات الشعب هناك. وتنسب إلى هذا النبي أربعة كتب ولكن الكنيسة الكاثوليكية تنسب إليه كتابين فقط.

    في يوم ما فإن هذه الشركات ـ ولا شك ـ ستعلن إفلاسها ولا يسعها أن تعمل البتة!
    على مقربة من الجهة اليمنى توجد أشجار على أرض معشوشبة زاهية وهذه الأشجار هي أشجار غابة يعدها أهالي هذه المنطقة مقدسة لم يمتد إليها معول ولا فأس وإذا سولت لأحدهم نفسه أن يقتطع منها ساقا أو جذعا فإنهم يعتقدون أنه يموت بسبب ذلك إن عاجلا أو آجلا بما لا يقبل الشك أبدا.
    وعلى جوانب هذه الغابة خيم بعض الأعراب لحراستها ومنع الاقتراب منها إن حدث ذلك. ولعل هذه الحراسة تقليدية أو أنها وضعت لحراسة مقبرة تنزل من نفوس السابلة منزلة التقديس لأحد أبناء الإمام الكاظم المدفونين هناك.
    ومن الجدير بالذكر أنه أجيز لهؤلاء الحراس برفع الأغصان اليابسة والمتساقطة على الأرض فقط وإشعالها في الشتاء. أما الأغصان الطرية فمحظور عليهم الاقتراب منها حتى أنهم يفضلون الموت بردا على أن يمدوا أيديهم إليها.
    وإذا سألت عن علّة هذا التقديس فلا يستطيع أحد منهم أن يجيبك. وأعتقد أن هذا التقديس من بقايا طقوس وشعائر كانت عند العيلاميين لأن الروايات القديمة تذكر أن أهالي شوش كانوا يخفون آلهتهم في هذه الغابة!
    10 ـ ديسمبر :
    من المعروف أن المصابين بالأمراض النفسية يعالجون في العادة في ركوبهم بالسفن التي تمخر عباب البحار والأنهر للاطلاع على مناظر الساحل الجميلة. ولكن الأمر يختلف هنا في نهر دجلة إذ لا يستطيع المرء أن يشاهد أي شيء على ضفتيه ذلك لأنه يقع في واد عميق ولا يبدو شيء من مناظرها الممتعة للناظر!
    عبرنا هذا الصباح من نهر صغير كان يقع على جانبنا الأيسر وبعد عدّة دقائق بلغنا مدينة العمارة ووقفنا عندها. أبنية هذه المدينة جديدة وجميلة وتمر

    بها قوافل عديدة تصل إليها من مدينة كرمانشاه وششتر ، تحمل الحنطة وسائر الحبوب الأخرى إلى بغداد.
    في هذه المدينة ـ العمارة ـ أفرغت حمولة سفينتنا من الدجاج والتمر أو أبدلت بغيرها من الدجاج والتمر. ولقد تعجبت كثيرا لهذا الأمر وكل من سألته لم يستطع أن يوضح لي هذا اللغز المعمى من أن يستبدل دجاج بدجاج وتمر بتمر من نفس النوع وبقدر الكمية السابقة!!

    11 ـ ديسمبر :
    ارتفعت شكوى صديقنا الصياد هذا اليوم بعد مرور ثلاثة أيام ولم يتح له الصيد على الضفتين ، وأن هذه السفرة لم تفده شيئا ما ، وأي غلط ارتكبه بقيامه بهذه السفرة وراح يلعن الأولين والآخرين .. وهنا ركب الغضب الكابتن وقال محتدّا : إن كنت تريد الصيد فأنت جدير في هذه الحالة أن تهبط في مدينة

    كوت العمارة لأنه يسعك هناك التصيد بسهولة. ولا سيما أنه بعد ثلاثة أيام ستمر من هذه المدينة سفينة انكليزية اسمها «خليفة» فتستطيع عندئذ أن تقلك إلى بغداد ..
    صاح صديقنا الأبله فرحا بهذه النصائح وشكر الكابتن وتركنا في مدينة كوت العمارة إلى غير لقاء! ولكننا لم نكد نبتعد قليلا عنه حتى غاصت سفينتنا ثلاث مرات في الأوحال والطين. إلّا أننا لم نلق صعوبة كثيرة في إخراجها منها ومتابعة سفرها لأنه بمجرّد أن كنا نهبط منها إلى الضفة كان وزنها يخف وتتابع سيرها كالسابق.
    ولقد أفدنا ـ أنا وزوجي ـ من هذه الفترات القصيرة التي كانت تتوقف فيها سفينتنا في تلك الأحوال إذ كنا نذهب إلى مضارب العشائر التي كانت في الضفتين ونطلع على نمط حياة أفرادها.
    لرجال هذه العشائر سمات خشنة وتبدو عليهم مخايل الوحشية (كذا)! أمّا ألبستهم فبسيطة ساذجة وهي ثوب فضفاض طويل من الصوف بلون البلوط أو بلون أزرق ويغطّون رؤوسهم بمناديل (الكوفية) يمسكها حبل (؟) من صوف الجمال (العقال) وفي أيديهم عصي طويلة يتكئون عليها بغرور وخيلاء!

    ولنساء هذه العشائر ذوات اللون الحنطي الرائق صفات الرجال ويشبهن إلى حد كبير هؤلاء الرجال في كثير من المظاهر. فلباسهن يشبه لباسهم ولا يختلفن عنهم إلا بعدة حلقات علقنها بأنوفهن من الفضة .. أو بالخلاخل التي يزين بها أرجلهن ..

    ويخيل إلي أن هذه العشائر متشعبة عن قبيلة بني لام التي عرفت بتربية الجياد العربية الأصيلة وتصديرها إلى الخارج أو عشيرة ألبو محمد التي تقطن في جنوب العمارة ، والتي عرفت بتربية الجواميس أو شمر التي تضرب مضاربها قرب بغداد ويعدون من أشد أعداء الدولة العثمانية الأشداء .. وهذه القبائل معروفة بالشجاعة والبأس وبأنها تعيش على الغارة والسرقة مما يجاورها وأنها لا تجد غضاضة أو مسبة في ذلك بل على العكس قد تحسبه من المفاخر التي تعتد بها ..
    يدور لغط في غرفة القيادة الآن ، ذلك لأن سائق السفينة لم يستطع في المرة الثانية التي ارتطمت فيها بالأوحال أن يخرجها دون أن يلحق بالسفينة عطبا حال الآن دون متابعة السير! وفي هذه الفترة التي توقفنا بها شهدنا فصلا ممتعا وقع بين القبطانين القديم والجديد : وأخذ الكابتن دمينيس الشجاع في توضيح الأخطاء التي وقع بها غريمه والأخطار التي تهددنا الآن كالغرق ، ما لم نتدبر الأمر ، وقال إنه لو كان هو قائد السفينة لاستطاع ـ على عطبها ـ لا أن يسيرها بسلام في نهر متلاطم الأمواج بل ليقطع بحر باتاكني (1) على خطورته وثورته دون أن يضطرنا إلى الوقوف ، ثم ظل يتكلم حتى كاد سائق السفينة يخرج من طوره ويقع بينهما ما لا يحمد عقباه .. ولكن الله سلم كما أننا لم يطل وقوفنا كثيرا ولم يقع لسفينتنا أو لنا أي مكروه فتابعنا السير عودا لا نلوي على شيء!!
    12 ـ ديسمبر :
    على رغم المشادة التي وقعت بين صديقنا الكابتن دمينيسي وقائد السفينة فقد أبدى الأخير لطفا وتوددا إلينا ونزل على رغبتنا في التوقف عند طيسفون (المدائن سلمان پاك) لمشاهدة خرائبها. ولقد قطعت السفينة مدة أربع ساعات للوصول إلى شبه الجزيرة التي كانت عاصمة كسرى برويز في حين
    __________________
    (1) Patagonie يقع في جنوب شيلي والأرجنتين. «المترجم»


    كان يستطيع أن يقطع طريقه في عشرين دقيقة من خلال البرزخ الذي اعترضنا.
    والواقع أنه كانت فرصة سعيدة أن يتاح لنا مشاهدة طاق كسرى والتمتع برؤية هذا القصر الفارسي العظيم.
    إن هذه البناية المتصدعة مبنية بالآجر وتقدر مساحة القسم الأول منها ب (91) م وارتفاعه (35) م ويتوسطه فناء وسيع مسقف معقود عرضه 35 م وهو أعلى أقسام هذه البناية التاريخية ، وعلى الجانب الأيمن والأيسر من هذا الفناء الوسيع كانت توجد حجر لإقامة الحرس وموظفي البلاط الملكي ، ومن المعلوم أن حجر الحريم لم تكن إلا في القسم الخلفي ، ذلك لأن أكاسرة الساسانيين كانوا يتحاشون أن تكون نساؤهم موضع أنظار الرجال الغرباء. وهذه العادة ما زالت متبعة اليوم في إيران.
    قصر طيسفون الملكي يختلف كثيرا عن قصر پرسبليس من حيث الشكل ولكنهما يتشابهان كثيرا من حيث التقسيم إلى قسمين الأول يختص بدوائر


    البلاط ومحل جلوس الشاه للنظر في شؤون الرعية والثاني لإقامة الشاه الخاصة وما يتبع ذلك من حجر الحريم والخدم والحشم .. هذا ما اعتقدوه ولعلي على صواب!
    جانبا القصر متهدمان تماما ولم يبق منهما شيء وبصعوبة يستطيع المرء أن يتمثل الحيطان والأبهاء الضخمة التي كانت تحيط بهذين الجانبين.
    أما عمارة الحريم والأبنية الفرعية الأخرى فيظهر أنها كانت مبنية بالآجر والطين كما هو الحال في قصر پرسبليس الذي شاهدناه. ولكن لم يبق من هذه العمارة وتوابعها شيء وهي اليوم تبدو للناظر كأنها كثب من الرمل أو التراب! ولقد أجريت فيها حفريات قليلة غير منظمة دون أن تصل إلى نتيجة أو فائدة تذكر. على أنه عثر فيها على شيء من المسكوكات البارثية وقطع من الخزف. والملحوظة المهمة هنا هي أن المسكوكات الساسانية المعثور عليها كانت أقل مما عثر عليه من المسكوكات البارثية ، وهذا يؤيد رأي بعض المؤرخين

    القدماء من أن تأسيس هذه المدينة كان بواسطة (واردان)(Vardane) الذي لم يعرف عنه أي شيء ويظن أنه من سلسلة ملوك الاشكانيين.
    وليس للقسم الأول هذا من القصر منفذ إلى الخارج ما عدا بابين صغيرين في الطبقة التحتانية وبوابة كبيرة في مقدمة البناية تكون بمثابة المدخل الرئيسي. على أن لهذا القسم أربع طبقات تزين كلّا منها أعمدة صغيرة جميلة ، وهذه تتصل بالطبقة العليا بعضها مع بعض بواسطة حنايا متقاربة ..
    ويخيل للمرء أن هذه الأعمدة لم تنشأ إلا للزينة للوهلة الأولى ، إلا أنها في الحقيقة أنشأت لأجل استحكام البناية والثبات إزاء العوارض التي تصيبها كالزلازل وما شابهها.
    وتذكر روايات المؤرخين القدامى أن هذه الأعمدة كانت مغطاة بصفحات من الفضة ، غير أنني لا أعتقد ذلك بل ربما كانت صفحات من معدن آخر مطلية بالفضة فقط لا غير .. مثل القبب المطلية في قم والشاه عبد العظيم في إيران اليوم. ولكن من المسلّم على أي حال أن آجر هذه الأعمدة كانت مغطاة بمعدن من معادن الفضة أو ما سواها ، ذلك لأنها غير متناسقة وغير مصقولة.
    عند ما يدخل الإنسان في هذا البهو العظيم يؤخذ برهبة منه ، ويستولي عليه العجب العجاب لضخامته وعظمته على رغم مرور تلك العصور المتلاحقة من تاريخ إنشائه. وبعض أجزاء الطاق العلوية قد أصابها التصدع فانهدم ويبدو اليوم على شكل خرابة تقذي البصر!
    ويعتقد المسلمون أنه لم يصب الإيوان التصدع إلا في يوم مولد النبي محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وذلك بالاهتزاز الذي تولاه فرحا بهذه المناسبة السعيدة .. على أنه ما زالت أقسام من سليمة لم تمتد إليها يد الهدم ، وما زالت تحتفظ برونقها القديم وشكلها الأول.
    يشاهد في هذه الأقسام السليمة أنابيب كثيرة من الفخار ، ويقول العرب إنها كانت تستعمل في إنارة مصابيح البهو الكبير التي كانت تحيله إلى صباح نير في ديجور الليل المظلم! وفي نهاية هذا البهو كانت بوابة تصل القسم الثاني بالأول من القصر وما زال محلها ظاهرا. ولقد كان الشاه يعبر خلالها

    إلى محل العرش ويجلس على الأريكة للنظر في أمور الرعية وشؤون الامبراطورية!
    ومن الطرائف التي تذكر عن هذا القصر أنه كانت تعلق قبالة الطاق ستارة طويلة عريضة ، وعند ما كانت الشمس تبزغ وتصل إلى سمت تعبر أضواؤها خلال الستارة يكون ذلك موعد قدوم الشهنشاه ، فتتخذ الترتيبات اللازمة ويستعد الجميع لاستقباله ، ويشير الشاعر الفارسي المعروف الفردوسي إلى هذا المعنى أيضا فيما يؤثر عنه في الأخبار والأشعار.
    وتذكر الروايات أن ستائر أخرى كانت تزين حيطان البهو العظيم وهي مزركشة بالذهب الخالص البرّاق وأن الأعمدة كانت مغطاة بصفحات من الفضة المطلية ، وأرض الفناء قد فرشت بالسجاجيد النفيسة وأقمشة حرير علقت هنا وهناك للزينة أيضا .. وفي صدر المكان كان موضع أريكة العرش المرتفعة المصنوعة من العاج الأبيض الرائق وعندما كان الشاهنشاه يتربع عليها بملابسه الملونة الجميلة يتحلّق حوله أفراد الحاشية الملكية وموظفو البلاط فيضاف إلى روعة المنظر وجلاله!
    أمّا في الليل فكانت ثمة ألوف من المصابيح من الفضة والذهب الجميلة معلّقة في سقف البهو وهي تضاهي النجوم بفتنتها وإضاءتها وتحيل المكان إلى نهار مشرق.
    ولكن المؤسف أن تقلب الزمان ومرور تلك الأعوام الطويلة وغارات اللصوص ، كل ذلك لم يبق شيئا من نفائس هذا المكان وروعته وعظمته اليوم ، إلّا أن هيكل القصر العام ما زال قائما محافظا على شكله الأول على رغم حملات الروم والعرب والتتر الذين لم يستطيعوا أن يمسوه بسوء ومحاولاتهم المكررة لهدمه ومحوه من وجه الأرض ، وكل ما استطاعوا أن هدموا بعض أقسامه وحملوا نفائسه ومجوهراته وقسما من آجره التي كانت تزينها المعادن المختلفة.

    13 ـ ديسمبر :
    عند ما أرتقي السلّم المتهدم للمنائر سواء منها القصيرة أو الطويلة لا يلفت نظري شيء. ذلك لأنه يضيق نفس المرء في تلك الأحوال ويصاب بالزكام. وبعد أن يصعد أربعمائة أو خمسمائة درجة (1) يصل إلى قمة السطح وهناك يتعرّض للهواء البارد ، وفي أقصى درجات الخوف والهلع ينقل بصره في المشاهد التي تترامى أمامه وهي لا تعدو مناظر سطوح الدور التي تعلوها المداخن وقطع من أراض معشوشبة خضر وصحارى رمادية قاحلة يستخفى عندها كل شيء .. ولكم تكون هذه المناظر باعثة على الضجر والقرف لمن أتيح له أن يتمتع بمناظر الجبال الشاهقة والبحار الزرق البعيدة ..
    وعلى أي حال وبعد لأي ونصب شديد يهبط المرء ، والشيء الوحيد الذي يسره في تلك الحالة هو أنه استطاع أن يضع رجله على الأرض مرّة ثانية ، ويتخلّص من الكابوس الذي كان جاثما على صدره!!
    تذكرت كل ذلك وأنا أرتقي خرائب قصر طيسفون على يدي ورجلي وألقى في ذلك الأمرّين فترحمت على الأتعاب التي كنت ألقاها في صعود تلك المنائر ..
    أنا الآن في محل يرتفع عشرين مترا عن سطح الأرض وعلقت نفسي برواق مظلم ليس فيه سوى الخفافيش والطيور أي لا يوجد غير سكنة هذا المكان المقفر من تلك الحيوانات ..
    وأخيرا وبتعب شديد استطعت أن أواصل نفسي إلى السطح وأرى هذا القصر التاريخي العظيم من أعلى بعد أن رأيته من أسفل.
    من هذا المكان المرتفع أستطيع أن أرى بادية ممتدة يشقها نهر دجلة من الوسط. وبواسطة المنظار الصغير الذي أحمله معي في الرحلات لا أستطيع أن أرى مكان مدينة طيسفون القديمة التي يضرب فيها أفراد من القبائل العربية
    __________________
    (1) أرادت بالدرجة الآجرة أو الآجرتين. «المترجم»

    خيامهم المسمرة الآن فحسب بل أرى مقبرة سلمان الفارسي .. كما أستطيع أن أرى على الضفة الأخرى من النهر كثبانا وتلالا هي من بقايا آثار مدينة «سلوقية» المشهورة ، ويخيل إليّ الآن في هذه الحالة أن هاتين المدينتين وأقصد طيسفون وسلوقية كانتا كأختين عاشتا معا بغيرة وحسد وقضيا نحبهما معا أيضا ..
    إذا كانت مدينة طيسفون قد أنشئت بأيدي البارثيين أو أنشأها المتأخرون من ملوك الهخامنشيين ولها الحق أن تفتخر بقدمها التاريخي ، فمدينة سلوقية التي وجدت في زمن أولياء الاسكندر استطاعت بمدّة قصيرة أن تنافس غريمتها طيسفون وأن تحتل مكانها بين المدن الفارسية وأن تتقدّم وتترقى يوما بعد آخر على حين ظلّت طيسفون يخيّم عليها الأسى والحزن وتعسكر فيها جيوش «سيت» الغازية.
    وأخيرا استطاعت هذه المدينة اليونانية النشأة أن تبز المدن الأخرى المجاورة من حيث الرقي والتقدّم فتمركزت فيها الثروة وأصبحت مركزا من المراكز التجارية المهمة ، كما أن نفوسها أخذت في التزايد حتى أصبحت عدّتها ستمائة ألف نسمة. وفي زمن پلين (Pline) (1) كانت المدينة تتمتع بحرية واسعة وكانت العادات والتقاليد الغربية هي السائدة فيها ولم يكن شيء من الروح الشرقية المتوحشة يتحكم في أمور الناس. فلقد كان لها مجلس شيوخ يتكوّن من ثلاثين عضوا ينتخبون من حكماء القوم وسراتهم .. وباختصار أقول إن الشعب كان يشارك في إدارة أموره وكيفية حكمه كما كان فيها جيش يفوق أهالي سلوقية من حيث الحكم والإدارة وانشقوا على أنفسهم طوائف وفرقا ، كل منها تناهض الأخرى حتى انتهى بهم الأمر إلى أن يلوذ زعماء الطوائف
    __________________
    (1) وهذا أحد علماء الطبيعة القدامى وقد كتب في التاريخ الطبيعي (37) مجلدا وظلّت معلوماته التي ضمنها في تلك المجلدات مما يعتمد عليه عدّة قرون وعند ثورة بركان جبل فيزوف في ايطاليا سنة 79 تلك الثورة التي محت مدن هركولاندم وبمبئ أراد هذا العالم الجليل أن يجري بعض تجاربه العلمية لمعرفة سبب ثورة البراكين وما يمكن من معالجة ، فذهب مع السفن التي كانت تحت إمرته إلى مدينة قريبة من البركان تسمى «استاب» ولكن بعد ساعات من وصوله خنقته أبخرة البركان المتصاعدة وقضت عليه!

    الضعيفة منهم الى أعدائهم البارثيين الأشداء ليحكموا فيما بينهم من الخلافات والنزاع ، أو لكي يعينوهم على خصومهم السياسيين في الداخل. وكان هذا سببا في تدهور مدينة سلوقية العظيمة رويدا رويدا وانحطاطها وسقوطها ، على أنه في زمن مارك انطونيو (1) أحرق لوسيوس وروس (2) المدينة ـ على خلاف المعاهدة المعقودة ـ وذلك بعد أن أباح جنده النهب والسلب والقتل .. وأدهى من ذلك أن أهالي المدينة ما كادوا يتجرعون صاب تلك المآسي والمحن حتى دهمهم وباء الطاعون فحصدهم حصدا ، وانقلبت سلوقية من تلك الحالة الزاهرة إلى حال لا تحسد عليها البتة من الفقر والعوز والخراب ولم تستطع أن تقف على رجليها منذ ذلك اليوم.
    ولقد تصرّف سورا (3) بها مدة وفي النهاية ضمّها الاسسانيون إلى امبراطوريتهم فعادت مرّة أخرى إحدى الضواحي التابعة لطيسفون ..
    واليوم لم يبق من آثار مدينة سلوقية هذه شيء سوى كثيب من الرمل ، وإن الأراضي الزراعية العامرة التي كانت تحت إمرتها حوّلت إلى مناطق بور أو مستنقعات!!
    وعلى أي حال .. بدأت الشمس تجنح إلى المغيب لذلك اضطررنا إلى أن نصرف النظر عن مشاهدة جزئيات آثار طيسفون وتوابعها وأن نعجل في العودة إلى الضفة لنأخذ مكاننا في السفينة كما اتفقنا مع قائدها.
    ولقد كانت عودتنا من طريق ضيق شقه اللصوص والسراق إلى هذه الخرائب التاريخية وكان مملوءا بالأشواك وأعشاب الأهوار والمستنقعات ولقينا الأمرّين في العبور خلالها إلى ضفة النهر.
    وبمجرّد أن اختفت الشمس وراء الأفق وحرمتنا أشعتها الضعيفة الواهنة
    __________________
    (1) أحد أصدقاء قيصر الروم المحاربين استطاع أن يفتح فتوحات واسعة ولكنه أخيرا حوصر في الاسكندرية واضطر إلى الانتحار (83 قبل الميلاد).
    (2) أحد قياصرة الروم (130 ـ 169).
    (3) امبراطور الروم سنة (208 ـ 235).

    وقلبت المكان إلى ظلام ، هبطت درجة الحرارة فجأة ، وبصورة سريعة حتى أخذنا نشعر بالبرد القارس بعد أن كنا نشكو من القيظ!
    جلست على الشاطئ أتقبض من البرد وأحاول أن أرى أضواء السفينة ولكن كان ذلك دون جدوى! لقد كانت عيني تعشى ولا تستطيع أن تخترق ظلمة الليل الذي هبط علينا بغتة ، كما كانت أذني قد أصابها الصمم من جرّاء التعب الذي لقيناه خلال جولتنا اليوم. لذا كنت أتمنى أن أصل إلى السفينة بأسرع ما يمكن لآخذ نصيبا من الراحة ولكن التعب كان يشدّني إلى الأرض ولا أرى أثرا لسفينتنا .. وهنا رأيت الكابتن دمينيسي يدور حولنا بضيق ينظر تارة حوالينا بخوف وحذر وتارة يشعل نارا يقربها منا ليخفف من وطأة برودة الجو ولينير أمامنا الطريق لمشاهدة السفينة التي لا ندري ما الذي حصل لها. وأخيرا رأيته يقول وهو يتلفت يمنة ويسرة بما يشبه الهمس :
    «أترون هذه النيران المشتعلة في أطرافنا؟ هذه نيران أبناء قبائل هذه المناطق المتوحشة وإذا علموا بمكاننا وبقلّة عددنا فإنه من المؤكد لن يتأخروا عن الإغارة علينا وسلبنا من غير أدنى تردد!!» ثمّ أضاف قائلا : «إنه لم يكد يمضي شهر ـ بعد ـ على سلبهم القنصل البريطاني هنا في هذا المكان بعينه ـ سلبوه بحيث لم يبقوا له إلّا ما كان معه من أوراق وصحف الجرائد. ولقد استطاع ـ من حسن الحظ ـ أن يصنع لنفسه ثوبا رقيقا من صفحات جريدة التايمس ـ بعد أن تركه السراق واللصوص المتوحشون ـ وأن يدخل بغداد بهذا الشكل المضحك المزري!! إلّا أنني لا أعتقد أنهم إذا حملوا علينا ونهبونا أن يكتفوا بذلك ويتركونا لسبيلنا .. لذلك أرى من الحيطة أن نطفئ نيراننا وأن نخفي رمادها في هذه الأوحال كيلا نبقي أثرا يدل علينا .. ينبغي أن نفر سريعا سريعا وأن نصل بأسرع ما يمكن إلى السفينة!! ما دام الأفق بعد لم يظلم ظلاما دامسا فإن على يميننا أرضا صعبة العبور لكثرة ما فيها من أشواك ونباتات برية وعلى يسارنا شاطئ النهر مهدّما أو ان الماء قد غطاه ولا يمكن في هذه الحالة الوصول إلى الضفة ومن ثم إلى السفينة إذا ما هبط الظلام تماما اللهم إلّا عند ما يرتفع القمر إلى كبد السماء فتنير أشعته لنا شعاب الطريق الوعر .. وحتى

    في هذه الحالة يواجهنا خطر آخر وتقابلنا صعاب غير التي ذكرت ، وأعني أنه ينبغي أن نرمي بأنفسنا في النهر ونذهب إلى السفينة سباحة إذ لم نستطع أن نجد ما يحملنا إليها»!
    بعثت كلمات الكابتن في أنفسنا الخوف والرعب فنظرنا إليه مدهوشين مأخوذين ولا سيما أننا لم نملك من السلاح ما ندافع به عن أنفسنا زيادة على التعب والجوع والبرد ، كل ذلك قد أخذ منا مأخذا كبيرا ، لذا كانت كل ثانية تمرّ علينا وكأنها يوم كامل ثقيل ..
    أخذنا نتشاور في أسهل وأسرع طريقة نصل بها إلى السفينة ، لنتخلص مما استولى علينا من الخوف الذي أخذ يتزايد ثانية بعد ثانية .. وفي هذه الأثناء ارتفع صوت أمواج ماء النهر يقطع صمت الليل البهيم وبدّد بغير تردّد ركض الكابتن دمينيسي إلى جهة الضفة ورأى قاربا شراعيا قادما من كوت العمارة وهو يعبر خلال هذا الساحل. وهنا تكلّم الكابتن مع ركابه ورجاهم أن يحملونا إلى السفينة وكان ذلك!
    وبعد مسيرة ساعة كاملة أخذت مصابيح السفينة تتراءى لنا خافتة واستطاع القارب أن يوصلنا إليها فامتطيناها ونحن بين مصدقين ومكذبين! وما كادت السفينة تسير قليلا حتى غاصت في الأوحال وتوقفت عن الحركة ، ولم يستطع عمالها من تخليصها وتسييرها مرّة أخرى إلّا بعد جهد جهيد بذلوه في عدّة ساعات مضنية! لذلك لم أستطع أن أذهب إلى صالون السفينة إلّا في منتصف الليل. وهذا الصالون هو غرفة النوم وغرفة العمل والأكل والاستراحة لجميع المسافرين!! وعليك بعد الآن أن تقدّر الراحة التي يصيبها راكب مثل هذه السفينة اللعين!!
    على أي حال فرشنا سفرة الطعام وازدردنا عدّة لقيمات على مضض ثم تمددنا بقصد الاستراحة نتجاذب أطراف الحديث ولكن لا ذكر عن أفراد القبائل المتوحشين والأثواب التي تصنع من جرائد التايمس. ولقد شكرت الله عدّة مرات لنجاتنا مما كان يتهددنا من تلك الأخطار والمصائب!
    وبعد أن أخذنا نصيبنا من الراحة والتقط الكابتن ديمينيسي أنفاسه رأيناه

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:46 pm

    يتحامل على نفسه وينادي قائد السفينة ويقول له بشيء من الحدّة : «انني كنت يائسا من العشاء هذه الليلة في السفينة .. ماذا اتفق لكم حتى حال دون مجيئكم إلى الساحل؟
    لا شيء.
    كيف لا شيء .. ألم نتفق على أن تعودوا إلينا بعد ثلاث ساعات من نزولنا على الشاطئ؟ فما علّة تأخّركم عن ذلك؟
    أجاب القائد بعدم مبالاة ، وهو يدير رأسه بقوله : «إنني تأخرت؟! أبدا أبدا .. إنني لم أتأخر. عليك أن تثبت تقصيري.

    بغداد أجمل من اسلامبول
    ودجلة أروع من البسفور
    14 ـ ديسمبر 1881 :
    عمّال السفينة يروحون ويغدون بعجلة واضطراب في الصالون ، هذا يمسك بأذيال ذلك وهذا يصرخ بأعلى صوته ينادي آخر ..
    وهنا يجب عليّ أن أقول إن سفينة «الموصل» لها ميزة أخرى غير التي ذكرتها من قبل وهي أن صالونها لم يكن في الواقع إلّا الممرات الجانبية الضيقة وإن هذا الصالون هو محل راحة المسافرين الوحيد فعليك تقدير ما كنا نحن المساكين فيه ..
    ومما يكن من أمر فإننا بلغنا بغداد والسفينة ألقت مرساتها في المحل المعيّن وكان ذلك مع بزوغ الشمس وارتداد جحافل الليل البهيم ، ولقد قمت من النوم استعدادا للهبوط وما كدت أتجاوز الصالون إلى الخارج حتى وجدت على مقدمة السفينة وعلى أقفاص الدجاج ندى متكاثفا يخيّل إلى الرائي أنه بقايا برد متساقط .. ولقد قيل لنا إن هذه هي المرّة الأولى التي يتجمد فيها الماء ويكون ذلك بمثابة إعلان لقدوم فصل الشتاء. بيد أنني كنت فرحة جذلة لا لشيء إلّا أنني نجوت من قضاء مثل هذه الليلة في طيسفون.
    الواقع أن مناخ البلدان الشرقية يبعث على العجب والدهش ، حتى الشتاء لا يستطيع أن يلبس الأرض لباس الأسى ، وكل ما يحدث هو أن يتغير منظرها بعض الشيء فقط. ومع أن الهواء بارد فما زالت الأشجار مخضرة ـ كما تبدو وكأن الفصل فصل ربيع لا شتاء!! ها هي أشعة الشمس تملأ السماء رويدا رويدا وتبدو على الساحل الأبنية والقبب المصنوعة من الكاشي بصورة


    واضحة. والطيور زرافات زرافات تحط على القبب كيما تجفف بأشعة الشمس الأولى أجنحتها المبللة!! والنخيل تتساوق مع المنائر السامقة ومدارس وأبنية الكمرك على مقربة منا وأمامها جمع غفير من اليهود والأرمن والعرب بألبستهم الملوّنة ، وعن كثب تبدو بساتين مزدهرة بينها بناية القنصلية الانكليزية تظهر بشكل أخاذ .. كل هذه المناظر الخلابة كانت غارقة بين طبقات من الضباب والأبخرة المتصاعدة من دجلة ، يخيّل للرائي أن الساحل الأيمن من نهر دجلة أجمل وأن سكنته الذين يعيشون تحت ظلال النخل الوارفة والأشجار المخضرة الأخرى هم أسعد وأكثر راحة ممن سواهم وأن حياتهم التي يقضونها في منازلهم تلك هادئة رضية وأنهم بعد ذلك لا اتصال لهم بالدوائر والمحال التجارية والخانات من قريب ولا بعيد!! ولكن الواقع خلاف ذلك ..
    ما إن ملأ الضياء السماء حتى بدا ـ واضحا جليّا عن كثب ـ جسر عائم لم يكن عرضه بمستوى واحد في جميع جهاته كما لم يكن على استقامة

    واحدة .. ويظهر عليه كتل من الناس بألبستهم المختلفة وهم في حالة رواح ومجيء دون أن يلووا على شيء ، وكأنهم يذهبون إلى دوائرهم الرسمية أو إلى متاجرهم. كما هناك ثمة عدد كبير من النساء ـ يظهرن ـ أيضا بعباءاتهن الحمر أو الزرق أو الخضر. يذهبن ويجئن مع الرجال وهم يرتدون الألبسة البيضاء أو الصفراء كتفا إلى كتف!! وزيادة على كل هؤلاء الناس فثمة حيوانات كقوافل من الجمال والحمير والجياد تعبر على هذا الجسر الذي لا سياج ولا دعائم تمسكه!! وخلاصة القول أن ألبسة هؤلاء الرجال والنسوة الزاهية الملونة بألوان مختلفة كانت تشكل منظرا خلابا وكأني بها قد قبست ـ ألوانها تلك ـ من قوس قزح!!
    ليس من الممكن أن نقيس بغداد بإسلامبول ودجلة بالبسفور فلا وجه للمقارنة بين ذلك قط!! إنني لم أر على جسور إسلامبول أو (سر عسكرية) أو (الطوبخانة) مثل هذا المنظر الجميل الذي رأيته اليوم على جسر بغداد! .. لم أر مثل ذلك الجمع الغفير بالملابس الزاهية المختلفة وهم في دأب ونشاط!!
    والواقع لم يكن ذلك الازدحام مقصورا على خيط الجسر الذي يبدو من بعيد بل كان أينما وجهت بصري أراه .. هنا في المحل الذي رست فيه سفينتنا وهناك على الضفاف النائية .. ويبدو على هذه الضفاف قوارب كثيرة ربط كل منها بحبل بالأرض الصلبة .. كما أرى في وسط النهر زوارق أخرى بأشكال وأحجام مختلفة وهي في حركة دائبة!! وثمة سفن شراعية تحمل الحبوب والبضائع الأخرى وتصنع مثل هذه السفن ـ في العادة ـ من جذوع النخل (1) وتطلى بطبقة كثيفة من القار من الداخل والخارج ..
    إن مثل هذه الوسائط للنقل لا يكلف صنعها مبلغا كبيرا من المال كما أن إصلاحها إذا ما أصابها عطب سهل ميسور وهو أن يتم طليها مرّة أخرى بالقار. وأرى من مكاني هنا عدّة أشخاص منهمكين في صنع واسطة كهذه الوسائط
    __________________
    (1) غير معروف ولا مشهور أن تصنع السفن الشراعية من الجذوع بل المعروف أنها مصنوعة من ألواح الخشب. «المترجم»

    النقلية!! كما أرى قسما منها على وشك الانتهاء ، تعالت رؤوسها إلى أعلى وفوق سطحها يذيب العمال القار بواسطة النار ويطلون به جذوع النخل التي صنعت منها السفينة كما نفعل نحن تماما في تبليط شوارع باريس! .. وتستخدم هذه السفن عادة في السفرات الطويلة بين بغداد والبصرة وموضعها تحت الجسر القائم قرب ضفة النهر. أمّا على الجانب الآخر من الجسر فتوجد وسائل للنقل أخرى تسمى «الكلك» وهذه تستخدم في العادة في أعلى النهر لأنها لا تسير إلّا مع مجرى الماء وبمعاونته.
    ويصنع «الكلك» هذا من جمع عدد من القرب بعد نفخ الهواء فيها وربط كل منها بالآخر بحبال. وتوضع فوقها ألواح من الخشب وتغطى هذه بطبقة من الأشواك لكي تحفظ البضائع التي توضع فوقها من البلل!
    ويقف على جوانب «الكلك» هذا عماله وبأيديهم قطع طويلة من الأخشاب يجذفون بها الماء ليسير بيسر وسهولة مع مجرى النهر نحو بغداد. ومن الممكن أن يحدث ما يمزق بعض هذه القرب في الطريق ولكن مهارة القائمين عليه وشدّة مراسهم يحول دون توقف «الكلك» عن السير أو الغرق!
    وما إن يصل هؤلاء (بكلكهم) إلى بغداد ، حتى يبيعوا تلك الأخشاب والأشواك ولا يبقون شيئا سوى القرب فإنهم يفرغونها من الهواء ويحملونها معهم على دواب يستأجرونها إلى بلدهم ليعيدوا الكرة منها إلى بغداد!
    أسعار الكلك تتناسب عادة مع عدد القرب التي تستخدم فيه ، يتفق بعض الأحيان أن تستخدم أكثر من ثمانين قربة وفي هذه الحالة يحمل الكلك المسافرين فضلا عن البضائع ولكن بعد أن يرفع عليه قطعة ثخينة من المشمع ليقيهم من عوارض الجو ومن القيظ والقر!!
    أما في الحالات التي لا يحمل فيها الكلك شيئا سوى البضائع التجارية كالخراف والدجاج والطيور والفواكه وقوالب الجبن الكبيرة والبرغل التي يطبخ منها أكلة لذيذة ، فلا يستخدم فيه إلّا خمسون قربة كما أنه لا يحتاج إلى قطعة المشمّع!!


    وتأتي هذه الأكلاك عادة من النواحي البعيدة جدّا التي يكثر فيها الخشب والغابات لأن ذلك من المواد الأولية في صنعها والتي لا توجد منها في بغداد. هذا ما يستخدم في السفرات البعيدة بين الأصقاع الواقعة في الشمال. أمّا ما يستخدم بين العاصمة وضواحيهما والقرى القريبة فبوسيلة أخرى تسمى «القفة» وهذه تكون على شكل دائري مقعر وتصنع عادة من سعف وجذع النخل وذلك بعد أن تطلى بطبقة كثيفة من القار. والقفة يديرها شخصان ويسيرانها بواسطة مجاذيف طويلة يحركانها تارة هنا وأخرى هناك! لذلك هي أقل الوسائط الأخرى سرعة ولكنها آمنها وأكثرها اطمئنانا من التعرّض لأخطار الغرق ، وإن شحنت ببضائع ثقيلة ولم يفصل حافتها عن مستوى الماء إلّا خمسة عشر سنتيمترا فقط .. مع ذلك لا تخترقها قطرة واحدة من مياه النهر! والقفة هذه تكاد تختص بحمل أنواع الفواكه المختلفة مثل الرقي والبطيخ في فصل الصيف إلى بغداد.

    ولا أدري أين أضع الزوارق التي ذكرها «هردوت» (1) في كتابه التاريخي بين وسائل النقل هذه التي ذكرتها فيما سلف؟
    خلال أيام سفرتي من البصرة إلى هنا استطعت أن أجد وقتا أقضيه بالمطالعة وأن ألمّ بطرز الملاحة على أيام البابليين في هذا النهر. ولكم تعجبت من الخطأ الذي وقع فيه بعض الكتاب من عدهم القفص الذي شرحه «هردوت» زورقا اعتياديا لا يختلف عن الزوارق الأخرى.
    وإنني أستطيع أن أثبت ادعائي هذا من غير أن احتاج لكثير استدلال أو إزجاء وقت طويل! لأن هردوت نفسه يقول ما نصّه : «يستخدم البابليون في الهبوط من أعالي نهر دجلة إلى المدينة وسائط نقل دائرية مقعرة تصنع من أغصان وجذوع أشجار الصفصاف التي تكثر في بلاد الأرمن وأعالي المدن الآشورية على شكل الأقفاص المدورة .. ويغطى عادة سطح هذه الوسائط من الخارج بجلود الحيوانات. وهذه الزوارق تشبه الدروع الدائرية التي تستخدم في الحروب. وتوضع تحت هذه الزوارق القرب والجلود وتحمل البضائع التجارية. وجلّ هذه هي دنان الخمر الفخار ـ الخمر المصنوعة من التمور ويقف في هذه الزوارق عادة شخصان يسيرانها بمجاذيف في أيديهما بالتناوب وبحركة دائبة!
    وهذه الزوارق منها أحجام وأنواع مختلفة وأكبرها يستطيع حمل ما يزن خمسة آلاف تالان (2) وبعد أن تصل هذه إلى المدينة يبيع أصحابها البضائع المحمولة كما يبيعون ألواح الخشب ومن ثم يعودون إلى أمصارهم على ظهور الدواب وهم لا يحملون مما كان معهم غير القرب ، ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا بزوارقهم تلك بعكس اتجاه مجرى النهر السريع ، لذا نراهم يصنعون زوارقهم من جلود الحيوانات وبمجرد وصولهم إلى بلادهم ـ أرمنستان ـ
    __________________
    (1) مؤرخ يوناني عاش قبل الميلاد.
    (2) Talent من المقاييس اليونانية القديمة ويقابل كل منها 25 كيلوغرام. وكان هذا يستعمل في العملات أيضا إذ كان تالان ذهب يقابل عشرة أضعاف ـ عشر تالانات ـ من الفضة. «المترجم»


    يعيدون صناعة تلك الزوارق عودا على بدء»! هكذا ذكر هردوت زورقا ليس له مقدمة ولا مؤخرة ، ولا يضيف إلّا أنه يشبه القفص أو الدرع الدائرية وأنه مصنوع من أغصان وجذوع شجر الصفصاف وحوافه من هذه الأغصان الطرية ..
    يتّضح مما ذكره هردوت إذن أن القفة التي يذكرها ـ ولا يسميها ـ هي على نمط قفة اليوم وتشبهها إلى حد بعيد. علاوة على ذلك فإني اكتشفت في الآثار الآشورية صورة منحوتة على حائط من حيطان نينوى تمثّل شكل القفة القديمة التي تناظر ما عليها اليوم في بغداد ، وأراه الآن أمامي يخطر كل منها على سطح مياه النهر الرائقة .. وهذا الأثر المكتشف يرجع تاريخه إلى ثمانمائة سنة قبل الميلاد. فهل يبقى ـ بعد ذلك ـ شك من أن زوارق هردوت لا تختلف عن الزوارق الاعتيادية كما خيّل إلى الكتاب المؤرخين!
    ولكن ـ مع ذلك ـ ينبغي ألّا ننكر أن ثمة تباينا بين (قفة) هردوت و (القفة) المستعملة اليوم ، وذلك هو أن الأخيرة مطلية من الخارج والداخل

    بطبقة كثيفة من القار ، أما التي كانت معروفة على زمن البابليين فكان يعتاض بجلود الحيوانات عن القار. ومن ناحية أخرى فإنه يقول ـ أي هردوت ـ «إنهم بعد وصولهم إلى المدينة المقصودة وبيعهم بضائعهم التجارية يعودون إلى أمصارهم وهم يحملون معهم القرب والجلود فقط على ظهور الحمير»! ..
    يحتمل ممّا تقدّم أنه كان يقصد ـ بأقواله تلك ـ الكلك ولكنني أشك في ذلك لأن الملاحين اليونان قد ذكروا الكلك والقرب المنفوخة بالهواء ولكنهم لم يذكروا شيئا عن مقدمتها ومؤخرتها .. وأعتقد أنه ينبغي أن نأخذ بأقوال هردوت تلك دون زيادة أو نقصان ، وأن نعد زوارق البابليين على شكل قفة اليوم إلّا أنها كانت من أسفل محاطة بجلود خيط كل منها بالآخر وأن الصورة التي اكتشفت في نينوى تؤيّد رأيي هذا ولا تدع مجالا للشك!!
    لنعد إلى ما كان من أمر سفرتنا .. فأقول ان المرّة الأولى التي ركبت بها القفة في دجلة كانت مزعجة .. فما كدنا نقعد فيها حتى راحت تدور بنا على صفحة مياه النهر بسرعة حتى خيّل إليّ أننا على وشك الغرق. وبعد لأي بلغنا ضفة النهر ووضعنا أرجلنا أوّل مرّة على أرض مدينة الست زبيدة وهارون الرشيد. ومن حسن الحظ أن القنصل الفرنسي في بغداد كان قد علم بخبر وصول السفينة وأرسل أحد خدمه لاستقبالنا ومساعدتنا!
    والقنصل الفرنسي في بغداد اليوم هو مسيو پرتيه (Peretie) ابن أحد علماء الآثار المعروفين الذي قام بحفريات كثيرة واستطاع أن يكتشف أشياء مهمة ألقت ضوءا ساطعا على كثير من الحوادث التاريخية القديمة ..
    وخلاصة القول أننا بعد فترة مديدة من التغرّب عن وطننا الحبيب استطعنا أن نرى مرّة ثانية حياة عائلة فرنسية قابلنا أعضاؤها بود وحنان. ولقد وضعت مدام پرتيه غرفة بناتها تحت تصرفنا. وكنت أبدو مسرورة جدّا لأنني سأنام هذه الليلة نوما هادئا على سرير مريح نظيف بعد أن حرمت ذلك منذ أن خرجنا من طهران حتى اليوم اللهم إلّا في مدينة جلفا التي نمنا في بيت صديقنا «پرپساكال» وإذا أردت أن أقول الحقيقة فمن هناك لم أنم بأمان واطمئنان ، ذلك لأن السرير الذي وضعه لنا صديقنا پرپساسكال ـ عفا الله عنه ـ كان خشنا يشبه

    إلى حد بعيد (التخت) الذي يستعمله المشعوذون والدجالون فيما يأتون من خوارق!! ولكن الليلة على أي حال سأنام ملء عيني لا يعكر صفوي شيء ..
    ولقد أرشدتني بنات مدام پرتيه اللطيفات إلى جميع مرافق الدار قبل أن أذهب إلى غرفتنا وأستغرق في نومي العميق!
    عمارة القنصلية الفرنسية صنعت بأيدي العمال البلديين كأي دار من الدور الأخرى لا يميّزها شيء لأنها بنيت لسكنى عائلة منهم وليس لاتخاذها دارا للقنصلية .. ولغرفها مشارف ذات شبابيك صنعت من الزجاج الموزاييك على أحجام مختلفة كل قسم منها مؤطر بإطار من خشب صغير .. ولها ستائر كبيرة بيض وحمر تستخدم في منع أشعة الشمس من الدخول إلى الغرفة في وقت الظهيرة التي يشتد بها قيظ الجو!
    ولقد اضطر أهالي بغداد إلى إنشاء مساكنهم بشكل خاص يستطيعون به أن يقوا أنفسهم من تقلبات المناخ بين الصيف الذي تشتد فيه الحرارة بدرجة لا تطاق والشتاء الذي يبرد فيه الجو حتى لتحس أن أعضاءك على وشك التجمد!! ففيها على هذا الأساس أربعة أقسام لكل فصل قسم خاص به ينتقلون إليه عند ما يحل.
    ففي أسفل المنازل تحت الأرض حجر واسعة مسقفة يصل عمقها إلى ثلاثة أمتار أو أربعة تسمى بالسراديب! وهذه الحجر العجيبة تستخدم في فصل الصيف وينتقل إليها جميع أثاث المنزل لأنها لو تركت في الطبقات العليا من المنزل فإن الأرضة لم تدع شيئا منها وتحيلها إلى تراب (1) ..
    وهذه السراديب تحوي منافذ للهواء طويلة تعمل على تلطيف الجو. ويقضي أهالي بغداد عادة وقت الظهيرة فيها وعندما يحين العصر يخرجون منها وأنفاسهم ضائقة إلى سطوح المنازل لاستنشاق الهواء الذي لا يقل عمّا كان في تلك الحجر .. ذلك لأن الجو لا يتلطف ولا يتغير في بغداد على رغم جنوح الشمس إلى الغروب واختفائها وراء الأفق ـ أي على عكس ما هو في إيران.
    __________________
    (1) هذا من أوهام الخيال التي سجلتها المدام ديولافوا. «المترجم»

    وتبدو المدينة في النهار وخصوصا وقت الظهيرة وكأنها خالية من السكان ولكن وقت الغروب تدب فيها الحركة. والنساء يذهبن لزيارة بعضهن بعضا من سطوح منازلهن ويقضين الليل بالقيل والقال وتدخين النرجيلة وباحتساء كؤوس الشراب المثلج. ولوجود حشرات مؤذية تكثر على الضوء يضطرون إلى إطفاء المصابيح والجلوس في ظلام دامس. وما يكاد نور الفجر يظهر في السماء حتى يدخل الجميع إلى السرداب عودا على بدء (1) ويمضون سحابة النهار وهم في حالة تراخ وكسل حتى الأشخاص القويو البنية منهم لا ينجون من مثل هذه الحالات!
    وعند ما يحل فصل الشتاء ينتقل الأهلون إلى الطبقة الأولى من منازلهم ومع أن مدافئهم مملوءة بالنار على الدوام فهم يرتجفون بردا. وبقدر ما كان يلقون من قر القيظ في الصيف فهم يلقون الأمرين من قر الشتاء!
    والنساء أكثر من يلقى الأذى والنصب لما يؤمن الأهلون بعادات وتقاليد غريبة إذ يحظر عليهن أن يخرجن إلى الأزقة وإن ارتدين ملابس فضفاضة تغطي أجسامهن من قمة الرأس إلى أخمص القدم. والأزقة هذه ـ أبعدك الله عنها ـ ضيقة معتمة قلّما يصل إليها الهواء وهي في وقت الشتاء تنقلب إلى برك ومستنقعات مملوءة بماء الأمطار المتعفن وأوساخ هذه المياه تبقى في آبار غير عميقة هناك بعد أن تنزاح المياه وتتبخر بفعل أشعة الشمس المحرقة. وفي حالة المطر الغزير تمتلئ هذه الآبار وتفيض إلى المجاري المتصلة بها وتملأ أرض الأزقة بالماء والقاذورات بحيث لا يستطيع الرجال أن يسيروا خلالها إلّا بمعونة ضوء فوانيس يحملونها بأيديهم. على هذا الأساس فلا عجب إذا ظهر وباء الطاعون في مثل هذه المدينة وأتى على أهليها وجعلهم حصيدا وأثرا بعد عين! إلّا أن الطبيعة ـ في فصل الخريف وحده ـ تسالم أهالي بغداد المساكين وتهدأ في حربها لهم بعد أن تذيقهم العذاب والألم في ثلاثة أرباع السنة. ففي هذا
    __________________
    (1) ناقضت المدام نفسها بهذا القول لأنها قالت آنفا «ويقضي أهالي بغداد عادة وقت الظهيرة في السراديب» وهو الصحيح. «المترجم»

    الفصل يروق الجو فلا مطر غزيرا ولا برد قارسا ولا حر جهنميّا لا يطاق. لذلك نرى العوائل المترفة والأوروبيين يستفيدون من رقة الجو هذه فيخرجون إلى البادية ويضربون بخيم في خرائب طيسفون وسلوقية ويتلهون بصيد الظباء والطيور فإنها تكثر في تلك المناطق. ومن الطبيعي أن الخروج للصيد ليس أمرا سهلا مأمون العواقب ولا سيما إذا كان بواسطة رماح يهجمون بها على الحيوانات الخطرة هذه ، والأرض كثيرة اللخاقيق (1) التي أحدثتها الجرذان البرية. وهذه الأخطار تهدد الأوروبيين من هؤلاء أكثر ممن سواهم وذلك لأنهم لم يتمرّسوا على مثل هذه الأحوال.
    ويحظر على النساء أن يشاركن في صيد الحيوانات الخطرة مع الرجال بيد أنه يسمح لهن أن يصيدن من الطيور التي تكثر على ضفاف نهر دجلة في خلوات بعيدة عن الأنظار ..
    الآن ـ وبعد كل ما تقدم ـ نستطيع أن نقدر عذاب وآلام الموظفين المساكين الذين حكم عليهم بأن يسكنوا في مثل هذه المملكة. وهؤلاء المساكين قد اعتادوا هذه الحياة القاسية اليوم ولكنهم صدموا بواقع بغداد صدمة عنيفة بعد ما كان من قرائتهم عنها في كتاب ألف ليلة وليلة!!
    15 ـ ديسمبر :
    مع أني كنت أتعجّل حلول الليل لكي أخلو إلى مخدعنا وأنام ملء عيني .. فلا أدري ما الذي حدث عندما أخفيت نفسي بين الأغطية البيض النظيفة وتمدّدت على السرير المريح للنوم .. إذ كلما حاولت أن أغمض عيني ذهبت محاولتي عبثا دون جدوى. حتى أحسست أني أكاد أختنق ..
    ولعلّ مردّ ذلك أن جسمي الذي تمرّس على المصاعب والمشاق لم يعد يحتمل نعومة هذا الفراش ولين هذه الأغطية!
    __________________
    (1) اللخاقيق جمع اللخقوق وفي الحديث «فوقصت به ناقته في لخاقيق جرذان» وهي شقوق في الأرض. «المترجم»

    والخلاصة أن هذه الليلة مضت بعذاب وألم على خلاف ما كنت أقدّر وأنتظر ولو لا خجلي من الخدم لكنت أذهب في ذلك الليل إلى صحن الدار وأفتش عن لحافي القذر بين أمتعة السفر وأنام على البلاط حتى لا أكون قد غيّرت ما اعتادته أضلاعي من خشونة الأرض وقساوتها وقذارتها!!
    إنني أطمأن إلى رفيقي القديم هذا وأودّه ـ وأعني لحافي الخاص ـ لدرجة إذا وصلت إلى باريس فإنني أفضله على جميع أثاث منزلنا ـ على قذارته واهترائه ـ!
    وفذلكة القول أنه ما كادت تعلو أشعة الشمس الأولى إلى كبد السماء حتى تركت السرير وخرجت إلى صحن الدار ، وبمجرد أن رآني موظفو القنصلية ذهبوا إلى غرفهم الخاصة وارتدوا ملابسهم الرسمية لكي يكونوا على استعداد لتنفيذ أو امري وإرشادي إلى ما أريد. إنني كنت أرغب في أن أرى أزقة ودروب هذه المدينة بأسرع ما يمكن وأن أبحث عن آثار الست زبيدة ، أما المؤسف أن هذه الآثار بنتيجة الحروب التي وقعت بين الفرس والعثمانيين ومحاصرة بغداد قد درست وانمحت عن الوجود.
    لا يتفق المؤرخون الغربيون والشرقيون على معنى اسم هذه المدينة. فالمؤرخون الأولون يعتقدون أنه يعني : «هدية الله أو انعام باك» وباك هذا اسم صنم قديم كان يقدّسه الكلدانيون. أمّا في اعتقاد العرب فإنه محرّف من كلمة «باغ» التي هي البستان في الفارسية و «داد» (1) الذي هو اسم أحد الزاهدين النسّاك والعلماء وكان يملك بستانا في هذا المحل بعينه لذلك سميت هذه المنطقة باسم «باغ داد» أي بستان داد ويقال : باغ داد أي بستان العدالة نسبة اليه وسميت هذه المدينة به أيضا عند تأسيسها.
    وعلى أي حال كان اكتشاف بناء آجرّيّ في هذا المكان ونقش اسم بختنصر على آجرة من آجره يثبت بحيث لا يقبل الشك والتردد أنه كانت في هذا الموضع مدينة قديمة على الضفة اليسرى (2) من نهر دجلة. ولعل هذه
    __________________
    (1) ظهر في أيامنا اسم بغداد في أحافير تل محمد.
    (2) لعلّها أرادت «اليمنى» أي الجانب الذي فيه الكرخ. «المترجم»

    المدينة كانت مندرسة عندما جاء الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر عبد الله المنصور في سنة 145 الهجرية إلى هنا فأسس عاصمة ملكه بغداد!

    ومهما يكن ، فإن الخليفة المنصور بعد أن عاين هذه المنطقة ودرس أحوالها وقعت من نفسه وأسس فيها مدينة مدورة سماها دار السلام! (1)
    وينقل المؤرخون أنه في الوقت الذي كان المنصور يؤسس مدينة على الضفة اليسرى (2) من دجلة كانت على الضفة الأخرى (3) دور عديدة وبساتين مزدهرة أي أنها كانت منطقة مأهولة بالسكان. وفيما أسسه الخليفة العباسي : جسرين عائمين يربطان الضفتين إحداهما بالأخرى وعلى أثر هذا أخذت بغداد تتوسّع وأصبحت إحدى المدن المهمة في العالم يومئذ. وفي الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في ليالي الجهل والوحشية كانت بغداد هذه موطن العلم والمعرفة ومركز الإشعاع في الدنيا كلها.
    يذكر مؤرخو العرب القدامى عن بغداد أخبارا تبعث على الدهشة والعجب ومما يذكرونه أن عدد حماماتها وقصورها الشامخة ومدارسها كان لا
    __________________
    (1) الصحيح «مدينة السلام» ويجوز تسميتها «دار السلام» إلّا أن الأول هو التاريخي الصحيح. «المترجم»
    (2) «اليمنى». المترجم.
    (3) أي الرصافة.

    يقع تحت حصر وعد (1) وأن تعداد نفوسها كان كبيرا بحيث إنه سار خلف جنازة الإمام ابن حنبل عند وفاته وهو أحد رؤوس المذاهب الدينية الأربعة مليون (2) نسمة ، وان اضطر ثلاثة (3) من الخلفاء أن ينقلوا عاصمة ملكهم إلى مدينة أخرى تسمى «سامراء» تبتعد عن بغداد بحدود (60) كيلومترا بسبب الازدحام الذي كان يتضاعف فيه ويضيق الجميع بما كان يحدث من هرج ومرج.
    ولكن .. أخيرا عندما حدثت الحروب الداخلية وهدمت مدينة سلوقية (كذا) ضعفت الحكومة المركزية ووهنت سلطة الخلفاء حتى إذا كانت سنة (949) م (الصحيح 945 م 334 ه‍) حاصر سلاطين آل بوبه بغداد. كما أن السلاطين السلجوقيين حاصروها ودخلوها ظافرين بعدئذ إلّا أن بغداد لم تلاق من المصاعب ولم تمتحن بنوب كما حدث في سنة 1257 م لها. إذ في هذا التاريخ دخل هولاكو حفيد چنكيز خان المغولي عاصمة المسلمين وأباح جنده السلب والنهب ، وقتل في هذه الأثناء الخليفة مع ثمانية آلاف شخص (كذا) من سكنة هذه المدينة التاريخية المجيدة. وفي سنة 1392 م (795 ه‍) استهدفت بغداد لحملة عسكرية أخرى قام بها تيمور لنك وفي هذه الحملة هدمت جميع آثار العباسيين (4) ، وأقيم مكانها هرم من جماجم وجثث قتلى المدينة الذين كانوا ألوفا ومئات ألوف. وبعد وفاة هذا الفاتح الذي كان سنة 1406 تملمت بغداد تنفض عنها غبار السنين وبدأت بترميم حيطانها المهدمة وإنشاء مرافق جديدة لها. ولكن هذا العهد السعيد ـ نسبيّا ـ لم يطل كثيرا حتى كان أن تدخلت في أمورها أسر قراقوئينلو وآق قوئينلو وأخذت تصرفها كما تبتغي
    __________________
    (1) لا شك بأن ذلك من المبالغات المفرطة.
    (2) وهذا أيضا من المبالغات والصحيح أن أكثر أهل بغداد خرجوا لتشييع جنازة الإمام أحمد بن حنبل وكان أكثر أهل بغداد من الحنابلة. «المترجم»
    (3) لا بل أكثر من ثلاثة وهم من المعتصم إلى المعتمد على الله. «المترجم»
    (4) وهذه من المبالغات أيضا فالمدرسة المسنتصرية ودار المسناة «القصر العباسي الحالي» وسور بغداد بأبوابه وبروجه الضخمة وجامع قمرية من الآثار العباسية التي لا تزال قائمة إلى اليوم. «المترجم»

    وتشاء اهواؤها ومصالحها ثم كان أن دخلها الشاه إسماعيل الصفوي لإخراج المغول منها. وعقب ذلك سلسلة من الحروب المستعرة وقعت بين الفرس والعثمانيين حول الاستيلاء على بغداد وكان احتلالها يتم بالتناوب بينهما ، وأخيرا تمّ الأمر فيها للعثمانيين وأصبحت ولاية من ولايات امبراطورية الرجل المريض بغير زيادة أو نقصان! وأخذ الباشات في حكمها حتى كان أن شق أحدهم عصا الطاعة على الحكومة المركزية وسلّم المدينة إلى شاه عباس الكبير سنة 1624 م (الصواب 1622 م 1032 ه‍).
    وعند ما بلغ نبأ تسليم ثاني مدينة عثمانية أي بغداد القسطنطينية ثار هرج ومرج شديدان بين الناس واضطرت الدولة من أجل تهدئة الرأي العام أن تجيش الجيوش وترسلها إلى بلاد ما بين النهرين ولكن هذه الحملات العسكرية لم تأت بنتيجة تذكر حتى صرفت النظر عن استرداد بغداد.
    ولكن بعد مضي عدّة سنين قامت الدولة العثمانية بإعادة بلاد ما بين النهرين إلى ممتلكاتها عودا على بدء وذلك بتحريك أحد الدراويش. وتذكر السنة ذلك بقولها إنه في أحد أيام الجمع دخل درويش كان قد أقبل حديثا من العراق ، إلى المسجد الذي يصلي فيه السلطان مراد وطلب مقابلة السلطان. وما إن أدخل عليه حتى صاح في وجهه وهو يرتجف لشدّة تأثره : «أي خليفة (النبي) غير اللائق ، إنك تخفي نفسك بين حراسك وبين حريمك وتشغل نفسك بالأنس والطرب والناس الأشرار يتزايدون في ملكك الموروث ويضغطون على المؤمنين الصالحين من أهل ملتك .. أو علمت أن الشيعة قد هدموا قبر الشيخ عبد القادر»! ويضيف هؤلاء إلى قولهم إن السلطان تأثر كثيرا بأقوال هذا الدرويش وأقسم بأغلظ الأيمان في تلك اللحظة ليستعيدن بغداد من أيدي الفرس وينشئ مجدّدا قبرا لهذا الرجل المقدّس يليق بمقامه. وبالفعل قام بما أقسم في السنة التالية ، فجهز جيشا كبيرا وسار به إلى بغداد حتى وصل إلى حدودها بعد تسعة عشر يوما (1) وحاصرها. وكان أول ما قام به بعد ذلك هو أن
    __________________
    (1) وهذه من المبالغات أيضا ، فستذكر بعد ذلك أن الراهبات يقطعن ما بين بيروت


    استولى على مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وفي اليوم الثاني وجّه إلى سكنة بغداد إنذارا بتخلية منازلهم إلى ما قبل الظهر .. إلّا أن الأهالي لم يهتموا بهذا الإنذار. وعندما حل الموعد المنتظر أمر السلطان مراد جنوده أن يهجموا على دار السلام ويتصرّفوا بكل ما فيها كما يشاؤون. ويقال إنه قتل في هذه الحرب من أبناء الشيعة ثلاثة آلاف نسمة.
    وبعد حرب مستعرة بين الجانبين عقدت معاهدة صلح بين الدولة العثمانية وإيران وتنازلت الأخيرة بموجبها عن مدينة بغداد إلى الترك مقابل ان تضم إلى أراضيها ولاية (إيروان).
    هذا ما يذكره المؤرخون عن السلطان مراد واحتلاله لبلاد ما بين النهرين ..
    __________________
    وبغداد على ظهور الجياد «24» يوما. «المترجم»


    ولقد وجدت فوق إحدى بوابات مدينة بغداد نقشا يؤرخ فتح السلطان مراد لبغداد مع جيوشه العثمانية .. وجاء في هذه الكتابة ما معناه :
    «دخل السلطان مراد في 24 ديسمبر سنة (1638) بغداد ظافرا بعد أن حاصرها مدة أربعين يوما وكان دخوله من هذا الباب».
    وأغلقت هذه الباب (1) بعد دخول السلطان ، وهي تتكأ على برج مرتفع صنع من الآجر وفوق السافات الأولى منها تاريخ إنشاء هذا الحصن الدفاعي ولقد جاء ذلك بعد ذكر آية من القرآن الكريم هي :
    (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وجاء في تسجيل تاريخها ما معناه : «هذا البناء أقيم بحسب أوامر الله
    __________________
    (1) هو باب الطلسم المعروف قديما بباب الحلبة ، نسفه الأتراك في آذار سنة 1917 م.

    سبحانه وتعالى وأمر زعيمنا وكبيرنا الإمام أبي العباس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين الذي يجب على العالمين أن يقدموا له بفروض الطاعة والإخلاص جميعا .. أي أنه أنشئ بفضل الخاضع لله أبي العباس الذي خلقه زينة للعالم وجعله دليل وجوده ..
    استمطروا شآبيب الرحمة على روح آبائه وأجداده الطاهرين والفخر والعزّة له وادعوا أن يبقى ملاذ المؤمنين وحامي المستضعفين ، أقيم هذا البرج سنة 628 (1230 م) (1) وانتهى العمل به ..
    اللهم صلّ على نبينا ورسولنا محمد وآله الطيبين الطاهرين».
    والذي يلفت النظر هنا هو وجه الشبه بين الاستحكامات الدفاعية التي استعملها المسلمون في القرون الوسطى والاستحكامات التي أقامها الفرنسيون في ذلك العهد ، فليس في استطاعتك قط أن تجد اختلافا بين طرز بناء هذا البرج الكبير وبرج كويي (2) الفرنسي مثلا .. فلقد أنشئ البرجان بآجر كبيرة يخيّل إليّ أنها من نوع واحد وكذلك الأبواب وأسلوب البناء والحيطان الحجرية وحتى الخندق والسقوف المحكمة للغرف الهلالية الشكل والثقوب التي تستخدم للرقابة وإصابة الهدف ، كلها متشابهة ومتناظرة كأنها صنعت بأيد واحدة في البرحين على بعد المسافة بينهما.
    وإذا كان هناك بعض الاختلاف اليسير من حيث الأقواس فإنني على رغم ذلك كان يخيّل إليّ وأنا واقفة بجانب هذا البرج الإسلامي أنني قبالة استحكامات فرنسية لا غير ..
    ومن الإنصاف أن أذكر اختلافا آخر بين مراكز الدفاع الإسلامية والنصرانية هو أن الأولى ما زالت تحتفظ بعد ثمانمائة سنة من إنشائها بشكلها العام دون أن تكون مصابة بتصدّع كبير أو انهدام على خلاف الاستحكامات
    __________________
    (1) الصواب «618 ه‍ ـ 1221 م». «المترجم»
    (2) Couey عائلة فرنسية شريفة قديمة كانت تناصب لويس السادس العداء وتعد من ألد خصومه وكانت تنشئ البروج التي عرفت باسمها.

    الفرنسية التي تبدو مهشمة متهدمة على رغم إنشائها بعد الاستحكامات الإسلامية بزمن قد يطول أو يقصر وعلى رغم الترميمات التي تجري عليها بين فترة وأخرى ، حتى لتبدو للناظر أنها منشأة في أزمان هي غاية في البعد على حين تبدو اخواتها الإسلامية كأنها انشئت منذ أيام معدودات. وفي اعتقادي أن مردّ ذلك إلى المناخ الذي ساعد على أن تحافظ الاستحكامات الإسلامية على رونقها وشبابها بينما عمل مناخ فرنسا الممطر القاسي على تصدّع استحكاماتها بسرعة .. وليس من البعيد أن يكون ثمّة سبب آخر وهو وجود خصائص في فن العمارة الإسلامية ساعدت على ذلك.
    توجد بين هذه الاستحكامات ـ في الداخل والخارج ـ مقابر واسعة كبيرة تسمّى بمقابر الشيخ عمر ، ولهذه قبة مخروطية الشكل مزينة ببعض المقرنصات الجميلة من الخارج التي تترك آثارا جميلة أخرى في الداخل.
    وعند ما تيمم وجهك شطر المدينة تدخل إليها من زقاق ضيّق يبدو إليك للوهلة الأولى أنه هادئ ، ينتهي إلى مقبرة الشيخ عبد القادر التي اندلعت من أجلها نار الحرب وقصدها السلطان مراد من اسطنبول ليقوم بتعميرها. قبة هذه المقبرة مسطحة ولها منافذ كثيرة ، وبجانب هذه توجد قبة أخرى جميلة الشكل مصنوعة من الكاشي الملوّن ولكنها أصغر من تلك ، ويغلب على الظن أنها منشأة على الأسلوب الإيراني الذي كان معروفا في أيام الصفويين وتحت هذه القبة يوجد فناء الضريح ..
    وللمقبرة صحن كبير واسع الأرجاء تحيط به من الجوانب حجر يشغلها المسافرون والفقراء والدراويش بالمجان. وعلى بعد قليل توجد مدرسة لتعليم الكتابة والقراءة وأصول الدين والفقه. هذه الأبنية الأخيرة ومنارتان مرتفعتان قد ضمتا إلى المقبرة في زمن قريب (1) ..
    وعلى مقربة من المقبرة رأيت أبنية ومنائر أخرى كمسجد ومقبرة الشيخ
    __________________
    (1) بل المنارة القريبة من الباب الغربي المقابلة لدركاه النقابة عتيقة من أبنية القرن العاشر للهجرة. «المترجم»


    يوسف وعبد الرحمن وغيرهما تلك الأماكن التي أصرف النظر عن ذكرها وشرحها ، ذلك لكثرة عددها الذي يقارب عدد الكنائس الرومية عندنا.
    16 ـ ديسمبر :
    كنت أرغب كثيرا في أن أزور جميع المساجد والمقابر وأطلع على عادات وقواعد الطائفة السنية ، ولكن حال دون ذلك عدم معرفتي اللغة العربية وأن مترجمي كان من طائفة الشيعة ..
    وكل ما استطعت أن أعرفه هو أن الدين الإسلامي مرّ في بدء تكوينه بفترة مضطربة كالأديان والمذاهب الأخرى وأنه اختلف في تفسير الكثير من مواده ، وهو الأمر الذي حمل المسلمين على الانشقاق فيما بينهم وانقسامهم إلى طوائف وشيع. وهناك اليوم أربع مدارس أو قل مذاهب كل منها يفسّر القرآن تفسيرا يختلف عن الآخر ولكنهم جميعا يتفقون على أن القرآن كلام الله المجيد وضعه بلغة عربية فصيحة يعين فيه قوانينه لبني البشر لأجل رفاههم وسعادتهم.


    أول هؤلاء المفسرين هو أبو حنيفة الذي ولد سنة (700) ميلادية في إيران (1) وانتقل بعدها إلى بغداد وأقام فيها ، ومؤيدوه في الأغلب هم من سكنة بلوجستان وأفغانستان والترك.
    وثانيهم مالك وقد ولد في المدينة المنوّرة سنة (795) ميلادية وأتباعه هم من الإفريقيين.
    وثالثهم الشافعي وينتهي نسبه إلى قريش قبيلة النبي العربي ولد سنة (820 م) في المدينة أيضا وكان يعيش فيها.
    والرابع كان ابن حنبل ولد سنة (855 م) وكان إمام بغداد ويتبعه كثير من الأعراب.
    يتفق زعماء هذه الفرق الأربع فيما بينهم على أغلب المسائل الدينية ولكنهم يختلفون في تفسير آيات من القرآن المقدس ، ولكن أتباع هذه الفرق لكل منهم خصائص نفسية وروحية مختلفة بحيث يستطيع المرء أن يضع يده عليها بسرعة .. فالحنبليون الذين كانوا آخر من دخل الإسلام (2) متعصبون كثيرا لمبادئ الدين ومتحمسون أكثر ممن سواهم وأنهم لهذا السبب ثاروا عدّة مرات في زمن الخلفاء العباسيين ، وقاموا باضطرابات في بغداد ، فقد كانوا يدخلون المنازل مع زعمائهم ويحطمون زجاجات الخمر وآلات الموسيقى
    __________________
    (1) بل كان من أهل الكوفة. «المترجم»
    (2) بنت السائحة وهمها هذا على أن الحنبلية دين الأعراب وأن الأعراب آخر من دخل الإسلام من بلاد العرب. «المترجم»


    وينهالون على الجواري والمغنين بالضرب المبرح! حتى أنهم كانوا يناصبون أبناء فرقتهم العداء إذا ما تهاون أحدهم في حماسته الدينية ولم يبد من الشجاعة والاستبسال في محاربة المروق من الدين والفساد!
    أمّا الحنفيون فكانوا على عكس هؤلاء إذ يتميزون بروح متحرّرة. والمالكيون والشافعيون كانت عقائدهم معتدلة أيضا.
    ولقد تطوّر النزاع بين الطائفة السنية تطورا خطيرا ، فكان ان انتهى بحركات مسلحة تحطم زند ابن حنبل في إحداها. ولكن اليوم يعيش جميع أفراد الطائفة بصفاء وهدوء دون أن تشتجر منازعات مخيفة كالسابق بين فرقهم.
    بيد أنه ثمة فرق جديدة ظهرت في الأيام الأخيرة تختلف عن الفرق السابقة حول قسم من المسائل المذهبية والآراء والعقائد وأشهر هذه الفرق الوهابية وزعيمها محمد بن عبد الوهاب ، وبدأ هذا نشاطه المذهبي سنة 1740 م

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:50 pm


    بوعظ وإلقاء خطب على سكان بلاده «نجد» وبعد فترة قصيرة استطاع أن يجمع حوله عددا كبيرا من الأتباع والأصفياء الذين يتميّزون بالشجاعة. ولقد استطاع هؤلاء أن يخضعوا بلاد نجد كلها لهم.
    ما زال عدد الوهابيين في ـ كلدة ـ العراق وما جاورها كبيرا ولكن الدولة العثمانية كانت تراقبهم وترقبهم بحذر وتحصي عليهم أنفاسهم.
    ولقد ابتهج الإيرانيون أيضا بنصر الجيوش العثمانية على الوهابيين

    وتقليم أظفارهم ، ذلك لأن الكثيرين من رعاياهم يعيشون في العتبات المقدسة العراقية كالنجف وكربلاء التي دفن فيها أبناء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وخلفاؤه الحقيقيون (1).
    وإذا كانت أحياء بغداد الواقعة على الضفة اليسرى من النهر يربطها طريق مستقيم مع إيران فإن الإيرانيين يفضلون السكنى على الضفة الأخرى في مدينة صغيرة تقع على بعد ست كيلومترات من بغداد تسمّى بالكاظمين ، وعلّة ذلك هي أن في هذه المدينة الصغيرة مقبرة الإمام موسى الكاظم الذي يقدّسه أبناء الشيعة ومنهم سكنة فارس.
    تمرّ قوافل الزوار الإيرانيين في طريقها إلى الكاظمين بمدينة بغداد التي تعد من مراكز الطائفة السنية. وعند مرورها بهذه المدينة يلاحقها الأطفال من الطائفة المذكورة ويؤذونهم ويسمعونهم الأقوال البذيئة.
    ومن السهولة أن يلاحظ المرء سوء تصرف أبناء الطائفة السنية للشيعة.
    إذ عند ما تدخل القافلة التي تحمل الزوار الإيرانيين بغداد من بابها الشرقي يحيط بها الأطفال السائبون ويأخذون في إسماع أفراد تلك القافلة قارص الكلم وجارحه في وسط زوبعة من الهرج والمرج .. ولم يكتفوا بذلك بل يهجمون على بضائعهم المحملة على الحيوانات التي معهم وكثيرا ما يسرقون أغطيتهم أو نرجيلتهم أو أواني السمن المعلقة على جوانب تلك الدواب ثم يطلقون سيقانهم للريح يسابقونها إلى منعطفات الأسواق أو المعسكر الذي يقع في جانب من جوانب ميدان كبير في هذه المدينة.
    لذلك يتحاشى هؤلاء الزوار المساكين من تعليق أمثال تلك البضائع على جوانب دوابهم في أغلب الأحيان. بيد أن أولئك الصبية الأشرار عند ما يرون ذلك وتأهب رجال القافلة من الدفاع عن أنفسهم وأثاثهم ، يأخذون في اتباع طريقة أخرى في أذاهم وهي أن يحملوا بأيديهم أكوام الطوب والحجارة
    __________________
    (1) تريد السائحة أن تقول إن الخلفاء الحقيقيين على مذهب الشيعة الإمامية .. «المترجم»

    ويأخذون في رميهم عن كثب ثم يفرون ويتوارون عن الأوجه. وكثيرا ما يحدث أن تسقط تلك الحجارة بين أطراف الدواب ويسبب ذلك سقوط ما تحمل من بضائع ، وعندما ينهمك رجال القافلة في تدارك ما حدث يأخذ الأطفال في السخرية منهم وضجيج قهقهتهم يشق عنان السماء!
    وعلى هؤلاء الزوار الإيرانيين طبعا تحمّل كل تلك المصاعب والمشاق ومقابلتها بصبر وأناة ، وألا يفكروا في يوم من الأيام بتقديم شكوى إلى السلطات التركية أو إقامة دعوى في المحاكم ذلك لأنهم لا يصلون إلى نتيجة تذكر إذا ما قاموا بمثل ذلك فالمسؤولون الترك ـ في الواقع ـ يشجعون تلك الحوادث ، أو تحدث بوحي منهم ، وإن كل شكوى من هذا القبيل تقابل بسخرية واستهزاء!!
    * * *
    17 ـ ديسمبر :
    اليوم عيد ولقد استيقظنا في الصباح على رنين جرس الكنيسة وذهبنا مع موظفي القنصلية الكاثوليك لأداء فريضة الصلاة في كنيسة كبيرة تبدو نظيفة بعض الشيء ، وتدير أمورها هيئة مذهبية فرنسية قدمت إلى هذه البلاد منذ سنين عديدة. ولقد أنشأت هذه الهيئة مدرسة كبيرة تلامذتها كلهم من أبناء مدينة بغداد ، وهم يدينون بأديان ومذاهب مختلفة ولكنهم جميعا يجلون أساتذتهم والقائمين على تربيتهم وتثقيفهم. ومنهاج هذه المدرسة مقتصرة على الدراسة الابتدائية ولقد وجدت التلامذة يبدون شوقا ورغبة في تعليم اللغة الفرنسية والنطق بها وكم أحس بسرور طاغ عندما أسمع في الأزقة والأسواق الكلمات الفرنسية بدل الإنكليزية.
    ولهذه الهيئة مدرسة أخرى في البصرة. وتؤدي هاتان المدرستان نتائج بعيدة في تثبيت نفوذ فرنسا في الشرق وتوسيعه ، وإنني لمست آثار ذلك خلال سفرتي هنا وهناك بحيث أثلج صدري!!
    ويستعين الرهبان على أداء رسالتهم هذه بالراهبات اللاتي يقمن على تدريس وتعليم البنات التركيات .. وهذا التعليم في العادة يكون أقل مما يلقن

    به الذكور وأكثره ينصب في معرفة أمور الخياطة والكيّ والتطريز وما شابه تلك الأشياء التي تعد ضرورية أكثر مما سواها للإناث في هذه البلاد ، إذ لا يسمح لهن أن يعشن على عملهن في الخارج كما هو الحال عندنا في أوروبا.
    ولقد وجدت هذه الهيئة الخيرية وأمثالها في هذه البلاد تشكو قلة مواردها المالية وأن أبنيتها غير لائقة بها. وفي فصلي الربيع والصيف عندما يلطف الجو يتلقى قسم من الأطفال دروسهم في فناء تلك المدارس على أيدي معلميهم ، أما في فصل الشتاء الذي يكثر فيه هطول الأمطار فيتعذر قيام تدريسهم في الأفنية المكشوفة لذلك تضطر إدارة المدرسة ـ لضيق البناية ـ إلى الاعتذار وعدم تدريس قسم من الطلبة الداخليين وإرسالهم إلى منازلهم.
    ولكم يؤسف حقا أن تصرف مبالغ كبيرة إلى أمور هي موضع شك وتردد في نتائجها المنتظرة ، في حين أن هذه المؤسسات الخيرية تشكو العوز وقلة المال مما يؤدي إلى عدم أداء رسالتها السامية على الوجه الأكمل!!
    ولقد أبدى الرهبان والراهبات عجبهن وإعجابهن بذكاء ونبوغ أطفال هذه البلاد ، ولكنهن أبدين أسفهن البالغ لعدم استطاعتهن تخليصهم من آثار تربيتهم البيتية الأولى السيئة ..
    وتقوم الراهبات في هذا الشأن بوظائف صعبة ومهمة جدّا .. إذ يجب عليهن أن يتحملن بصبر بالغ أخلاق وسيرة جرذان النخل الخشنة هذه ، وأعني البنات البغداديات اللاتي لا يستطيع فوج بكامله من الجيش أن يخضعهن لأوامره. وتقوم هذه البنات الصغيرات بألعاب عجيبة غريبة ويقمن بتمثيل أدوار الحياة حلوها ومرّها فيما بينهن ، ويجدن بذلك لذة أي لذة. ولقد حدثتني إحدى الأخوات الراهبات انه في الأسبوع الماضي عندما كانت إحدى زميلاتها تقوم بدور الحارسة على الطالبات الصغيرات اللاتي لا يتجاوز كبراهن السابعة من عمرها رأت في ساعة الاستراحة عند عودتها من حجرة الاستقبال ما أدهشها وأخذ بعجبها ، وذلك أنها شاهدت الطالبات جميعا قد اجتمعن حول طفلة صغيرة منهن نصف عارية تئن وتتوجع وتصرخ كالطاووس وزميلاتها من حولها في غاية الشفقة والحرارة يمثلون دور التمريض ومساعدتها!!

    وقالت الأخت لهن : «ماذا تعملن يا طفلات؟ ما هذا؟ ما هذه الأعمال القبيحة؟ لماذا عريتن زميلتكن الصغيرة هكذا؟ أجابتها على الفور إحدى الطالبات الصغيرات التي يظهر أنها كانت تقوم بدور القابلة في هذه التمثيلية الطريفة بقولها : «أيتها الأخت الحبيبة لقد انتهى كل شيء انها تعذبت وتألمت كثيرا ، ولكن لله الحمد قد انتهت الشدّة وأنجبت هذا الطفل الجميل الذي أقدمه إليك» وهنا قدمت إليها لعبة صغيرة من الفرفوري مزينة بزينات طريفة ..
    هذه هي عادات وسيرة هاته البنات الفطرية. فكيف يمكن بهذه الحالة من تعليم مثل هذه القابلة التي في السابعة من عمها البستنة أو أي عمل آخر. والواقع أنني كلما أردت أن أصف ما تتحمله تلك الأخوات وما يقمن به من جزيل الخدمات هو قليل وناقص. إنهن دائما يواجهن مثل تلك العادات التي تدل على جدب أخلاقي ويقمن على محاربته بكل ما أوتين من قوة وبأس وصبر.
    وهذه الأخوات المسكينات يقدمن عادة من بيروت إلى بغداد ، في طريق يقطعنه بأربعة وعشرين يوما على ظهور الجياد ويضطررن أن ينمن في الطريق بخانات قذرة متهدمة دون أن يبدين تأففا أو انزعاجا.
    في مؤسسة بغداد الخيرية هذه خمس راهبات وقد جئن من بيروت. اثنتان منهن ما زالتا في المستشفى منذ قدومهما وذلك لما أصيبتا به من مرض في أثناء سلوك الطريق الوعر حتى أشرفن على الموت ، ولقد علمت أن أمل شفائهن جد قليل ، لعدم ملائمة طبيعة مناخ هذه البلاد لهن. أما الثلاث الأخريات اللاتي في صحة جيدة فيقمن الآن على تربية وتعليم خمسمائة فتاة صغيرة ولقد أنبأنني بأنهن يفكرن في إنشاء مستشفى مجاني للفقراء.
    وبعد أداء مراسم يوم الأحد المعتادة يأخذ الرجال النصارى وهم بألبستهم الفاخرة مع نسائهم اللاتي يتأنقن بحسب مبادئ آخر الموضات الحديثة في التزاور فيزور بعضهم بعضا ، ومن الطبيعي أن القنصل الفرنسي شخصية محترمة في البلد وأن الكثيرين سيأتون لزيارته اليوم الذي هو عيد كما أسلفت من القول.

    وبمجرّد أن رجعنا من الكنيسة إلى الدار بدأت حركة الزيارة ، فالرجال كانوا يذهبون إلى الصالون الرسمي الخاص بالقنصل والنساء إلى حجرة زوجه الكريمة.
    وهؤلاء النساء جميعا (1) يلبسن عباءة تسمى ب (إيزار) عند ما يتركن الدار وهي مصنوعة من قماش حرير ملون بألوان زاهية جميلة ومزينة بأسلاك من الفضة والذهب. وهذا (الايزار) يغطي أجسام تلك النساء الجميلات من قمة الرأس إلى أخمص القدم بحيث لا يبدو منهن شيء. والشابات منهن يضعن فوق رؤوسهن طاقيات خفيفة مزينة بأسلاك من الذهب والفضة ولا سيما على حواشيها ولهذه الطاقيات الجذابة بما يشبه الذيول تتدلى عادة على جانبي الرأس ويمتد منها ضفائر من شعرهن الطويل تصل بعض الأحيان إلى النحر.
    أما النساء المسنات فإنهن يضعن على رؤوسهن طاقيات من نوع آخر وتتميز بطولها وانها مبطنة من الداخل بالقطيفة اللماعة وأنها تخفي جانبا من جبينهن.
    وتلبس الأمهات والأخوات عادة أثوابا حريرية مزركشة مكونة من قسمين علوي وآخر سفلي وهي مكشوفة الصدر وضيقة عند الحاجة لإبراز مفاتن الجسم! كما أن هذه الأثواب في الغالب مزينة بأسلاك من المعدنيات النفيسة أيضا. ولم تكتف نساء هذه المنطقة بكل هذا بل يغرفن أنفسهن بالحلي الذهبية والجواهر النفيسة لدرجة كبيرة بحيث إن مخزن أكبر كنيسة لا يستطيع أن يضاهيها وينافسها ..
    وأكثر هذه الحلي هي أطواق ذهب غالية وزنارات وأسورة وأقراط وخواتم تغطي أجسام النساء ، وهن يتفاضلن فيما بينهن بعدد وكثرة تلك الحلي. وأعترف ـ بلا مواربة ـ بأنني مهما أوتيت من مهارة وحذق في الكتابة لا أستطيع أن أصف جمال وجاذبية النساء الكلدانيات. ولكن المؤسف أنهن مثل النساء الأخريات في هذه البلاد ـ اليهوديات والمسيحيات والمسلمات ـ
    __________________
    (1) تعني السائحة الكاتبة نساء النصارى وبناتهم ، وهذا الوصف يدل على غناهم وثروتهم يومئذ. «المترجم»


    مبتليات بعدو خبيث يسمى «الأخت البغدادية» يشوه جمال صورتهن بما يترك فيها من ندوب ، ولم أجد حتى الآن امرأة من هؤلاء النساء تكون قد نجت من هذه الآفة اللعينة ، ويخيل للرائي أنه قد رمي على صفحة وجه كل منهن «أوكسيد سولفوريك» فشوهها هذا التشويه. وهذه «الأخت البغدادية» أول ما تظهر تكون نقطة بيضاء على الخد أو أي مكان آخر من الوجه ثم تحمر وتتورم بشكل ظاهر.
    تظهر بعد ذلك عليها قشرة كبيرة كما هو الحال في الجدري وعندما تيبس هذه القشرة وتسقط تتخلف عن ذلك ندبة صغيرة في الوجه تشوه جماله. ولقد علمت أنه حتى الوافدون إلى بغداد من الخارج لا ينجون من هذه الآفة فإن لم تكن أصابتهم بها حال قدومهم إليها ، فلا محالة أنهم يصابون بها بعد حين على أبعد الاحتمالات ، ولكن الذي يبعث على العجب ان هذه الآفة لا تصيب إلّا البلديات من أهل هذه البلاد. أما الأوروبيات فإن أصبن بها فيكون

    ذلك على أبدانهن لا على وجوههن ، مع علمنا بأن إصابتهن بها جد قليلة.
    وأغرب من كل ذلك أن الأطباء لم يستطيعوا أن يجدوا دواء يعالجون به هذه الآفة العجيبة حتى الآن.
    * * *
    وبعد أن انتهت مراسم الاستقبال اجتمعنا كلنا في حجرة الطعام حول مائدة لم تكن بالطويلة وهنا أخذنا نتجاذب أطراف الحديث ، وكان أن ذكرت مدينة الموصل وخرائب خرساباد وقوئيون جيق «قوسنجق» (1) ، فأبدى زوجي مارسيل رغبته الملحة في زيارة تلك الأمكنة التاريخية ، بيد أن الراهب الذي كان يجلس معنا حول مائدة الطعام كان قدم من الموصل قريبا صرف نظر زوجي من القيام بمثل هذه السفرة بقوله : إن الحفريات قد عطلت منذ حين في تلك المناطق وإن الأبنية التي اكتشفت وأخرجت من تحت الأرض قد غطاها التراب مرة أخرى وأخفتها الأوحال التي أحدثتها الأمطار الغزيرة بحيث لم يعد يبدو منها شيء» ثم أضاف يقول : «وإذا أردت أن تشهد منازل سارغون وسنحاريب مثلا فيجب عليك في هذه الحالة أن تزيح التراب والأوحال عنها أي يجب أن تقوم بحفريات جديدة وهذا ما لا تستطيع القيام به على ما أعتقد»!
    18 ـ ديسمبر :
    سمعت ـ أول من أمس ـ زوجي يقول : «إنني عندما كنت في ايران خلال سفرتي هذه كان ذكاء وحس أهالي هذه البلاد موضع عجبي وإعجابي ولكني كنت أبدي تذمري وشكواي في نفس الوقت من إدارة البلاد وطرز حكومتها وأخلاق وسيرة شعبها. ومنذ وطأت قدمي تركيا ـ ويقصد أرض العراق أخذت أترحم على الأيام التي أمضيتها في إيران وآسف على فراقها والابتعاد عن شعبها ـ على علّاته ـ حتى يخيّل إليّ أنني خرجت من الجنة وهبطت إلى دركات الجحيم».
    __________________
    (1) تقع هذه الأمكنة في نواح من كردستان.

    يعتقد جماعة من ساسة أوروبا المحنكين! أنه من الممكن نقل الحضارة الغربية الجديدة إلى الشرق والعمل على تمدينه وتلقيحه بمبادئ هذه المدنية المادية الحديثة في شتى مرافقه ولا سيما في شكل حكومته ..
    ولكن أي اعتقاد خاطئ هذا .. إن ماكنة حضارتنا نحن اليوم معقدة بحيث لا يستطيع القيام بها شعب من شعوب الشرق الجاهل الساذج هذا. إن العادات والقواعد الأوروبية تستطيع أن تعمل على ترقية وتقدم البلدان الشرقية بل ينبغي علينا أن نوجد لهم مبادئ أخرى نستخلصها من روحيتهم وميزاتهم النفسية عندئذ تكون سياستنا نحوهم ناجعة ومفيدة. ولأضرب لكم مثلا قريبا فنظام الحكم والإدارة في إيران اليوم هو كما كان في السابق على أيام ملوك الطوائف ومن سبقهم ، أما في تركيا فالنظام مستمد من نصوص ومبادئ اوروبية .. وهل تصدقون بعد ذلك ان الحكومة المنشأة على آخر طراز في تركيا أي التي لها محاكم منظمة وجيش عرمرم من الشرطة وقوات الأمن لا تستطيع أن تحافظ على الأمن والنظام بقدر ما تستطيعه حكومة إيران (البسيطة) كما يحلو للبعض أن يقولوا .. الحكومة التي ليس لديها تشكيلات الحكومة التركية الحديثة!
    إن تقليد الحضارة لا يجدي نفعا أيها السادة المحنكين بل يجب أن ننعم التفكير أكثر من ذلك ونعمل بما توحي إليه مصلحة تلك الشعوب ..
    وإنني أؤكد بأن رأي زوجي في أوضاع تركيا المتردية تلك لم يكن من باب الحدس أو العاطفة أو التفكير المرتجل السريع ، بل إنه مبني على دلائل وبراهين لا تقبل الرد. وينبغي لنا ألا تخدعنا المظاهر فنأخذ بها ونعدها شواهد حضارة ومعالم مدنية كالعمارات الضخمة والأبنية المزوقة في القاهرة (؟) واسطنبول أو اي مدينة تركية أخرى. فتلك لم تكن غير مظاهر مزيفة براقة لحقيقة مؤلمة لا تستطيع أن تخفيها على أي حال أمثالها عن الأنظار أو الأذهان. وقد تكون تلك مظاهر قام بها ولاة الأمور العثمانيون ، أما خوفا من الفرنسيين أو الانكليز وإما تلبية لرغبة من رغباتهم بعد أن أخذت دعوتهم لها بالأخذ بمبادئ الحضارة الأوروبية لهجة التهديد والإنذار!

    وأيّا كان الأمر فإذا ما أراد إنسان أن يعرف حقيقة أوضاع تركيا اليوم وفساد حكومتها ينبغي له أن يذهب إلى الأصقاع البعيدة من أراضيها كمدينة بغداد التي تعد عاصمتها الثانية ليطلع على الجهاز الحكومي الفاسد المرتشي الظالم لا أن يبني حكمه على المدن القريبة من أوروبا ..
    لقد أفلس أحد المصارف الكلدانية في الموصل سنة 1880 وعند مراجعة دفاتره وجد أن أحد موظفي الكمرك الصغار قد استطاع براتبه القليل أن يدخر أو يجمع في هذا البنك مبلغ ستمائة ألف فرنك ، وهو ما كان يتقاضاه من رشوة خلال أداء أعماله الرسمية طبعا!! ومن البديهي أن هذا الرقم ليس مهمّا وكبيرا بالنسبة لما يحصل عليه الموظفون الكبار أو المديرون عند ما يشاركون في صفقة من الصفقات غير المشروعة أو في الأعمال التي تعرض عليهم بصورة دائمة ويرتشون فيها!
    فمثلا أنشأ أحد رؤساء الإدارات بناية عامة مرتين بعد أن أحرقها في المرة الأولى ، وأغرب من ذلك أنه لم يضع أساسا لها. ولقد حصل بهذه الطريقة الشيطانية على المبالغ الكبيرة التي خصصتها الحكومة لتصميم هذه البناية الرسمية!!
    وقواد الجيش كثيرا ما يفتخرون بسفرات حربية غير حقيقية يقومون بها ليتقاضوا عنها مبالغ كثيرة. وأخيرا سار الضباط الكبار الترك بجيش لا وجود له من بغداد! إلى بعض الأصقاع ، وبعد فترة قليلة أخبروا الباب العالي بأنه أبيد عن بكرة أبيه ـ أي الجيش ـ ولقد قام هؤلاء الضباط بهذه المعركة الحربية غير الواقعية!! لتغطية ما كادوا يتعرضون له من فضيحة بيع أسلحة كثيرة هي عتاد جيش كامل والتصرف براتب جنده لا لشيء غير ذلك!!
    وأنكى من كل ذلك أن المسؤولين الكبار في اسطنبول والزعماء الدينيين الذين هم موضع ثقة واعتزاز الطبقة النيرة الواعية في هذه البلاد يتزوجون عادة بنات شيوخ القبائل المنشقة والعاصية ، وعندما تسير الجيوش إليها لإخضاعها يخبر هؤلاء الحكام الكبار والزعماء البلديون رؤساء تلك القبائل الذين هم أصهارهم بصورة سرية لكي يتهيؤوا للدفاع عن أنفسهم أو الفرار!! وكثيرا ما

    يحدث أن يتفق هؤلاء الزعماء والحكام مع شيوخ القبائل على وضع قوافل تلك الجيوش في أمكنة خاصة أو تسييرها من محلات معينة حيث ينصب لها الكمين ليسهل على أفراد تلك القبائل مهاجمة الجند وسلبهم ونهبهم ، ومن الطبيعي أن للضباط الكبار أولئك نصيبا من المواد المسلوبة!!
    ولقد حصلت إحدى القبائل المعروفة باسم «ضماوند» (1) على ثروة كبيرة عن هذه الطريق! وتعداد عوائل هذه القبيلة لا يتجاوز المائتين وإنها ما زالت منشقة وعاصية على الحكومة المركزية منذ خمسين سنة ، ومهما حاولت الحكومة إخضاعها لم تستطع حتى أبدت في النهاية عجزها واعترفت بالأمر الواقع! وتركت الحبل على الغارب!
    وعلى الرغم من أن الضباط الترك هم خريجو مدارسنا الحربية في فرنسا وطالما يفتخرون بحبهم للوطن وإخلاصهم للشعب فهم يدفعون قبيلة شمر إلى العصيان والخروج عن القانون ، لا لشيء سوى تجييش الجيوش إليها وأن يكونوا هم على رأسها ويحصلوا على ثروات أو مجد بهذه الطريقة وإن كان يتم على حساب قتل عدد كبير من الجند أو أفراد تلك القبيلة!
    هذه هي أوضاع تركيا التي أخذت بمدنية الغرب. والحق يقال إنه كان لأبنائها الطيبين خصلة حميدة واحدة وهي احتفاظهم بالصداقة والاهتمام بها ، ولكن اليوم فقدت العادات الحسنة ، حتى هذه الخصلة عند أبناء الترك الذين يدرسون أو يعيشون عندنا في أوروبا. وبمجرد أن ارتدوا الملابس العسكرية أخذوا في السلوك غير المرضي والارتشاء والتزوير وما شابه ذلك ، وهؤلاء الضيوف الذين يختلفون إلينا هنا في منزل القنصل ويبدون عطفا وتوددا ويحتسون كؤوس الشمبانيا ويأكلون لحم الخنزير والطعام الذي يطبخ بأيد غير مسلمة مما حرمته قوانين نبي الإسلام على أتباعه ـ ما هم في الواقع إلّا مخادعون وكذابون في عواطفهم وإحساساتهم ولو لا خوفهم من الجزاء والعقوبات ما توانوا لحظة واحدة في قتل الأوروبيين الذين يزورون بلادهم.
    __________________
    (1) الصواب «هماوند» أي القبيلة الكردية المشهورة. «المترجم»

    يحمل الأتراك في طوايا قلوبهم حقدا دفينا للنصارى ويكرهونهم كرها شديدا (1) ذلك لأنهم يعدوننا كفارا وخارجين عن كتاب الله وسنته فيجب الحذر منهم والابتعاد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثم لأننا نريد أن نغير عاداتهم وتقاليدهم الشرقية بما نلقنهم من ثقافة وعلم ، وخلاصة القول أنهم يعدون معلميهم ومربيهم الأوروبيين أحقر وأقذر من الكلاب السائبة!
    والواقع أن ثمة أسبابا كثيرة تعمل على انهيار الامبراطورية العثمانية يوما بعد آخر وانحطاط مجتمعها ومنها عادة تعدّد الزوجات (2) التي يأخذ بها الأهالي جميعا ثم اعتقاد القضاء والقدر اعتقادا راسخا. ولكن على العكس أرى أبناء الطائفة الشيعية معتدلين في سلوكهم وسيرتهم ، فطائفتهم تؤمن بجانب سلطة القضاء المعمى باختيار الإنسان وأثره فيما يأتيه من أعمال.
    ولقد أثّرت عادة تعدد الزوجات عند الترك في روحيتهم ونفسيتهم وأخلاقهم إلى حد بعيد وخلقت مشكلات متعددة في مجتمعهم. والواقع أن هذه العادة موروثة من القديم وأن الإسلام سمح بها تحت شروط معينة إذ ينبغي للرجل في مثل هذه الحالة أن يسكن كل امرأة يقترن بها في منزل خاص بها ويعامل كلّا منهن معاملة مساوية معتدلة دون أن يفضل واحدة على أخرى.
    وتقتضي ـ من الطبيعي ـ إدارة تلك المنازل المتعددة وإجابة طلبات وحاجات النساء المتجددة وما يحدث بين الضرائر من تحاسد وتنافس وحقد ، جهدا كبيرا يجب على الزوج المسكين أن يبذله ، كما يلزمه أن يقوم بأعمال كثيرة وأن لا يتورع حتى عن المسائل غير المشروعة لكي يستطيع أن يسد نفقاته المتزايدة .. لذلك ترى الرجل التركي منهوك القوى خائر الأعصاب ذاهلا .. يتألم من حياته وتخيم عليه سحابة الحزن والأسى والشؤم. وفي كثير من الأحيان يفلس ويتعرض لأزمات مالية خانقة تشرد عائلته أو عوائله وينتهي بنهاية مؤلمة حزينة!
    __________________
    (1) وهذا أيضا من خيالات الكاتبة الرحّالة. «المترجم»
    (2) من الطبيعي أن تعيب المرأة التعدد. «المترجم»

    والأعجب هو أن الوزراء والحكام وزعماء الدين أنفسهم يشجعون هذا الأمر لكي ينتهوا إلى نهايته المؤلمة ويتاح لهم بعدئذ الاستيلاء على ما يملكون بسهولة ويسر إن كانوا من أصحاب الأطيان والثروات. أما من عداهم فقلّما يقدمون على الزواج بأكثر من امرأة أو اثنتين على أبعد احتمال! ومن الغرائب الأخرى في هذه البلاد أن رؤساء الدوائر المالية والضباط ومن يحكمون في القرى البعيدة يضاربون بأموال الدولة في صفقات تجارية أو يشغلونها في أعمال غير مشروعة. والخدم والحشم من جهة ثانية لا يتورعون عن خيانة ساداتهم! والتجار والكسبة يغشون المشترين وهكذا فقس الأمور والأحوال!!
    وفي رأي زوجي الذي يبالغ في آرائه بعض الشيء ، أن دور النساء في حريم الأتراك لا يختلف عن دور الجياد التي يحتفظ بها السراة والمثرون في الاصطبلات للمباهاة والمفاخرة! وبخلاف ما يعتقد الناس لا يكون عدد هؤلاء النساء مرتبطا بقدر شهوة زوجهن بل هو مرتبط بقدر ما يريد الشخص من إبداء علو مقامه والبرهان على سعة يده وثروته!!
    وإيمانهم بالقضاء والقدر لم يكن أقل أثرا من عادة تعدّد الزوجات في حياتهم المضطربة. فالسنة بنتيجة اعتقادهم بالجبرية والقدرية اعتقادا مطلقا صاروا ناسا كسالى متوانين وتركوا جميع أشياءهم في كف القدر والخطر وهم يقولون : «إنا نحارب الأمراض السارية والآفات المقدرة علينا؟ لما يجب أن نجاهد للقضاء على صعوبة الحياة ومشاقها؟ ألم تكن قدرة الإنسان جزءا من وجوده وكيانه»؟!
    ومن الطبيعي أن الإنسان لا يميل إلى الأخذ بهذه العقائد ويسلمها تسليما أعمى إلّا أمثال أولئك الترك الجهلة منهم ..
    ولقد علمت أن المسلمين المتعصبين وذوي الإيمان الصادق يخالفون هذه العقائد الخطرة ويدعون إلى محاربتها والقضاء عليها ويجعلون حدّا يسيرا بين القدرة والجبر ويعترفون بوجود بعض الحالات التي تقف دونها قدرة الإنسان وأن الاختيار لا يقع في مكنته فيها!!
    وكما أن قطعة الحديد تقل صلابتها بأثر طرقها المتواصل بالمطرقة

    كذلك عقائد الترك بالقضاء والقدر قد خفّت عن السابق لكثرة ما جرت عليهم من الويلات والمصائب! لهذا نراهم في اسطنبول يأخذون في إنكار هذه العقائد اليوم ويعدونها من مخلفات العهد البائد ويدعون : «أن ترك أمر الحوادث النازلة إلى السماء لمعالجتها سخف في سخف» .. ومن مظاهر هذا الوعي الفكري أنهم أنشأوا إدارة خاصة لإطفاء الحرائق على غرار ما هو متبع في أوروبا .. في القسطنيطينية ..
    كذلك أخذ رجال الدين السنة يجيزون الأهالي في أن يتركوا دورهم ومنازلهم ويقوموا بوقاية أنفسهم إذا ما حلّ بهم وباء مرض معد وتجاوز عدد ضحاياه خمسمائة .. فلا حرج عليهم في ذلك ولن يرتكبوا ذنبا ولا خطأ!!
    ولكن على رغم ذلك ما زالت العقيدة بقدرة القدر وما يأتيه في حياة الإنسان ومصيره مخيما على كثير من العقول وتترك آثارا سيئة ونتائج وخيمة في حياة الأفراد والمجتمعات ، وأقل تلك الآثار أنها تجعل منهم ناسا لا مباليين خانعين لا يجشمون أنفسهم التفكير في الغد وما يحمله لهم ولا في الاهتمام بمستقبل حياتهم وبحياة أولادهم. وخلاصة القول أن أبناء الطائفة السنية يعدون عندي من الطبقات الدنيا من أتباع الإسلام لعقيدتهم تلك بفكرة القضاء والقدر بحيث يخيّل انها تسير مع دمائهم أو يخيّل أنها من غرائزهم الذاتية الأخرى كصلابتهم وشدّة بأسهم!!
    وبناء على هذه العقيدة التي يدينون بها ، تنقلب البلاد الثرية التي يدخلها الترك أو العرب إلى أراضي بور قاحلة بعد مدة وجيزة ذلك لأنهم لا يفكرون في المحافظة عليها أو ترقيتها ، بل يتركون ذلك على عاتق القدر الذي سيتكفل به بحسب تلك العقيدة. وعلى هذا الأساس أيضا نرى أن الأراضي الرسوبية الخصبة التي تقع على نهري دجلة والفرات انقلبت إلى صحارى وبراري أو مستنقعات تكون موطن الأمراض السارية التي تفد إلى أوروبا منذ وقعت في أيدي هذه الطائفة. وما زال سكنة هذه البلاد ـ العراق ـ من المسلمين يحملون في عروقهم خصالهم الطيبة الحسنة ولكن بتأثير عقائد الترك السخيفة تلك وأخذهم بعادة تعدّد الزوجات انقلبت حياتهم إلى فقر ومسكنة ولهذا

    السبب أيضا أخذ تعداد نفوسهم يقل يوما بعد يوم!
    وعلى أي حال ، كتبت اليوم أكثر من اللازم في الفلسفة والتفلسف؟ ولكن ما ذا أصنع وأحوال هذه البلاد المتردية قد دفعتني دفعا إلى ذلك العمل وأرجو معذرة القارئ (1) ..
    منذ وطئت قدمي أرض هذه البلاد ـ العراق ـ كنت أرى في كل خطوة أخطوها أن جراح هذا الشعب أعمق وأخطر من السابق .. وعندما أقيس ثروة وعظمة البابليين في القرون الماضية إلى فقر وانحطاط هذا الشعب الآن أدهش وينقبض صدري وأتألّم. كيف يمكن ألا يتألم الإنسان من مشاهدة تبدل الأراضي التي تحيط ببغداد إلى صحارى قاحلة لا ينبت فيها إلّا الشوك؟ في هذه الأرض بعينها في الزمن القديم ـ على حد قول هردوت ـ كانت الحبة الواحدة من الحنطة تنتج في الأقل ثلاثمائة حبة وكان عرض أوراق الحنطة والشعير يصل إلى أربع أصابع!!؟ فما الذي حدث لتلك المزارع الغنية تلك التي كانت تنتج من الذرة والسمسم مقادير كبيرة بحيث تدهش الجميع وتأخذ بألبابهم ، وهي التي يقول هردوت في ارتفاع سيقان مزروعاتها أنها كانت عالية بحيث خاف على نفسه الاختناق بينها!
    وهل التقصير مني؟ أن أخرج من دار القنصلية وأرى في كل خطوة أخطوها ما يبعث على القرف والألم من ظروف تركيا الآسيوية المتردية؟ وماذا في يدي ونفسي تذوب أسى لتلك المشاهد السود؟!
    عند عبورنا من البصرة رأينا سفينة مسلحة قد تركت .. لماذا؟ لأن مروحتها مختلّة بعض الشيء! أجل لقد تركت تلك السفينة التي ثمنها عدّة ملايين من الفرنكات في الأوحال والطين ، ولم يجشم أحد من المسؤولين نفسه أمر إصلاحها ولا سيما أن اختلالها ليس بالمهم الصعب ولا يكلف إلّا عشرات أو مئات الفرنكات؟!. وفي هذا اليوم ركبنا من الضفة اليمنى من نهر
    __________________
    (1) إن هذه الخيالات قد ألهمها إياها مترجمها الإيراني لغاية في نفسه وهي لا تعلم صدقه من كذبه لأنها تجهل عقائد المسلمين.


    دجلة الترامواي ـ حيث تقع هناك محطته ـ لكي يوصلنا إلى الكاظمين بفترة ربع ساعة أو عشرين دقيقة على أبعد احتمال!! ولكنها لم تكد تقطع نصف الطريق حتى توقفت عن السير وهبط السائق منها ورجا منا أن نترك الترامواي.
    وسألت عن سبب هذا التوقف فقيل لي إن أرض منعطف الطريق الصغير الذي بلغناه قد خسفت وإذا أراد الترامواي أن يتابع السير فلا محالة أنه يسقط على الأرض ، ولقد علمت أنه قد مضى على هذه القطعة الصغيرة المخربة من الطريق ثمانية عشر شهرا ولا يهتم أحد بإصلاحها وتعبيدها. وهل يصدق أحد أن المهندسين الترك اللاهين في مدة هذه السنة والنصف التي مرّت على انهدام هذه القطعة الصغيرة من الأرض لم يكلفوا أنفسهم شيئا سوى القيام بكشف أمرها ورفع التقارير عنها لتعميرها .. وهذا لم يتم حتى الآن وأعتقد أنه لن يتم إلى الأخير؟!
    ولقد وضعوا هنا عددا من الحمالين لدفع حافلة الترامواي ونقلها إلى

    الجهة الأخرى بعد أن يتركها الركاب. وهذه العملية تتم في دقائق ثقيلة وبجهد جهيد يبذله أولئك المساكين. ولما كانت المسافة بين بغداد والكاظمين لا تتجاوز الفرسخ الواحد كان من المنتظر أن يقطعها الترامواي في ربع ساعة أو عشرين دقيقة ولكن عملية النقل هذه لا تنتهي إلّا في أكثر من ربع ساعة يقضيها الركاب في انتظار مرّ .. لذلك يفضل بعضهم أن يقطع المسافة الباقية مشيا على الأقدام ، في حين أنه من الممكن إصلاح هذه القطعة ورفع السكة الهابطة في ساعة أو ساعتين بواسطة أولئك الحمالين أنفسهم.
    وتستطيع أن تقدر من خلال هذه الحادثة أوضاع هذه البلاد المتردية ودرجة عدم مبالاة المسؤولين للأمور العامة.
    يلاقي أهالي بغداد الأمرّين من هذا الترامواي المتواضع بحيث إنه لم يلاق الفرنسيون في حفر قناة السويس أو الامريكيون في مد الخطوط الحديد من أقصى قارتهم إلى أقصاها .. من نيويورك إلى سان فرنسسكو مثله.
    ولقد أنشأ هذا الطريق الحديد الذي لا يتجاوز طوله ستة كيلومترات مدحت باشا والي الترك على العراق. والواقع أن هذا الرجل قد انفرد بين الولاة العثمانيين المولين على هذه البلاد بإصلاحات جمة ومفيدة فيها. ولكنه على رغم ذلك كانت تعوزه بعض المهارة في تنفيذ مشاريعه الإصلاحية وإخراج أفكاره إلى حيز الوجود .. ولأضرب لكم مثلا! فالمهندس الذي استعان به ليصمم خريطة إنشاء هذا الطريق الحديد قال له إن للنهر بين هاتين المدينتين عواقيل ومنعطفات كثيرة ، فلا يمكننا والحالة هذه أن نشق طريقا مستقيما يصل بين المدينتين إلّا إذا أقيم جسر على النهر .. ووافق الوالي على الفكرة في البدء ولكنه عاد وعارض إنشاء الجسر لخوفه من كثرة تكاليفه الباهظة ، وفضّل أن يكون الطريق معوجا ملتويا في طريق ضيق مترب تسير فيه الدواب والحيوانات وأن يهدم بساتين الليمون ومزارع النخل وحقول الحبوب؟! لا لشيء سوى خوفه من أن تكون تكاليف هذا الجسر باهظة وكثيرة؟!
    ولما بقي من أشجار تلك البساتين منظر خلّاب جميل أخذ بمجامع قلبي


    كما أن رائحتها الذكية العطرة جعلتني كالمنتشية ، وكم تأسفت على أني قطعت هذا الطريق وأنا راكبة في هذه الحافلة وحرمت نفسي هذه المتعة الرائعة بذلك المنظر!!
    ولكنه لم يطل كثيرا حتى انقلبت تلك المشاهد الجميلة المعطرة إلى أراض قاحلة ليس فيها زرع ولا نبات .. اللهم إلّا مجاري وسواقي للمياه عتيقة مندرسة تذكر بوجود مزارع واسعة كبيرة في قديم الأيام.
    والواقع أن مناظر هذه الأراضي كانت تبعث على الأسى والوحشة والضيق بعد أن مررنا بتلك المزارع الفتانة التي لا أدري كيف انتهت وانقلبت إلى هذا الشكل بهذه السرعة!
    * * *
    عند خروجنا من بغداد كانت تبدو عن بعد بين قمم النخل السامقة رؤوس أربع منائر ذهبية متلألئة وهي منائر مقبرة الإمام موسى الكاظم وعندما قربنا منها رأيت بين أغصان وأوراق الأشجار المتكاثفة التي تملأ طريقنا ، قبتين جميلتين متلألئة تشبهان إلى حد بعيد قبة مدينة «قم» في إيران من حيث الشكل وطليهما بالذهب البراق من الخارج.
    وأخيرا بلغنا الكاظمين وهبطنا من الترامواي في محطته التي تقع قرب

    بوابة المدينة الكبرى وسمعنا خادم القنصلية الذي كان معنا يدعونا بصوت مرتفع وبلهجة تركية لا نفهمها جيدا إلى مقهى قريب وقال : «ينبغي أن نمكث هنا في انتظار الترامواي الذي سيقدم بعد ساعتين من بغداد»! لقد كان يظن صاحبنا المسكين هذا أننا لم نقدم إلى هنا إلّا لنتنزه في ركوبنا بهذه الحافلة المهشمة وبهذا الطريق المهدم ، ولعله كان يحسبنا على هذا الأساس ناسا معتوهين ولكننا أفهمناه بالإيماء تارة وبالألفاظ تارة أخرى أننا لم نقدم هنا إلّا لكي نزور المسجد والمقبرة التي هناك ، وينبغي لنا بغير تردد أن نذهب لرؤيتهما. وما إن علم بقصدي هذا حتى بدأ الاضطراب والقلق على وجهه واضحا جليّا بيد أن إصراري أجبره على الإذعان لمشيئتنا.
    تظهر أزقة الكاظمين أنظف من أزقة بغداد وأن أغلب أهالي هذه المدينة وكسبتها هم من الإيرانيين الذين جاؤوا لزيارة العتبات المقدسة في العراق وبقوا فيها.
    وبعد أن جبنا قسما من الأزقة والأسواق سار بنا الدليل إلى فسحة كبيرة من الأرض وضعت في الجهات الثلاث منها كميات كبيرة من الخضروات والفواكه ، أما الجهة الأخيرة التي كانت تقابل باب المقبرة فإنها كانت خالية من كل شيء ، وكان العمال يدخلون منها زرافات ووحدانا ولقد دخلت أنا كذلك منها وعبرت خلال أكوام البطيخ والرقي والكلم (اللهانه) بصعوبة وألم ولكنني كنت فرحة على رغم ذلك .. لأنني كما كنت أقول لنفسي ـ ها أنذا اطلع الآن على تلك المقبرة التاريخية التي طالما تمنيت رؤيتها. ولكن أي وهم كان هذا وأي خيال .. فما كاد باعة الخضروات يعرفون بغيتنا حتى تجمهروا حيالنا ومنعونا من الدخول وقالوا : «الدخول إلى ضريح الإمام موسى الكاظم ممنوع .. أنتم نصارى وليس لكم الدخول إلى مثل هذا المرقد الشريف فأنتم أجدر أن تعودوا أدراجكم وتصرفوا النظر عن تحقيق هذه الرغبة»!!
    دهشنا نحن لهذه الأقوال ووقفنا مأخوذين كالمسمّرين في مكاننا لا نبدي حراكا لا للهجتهم وأسلوب حديثهم ، فالواقع أنهم كانوا يتحدثون معنا بأدب ولطف جم ولكننا دهشنا للسبب التافه في منع دخولنا ..

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:52 pm

    وعلى أي حال أخذ تجمهر الناس يزيد فترة بعد فترة علينا وأخذ جماعة منهم يلومون خادم القنصلية على مرافقته لنا لتحقيق رغبتنا هذه. ورد عليهم الخادم بألفاظ لم نفهمها كانت السبب في هيجان الجمهور المحتشد وإبعاده عن المكان بالقوة وبألفاظ نابية جارحة. وتأثر الخادم المسكين كثيرا لما لحقه من إهانة ، فأراد أن يجرد سيفه من الغلاف ويهجم على هؤلاء المتجمهرين ولكن زوجي مارسل أمسكه من زنده ومنعه من ذلك مخافة أن نقتل جميعا إذا ما أريقت قطرة واحدة من الدم. بيد أن الخادم أبى الإذعان في بادئ الأمر فأخذ يضرب يمنة ويسرة ويحاول التخلص من كفي زوجي القويتين لينتقم ممن ألحقوا به الإهانة!! ولقد ذكرتني هذه الحادثة بحادثة سبق أن اتفقت لنا عند ما أردنا زيارة مرقد «إمام زاده جعفر» في أصفهان من أعمال إيران.
    سألني مارسل ماذا يجب أن نعمل بعد كل هذه التطورات؟ أجبته بعد لحظة من التفكير : أرى من الأولى أن نعود من حيث أتينا ونحفظ أنفسنا من القتل. لأننا لم نعد تستطيع بعد هذه الوقائع أن نزور المقبرة ما دام تجمهر الناس على أشدّه ، كما أن موظفي الترك لا يقدمون لنا أية مساعدة في تحقيق رغبتنا هذه .. ولا نستطيع كذلك أن نبادر إلى استعمال القوة مع الإيرانيين في مثل العمل لأنه لم يبق لهم من نفوذ في هذه البلاد سوى هذه الامتيازات المذهبية التي يقدسونها ويحافظون عليها.
    ولو كنا قد أقبلنا بمفردنا بغير خادم القنصلية اللعين الذي سبّب تطوير القضية إلى هذا النحو ، ولو استعنا بزعماء الشيعة من رجال الدين لاستحصال إجازة خاصة منهم للقيام بزيارتنا كان تحقيق رغبتنا لا شك فيه ، ولكن الآن قد خسرنا اللعبة ولا حيلة لنا إلّا في العودة والعود أحمد.
    حال الأوروبيين الذين يعيشون في تركيا (1) سيئ مؤلم وإن كانوا تبعة دول أقوياء كإنكلترا وفرنسا. فلو أن نصرانيّا ضويق في حياته أو معاشه وحتى إذا قتل فإن اعتراضات واحتجاجات القنصل لا تثمر شيئا والمذنب والمجرم
    __________________
    (1) في كل مكان من هذه الرحلة يرد اسم ترك أو تركيا فالقصد تركيا العثمانية القديمة.

    يبقى حرّا طليقا دون أن يصيبه أذى ، وحتى لو قبض عليه وقدم إلى ساحة العدل فسرعان ما تبرئ المحكمة ساحته وتطلق سراحه. والإنكليز المغرورون الذين يفخرون بنفوذهم في الشرق لا ينجون كذلك مما يلاقيه الأوروبيون الآخرون كما أن الموظفين الأتراك لا يصغون إلى شكاويهم من العذاب الذي يسببه لهم الأهلون والكلمات النابية التي يسمعونهم إياها ..
    وقبل مدّة قليلة قدم أحد الصحفيين الإنكليز من نيوهافن (1) إلى هذه البلاد واشتجر مع أحد الأهليين في نزاع قتل على أثره وقطع جسمه إربا إربا بالسكين. وعلى رغم أن القنصل البريطاني كان يعلم اسم القاتل ولديه أدلة كثيرة قاطعة على قيامه بالجريمة ، لم تثمر محاولاته ولم يجد سعيه لدى المسؤولين من الاقتصاص منه وظل القاتل وهو رجل تركي يباشر عمله بحرية واطمئنان.
    فالإنسان العاقل على أي حال ينبغي أن يعتبر بمثل هذه الحوادث وأن يتمسك بأهداب الحذر والحيطة في كل عمل يقوم به هنا في هذه البلاد العجيبة ، وأن يحسب ألف حساب لكل خطوة يخطوها. لذلك فضلنا نحن أن نخرج من هذا المعترك دون أن نبدي حمقا وطيشا. سرت أنا أولا ثم تبعني مارسل وكان في مركز الحلقة المضروبة حولنا وهو ممسك بيد خادم القنصلية يجره معه. وبعد لأي وصلنا إلى زقاق ضيق وابتعدنا عن ذلك الجمهور المحتشد الذي أخذ يشبعنا بألفاظ نابية ويرمي بقطع من الأثمار والخضروات علينا ولكن من حسن الحظ أنها كانت فاسدة لينة لم تصب منا مقتلا.
    في أثناء تلك الحوادث التي كان زوجي مارسل يتحمل فيها ضربات وألفاظ ذلك الجمع المتجمهر الحانق ، لم أضع الفرصة من يدي فلقد استغللت فرصة انشغال الجمهور وأخذت اتطلع من شق باب المقبرة التي كانت مفتوحة على النصف إلى داخلها واستطعت أن أشهد بعض مرافق المقبرة والباب الذي كان في نهايته صحن واسع جميل. وهذا الباب ـ كما تراءى لي عن كثب ـ
    __________________
    (1) NewHaven إحدى موانئ إنكلترا الواقعة على بحر المانش.

    مصنوع من الكاشي الملون الذي زوّق بالميناء بشكل أخاذ ، وأمام هذه الباب يقع رواق طويل تحيط به من الجوانب أعمدة ضيقة مزينة بقطع من المرايا على أشكال هندسية مختلفة. وعلى العموم لو لم تكن لهذه البناية قبتان ذهبيتان لكان منظرها يعيد إلى الأذهان منظر قصر «چهل ستون» ـ قصر تاريخي قديم ومعنى اسمه «القصر ذو الأربعين عمودا» ـ في أصفهان.
    وفي زوايا البناية أربع منائر مرتفعة مطلية أعاليها بالذهب. أما بقية أقسامها فهي من الكاشي الأخضر. وفي هذه المآذن يقف المؤذنون ويدعون المؤمنين إلى الصلاة. وفي جوانب القبتين كانت تتراءى لي أبراج صغيرة شبيهة إلى حد بعيد بمحلات الرقابة التي في أعالي القلاع الحربية.
    والخلاصة .. ما إن نجونا من حلقة ذلك الجمهور المحتشد وابتعدنا عنه حتى أخذنا نجول في أطراف المقبرة ونتفرج على جدرانها من الخارج متحررين من كل قيد أو خوف ، ثم كان أن تشجعنا بعض الشيء فأخذنا ننظر خلال شقوق أبواب المقبرة إلى داخلها بكثير من الحذر والوجل واستطعنا أن نرى ما تحتويه البناية فكانت إلى جانب المقبرة والمسجد مدرسة وبضع خانات وحمامات أنشئت خصيصا للزوار والمصلين ..
    مسجد الكاظمين هذا أنشئ في العهود الإسلامية الأولى بصورة بسيطة ولكن الشيعة أضافوا إليه قسما من المرافق كما زينوا جدرانه بنقوش وبفسيفساء ، على حسب الفن العماري الإيراني منذ قريب بحيث ما زال البلاط نديّا كما أن قسما من تلك الجدران لم يتم عمله حتى الآن وأن أقساما من القبب المذهبة تبدو متهدمة تشوه منظرها الجذاب!!
    وبعد أن جلنا في أطراف المقبرة اضطررنا أن نذهب إلى مقهى قريب لننتظر مجيء الترامواي. ولقد قابلنا في عودتنا ببرود وبعدم اهتمام ، ألفاظ وأذى فئة من الأطفال السائبين الذين أخذوا بتعقيبنا وبالترفيه عن أنفسهم بالنيل منا وتجريح مشاعرنا!
    كان المقهى الذي جلسنا فيه صغيرا بعض الشيء وبعد أن أخذنا مكاننا وحسونا فنجانين من القهوة وبضعة أقداح من الشراب استرجعنا أنفاسنا مما


    لقينا وعاد الهدوء والأمن إلى نفس خادم القنصلية الذي عذب وأؤذي لكونه سنيا يرتدي الطربوش الأحمر ولمرافقته لنا نحن الأوروبيين!
    بعد مدة من الانتظار تحرك الترامواي ينهب الأرض نهبا ، ولما كانت هذه آخر مرة يقود السائق عربة الترامواي في هذا اليوم أخذ يلهب ظهر الجياد بالسوط بقساوة وضراوة ليزيد من سرعتها ، فيصل إلى منزله في أقرب فرصة ممكنة دون أن يفكر بعواقب عمله الخطر هذا كأن تخرج العربة من السكة أو تنقلب ولا سيما والحافلة كانت مكتظة بالركاب وهؤلاء الركاب كانوا من طبقات مختلفة ومن أديان شتى فيهم اليهودي والنصراني والمسلم وكانوا كالسمك الطري الذي يوضع في الإناء لشيه ، يرتفعون ويهبطون حسب سير واهتزاز الحافلة!!
    وما إن خرجت الحافلة من السكة ووقفت برهة حتى وجدنا الفرصة لنتنفس الصعداء .. ولكنها لما عادت إلى السير مرة أخرى كان سيرها أسرع من قبل وأخذت النسوة في الصراخ والعويل من الخوف ، أما السائق فلم يعر كل ذلك اهتماما فزاد من إلهاب ظهر الجياد بسوطه وكانت سرعة الحافلة تزيد بنسبة ذلك وحتى وصولنا إلى طرق وأزقة ضيقة لم يعمل على تخفيف سرعة الترامواي .. في تلك الطرق التي كانت حركة مرور الناس على أشدها.
    وفي أحد تلك الأزقة الضيقة مررنا بمجموعة من الحمير يحمل كل منها سمكة كبيرة واحدة وهو ينوء بحمله هذا بشكل ظاهر.
    وهذه الأسماك الضخمة التي توجد في مياه نهر دجلة تسمى في العراق

    ب «تبى» (1) «؟» إلّا أنه ليس لها تلك المزايا التي ذكرت في التوراة من أنها تعيد إلى العميان النور. ذلك لأن العميان الكثيرين الذين في بغداد اليوم يثبتون هذه الحقيقة التي أقولها! ولكنها على رغم ذلك تعد مصدرا مهمّا من مصادر غذاء الطبقات الفقيرة في هذه البلاد الذين لا تسمح حالتهم المالية بشراء لحوم الغنم الغالية فيعتمدون في غذائهم على لحوم هذه الأسماك الرخيصة عوضا عن ذلك.
    وفي هذه الأثناء حدث هرج ومرج إذ ذعرت الحمير لمفاجأة الترامواي لها ورمت أحمالها على الأرض وأخذ أصحابها يسبون ويلعنون سائق الترامواي بلهجة خشنة والسائق يجيبهم. والواقع أن ذلك كان مشهدا تمثيليّا رائعا وما كان أشد أسفي على أني لم أفهم معاني هذه الألفاظ المتبادلة بالضبط ولم أستطع أن أحفظها لسرعة سير الترامواي!
    ولقد علمت أن السفرات الأخيرة بين بغداد والكاظمين تتم على هذه الشاكلة كل يوم وأنه كثيرا ما تقع حوادث مؤسفة يذهب ضحيتها عدد من الركاب ولكن الأمر الذي يبعث على العجب والدهش هو أنه لم يرفع أحد عقيرته بالشكوى عن تصرفات السائقين تلك ، وأغرب من ذلك أن هؤلاء السائقين لا يعدون أنفسهم مسؤولين عن تلك الحوادث المؤسفة بل يردونها إلى أحكام القضاء والقدر وما يريده الله لعباده. والمهم أننا وصلنا إلى المنزل سالمين ، لم يحدث لنا في هذا الطريق الخطر ما وقع لجماعة من الركاب من حوادث كسر الأيدي والأرجل وما شابه ذلك ، إلّا أن خادم القنصلية المسكين لاحقه الشؤم ولم ينج من تلك الأحداث فكان نصيبه أن فقئت إحدى عينيه وأصابته رضوض وعدة جراح في رأسه! ولو أردت الدقة لقلت بأن الشيء الوحيد الذي كان لحقني هو أن تلوثت ملابسي بكمية كبيرة من العسل ، إذ كان أحد الركاب يحمل معه كوزا من العسل لم يستطع أن يحافظ عليه خلال حركة
    __________________
    (1) المعروف عند عامة أهل بغداد أنها تسمى «البزّ» فلعلّ السائحة أخذت الاسم من منطقة أخرى. «المترجم»

    الترامواي المترجرجة فطفح بعض ذلك على ملابسي. والغريب أن صاحبي هذا أخذ يلعن الأرض والسماء لا لشيء إلّا لأنه فقد بعض عسله!! أما ما سببه لي من تلويث ملا بسي فلم يكن بالبداهة بالشيء المهم عنده.
    إن كنا قد لقينا كل تلك المصاعب والمشاق في سفرتنا القصيرة هذه ولم نستطع أن نصل إلى نتيجة مفيدة تذكر ، فمن حسن الحظ أنه قد وعدنا المسيو «موجل» الذي يعمل هنا كمهندس أن يعطينا صورة واضحة للمقبرة بكافة مرافقها بعد أن نقلنا إليه تفاصيل سفرتنا غير الموفقة هذه.
    ولقد كان يقول المسيو موجل إنه أيضا لم يستطع الدخول إلى المقبرة بحرية لكونه نصرانيّا ولكنه اختلت ذات يوم الساعة الدقاقة الكبيرة فيها فطلب منه إصلاحها وعندئذ حمل مع أدواته الهندسية آلات تصويره الدقيقة والتقط عدّة صور من على سطح المقبرة ومن جوانبها المختلفة ..
    ولقد وفى المسيو موجل الطيب القلب بوعده فأعطانا تلك الصور الجميلة ، فشكرنا له جميل عاطفته وحسن مودته!!
    والخلاصة .. أننا أمضينا بقية ذلك اليوم نتجاذب أطراف الحديث ونحن متحلقون حول المدفأة بمجموعنا .. ولقد اكتشفت أن لمدام پرتيه زوج القنصل الفرنسي صفات جديدة أخرى ، فقد بدت صاحبة نكتة حاضرة وبديهة سريعة كما أنها حدثتنا بلسانها العذب عن معرفتها لكثير من السياح والمسافرين الأجانب الذين زاروا هذه البلاد وعرضت علينا صورا جميلة رسمتها بيدها ، والواقع أنها كانت صورا تدل على مهارة وحذق في فن الرسم ومن تلك الرسوم كانت مشاهد تمثل شخصيات يهودية مضحكة رأتها بعينها. ومما ذكرته لنا قولها : هل أتيح لكم مشاهدة المسيو ...؟ إنني لا أود أن أذكر لكم اسم هذا الشخص ولكنني أود أن تعرفوا أي آدمي كان هذا؟ ويكفي أن أذكر لكم أن صاحبنا البطل هذا قد ساح جميع مناحي ومناطق الحبشة وأنه زار الهند أيضا. فهل عرفتم أي عالم متبحر كان؟ وأنه كان صاحب مرتب ألف وخمسمائة فرنك شهريّا لا يدري كيف يصرف هذه المبالغ الكبيرة وفي أي الوجوه.
    وبمجرد وصول هذا الشخص المحترم إلى بغداد وقد كان صديق نكوس

    ثيودوروس (1)! رغب في أن يزور آثار بابل .. وبسرعة هيئت وسائل سفره وتحرك مع رفقائه وبعد ثمانية أيام من حركتهم هذه عادوا إلى دار القنصلية والعرق يتصبّب من أجسامهم وأنفاسهم تتلاحق حتى يخيل إلى الرائي أنهم يكادون يموتون إعياء ونصبا! وبمجرد وصولهم ذهبوا توّا إلى غرفهم الخاصة ليغتسلوا ويبدلوا ملابسهم التي كانت ألوانها قد تغيرت بالغبار والتراب. أما صاحبنا المسيو .... فقد فضّل أن يجلس إلى جانبي في الصالون ويحدثني عن نزهته أو مغامرته على الأصح ، وما زال عليه وعثاء الطريق والغبار يغطي رأسه وملابسه بشكل يبعث على القرف. ولقد خيّل إليّ أول الأمر أن ضيفي هذا مراعاة للأدب والمجاملة لم يذهب إلى غرفته لينظف نفسه لذلك رأيتني أفهمه بالتلميح طورا وبالتصريح أخرى بأنه حر إذا ما أراد أن يذهب للاستحمام وطلب الراحة ، ولا سيما أنه يبدو متعبا أكثر ممن سواه والتراب يغطيه بصورة أبشع من غيره ..
    بيد أنه لم تجد كل تلك المحاولات معه حتى لم أر بدّا من القول له : بأني قائمة الآن لكي أرى أهيّؤوا لك الصابون وأدوات الحلاقة أم لا؟
    ردّ علي صاحبي بقوله : إنني أشكر لك هذه العناية بي شكرا جزيلا .. ولكن اطمأني يا سيدتي بأنني لا أحلق ذقني هذا اليوم .. إنني كأي رجل عاقل اعتدت أن أحمل معي ضروريات حياتي .. وهنا رأيته يمد يده إلى جيبه ويخرج منه سكينا مثلومة وقطعة من الصابون وأردف بقوله : إنني قبل أن آخذ مكاني في السفينة وأبحر من مرسيليا قد حملت معي لوازم سفري .. ثم أشار إلى السكين وقطعة الصابون!
    عجبا .. أو تركت مارسيليا منذ مدة طويلة؟
    لا .. ولكنها تقرب من ثلاث سنين ولما رأيت قطعة الصابون على وشك النفاد فقد صرفت النظر عن حلاقة قسم من لحيتي وتركتها تطول .. وفي هذه الأثناء كشف أطراف ثوب صوفي قصير كان يرتديه فبانت لحيته الكثة التي
    __________________
    (1) Negus ـ Theodoros أحد ملوك الحبشة.

    كانت تشبه إلى حد بعيد بحصير منسوج يبلغ طولها ثلاثين سنتيمترا ولكي يتخلص من مشاق تمشيطها كان يخفيها تحت ملابسه على تلك الصورة الغريبة التي لم يسبقه إليها أحد! فقلت له :
    الواقع إنه شيء عجيب .. إنك تحمل فكرا عمليّا مجيدا.
    أجل .. أجل. إنني متمرس بأمور الرحلات والسفرات البعيدة وخبير بشؤونها وأحمل على الدوام معي حاجاتها الضرورية. وبهذا الشكل سحت في بلاد الحبشة كلها وأمتعتي كانت منحصرة بمقوى قبعتي!!؟ لا غير.
    أين كنت تضع ملابسك إذن؟
    بعضها في جيبي أخرجها وقت الحاجة ، أما البقية فكنت أرتديها الواحد فوق الآخر وأذكر أنني عندما أبحرت من مرسيليا كنت أرتدي خمسة أثواب بعضها على بعض .. وما إن كنت أشعر بأن الثوب الفوقاني قد اتسخ حتى أخلعه لكي يظهر الثوب الذي خلفه نظيفا في عيون الناس. والآن لم يبق من تلك الأثواب إلّا ثوبان على جسدي وأعتقد أنهما سيوصلانني إلى فرنسا ..
    وفي هذه الأثناء التي كنا نتحدث فيها وأنا مأخوذة بغرابة أطوار هذا الإنسان الذي لا أدري بما ذا أصفه دخل الخادم علينا وسأل الضيف المحترم أيحتاج إلى الماء البارد أم الساخن؟
    لا أحتاج إلى كليهما .. لا الماء البارد ولا الساخن إنني منذ مدة قد تحررت من مثل هذه العادات السخيفة ..
    أجاب صاحبنا المغوار ، الخادم بهذا الجواب المقتضب وكانت لهجته حادة وشديدة بعض الشيء حتى خيّل إليّ أنه قد شعر بإهانة تلحق به من سؤال الخادم المسكين!!؟ ومن ثم تابع كلامه على الفور وأخذ يسرد عليّ قصص مغامراته وغريب آرائه ومبادئه؟! كأنه لم يحدث أي شيء ..
    وهنا رأيت مدام پرتيه بعد سردها هذه القصة الغريبة تقول وتعلو ثغرها ابتسامة جميلة : وهل تصدقون بعد كل ذلك أن ضيفي المحترم هذا بعد فراغه من اعترافاته وأحاديثه أمسك بيدي وقال : لنذهب معا إلى حجرة الطعام وإنني

    لم أرد بدّا ـ بالطبع ـ من مصاحبته على رغم أنني كنت قد شاهدت أكوام القمل وطفيليات صغيرة تسرح وتمرح على لحيته الكثة وملابسه القذرة .. ويغلب على الظن أن هذا الرجل الجليل كان يريد أن يحمل تلك الحيوانات الصغيرة من الحبشة إلى فرنسا كهدايا إلى أصدقائه ومعارفه!!
    * * *
    وهنا دخل الخادم وقال لمدام پرتيه : إن الغداء قد تهيأ ..
    وقبل أن نترك مجلسنا رأيت مدام پرتيه تقول وهي تحدجني بطرف عينها والابتسامة ما زالت تعلو شفتيها : «والآن أنت الرجل الذي ينبغي أن أصاحبه وهو يمسك بيدي» ثم أردفت بقولها : «اسعوا أن تكونوا طيبي العشرة لا كضيفنا الثقيل المذكور»!!
    في تلك اللحظة عرفت قصد مدام پرتيه من سردها قصة مغامرنا الغريب ذلك وانتبهت إلى أنها تعرف مشكلتي العويصة ، فاحمرت وجنتاي خجلا وأحسست جبيني يتفصد عرقا!؟ إذ إنني كنت أشكو وجود القمل والطفيليات الأخرى في جسمي بحيث لم يقض عليها استحمامي المكرر وتبديل ملابسي منذ وصلت إلى هذه المدينة ، والواقع أنني خلال سفرتي في ايران ونزولي مع زوجي في منازل قذرة في الطريق كان ذلك سببا في تلويث ملابسي وأن يجد القمل طريقه إليها وأن يتكاثر وأن يعشش فيها ..
    وعلى أي حال لم أكن كصاحبنا المجهول الذي ذكرته مدام پرتيه وذكرت خوفه من الماء البارد والحار على السواء بل على العكس كنت اغتسل على الدوام ولكن المؤسف هو أنني كنت غافلة عن أن مياه البحر المالحة ـ على خلاف تقديري ـ تسبب تكثير القمل.
    وإنني لم أصب بهذه «الكارثة» إلّا بفعل زيادة استحمامي بمياه الخليج في مدينة بوشهر الإيرانية التي أقمنا بها مدة طلبا للراحة وتخلصا من أوضار الطريق وقمله!
    وأيّا كان الأمر فلم أر بدّا في النهاية من أن أحلق شعر رأسي كله

    وأضحي به في سبيل أن أكون طيبة العشرة كما أرادت مدام پرتيه وأن أتخلص من هذا القمل اللعين ..
    ولقد كان منظري عندئذ يبعث على الضحك والسخرية فقد كان رأسي يشبه إلى حد بعيد رؤوس المجرمين الذين يحلقون شعورهم انتظارا لتنفيذ حكم الإعدام بهم ..
    ولكن المؤسف أنه على رغم كل ذلك لم تثمر محاولاتي وتضحياتي تلك شيئا في (كارثة) القمل التي أصبت بها فبقيت أشكو منها الأمرّين قبل أن تشكو مدام پرتيه وبطانتها!!
    19 ـ ديسمبر 1881 :
    قمت اليوم بزيارة المقابر الواقعة على الضفة اليسرى (1) من نهر دجلة قرب بغداد. ووجدتها منطقة واسعة تشغل مسافة كبيرة من الأراضي البور خارج هذه المدينة العظيمة. بيد أنني لم أجد فيها ما يلفت نظري ويستحق أن يذكر كالمتنزهات مثلا الموجودة في المقابر الأوروبية أو التشجير الذي يؤخذ به ليرفع عن زائر هذه الأماكن الوحشة والكآبة المخيمتين عليها!
    ولكن الذي أثارني هو منظر السماء الصافية وروعة الشمس المشرقة ورأيتني أقول مع نفسي : ليس من عجب إذن كما لم يكن عبثا والشمس بهذه الروعة والإشراق ـ أن تعتقد الشعوب الشرقية في القديم بأنها رب الحياة وأن النور دليل الخير وعلمه.
    وعلى أي حال كانت هذه المقبرة أقل كآبة وحزنا من اسطنبول وموتى هذه المدينة! لا يحسون بالكآبة كما يحس أبناء اسطنبول!
    وتقع أوسع مناطق هذه المقابر في أطراف مقبرة أخي هارون الرشيد (2)
    __________________
    (1) لعلّها الضفّة اليمنى.
    (2) لم نقف على تاريخ أخي هارون الرشيد هذا ولا مقبرته ولعل السائحة أخذت ذلك من أقوال العامة يومئذ أو لعلها تقصد تربة السيدة زمرد خاتون المعروفة في العصور

    ويتقدمها شارع فيه عدد كبير من النخل تحط فوقها طيور ملونة جميلة وتصوت أنغاما شجية تبعث على نشاط زوار مدينة الموتى وترفع عنهم كآبة المكان ووحشته بعض الشيء بعد أن أبت السلطات التركية أن تعمل من جانبها أي شيء من هذا القبيل.
    تنشأ قبور هذه المقابر بحسب جنس الميت إما مسطحة وإما محدبة وكلها مبنية بالطين والآجر «الطابوق» أو بأشياء صلبة أخرى.
    وعندما كنت أقف متفرجة على برج عظيم رمادي اللون يميل إلى الزرقة قليلا في أرض معشوشبة صفراء يقع على بعد قليل منا كما أن منائر الكاظمين المذهبة تتراءى من بعيد .. عند ما كنت أتطلع على هذه المناظر الجذابة وأنقل بصري بينها مأخوذة دهشة تعالت فجأة على مقربة منا الصيحات والعويل والبكاء ، ونظرت وإذا جمع غفير من الأهلين يتقدمون بمظاهرة حزينة وهم يحملون تابوتا على أكتافهم لفوه بشال أخضر كبير وعلى مقدمته وضعوا ما يشبه التاج!!
    ولقد علمت بعدئذ ان أحد أتقياء بغداد قد استدعي إلى الجنة ـ كما قيل لي ـ وبعد أن تمّت مراسيم الدفن وتفرّق الجمع الكبير عادت الطيور إلى أوكارها تغرد عودا على بدء أنغامها الشجيّة التي قطعتها مظاهرة هؤلاء الآدميين الحزينة!!
    وتركنا هذه المقابر أيضا وقصدنا بناية كان فيها عدد من القبب وهي تبدو كأنها أعلى من جدرانها بعض الشيء!! طرقنا بابها الحديدي الكبير وعلى الأثر فتح باب صغير وخرج منه حارس المكان ومد يده إلينا يطلب من كل واحد منا قرانا باسم الحلوان (البقشيش) .. أجابه مارسل بسرعة إلى سؤاله لأنه لا يمكن
    __________________
    الأخيرة بالست زبيدة زوجة هارون الرشيد ، وستذكر السائحة فيما يأتي أنها مقبرة «زوجة هارون الرشيد» على حسب قول العامة في أيام سياحتها .. ومن الأساطير الشائعة عند بعض العامة في وقتنا هذا أن بهلول هو أخي الخليفة هارون الرشيد وهذا قبره!. «المترجم»

    الدخول في هذا المكان ومشاهدة طرز بنائه بأقل من هذا المبلغ الزهيد لا سيما وهي مقبرة تاريخية ، كما قال لي مارسل لرجل أوقف الشمس على ما تقول الروايات. وعلى الفور سمعنا قرقرة الباب الحديدي ورأينا أنفسنا في صحن هذه المقبرة الصغيرة.
    هذه المقبرة الخالية من جدث أي ميت أنشئت لحمل اسم جوزه وتخليده (1) وعلى جوانب طاق الباب الذي دخلنا منه كانت عبارات عبرية كتبت على الطابوق بلون أخضر أو أصفر وبعد مرورنا منه واجهنا باب صغير وهنا كان يقف شخص آخر وطلب الحلوان (البقشيش) كذلك (2)؟!
    ولا أدري هل حسبونا «روشيلر» (3) لكي يطلبوا منا الإنعام مرة بعد مرة. إن طمع هؤلاء يفوق طمع خدم وحراس الكنائس الكبيرة في أوروبا. ولم نر بدّا من إجابة طلب الخادم هذا ، وفتح على الأثر الباب ودخلنا إلى القسم الداخلي من هذه المقبرة ولكننا تأسفنا كثيرا على أننا لم نجد هنا شيئا يستحق المشاهدة وحتى يستحق البقشيش الثاني. وكل الذي شاهدناه هو وجود صالون أنشئ من الجص ليس فيه أي فن أو جمال ، والبناية عارية من كل تزويق ولم تكن مشاهدتها تسوى ثمانية فرنكات التي دفعناها لخدمها ولا نصف الساعة الذي أمضيناه في الوصول إليها ، ولقد خيل إليّ أن حراس هذا المكان اتخذوا هذه المقبرة كمينا لسلب العابرين فرنكاتهم!!
    ولكن على رغم ذلك لهذه المقبرة البسيطة منزلة جليلة في نفوس اليهود لا عند الذين يسكنون بغداد وأطرافها أو في المناطق الشمالية من بلاد بين
    __________________
    (1) Gosui هو الذي ادعى زعامة العبريين بعد موسى (عليه‌السلام) وقام بفتح بلاد الكنعانيين وبحسب روايات التوراة انه تحارب مع ملك بيت المقدس وأمر الشمس أن تقف ريثما ينتهي من فتوحاته وانتصاراته. واليهود يسمّونه «يشوع» أو «يوشع بن نون» أو «يوشوعا»؟!
    (2) الظاهر انها أرادت مقبرة النبي يوشع المزوّرة في الجانب الغربي من بغداد. «المترجم»
    (3) تعني الثري والصيرفي اليهودي المشهور بثروته وأمواله روتشيلر؟!

    النهرين فحسب ، بل حتى لدى الذين هم في الأصقاع البعيدة عن العراق فيأتون لزيارتها زرافات ووحدانا في مواسم معينة خاصة من السنة.
    وتدلنا كثرة الأبنية اليهودية المنشأة في العراق كمقبرة يوشع وعزرا وحرية بنائها على ما تتمتع به هذه الطائفة من القدرة وعلى كثرة عددهم (؟)! في هذه البلاد! (1) ولا أدري أهؤلاء اليهود هم من أعقاب البابليين الذين هاجروا إلى هذه البلاد في سنة (1030) بعد الميلاد أم هم الذين هاجروا إليها في زمن الخلفاء (؟) لكي ينجوا من حقد وعداء الأمم الأوروبية ويكونوا في مأمن من سطوتهم وعذابهم.
    وعلى أي حال فاليهود في هذه المدينة يتمتعون بقوة ، وتكاد شؤونها التجارية والاقتصادية تنحصر في أفرادهم لذلك تكوّنت هذه الطائفة الثرية المتمولة في البلاد.

    يختلف حي اليهود عن الأحياء الإسلامية بشكل واضح بيّن في الوهلة الأولى. فلمنازل الإسرائيليين شبابيك ومشارف ذوات سياج حديدي تطل على الأزقة ، وتستطيع النسوة اليهوديات مشاهدة المارين خلالها ، دون أن يستطيع هؤلاء مشاهدتهن.
    والمرأة اليهودية على العموم منزوية في البيت قلما تخرج إلى الخارج وهي لا تتبرج كثيرا ، وتنحو نحو البساطة في أمور التواليت ولكنهن في المناسبات الخاصة يزين أيديهن
    __________________
    (1) فات الرحالة هنا أن اليهود لم يكونوا يتمتّعون بقدرة أو سطوة ، بل كانوا يتمتّعون باحترام أهالي البلاد كما كان شأنهم مع بقية أفراد الطوائف الأخرى. «المترجم»

    وصدورهن بأسورة وقلائد ذهب نفيسة وجواهر ثمينة. واليهود هنا يرغبون في اقتناء الجواهر والمعادن النفيسة كثيرا إلى حد الجنون ، ذلك لأنهم يستطيعون أن يخفوا ثرواتهم وقت الحاجة أو حملها معهم عند الفرار!!
    وزيادة على الخواتم والأسورة والأقراط المصنوعة من الألماس أي (البرلانت) أو المرصّعة بهما التي تتزين بها البنات اليهوديات في الأعياد والمناسبات الخاصة ، وكل منها يعد غاليا جدّا ونادر الوجود فقد سمعت الشيء الكثير عن القلائد ذات الأطواق الستة المصنوعة من اللؤلؤ الناصع الذي تتزين بها بنات الصيارفة اليهود المعروفين.
    وعلى أي حال فأنت إذا استطعت الدخول في مقبرة (يوشع) غير المهمة يدفع الحلوان (البقشيش) ـ كما فعلنا ـ أو بطريقة أخرى .. فلن تستطيع قط الدخول في مقبرة زوج الخليفة هارون الرشيد «الخليفة العظيم الذي أرسل هيئة تحمل الهدايا إلى بلاط شارلمان» (1) اللهم إلّا إذا كنت أحد الطيور التي تدخل فيها من خلال ثقوب قبتها المخروطية الشكل ..
    ويغلب على الظن أن سبب إغلاق باب هذه المقبرة يعود إلى أمرين أحدهما احترام منزلة الست زبيدة التي كانت زوج الخليفة العظيم وعدم الإذن لكل من هب ودب للدخول إليها .. والآخر المحافظة على المقبرة من تجاوز اللصوص والسراق عليها.
    ومن المعلوم أن قطاع الطرق كانوا يختبئون في القديم بهذه المقبرة ، وعند ما كانت القوافل تمر بهم في طريقها إلى الحلة أو بغداد أو كربلاء ، ولا سيما قوافل الزوار إلى العتبات المقدسة كانوا يهجمون عليها ويسلبونها ويقتلون من يقف في طريقهم ، وموظفو الترك على علمهم بهذه الأعمال ما كانوا يحركون ساكنا ولا يبدون أي عزم لتقليم أظفار هؤلاء الأشقياء والشطار. بل كانوا على العكس يتركون لهم الحرية في القتل والسرقة كما يشاؤون. ولقد سمعت من الكثيرين في هذه البلاد أن هؤلاء الموظفين كانوا حماة
    __________________
    (1) حكاية الهدايا والساعة الدقاقة أصبحت من خرافات التاريخ. «المترجم»

    اللصوص والمشجعين لهم في حقيقة الأمر وواقعه ..
    ولكن عند ما بلغ السيل الزبى وضج الجميع بالشكوى من أعمال هؤلاء اللصوص الذين اتخذوا مقبرة الست مقرّا وكمينا ، اضطرت سلطات الأمن إلى أن ترسل دورية صغيرة إلى هناك وتقبض على شخصين مجهولين يغلب على الظن أنهما لم يكونا من تلك العصبة المارقة .. وعلى أي حال فقد سيقا إلى المحاكم ، ولكن عمليات السلب والنهب والقتل لم تنته ، وعرف الجميع عندئذ أن سلطات الأمن متآمرة سرّا مع هؤلاء اللصوص وأخذت الألسن تلوك هذه الفضيحة بحيث لا تقبل الشك والريب ..
    ولما رأى الوالي أن القضية بلغت مبلغا خطرا وتطورت هذا التطور غير المنتظر وجد أن خير طريقة للخروج من هذا المأزق هو أن يجرد! حملة من عمال البناء ليقيموا حائطا عند مدخل باب المقبرة ويمنعوا دخول اللصوص أو الناس الطيبين؟!.
    وبعد عدّة سنين أمر الوالي بفتح ثغرة مربعة في حائط من حيطان المقبرة ، وذلك على حسب رجاء زهاد بغداد الذين رجوه لكي يستطيعوا أن يمدوا رؤوسهم خلالها ويشاهدوا ما في داخلها كالجرذان تماما. ونحن أيضا قمنا بتلك العملية نفسها فمددنا رؤوسنا داخل المقبرة وشاهدنا ما كان في المقدور مشاهدته بمثل تلك الطريقة!
    يتكوّن بهو المقبرة من ثمانية أضلاع ويتلوها قبة مخروطية الشكل تزينها من الخارج بعض النقوش والمنخفضات والمرتفعات الحادثة من طرز وضع أحجارها. أما حيطانها الداخلية فبسيطة ليس فيها تزيين أو تزويق.
    ولم تكن الست زبيدة وحدها ترقد في هذا المكان الأبدي بل يقال إن زوج (1) أحد شيوخ القبائل العربية الكبيرة تقاسم الأميرة العباسية هذا المكان الهادئ .. وتجد على القبرين قطعا من الآجر لم يراع في وضعها وإنشائها أسلوب فني جميل ، كما يظهر أنها لم تكن منحوتة نحتا جيدا. وعلى أي حال
    __________________
    (1) تراجع رحلة نيبور الألماني لمعرفة الدفينة الأخرى. «المترجم»

    نقول يرحم الله هاتين السيدتين الجميلتين وينزل عليهما شآبيب رحمته وعفوه.
    والواقع أن جمال منظر المقبرة من الخارج يخفي الشيء الكثير من سذاجة وقبح مرافقها الداخلية. ومن المعلوم أن هذه المقبرة انشئت بعد وفاة الست زبيدة بزمن طويل ، لأن أسلوب بنائها يشبه إلى حد بعيد الأساليب المعمارية التي عرفت في بدء القرن الثالث عشر فموزاييكها الذي بلون واحد وآجرها المنشأ به الطاقات البيضوية كل ذلك يشبه فن العمارة السلجوقية إلى حد كبير.
    حريق بغداد ..
    الذي قطع الحركة التجارية ثلاثة أيام ..
    20 ديسمبر 1881 :
    حدث اليوم في بغداد هرج ومرج شديدان ، إذ التهمت النار البارحة «الليلة السابقة» السوق التجاري الكبير ، وتعاون الجميع من تجار وكسبة ومختلف أفراد القوات الرسمية على إطفاء النيران الملتهبة.

    ولقد قام الأهلون بطريقة مبتكرة تدل على ذكائهم دلالة واضحة في سبيل إخماد لهب الحريق وصيانة بضئعهم وأموالهم من أيدي رجال الإطفائية واللصوص وأفراد سلطات الأمن ، وهي أنهم ما كادوا يرون النيران تقترب من محالهم التجارية حتى اتقوا سقوفها وهدموها إلى الداخل ، وبذلك حافظوا عليها من النيران ومن

    تجاوز الأفراد الآخرين. وهم بعد أن يخمدوا الحرائق يغلقون المنافذ ، وعلى هذا الأساس يظهر للسوق منظر كئيب موحش. ولكن خلال يومين أو ثلاثة أيام عند ما تهمد النيران تماما ولا يخافون شيئا يعودون إلى دكاكينهم بغير اضطراب ولا قلق ، ويبدأون برفع التراب عن بضائعهم ، وفي مدة قليلة تتم هذه العملية وترجع لتلك المحال سابق عهدها كما كانت تماما!
    كان الحريق قد ابتدأ من أقدم أقسام السوق أي على مقربة من البناء العظيم وأقصد «خان أرتمه» ولو لم يقوموا بإطفاء النار لكانت هذه البناية التاريخية والتي تعد من أهم المراكز التجارية لبغداد الآن أثرا بعد عين!
    وخان أرتمه عبارة عن بناء مستطيل الشكل له سقوف جميلة مهيبة تدل على فن معماري عريق ، وتزينه من الخارج بعض الأعمدة التي تكون بمثابة سند للحنايا الكبيرة الثقيلة ، وهذه الأعمدة يفصل الواحد عن الآخر مسافة ثلاثة أمتار! أما الحنايا فعلى نوعين كبيرة وصغيرة وكل منها تتصل بالأخرى. وعلى النوع الأخير بعض القبب المشبكة بحيث يكون للقسم المرتفع منها اتصال بالحنايا الكبيرة وينفذ خلالها النور!
    وفي نهاية هذا البناء الضخم جدار طويل متكوّن من طبقتين لهما سياج مشبك وهذا السياج يعمل على إضاءة الخان وتنويره!!
    وفي القسم السفلي من الحنايا أيضا منافذ تمر خلالها أشعة الشمس وتساعد ذلك السياج والقبب الصغيرة المذكورة على التنوير. والموزاييك ذو اللون الواحد الذي أنشئ به السقف وبعض المرافق الأخرى له منظر جميل جذاب يأخذ بألباب النظار ، ولا سيما عند ما يسقط عليه نور الشمس الوهاج!
    وأكثر أقسام هذا البناء روعة هو الإيوان الذي يحيط بجوانبه من الأعلى ، الذي بذل مصممه جهدا جهيدا لإخراجه بهذه الروعة الأخاذة. ومن البديهي أنه إذا أراد المعمار أن يزين أبنيته بقطع صغيرة من الآجر بشكل ظاهر فلا يكون في مكنته أن يجعل من تلك التزيينات الظاهرة محكمة قوية ، إلّا أن المعامير (1)
    __________________
    (1) المعامير : جمع المعمار. «المترجم»

    الإيرانيين المتفننين ضربوا بسهم وافر في هذا الميدان وتمكنوا من تحقيق ذلك في الأبنية التي أنشأوها إلى أبعد حد ، أمثال خلايا النحل والمقرنصات وما شابهها!! ومن الناس من يتصور أن الغرض من تلك المقرنصات ما يشبه خلايا النحل الظاهرة هي تزيين البناء فقط وأنها من خصائص الفن المعماري العربي ، في حين أن ذلك من سمات الفن الإيراني للعمارة وأن الإيرانيين يعملون ذلك للزينة ولإحكام الأبنية وتقويتها في الوقت عينه. فهذه الخلايا التي في بناء خان أرتمه لها علاقة وصلة بأقسامه ومرافقه الأخرى ، أي أنها لم توجد عبثا ولغرض الزينة حسب. فالمعمار الفنان استطاع بحذقه وطول باعه أن يوجد أمثال هذه الخلايا المتوالية وأن يصل بعضها ببعض بحنايا صغيرة. وبهذه الطريقة استطاع أن يوجد إيوانا مدورا يحيط بالبناية من مختلف جهاتها بعرض متر واحد وثلاثين سنتيمترا وأن يضع أمامها سياجا خشبيّا جميلا وغير ثقيل كيلا يؤثر في بقية أقسام البناية من حيث التوازن!!
    والآجر المستعمل في بناء أعالي ومداخل هذا الخان يشبه الطابوق الذي أنشئت به مقبرة الست زبيدة ، وهو من النوع الذي كان يستعمل في بناء عمارات العهد السلجوقي في إيران.
    ولخان أرتمه درج عريض ينتهي إلى سطحه الذي يعد أعلى أقسام الأبنية التي في بغداد اليوم. ومن الجدير بالذكر هنا أن أمثال هذا الدرج قليلة الوجود في الممالك الإسلامية لذلك يصبح لهذا الخان ميزة معمارية أخرى!
    والواقع أنه لم يكن خان أرتمه وحده هو الذي أنشأه المعامير الإيرانيون الفنانون فحسب ، بل رأينا على مقربة من هذه البناية التاريخية العظيمة منارة جميلة ضخمة تسمى بمنارة سوق الغزل ، فهي أيضا من آثار المهندسين الإيرانيين ولها خصائص وسمات الفن الإيراني في القرن الثاني عشر. وعلى مسافة أبعد توجد مدرسة عتيقة (1) اتخذها الترك اليوم مخزنا للكمرك. وبناية هذه المدرسة جميلة جدّا وتزينها نقوش وكتابات كتبها خطاطون معروفون.
    __________________
    (1) تعني المدرسة المستنصرية. «المترجم»

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:53 pm

    والواقع أن الشخص يؤخذ بروعة تلك الكتابات والنقوش على سذاجتها!!
    والنقطة الأخيرة التي أود أن أختم بها هذا البحث الآثاري هي أن أبنية بغداد العتيقة وآثارها التاريخية مع قيمتها الفنية تكاد تشكل متحفا يسهل على الباحث دراسة الفن المعماري الإيراني من العهد السلجوقي حتى الآن فيها ـ أي في بغداد ـ من دراسته في داخل بلاد إيران نفسها ، ذلك لأن كل عهد من تلك العهود الإيرانية قد ترك أثرا من آثارها المعمارية في بغداد ، في حين أنه لم يبق من تلك الآثار في بلاد إيران نفسها التي تعد معين ومصدر هذه الفنون المعمارية بسبب أن العاصمة الإيرانية كانت تتغيّر بين فترة وأخرى بحسب تغير العائلات المالكة فيها وأنها كانت تنشأ عودا على بدء ، لذلك لا يمكننا أن نرى في مدينة واحدة الأساليب الفنية المختلفة للعمارة الإيرانية كما هي عليه في بغداد مثلا!
    عند نزولنا من سطح خان أرتمه رأيت عددا من بائعي السجاد من الترك والإيرانيين وحاولت أن أقتني أنواعا جيدة منها ، ولكني لم أجد في كل ما عرض عليّ هي بغيتي إذ كانت جميعها ذات ألوان باهتة أو خشنة مما يعرف بسجاد فراهان أو الأزميري!!


    ولقد رأيت بجانب السجاد من المعروضات في المحال التجارية أقمشة حريرية من صنع دمشق ، وأخرى من الململ وقد زينت حواشيها بالحرير وملاءات مذهبة الأكتاف يرتديها الرجال ، وعباءات نسوية بألوان مختلفة وحاجات نسوية أخرى كالأحذية المزينة بالأزهار وما شابه ذلك .. كما أني وجدت بين تلك البضائع أدوات حربية من الأنواع التي تستعمل في البلاد الشرقية وهي بحالة جيدة. أي لم تكن من التحف الثمينة .. ولا تستطيع أن تجد أسلحة عتيقة أو أقمشة مذهبة تاريخية هنا في بغداد ولكنك تستطيع أن تجدها في مدينتي كاشان وأصفهان من أعمال إيران وفي اسطنبول.
    لن تجد في بغداد غير البضائع المعتادة ولن ترى من البائع البغدادي غير الانفعال السريع والحدة والخشونة إذا لم تشتر منه شيئا!!
    أما صنائع بغداد البلدية فلا تستطيع أن تشتري منها شيئا ما لم توص عليه سلفا لدى الصانع ، وتسلفه بعض قيمته كما هو الحال في إيران. وتكلف أمثال

    هذه المعاملات الزوار والسياح كثيرا من المشاق والمتاعب بل في أكثر الأحيان تحرمهم اقتناء قسم من المصنوعات البلدية باسم الذكرى من هذه البلاد ، إذ إنهم يسافرون في أيام معينة خاصة وكثيرا ما يخلف هؤلاء الصناع مواعيدهم فيتسبب عن ذلك كثير من المشاجرات والمنازعات لا بالنسبة لهؤلاء السياح الأجانب فحسب ، بل حتى للأهلين.
    ولقد أرتني مدام پرتيه عددا من الستائر المذهبة التي أوصت بصنعها وأسلفت الحائك بعض ثمنه مقدما ومع ذلك لم تكن جميعها باللون الذي أرادته وبالشكل الذي أوصت به .. ولقد سألتها عن علّة ذلك فأجابتني بقولها : إنني أول وصولي إلى بغداد طلبت من «حاجي بابا» أشهر النساجين في المدينة أن ينسج لي عددا من الستائر بلون وبحجم واحد وعلى حسب الأصول المرعية في هذا الشأن ، أسلفته نصف أثمانها على أن أعطيه النصف الآخر عند ما يبدأ بإتمام النصف الثاني من تلك الستائر بعد إبدائي رضاي عنها ، وبعد شهرين جاءني حاجي بابا ودعاني إلى محله لمشاهدة الستائر التي أنجز النصف الأول منها ولقد لبيت دعوته وذهبت إلى معمله وأبديت رضائي وأعطيته النصف الثاني من أثمانها ورجعت إلى منزلي وأنا فرحة جذلة. وبعد ستة أشهر جاء حاجي بابا مع عماله إلى بيتنا وهم يحملون الستائر الكاملة وما إن فتحوها بحضرتي حتى رأيتها جميعا ذات لونين مختلفين بشكل منفر!!
    وبعد أن أنّبت حاجي بابا ولمته على فعلته هذه أجابني بقوله : «إنك أعطيتني أثمانها على دفعتين لذلك اضطررت أن أصبغ الحرير مرتين وإذا كان اللون مختلفا في الستارة الواحدة فالذنب ذنبك لا ذنبي فلو كنت قد أخذت المبلغ منك مرة واحدة لصبغت الحرير كله جملة ولما تباين لونها هذا التباين الذي أنت مسؤولة عنه ولست أنا»؟!
    وبعد أن انتهى من كلامه هذا ترك الستائر وخرج مغضبا. وإنني لم أجد بدّا من قبولها على علاتها لأنني كنت قد دفعت أثمانها سلفا .. هذا هو حال المعاملات هنا وعليك التقدير؟!
    لا تستطيع أن ترد علّة المعاملات على هذه الطريقة البدائية إلى عدم

    وجود رأس المال عند الصناع ، ذلك لأن في بغداد عدد كبير من الصيارفة وذوي رؤوس الأموال الكبيرة وهم على استعداد أن يمدوا هؤلاء الصناع بالمال. يضاف إلى ذلك أن لأفراد هذه الطبقة امتيازات خاصة بهم منها أن الحكومة لا ترهقهم برسوم وضرائب كثيرة وذلك لتشجيعهم والأخذ بيد الصناعة البلدية ، ثم إنها لا تطلب منهم شهادات وشروطا معينة لكي يقوموا بصناعاتهم تلك أو فتحهم معاملهم سواء في ذلك الكبيرة والصغيرة. وكل الذي تأخذه الحكومة هو رسوم يسيرة على تلك المصنوعات في حالة إصدارها إلى الخارج فقط. وحتى هذه الرسوم الزهيدة من الممكن تداركها وتقليلها بعد الاتفاق مع موظفي الكمرك فهم يبدون مساعدة في مثل هذه الأمور التي تتم بمنفعتهم الخاصة وتزيد من ثرائهم الفاحش غير المشروع؟!!
    وأعتقد أن علّة استسلاف هؤلاء الصناع أثمان المصنوعات هي أولا للتصرّف بها كما يشاؤون وتأخير إنجاز ما أوصوا بصنعه ما استطاعوا ذلك فيفيدون بذلك من المال والوقت معا وثانيا لأن الصناع يخافون أن يستغني المشتري عما أوصى به بعد إتمام العمل أو يتعنت في قبول البضاعة وينتحل بعض المآخذ عليها!!
    لهذه الأمور نرى العمال والصناع يفضلون أمثال هذه الأساليب في المعاملات التجارية والسوقية على ما سواها وإن كان في ذلك الضرر والغبن للطرف الآخر!
    ومما يلفت النظر في أسواق هذه المدينة المملوءة بالبضائع الثمينة على اختلاف أنواعها عدم ازدحام المشترين والعابرين وبرودة الحركة التجارية ، وذلك لأن البضائع الثمينة والأشياء النفيسة يحملها الدلالون إلى منازل الشارين وفي بعض الأحيان يحملها أصحابها أنفسهم إلى المحتاجين إليها أو الذين يتوسمون فيهم تصريف تلك البضائع عليهم. ويمكننا أن نستثني من هذه الأسواق ، تلك التي تعرض الأقمشة القطنية الانجليزية أو البضائع الروسية ، فإنك ترى فيها عددا كبيرا من الناس في حركة دائبة ، وترى أمام تلك الدكاكين النساء القرويات وقد عرضن أمامهم اللبن والدجاج والبيض التي جلبنها من

    ديارهن القروية القريبة. وإذا تأملتهن رأيتهن يدمجن بضائع الزينة النسوية المعروضة في تلك الدكاكين كالأساور والأقراط وما سواها بكثير من الدهش والتمني والرغبة.
    وهاته النسوة يسرن في الشوارع سافرات الوجوه لا يحجبها شيء سوى (المقنعة) السوداء الصوفية التي تحيط برؤوسهن ويضم قسما من جبينهن وذلك على ما أعتقد ـ لكي يكون حجابهن رمزيّا وتشبها بالنساء البغداديات إلى حد ما!
    وتستطيع أن ترى من قرب وجوه وأجسام هذه النساء بكل وضوح على خلاف من سواهن من نساء هذه البلاد ، ولكن الشيء الجدير بالذكر هو أنك لا تجد فيهن سمات الجمال والجاذبية التي وجدتها في نساء قبائل الفيلية العربية (1). وأعتقد أن مردّ ذلك هو الأعمال الشاقة والمسؤوليات الضخمة التي ألقيت على عواتق هذه النساء القرويات اللاتي يأخذن في العمل سحابة نهارهن وطرفا من الليل حتى أودى ذلك بصحتهن وامتص رونق الجمال من أوجههن السمر.
    ولعلك تسأل ـ بعدئذ ـ عن وظائف أو بالأحرى عن أعمال رجال هذه القرى فأقول لك إنها تنحصر في الصيد أو الغارة والسرقة من مزارع وحقول الآخرين؟!!
    والخلاصة .. إن رحلتي في عاصمة الخلفاء وأعني بغداد قد انتهت بزيارة الميادين الواسعة التي تباع فيها الحبوب. وفي اعتقادي ليس ثمة منظر أبهى وأجمل من تلك الميادين التي تشبع كل يوم الآلاف من أصحاب البطون الخاوية. إذ تطالعك مشاهد جذابة من أكوام تلك المزروعات في تلك الميادين والناس في ذهاب وإياب بعد أن أخذوا حاجاتهم منها.
    .. والواقع أن لهذه الميادين مناظر جذابة رائعة ولا سيما عند بزوغ الشمس ففي هذا الوقت يشتد ازدحام الناس للشراء والبيع هناك حتى يضطر
    __________________
    (1) الفيلية من قبائل الأكراد لا قبائل العرب. «المترجم»

    الإنسان الذي يعبر خلال تلك الأسواق أن يستعمل العصا في عبوره وفي شق الطريق له.
    إن من يعتاد أكلات أهالي بغداد لا يجد في تهيئة غذائه صعوبات مادية إذ يستطيع أن يشتري الدجاج المنزلي وأنواع الطيور الأخرى بأسعار زهيدة جدّا. والخروف الجيد لا يزيد ثمنه على ستة فرنكات. والأسماك كثيرة ومبتذلة لدرجة تدعو إلى الدهشة ، والخضراوات والفواكه أمثال البطيخ والرقي التي تجلب من المناطق العليا من بلاد بين النهرين كثيرة بحيث تملأ الخانات أكواما فوق أكوام حتى أنها تكاد تشكّل هضابا ولا تستطيع بسهولة أن تعبر بينها.
    وأحجام الزوارق التي تحمل هذه الفواكه والخضراوات لا تقاس طبعا بأحجام الزوارق المعروفة لدينا في أوروبا ..
    ومن الطبيعي أنه ينبغي أن ننظر بدهشة وإكبار لهؤلاء الناس الذين قبل أن يحل الغروب تستوعب أجوافهم كل هذه الكميات الكبيرة من الفواكه والخضروات. أما أنا إذا ضعت ولم أستطع أن أجد محلي فلا أرضى بأي حال من الأحوال أن أعيش في هذه الناحية التي تتميّز بكثرة نعمتها وبثروتها ، اللهمّ إلّا إذا طهرت من الموظفين الترك ومخاطر مرض الطاعون و «الأخت البغدادية» ولا يفوتني أن أقول إن البلاءين الأخيرين عندي هما أسهل تحملا ـ أي الطاعون والأخت البغدادية ـ من وجود الموظفين الترك؟!
    21 ديسمبر 1881 :
    صرفنا النظر عن زيارة قصور سارجن وسنحاريب (1) التي تبعد كثيرا عن بغداد ولكنا لا نستطيع بحال أن نصرف النظر عن زيارة برج بابل وحيطان هذه المدينة العظيمة وحدائقها المعلقة التي نسمع عنها منذ طفولتنا الأولى فتثير اهتمامنا وشغفنا.
    __________________
    (1) سارجن وسنحاريب هما من ملوك آشور القدماء.


    وعلى نفورنا من الموظفين الترك الرسميين قد استعنا اليوم صباحا بهم لزيارة تلك الأماكن التاريخية ، فكان أن أرسلوا معنا أربعة من رجال الأمن لحمايتنا وتسهيل أمرنا في هذه الزيارة التي أزمعنا القيام بها ، وكان الوالي قد اختار هؤلاء الرجال الأربعة هو بنفسه. ولقد امتطيت أنا صهوة جواد هزيل ضعيف البنية خضب صاحبه جبهته وأطرافه بالحناء لكيلا تصيبه العين ، ولا يصيبه مكروه من الجان .. وبعد أن عبرنا جسرا أنشئ من زوارق عائمة قديمة سرنا في طريق بابل ميممين وجوهنا إليها ..
    ولو أن الأطفال السائبين في الأزقة لم يقفوا في وجوهنا ويسمعوننا الألفاظ القارصة ويهينوننا ويسخرون منا في طريق مرورنا بأزقة المدينة ، لكان يخيّل إليّ أنني في جيش محجل عظيم على رغم قلّة عددنا ..
    ولقد كان رجال الأمن الأربعة الذين رافقونا في سفرتنا هذه يرتدون ملاءات جيدة على خلاف العادة وعلى رؤوسهم الأغطية الرسمية وعلى أكتافهم


    بنادق من نوع (Sindr) سيندر التي كانوا يطلقون منها بين حين وآخر طلقات تلعلع في الأجواء على عادة فرسان العرب في إظهار فرحهم وسرورهم في حادث من الحوادث المبهجة. وكان من المقرّر أن يرافقنا ضابط خدم في جيش الهند مدة أيضا ولقد انتظرناه بعض الوقت بجانب مقبرة الست زبيدة ولكن انتظارنا طال كثيرا ولم يأت ، وليأسنا من مجيئه تركناه وذهبنا.
    وفي البدء عبرنا صحراء جميلة زاهية كانت قد زرعت بالحنطة وكثرت فيها المساقي والسواقي وما كدنا نبعد عن هذه الأراضي حتى وصلنا إلى ضفاف نهر دجلة مرة أخرى وعبرناه خلال جسر عائم آخر وكان يتميّز بجماله ودقة صنعه. وفي الطريق شاهدنا سيارة كانت تعمل في هذا الطريق بين المدينتين ولكنها الآن معطبة ومتروكة على جانب الطريق. وهذه نتيجة حتمية طبعا لطرز أفكار الترك الجنونية التي لا تسعى إلى تعبيد الطرق وإقامة الجسور المتينة الصالحة وعدم وجود الفحم الحجري ، فلا غرو إذن أن تعطب وتترك

    أمثال هذه السيارات وأن يحرم بالتالي الأهلون من وسائل النقل الحديثة!!
    أجل من الطبيعي أن تستطيع هذه السيارة السير في شوارع أوروبا المعبدة السليمة وأن تؤدي فوائد جزيلة للشعب ، ولكن الأمر هنا يختلف فالموظفون العثمانيون لا يجشمون أنفسهم للترفيه عن الأهلين وتيسير وسائل العيش لهم بل ولا يكلفون أنفسهم حتى مجرد التفكير في ذلك!!
    ومن المعلوم أن هذه السيارة كلفت خزانة الدولة العثمانية كثيرا ولكنها الآن متروكة في هذا المكان المقفر المملوء بالطين والأوحال وإننا لا نعجب في ذلك إذا عرفنا أن الموظفين الترك الشرفاء كانوا يتقاضون رواتبهم من الفوائد التي تدرها من غير أن يفكروا في أمر إصلاحها أو المحافظة عليها وصرف أي مبلغ في هذا الشأن ، إذ إنها لم تكن تكفي رواتبهم هم فكيف يصرفون عليها ولو مبلغا صغيرا!! كما هو حالهم في الأمور العامة الأخرى؟! ومن هنا تستطيع تقدير التسيب الذي يسود حياة هذه البلاد المسكينة.
    وعند عبورنا الجسر المقدم الذكر استقبلتنا صحراء واسعة ليس فيها من زرع ولا ضرع اللهم إلّا آثارا لمجاري المياه المندثرة التي كانت تسقي هذه المنطقة الزراعية المهمة. أما الآن فهي ليس أكثر من صحراء قاحلة تشاهد فيها السدود والسكور المخربة المرتفعة والمجاري المندثرة هنا وهناك!!
    ويرجع تاريخ هدم هذه السدود والسكور واندثار هذه المجاري إلى أزمان بعيدة إذ إن هردوت المؤرخ القديم المعروف يقول : إن هذه المنطقة كانت تعد من أخصب مناطق إيران. وكذلك أقوال رجال الجغرافية الذين عاشوا في القرن الثاني عشر أيضا. إن ابن جبير يقول : «إن الطريق الذي يصل الحلة ببابل يقع في منطقة زراعية مهمة تدر محاصيل فاخرة كثيرة. وفي هذه المناطق تجد أبنية تتصل الواحدة بالأخرى كما أن مدنا كبيرة متعددة تقع على جوانب هذا الطريق».
    وهكذا يبدو أن الجهلة في مدة قليلة حولوا هذه المنطقة الثرية التي كانت تدر كل تلك الثروات الطائلة الخيالية إلى أراضي بور معدومة ليس فيها زرع ولا ضرع!!

    وبالخلاصة ما كدنا ننتهي من حديثنا عن ماضي هذه المناطق وما ذكر عنها في التوراة وما قال فيها الأنبياء والمؤرخون القدامى حتى وجدنا أنفسنا قد بلغنا عددا من أكواخ الفقراء القذرة في جوارها خان يستقبل المسافرين للراحة والاستجمام! فهبطنا عنده وتركنا جيادنا وترجلنا ، ولفت نظرنا هناك دكان صغير وضع صاحبه بإزائه عدة سلال من التمر عرضها للبيع كما رأينا على الجانب الآخر من الخان مقهى صغيرا فدخلناه توّا لنستريح وندفع عن أنفسنا ما تحملناه من وعثاء الطريق ، وباحتساء فنجان من القهوة تحركت شهوتنا للطعام وكان أن أسكتنا عصافير جوعنا بما كنا نحمل معنا من دجاج مقلي محمّص لذيذ؟!
    وبعد قليل من الاستراحة رأينا عن كثب قافلة تتقدم بتثاقل ، وكانت بضع دواب تحمل أثاثا وبيوتا من الشعر أو خيما على ما أعتقد؟! وفي هذه الأثناء قدم صاحبنا الضابط الذي كنا قد انتظرناه مدة طويلة في الصباح وأقرأنا السلام فدهشنا لقدومه بقدر ما سررنا في تلك الساعة.
    كان يرتدي اللباس العسكري الإنكليزي الذي كان يلبسه أيام خدمته في الجيش الهندي ، وكانت على رأسه طاقية حمراء جميلة ذات حاشية بلون أزرق تحف بها من جميع الجوانب ، وكانت هذه الطاقية الغريبة تنتهي من الخلف بعمامة تشبه إلى حد بعيد العمات التي يرتديها الهنود ، التي تتدلى منها عذبات إلى وراء.
    وكان صاحبنا هذا يدعى الكولونيل جيرارد (Gerard) وهو من أصل فرنسي پروتستنتي. وكان أهلوه قد نفوا من فرنسا نتيجة إلغاء قانون نانت (Nantee) (1) وهو اليوم يقوم بسياحة حول الأرض ومنها بلاد ما بين النهرين وكما قال لنا إن تأخره كان خارج إرادته ، ولم يكن برغبته وسببه هو أنه قبل يوم كان قد اشترى مهرا لجواد أصيل قرب طيسفون (سلمان باك) وفي أثناء هبوب
    __________________
    (1) في عهد هنري الرابع سنة 1598 منح الپرتستانت بعض الامتيازات ولكنها في سنة 1685 ألغيت الواحدة بعد الأخرى وانتهى الأمر بأن أبعد عدد من الپروتستانت إلى خارج فرنسا.

    ريح صرصر باردة ووصوله إلى جسر من القوارب العائمة خاف أن يعبره لئلا يسقط في النهر عن مهره الذي كان يبدو شموسا بعض الشيء. لذلك فضّل العودة إلى دار القنصلية ليكري جوادا يأمن جانبه! والواقع أن عبور هذا الجسر ليس بالأمر الهين الخالي من المخاطر والمشاق ، لذا تصف الدواب الواحد بعد الآخر وتجتاز الجسر على هذا الشكل لئلا تتدافع ويحدث ما يكره حدوثه. ويجتاز الذين يعتقدون أحكام القضاء والقدر فقط هذا الجسر بغير حذر ولا خوف ، وفي الوقت الذي كان الكولونيل يحدثنا ما حدث له رأينا عن كثب هبوب غبار سرعان ما انجلى عن قدوم فارسين آخرين يملأ أوجههما الدم وعلى أجسادهما ملابس رثة قذرة ، وهما يحملان على كتفيهما أسلحة عتيقة. والخلاصة أن منظر هذين الفارسين كان يبعث على القرف والاشمئزاز وينفر منه كل راء حتى الشيطان موليا وجهه الأدبار؟!
    وقف هذان الفارسان إزاء دكان بائع التمر وأخذا في الحديث مع رجال الأمن الذين كانوا في رفقتنا. ولقد ركبني الهم كثيرا بمجرد أن فكرت في أن هذين الشخصين المزعجين سيكونان في معيتنا بالطريق. ومن الطبيعي أنه لم يكن معنا مبلغ كبير لكي نخاف عليه ، ولكن حتى هذا المبلغ الزهيد الذي نحمله معنا لو سرقاه منا نقع في بلاء عظيم وكرب شديد بعد أن كنا قد ابتعدنا عن المدينة والعمران!؟
    وفي هذه الأثناء تقدّم رئيس هؤلاء الرجال منا فقال لي : أرى من المستحسن أن أقدم إليك هذين الفارسين اللذين سيكونان في رفقتكم من الآن فصاعدا؟ .. قلت له على الفور : «أولم يكف وجودكم أنتم للمحافظة علينا حتى يكون معنا هذان الفارسان».
    الموضوع الذي ينبغي أن أذكره لك هو أنه بحسب رجاء القنصل قد جعلنا معكم رجالا مقبولي الوجه والهندام منذ خروجكم من المدينة حتى الآن كيلا نخل بجلال منظركم وعظمة موكبكم عند الأهلين ، أما من الآن فصاعدا فلا يكون بمعيتكم إلّا هذان الفارسان اللذان وصلا هذه اللحظة ، أما نحن فانتهت مهمتنا هاهنا اللهم إلّا أن نسلم عليكم السلام الأخير ونيمم وجوهنا

    إلى المعسكر في بغداد ، لأنه ليس من الممكن أن يرافقكم أمثالنا من رجال الأمن المتميزين الذين عليهم الملابس الجيدة ولهم الجياد الأصيلة الفارهة في طريق القوافل المتربة هذه. ومن البديهي أيضا أن تنقدونا الحلوان «البقشيش» قبل عودتنا ، لأننا حرقنا بارود الحكومة واتسخت ملابسنا (؟) بغبار الطريق وترابه وندعو أن يكلأكم الله بعنايته ورعايته» وهنا رفع يديه إلى أعلى وقال الجملة الأخيرة بترنيم وتنغيم خاص؟!
    ولقد تركنا هؤلاء الرجال بعد أن أخذوا الحلوان «البقشيش» لكي يتخلصوا من التراب والغبار وهجوم الذباب عليهم .. تركونا في حماية هذين الشخصين اللذين يشبهان اللصوص والقراصنة إلى حد بعيد مدّة هذه السفرة التي قد تطول أو تقصر : علينا أن نشركهم في غذائنا وأن نجالسهم ونحادثهم ، وأدهى من كل ذلك أن نعطيهم مقابل ذلك مبلغا من المال؟!
    وفحوى القول أننا بدأنا بالحركة وسرنا يوما كاملا في أراض قاحلة ليس فيها إلّا عدّة من المجاري المندثرة المخربة للمياه وسوى بعض القطع من الحجارة والآجر المبعثرة في الطريق وبقايا آثار من المدن القديمة البائدة التي كنا نطويها تحت حوافر جيادنا؟!
    وعند حوالي الغروب ظهرت على الأفق بناية كبيرة من الآجر وهي خان كبير شيّده الإيرانيون بجهودهم وفلوسهم فيه بضع حجر واسعة معدّة لاستراحة زوار العتبات المقدسة من الشيعة. وهذا الخان يناظره خانات إيران التي شاهدتها لدرجة كبيرة إذ تحيط بصحنها الحجر من جميع الجوانب التي يتقدم كلّا منها إيوان واسع. والمسافرون عادة ـ عند ما يكون الجو لطيفا ينزلون في هذا الإيوان وعند برودة الطقس يأوون إلى الحجر ويجعلون دوابهم وحيواناتهم الأخرى في الاصطبل المقابل لهم لكي تكون على مرأى منهم على الدوام مخافة سرقتها!
    ولما كان الجو باردا لم نر بدّا من اختيار إحدى تلك الحجر للنزول فيها ولكننا ما كدنا نترجل عن جيادنا حتى علت إلى أنوفنا عفونة أوشكت أن تزكمها ، ولفتت نظري أشياء مركومة بعضها فوق بعض فتقدمت منها أتفحصها وما كدت أمد يدي حتى ارتدت إليّ كأنه قد مسها تيار كهربائي واضطربت أشد

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:54 pm

    الاضطراب. كانت هذه الأشياء المحزمة المركومة جثث موتى بعضها قد لفت في بساط أو سجاد وحزمت بحبال وبعضها في توابيت خشبية يبدو من بين شقوقها اللحم الجامد المسود لهؤلاء الموتى.
    على أثر هذا خرجنا سريعا تاركين هذا الخان الغريب ونزلنا في محل يبعد عنه كثيرا لنقضي فيه ليلتنا ، وخرج الكولونيل أيضا واضطر أن يقضي ليلته معنا في الهواء البارد. وعلى رغم ابتعادنا عن الخان بمسافة ليست قليلة كانت رائحة العفونة تضايقنا كلما هب النسيم من جانبه .. والواقع أن دفن الموتى بجوار أضرحة مراقد الأئمة أصبح عادة لفريق من المسلمين منذ أوائل عهد الإسلام أي بعد استشهاد الإمام الحسين في كربلاء .. واليوم يجلب أكثر أفراد الطائفة الشيعية جثث موتاهم من أبعد المناطق كالهند وإيران إلى مدينة كربلاء والنجف لدفنها قرب مراقد هؤلاء الأئمة الذين ينزلونهم من نفوسهم منزلة التقديس.


    وفي عقيدة الشيعة أن نبي الإسلام كان قد اختار لخلافته قبيل انتقاله إلى الملأ الأعلى ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب الذي كان أسبق المسلمين إلى اعتناق الدين الجديد والدفاع عنه ، ومن أخلص رجالات العرب وأشجعهم في بدء الدعوة الإسلامية ، إلّا أن المسلمين لم يحترموا ولم ينفذوا وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد انتقاله إذ انتخبوا أبا بكر وعمر وعثمان خلفاء من بعده. ولكنه أخيرا وبعد موت عثمان سنة 656 م تسنم الخلافة وهو في شيخوخته وبلوغه عتيا من السن (1).
    بيد أن مدعي الخلافة عادوا للمطالبة بها بعد موت علي ولم يتورعوا من استعمال السلاح في الوصول إلى طلبتهم وكان أن قتلوا بنيه الحسن (2) والحسين ، الأول في المدينة والثاني في كربلاء والأراضي التي اصطبغت بدمائهما قد أصبحت ـ بنتيجة ذلك ـ مقدسة عندهم يتبرك بها أفراد الطائفة الشيعية ومن هنا وقع الخلاف وتضخم الحقد بين السنة والشيعة. ولو عنّ لنا أن نسأل :
    يا ترى مع من الحق؟ أمع الطائفة الأولى أم الثانية وعقيدة أي منهما هي الصادقة؟ ينبغي لنا أن نتجرّد من العاطفة ونحكم عقلنا في هذا الأمر ..
    والواقع أننا لا نحتاج إلى الاستعانة بأصول الفلسفة أو علوم ما وراء الطبيعة للإجابة عمّا تقدّم بل سرعان ما يظهر لنا أن الحق كان مع علي وأولاده وأول دليل على هذا هو ما ذكره القرآن الكريم من العناية بأفراد عائلة النبي وما خصّهم به من حقوق في أموال المسلمين والغنائم الحربية والأسلاب التي يجب صرفها للمحافظة على أعقابه والترفيه عنهم ..
    على هذا الأساس كيف يمكن أن يرجح النبي شخصا غير علي الذي كان من المقربين إليه وابن عمه وصهره .. كيف يمكن أن يفضل عليه شخصا غريبا (3)؟
    __________________
    (1) تردّد هنا المدام ما لقنها خادمها الإيراني وشرح لها حسب عقيدته.
    (2) لم يقتل الحسن كما ادّعت السائحة وإنما تذكر أخبار الشيعة أنه مات مسموما. «المترجم»
    (3) هذا رأي السائحة طبعا ولا موضع للجدال. «المترجم»

    ومن الطبيعي أنه لا يمكن أن يرث مقام الخلافة غير علي كما لم يكن باستطاعة النبي أن يورثها أحدا سواه لأنه لم يكن له منافس أو مشابه في زهده وتقواه وشجاعته وإخلاصه وذكائه.
    والحق أن هذه المسألة واضحة جلية لا تحتاج إلى نقاش أو جدال. لذلك أراني أحترم الإيرانيين وأجلهم ، لأنهم يؤمنون بحق علي في الخلافة ، ويعدونه زعيمهم الأكبر ومثالهم المقدس ، كما أنهم ينزلون أولاده من أنفسهم منزلة التمجيد والحب ، حتى أنهم يعدون زيارة مراقدهم في العتبات المقدسة في بلاد ما بين النهرين فريضة وواجبا عليهم كما هو الحال عند فريق الهنود الذين يكابدون مشاق ومتاعب في زيارة تلك الأماكن المقدسة أيضا؟!
    22 ديسمبر 1881 :
    أفقنا في الصباح الباكر على جلجلة أصوات القوافل التي خرجت من الخان وحسبت أنه من المستحسن أن نسبق قافلة جثث الأموات ونجعل بيننا مسافة طويلة ، إلّا أننا لم نستطع أن نحقق هذه الرغبة لأننا على طول الطريق كنا نشاهد قوافل من هذا القبيل تحمل توابيت الموتى التي تشبع الجو بعفونة تكاد تزكم الأنوف.
    وعند الظهر بلغنا خان الإسكندرية التي كانت دون الخان السابقة بناء واستحكاما وجمالا ، بيد أنها كانت ذات حركة دائبة ، وكان عدد الأشخاص يبدو فيها أكثر ممن هناك؟! ذلك لأن هذه المدينة تقع على تقاطع طريقين إحداهما تذهب إلى مدينة كربلاء والأخرى نحو الحلة. وها نحن أولاء الآن لا نكاد نبعد عن عاصمة نيتكريس (1) المشهورة وسميراميس (2) الخرافية أكثر من أربع ساعات؟!
    __________________
    (1) Nitakris ملكة من العائلة السادسة الملكية في مصر القديمة.
    (2) Semiramis الملكة التي تتطاير حولها خرافات كثيرة وكانت تحكم آشور وبابل وينسب إليها بناء مدينة بابل وحدائقها المعلّقة ، كما أنها عرفت بالشجاعة بحيث فاقت شهرتها على شهرة زوجها الملك بكثير.


    23 ديسمبر :
    أنا الآن في مدينة بابل التي تبدلت اليوم إلى صحراء قاحلة ليس فيها زرع ولا نبات بعد أن كانت أكبر المدن القديمة وتعد مركز المدنية والحضارة في الأزمان السحيقة.
    الساعة تشير إلى الثانية الزوالية ومع ذلك أظلمت الدنيا فجأة وهبت أعاصير من التراب والغبار وأحاطت بنا من كل جانب بحيث لم نعد نشعر بأنفسنا وخيل إلينا أن قد ضعنا في هذا الطوفان الترابي.
    وفي هذه الأثناء لعلع الرعد في السماء وتلألأ البرق وبدأ الغيث يهطل مدرارا ، حتى داخلنا الخوف والهلع. وكانت هذه المرة الأولى بعد شهر مارس التي يحدث فيها مثل هذا الحدث لنا من هطول هذه الأمطار الغزيرة.
    وعلى أي حال أبدت السماء في هذا اليوم كرما وسخاء كما أبدت عطفا علينا إذ سرعان ما انقطع المطر ووضعت بين أيدينا العاصمة القديمة. وفي الوقت


    الذي كانت قطرات المطر تتساقط من ملابسنا كنا نسير فوق أعالي هذه المدينة بيد أن الادلاء الذين كانوا معنا قد تركونا منفردين في الشارع الرئيس إلى طرق أقصر ، ليصلوا قبلنا إلى موضع الآثار القديمة.
    ومن حسن الحظ أنه ما كدنا نسير عدّة خطوات حتى ظهر أمامنا تل مملوء من قطع القار وعلى كل جانب منه خندق عميق ، وبعد برهة قصيرة بلغنا الطريق الموصل إلى قلب تلك المواضع التاريخية ونحن في حالة يرثى لها من التعب وملابسنا مبتلة بماء المطر وفي هذه الأثناء وجدنا أنفسنا أمام كوخ لأحد الحفارين المحليين الذين اختار ذلك الموضع محل إقامة وسكنى له.
    مضت عدّة سنوات على إجراء انكلترا تنقيبات واسعة في أرض عاصمة بختنصر هذه وأن أحد موظفي متحف بريطانيا (1) يقدم إلى هذا المكان كل عام
    __________________
    (1) وهو متحف عالمي مشهور يقع في لندن أسس سنة 1753 م ويحتوي على أشياء ثمينة

    من لندن ليصدر تعليماته الجديدة من أجل استدامة التنقيبات وما تحتاج إليه من مبالغ. ومدير عمليات التنقيبات هذه رجل أرمني عينته البعثة الأثرية الإنكليزية وهو الذي أخذنا الأدلاء إليه وأرانا هذا ما استكشفوه من آثار جديدة.
    ومن الأشياء التي شهدناها هنا ألواح من الحجر كثيرة كانت قد كتب عليها بخط مسماري. وأنها ـ على ما قاله هذا الرجل الأرمني ـ قد اكتشفت منذ ما يقرب من ستة أشهر فقط. كما أننا رأينا أشياء صغيرة صنعت من القار على شكل حيوانات ، ومن الممكن أنها كانت تقدم للأطفال عيدية أيام العيد.
    وهذه الأشياء عتيقة حتى يخيّل إلى المرء أنها من عهد طوفان نوح. ورأينا أيضا أواني كبيرة ذات لون أحمر غامق وتماثيل صغيرة صنعت من الطين ثم فخّرت على النار تشبه إلى حد بعيد الأساليب اليونانية القديمة.
    وفي الوقت الذي كنا نتفرج فيه على هذه الأشياء القديمة الثمينة كان الجو قد أخذ في التحسن ، والهواء قد لطف ولما لم يكن معنا غذاء اضطررنا إلى أن نيمم وجهنا إلى مدينة الحلة فهي لا تبعد كثيرا عن هذا ، ونترك أطلال هذه المدينة القديمة ولكننا لم نكد نبتعد عنها حتى أخذنا نسير في طريق جميل انتصب على جانبيه النخل بشكل جذاب؟!
    كانت الطبيعة جميلة جدّا بعد هطول تلك الأمطار فأوراق وأغصان الأشجار نضرة مزدهرة تعلقت بأطرافها قطرات الغيث كأنها قطع الألماس اللماعة والأطيار تنشد وتغني وهي تتنقل من فن إلى آخر. والشمس التي أخذت تبدو من بين شفيف الغمام كانت تبعث أشعتها الواهنة فتزيد المنظر روعة وجمالا.
    والواقع أنه كان مشهدا رائعا ملأنا بهجة وغبطة وبعث في عروقنا النشاط والحيوية ذلك المشهد بعد كل ذلك التعب الذي كنا قد لقيناه في سفرتنا هذه. ومما لفت نظرنا في هذا الشارع البديع عدة حفر متباعدة هنا وهناك ، كانت
    __________________
    قديمة وفيه دار كتب واسعة فخمة.


    جميعها مملوءة ماء ، وحولها الغربان تتطاير دون أن تعير السائرين أدنى اهتمام؟!
    وبعد ثلاث ساعات متواصلة من السير بدت لنا عن كثب عدّة منائر بيض وبعد قليل بلغنا أول حي من أحياء مدينة الحلة وواجهنا جسر عائم صغير أنشئ هو أيضا من القوارب إلّا أنه كان يتميّز بقلّة حركة المرور عليه بالنسبة لجسر بغداد ، وبعد أن عبرناه دخلنا المدينة. وما كدنا نصل أول ميدان من ميادينها حى رأينا مرافقينا من رجال الأمن الذين كانوا قد سبقونا في الذهاب إلى المدينة لتهيئة محل إقامتنا فيها في انتظارنا. ولقد أخذونا إلى دار خالية لأحد متمولي هذه المدينة وكان قد ذهب إلى الحج؟!
    الحلة إحدى المدن التابعة لحكومة بغداد وقيل لي إنها اجتاحها في سنة 1832 وباء الطاعون وذهب ضحيته عدد كبير من أهاليها. إلّا أنها يسكنها اليوم خمسة عشر ألف نسمة تقريبا ، وهم خليط من العرب والكلدانيين وصناع اليهود

    ومثريهم وجماعة من الشيعة الإيرانيين ، وموظفي الباب العالي. والطائفة الأخيرة تجدهم في أي بلد تركي وكأنهم السرطان الذي يفتك بجسم تلك البلدان. ويضاف إلى ذلك أن في هذه المدينة فئات أخرى كالأعراب الذين يقطنون بيوت الشعر والخيم ، والزوار الذين يكثر عددهم في مواسم خاصة عند ما يقدمون لزيارة بعض المواضع والمزارات الواقعة بجوارها.
    ومما لحظته أن دور الحلة كلها قد شيدت بمواد أبنية قديمة حتى أنني شهدت بعض الآجر وقد نقش عليه اسم نابو كدونسر «بختنصر» وأنهم قد أفادوا في إقامة تلك الأبنية من القار بدل الجص على عادة البابليين القدماء. وتمتاز منازل الحلة كما هو الحال في بغداد بأنها مرتفعة الجدران ليس لها من الخارج منافذ أو شبابيك البتة كما أنها تحوي ميزات وخصائص العمارة الشرقية. وتملأ حدائق وبساتين الحلة غابات النخل الكثيفة وأشجار الموز الجميلة. ومن حسن الحظ أن هذه الأشجار الكبيرة السامقة وجدت هنا لتقلل من بشاعة منظر دور هذه المدينة التي شيدت كلها على نسق واحد وطرز غير جميلة ، ولا سيما أننا من سطح منزلنا نستطيع أن نرى عن بعد مناظر رائعة لهذه الغابات تبعث على البهجة والانشراح ، كما نرى ضفتي النهر التي غطتهما النخيل من الجانبين بوضوح تام. ونشاهد في النهر عدة زوارق في حركة متصلة وجماعة من الفرسان الذين يغسلون جيادهم بماء شط الفرات ومن المزارعين الكسالى الذين لم يريدوا أن يعبروا إلى الجانب الآخر بواسطة الجسر ، لذلك تعروا من ملابسهم ووضعوها فوق قربة نفخوها بالهواء وأخذوا في شق طريقهم سباحة وأمامهم القربة التي تحمل الملابس. والواقع أن هذا العمل وراثي وصل إليهم من «نياكانشان»؟!
    لم نر في مدينة الحلة بناية مهمة تلفت النظر قد شيدت في العصر الإسلامي البتة ، اللهم إلّا مسجدا صغيرا شيدوه في ذلك الوقت في الطريق الذي يصلها بمدينة كربلاء ، وهذا المسجد يعرف بمشهد الشمس و «مسجد علي» وتذكر الروايات المشهورة أن أمير المؤمنين عليا قد أشار إلى الشمس لتقف في هذا المكان لإكمال نصره في إحدى حروبه ..

    ولكن الرجوع إلى كتاب تاريخي قديم يبحث هذا الموضوع نجد أن بختنصر قد شيد في هذا المكان معبدا لعبادة الشمس لا غير. وتوجد في هذا الكتاب رواية عن بختنصر هكذا تقول : «إنني شيدت في بابل معبدا بالآجر والقار للشمس التي تعد صاحبة السلطة المطلقة والحاكمة الناهية في بلاطي والمرجع الأعلى في المنازعات والاختلافات على مختلف أنواعها أي لرب شماس الذي يعد أكبر القضاة وكبير حكام العالم».
    مدينة الحلة التي هي من إنشاءات العهد الإسلامي قد أخذت مكان مدينة بابل العتيقة منذ بداية القرن الثاني عشر ، وعندما كان المسلمون يقومون بإنشائها أخذت شمس البابليين في الإشراق على سواحل شط الفرات مرة أخرى (1) ولكن الآن لم تصبح عاصمة بختنصر التي كانت تنافس في العهد القديم مدينة نينوى الكبيرة ، غير ولاية صغيرة تابعة لدولة تركيا المعظمة؟!.
    إن رب اسرائيل يجب أن ينتقم انتقاما شديدا من هذه المدينة وأن يهدمها ويمحوها من الوجود ، لأنه كان قد أخبر بواسطة أنبيائه بأنه : «إذا ما وصلت عظمة مقام بابل لدرجة أن تنافس بها السماء وأن قدرتها تبلغ مبلغ الكمال فعليّ أن أقوم بهدمها وأعدمها من الوجود.
    وإذا تجولنا في أطراف المدينة وتفحصنا جدرانها المهدمة ظهر لنا أن هذه الحيطان كانت تصل بين التلين الواقعين أقصى الجهتين المقابلتين لمدينة بابل ، وعلى هذا الأساس كانت مدينة الحلة بمثابة المركز لمساحة بابل التي كانت تبلغ خمسمائة وثلاثة عشر كيلومترا مربعا ، وأنها كانت تقع في وسط مائة بوابة.
    وينبغي ألا نتصوّر أن هذه المساحة الشاسعة كلها كانت مأهولة بالسكان وأن الأبنية والعمارات كانت تغطيها من أقصاها إلى أقصاها ذلك لأنه بحسب رواية كونت كوري لم تكن عمارات سواحل الفرات تشغل أكثر من (90) أستادا مربعا ، أما بقية الأراضي التي تحيط بهذه المساحة فكانت تزرع لدرجة
    __________________
    (1) لا ندري ما الذي تعني السائحة بهذا القول. «المترجم»

    تكفي لإطعام أهالي المدينة كلهم مدة طويلة في أوقات الحصار التي قد يتعرضون لها ، أو أزمان القحط والمجاعات التي كانت تهدد المدن القديمة الزمان.
    ومن ناحية أخرى كان أهالي مدينة بابل كثيرين ، وكانت أراضيها بخلاف المعتاد في المدن الشرقية الأخرى ذات قيمة وأهمية بالغة لذلك نراهم يضطرون إلى إنشاء العمارات ذات الطبقات.
    24 ديسمبر :
    ذهبت اليوم لزيارة بيرس نمرود «Birs» أو ما يسمى ببرج بابل. وإذا أردنا أن نصدق روايات التوراة التي ذكرت هذا البرج كثيرا في معرض تاريخ العبرانيين وردّت إليه السبب في تعدّد الألسن واختلافها وظهور النحو والصرف حق لنا أن ننزل عليه لعناتنا. إذ لم يستطع الإنسان أن يلم بدقائق علوم اللغة مهما بذل من جهد وتعب تلك العلوم القاصمة للظهور؟!
    ومن العجيب حقّا ألا يكون هذا البرج المهدّم أقل مما سببت من تشتت اللغات واختلافها. فقد شيد ـ كما هو بيّن ـ بلبن وآجر على أحجام وأبعاد مختلفة وأن كلّا منها يعود إلى زمن تاريخي خاص!
    وبعد أن مررنا (بمشهد علي) بلغنا طريق الحلة الرئيسية التي تقع في صحراء قاحلة لا نبت فيها ولا زرع. وعلى جانب من هذه الصحراء رأينا عدة خرائب يرجع عهدها إلى أزمان سحيقة وفي وسطها مرتفع أقامه ـ كما هو ظاهر ـ الإنسان بيديه ويشبه إلى حد بعيد تلّا أو هضبة. والواقع أن لهذه الخرائب في وسط هذه الصحراء منظرا يلفت إليه الأنظار من بعيد. وكلما تقرب الإنسان من هذا المرتفع رأى حجمه أكبر مما قبل رويدا رويدا ، حتى أن عينه تتعب في تقصي أجزائه ودقائقه؟!
    على أي حال نحن نتقدم منه الآن وجيادنا التي أرهقها هطول الأمطار أمس وأتعبها سير اليوم ترتقي بصعوبة الكثبان المبعثرة هنا وهناك ، وأخيرا عبرنا تلا صناعيّا ووصلنا التل المعروف بتل إبراهيم ووقفنا أمام بناية كانت قد شيدت على


    الطراز العربي. وهذه البناية هي المقبرة الخيالية أو الوهمية لإبراهيم ومع أن احترامها في هذه البلاد أكثر من أبنية عزرا وما سواها من مراقد زعماء اليهود التي في بلاد ما بين النهرين ، فأراضيها لم يلجأ إليها إلّا جماعة من المزارعين الذين يشتغلون بالزراعة في هذه الأراضي التي تحيط ببرج نمرود.
    وتجد على جميع حيطان هذه البناية من الداخل بصمات حمرا لكفوف الإنسان؟!
    ويفصل برج نمرود عن تل إبراهيم واد غير عميق. وفي اعتقاد مسيو «أوپرت» العالم الآثاري المختص بآشور ـ الذي قام بعدّة تنقيبات واكتشافات في هذه المناطق وتوفق في الوصول إلى تسجيل بعض المعلومات المهمة عن التاريخ القديم ـ أن برج نمرود هذا لم يكن في الحقيقة إلّا ذلك المعبد الذي ذكره هردوت.
    ومهما يكن ففي أعلى البرج قطعة من حائط شيّد بمواد بنائية كثيرة يبلغ

    ارتفاعها أحد عشر مترا وهي تشبه إلى حد بعيد برجا ذا قاعدة مربعة تهدم بعض أقسامه العلوية بشكل شق أصيب به. وفي أطراف هذا الجبل المتكوّن من هذه الخرائب تجد قطعا كبيرة من الصخور والآجر منتشرة هنا وهناك ، وكل منها ملتصقة بالآخر بإحكام لدرجة أن كانت لها صلابة الحديد ، ويخيّل أنه من الصعوبة بمكان فصل بعضها عن بعض. ومن هذه النقطة المرتفعة تستطيع أن ترى جميع أقسام هذه الأبنية المخربة التي تقع على أطرافها. بل إن أفق العين واسع بحيث تستطيع أن تشاهد في الجنوب مغارات مشهد علي وفي الشمال الغربي أبنية مدينة الحلة ، وفي الشمال غابات نخل كربلاء وأخيرا تحت القدمين ترى بحيرتين بصورة واضحة جلية.
    وتجد حول هاتين البحيرتين مضارب لقبائل من الأعراب لا تزيد على بيوت للشعر أو خيم بسيطة إلّا أن سكانها سعداء وفرحون بمنازلهم هذه لأنهم على الأقل بعيدون عن متاعب ولصوصية موظفي الترك الأوباش.
    وبعد أن شرح لنا الكولونيل «جرارد» بعض دقائق هذا البرج هبطنا من التل وأخذنا في التفرج عليه من أسفل واستطعنا بسهولة أن نميّز طبقاته وأقسامه المتعددة التي شيدت في أزمان متباعدة مختلفة. أما معرفة ارتفاع البرج فبدت لنا صعبة لأن الطبقات السفلية منه كانت قد غطتها الأوحال والطين وما سقط من أقسامها العلوية عليها من حجارة وصخور وتراب بحيث تعذر علينا معرفة مقدار تلك المواد التي تراكمت على قاعدته. ولكننا لو فصلنا بعض أقسامه وعينا كلّا منها حتى نصل مستوى الأرض العام وأخذنا بنظر الاعتبار شبهه البعيد بقصر سرجون لاستطعنا في هذه الحالة تعيين طول البرج بثمانين مترا تقريبا على وجه الحدس والتخمين. وبناء على هذه الفرضية يكون ارتفاع كل طبقة من الطبقات السبع لهذه البناية ثمانية أمتار تقريبا وكل هذه كانت تنتصب فوق قاعدة طولها مائة وثمانية وعشرون مترا وارتفاعها خمسة وعشرون مترا. وجميع هذه الطبقات كانت متصلة بعضها ببعض بواسطة درج يقع في القسم الأمامي منها ومن ناحيتها الشمالية الغربية. كما أن جميع آجرها الذي شيدت به كان ملونا وموشى بالميناء المزوق.


    وكلما زدنا الملاحظة في شرح هردوت لقلعة اكباتان «همذان» وأنعمنا النظر في الألوان المكتشفة في برج خرساباد يتضح لنا أن هذه الطبقات كانت خاصة بالأرباب الحماة للأسبوع ، وكل منهم كان له لون خاص به وأن ترتيبهم كان يجري على حسب ترتيب أيام الأسبوع وفي الأعلى أو الطبقة السابعة كانت خيمة الرب نبو (1) مضروبة وقد كان هذا كبير الحكام وصاحب السلطات المطلقة في السماء والأرض. وبحسب الروايات القديمة كان هذا الرب ينام على سرير ثمين بديع مزيّن بالجواهر بجانب فتاة عذراء محلية جميلة جذابة وأمامه منضدة كبيرة إلى حد ما ، نفيسة رائعة الصنع. والكهنة يحرقون كل عام في معبده مقدار ألف تالان من الصمغ والمستكي وينحرون أضاحي كثيرة عند
    __________________
    (1) كان البابليون يعتقدون أن نبو بن مردوك «مردوخ» وبن مردوك بن رب السماء ويقوم مقامه في الأرض.

    محرابه ، أما الآن فلم يبق أي أثر من هذه المحلات والمواضع والزينات ، وإن هذا البرج العظيم قد تهدم بكليته وأن الكثير من مواده التي أنشئ بها قد تراكم على جوانبه. ولقد أشرت من قبل إلى أن هذا البرج لم يكن في الواقع إلّا المعبد الذي ذكره هردوت للرب بلوس ، الذي ذكرته الروايات البابلية أنه معبد الألوان السبعة ، والحقيقة أنه ليس ثمة شك ولا ريبة في هذا البتة إلّا أن بعض المكتشفات التي عثر عليها سير رولنسن (1) في زوايا هذه البناية تضع في أيدينا معلومات مهمة جدّا.
    إن هذه المكتشفات تؤيد الروايات العبرية وتعين لمعبد بلوس موضعا جديدا. ومن بين الألواح المكتشفة هذه التي جاء فيها قول بختنصر نفسه ما هذا نصه : «أما ما يخص البناية الأخرى المعروفة باسم بناية الأنوار السبعة والتي لم تعد أقدم آثار برسيبا (2) فلقد شيدها أحد الملوك القدامى (فاصلة ذلك الزمان عن الآن تقدر باثنين واربعين من عمر الإنسان) ولكنه لم يتمكّن من تكملة بنائه وإقامة قمته العلوية. والناس لم يهتموا به منذ حدوث طوفان نوح ولكنهم بعد مدة أخذوا في تأويله واختلاق الأساطير والروايات حوله. ومن ناحية أخرى حدثت زلزلة ورعد عمل على تصديع بعض جوانب هذه البناية التي كانت مشيدة باللبن والطين ، وفي النهاية تهدمت هذه البناية العظيمة بسبب حوادث أخرى وأصبحت على شكل تل غير مرتفع. بيد أن الرب الكبير مردوك «مردوخ» قد أوصى إليّ أن أعيد بناءها. ولقد قمت بهذا الأمر دون أن أغير موضعه أو أمس رمحه بسوء ، ففي شهر السلامة وأيام السعادة نفذت ما طلب مني فأعدت تشييدها مقيما العقود ومعيدا الآجر الموشاة بالميناء الملونة ووضعت اسمي في مقدمتها من باب الاعتزاز والافتخار. أجل إنني بادرت إلى إقامة البرج وأعدت إليه سابق عهده وجمال منظره. أعدته بعد أن كان أكواما من الطابوق والتراب لا يختلف عن تل غير مرتفع في أحسن الفروض والأحوال».
    __________________
    (1) مستشرق وعالم آثاري انكليزي معروف (1810 ـ 1895) وهو الذي ترجم لأول كتابات «بيستون» الموضع التاريخي المعروف في إيران.
    (2) Bersippa اسم أحد قصبات مدينة بابل.

    إذن يتضح من هذا أن برج بابل المشهور لم يكن غير هذا التل الذي أقف عليه الآن إلّا أنني لا أعرف على وجه التأكيد مدى صحة الروايات العبرية التي تذكر أن هذا البرج كان السبب في تعدد اللغات وتعقيد أمورها بما وضع من أمور النحو والصرف. والواقع أنه من الصعوبة بمكان القطع بمثل هذه الحقيقة الغامضة التي لا تؤيدها أدلة عقلية منطقية.
    على هذا الأساس لم يكن هذا المعبد الذي يجب أن أسميه باسمه الأصلي وهو معبد الأنوار السبعة يقع في مركز مدينة بابل ، بل لعله كان يقع في ضاحية برسيبا المتاخمة لبابل. وينبغي أن لا نتصور أن ابتعاد القصر الملكي عن المعبد الديني وكل منهما يقع في محل معيّن خاص كان معناه أن بابل وبرسيبا كانتا مدينتين مختلفتين ومستقلتين إحداهما عن الأخرى ، يقول هردوت مثلا : إن الحصار الذي ضرب حول مدينة بابل كان قد شمل برسيبا أيضا إلّا أننا نستطيع التصوّر أن الحال لم يكن كذلك على الدوام وفي كل حصار تتعرّض له بابل. كما أننا نستطيع الفرض أن هذا المعبد كان تارة بعيدا عن المدينة وأخرى واقعة ضمن دائرته. ذلك لأن الملوك في كل زمان كانوا يوسعون رقعة المدينة أو يضيقونها بحسب مقتضيات الزمن وضروراته؟!
    25 ديسمبر 1881 :
    في طريق عودتنا من برسيبا توقفنا فوق كثيب يعرف بعمران ابن علي. وهذا الموضع هو المكان الذي عبرنا منه منذ ثلاثة أيام. تقع هنا كثبان خرائب وحفرت الخنادق المبعثرة هنا وهناك التي حمل منها التراب لأغراض التنقيبات التي جرت في هذه المنطقة.
    والمرتفعات والمنخفضات كثيرة لدرجة أن الشخص الغريب ولا سيما السائح يتيه فيها ويضل طريقه. وتجد إلى جانب كل ذلك صخورا وأحجارا كبيرة متلاصقة الواحدة بالأخرى لدرجة لا يمكن فصلها قط ..
    ومما يلفت نظرك هنا تمثال الأسد الصخر الذي ظهر قسم من جسمه ودفن الآخر تحت التراب. إلّا أن الملحوظ فيه أنه لم يراع في نحته الدقة

    والجمال الفني. وهذا الأسد هو الأثر الوحيد الذي اكتشف من قصور ملوك كلدية القدامى تلك القصور التي أسلم فيها الإسكندر المقدوني روحه.
    أما الحدائق المعلقة التي أنشأها بختنصر لزوجته فلم يبق منها شيء وكانت هذه تسمى بآميتيس «Amytis» وهي بنت أستياج ملك الماديين الذين تقع بلادهم في الأقسام الجبلية المزدانة بالأشجار والحدائق الغناء الكثيرة.
    ولقد أقام بختنصر هذه الحدائق بناء على رغبة زوجه التي كانت ضجرة من مناظر صحراء بابل ولتعودها من جهة أخرى على مناظر بلادها المزدهرة بالأشجار والأزهار.
    والحدائق المعلقة هذه لم يكن لها عمر طويل إلّا أنها كانت جميلة جذابة كثيرا ، فلقد كتب فيها الكونت كورس وفاخر في كتابته حتى أنه عدها إحدى أعاجيب ذلك الزمن ، كما أن ديودور الصقلي ذكر هذه الحدائق في بعض كتاباته وأسهب في جمالها وروعتها.
    والخلاصة أن مدينة بابل بعد موت الإسكندر وتأسيس مدينة سلوقية قد تركت وأخذت تضمحل رويدا رويدا ، ثم فقدت مقامها الرفيع وانهدمت عماراتها الجميلة البابلية. وانتهى بها الأمر أن يبست أشجارها وماتت بسبب قلّة وصول الماء إليها ، وإن فردوس ملكة آميتيس صارت موضعا للأشواك وجسد امپراتريس الجميل سقط واختلط بالتراب.
    وفي زمن الملوك الأشكانيين غدت مدينة بابل مهدمة متروكة تماما. وإن بساتينها الجميلة الرائقة انقلبت إلى مقابر موحشة. إن مقابر البارثيين التي اكتشفت منذ بضع سنين قد أثبتت هذا الأمر بحيث لا يقبل ردّا ولا جدالا. إن الاستحاثات والتنقيبات التي أجريت في أطراف القصر الملكي أتت بنتائج مفيدة ومهمة جدّا. وما زالت تلك العمليات قائمة على قدم وساق فزهاء 300 إلى 400 شخص عربي منهمكون في رفع التراب عن حيطان هذا القصر وما يتاخمه ، ولقد اكتشفت أن حيطانه كانت قد أنشئت من الآجر والقار وأن أبهاءه الشامخة الطويلة التي تشبه الأبهاء المحيطة ببرج نمرود كما رأيناها من قبل قد اكتشفت أيضا ورفع عنها التراب. وقد عثر إلى جانب كل ذلك على أشياء لم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:56 pm

    يراع في صنعها الفن والروعة إلّا أنها مهمة من الناحية التاريخية ، ومن حيث ما تلقي من ضوء في حوادث تلك الأزمان السحيقة ولا سيما ألواح الطين المفخورة الكثيرة التي دونت عليها عبارات بالخط المسماري بصورة متداخلة السطور بحيث يمكن قراءتها بصعوبة كبيرة وتعيين معانيها.
    وفي غالب الأحيان عندما كانوا يزيدون في حفر الأرض فقد كانوا يكتشفون في الأعماق الغائرة أواني صنعت من القار وهي مكسورة وفي جوفها عظام لكتف ثعلب أو فك جواد؟!
    وعلى بعد كيلومترين من هذه العاصمة القديمة يقع تل عال كبير على شكل هرم ناقص كنا نراه من مسافة بعيدة جدّا من خان الإسكندرية. ويخيل إلى المرء أن هذا التل من جانب وبرج نمرود من الجانب الآخر كانا يعينان الحدود النهائية لمدينة بابل العظيمة. وهذا التل الذي يبلغ طوله مائة وثمانين مترا وارتفاعه أربعين مترا ليس طبيعيّا وإن الإنسان قد أقامه بيديه أو قد ساعد على إقامته وسكنة هذا المحل يقال لهم البابليون.
    وفي اعتقادي أن هذا التل من بقايا المعبد الذي ذكره المؤرخون اليونانيون من أنه صنع في عهد حكم آسارحادون ((Assarhaddon) أو سور آخئيدين)(Assour ـ Akheyddin) من أجل الرب بل مروداك (Bel ـ Merodaek) وفي حكم بختنصر ونريگ لي سور ، أو نيركال سار أو سور قد توسع وجمّل كثيرا وأضيف إليه بعض التزيينات. وهذا البناء قد هدم كله بأمر من خشيارث الملك الإيراني. بيد أن الإسكندر المقدوني كان يفكر في بنائه عودا على بدء للبابليين ولكن المنية عاجلته وأصبحت بعد ذلك قلعة حربية يونانية ، أما الآن فقد انقلبت تلا من تراب ليس له مظهر ولا شكل معيّن.
    ولقد ارتقينا نحن هذا التل من غير أن نلاقي صعوبة تذكر وبلغنا قمته وفي موضع التمثال الذهبي الذي كان يقع هناك (وقيل إن خشيارث قد أخذه معه) لم نجد سوى أحجار وصخور مكسرة وحفرة تشبه إلى حد بعيد بئرا غير عميقة. وليس من البعيد أن تكون هذه مرصدا لمنجمي كلدة القدامى السعداء؟! وهنا وهناك كنا نعثر على قطع صغيرة كتبت بخطوط يونانية أو

    آرامية. وفي نهاية هذا التل من الناحية الجنوبية عدّة حفر نرى من المؤكد أنها حفرت بأيدي المنقبين وفي أطرافها عدّة مبان مشيدة من الطين والآجر ، ومن المعلوم أنه لما لم يجدوا آثارا مهمة فيها تركوها.
    وعلى أي حال تبعث مناظر خرائب معبد بلوس ومدينة بابل القديمة على الأسى والحزن. والآن ما زال جماعة من العمال العرب والترك منهمكين في عمليات التنقيب وتصل إلينا همهمتهم وأغانيهم بصورة جميلة.
    وتحيط بهذه الكثبان والتلال التاريخية الأشواك والنباتات الطفيلية الطبيعة من كل جانب ، وهي في الواقع غير مأهولة لا يقطنها سوى قوم من الرعاة مع خرافهم وجماعة من الحفارين والمنقبين ..
    وبناء على روايات التوراة جاء على لسان الله سبحانه وتعالى قوله «بعد مرور سبعين سنة من ظلم وجور بابل سأتجه عليها مغضبا وأمحوها عن الوجود إلى الأبد».
    26 ديسمبر 1881 :
    إنني متأسفة جدّا لأني لم أستطع أن أرى بابل منذ ألفين وستمائة سنة عند ما كانت عاصمة بختنصر وسلفه ذات جلال ورهبة. فلو كان يحدث مثل هذا لكنت أغتنم الفرصة وأعرض نفسي في إحدى الجلسات الطبية التي كانت تعقد يومئذ.
    في ذلك العصر عندما كان الواحد من سكنة بابل يصاب بمرض ما كان يخرج من منزله ويوضع في ميدان من ميادين المدينة أو في متقاطع طرق يكثر العبور منه. وكان الناس في هذه الحالة يحيطون بالمريض المضطجع وكل منهم يصف له الدواء الناجع بحسب سليقته ومعلوماته وتجاريبه؟!
    وهنا ودعنا الكولونيل جرارد واستودعنا الله إياه ، اتجه هو نحو «كدستان» وتوجهنا نحن نحو مدينة كربلاء التي تعد من مراكز الشيعة المهمة وفيها عدّة مدارس كبيرة مذهبية وفي بعض الأحيان يقضي طلاب هذه المدارس عشرين سنة أو أكثر في تحصيلاته الدينية.
    وفي موقع خروجنا من بابل أخذنا الأدلة وعبروا بنا قناة تتوسط مدينتي

    الحلة وكربلاء وذلك بواسطة زوارق شراعية صغيرة. وعندما بلغنا اليابسة طفقنا نمر خلال أرض صفراء منبسطة ليس فيها زرع ولا نبت لأن المحصول الربيعي كان قد حصد ونقل إلى المدن للبيع .. كما أنا لم نر في طريقنا قرية ولا قصبة.
    بعد ساعتين من المسير لاحت لنا عن كثب خيم جماعة من الأعراب الكبيرة مرتفعة بين الأشجار والنباتات وأمامها برك ومستنقعات. وكانت بين هذه الخيم خيمة أكبر وأوسع من سائرها وأمامها فسحة من الأرض خالية وكان يعلوها علم يخفق في الأعالي.
    والواقع أن خيمة رئيس القبيلة وحدها تكون لها مثل هذه الميزات فقط. كما يكون له هو ميزات بين أفراد القبيلة خاصة به. ومن المعلوم أن ناصر الدين شاه الإيراني أخذ بهذه الرسوم والصلاحيات أيضا. إذ كانت تضرب له خيمة في مكان مستقل بعيد نوعا ما عن مضارب الآخرين ويرفع عليها علم عندما كان يخرج للصيد مع حاشيته أو للقيام بنزهة في البادية.
    والخلاصة أن القافلة أخذت تحت السير إلّا أن الشمس كانت تجنح إلى المغيب ، وكان ينبغي لنا أن نقطع مسافة كبيرة لكي نصل إلى غابات النخيل التي تبدو أمامنا من بعيد وهي موضع الاتصال بين طريق الحلة وكربلاء على حسب أقوال الأدلة لنا.
    أخذت السماء رويدا رويدا يملؤها الظلام والسحب تتراكم فوق رؤوسنا وأخيرا شرع المطر في الهطول وتعذرت علينا متابعة السير في ذلك الطريق الموحش الذي تختفي تحت نباتاته ومزروعاته مجاري المياه والآبار. ولا سيما أن أدلتنا لم تكن لهم المهارة والشجاعة الكافية إذ رأيناهم يقولون لنا إنه ينبغي لنا أن نتقدم القافلة لأننا نحمل السلاح دونهم لا لشيء آخر.
    ولو لا أن اتفق أن رأينا في طريقنا أربعة أشباح ضخمة لم يكن في مكنتنا متابعة السير للوصول إلى غابة النخل. والواقع أن هذا المشهد أثار في نفوسنا الخوف والوحشة ودفع أدلتنا ومن كان معنا في هذه القافلة المنحوسة إلى أن يختفوا خلف الأشجار ، واضطررنا نحن في هذه الحالة إلى تجريد سلاحنا

    والتهيؤ لإطلاق النار ، ولكن الله سلم إذ ما كدنا نقترب بضع خطوات حتى وجدنا أن هذه الأشباح التي حسبناها حيوانات مفترسة ضخمة لم تكن سوى جماعة من الحطابين يحملون فوق ظهورهم حزما من الشوك وأغصان الأشجار؟!
    وبعد أن استعدنا اطمئناننا والتقطنا أنفاسنا اللاهثة أجبر أحد أفراد قافلتنا هؤلاء الحطابين أو بالحري جامعي الشوك أن يرافقنا إلى محل نطمئن إليه وتأمن فيه القافلة في ظلام هذا الليل الموحش. وأخيرا بلغنا قرية صغيرة كانت تبعد كيلومترين من هذه الأهوار ووقفنا أمام باب هشمت خشبه النمل ودام وقوفنا ربع ساعة لكي يسمح لنا بالدخول إلى هذا المنزل الذي لا ندري ماذا ينتظرنا فيه.
    وبعد لأي وصبر فتحت الباب ودخلنا فإذا هو خان بين ـ بين لا بالواسع ولا الصغير تحيط به من الجوانب عدّة دكاكين. وكان هذا الخان يضاء بفوانيس نفطية وكذلك الدكاكين الصغيرة القذرة. لقد أمضينا ليلتنا هنا مضطرين بسبب هطول الأمطار بغزارة في ذلك الوقت الأخير من الليل.
    27 ديسمبر :
    أفقنا اليوم قبل أن تبزغ الشمس وتابعنا سفرنا إلى كربلاء وبعد أن عبرنا جسرا صغيرا يقع على شط الفرات بلغنا الطريق الموصل إلى هذه المدينة الدينية. ولقد تغيّرت المناظر منذ وطئت أقدامنا هذه الطرق فبدل تلك الصحراء القاحلة الكئيبة ، أخذت تطالعنا بساتين وحدائق مزدهرة يانعة مكتظة بأشجار الليمون وبالنخل والأزهار البديعة المختلفة الألوان.
    وفي الطريق كنا نرى حركة المرور نشيطة ودائبة ، وقسم من هؤلاء كان من النسوة إما ممتطيات ظهور الدواب وإما ماشيات على أرجلهن ، وكن يسمعننا بعض العبارات الجارحة والسباب الذي لا ندري علته وسببه (1) بيد أن
    __________________
    (1) لعلّ ذلك كان إنكارا منهن لحالة السائحة في استرجالها وترحالها ، وستذكر السائحة ذلك. «المترجم»

    الرجال منهم لم يقولوا شيئا على ما كان يظهر لنا.
    ولقد وضح لدينا أن هاته النسوة كن ينفعلن من رؤيتنا بحيث لا يستطعن إخفاء شعورهن المعادي لنا أو إسماعنا الكلمات الجارحة. ولعل مردّ ذلك تحديقنا في وجوههن أو الكراهية المتأصلة في قلوبهن ضد الأوروبيين.
    وعلى أي حال لم يمنعنا ذلك من التطلع إليهن وإن كانت وجوههن دميمة تبعث على القرف والاشمئزاز وأجسامهن قذرة تقذي العين. كان اشمئزازهن لنظراتنا عظيما لدرجة أنهن كن يتمنين لو اتصفن بمزايا وخصائص «مدوز» (1) حتى يستطعن تجميد نظراتنا والتخلص منها.
    وقبل أن تتحقق أمنية هاته القرويات لفت نظرنا منظر غابات النخيل والليمون المتناثرة على جانبي الطريق ، وغمرنا جوها الرائع الجميل بحيث نسينا السائرين جميعا النساء والرجال على حد سواء إلّا أنه لم يطل تمتعنا كثيرا بهذه المناظر المزدهرة فسرعان ما رأينا أنفسنا على عتبة باب المدينة.
    وأمام هذا الباب الذي يقال إنه من المباني العتيقة ساحة واسعة كان يشغلها عدد من الحجارين المنهمكين في قطع وصقل الأحجار والصخور المستعملة في تشييد المقابر وما شابه ذلك. وكان قسم من هذه الصخور مصقولة ومهيأة للبيع ، والقسم الآخر في طريق إكمالها وعرضها على الطالبين.
    ولقد علمت أن هؤلاء الحجارين اتخذوا هذا المكان لاستقبال القادمين من أفراد القوافل الذين كثيرا ما يقدمون الى هذه المدينة لدفن موتاهم فيها. وبمجرد أن يطأ هؤلاء الغرباء أرض هذه الساحة يحيط بهم أولئك الحجارون من كل جانب ، فيعرضون عليهم بضاعتهم بإلحاح وإلحاف مملين مزعجين. وبعد مساومة تطول في أكثر الأحيان يتفق الجانبان على الثمن ، وعلى الأثر
    __________________
    (1) Meduse شخصية خرافية تمثّل عذراء كانت على جانب كبير من الجاذبية والجمال إلّا أنها أهانت إله العقل فغضب عليها غضبا شديدا ، وقلب خيوط شعرها الجميل الرائع الذهبي إلى أفاع خطرة موحشة ، ووضع في عينيها قوة تحوّل كل من تنظر إليه إلى أحجار وصخور جامدة؟!


    يأخذ الحجار في تدوير اسم الميت وأبيه وجده على الصخرة.
    وبعد أن قطعنا هذا الميدان الواسع وصلنا إلى الباب بيد أن الحراس رفضوا دخولنا منه وطلبوا من أدلتنا أن يأخذونا من طريق آخر ويدخلونا المدينة من خلف سور المدينة ، وينزلونا في المواضع السفلى الأخيرة من المدينة.
    وعلى هذا الأساس انعطفنا من هذا الطريق إلى آخر ومررنا بجماعات كبيرة من الناس كانوا قد أقاموا معسكرات. ولقد علمنا أن هؤلاء كانوا من الزوار الذين وفدوا إلى المدينة المقدسة ولضعف حالتهم المادية لم يستطيعوا الإقامة في الخانات والمنازل التي في الداخل ، لذلك اضطروا إلى الإقامة في الخارج على شكل معسكرات أو مضارب من الخيم. ولقد رأيت كلّا من هؤلاء الزوار المساكين يقيم بجانب أثاثه الساذج وأمام دابته الواهنة وهو في حالة تعبد وتهجد. وفريق منهم منهمك في مضغ التمر الذي نواته أكبر من شحمه ومواده.

    وبعد مدة اجتزنا بابا إلى شارع كان يبدو أنه شق حديثا. ولقد توقف أدلتنا في وسط هذا الشارع ودخلوا منزلا قذرا مظلما يحوي حجرا ضيقة!
    ولم نر نحن بدّا من قبول النزول في هذا البيت على علاته الكثيرة وقذارته ، ذلك لأن مدينة كربلاء تعد أكبر وأهم العتبات المقدسة لدى جمهور كبير من المسلمين ، ويؤمها سنويّا عدد ضخم لا قبل لها باستيعابه على رغم كثرة خاناتها ومنازلها ودورها المخصصة لإقامة الزوار. ثم إنه كان ينبغي لنا أن نبعد عن الزوار ما استطعنا؟!
    وبعد أن اطمأن بنا المكان الذي وضع في تصرفنا وهو الطبقة التحتانية الرطبة ارتقيت الدرج إلى السطح وأخذت من هناك التطلع إلى منظر المدينة الرائق ومشاهدة قبة ومنائر مرقد الإمام الحسين المذهبة على الجهة اليسرى ، أما الجهة الأخرى فكانت فيها قبة صنعت من الكاشي الأزرق يغلب على الظن أنها في أواخر العهد الصفوي.
    ينبغي لنا الآن أن نحسن التصرف والحكمة كالسياسيين لأنه نريد أن نزور المرقد الشريف هذا الذي لا يقل احترامه لدى الإيرانيين عن الكعبة بيت الله الحرام من دون أن يكون لنا ما يجيز لنا هذه الزيارة الخطرة. ولأجل هذه الغاية نفسها تحملنا كل هذه المصاعب والمشاق في سفرتنا ، وفضلنا أن نسكن هذا المكان الرطب القذر الذي يكاد يشبه الزريبة ، إلّا أن زوجي «مارسل» كان قد اعتبر بواقعة الكاظمين وهيأ كل ما يلزم لزيارتنا هذه ، فأخذ من بغداد عدة توصيات لرجال الدين ووجوه البلد والمسؤولين في كربلاء لمساعدتنا وتسهيل أمرنا.
    وفي البداية ذهبنا لمقابلة القنصل الإيراني ، ووجدناه رجلا لطيفا يبلغ عمره أربعا وثمانين سنة متغضن الوجه حلو اللقاء. ووجدنا حوله عددا من رجال الدين والقراء والمراجعين. وما إن رآنا حتى صرف جماعة من زائريه ومراجعيه وأجل مقابلة الآخرين إلى اليوم الثاني ليتفرغ لمقابلتنا ، وبعد أن ترك الجميع المنزل ولم يبق فيه إلّا أفراد عياله أصغى إلى ما كنا قد أتينا من أجله ولقد أجاب عن ذلك بقوله : «إنه لم يتفق قبل الآن أن استطاع شخص نصراني

    زيارة مرقد الإمام الحسين ، إلّا أنني رغم ذلك سأبذل جهدي لتحقيق رغبتكم هذه ولي أمل بأن أنجح في هذا ، وعلى أي حال ينبغي لكم أن تعتمدوا على ممثل أكبر وأليق سلاطين الإسلام .. وعلى الفور أرسل أحد خدمه إلى كليدار الصحن الشريف يخبره بوصولنا ويطلب منه الحضور إلى هنا لعرض رغبتنا عليه في هذا المجلس.
    وفي فترة غياب الخادم اشتغلنا بحركات طفل كان على جانب من الذكاء والجمال وملاعبته للشيخ ومداعبته إياه ، ولقد هنأت القنصل الإيراني لحظوته بمثل هذا الطفل الذكي لأمتلك قلبه ليهيئ لنا سبيل زيارتنا للمرقد الشريف؟! وسمعته يقول ردّا على ذلك بقوله : «أجل إنه طفل جميل وذكي ، وليس من أحفادي من هو في قوته وسرعة خاطره ذلك لأنه ولد وترعرع في ظل الإمام الحسين في كربلاء» ولقد أيد أفراد عياله من النساء قوله ومن ثم أخذنا في تجاذب أطراف الحديث حتى عاد الخادم وقال : «إن الكليدار قد ترك المدينة منذ مدة لتغيير الهواء والنزهة وإنه بعد أسبوع واحد سيعود في أغلب الظن من قصبته التي ذهب إليها».
    إلّا أن قول الخادم هذا لم يبعث في نفوسنا اليأس كما أننا لم نتفاءل به خيرا في نفس الوقت. لأن غياب الكليدار عن المدينة يمكن تأويله وتفسيره كل حسب خياله وفكره.
    أما القنصل الشيخ فإنه دون أن يغيّر من حاله أخذ يسرد لنا ما يلاقيه من صعوبات ومتاعب في أداء مهمته ، وأبدى شكواه من سطوة الموظفين الترك وتجبرهم وعدم استطاعته ليكفي رغباتهم وعجزه عن التدخل في شؤونهم .. أخذ يحدثنا بأمثال هذا الحديث لكي يوحي إلينا في خلاله أنه ليس في مكنته مساعدتنا كما ليس في مكنة من سواه ما عدا الموظفين الترك.
    ولقد صدق مارسل أقوال القنصل وأخرج من جيبه كتابا من والي بغداد إلى نائب الحكومة في كربلاء يطلب منه مساعدتنا وتلبية طلباتنا وحاجاتنا ووضعه بين يدي القنصل.
    وبعد أن حدج الرجل الشيخ بعينيه في الكتاب قال : «لا يستطيع أحد أن

    يقف في طريقكم ما دمتم تحملون مثل هذا الكتاب» وهنا صاح بخدمه ليهيئوا له جواده المطهم ويذهب بنفسه إلى الكليدار وعرض القضية عليه ، وقال لنا إنه سوف يعود بعد مداولته ليخبرنا بالنتيجة ..
    وعند العصر دخل حجرتنا جماعة من القراء والشيوخ المعممين وأخذ كل منهم في تقديم التهنئة بوصولنا بالسلامة وقراءة التحية والترحيب بنا ، ثم تركوا الكلام لأحدهم فأخذ يخطب وبعد أن أفاض بمقدمة أدبية طويلة قال إنه من دواعي سرور القنصل أن نحل في منزله وأن نطلب مساعدته وإنه من دواعي الشرف للكليدار أن يتلقى مثل هذه التوصية من والي بغداد ، ثم راح يشرح لنا عظمة وجلالة المرقد المطهر الذي زاره شاه إيران مشيا على قدمه عند ما كان في هذه المدينة ، وبعدها قال إنه ينبغي لنا أن نكون في غاية الشكر والاعتراف لأنه لم يسمح قبلا للأجانب بزيارة الضريح الشريف وأن نعد هذه الزيارة فرصة ذهبية قيمة» .. هذه الزيارة التي لا تتم إلّا من سطح إحدى الدور القريبة من المرقد وبعد أن نضع فوق رؤوسنا طرابيش الترك الحمر كيلا نكون موضع ريبة وشك؟!
    وبعد أن سكت الخطيب الذلق اللسان تكلّم مارسل فقال : إنه يسره إبداء الشكر الجزيل للعطف الذي قوبل به لزيارة المرقد المطهر من سطح إحدى الدور؟! إلّا أنه يبدي أسفه على أنه لا يستطيع في حال من الأحوال تبديل ملابسه. ولا سيما تبديلها بملابس تركية وارتداء شعار الترك الذين لا يكره أحدا بقدر كرهه إياهم».
    وعلى خلاف ما كنت أنتظر ، ترك قول مارسل هذا أثرا حسنا في نفوس القوم لأنه نال به من رجال الترك وحط من أقدارهم (1) .. وبعد تبادل الابتسام والهمس بينهم ضربوا لنا موعدا في الصباح الباكر من اليوم الثاني وذلك بأن يأتوا فيأخذونا إلى دار قريبة نشاهد من سطحها مرافق وأنحاء المرقد الشريف وذلك قبل فتح أبوابه ومن دون أن نغير ملابسنا وكان ذلك حسب طلبنا.
    __________________
    (1) تعني السائحة : نال قوله الرضا عند أولئك الشيعة المبغضين للترك. «المترجم»

    28 ديسمبر 1881 :
    جلست أنتظر قدوم القوم قبل أن تبزغ الشمس وتمحو أشعتها ظلمة الليل البهيم إلّا أن انتظاري طال وملأ النور قبة السماء وتلألأت المنائر المذهبة بالضياء ولا أثر لهؤلاء المعممين ، أي مضت ساعتان على الموعد المضروب ولم يأتوا ليأخذونا إلى المنزل القريب من المرقد المطهر لزيارته من السطح؟! وعيل صبر مارسيل فأرسل مندوب حكومة بغداد الذي كان يرافقنا إلى دار القنصل الإيراني ليستوضحه سبب تأخر القوم عن الحضور. ثم خرجنا لنتفرج على مرافق المدينة ومررنا بمقابر وسيعة. وإلى جانب مقابر المتمولين والسراة الواقعة على أطراف الصحن وضريح الإمام مقابر واسعة خارج المدينة وهي لعامة الناس والفقراء منهم. وتظلل هذه المقابر أشجار كثيرة ولها منظر جذاب جميل في هذا المكان الموحش. وأينما سرنا في هذه المدينة نلتقي برجال دين معممين بعضهم شيوخ لهم وجوه متغضنة معطبة والبعض الآخر في مقتبل العمر يموج في وجناتهم ماء الشباب.
    تعد هذه المدينة بمثابة جامعة كبيرة يؤمها الطلاب من مختلف أصقاع البلاد الإسلامية لتلقي علوم الدين ، ويقضون فيها لهذا الغرض أكثر سني حياتهم. ويعيش هؤلاء الطلاب جميعا الصغير والكبير الشاب والهرم على التبرعات التي يتبرع بها الزوار ووجوه المسلمين الذين يعيشون خارج هذه المدينة. ويقدم الزوار لهذه الغاية أموالا طائلة عن طيب نفس ، وفي بعض الأحيان يتبرعون بأثاث وسجاجيد ثمينة وأوان من الفضة التي يجلبونها معهم وذلك للحصول على ثواب الآخرة.
    وبعد أن رجعنا إلى المنزل كان في انتظارنا رسول جاء ليبحث معنا مسألة تبديل شعار الرأس عودا على بدء؟!. بيد أن مارسل ضاق ذرعا بهذه السياسة وكان متعبا لهذه المعاملة فلم يصغ إلى حديث الرسول وصاح بالخدم أن يهيئوا الجياد لترك هذه المدينة في أسرع ما يمكن.
    والخلاصة أننا خرجنا من كربلاء ويممنا وجهنا شطر بغداد ..


    29 ديسمبر :
    نحن الآن في بغداد ، الشمس على وشك المغيب إلّا أن أشعتها الذهبية ما زالت من خلال السحب المتناثرة تضيء جوانب أفق المدينة ولا سيما أعالي النخل الخضر؟! ولقد تكوّن من ذلك منظر رائع جميل يأخذ بمجامع القلوب.
    وأوحى إليّ هذا المنظر الجذاب هذه الفكرة وهي أن مدينة بابل في عصرها الذهبي المزدهر عند ما كانت فيها تلك العمارات السامقة والحدائق المعلقة والقصور العجيبة الغريبة والأسوار الطويلة المحكمة والأبواب الضخمة الكبيرة ، أقول إن مدينة بابل في عصرها ذاك ، أي جلال كان لها وأية أبهة لها وأي تأثير عميق في نفس زائرها أول مرة.
    ومن المؤسف حقّا أن تنقلب عاصمة بختنصر العظيمة إلى كثبان وتلال من التراب .. ولا أدري ماذا يكون مصير هذه المدينة (بغداد) عاصمة الخلفاء

    المسلمين في المستقبل؟ هل تمتد إليها أيدي الأقدار كأختها مدينة بابل أم تكون في نجوة من السوء الذي يحوق بها؟!
    هذه هي عاصمة أولئك الخلفاء العظماء الذين استطاعوا أن يفتحوا بلدانا كثيرة وأن يرفعوا علمهم على أعالي مدن أسبانيا وأن يخضعوا لحكمهم مدن العالم الكبيرة الأخرى ، ترى هل قرب أجلها هي الأخرى وهل تنهدم هذه المدينة عن قريب؟!
    إنني لا أريد لها هذا المصير المؤلم أبدا ، بل أتمنى على العكس لها كل خير. بيد أن الذي أطلبه إلى الله سبحانه وتعالى هو أن يطهّر هذه المدينة من أولياء أمورها وقضاتها وموظفي كمركها الأتراك الذين ينخرون جسمها نخرا وأن يحفظ عليها آثارها التاريخية الثمينة من تطاول أيدي الزمان الذي هو أعدى أعداء العمران ..


    السنة الثانية من الرحلة
    1 جنويه 1882 ـ العمارة ـ
    لا أدري ماذا أتمنى اليوم بعد أن أبت الظروف أن يتحقق أي حلم من أحلامي السابقة؟ يا ليتني كنت أستطيع أن ألقي نظرة على وطني الحبيب فرنسا. ولكن أين أنا الآن من أرض أجدادي وملعب صباي .. إنني لم أود أن أتابع القيام بهذه الرحلة المتعبة المملة ولكن ماذا بيدي وإنني أحترم رأي مارسل الذي يرى أن نذهب إلى خوزستان.
    هكذا ينبغي لي أن اتجه إلى تلك البلاد وأتحمّل كل ما ينتظرني من منغصات ومتاعب وآلام .. بل من يدري لعلي أسعد فيها على خلاف ما أنتظر وعلى خلاف أيام سفرتي السابقة ولكن لا .. لا .. إن ظواهر الأمور تدل عكس ذلك.
    هذه أول سفرة أقوم بها وأنا راغبة عنها ضجرة يائسة مما أجد فيها من متعة وسلوة. وأقول مرة أخرى ماذا بيدي ومارسل يريد ذلك وليكن ما يكون ..
    وإذ كنا نريد أن نقضي عدّة أيام في طيسفون فلم نقم بتوديع بلاد ما بين النهرين الوداع الأخير ولقد تركنا بغداد ظهيرة يوم 30 ديسمبر وكنا ونحن في طريقنا نرى المزارعين وهم منهمكون في زراعة أراضيهم ، وبعد مدة قصيرة رأينا أنفسنا فجأة في صحراء قاحلة ليس فيها سوى أشواك طويلة احتمت بظلالها عدّة قطعان من الخراف وكان لرعاتها بخلاف المزارعين الوادعين عيون ضارية وحشية مضطربة. ولم تمض إلّا فترة وجيزة حتى تراءت لنا

    خرائب قصر طيسفون التي تشبه شبحا أسود ضخما ، ولكن الظلمة ما فتئت أن ملأت المكان وتعالت أصوات الثعالب (1) من بعيد.
    ولقد أمضينا يومين كاملين في مشاهدة خرائب طيسفون عاصمة أكاسرة إيران بتدقيق وإنعام ، كما زرنا مرة أخرى خرائب مدينة سلوقية التي تنافس طيسفون ، وزرنا مقبرة سلمان باك ثم ركبنا بعدئذ سفينة باسم «الخليفة» وهي من السفن الجيدة لشركة لنج تعمل في نهر دجلة.
    كانت هذه السفينة مكتظة بالزوار كسفينة الموصل. وبين أثاث هؤلاء الزوار الفقراء رأيت سجادة ذات لون ثابت جميل ونقوش بديعة. وبعد أن أنهى صاحبها الصلاة سألته عن سعرها فطلب مبلغا كبيرا لبيعها ، والواقع أنه لم يكن يتناسب مع زهده الذي كان يظهر عليه وأطماعه التجارية ، لذلك صرفت النظر عنه وعدت إلى حجرتي. وبمجرد أن دخلتها رأيت من يطرق الباب ولما فتحته وجدت نفسي أمام زائر آخر يتأبط صرة كبيرة وقال بتردد وحذر وهو يلتفت إلى أطرافه : «لقد جئت إليك بشيء نفيس» ومد يده إليها وأخرج زوجا من (البوتين) كان لكثرة استعماله قد اهترأ وتمزّق؟!
    نظرت إليه بتعجّب ودهش وقلت له باستنكار : أو تريد أن تبيعني هذا الحذاء؟
    أجل .. أما أردت أن تشتري سجادة تقي العتيقة إن هذه الأحذية أعتق وأكثر قدما من تلك السجادة.
    لقد تعجب البائع الأبله السخيف أني لم أشتر بضاعته العتيقة التي لا يشك فيها أحد؟! وقبل أن يتركني أخذ يغلظ الأيمان بأن هذا الحذاء قديم وعتيق وله في هذه الحالة أهمية وأي أهمية ..
    وفي اليوم الثاني توقفت السفينة في العمارة وهبطنا نحن منها مع من هبط فيها.
    __________________
    (1) الصحيح : بنات آوى أي الواوية لا الثعالب. «المترجم»

    تقع هذه المدينة الحديثة البناء على ضفاف النهر وبجانبها سد طبيعي مرتفع يستطيع فيه الملاحون بواسطة قطعة كبيرة من الخشب ربط سفنهم بالساحل. وبمجرد أن يقوم هذا الجسر الصناعي تهجم السفن نحو الساحل.
    بقينا نحن في الصالون بانتظار أن ينزل جميع الركاب لكيلا نلاقي صعوبة في تركنا السفينة في هذا الزحام الشديد. وفي هذه الأثناء دخل رجل تركي عليه ملابس نظيفة تدل على كرم محتد وعلو مقام ، على خلاف الآخرين ويحيط به جماعة من الخدم والحشم إلى السفينة وانتحى بربانها يتكلّم معه بصورة خافتة ..
    لم تكن القضية هنا قضية حذاء عتيق كما مرّ ، بل كانت قضية من نوع آخر إن هذا التركي الفظّ طلب من الربان المسكين رطلين من الشراب بإلحاح وإلحاف. فقال له الربان : ألست مسلما متدينا .. ماذا تريد أن تفعل بهما؟
    قال : أعلم أن ماء العنب حرام إلّا أن لي فرسا أصيلة مريضة منذ مدة ولأصالتها وجودة جنسها أحبها كثيرا ، ولقد أشار أحد السحرة عليّ تدليك بطنها بأحسن خمور أوروبا.
    ولما لم يكن على الربان أن يرد مثل هذا الطلب أشار إلى أحد الملاحين بإعطائه قنيتين من الشراب المعتق؟! أخذهما هذا الرجل الوقح وأخفاهما بين


    طيات ثيابه دون أن يعطيهما لخدمه لأنه لم يكن ليثق بهم ويأمن جانبهم كما قيل لي دون أن أعلم لماذا؟!
    وعندما أراد التركي الانصراف حاول التعبير عن شكره للربان فقال : «أرجو أن تصبح إنكلترا مثل تركيا دولة كبيرة معظمة». بيد أن هذا التعبير مس شعور الربان ونال من كبريائه الوطني فقال بانفعال شديد : «لم أسمع ماذا قلت؟ أنت تريد أن تجعل من تركيا في رتبة الدولة الإنكليزية العظيمة؟
    أجاب (الأفندي التركي) : لا .. إلّا أنني تمنيت أن يكون لإنكلترا نفس نفوذ وسطوة تركيا ..
    وعلى أي حال .. إننا تركنا الرجلين في جدالهما ومناقشتهما وهبطنا من السفينة متوجهين إلى المدينة.
    وهذه المدينة ـ التي أسست منذ ثلاثين سنة في موضع تكثر فيه عواقيل ومنعطفات نهر دجلة المتعددة وقرب حدود إيران ـ ليس فيها وسائل الحياة البتة ، ولو لم يعرفنا قنصلنا في بغداد قبل وصولنا إليها بأحد التجار النصارى لكان من المتعذر علينا أن نمكث فيها ولو لساعات معدودات.
    كان مضيفنا يدعى (عيسى) وهو أحد سراة المدينة المعروفين ولقد وضع تحت تصرفنا أحسن حجر منزله إلّا أنه مهما بذل من جهد لكي يهيئ لنا جيادا نمتطيها في سفرتنا لم يصل إلى نتيجة تذكر قط. إذ لم يكن في هذه المنطقة ما عدا عند بعض العوائل التي تملك فرسا أصيلة وذات نسب وحسب حجازي معروف ، فليس من المعقول أن يسمح لنا أن نمتطي ظهورها على ما هي من الأصالة والنسب العريق؟! ولا سيما انه من الممكن أن يتعرض لنا في سفرتنا هذه أفراد من قبيلة بني لام التي تقطن بين دجلة ومدينة دزفول الإيرانية.
    وإن لم تدون على جلود هذه الفرس شجرات نسبها والجوائز التي أحرزتها في المسابقة فذلك لا يفوت الأعراب أبدا ، فبمجرد رؤيتهم إياها يذكرون لك كل ذلك كأنهم يحفظونه عن ظهر قلب ..
    ولقد ذكر لي أن أحد حكام العمارة كان قد قام بخدمة لشيخ من شيوخ

    هذه القبائل الذين يمتلكون مثل هذه الفرس الأصيلة ، فطلب الحاكم في مقابل خدمته الكبيرة تلك أن يهب له إحدى أفراسه التي لم تكن تعدل في فكره تلك الخدمة ، وكم كان دهشه عظيما عندما قال له شيخ القبيلة : إنني أستطيع أن أمنحك ابنتي مع مائة ألف مجيدية جهازا لها ولا أستطيع أن أهب لك فرسا من أفراسي العزيزة»؟!
    ولقد علمت أن شيخ القبيلة العربي إذا ما حدث له وسرقت أمواله ومواشيه في غارة أو ما شابه واحتاج إلى المال فإنه يبيع كل ما يملك من عقار وأثاث دون أن يفكر في بيع فرس من أفراسه البتة ، وإذا اضطر وهذا في حالات قليلة جدّا فإنه يبيع ربعها على الأكثر وذلك بشروط قاسية منها عدم السماح بامتطائها في سفرات واحتفاظه بحقه في استرجاع ما باعه منها. وعندما تلد الفرس مهرا فعلى صاحبها الأول أن يتحمل مشاق ومتاعب تربيته لمدة سنة كاملة. وبعدئذ يخير الشريك في اختيار حصته من الفرس أو المهر. هذه الشروط متبعة ومعروفة عند جميع شيوخ القبائل العربية وإنهم يحكمون بموجبها في الحوادث التي تظهر عند إجراء هذه المعاملات عادة. وسكنة الصحارى في هذه المناطق لا يطلبون في الأغلب أفراسا تتميز بسرعة الجري لأن الصحارى التي يعيشون فيها مملوءة بالأحراش والأشواك أو الأهوار. ففي هذه الحالة يرغبون في أفراس تتحمل مشاق السير في تلك الطرق الوعرة وتقاوم صعوبة تلك المظاهر الجغرافية. وتوجد أفراس من هذا القبيل تستطيع أن تجري لمسافات شاسعة وأن تتحمل العطش والجوع ساعات أو أياما.
    ولقد ذكر أحدهم أن بعض هذه الأفراس استطاعت أن تجري مدة ثلاثة أيام مع لياليها من غير انقطاع ودون أن تقتات شيئا أو تشرب ماء ، والعجيب أنه بعد قطع تلك المسافة لم تصب بأذى أو أي مكروه حتى في قوائمها أو حوافرها.
    والفرس على أي حال ليس باستطاعتها أن تحملنا إلى خوزستان التي نقصد إليها ، بل إن الذي يناسب هذا الطريق الوعر هو اليابو أو عدد من البغال التي في مكنتها أن تتحمل أمثال تلك المتاعب والمشاق.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه   رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 4:57 pm

    4 جنويه :
    طلب عصر هذا اليوم مضيفنا «عيسى» منا أن نذهب غدا معه إلى الكنيسة للصلاة فيها فقبلنا على الفور القيام بهذه الزيارة. إن مراسيم العبادة تجرى بصورة بسيطة في هذه الكنيسة التي أنشئت حديثا بمساعدة الطائفة النصرانية في العمارة ويتعهد أمورها الآن راهب كلداني واحد.
    وعند ما جنحت الشمس للمغيب دخلنا بهوا ضيقا صغيرا لا يتجاوز ارتفاعه أكثر من ثلاثة أمتار وهو مشيد بالطين والآجر وسطحه مشيد بأعمدة من خشب ولا منفذ له سوى بابه الصغير. ولقد مررت بستين مؤمنا مقدسا قبل أن أصل المحراب الذي كان قد بني بالطين أيضا.
    كان المحراب مغطى بقطعة من قماش مورد (من الچيت) إلّا أنها لم تكن بعرضه وطوله فكانت بعض أقسامه عارية بشكل سمج قبيح. كما أني رأيت على جانب منه صندوقا من الخشب بمثابة محفظة ، وبمجرد دخولنا المحراب رأينا الخدم يشعلون ما يقرب من عشرين شمعة وتنحصر مراسم استقبال وترحيب النصارى الشرقيين في المناسبات الدينية بزيادة الإضاءة وإشعال الشموع والمصابيح.
    وعلى أي حال فقد بدأت الصلاة الكلدانية. كان الراهب بعض الأحيان يتلو أدعية بصوته الأجش وأحيانا أخرى يقرأ الأطفال الأناشيد الشجية الأخاذة بأصواتهم الرقيقة. والواقع أنني لم أحس في هذه التشريفات أي تعب أو ملل قط لأنها لم تكن طويلة كالتي تحدث عندنا في أوروبا ، حتى خيل إليّ أنني أرجع القهقرى إلى عدة قرون وأشهد المراسيم الدينية على بساطتها وسذاجتها. أي أنني تمثلت العصر الذي كان فيها الأباطرة يعذبون النصارى لزجرهم وردعهم عن الديانة الجديدة والمؤمنون الجدد الذين يتخفون بين الجدر الضخمة في دار مؤمن منهم لأداء شعائرهم المقدسة بصورة سرية أو تحت سقوف الكهوف والجحور المظلمة. ولقد أوحت مشاهدتي لهذه المناظر البسيطة فكرة أنه قد يكون لهذه الطائفة في هذه المدينة النائية بعض المشكلات التي لم تستطع أن تذللها وتحلها. ولقد علمت فيما بعد أن هذه الطائفة لم يكن

    لها زعيم ديني إلى سنة خلت. فالأطفال يولدون والموتى يدفنون دون القيام بأي مرسوم من المراسيم الدينية المعتادة قط. اللهم إلّا في أيام العيد فقد كان يقدم راهب من الموصل أو بغداد ويقيم في هذه المدينة مدة قصيرة يقوم خلالها ببعض المهام المذهبية ويرسم الخطط العامة للإدارة الدينية ثم يقفل راجعا من حيث أتى. أما الآن فعلى العكس فالموتى قبيل أن يجودوا بأنفاسهم الأخيرة تقع أعينهم على وجه الراهب ويسمعون أدعية العزاء والتسلي ، كما يستطيعون أن يعترفوا بخطاياهم وآثامهم. وكذلك المواليد الأحداث يعمّدون على حسب الشعائر الخاصة والزواجات لا تتم إلّا عن طريق الكنيسة أيضا.
    وبعد انتهاء مراسم العبادة هذه دعانا رؤساء الطائفة النصرانية أن نرافقهم إلى دار الراهب. ولبينا هذه الدعوة مسرورين دون أدنى تأخر.
    ورأينا منزل الراهب الصغير المتواضع المشيد بالطين والآجر الذي لا يبعد كثيرا عن الكنيسة. والواقع أن منزله لم يكن إلّا حجرة واحدة هي محل استقباله لضيوفه وهي محل نومه في الوقت نفسه وعلى هذا الأساس لم نطلق عليه اسم منزل إلّا على سبيل المجاز ليس إلّا؟!
    ومما لفت نظرنا في هذا المنزل .. عفوا .. هذه الحجرة صندوق من الخشب اتخذه الأب الجليل كرسيّا له ومخزنا لبعض أثاثه. كما وجدنا على المنضدة بعض كتب الأدعية المقدسة ، ولم نر غير هذا من أثاث هذا الراهب المسكين. والواقع أن كل ما في هذه الحجرة كان يوحي بالمسكنة والفقر ، بيد أنه بدل ذلك كان الراهب يجد فيها فراغا لا يجده في مكان آخر يساعده على الانغمار في أفكاره الروحية العلوية. كما كان يجد هدوءا وسكينة قلما يتاحان له في غير هذا المكان المتقشف النائي.
    5 جنويه :
    إن رب إسحاق وإبراهيم ويعقوب رحيم عظيم. وصلت اليوم إلى هنا قافلة من دزفول كانت تحمل بعض المواد التجارية لبيعها ، ولقد أملنا كثيرا أننا نستطيع غدا أن نيمم وجوهنا شطر خوزستان. وبعد بذل جهد جهيد استطعنا أن

    نهيئ ستة بغال و «يابو» (1) ونكتريها لأن رئيس القافلة اعتذر من السفر غدا لأن دوابه وبغاله في حالة تعب شديد ونصب عظيم. فلم نر والحالة هذه بدّا من تهيئة هذه الدواب الست نحن لنعتاض عن دوابه. ولقد قدم لنا ـ والحق يقال القنصل الإيراني بعض المساعدة في هذا الشأن. كما أن زوجي قد تعهد بأنه لو أصيبت هذه الدواب الست بأي مكروه في الطريق فهو المسؤول عن ذلك ويغرم ثمن ما يصيبها.
    وبعد الوصول إلى إتمام العقد ذهب زوجي مارسل إلى المتصرف (نائب الحكومة) وطلب منه أن يرسل معنا أربعة من رجال الأمن. بيد أن هذا اعتذر من عدم تلبية طلب زوجي بقوله «إنه لو تعرضتم لأخطار القبائل هذه وأوذيتم فإن رجالي سيصابون بالسوء والمكروه ، وسيجعلني ذلك في موقف حرج كما سأسأل عن هذه المخالفة وإنني أنصحكم بأن تصرفوا النظر أنتم أيضا عن هذه السفرة الخطرة».
    وخلاصة القول أن الموظفين الترك قد أقنطونا من مساعدتهم ورفضوا تقديم أي تسهيل في رحلتنا هذه.
    7 جنويه :
    بدأنا بالحركة في الظهيرة مؤملين أن نقضي الليلة في مضارب قبيلة جوئريج (2) عبرت القافلة خلال قناة طويلة زرعت جوانبها بمزروعات نضرة وبعد أربع ساعات وصلنا إلى غابة من النخيل فتوقفنا عندها ، وقال لنا حراس القافلة الذين كانوا يرافقوننا «إن الماء من الآن فصاعدا مج مالح فعليكم أن ترووا حيواناتكم بالماء ريّا جيدا» وهنا تقدموا هم وتعهدوا بالقيام بهذه المهمة فساقوا أمامهم حيواناتنا لإروائها وانشغلنا نحن في هذه الفترة بتناول طعامنا ريثما يعودون. ولقد رفعت رأسي إلى السماء في هذه الأثناء فشاهدت سحبا
    __________________
    (1) يابو : يعني حصان غير أصيل «كديش» وهذا الاسم شائع عند الأكراد الفيلية.
    (2) لا ندري ماذا تقصد المؤلفة بهذا الاسم وإنما ضبطناه حرفيّا.

    سودا يتراكم بعضها على بعض فوق رؤوسنا ورأيت عددا من الغربان تنتقل من الجهة اليسرى إلى اليمنى ودون تأخر سقطت عدة قطرات من المطر على الأرض. ورأيتني أقول لنفسي : الحق إذن مع غالبية الناس الذين يعدون انتقال هذه الطيور ذوات الأجنحة السود شؤما عليهم ولكن كم من الحسن أن تعيرنا أجنحتها هذه لكي نستطيع أن نطير بها ونختفي بين أغصان هذه الأشجار المتكاثفة ، ولكن يا للأسف الشديد إن هذه المواضع لم توجد لاختفاء حيوانات مثلنا. وما إن عادت الحيوانات حتى شرعنا في الحركة مرة أخرى لكي نصل إلى المضارب في أسرع وقت ممكن.
    ولكن سوء الطالع لحقنا وإذا القافلة تجد نفسها داخل مياه الأهوار والمطر يهطل بغزارة شديدة كأنها السيل الجارف وظلمة الليل قد ملأت الأفق من كل جانب وبعد دقائق من سيرنا فوق أرض هذه الأهوار المملوءة من القصب والأعشاب توقفنا وقال لنا مرافقونا : إنهم قد ضلوا الطريق ولما لم ليلة ممطرة

    يكن في السماء نجم واحد وكان الظلام يملأ الصحراء فلا يستطيعون والحالة هذه من متابعة السير وأنه ينبغي لنا أن نتوقف إلى الصباح. وقبل أن ينتظروا سماع رأينا شاهدناهم يذهبون إلى البغال ويرفعون عن ظهورها الأحمال ، وركض زوجي مارسيل إليهم وأخذ يعمل من الصناديق محلّا لنركن إليه ، ولقد أمضينا فوق هذه الصناديق ليلتنا تلك بين مياه الأهوار وتحت سيول الأمطار المدرارة حتى بزوغ الشمس. أمضيناها ساكتين دون أن ننبس ببنت شفة أو دون أن نحاول ذلك قط ، كما أن مرافقينا في القافلة قد فضلوا السكوت والتزام جانب الهدوء مخافة أن يحدث لنا ولهم مكروه على أيدي أبناء القبائل الذين هم في هذه المناطق ولقد سمعناهم يقولون لنا : «إنهم مدينون لهم بمبالغ لم يسددوها وإذا ما علموا بمكانهم الآن فسوف لا يتأخرون أبدا عن مهاجمتهم وسلب ما يحملون لأنهم يعدون ذلك من حقهم».
    والواقع أنه لا يحكم هذا شيء غير القوة فالقوي هو صاحب الحق وكل من كان أقوى فهو الأغلب على من سواه. ولشدة تعب هؤلاء الحراس المرافقين فقد ناموا في مياه المستنقعات ولكن نومهم كان متقطعا وعيونهم لا تحيد عن بغالهم خشية أن تسرق. أما نحن فظللنا فوق الصناديق قابعين وبالقرب منا جلست طباختنا الجديدة كالقرد بين القرود ، والمطر ما زال هاطلا بغزارة شديدة. وفي الساعة الحادية عشرة اشتدّ المطر أكثر من قبل وهبّت ريح صرصر مخيفة. ترى ما أجمل الليل وأسره للذين يركنون إلى منازلهم وهم مشغولون بمعاقرة بنت الدنان ومجاذبة أطراف الحديث مع أهليهم والمقربين إليهم ، وما أصعب وأشق الليل على الذين ضلوا الطريق واضطروا أن يقضوا ليلتهم في مياه الأهوار وتحت هطول المطر الذي لا ينجيهم منه إلّا قبعاتهم المهترية. وأخيرا غلب التعب المظاهر الطبيعية القاسية وذهبت في سنة من النوم العميق دون أن أشعر بشيء حولي.
    وما إن امتد أول أشعة الشمس إلى الأفق حتى أفقت من نومي ووجدت زوجي كان قد وضع جميع الألحفة عليّ وقمت من فراشي دون أن أحس بأذى أو ألم في جسمي سوى رجلي اللتين كانتا قد تعرضتا للرطوبة كثيرا البارحة ،

    وعند ما بدأنا بالحركة أحسست بأنهما انقلبتا إلى خشبة يابسة حتى أنني لم أستطع أن أحركهما قط وهزتني قشعريرة شديدة بحيث حالت دون أن أستطيع الامتطاء. ولكنه لم يكن بد من الركوب على أي حال والإسراع في السير كيما نصل إلى مكان نتقي به من هذه العوارض ونحفظ أنفسنا مما قد ينتظرنا من أحداث.
    بلغت الساعة الثامنة ولم يبد للشمس أثر ، وعاد المطر يهطل مرة أخرى ومرافقونا يذهبون يمنة ويسرة كالمجانين بين القصب وأحراج المستنقع وبعد لأي اهتدوا إلى الطريق السوي وعلموا بأنهم بدل أن يذهبوا نحو المشرق كانوا قد ذهبوا نحو الجهة الأخرى خطأ.
    لقد لقيت الأمرين في هذا المكان الذي نزلنا فيه. وبعد تلك القشعريرة التي تعرضت لها أصبت بحمى شديدة وتسارع نبضي وأخذت أتألم في جميع عظام جسمي. وأخيرا وبعد إحدى وثلاثين ساعة من التوقف والحركة بلغنا مضارب قبيلة جوئريج. ولو لم يمسكني زوجي والمرافقون عند هبوطي من على ظهر جوادي لكنت أقع على الأرض ويدق عنقي. ولقد حملوني بعدئذ على أيديهم إلى خيمة وسيعة ووضعوني على الأرض بجانب بعض الخراف والنعاج الصغيرة. وتلفت حولي فلم أجد لحافا أو بطانية أستطيع أن أتدثر بها إذ كانت جميعها مبللة بماء المطر إلّا أنه من حسن الحظ أن تلك الحيوانات القريبة مني قد عملت على تدفئة المكان وشعرت ببعض الراحة والاطمئنان. ونقلت بصري فإذا أنا بطباختنا وهي مطروحة على جانب من جوانب الخيمة تسعل سعالا شديدا ولا يغطيها شيء سوى قطعة من قماش ربطت بها رأسها فقط ، وطباختنا هذه كانت الثامنة عشرة من عدد اللواتي عملن في خدمتنا.
    ولقد آلمني كثيرا منظرها المحزن حتى أنني نسيت ما كنت فيه من ألم وعذاب ورأيتني أقول لها : «سروپا ـ وكان هذا اسمها ـ أتشكين ألما أنت الأخرى؟ أمريضة؟»
    مريضة .. لا لا .. ولكنني على شفا هاوية الموت. إنني أشكو حمى شديدة ويخيّل إليّ أنني أصبت بذات الجنب وبالروماتيزم .. أولم تريني أني

    أكاد أكون عارية ولم يغطني شيء؟
    ماذا صنعت بعباءتك وقبعتك إن حقيبتك كانت مملوءة بالملابس فأين هي الآن أفقدتها في الصحراء؟
    أسفا أسفا .. إنني لا أريد أن أراها مرة أخرى فكروا في تهيئة قبر تدفنوني فيه.
    من الطبيعي أننا نهيئ لك قبرا مناسبا لا تشكي في هذا أبدا ولكن الآن أجيبيني عن الأسئلة التي أطرحها عليك. ماذا عملت بحقيبتك .. أين هي الآن؟
    بقيت في دار صديقكم عيسى في العمارة.
    لماذا لم تجلبيها معك؟
    ذلك لأنه في الليلة السابقة لحركتنا أرسل المتصرف ـ نائب الحكومة في العمارة ـ إليّ شخصا يسر بأذني طلبه لمقابلتي. وعند مقابلتي لهذا الرجل الذي أدعو الله بأن يجعل نساءه عقيمات إلى الأخير قال لي : «سمعت بأنك تقدمين على خدمة هؤلاء الأوروبيين وتريدين أن تصحبيهم إلى «خوزستان» قلت له : «أجل يا حضرة سيدي المتصرف وأي سوء في هذا» قال : «إنني لوحت إلى سيديك بالمخاطر الكامنة في هذه السفرة ولقد أديت ما كان مطلوبا مني في هذا الشأن لأمنعهم من القيام بهذه الرحلة ، ولكنه بالرغم من ذلك لم يجد معهم ذلك شيئا. وهذا بالطبع لا يعنيني كثيرا ولا يخص مسؤوليتي البتة ، ولكنك أنت لما كنت من تبعة تركيا فلا أريد أن تهلكي في هذا الطريق غير المأمون لذلك أنصحك بأن تتركي هؤلاء المجانين وتعودي إلى بغداد». ولقد شكرت للمتصرف عواطفه الجياشة تلك ووعدته بأنني سأقفل راجعة إلى بغداد وأترك خدمتكم ، ولكنني في الواقع كنت أخدعه لأني لم أستطع أن أتخلى عنكم بعد أن طعمت من خبزكم ودنت بفضلكم العميم وإنني أحفظ حرمة العهد وأحترم «الملح والخبز». ولست على أي حال بالجاحدة أو الكافرة بالنعم .. لذلك جعلت حقيبتي عند مضيفنا عيسى وارتديت أقدم ملابسي وكيلا أخجل منكم كنت أسير دوما في مؤخرة القافلة .. لهذا السبب أصبت بالحمى وبالسعال وكم أتأسف الآن على أنني أصغيت لكلام المتصرف وصدقته ولم

    أرتد ملابس كثيرة وأني لم أجلب معي حقيبتي ..
    على أي حال لا يجديك الندم شيئا الآن. انهضي وخذي هذه الفلوس واشتري بها خروفا واذبحيه وتدثري بجلده الذي فيه الصوف ، وبذلك تستطيعين اتقاء نفسك من لسعة الجو وبرودته .. وبالمناسبة قولي لي ما ذا قدمت لمارسل من غذاء؟
    لم أقدم إليه أي شيء. الطعام موجود بأجمعه دون أن يمسه أحد قط. يخيّل إلي أن الأعراب قدموا إليه رزا مع لبن حامض ..
    وهنا رأيتني أتألم لشيء جديد لم أكن أنتبه إليه من قبل وهو أنني لم استطع القيام من فراشي لتهيئة الطعام لزوجي ولاح أمامي المصاعب والمشاق الكثيرة التي سيلاقيها زوجي في تناول طعامه ما دمنا نحن الاثنتان طريحتي الفراش؟!
    10 جنويه :
    لا أمل في الراحة أبدا إذ ما زالت أمامنا مسافة طويلة. وما كادت الشمس تبزغ حتى علت أصوات المرافقين لنا وقالوا إنه ينبغي لنا اغتنام هذه الفرصة والمبادرة إلى الحركة سريعا ، لأن هذا الفصل سريع التقلب وليس من الممكن الانتظار فيه لطقس جيد مشمس.
    مع أني قضيت الليلة السابقة في أتون الحمى الملتهب وأصبحت تعبة مرهقة الأعصاب أقول على رغم ذلك فما كادت تبدو بشائر الصباح وتشرق الشمس من البرج الشرقي وتبدو الصحارى أمامي مزدهرة جميلة حتى سرى النشاط في عروقي وتململت في مكاني وامتطيت صهوة جوادي بعد بذل قسط من الجهد الجهيد.
    وفي البدء عبرنا خلال مياه آسنة كانت قد تجمعت بسبب الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم أخذنا نسير في طريق تقع على امتداده سلسلة من التلال الكبيرة.
    على الجانب الأيمن والأيسر منا تبدو قطعان من الجمال وهي ترعى الكلأ ، كما أنه يبدو من البعيد بعض الجبال المرتفعة التي تلألأ قممها المزدانة

    بالثلوج تحت أشعة الشمس الوهاجة. وقيل لنا إن مدينة شوش تقع تحت سفوح هذه الجبال وإن مدينة دزفول الجديدة قد بنيت بالقرب منها فيما بعد.
    ترى هل أستطيع أن أبلغ هدفي؟ إنه لم يمض إلا بعض ساعة وعاودتني القشعريرة مرة أخرى وأصابتني التشنجات .. ولما كنت غير مستطيعة على أن أجلس على الأرض تمددت فوق التراب الرطب. ولقد ذهبت ترغيبات ونصائح وتوسل زوجي لي أدراج الرياح ، بل لو كنت أقتل لم أستطع أن أؤخر أو أقدم رجلا من رجلي. كنت في حالة يرثى لها وأملي في الحياة يقل يوما بعد يوم ، ولقد كان من الصعوبة بمكان أن نمكث في هذا الموضع النائي المقفر الذي ليس فيه ماء أو طعام ، كما لا نملك نحن وسائل الدفاع عن أنفسنا إذا ما هاجمنا أعراب القبائل في هذه المناطق ، وهذا أمر منتظر وقريب. لذلك رأينا أنفسنا مضطرين إلى الحركة لنوصل أنفسنا إلى مضارب بعض الأعراب القريبة أو على الأقل ننتقل من هذه المنطقة الضيقة إلى أراض وسيعة مأهولة ، ولكن كيف ذلك والحالة هذه أخذ زوجي مارسل يفكر في طريقة لننجو بها مما نحن فيه من مأزق حرج. وفجأة سمعته يطلب من المرافقين أن يضعوا جميع الألحفة على أحمال البغال ويصنعوا من ذلك محلا لأرقد عليه وأن يشدوني إليه بحبال كيلا أسقط.
    وبدأت القافلة بالسير على هذا الشكل ، يقف على الجهة اليمنى أحد المرافقين وبيده زمام الجواد الذي أمتطي صهوته ، وعلى الطرف الآخر زوجي وهو يمتطي جواده وينظر بحذر واهتمام تارة إليّ وأنا في سريري الغريب هذا وتارة إلى المرافقين المساكين الذين قاسمونا هذه المصائب والمشاق كيلا يضلوا الطريق ثانية. ولقد استطعت وأنا ممددة على هذا السرير العجيب أن أتحمل متاعب ثماني ساعات من السير المرهق. وقريب العصر بلغنا مضارب إحدى القبائل التي تقطن على سفح تل مرتفع.
    وبالرغم من التعب الشديد الذي كنت أحسه وآلام الحمى الملتهبة لم أستطع أن أصرف النظر عن مطالعة أوضاع هذه القبائل التي تمثل العهد القديم البدائي في نمط حياتها.

    عندما حل الغروب راحت قطعان الماشية إلى الزرائب والحظائر من المراعي التي أخذت إليها في الصباح. وكان منظر الخراف والنعاج وهي تتراكض بعضها في أثر بعض والجمال والبقر وهي تسير في تثاقل وتأن جميلا يبعث على النشاط والحيوية.
    وبمجرّد أن دخلت تلك الماشية إلى المحال المخصصة لها واطمأنت إليها هجم الرعاة من النساء والرجال على خيمتنا للتفرج علينا ، وكان عدد هؤلاء كبيرا بحيث لو أن رئيسهم لم يردهم إلى خيمتهم لكانوا قد خنقونا على وجه التأكيد.

    كانت نساؤهم جميلات الملامح يرتدين ملابس طويلة تدل على العفة والنجابة. ولها طيات من الأمام والخلف وكانت على رؤوسهن عمات طويلة من أقمشة شتى. أما زينتهن فكانت مقصورة على بعض الأساور من الفضة والزجاج والخواتم الرخيصة الأخرى. والخلاصة أن جميع النساء والرجال أحاطوا بالنار التي أشعلوها لتدفئتنا وأنني استطعت في ضوء الموقد الخافت أن أتطلع إلى المنظر الجميل الذي كان مرتسما أمامي. والواقع أن هاته النسوة البدويات بقاماتهن الفارعة وسماتهن الجذابة وشعورهن المضفورة والمتدلية إلى ما يقرب النحور يستحقن كل تمجيد وتحسين. وإنني سررت كثيرا بمشاهدتهن لدرجة أن نسيت مرضي تماما.
    إن سكنة هذه المناطق البدوية لم يعرفوا شيئا من حضارة المدن قط وإنهم يعيشون بخصائصهم الذاتية في هذه المحلات النائية ويديرون أسباب

    حياتهم بحسب القوانين الطبيعية ، كما أن لهم رئيسا دينيّا يؤدي حاجاتهم الدينية والمذهبية وعلى هذا النمط الساذج البسيط يحيون حياتهم ويحافظون على بقايا نسلهم.
    وعند ما تندلع نار الحروب بين شيخين من شيوخ هذه القبائل فأول من يحرض الرجال ويشجعهم على القتال هن هاته النسوة اللاتي يتحركن في أعقاب أزواجهن ويحمسنهم بالصياح والصراخ على متابعة الحرب ، كما يقع على عاتقهن حراسة الأسرى والمغلوبين وتعذيبهم ، ولهن في ذلك وسائل مبتكرة طالما يفتخرون بها وهن على الدوام يفكرن في طرق جديدة أخرى للقضاء على الأعداء بحيث لا يبقون مدة طويلة في الأسر. ففي بعض الأحيان يحرقنهم على النار بالتدريج وفي أحيان أخرى يقطعنهم إربا إربا بالسكين وعندما يقدمن على مثل هذه الأعمال فإنهن يصبن بحالة انفعال وتأثر شديد تقرب من الجنون. وإذا ما قتل أزواجهن في مثل تلك الوقائع فإنهن يفتخرن ، ولكن عندما يتقدم منهن من يطلب يدهنّ للزواج فإنهن يحبذن على الفور ويقبلن الزواج منه ومن الممكن أن تتزوج الأرملة منهن ثانية بعد يوم أو يومين من قتل زوجها الأول.
    وعندما تقع حوادث السرقة أو اختطاف الفتيات بين أبناء هذه القبائل فيفضون نزاعهم حول ذلك بحسب قوانين أجدادهم القديمة. وفي الحالة الثانية ـ اختطاف الفتيات ـ يلبس أقارب الفتاة ولا سيما أفراد قبيلة بني لام التي نحن في ضيافتها الآن السواد دليلا على حزنهم وأساهم ويتسلحون ويدخلون مجلس الشيخ للمحاكمة بمنتهى الغضب والتأثر ، ويفضلون السكوت بيد أن أقارب الخاطف لا يظهر عليهم التأثر والحزن كثيرا. وعندما تفتح جلسة المحاكمة يسأل الشيخ الذي يترأسها عادة من الحضور عدّة أسئلة ثم يأخذ بإسداء النصائح والإرشادات للطرفين لإصلاح ما فسد ، ويأمر أخيرا أن تعطي عائلة المذنب إزاء تقصيرها ذلك للعائلة الأخرى ثلاثين جملا أو ما يقارب ذلك. وبعد صدور مثل هذا الحكم يرتفع الضجيج بين الطرفين وينتهي ذلك إلى النزاع. وفي النهاية وبعد عدة ساعات من الأخذ والرد يقبل الطرفان

    الحكم الذي سبق أن أصدره الشيخ أو تخفيفه بعض الشيء. وعندما تنتهي المحاكمة يأخذ مندوبو الطرفين بالاعتذار كل إلى الآخر وبعد إقامة وليمة غنية بكل ما لذ وطاب من الرز ولحم الخراف واللبن الحامض المذاب بالماء يعود هؤلاء المندوبون إلى مضاربهم كأن لم يكن بينهم شيء مذكور؟!
    ولعل من الطريف أن أذكر أن تلك المقادير الكثيرة التي يلتهمونها من الغذاء تجعلهم كالسكارى يترنمون ، إلّا أن تناولهم كميات كثيرة من اللبن يعمل على إظهارهم بمظهر الضعف والخور ويبعث في نفوسهم الكسل ويفقدهم النشاط! كما أن تناول العنب والتمر بكميات كبيرة يجعلهم في مثل هذه الحالة أيضا. وهنا تظهر لنا الحكمة البالغة في نهي نبي الإسلام لأتباعه عن تناول المشروبات الروحية ، ولا ريب أن الكمية القليلة منها تفيد الإنسان ولكن الفائدة هذه تنعدم عندما يتناولها أفراد القبائل الذين يقطنون البراري إذ تولد في رؤوسهم هيجانا شديدا وتعمل على انفعالهم وخروجهم عن طورهم بسرعة.



    وليس من المستغرب أن يقوموا بأعمال وحشية وجرائم فظيعة عندما يكونون في مثل تلك الأحوال. هذا إذا كانت الكمية قليلة فكيف بنا وإذا زادت الكمية عن المقدار الطبيعي؟!
    ومجمل القول أن مثل هذه الأحكام التي يصدرها الشيخ ليس لها استئناف في مضارب قبيلة بني لام. بيد أنه في القبائل الأخرى يختلف الأمر عن ذلك ، فمثلا في قبائل عنزة وشمر التي من القبائل الشريفة لا تنتهي المحاكمة بهذه السرعة والسهولة ، وفي أغلب الأحيان لا تنتهي إلّا بعد مقتل أحد أقارب الخاطف أو اغتياله هو نفسه وإلّا فاللطخة السوداء ستبقى عالقة في صفحة شرفهم وأنهم يبقون متوارين عن الأنظار؟!
    لم تستطع الدولة التركية من إخضاع هذه القبائل لإرادتها وكم تكون سعيدة بأنها لو استطاعت أن تجبي منها بعض الضرائب دون اندلاع نار الحرب ودون إراقة الدماء ، إذ كثيرا ما تمتنع عن دفع الضرائب وتضطر الحكومة التركية من تسيير جيش إليها لقبض تلك الضرائب فقط ، وحتى بهذه الواسطة لا تستطيع من تسلم أي مبلغ في أغلب الأحيان ، إذ تطلع هذه القبائل على حركة الجيش الشاخص إليها سلفا ويختفون في الأهوار التي لا يعرفها أحد سواهم ، وحتى لو عرف قائد الجيش بمحل اختفائهم فإنه يخشى وروده لما في ذلك من مخاطر ومهالك قد تودي بجيشه كله. وكثيرا ما يحدث أن يعود الجيش إلى بغداد مرة أخرى دون أن يقبض دانقا واحدا.
    وفي الأحوال التي تؤخذ القبيلة على حين غرة تبادر إلى طي مضاربها


    سريعا أو تركها في بعض الأحيان والفرار إلى المناطق الجبلية للاختفاء فيها بعد أن يخفوا في الأهوار ذخائرهم وذهبهم وفضتهم. وبعد ذهاب الجيش وجلائه عن مناطقهم يعودون إلى تلك المستنقعات ويخرجون منها صناديقهم التي أخفوا فيها ذهبهم وأموالهم وهي موحلة مبللة.
    والقبائل الموسرة التي تحوي عوائل متعددة كبيرة لا تستطيع أن تهرب بسرعة في مثل هذه الأحوال لذلك تضطر إلى اتباع طرق حربية أخرى. إذ ثمة رجالات يأخذون مبالغ سنوية من هذه القبائل بصورة مستمرة مقابل إخفاء ذخائرهم ونقودهم في مثل هذه الأحداث ومحاولتهم إرشاء الوالي أو المتصرف للإصلاح بينهما وما لهؤلاء من نفوذ وجاه وسطوة فكثيرا ما يتوفقون في مسعاهم.
    والقبيلة التي نحن اليوم في ضيافتها ، وكذلك قبيلة جوئريج لم تدفعا الضرائب قط لأنهم مستعدون دائما للفرار ، وهؤلاء يقطنون على حدود إيران

    وتركيا (1) وإذا ما تعرضوا في إحدى هاتين الدولتين لتعقيب أو جزاء فإنهم يلوذون بالدولة الأخرى كذلك الحال عند مطالبتهم بالضرائب.
    وما أسعد تلك القبيلة التي تستطيع بحرية واستقلال أن تعيش وما أشد مسكنة المسافر الذي تضطره الظروف إلى أن يلتقي بأفرادها؟!
    مضيفونا لصوص وسراق معروفون في هذه المناطق كلها بحيث يخافهم الجميع وإنهم في أغلب الأحيان يعيشون على جهود نسائهم ، والأتراك يخشونهم أكثر من الإيرانيين. والقوافل التي تمر من هنا تدفع لشيخهم مبلغا من المال كيلا تتعرض لمكروه أو سوء. ويتعيّن هذا المبلغ في أكثر الاحيان بعشر فرنكات عن كل حيوان ، وإذا دفعت القوافل هذه المبالغ فإنها تستطيع أن تمرح وتسرح بين العمارة ودزفول ، أما خلاف ذلك فإنها تتعرض للغارة أو السلب أو القتل.
    __________________
    (1) تقصد العراق طبعا إذ كانت تعده جزءا من الدولة التركية يؤمئذ. «المترجم»

    فهرس المحتويات
    رحلة مدام ديولافوا 9
    في شط كارون 11
    البصرة بندقية الشرق 17
    الصابئة ، الذين يقبرون الأحياء!! 27
    بغداد أجمل من اسلامبول ودجلة أروع من البسفور 53
    حريق بغداد سنة 1881 109
    السنة الثانية من الرحلة
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » ولاية البصره في ماضيها وحاضرها ج1
    » رحلة ابن جبير
    » رحلة ابن بطوطه
    » رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر
    » رحلة الفرنسي تاقرنييه الى العراق في القرن السابع عشر سنة1676

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 32- منتدى الرحلات التاريخيه للعراق-
    انتقل الى: