الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

»  أحاديث / شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا) شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)
علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyأمس في 9:50 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     علم اليقين في اصول الدين ج1

    اذهب الى الأسفل 
    انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:11 pm

    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    نحمدك اللهمّ ـ يا مبدئ يا معيد ـ والحمد من نعمائك ، ونشكرك ـ يا فعّالا لما يريد ـ والشكر من آلائك ؛ تعاليت من قدّوس لم تصل أيدي الأوهام إلى ذيل عزّتك ، وتقدّست من سبّوح لم تجعل للأفهام سبيلا إلى معرفتك ، إلّا بالعجز عن معرفتك.
    تركت قلوب الطالبين في بيداء كبريائك والهة حيرى ، ولم تجعل لمرقى أقدام العقول إلى حريم عظمتك مجرى ؛ هيهات! ـ ما لأذلّاء أسر العبوديّة وإدراك سبحات جلال الربوبيّة؟! وأنّى لاسراء ذلّ الناسوت ونيل سرادقات جمال اللاهوت؟! سبحانك سبحانك ، لا نحصي ثناء عليك ؛ أنت كما أثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون.
    صلّ وسلّم على المقرّبين لديك ، الهادين إليك ؛ خصوصا أقربهم منك منزلة ، وأعزّهم عليك ، محمد وأهل بيته ؛ منتجبيك ومصطفيك.
    أمّا بعد ـ فيقول خادم العلوم الدينيّة ، وراصد المعارف اليقينيّة ، محمد بن مرتضى ـ المدعوّ بمحسن أحسن الله عواقبه ـ :

    هذا ـ يا إخواني ـ كتاب «علم اليقين في اصول الدين» ؛ آتاني الله ـ عزوجل ـ من فضله ببركة متابعة كتابه المبين ، والاستضاءة بمشكاة أنوار سيّد المرسلين ، والاقتفاء لآثار أهل بيته الطاهرين ، وعترته المعصومين ـ عليه وعليهم أفضل صلوات المصلّين ـ والاستفادة من مصنّفات العلماء الصالحين.
    يتلو عليكم كلمات ربّانيّة ، وإشارات فرقانيّة ، وآيات عقلانيّة وهدايات رحمانيّة ، وتنبيهات نبويّة ، وتلويحات ولويّة ؛ تشهد بها الطباع السليمة ، والأذواق المستقيمة ، ويصدّقها نور الإيمان وصحّة الوجدان ، ويراها أهل العرفان ببصيرة الإيقان.
    هدى للمتّقين الذين يؤمنون بالله ، وتذكرة للموقنين الذين يشاهدون آيات الله ؛ قد أخرجه الله ـ سبحانه تعالى ـ على لساني من سرادقات الغيب ، ليطهّر به طائفة منكم من رجز الريب ، وليربط به على قلوبكم ، ويثبّت به الأقدام ، ويزيد في انشراح صدوركم ، ويغنيكم عن ورودكم فيما لا يعنيكم وصدوركم ـ أعني جدالكم في الدين ، وتصحيح عقائدكم بمبتدعات المتكلّمين ، وتعلّمكم الألفاظ المخترعة المصطلحة للمتجادلين ـ فإنّها من وساوس الشياطين ، وتلبيسات إبليس اللعين ـ وهي تبعدكم عن الله جلّ جلاله ـ غاية التبعيد ـ وتربوا في شبهكم وشكوككم وتزيد.
    وما مثلكم ومثل من يعلّمكم ذلك إلّا ـ كما قيل : ـ مثل رجل كان بين يديه شمعة مضيئة ـ إضاءة باهرة ـ فأخذها استاذه من بين يديه ، وأبعدها عنه مسافة بعيدة ، كثيرة الحوائل والموانع من النظر إلى تلك الشمعة ، وقال له : «تجهّز للسفر بالزاد والرفقاء ، والعدّة والأدلّاء ،

    حتّى تصل إلى معرفة تلك الشمعة ، وتنظر حقيقة ما هي عليه من الضياء» (1).
    فقبل ذلك الغرّ المتعرّف ، من ذلك الاستاذ المتكلّف ، وسافر مدّة من الأوقات ، فتارة يرى جبالا وعقبات ، فلا يظهر له من حديث الشمعة كثير ولا قليل ، وتارة يرى ضوء ، فيقول : «لعلّه ضوء تلك الشمعة» ، ويستنجد بمساعدة الرفيق والدليل ؛ فإن عجز من تمام المسافة وقطع الطريق ، بما يرى فيه من العقبات والتطويل والتضييق ، هلك المسكين ورجع خاسرا للدنيا والدين.
    فإيّاكم إخواني ـ هداكم الله طريق الرشد ـ والخوض في طريقة أهل الكلام ؛ فإنّها لكما وصفت ؛ ولقد ذمّها أولو البصائر والنهى ، حتّى جماعة من أهلها ، المشتغلين بها. وإنّما ذلك شغل من فرغ من فروض الله المتعيّنة المتضيّقة عليه ، ويريد أن يخدم الله عزوجل خالصا لوجهه بالردّ على أهل الضلال ـ من الامم الحائلة بين عباده وبين المعرفة والوصول إليه ـ ويكون حامل ، هذا العلم العريض العميق ، لازما سبيل التوفيق ، ويناظر مخالفيه مناظرة الرحيم الشفيق ، حتّى يسلم من خطر الطريق ؛ وإلّا فهو هالك على التحقيق.
    فعليكم بمتابعة ظواهر الكتاب والسنّة ، وملازمة التقوى والشريعة ، لعلّ الله يرزقكم ببركة ذلك علما آخر من لدنه ، وكشفا أتمّ من لديه ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه :
    راهيست ره عشق بغايت خوش ونزديك
    هر ره كه جز اينست همه دور ودرازست



    وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [65 / 23] (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [2 / 282] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [29 / 69].
    فإن لم تهتدوا إلى كيفيّة استنباط عقائدكم من الكتاب والسنّة ، فعليكم بمطالعة هذا الكتاب ، فإنّه يهديكم ـ إن شاء الله ـ إلى ذلك ويرشدكم إلى طريق الصواب.
    وهو مخّ الشرع الشريف ، ولباب الدين الحنيف ، وليس هو الأخذ بالتقليد في شيء ـ كلّا ـ بل هو تنبيه على التحقيق ، وإرشاد إلى البراهين الحقيقة بالتصديق ، بتعليم صاحب الشرع ، على ما يناسب أكثر الأفهام ويليق ، فاقتدوا بهداياته ، واهتدوا بإشاراته ، لعلّكم تنجون من الجهل وعماياته ، ومن الجدال في الدين وغواياته.
    إنّه ليس ككتب الغاغة والمتفلسفين ـ أصحاب الظنّ والتخمين ـ الذين هم بين مقلّد كالحيارى ، أو مجادل كالسكارى ؛ كلّما دخلت منهم أمّة لعنت اختها ـ كلّا ـ بل هو ذكر لآيات بيّنات فى صدور الّذين اوتوا العلم (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [5 / 16] (1)
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه :
    ومن لم يشف به عليله ، ولم يرو به غليله ، وأراد زيادة التعمّق والتبيين ، فعليه بكتابنا الموسوم ب «عين اليقين في اصول اصول الدين» فإنّ فيه أنوارا وأسرارا ، تهدي من البيان إلى العيان ، وتوصل من العلم إلى العين ، ولكنه لا ينتفع بذلك إلّا الفاذّ الشاذّ ، اللبيب كلّ اللبيب ، وليس للآخرين فيه نصيب ، فلا يطمع فيه من لم يكن له أهلا ، ولا يعتب نفسه في تحصيله ـ فإنّه ليس سهلا ـ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [62 / 4].

    مقدّمة (1)
    اعلم أنّ العلم والعبادة جوهران لأجلهما كان كلّ ما ترى وتسمع من تصنيف المصنّفين وتعليم المعلّمين ، ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ؛ بل لأجلهما انزلت الكتب وارسلت الرسل ؛ بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق.
    وناهيك لشرف العلم قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [65 / 12] ؛ ولشرف العبادة قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [51 / 56].
    فحقّ للعبد أن لا يشتغل إلّا بهما ، ولا يتعب إلّا لهما ، ولا ينظر إلّا فيهما ؛ فإنّ ما سواهما من الامور باطل لا خير فيه ، ولغو لا حاصل له.
    وأشرف الجوهرين العلم ؛ ففي الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم».
    __________________
    (1) ـ أورد المجلسي ـ قدس‌سره ـ ما جاء في هذه المقدمة ـ إلى آخر الفصل الرابع مع حذف بعض المرويات ـ في البحار : 70 / 139 ـ 142 ، حكاية عن بعض المحققين.
    (2) ـ منية المريد : الفصل الثاني من المقدمة ، 101. الترمذي : 5 / 50 ، كتاب العلم ، باب (19) ما جاء في فضل الفقه على العبادة ، ح 2685. حياة الحيوان : النملة ، 2 / 376. والنون ، 383. ومع فرق يسير في إحياء علوم الدين : كتاب العلم ، الباب الأول ، 1 / 14. وفي سنن الدارمي (باب في فضل العلم والعالم ، 1 / 98) : «فضل هذا العالم ـ الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير ـ على العابد كفضلي على أدناكم رجلا».

    وفيه (1) : «نظرة إلى العالم أحبّ إليّ من عبادة سنة ـ صيامها وقيامها».
    وفيه (2) : «ألا أدلّكم على أشرف أهل الجنّة»؟ قالوا : «بلى يا رسول الله». قال : «هم علماء أمّتي».
    وفي الصحيح عن مولانا الباقر عليه‌السلام ـ قال ـ : (3) «عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد».
    لكن لا بدّ معه من العبادة ؛ وهذا معنى الانتفاع به ، وإلّا لكان هباء منثورا ، فإنّ العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها ، فالشرف للشجرة ـ إذ هي الأصل ـ لكن الانتفاع بثمرتها. فاذن لا بدّ للعبد أن يكون له من كلي الأمرين حظّ ونصيب (4).
    __________________
    (1) ـ عدة الداعي (الباب الثاني ، القسم السادس : 66) عن علي عليه‌السلام : «النظر إلى العالم أحبّ إلى الله من اعتكاف سنة في [ال] بيت الحرام».
    (2) ـ لم أعثر على الحديث.
    (3) ـ الكافي : فضل العلم ، باب صفة العلم وفضله ، ح 8 ، 1 / 33. منية المريد : الباب الثالث من المقدمة ، 111. وفي بصائر الدرجات (6 ، باب فضل العالم على العابد ، ح 1) : «... من عبادة سبعين ألف عابد». عنه البحار : 2 / 19. ومثله في ثواب الأعمال عن الصادق عليه‌السلام : ثواب معلم الخير ، 159.
    (4) ـ راجع عدة الداعي : 65. وكتب في هامش النسخة :
    به رخش علم وچوگان عبادت
    ز ميدان در ربا گوى سعادت

    تو را از بهر اين كار آفريدند
    اگرچه خلق بسيار آفريدند

    قيل ـ في قوله عزوجل : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [38 / 45] : ـ اولي القوة في طاعة الله والأبصار في المعرفة بالله. أي اعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.

    وصل [1]
    والمراد بالعلم علم الدين ـ أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال الله ـ جلّ جلاله ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [2 / 285]. وقال جلّ وعزّ ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [4 / 136].
    ومرجع الإيمان إلى العلم ؛ وذلك : لأنّ الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصوّر ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم.
    والكفر ما يقابله ـ وهو بمعنى الستر والغطاء ـ ومرجعه إلى الجهل ؛ وقد خصّ الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة (1) ـ ولو إجمالا ـ فالعلم بها لا بدّ منه.
    وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة».
    __________________
    (1) ـ المذكورة في الآية الكريمة ، وهي : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    (2) ـ عدة الداعي : القسم السادس من الباب الثاني ، 63.
    وبلا لفظة «ومسلمة» في أمالي الطوسي : 488 ، المجلس السابع عشر ، ح 38. و 569 ، المجلس الثاني والعشرون ، ح 2. وأمالي المفيد : 29 ، المجلس الرابع ، ح الأول. وبصائر الدرجات : الباب الأول من الجزء الأول ، 2 ـ 3. البحار : 1 / 171 و 172.

    ولكن لكل إنسان بحسب طاقته ووسعه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [2 / 286] فإنّ للعلم والإيمان درجات مترتّبة في القوّة والضعف والزيادة والنقصان ؛ بعضها فوق بعض.
    قال مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «الإيمان حالات ، ودرجات ، وطبقات ومنازل ؛ فمنه التامّ المنتهى تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه».
    وقال أيضا (2) : «لو علم الناس كيف خلق الله [تبارك وتعالى] (3) هذا الخلق لم يلم أحد أحدا».
    قيل : «وكيف ذاك»؟
    فقال : «إنّ الله ـ تعالى ـ خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزء ، ثمّ جعل الأجزاء أعشارا ، فجعل الجزء عشرة أعشار ، ثمّ قسّمه بين الخلق ، فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشري جزء ، حتّى بلغ به جزء تامّا ، وفي آخر جزء وعشر جزء ، وآخر جزء وعشري جزء ، وآخر جزء وثلاثة أعشار جزء ، حتّى بلغ به جزءين تامّين ـ ثمّ بحساب ذلك ـ حتّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزء.
    فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين [وكذلك صاحب العشرين] (4) لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها ، 2 / 39.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب درجات الإيمان ، 2 / 44.
    (3) ـ إضافة من المصدر.
    (4) ـ إضافة من المصدر.

    الجزءين ؛ ولو علم الناس أنّ الله تعالى خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا».
    وعن أبيه مولانا الباقر عليه‌السلام (1) : «إنّ المؤمنين على منازل : منهم على واحدة ، ومنهم على اثنتين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على أربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ستّ ، ومنهم على سبع ؛ فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو».
    ـ وساق الحديث ثمّ قال : ـ «وعلى هذه الدرجات».
    وصل [2]
    وذلك لأنّ الإيمان إنّما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب ، وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الله جلّ جلاله :
    (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [2 / 257] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [6 / 122].
    «ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه»(2).
    __________________
    (1) ـ الكافي : الباب السابق ، 2 / 45.
    (2) ـ في حديث عنوان البصري عن الصادق عليه‌السلام (البحار : كتاب العلم ، باب آداب طلب العلم : 1 / 225) : «ليس العلم بالتعلّم ، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه». وفي منية المريد (الفصل الثالث من الباب الأول ، 149) بلفظ : «ليس العلم بكثرة التعلم ...».

    وهذا النور قابل للقوّة والضعف ، والاشتداد والنقص ، كسائر الأنوار (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [8 / 2].
    (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [20 / 114].
    كلّما ارتفع حجاب ازداد نور ، فيقوي الإيمان ويتكامل ، إلى أن ينبسط نوره فينشرح صدره ، ويطّلع على حقائق الأشياء ، ويتجلى له الغيوب ، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم‌السلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالا وتفصيلا على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور ، والاجتناب عن كلّ مخطور ، فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة :
    (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [66 / 8].
    (نُورٌ عَلى نُورٍ) [24 / 35].
    وكلّ عبادة تقع على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعدّا لحصول نور فيه ، وانشراح ومعرفة ويقين ، ثمّ ذلك النور والمعرفة واليقين يحمله على عبادة اخرى ، وإخلاص آخر فيها يوجب نورا آخر ، وانشراحا أتمّ ، ومعرفة اخرى ويقينا أقوى ـ وهكذا إلى ما شاء الله جلّ جلاله.
    ومثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة ، فكلّما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها ، فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة اخرى منه ـ وهكذا.

    وفي الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم»(1)(2).
    وفيه (3) : «ما من عبد إلّا ولقلبه عينان ، وهما غيب يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن بصره».
    __________________
    (1) ـ رواه الغزالي (الإحياء : كتاب العلم ، الباب السادس ، 1 / 105) بلفظ : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم». وأخرج أبو نعيم (حلية الأولياء : ذكر أحمد بن أبي الحواري ، 10 / 15) عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم». ثم قال أبو نعيم : «ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين ، عن عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فوهم بعض الرواة أنّه ذكره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه ...». وفي قوت القلوب (بيان تفصيل علوم الصمت ، 1 / 138) : «وفي أخبارنا نحن : من عمل بما يعلم ...».
    (2) ـ في هامش النسخة ما يلي والأظهر أن الكاتب غير المؤلف : «في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام : فبالإيمان يستدلّ على الطاعات ، وبالصالحات تستدلّ على الإيمان».
    (3) ـ أورد الغزالي (الإحياء : كتاب شرح عجائب القلب ، الوسواس هل يتصور أن ينقطع ... ، 3 / 68) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد إلا وله أربعة أعين : عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه». وقال العراقي في تخريجه (ذيل الإحياء الطبعة القديمة : 3 / 44) : «أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ ـ بلفظ «الآخرة» مكان «دينه» ـ».
    وأورد الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد (باب القضاء والقدر ، ح 4 ، 367) عن السجّادعليه‌السلام : «إنّ للعبد أربعة أعين ، عينان يبصر بهما أمر آخرته ، وعينان يبصر بهما أمر دنياه ؛ فإذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما العيب (ن : الغيب) ، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه». ورواه في الخصال أيضا (ح 90 من باب الأربعة ، 1 / 240) مع فروق يسيرة.
    وفي الكافي (الروضة ، 8 / 215 ، ح 260) عن الصادق عليه‌السلام : «... إنما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين : عينان في الرأس ، وعينان في القلب ، ألا والخلائق كلهم كذلك إلا أن الله عزوجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم».

    وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ، فاستشعر الحزن ، وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه» ـ إلى أن قال : ـ «قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم ـ إلّا همّا واحدا انفرد به ـ فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحباب أمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس».
    وفي كلام آخر له عليه‌السلام (2) : «قد أحيى قلبه وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة ؛ بما استعمل قلبه وأرضى ربّه».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 87.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 220.

    فصل (1) [3]
    أوائل درجات
    الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك والشبه ـ على اختلاف مراتبها ـ ويمكن معها الشرك (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [12 / 106].
    وعنها يعبّر ب «الإسلام» في الأكثر : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [49 / 14].
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (2) : «الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ؛ إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن ، وإن اجتمعا في القول والصفة».
    وأواسطها تصديقات لا يشوبها شكّ ولا شبهة : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) [49 / 15]. وأكثر إطلاق الإيمان عليها خاصّة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [8 / 2].
    وأواخرها تصديقات كذلك مع كشف وشهود وذوق وعيان ، ومحبّة كاملة لله سبحانه ، وشوق تامّ إلى حضرته المقدّسة : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
    __________________
    (1) ـ أورد المؤلف ـ قدس‌سره ـ هذا الفصل بكامله في عين اليقين : 252. والمحجة : 1 / 279. وحكاه المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار : 65 / 115.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب أن الإيمان يشرك الإسلام ... : 2 / 25.

    و] (1) (لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [5 / 54].
    وعنها العبارة تارة ب «الإحسان» : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» (2). واخرى ب «الإيقان» : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [2 / 4].
    وإلى المراتب الثلاث الإشارة بقوله عزوجل : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [5 / 93].
    وإلى مقابلاتها التي هي مراتب الكفر ، الإشارة بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (3) [4 / 137].
    __________________
    (1) ـ تكميل من الكتاب الكريم. ساقط من النسخ.
    (2) ـ مسلم : كتاب الإيمان ، ح الأول ، 1 / 37. أبو داود : كتاب السنة ، باب في القدر ، ح 4695 ، 4 / 224. ابن ماجه : المقدمة ، باب (9) في الإيمان ، ح 63 ، 1 / 24.
    الترمذي : كتاب الإيمان ، باب (4) ، ح 2610 ، 5 / 7.
    (3) ـ كتب على هامش النسخة ما يلي :
    تأويل هذه الآية ـ على ما يقتضيه الاستشهاد بها ـ أن يقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي دخلوا في أوائل درجات الإيمان (ثُمَّ كَفَرُوا) أي بأواسطها ، لاحتجابهم عنها بعد ، وسترها عنهم (ثُمَّ آمَنُوا) أي بالأواسط (ثُمَّ كَفَرُوا) أي بالأواخر لاحتجابهم عنها بعد وسترها عنهم (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أي بإنكار الأواخر والطعن في أهليها ، لرسوخهم في طريقتهم التي زعموا انحصار الحقّ فيها ، وأن ليس وراء ما علموا مذهبا ، كما هو دأب علماء الظاهر من إنكار أولياء الله ، ونفي علومهم الحقيقيّة الكشفيّة ، وتقييدهم بعلومهم الرسميّة ، واحتجابهم بها (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأنّ الجهل المركّب لا يقبل العلاج ولا ينقلب علما لمضادّته له (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لأنهم سلكوا السبيل المقابل لها ؛ بخلاف الفرقتين الأوليين ، فإن جهلهما بسيط ، وكفرهم يمكن أن ينقلب إيمانا. منه ـ ره.

    فنسبة الإحسان واليقين إلى الإيمان ، كنسبة الإيمان إلى الإسلام.
    قال مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين».
    وصل (2) [4]
    ولليقين ثلاث مراتب : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين (3) : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [102 / 5 ـ 7] (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [56 / 95].
    والفرق بينهما إنّما ينكشف بمثال : فعلم اليقين بالنار ـ مثلا ـ هو مشاهدة المرئيّات بتوسّط نورها. وعين اليقين بها هو معاينة جرمها. وحقّ اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء الهويّة بها ، والصيرورة نارا صرفا ـ وليس وراء هذا غاية ، ولا هو قابل للزيادة.
    «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (4).
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب فضل الإيمان على الإسلام : 2 / 51.
    (2) ـ مأخوذ مما قاله الخواجه نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ في أوصاف الأشراف : الباب الرابع ، الفصل الخامس : 55. وورد الفصل بألفاظه في عين اليقين أيضا : 253.
    (3) ـ كتب على هامش النسخة :
    ترا سه چيز مى بايد ز كونين
    بدانستن ، عمل كردن ، شدن عين

    دو علمت از عبادت عين گردد
    دلت آيينه كونين گردد

    (4) ـ مروي عن أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه‌السلام ، مناقب ابن شهرآشوب ، في المسابقة بالعلم ، 2 / 38. عنه البحار : 40 / 153. وأيضا في 46 / 135 ، عن فضائل ابن شاذان.
    شرح المقاصد : المبحث الأول من الفصل الثالث من المقصد السادس ، 5 / 212.

    فصل [5]
    واعلم أنّ تحصيل العلم مقدّم على العبادة ؛ وذلك لأنّ من لم يعرف المعبود ، ولا كيفية العبادة ، ولا ثمرتها : لم يتأتّ له العبادة.
    وأيضا : فإنّ العلم النافع يثمر خشية الله ومهابته : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [35 / 28].
    وذلك أنّ من لم يعرفه حقّ معرفته لم يهبه حقّ مهابته ، ولم يعظّمه حقّ تعظيمه وحرمته.
    فصار العلم يثمر الطاعة كلّها ، ويحجز عن المعصية كلّها ـ بتوفيق الله [سبحانه] ـ وليس وراء هذين مقصد للعبد في عبادة الله جلّ جلاله.
    ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) : «العلم إمام العمل ، والعمل تابعه».
    __________________
    (1) ـ أمالي الطوسي : المجلس السابع عشر ، ح 38 ، 488. عدة الداعي : القسم السادس من الباب الثاني : 64. البحار عنهما : 1 / 171. وفي أمالي الصدوق (المجلس التسعون ، ح 1 ، 714) : «... العلم إمام العقل ، والعقل تابعه».

    فصل [6]
    العبادة قسمان :
    أحدهما العبادة الظاهرة ، التي هي من تقوى الجوارح والأبدان كفعل الطاعات الظاهرة ـ من الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ وغير ذلك ـ وترك المعاصي الواضحة الفاضحة ـ كالزنا ، وأكل الربا ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك ـ ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : «علم الشريعة» و «علم الفقه».
    والثاني : العبادة الباطنة ، التي هي من تقوى القلوب والأرواح كالتخلّق بالأخلاق الحميدة ـ من التوبة ، والصبر ، والشكر ، والتوكّل ، والتفويض وغير ذلك ـ والتجنّب عن الملكات الرذيلة ـ من الحسد والكبر ، والعجب ، والغرور ، والريا ، ونحوها ـ ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : «علم السرّ» و «علم الأخلاق».
    وكلتا العبادتين فريضة ، لورود الأمر بهما جميعا في الكتاب والسنّة ، فإنّ الله عزوجل يقول : (تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [24 / 31] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [3 / 200] ، (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [2 / 172] ، (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [5 / 23]. إلى غير ذلك من الأمر بالأخلاق الفاضلة كما أنّه عزوجل يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [2 / 110] ، و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [2 / 183] ، و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [3 / 97] ـ وغير ذلك.

    ويقول الله سبحانه في المعاصي : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [6 / 120] ، (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [6 / 151] ـ إلى غير ذلك ـ.
    ولكنّ التكليف بكلتيهما إنّما هو بقدر الوسع والطاقة (1).
    ولكلّ منهما درجات في الكمال والنقص ، وزيادة القرب من الحقّ وقلّته بحسب تفاوت درجات الناس في احتمالها والعمل بها ، و «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».
    فصل [7]
    [فهرس أبواب الكتاب]
    واعلم أنّ معرفة كيفيّة العبادتين داخلة في العلم بالكتب ، كما أنّ معرفة أوصياء الرسل وخلفائهم عليهم‌السلام داخلة في العلم بالرسل ، ومعرفة صفات الله العليا وأسمائه الحسنى وأفعاله وآثار رحمته ـ جلّ جلاله ـ داخلة في العلم بالله ، ومعرفة الشيطان وجنوده داخلة في العلم بالملائكة ، ومعرفة النفس الإنسانيّة وترقّياتها في أطوارها ـ من لدن كونها جنينا إلى أن تلقى الله سبحانه ـ داخلة في العلم باليوم الآخر.
    فلم يخرج شيء من العلوم المهمّة الدينيّة عن هذه الاصول الخمسة.
    ولمّا كان لعلم الأخلاق مباحث عميقة طويلة الأذيال ، ولعلم الفقه
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي ثم شطب عليه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [2 / 286].

    مسائل كثيرة كثرت فيه القيل والقال ـ وقد أفرد علماء الدين ـ شكّر الله مساعيهم ـ لكلّ منهما كتبا مفردة ، وسمّوا كلّا منهما باسم على حدة : لم يحسن أن يجعلا من توابع بعض مباحث علم آخر ؛ فلذلك أفردنا لملخّص كلّ منهما كتابا على حدة (1).
    ولتقارب مسائل الكتب والرسل واشتراك بعضها جمعناهما في
    __________________
    (1) ـ غيّر المؤلف ـ قدس‌سره ـ المقاطع التالية إلى آخر المقدمة مرتين ـ ولذلك تختلف النسخ الموجودة هنا ـ
    فقد كتب أولا بعد قوله : «على حدة» هذا النص : «ثم لما كانت المسائل الفقهية ليست مسائل علمية ـ بل كانت ظنية كثيرة الخلاف بين أربابها ، والمتعلقة منها بغير العبادات غير واجبة عينا على كل مكلف ، ولا كانت مما له دخل في سلوك سبيل الله سبحانه والدار الآخرة ، بل كانت كسائر الصناعات التي إنما احتيجت إليها لضرورة المعيشة في الدنيا والتمدن ، فلم يناسب وضع هذا الكتاب ، المسمى بعلم اليقين الهادي للسالكين ، فلذلك اقتصرنا منها على أصول وجمل في العبادات ، مما كانت من ضروريات الدين ، وواجبة على عامة المكلفين ، وأشرنا إلى بعض أسرارها وحكمها ، وذكرنا ضابطة كلية لكيفية العمل بالمختلف فيها ، ليتمسك بها من وفق لها. ولتقارب مسائل الكتب والرسل واشتراك بعضها جمعناهما في باب واحد ، فصارت مقاصد هذا الكتاب أربعة: العلم بالله ، العلم بالملائكة ، العلم بالكتب والرسل ، العلم بالعبادات الظاهرة ، العلم بالعبادات الباطنة ، العلم باليوم الآخر. ولنشرع فيها ـ ومن الله التأييد». (المقاصد المعدودة ستة كما ترى ، إلا أن يكون بعض منها مدغما في الآخر).
    ثم شطب عليه وكتب بدلا منه ما أوردناه في المتن ؛ وأضاف في الهامش ـ بعد قوله «على حدة» ـ : «سمينا أحدهما بالمحجة البيضاء في تهذيب الإحياء ، والآخر بمعتصم الشيعة في أحكام الشريعة».
    ثم شطب على هذه الجملة المضافة عند مراجعاته أيضا ، ولذلك لا ترى المقطعين في نسختي ع وم ، والمقطع الأخير مكتوب في س داخل المتن ؛ وذلك دليل على أن الاستدراك الأخير وقع بعد استنساخها ؛ على أنه ألف المحجة البيضاء بعد مضيّ أربع سنين من تأليف علم اليقين.

    مقصد واحد ؛ فصارت مقاصد هذا الكتاب أربعة :
    العلم بالله.
    العلم بالملائكة.
    العلم بالكتب والرسل.
    العلم باليوم الآخر.
    فرتّبت كلّا منها على أبواب ، وجعلت الأبواب على فصول ؛ فصار مجموع ما في الأربعة خمسين بابا ذوات فصول ، في خمسين مطلبا ، بهذا التفصيل :
    أمّا العلم بالله ، ففيه ثمانية أبواب :
    1 : في وجوده تعالى.
    2 : في توحيده عزوجل.
    3 : في تنزيهه سبحانه.
    4 : في صفاته العليا تبارك وتعالى.
    5 : في نبذ من نعوته جلّ ذكره.
    6 : في أسمائه الحسنى تقدّس وتعالى.
    7 : في أفعاله جلّ اسمه وقضائه وقدره.
    8 : في نبذ من آثار رحمته وآيات عظمته جلّ جلاله.

    وأما العلم بالملائكة ففيه ثمانية أبواب :
    1 : في الملائكة المقرّبين.
    2 : في الملائكة المدبّرين.
    3 : في الأرواح البشريّة.
    4 : في المعقّبات والشياطين.
    5 : في ملائكة الأعمال والكرام الكاتبين.
    6 : في أصناف الملائكة.
    7 : في كثرة الملائكة.
    8 : في أوصاف الملائكة وبدائع خلقهم.
    وأما العلم بالكتب والرسل عليهم‌السلام ففيه ستّة عشر بابا :
    1 : في الاضطرار إلى الرسل والشرائع ، وأسرار التكاليف.
    2 : في صفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واصول المعجزات.
    3 : في صفة نزول الوحي ، والفرق بينه وبين الإلهام وغيره.
    4 : في الفرق بين الرسول والنبيّ ، والإمام والولي.
    5 : في الاضطرار إلى الإمام وذكر صفاته.
    6 : في تفاصيل الأنبياء والأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ.
    7 : في أخذ ميثاق النبيّين عليهم‌السلام لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبشارة به قبل ظهوره.
    8 : في أخلاق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصافه وأسمائه وخصائصه.
    9 : في معجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآيات صدقه.
    10 : في معراج نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

    11 : في معنى الكتاب والكلام والفرق بينهما وتفاصيل كتب الله ـ جلّ وعزّ ـ.
    12 : في نبذ من فضائل القرآن المجيد.
    13 : في نبذ من فضائل أهل البيت عليهم‌السلام.
    14 : في الاختلاف الواقع بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
    15 : في اصول العقائد الدينيّة على الإجمال.
    16 : في غيبة إمامنا عليه‌السلام ، وعلامات ظهوره ، وأشراط الساعة.
    وامّا العلم باليوم الآخر ففيه ثمانية عشر بابا :
    1 : في الموت.
    2 : في البرزخ وعذاب القبر وسؤاله.
    3 : في نفخ الصور والبعث والحشر.
    4 : في طول يوم القيامة وأهواله.
    5 : في الخصماء والمظالم.
    6 : في المساءلة والشهداء.
    7 : في تطائر الكتب ونشرها.
    8 : في الميزان والحساب.
    9 : في السياق والصراط.
    10 : في الشفاعة.
    11 : في الحوض.
    12 : في الوسيلة واللواء.

    13 : في محل الجنّة والنار والأعراف ، وأنّها موجودة الآن.
    14 : في صفة الجنّة وأهلها.
    15 : في صفة النار وأهلها.
    16 : في مذنبي أهل التوحيد والناقصين.
    17 : في أصناف اللذّات والآلام وأربابهما في الآخرة.
    18 : في خلود الفريقين (1).
    ولنشرع في المقصود ، ومن الله ـ سبحانه ـ التأييد :
    * * *
    __________________
    (1) ـ هنا مقاطع في النسخة شرح فيه المؤلف ـ قدس‌سره ـ وجه تقسيم المطالب بين علم اليقين والمحجة البيضاء ومعتصم الشيعة وأنوار الحكم ، ثم شطب عليها وكتبه ملخصا ، ثم شطب عليه أيضا ؛ وإنما أعرضنا عن الإتيان بها لأنها قريبة مما أوردناه في التعليقة الأخيرة وغير موجودة بتمامها ، لأن قسما منها كانت مكتوبة في ورقة أخرجها المؤلف ـ على ما يظهر ـ مما بين الدفتين.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:13 pm

    المقصد الاول
    في العلم بالله جلّ جلاله
    (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر / 22 ـ 24]

    [1]
    باب
    وجوده تعالى
    (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [14 / 10]
    فصل [1]
    إنّ في الآفاق والأنفس وما خلق الله من شيء ، لآيات مبيّنات ودلائل واضحات على وجوده ـ سبحانه ـ ووحدته وإلهيّته ، وسائر صفاته (1) ، من وجوه مختلفة وطرق شتّى ؛ وقد وقعت الإشارة إلى نبذ منها في القرآن المجيد ، للتنبيه والإرشاد :
    منها قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [3 / 164].
    __________________
    (1) ـ كتب في الهامش :
    ففى كل شيء له آية
    تدلّ على أنّه واحد



    ومنها قوله ـ سبحانه ـ في سورة الأنعام : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [6 / 95 ـ 99] (1).
    ومنها قوله ـ عزوجل ـ في سورة يونس : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [10 / 5 ـ 6].
    ومنها قوله ـ عزّ اسمه ـ في سورة الرعد : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [جَعَلَ فِيها
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    برگ درختان سبز در نظر هوشيار
    هر ورقى دفترى است معرفت كردگار



    زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (1) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [13 / 3 ـ 4].
    ومنها قوله ـ جلّ ذكره ـ في سورة النحل : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ* وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) (2) لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [16 / 66 ـ 69].
    ومنها قوله ـ جلّ وعزّ ـ في هذه السورة أيضا : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [16 / 79].
    ومنها قوله ـ عزّ ذكره ـ في سورة الروم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
    __________________
    (1) ـ ما بين المعقوفتين ساقط من النسخ.
    (2) ـ النسخ : لآيات (سهو).

    ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ* وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [30 / 20 ـ 25].
    ومنها قوله ـ سبحانه ـ في سورة الجاثية : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [45 / 3 ـ 5].
    إلى غير ذلك من الآيات ـ وهي كثيرة وسنشير ـ إلى ما يفسّر بعضها فيما بعد ـ إن شاء الله ـ (1).
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة ما يلي :
    «لا يخفى على من له أدنى مسكة ـ إذا تأمّل في مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسماوات وبدائع فطرة الحيوان والنبات ـ أنّ هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبّره ، وفاعل يحكّمه ويقدّره ؛ بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره وتصرّفه بمقتضى تدبيره. ولذلك قال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [14 / 10] ولهذا بعث الأنبياء كلّهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ؛ ليقولوا : «لا إله إلّا الله» ؛ وما امروا أن يقولوا : «لنا إله» ؛ فإنّ ذلك كانت مجبولة في فطرة عقولهم ومبدأ نشوئهم. ويأتي لهذا مزيد بيان وبسط إن شاء الله تعالى ـ منه».

    فصل [2]
    [بم عرفت ربك؟]
    سئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «بما ذا عرفت ربّك»؟ قال :
    «بفسخ العزائم ونقض الهمم ؛ لمّا هممت فحيل بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي ، علمت أنّ المدبّر غيري».
    ومثله عن مولانا الصادق عليه‌السلام (2) ، رواهما الشيخ الصدوق ـ أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمّي ـ رحمه‌الله ـ في كتاب التوحيد.
    وسئل عارف : «بم عرفت ربّك»؟ فقال : «بواردات ترد على القلوب ، فتعجز النفس عن تكذيبها».
    وسئل أعرابيّ عن مثل ذلك ، فقال : (3) «البعرة تدلّ على البعير ، وأثر الأقدام على المسير ، فالسماء ذات أبراج ، والأرض ذات فجاج أما تدلّان على الصانع الخبير»؟.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أنه عزوجل لا يعرف إلا به ، 288. الخصال : باب الاثنين ، 1 / 33 ، ح 1.
    واللفظ فيهما : «بفسخ العزم ونقض الهمّ ...». البحار عنهما : 3 / 42.
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 289 : «... بفسخ العزم ونقض الهمّ ...» البحار : 3 / 49.
    (3) ـ في روضة الواعظين (ص 40) : «البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علويّ بهذه اللطافة ، ومركز سفليّ بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير»؟ ويقرب منه ما في تفسير الفخر الرازي : 2 / 99 ، البقرة / 21.
    وفي جامع الأخبار (الفصل الأول : 35) نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : «البعرة تدلّ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم على المسير ؛ فهيكل علويّ بهذه اللطافة ، ومركز سفليّ بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير».

    فصل [3]
    قال السيد الجليل رضي الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن طاوس ـ رحمه‌الله ـ في وصاياه لابنه (1) :
    «إنّني وجدت كثيرا ممن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام ، قد ضيّقوا على الأنام ما كان سهّله الله ـ جلّ جلاله ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معرفة مولاهم ومالك دنياهم واخراهم ؛ فإنّك تجد كتب الله ـ جلّ جلاله ـ السالفة ، والقرآن الشريف ، مملوّا من التنبيهات على الدلالات على معرفة محدث الحادثات ، ومغيّر المتغيّرات ، ومقلّب الأوقات ، وترى علوم سيّدنا خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ على سبيل كتب الله ـ جلّ جلاله ـ المنزلة عليهم ، في التنبيه اللطيف ، والتشريف بالتكليف ؛ ومضى على ذلك الصدر الأوّل من علماء المسلمين ، إلى أواخر [أيّام] (2) من كان ظاهرا من الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ
    فإنّك تجد من نفسك ـ بغير إشكال ـ أنّك لم تخلق جسدك ، ولا روحك ، ولا حياتك ، ولا عقلك ، ولا ما خرج من اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك
    __________________
    (1) ـ كشف المحجّة : الفصل الخامس عشر ، 48 ـ 50 ، مع اختلافات غير مهمة. وحكاه المؤلف ـ قدس‌سره ـ في المحجّة البيضاء : 1 / 209 أيضا.
    (2) ـ زيادة من المصدر.

    أبوك ، ولا أمّك ، ولا من تقلّبت بينهم من الآباء والامّهات ، لأنّك تعلم يقينا أنّهم كانوا عاجزين عن هذه المقامات ، ولو كان لهم قدرة على تلك المهمّات ، ما كان قد حيل بينهم وبين المرادات ، وصاروا من الأموات.
    فلم يبق مندوحة أبدا ، عن واحد منزّه عن إمكان المتجدّدات ، خلق هذه الموجودات ، وإنّما تحتاج أن تعلم ما هو عليه ـ جلّ جلاله ـ من الصفات.
    ولأجل شهادة العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع ، أطبقوا جميعا على فاطر وخالق ؛ وإنّما اختلفوا في ماهيّته ، وحقيقة ذاته ، وفي صفاته بحسب اختلاف الطرائق».
    ـ قال : ـ «وإنّي وجدت قد جعل الله ـ جلّ جلاله ـ في جملتي حكما أدركته عقول العقلاء ، فجعلني من جواهر وأعراض ، وعقل روحاني ، ونفس وروح ؛
    فلو سألت ـ بلسان الحال ـ الجواهر التي في صورتي : «هل كان لها نصيب في خلقي (1) وفطرتي»؟ لوجدتها تشهد بالعجز والافتقار ، وأنّها لو كانت قادرة على هذا المقدار ما اختلفت عليها الحادثات والتغيّرات والتقلّبات ، ووجدتها معترفة أنّها ما كانت لها حديث (2) في تلك التدبيرات ، وأنّها ما تعلم كيفيّة
    __________________
    (1) ـ المصدر : من خلقي.
    (2) ـ المصدر : حديث يفترى.

    ما فيها من التركيبات ، ولا عدد ولا وزن ما جمع فيها من المفردات.
    ولو سألت بلسان الحال الأعراض ، لقالت : «أنا أضعف من الجواهر ، لأنّني فرع عليها ؛ فأنا أفقر منها ، لحاجتي إليها».
    ولو سألت بلسان الحال عقلي ، وروحي ، ونفسي ، لقالوا جميعا : «أنت تعلم أنّ الضعف يدخل على بعضنا بالنسيان ، وبعضنا بالموت ، وبعضنا بالذلّ والهوان ، وأنّنا تحت حكم غيرنا ممن يقلّبنا (1) كما يريد من نقص إلى تمام ، ومن تمام إلى نقصان ، ويقلّبنا كما يشاء مع تقلّبات الأزمان».
    فإذا رأيت تحقيق هذا من لسان الحال ، وعرفت تساوي الجواهر والأعراض ، وتساوي معنى العقول والأرواح والنفوس في سائر الموجودات والأشكال : تحقّقت أنّ لنا جميعا فاطرا وخالقا ، منزّها عن عجزنا وافتقارنا وتغييراتنا وانتقالاتنا وتقلّباتنا ؛ ولو دخل عليه نقصان في كمال أو زوال ، كان محتاجا ومفتقرا ـ مثلنا ـ إلى غيره بغير إشكال.
    __________________
    (1) ـ المصدر : ينقلنا.

    فصل [4]
    وروى الشيخ الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في كتاب التوحيد (1) عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سأله أبو شاكر الديصاني (2) : «ما الدليل على حدث (3) العالم»؟
    فقال الصادق عليه‌السلام : «نستدلّ عليه بأقرب الأشياء».
    قال : «وما هو»؟
    فدعا عليه‌السلام ببيضة ، فوضعها على راحته ، فقال : «هذا حصن ملموم (4) داخله غرقئ (5) رقيق نظيف ، به فضّة سائلة ، وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن مثل الطاوس ؛ أدخلها شيء؟».
    قال : «لا».
    قال : «فهذا الدليل على حدث (6) العالم».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب إثبات حدوث العالم : 292. أمالي الصدوق : المجلس 56 ، ح 5 ، 433.
    عنهما البحار : 3 / 39 ـ 40. وجاء ما يقرب منه في الكافي : كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح 4 ، 1 / 80.
    (2) ـ لم أعثر على ترجمة له ، ولعله الذي أشار إليه البرقي في ترجمة هشام بن الحكم (رجال البرقي : 35 ، أصحاب الصادق عليه‌السلام) : «هشام بن الحكم مولى بني شيبان ... وكان من غلمان أبي شاكر الزنديق ...». راجع أيضا رجال ابن داود : 368 ، الترجمة 1643.
    (3) ـ المصدر : حدوث.
    (4) ـ في هامش النسخة : الملموم : المجتمع المدوّر المضموم ـ ق.
    (5) ـ في هامش النسخة : الغرقئ ـ كزبرج ـ : القشرة الملتصقة ببياض البيض ـ ق.
    (6) ـ المصدر : حدوث.

    قال : «أخبرت فأوجزت ، وقلت فأحسنت ؛ وقد علمت أنّا لا نقبل إلّا ما أدركناه بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا ، أو شممناه بمناخرنا ، أو ذقناه بأفواهنا ، أو لمسناه بأكفّنا ، أو تصوّر في القلوب بيانا ، أو استنبطه الرويّات إيقانا».
    قال عليه‌السلام : «ذكرت الحواسّ الخمس ، وهي لا تنفع شيئا بغير دليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح».
    وبإسناده (1) إلى مولانا الرضا عليه‌السلام أنّه دخل عليه رجل فقال : «يا بن رسول الله ، ما الدليل على حدث العالم؟».
    قال : «أنت لم تكن ثمّ كنت ، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك».
    قال الشيخ الصدوق ـ طاب ثراه ـ (2) :
    «ومن الدليل على حدوث العالم : أنّا وجدنا أنفسنا وسائر أجسام العالم ، لا ينفكّ ممّا يحدث فيها من الزيادة والنقص ، ويجري عليها من الصنعة والتدبير ، ويعتورها من الصور والهيئات ؛ وقد علمنا ضرورة : أنّا لم نصنعها ، ولا من هو من
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب إثبات حدوث العالم : 293. العيون : باب (11) ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، ح 32 ، 1 / 134 ، مع فرق يسير. أمالي الصدوق : المجلس السادس والخمسون ، ح 6 ، ص 433. الاحتجاج : احتجاج الرضا عليه‌السلام : 2 / 396. عنها البحار : 3 / 36.
    (2) ـ التوحيد : باب إثبات حدوث العالم : 298 ، وفيه فروق يسيرة لفظية.

    جنسنا وفي مثل حالنا صنعها ؛ وليس يجوز في عقل ولا يتصوّر في وهم أن يكون ما لم ينفكّ من الحوادث ولم يسبقها : قديما ؛ ولا أن يوجد هذه الأشياء ـ على ما نشاهدها عليه من التدبير ، ونعاينه فيها من اختلاف التقدير ـ لا من صانع ، أو يحدث لا بمدبّر.
    ولو جاز أن يكون العالم ـ بما فيه من إتقان الصنعة ، وتعلّق بعضه ببعض ، وحاجة بعضه إلى بعض ـ لا بصانع صنعه ، ويحدث لا بموجد أوجده : لكان ما هو دونه ـ في الإحكام والإتقان ـ أحقّ بالجواز وأولى بالتصوّر والإمكان ، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب لها ، ودار مبنيّة لا باني لها ، وصورة محكمة لا مصوّر لها ، ولأمكن في القياس : أن تأتلف سفينة ـ على أحكم نظم ، وتجتمع على أتقن صنع ـ لا بصانع صنعها أو جامع جمعها.
    فلمّا كان ركوب هذا وإجازته خروجا عن النهى والعقول كان الأوّل مثله ؛
    بل ركوبه في غير ما ذكرناه من العالم ـ وما فيه من حركة أفلاكه واختلاف أوقاته ، وشمسه وقمره ، وطلوعهما وغروبهما ، ومجيء برده وقيظه في أوقاتهما ، واختلاف ثماره وتنوّع أشجاره ومجيء ما يحتاج إليه منها في إبّانه ووقته ـ أشدّ مكابرة ، وأوضح معاندة.
    وهذا واضح بحمد الله».

    ......... (1)
    __________________
    (1) ـ هنا كتب المؤلف الفصلين التاليين ثم شطب عليهما وكتب بدلا منهما الفصل الآتي في المتن :
    أوثق الدلائل وأشرفها هو طريقة الصدّيقين ، الذين يستشهدون بالحق على كل شيء ؛ لا بغيره عليه ؛ سئل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بم عرفت الله»؟ فقال : «بالله عرفت الأشياء».
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اعرفوا الله بالله» ـ رواه ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي [1 / 85] بإسناده عنه عليه‌السلام. وقال عليه‌السلام ـ في دعاء الصباح المشهور ـ : «يا من دلّ على ذاته بذاته». وعنه عليه‌السلام أنّه سئل : «أعرفت الله بمحمّد ، أم عرفت محمّدا بالله»؟ فقال عليه‌السلام : «لو عرفت الله بمحمّد لكان محمّد أوثق من الله ، ولو عرفت محمّدا بالله ما احتجت إلى رسول الله ؛ ولكن عرّفني الله نفسه بلا كيف ، وأرسل محمّدا لبيان الحقّ وتوضيح الدين». وفي هذه الطريقة هو الله البرهان على ذاته ، كما قال ـ جلّ جلاله ـ : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [3 / 18] (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [6 / 19].
    وبعد هذه الطريقة في الإحكام والشرف طريقة معرفة النفس ، كما أشار إليه نبيّنا بقوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه». وقوله : «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه». وفي القرآن المجيد : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [51 / 21]. وذلك لأنّ النفس أمّ الفضائل ومادّة الحقائق ، وبعدها سائر الطرق الآفاقيّة على تفاوت مراتبها ومراتب الناس في فهمها.
    وإلى الثلاث الإشارة بقوله سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [41 / 53].
    فصل
    ولك أن تقول : إنّ معرفته ـ عزوجل ـ على أيّ التقادير ، ليست إلا به ، كما أشار إليه الشيخ الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في كتاب التوحيد بقوله : «الصواب في هذا الباب أن يقال : «عرفنا الله بالله» ، لأنّا إن عرفناه بعقولنا فهو ـ عزوجل ـ واهبها ، وإن عرفناه ـ عزوجل ـ بأنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام ، فهو ـ عزوجل باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججا ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو ـ عزوجل ـ محدثها ؛ فبه عرفناه. وقد قال الصادقعليه‌السلام : «لو لا الله ما عرفناه ، ولو لا نحن ما عرف الله». ومعناه : لو لا الحجج ما عرف الله حقّ معرفته ، ولو لا الله ما عرف الحجج» ـ انتهى كلامه ـ
    ويصدّقه قول الله ـ عزوجل ـ : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [49 / 17] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [24 / 21].

    فصل [5]
    ومن الدلائل التي قيلت في إنيّة الصانع للكلّ أنّه لو لم يوجد الغنيّ الواجب بالذات ، لم يوجد المستغني الواجب بالغير ، فلم يوجد موجود أصلا ؛ لأنّ ذلك الغير ـ على هذا التقدير ـ مستغن بالغير ، فإمّا أن يتسلسل ، أو يدور ؛ وعلى التقديرين ، جاز انتفاء الكلّ بأن لا يوجد شيء منها أصلا ؛ فلا بدّ من مرجّح يرجّح وجودها ؛ وهو الله الغنيّ بالذات (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [47 / 38].
    فصل [6]
    الحقّ الحقيق بالتصديق أنّ التصديق بوجوده تعالى أمر فطريّ (1) ولذا ترى الناس عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال يتوكّلون بحسب الجبلّة على الله ، ويتوجّهون ـ توجّها غريزيّا ـ إلى مسبّب الأسباب ، ومسهّل الامور الصعاب ، وإن لم يتفطّنوا لذلك ؛ ويشهد لهذا قول الله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [31 / 25].
    (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) [6 / 40 ـ 41].
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    دانشِ حق ذوات را فطريست
    دانشِ دانش است كان فكريست



    وفي تفسير مولانا العسكري عليه‌السلام (1) أنّه سئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن الله ، فقال للسائل : يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : بلى.
    قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟
    قال : بلى.
    قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : بلى.
    قال الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي وعلى الإغاثة حين لا مغيث.
    قيل : «في قوله ـ سبحانه ـ : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [7 / 172] إشارة لطيفة إلى ذلك ، فإنّه ـ سبحانه ـ استفهم منهم الإقرار بربوبيّته ، لا بوجوده ، تنبيها على أنّهم كانوا مقرّين بوجوده في بداية عقولهم ، وفطر نفوسهم».
    وروى الشيخ الصدوق (2) بإسناده الصحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ قال : ـ سألته عن قول الله ـ عزوجل ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
    __________________
    (1) ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : في تفسير البسملة ، 22. التوحيد : باب معنى بسم الله : 230. معاني الأخبار : باب معنى الله ـ عزوجل ـ : 4. وجاء ما يقرب منه في تفسير الفخر الرازي : 2 / 98.
    (2) ـ التوحيد : باب فطرة الله عزوجل الخلق على التوحيد ، ح 9 ، 330. الكافي : باب فطرة الخلق على التوحيد ، ح 3 ، 2 / 12 مع فروق يسيرة. وجاء ما يقرب منه في المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، ح 223 ، 1 / 241.

    مُشْرِكِينَ بِهِ) [22 / 31] وعن الحنيفيّة؟ فقال : «هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله». ـ قال : ـ «فطرهم الله على المعرفة».
    قال زرارة : «وسألته عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ـ الآية ـ [7 / 172]»؟
    قال : «أخرج من ظهر آدم ذرّيته إلى يوم القيامة ؛ فخرجوا كالذرّ ؛ فعرّفهم وأراهم صنعه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه».
    وقال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة» ، يعني على المعرفة بأنّ الله ـ عزوجل ـ خالقه ، فذلك قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [31 / 25]».
    وفي روايات اخر (1) بأسانيده المستفيضة : إنّ الفطرة هي التوحيد.
    وبإسناده (2) عن ابن عمر ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم ، فإنّ بكائهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأربعة أشهر الصلاة على النبيّ وآله ، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه».
    وفي الكافي ما يقرب منه (3).
    ولعلّ السرّ في ذلك (4) : أنّ الطفل أربعة أشهر لا يعرف سوى الله
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 328 و 329. الكافي : الباب والصفحة السابقة.
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق ، ح 10 ، 331.
    (3) ـ الكافي : باب النوادر من كتاب العقيقة : 6 / 53.
    (4) ـ كتب المؤلف هذه الفقرة كتعليقة في الهامش ، ثم جعلها من المتن وكتب في آخره : «صح».
    وقد أوردها في الوافي أيضا : 4 / 39.

    عزوجل ، الذي فطر على معرفته وتوحيده ، فبكاؤه توسّل إليه ، والتجاء به ـ سبحانه ـ خاصّة ، دون غيره ، فهو شهادة له بالتوحيد.
    وأربعة اخرى يعرف أمّه من حيث أنّها وسيلة إلى اغتذائه فقطّ ، لا من حيث أنّها أمّه ، ولهذا يأخذ اللبن من غيرها أيضا في هذه المدّة غالبا ، فلا يعرف فيها بعد الله إلّا من هو وسيلة بين الله وبينه في ارتزاقه الذي هو مكلّف به ـ تكليفا طبيعيّا ـ من حيث أنّها وسيلة لا غير ـ وهذا معنى الرسالة ـ فبكاؤه في هذه المدّة بالحقيقة شهادة بالرسالة.
    وأربعة اخرى يعرف أبويه وكونه محتاجا إليهما في الرزق ، فبكاؤه توسّل إليهما والتجاء بهما ، فبكاؤه فيها دعاء لهما بالسلامة والبقاء في الحقيقة.
    وقد ظهر من هذه الكلمات أنّ «كلّ مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه» كما ورد في الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1).
    ولهذا جعلت الناس معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله ـ عزوجل ـ متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيّا عنهم بمجرّد الإقرار بالقول ، ولم يكلّفوا الاستدلالات العلميّة في ذلك(2).
    __________________
    (1) ـ مع فرق يسير في اللفظ في أمالي المرتضى : المجلس 56 ، 2 / 82 (وليس فيه : يمجسانه).
    عوالي اللئالي ، ح 18 ، 1 / 35. عنه البحار : 3 / 281. وفي البخاري (كتاب التفسير ، سورة الروم : 6 / 143) : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ...».
    مسلم : كتاب القدر ، باب معنى كل مولود ... ، 4 / 2047 (بلفظ البخاري).
    المعجم الكبير : مسند أسود بن سريع ، 1 / 283 ـ 285 ، ح 826 ـ 835 (أسند الحديث بألفاظه المختلفة). وحكى السيوطي في الجامع الصغير (باب الكاف : 2 / 94) عن أبي يعلي والبيهقي والطبراني. ومضى صدر الحديث فيما نقل عن التوحيد آنفا.
    (2) ـ كتب هنا : «كما يأتي تحقيقه في محله» ثم شطب عليه.

    قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) : «امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (2).
    وإنّما التعمّق والاستدلال لزيادة البصيرة ، ولطائفة مخصوصة ، وللردّ على أهل الضلال ؛ ولهذا أيضا امرت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بقتل من أنكر وجود الصانع فجأة بلا استتابة ولا عتاب ، لأنّه ينكر ما هو من ضروريات الامور.
    __________________
    (1) ـ عيون أخبار الرضا : فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار المجموعة ، ح 280 ، 2 / 64.
    البخاري : كتاب الإيمان ، باب (17) فإن تابوا وأقاموا الصلاة ... ، 1 / 13.
    وكتاب الصلاة ، باب (28) فضل استقبال القبلة ، 1 / 109. وكتاب الزكاة ، باب (1) وجوب الزكاة ، 2 / 131. وكتاب الاعتصام ، باب (2) الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، 9 / 115. كتاب استتابة المرتدين ، باب (3) من أبى قبول الفرائض ، 9 / 19. مسلم : كتاب الإيمان ، باب (Cool الأمر بقتال الناس حتى يقولوا ... ، 1 / 51 ـ 53 ، ح 32 ـ 36. أبو داود : كتاب الزكاة ، باب (1) ، 2 / 93. وكتاب الجهاد ، باب (95) على ما يقاتل المشركون ، 3 / 44 ، ح 2640 ، ح 1556.
    الترمذي : كتاب الإيمان ، باب (1 ـ 2) ، 5 / 3 ـ 4 ، ح 2606 ـ 2608. وكتاب التفسير ، باب (78) سورة الغاشية : 5 / 439 ، ح 3341. ابن ماجة : المقدمة ، باب (9) في الإيمان ، 1 / 27 ـ 28 ، ح 71 ـ 72.
    (2) ـ كتب في الهامش : «تمام الحديث : «فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها ، وحسابهم على الله».
    قال بعض العلماء : «إنّ الله تعالى جعل العذاب عذابين : أحدهما السيف ـ في يد المسلمين ـ والثاني عذاب الآخرة. والسيف في غلاف يرى ، والنار في غلاف لا يرى ؛ فقال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخرج لسانه من الغلاف المرئي ـ وهو الفم ـ فقال : «لا إله إلّا الله» أدخلنا السيف في الغمد المرئي. ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى ـ وهو غلاف الشرك ـ فقال : «لا إله إلا الله» أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة ؛ واحدة بواحدة ، جزاء ولا ظلم اليوم» ـ انتهى كلامه ـ منه عفي عنه».

    سئل بعض أهل المعرفة والتوحيد عن الدليل على إثبات الصانع فقال : «لقد أغنى الصباح عن المصباح».
    واعلم أن أفهام الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان وتحصيل الاطمينان ، كمّا وكيفا ، شدّة وضعفا ، سرعة وبطءا ، حالا وعلما ، وكشفا وعيانا ، وإن كان أصل المعرفة فطريّا ضروريّا ، أو يهتدى إليه بأدنى تنبيه.
    فلكلّ طريقة هداه الله ـ عزوجل ـ إليها إن كان من أهل الهداية ، و «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق» (1) ، و (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) [3 / 163] و (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [58 / 11].
    __________________
    (1) ـ نسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (جامع الأسرار : Cool ولم أعثر عليه في الجوامع الروائية.

    فصل [7]
    قال بعض العلماء (1) :
    اعلم أنّ أظهر الموجودات وأجلاها هو الله عزوجل (2) ، فكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أوّل المعارف وأسبقها إلى الأفهام ، وأسهلها على العقول ، ونرى الأمر بالضدّ من ذلك ؛ فلا بدّ من بيان السبب فيه.
    وإنّما قلنا : «إنّ أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى» لمعنى لا تفهمه إلّا بمثال : وهو أنّا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط ـ مثلا ـ كان كونه حيّا من أظهر الموجودات ، فحياته وعلمه وقدرته للخياطة ، أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة ؛ إذ صفاته الباطنة ـ كشهوته وغضبه وخلقه وصحّته ومرضه ، وكلّ ذلك لا نعرفه ، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها ، وبعضها نشكّ فيه ـ كمقدار طوله ، واختلاف لون بشرته ، وغير ذلك من صفاته ـ ؛ أمّا حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا ، فإنّه جليّ عندنا من غير أن يتعلّق حسّ البصر بحياته وقدرته وإرادته ، فإنّ هذه الصفات لا تحسّ بشيء من الحواسّ الخمس.
    __________________
    (1) ـ الغزالي : إحياء علوم الدين ، كتاب المحبّة والشوق ، بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى: 4 / 464 ـ 467. راجع أيضا الوافي : 4 / 59.
    (2) ـ في هامش النسخة : «لأنّ كلّ ما هو أقوى وجودا فهو أشدّ ظهورا ؛ إذ الوجود هو النور ؛ والله أقوى الموجودات لأنّ وجودات ما سواه منه وبه حصلت ، وبإشراق ذاته عليها ظهرت ـ منه».

    ثمّ لا يمكن أن يعرف حياته وقدرته وإرادته ، إلّا بخياطته وحركته ؛ فلو نظرنا إلى كلّ ما في العالم سواه لم نعرف به صفاته ، فما عليه إلّا دليل واحد ، وهو مع ذلك جليّ واضح ؛ ووجود الله وقدرته وعلمه وسائر صفاته ، يشهد له بالضرورة : كلّ ما نشاهده وندركه بالحواسّ الظاهرة والباطنة ـ من حجر ومدر ، ونبات وشجر وحيوان ، وسماء وأرض وكوكب ، وبرّ وبحر ، ونار وهواء ، وجوهر وعرض ـ بل أوّل شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأصنافنا(1) ، وتقلّب أحوالنا ، وتغيّر قلوبنا ، وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا ؛ وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ، ثمّ محسوساتنا بالحواسّ الخمس ، ثمّ مدركاتنا بالبصيرة والعقل ، وكلّ واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد ، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة ، وأدلّة شاهدة بوجود خالقها ومدبّرها ومصرّفها ومحرّكها ، ودالّة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته ، والموجودات المدركة لا حصر لها.
    فإن كان حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد له إلّا شاهد واحد ـ وهو ما أحسسنا (2) من حركة يده ـ فكيف لا يظهر عندنا من لا يتصوّر في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلّا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله ، إذ كلّ ذرّة فإنّها تنادي بلسان حالها أنّه ليس وجودها بنفسها ، ولا حركتها بذاتها ؛ وإنّما تحتاج إلى موجد ومحرّك لها.
    __________________
    (1) ـ الإحياء والمحجة : أوصافنا.
    (2) ـ الإحياء والمحجة : أحسسنا به.

    يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا وتشكّل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة ، فإنّا نعلم أنّها لم تأتلف بنفسها ، كما نعلم أنّ يد الكاتب لم تتحرّك بنفسها.
    ولكن لمّا لم يبق في الوجود مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلّا وهو شاهد عليه ومعرّف له ، عظم ظهوره (1) ؛ فانبهرت العقول ، ودهشت عن إدراكه.
    فإذن ما يقصر عن فهمه عقولنا ، له سببان :
    أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه ـ وذلك لا يخفى مثاله.
    والآخر ما يتناهى وضوحه ، وهذا كما أنّ الخفّاش يبصر بالليل ، ولا يبصر بالنهار ـ لا لخفاء النهار واستتاره ، ولكن لشدّة ظهوره ، فإنّ بصر الخفّاش ضعيف ، يبهره نور الشمس إذا أشرق ، فيكون قوّة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره ، فلا يرى شيئا إلّا إذا امتزج الظلام بالضوء وضعف ظهوره ؛
    فكذلك عقولنا ضعيفة ، وجمال الحضرة الإلهيّة في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتّى لا يشذّ (2) عن ظهوره ذرّة من ملكوت السماوات والأرض ، فصار
    __________________
    (1) ـ في الإحياء والمحجة : وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره. وفي نسخة الأصل أيضا كتب كذلك أولا ثم استدرك وكتب «عليه» و «له» فوق الخط.
    (2) ـ في الإحياء والمحجة : لم يشذ.

    ظهوره سبب خفائه. فسبحان من احتجب بإشراق نوره ، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره (1).
    ولا يتعجّب من اختفاء ذلك بسبب الظهور ، فإنّ الأشياء تستبان بأضدادها ، وما عمّ وجوده ـ حتّى [أنّه] (2) لا ضدّ له ـ عسر إدراكه ؛ فلو اختلف الأشياء ، فدلّ بعضها دون البعض ، ادرك التفرقة على قرب ، ولمّا اشتركت في الدلالة على نسق واحد ، أشكل الأمر.
    ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض : فإنّا نعلم أنّه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ، ويزول عند غيبة الشمس ، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق ـ لا غروب لها ـ لكنّا نظنّ أن لا هيئة في الأجسام إلّا ألوانها ، وهي السواد والبياض وغيرهما ؛ فإنّا لا نشاهد في الأسود إلّا السواد ، وفي الأبيض إلّا البياض ؛ فأمّا الضوء فلا ندركه وحده ، لكن لمّا غابت الشمس وأظلمت المواضع ، ادركت تفرقة بين الحالتين ؛ فعلمنا أنّ الأجسام كانت قد استضاءت بضوء ، واتّصفت بصفة فارقتها عند الغروب ، فعرفنا وجود النور بعدمه ، وما كنّا نطّلع عليه ـ لو لا عدمه ـ إلّا بعسر شديد ؛ وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور.
    هذا مع أنّ النور أظهر المحسوسات ـ إذ به يدرك سائر
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    حجاب روى تو هم روى تست در همه حال
    نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائى

    (2) ـ زيادة من الإحياء والمحجة.

    المحسوسات ـ فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره ، انظر كيف تصوّر استبهام أمره بسبب ظهوره ـ لو لا طريان ضدّه ـ.
    فإذن الربّ ـ تعالى ـ هو أظهر الامور ، وبه ظهرت الأشياء كلّها ، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغيّر ، لانهدّت السماوات والأرض ، وبطل الملك والملكوت ، ولادركت التفرقة بين الحالتين ؛ ولو كان بعض الأشياء موجودا به وبعضها موجودا بغيره ، لادركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة ؛ ولكن دلالته عامّة في الأشياء على نسق واحد ، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه ، فلا جرم أورث شدّة الظهور خفاء.
    فهذا هو السبب في قصور الأفهام.
    وأمّا من قويت بصيرته ، ولم تضعف منّته ، فإنّه في حال اعتدال أمره لا يرى إلّا الله وأفعاله (1) ؛ وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له ، فلا وجود لها بالحقيقة (2) ، وإنّما الوجود للواحد الحقّ الذي به وجود الأفعال كلّها.
    ومن هذا حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلّا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنّه سماء وأرض ، وحيوان وشجر ؛ بل ينظر فيه من حيث أنّه صنع (3) ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ؛ كمن نظر في شعر إنسان ، أو خطّه ، أو
    __________________
    (1) ـ المحجة : + ولا يعرف غيره ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله.
    (2) ـ الإحياء والمحجة : + دونه.
    (3) ـ الإحياء والمحجة : + الواحد الحق.

    تصنيفه ، ورأى فيه الشاعر والمصنّف ، ورأى آثاره من حيث هو آثاره ، لا من حيث أنّه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنّف.
    فكلّ العالم تصنيف الله ـ تعالى ـ فمن نظر إليها من حيث أنّها فعل الله ، وعرفها من حيث أنّها فعل الله ، وأحبّها من حيث أنّها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلّا في الله ، ولا عارفا إلّا بالله ، ولا محبّا إلّا لله ؛ وكان هو الموحّد الحقّ الذي لا يرى إلّا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ؛ بل من حيث هو عبد الله (1).
    فهذا هو الذي يقال فيه : «إنّه فنى في التوحيد ، وإنّه فنى من نفسه» ؛ وإليه الإشارة بقول من قال : «كنّا بنا ، ففنينا عنّا ، فبقينا بلا نحن».
    فهذه امور معلومة عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدرة العلماء عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم أنّ بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم.
    فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله ـ تعالى ـ.
    وانضمّ إليه أنّ المدركات كلّها التي هي شاهدة على الله إنّما يدركها الإنسان في الصبى ، عند فقد العقل (2) قليلا قليلا ، وهو
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    بهر چه مى نگرم صورت تو مى بينم
    وزان ميان همه در چشم من تو مى آئى

    (2) ـ الإحياء والمحجة : + ثم تبدو فيه غريزة العقل.

    مستغرق الهمّ بشهواته ، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها ، فسقط وقعها عن قلبه بطول الانس ، ولذلك إذا رأى على طريق الفجأة حيوانا غريبا ، أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة عجيبا : انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : «سبحان الله» ؛ وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة ـ وكلّها شواهد قاطعة ـ ولا يحسّ بشهادتها لطول الانس بها.
    ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ، ثمّ انقشعت غشاوة عن عينه ، فامتدّ بصره إلى السماء والأرض ، والأشجار والنبات والحيوان ـ دفعة واحدة ، على سبيل الفجأة ـ يخاف على عقله أن ينبهر ، لعظم تعجّبه من شهادة هذه العجائب على خالقها.
    فهذا وأمثاله من الأسباب ، مع الانهماك في الشهوات هي التي سدّت على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة ، والجليّات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة.
    فهذا سرّ (1) الأمر ، فليتحقّق ، ولذلك قيل :
    لقد ظهرت فلا تخفى على أحد
    إلّا على أكمه لا يعرف القمرا

    لكن بطنت بما أظهرت محتجبا
    وكيف يعرف من بالعرف استترا

    انتهى كلامه (2).
    __________________
    (1) ـ يحتمل القراءة في النسخة : سد الأمر.
    (2) ـ إحياء علوم الدين : 4 / 467.

    وفي كتاب التوحيد ، بإسناده (1) ، عن مولانا الكاظم عليه‌السلام : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور» (2).
    وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يقرب منه (3).
    وعنه عليه‌السلام (4) : «إنّ الله تجلّى لعباده من غير أن رأوه ، وأراهم نفسه من غير أن يتجلّى لهم».
    وفي كلام مولانا الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في بعض دعواته (5) : «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب نفي المكان والزمان والحركة ، 179 ، ح 12. عنه البحار : 3 / 327. وروي في التوحيد أيضا (باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة ، 98 ، ح 5) عن الرضا عليه‌السلام : «... احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ...». عنه البحار : 4 / 263. ومثله في الكافي : كتاب التوحيد ، باب النهي عن الجسم والصورة ، 1 / 105 ، ح 3.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    از فريب نقش نتوان صورت نقاش ديد
    ورنه در اين سقف زنگارى يكى در كار هست

    (3) ـ نهج البلاغة (الكتاب : 31) : «... واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض ... لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ...». وفي الخطبة 195 : «... فما قطعكم عنه حجاب ولا اغلق من دونه باب ، وإنّه لبكلّ مكان ، وفي كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجانّ ...». وفي الكافي (كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد ، 1 / 140 ، ح 5) : «... لا تحجبه الحجب ، والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إيّاهم ...».
    (4) ـ في الكافي (الروضة ، ح 586 : ص 387) ونهج البلاغة (الخطبة : 147) : «... فتجلّى لهم ـ سبحانه ـ في كتابه ، من غير أن يكونوا رأوه ...».
    (5) ـ إقبال الأعمال : دعائه عليه‌السلام في يوم عرفة : 349. عنه البحار : 98 / 225 ـ 226.

    ما ليس لك ، حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا».
    وقال أيضا (1) : «تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيء».
    وقال : «تعرّفت إليّ في كلّ شيء ، فرأيتك ظاهرا في كلّ شيء ، فأنت الظاهر لكلّ شيء».
    فصل [8]
    اعلم أنّه لا يعرف الله حقّ معرفته إلا الله ـ سبحانه ـ لأنّ الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبّر ، حيّ ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ؛ وهذه المعرفة لها طرفان :
    أحدهما يتعلّق بالعالم ؛ ومعلومه احتياجه إلى مدبّر.
    والآخر يتعلّق بالله ؛ ومعلومه أسام مشتقّة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيّته ؛ وقد ثبت أنّه إذا أشار المشير إلى شيء وقال : «ما هو؟» لم يكن ذكر الأسماء المشتقّة جوابا أصلا ؛ فلو أشار شخص إلى حيوان (2) فقال : «ما هو؟» ، فقال : «طويل» أو «أبيض» أو «بصير» ؛ أو أشار إلى ماء فقال : «ما هو؟» ، فأجاب بأنّه «بارد» ؛ أو إلى نار ، فقال : «حارّ» : فكلّ ذلك ليس بجواب عن الماهيّة البتّة.
    __________________
    (1) ـ إقبال الأعمال : من فقرات الدعاء المذكور : 350. عنه البحار : 98 / 227.
    (2) ـ في النسخة : فلو أشار إلى شخص حيوان.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:15 pm

    والمعرفة بالشيء هي معرفة حقيقته وماهيّته ، لا معرفة الأسامي المشتقّة ؛ فإنّ قولنا : «حارّ» ، معناه : شيء مبهم (1) له وصف الحرارة ؛ وكذلك قولنا : «قادر» و «عالم» ، معناه : شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.
    وأمّا قولنا : «إنّه واجب الوجود» ، فهو عبارة عن استغنائه عن الفاعل ، وهذا يرجع إلى سلب السلب عنه ؛ وقولنا : «إنّه يوجد عنه كلّ موجود» ، يرجع إلى إضافة الأفعال إليه ؛ وإذا قيل له : «ما هذا الشيء؟» ، فقلنا : «هو الفاعل» ؛ لم يكن جوابا. فكيف قولنا : «هو الذي لا سبب له» ؛ لأنّ كلّ ذلك إخبار عن غير ذاته ، وعن إضافة له إلى ذاته ، إمّا بنفي أو إثبات ؛ وكلّ ذلك في أسماء وصفات وإضافات.
    فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ، ومعرفتهم بالحقيقة أنّهم لا يعرفونه ، وأنّه لا يمكنهم ـ البتّة ـ معرفته (2) ، وأنّه يستحيل أن يعرف الله ـ المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبيّة ـ إلا الله
    __________________
    (1) ـ في النسخة : شيء له مبهم له.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    مطلق كه بود زهر صفت پاك
    هرگز نتوان نمودش ادراك

    زان رو كه به عقل چون درآيد
    البتّه به صورتى بر آيد

    پس هرچه تو مى كنى خيالش
    باشد ز مظاهر جمالش

    * * *
    جهان متفق بر الهيّتش
    فرومانده در كنه ماهيّتش

    نه ادراك در كنه ذاتش رسد
    نه فكرت به غور صفاتش رسد

    نه بر اوج ذاتش پرد مرغ وهم
    نه در ذيل وصفش رسد دست فهم

    كه خاصان درين ره فرس رانده اند
    به «لا احصي» از تك فرومانده اند



    تعالى ؛ فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيّا ـ كما ذكرناه ـ فقد عرفوه ، أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حقّ الخلق من معرفته ؛ وهو الذي أشار إليه من قال : «العجز عن درك الإدراك إدراك».
    بل هو الذي عناه سيّد البشر ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال (1) : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». ولم يرد به أنّه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه ، بل معناه : أنّي لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيّتك ، وإنّما أنت المحيط به وحدك.
    وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وأنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» (3).
    __________________
    (1) ـ مسلم : كتاب الصلاة ، باب (42) ما يقال في الركوع والسجود ، 1 / 352 ، ح 222.
    أبو داود : كتاب الصلاة ، باب الدعاء في الركوع والسجود ، 1 / 232 ، ح 879.
    ابن ماجة : كتاب الدعاء ، باب (3) ما تعوّذ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، 2 / 1263 ، ح 3841. الترمذي : كتاب الدعوات ، باب (76) ، 5 / 524 ، ح 3493. المسند : 1 / 96 و 118 و 150. والشطر الأول منه في عوالي اللئالي : 1 / 389. عنه البحار : 85 / 169 ـ 170. وأخرج في الكافي (كتاب الصلاة ، باب السجود والتسبيح في الفرائض والنوافل ... ، 3 / 324 ، ح 12) بلفظ : «... لا أبلغ مدحك والثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ...». عنه البحار : 22 / 245.
    (2) ـ استشهد بالحديث الشيخ البهائي ـ قدس‌سره ـ في الأربعين ، شرح ح 2 ، 80. وابن عربي في الفتوحات المكية : الباب الثالث ، 1 / 95. وروى صاحب تحف العقول (245) فيما نقل من كلمات سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام في التوحيد : «... احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وعمن في السماء ، احتجابه كمن في الأرض ...».
    (3) ـ في هامش النسخة :
    گفت اينجا آشنايان در مقام حيرتند
    دور نبود گر نشيند خسته وغمگين غريب



    فإذن لا يحظى مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة ، وأما اتّساع المعرفة ، فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته ، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله ـ عزوجل ـ فليس من يعلم أنّه عالم قادر ـ على الجملة ـ كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض ، وخلق الأرواح والأجساد ، واطّلع على بدائع المملكة ، وغرائب الصنعة ، ممعنا في التفصيل ، ومستقصيا دقائق الحكم ، ومستوفيا لطائف التدبير ، ومتّصفا بجميع صفات الملكيّة ، المقرّبة من الله ـ تعالى ـ نائلا لتلك الصفات نيل اتّصاف بها ؛
    بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى ؛ وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الدرجات.
    هذا ملخّص ما أفاده بعض العلماء ـ قدّس الله أسرارهم ـ وسيأتي فيما بعد ما يؤكّده ويحقّقه ؛ وسيّما في كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ إن شاء الله تعالى.

    [2]
    باب
    توحيده عزوجل
    (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [2 / 255]
    (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [28 / 88]
    فصل [1]
    روي في كتاب التوحيد (1) بإسناده عن تشريح بن هاني (2) قال : إنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : «يا أمير المؤمنين أتقول أنّ الله واحد»؟
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب معنى الواحد : 83. الخصال : باب الواحد : 1 / 2. عنهما البحار : 3 / 206.
    (2) ـ قال ابن عبد البر (الاستيعاب : 149) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن الحارث الحارثي بن كعب ، جاهلي اسلامي ، يكنى أبا المقدام ... من أجلة أصحاب عليّ عليه‌السلام». وقال ابن سعد (الطبقات : 6 / 128) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب من بني الحارث بن كعب ، روى عن عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وعائشة ...» وقال ابن الخياط (الطبقات : الترجمة 1065 ، ص 250) : «شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دويد (كذا) بن سفيان بن الضباب ... قتل مع أبي بكرة بسجستان ، سنة ثمان وسبعين» راجع أيضا تاريخ ابن الخياط : سنة ثمان وسبعين : 212. سير أعلام النبلاء : 4 / 107. الإصابة : الترجمة 3972.
    وثّقه العامة ولم يذكر عنه شيء في كتب رجال الشيعة جرحا وتعديلا.
    راجع جامع الرواة : 1 / 399 ، رقم 3257. معجم الرجال : 9 / 18.

    ـ قال : ـ فحمل الناس عليه ، وقالوا : «يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب»؟
    فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم».
    ـ ثمّ قال : ـ «يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ الله واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على الله ـ عزوجل ـ ووجهان يثبتان.
    فأمّا الذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : «واحد» يقصد به باب الأعداد (1) ؛ فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ؛ أما ترى أنّه كفر من قال : «إنّه ثالث ثلاثة»؟ وقول القائل : «هو واحد من الناس» يريد به النوع من الجنس ؛ فهذا ما لا يجوز عليه ، لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.
    وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : «هو واحد ليس له في الأشياء شبه» ـ كذلك ربّنا ـ وقول القائل : «إنّه ربّنا ـ عزوجل ـ أحديّ المعنى» يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل» (2).
    __________________
    (1) ـ كتب فى هامش النسخة :
    احد است وشمار ازو معزول
    صمد است ونياز ازو مخذول

    آن احد نى كه عقل داند وفهم
    وان صمد نى كه حس شناسد ووهم

    (2) ـ ورد هذا الفصل في عين اليقين أيضا : 304 ـ 305.

    فصل [2]
    الدليل على أنّ الله ـ سبحانه ـ واحد بالمعنيين من جهة النقل من الكتاب والسنة كثير.
    ومن جهة العقل : (1) أنّه ـ عزوجل ـ لو كان منقسما في وجود أو عقل أو وهم لكان محتاجا ؛ لأنّ كلّ ذي جزء فإنّما هو بجزئه يتقوّم ، وبتحقّقه يتحقّق وإليه يفتقر ، وهو الله ـ سبحانه ـ غنيّ عن العالمين.
    وأيضا : لو كان ذا جزء لكان جزؤه متقدّما عليه وأوّلا له ، فيكون الجزء أولى بأن يكون إلها منه ـ سبحانه ـ.
    ومن هنا يظهر أنّ وجوده ـ عزوجل ـ ليس معنى وراء ذاته جلّ وعزّ زائدا عليها ؛ بل هو عين الوجود البحت الغير المنقسم ـ لا وهما ولا عقلا ولا عينا ـ.
    وإذا كان كذلك كان واحدا بالمعنى الآخر أيضا ، ولا شريك له ولا نظير ، إذ لا تعدّد في صرف شيء ؛ ونعم ما قيل (2) : «صرف الوجود ـ الذي لا أتمّ منه ـ كلّ ما فرضته ثانيا ، فإذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء». فإذن : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (3) [3 / 18].
    __________________
    (1) ـ راجع المبدأ والمعاد : 41.
    (2) ـ مجموعه آثار شيخ اشراق : التلويحات ، المورد الأول ، التلويح الأول : 1 / 35.
    (3) ـ كتب فى هامش النسخة :
    هم توئى ـ اى قديم فرد اله ـ
    وحدت خويش را دليل وگواه

    «شهد الله» تو بشنو وتو بگو
    «وحده لا إله إلّا هو»



    قال بعض العلماء (1) :
    المتفرّد بالوجود هو الله ـ سبحانه ـ إذ ليس موجود معه سواه ، فإنّ ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته ، بل هو قائم به ، فلم يكن موجودا معه ، لأنّ المعيّة توجب المساواة في الرتبة ، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال ، بل الكمال لمن لا نظير له في رتبته.
    وكما أنّ إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصا في الشمس ـ بل هو من جملة كماله [ا] ـ وإنّما نقصان الشمس بوجود شمس اخرى تساويها في الرتبة ... ، فكذلك وجود كلّ ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ...
    فإذن معنى الربوبيّة التفرّد بالوجود ـ وهو كمال (2) ـ.
    فصل (3) [3]
    ومن الدلائل التي قيلت (4) : أنّه لو اقتضى ذاته ـ من حيث هو ولأنّه غنيّ بذاته ـ أن يكون هذا بعينه ، فلا يصحّ أن يكون غيره ؛ وإن كان بسبب ما صار هذا ، فيكون هذا فقيرا ـ تعالى الله عن ذلك ـ
    فإذن : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : كتاب ذم الجاه والرياء ، سبب كون الجاه محبوبا ... : 3 / 412.
    (2) ـ الإحياء : وهو الكمال.
    (3) ـ عين اليقين : 303.
    (4) ـ راجع المبدأ والمعاد : 44 و 52.

    وأيضا لو تعدّد فلا يمتاز أحدهما عن الآخر بنفس ما اشتركا فيه ، ولا بلازمه ـ وهو ظاهر ـ ولا بعارض غريب ، إذ ليس ورائهما مخصّص ؛ وإن خصّص أحدهما نفسه أو صاحبه ، فيكونان قبل التخصّص متعيّنين لا بالمخصّص ؛ هذا محال ف (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [112 / 4].
    وأيضا إمّا أن يقتضي ذاته الوحدة ، فلا يكون إلّا واحدا ؛ أو التعدّد ، فلا يوجد في واحد ، وإذ لا واحد ، فلا متعدّد ؛ أو لا ذا ولا ذاك ، فيتساوى نسبة مراتب الأعداد إليه ، فالتعيّن إمّا لمرجّح : فيفتقر إليه ؛ أو لا لمرجّح : فيلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ فلا ندّ له.
    وأيضا لو تعدّد ، فإمّا أن يفتقر كلّ منهما أو أحدهما إلى الآخر ، فلا يكون غنيّا مطلقا ولا وجودا تامّا ؛ أو يستغني عنه ، فيكون المستغنى عنه عادما لكمال ما هو فقر كلّ شيء إليه ، ومفتقرا في تحصيله إلى غيره ، ولزم المحذور أيضا ؛ ف (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [16 / 51].
    وأيضا يلزم أن يكون أثر أحدهما بعينه ممكنا أن يكون أثر الآخر ، لاتّفاقهما في الحقيقة ـ أعني الوجود الأتمّ ـ فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب ترجّحا بلا مرجّح ، وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ـ وكلاهما محال ـ فإذن لو كان في السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [21 / 22] ولم توجدا.

    فصل [4]
    قيل (1) : وكما أنّ ائتلاف أعضاء الشخص الواحد الإنساني منتظمة في رباط واحد ، منتفعة بعضها عن بعض مع اختلافها وامتيازها عن بعض : يدلّ على أنّ مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد : فكذلك ارتباط الموجودات بعضها ببعض على الرصف الحقيقي والنظم الحكمي دليل على أنّ مبدعها ومدبّرها وممسك رباطها أن ينفصم واحد حقيقيّ (يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [35 / 41] إذ لو كان معه من إله لتميّز صنع بعضهم عن بعض ، فينقطع الارتباط ، ويختلّ النظام (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [23 / 91].
    وسئل مولانا الصادق عليه‌السلام (2) : «ما الدليل على أنّ الله واحد»؟ قال : «اتّصال التدبير وتمام الصنع ؛ كما قال ـ عزوجل ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [21 / 22]».
    وقال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ في وصاياه لابنه الحسن عليه‌السلام (3): «واعلم يا بنيّ أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ولا يزول أبدا».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 304. راجع المبدأ والمعاد : 62.
    (2) ـ التوحيد : باب الرد على الثنويّة : 250. عنه البحار : 3 / 229.
    (3) ـ نهج البلاغة : الرسالة 31. عنه البحار : 4 / 317. وجاء مع فروق يسيرة فى تحف العقول : 72 ـ 73. عنه البحار : 77 / 221.

    [3]
    باب
    تنزيهه سبحانه
    (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) [17 / 43]
    فصل [1]
    رويا في كتابي الكافي والتوحيد بإسنادهما (1) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ، ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث.
    وكيف أصفه بالكيف؟ وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف.
    أم كيف أصفه بأين؟ وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا ، فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين.
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى ، 1 / 103 ، ح 12. التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 115 ، ح 14. عنه البحار : 4 / 297 ، ح 26.

    أم كيف أصفه بحيث؟ وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا ، فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث.
    فالله تعالى داخل في كلّ مكان وخارج من كلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [6 / 103] ، لا إله إلّا (هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [2 / 255] ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [6 / 103]» (1).
    وبإسنادهما الصحيح (2) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله ـ تعالى ـ خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء ـ ما خلا الله ـ فهو مخلوق ، والله خالق كلّ شيء».
    وبإسنادهما (3) عن أبيه الباقر عليهما‌السلام أنّه سئل : «أيجوز أن يقال : إنّ الله شيء»؟ قال : «نعم ؛ تخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه» (4).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    خود مكان آفرين مكان چه كند
    آسمان گر خود آسمان چه كند

    (2) ـ الكافي : باب إطلاق القول بأنه شيء ، 1 / 83 ، ح 5. التوحيد : باب أنه تبارك وتعالى شيء : 105 ، ح 3. ورويا الحديث عن الباقر عليه‌السلام أيضا بلفظه : نفس الصفحتين. البحار : 3 / 263 ، ح 20. و 3 / 322 ، ح 18. و 4 / 149 ، ح 3. راجع أيضا ما جاء في التوحيد : 58 ، ح 16.
    (3) ـ الكافي : الباب السابق : 1 / 58 ، ح 7. أيضا 1 / 82 ، ح 2 عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام بلفظه.
    التوحيد : الباب السابق : 104 ، ح 1. معاني الأخبار : 8. عنهما البحار : 3 / 260 و 262 ، ح 9 و 18. المحاسن (مصابيح الظلم ، 1 / 240 ، ح 220) : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام : أيجوز أن يقال لله : إنه موجود؟ ...». عنه البحار : 3 / 265 ، ح 29.
    (4) ـ في هامش النسخة :
    شى ام از روى حقيقت نه از آن شيء مجازى
    آفريننده اشياء وخداوند جهانم



    أقول : ويصدّق هذا الحديث قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [6 / 19].
    وبإسنادهما (1) عنه عليه‌السلام أنّه سئل عمّا يروون : «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق آدم على صورته»؟ فقال : «هي صورة محدثة مخلوقة ، اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة ، فأضافها إلى نفسه ، كما أضاف الكعبة إلى نفسه ، والروح إلى نفسه فقال : (بَيْتِيَ) [2 / 125] ، وقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [15 / 29].
    وبإسنادهما (2) عن يعقوب السراج (3) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام «إنّ بعض أصحابنا يزعم أنّ لله صورة مثل صورة الإنسان ، وقال آخر «إنّه في صورة أمرد جعد قطط (4)». فخرّ أبو عبد الله عليه‌السلام ساجدا ، ثمّ رفع رأسه فقال : «سبحان الله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11] ،
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الروح ، 1 / 134 ، ح 4. التوحيد : باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة: 103 ، ح 18. الاحتجاج : احتجاجات الباقر عليه‌السلام ، 2 / 172.
    البحار : 4 / 13 ، ح 15.
    (2) ـ التوحيد : الصفحة السابقة. عنه البحار : 3 / 304. والرواية غير موجودة في الكافي.
    (3) ـ عده البرقي (29) من أصحاب الصادق عليه‌السلام. وقال النجاشي (الترجمة : 1217. ص 451) «يعقوب السراج ، كوفي ثقة له كتاب ...» وعده الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ (الإرشاد : باب ذكر الامام الكاظم عليه‌السلام ، فصل في النصّ عليه بالإمامة : 2 / 216) ضمن «شيوخ أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وخاصّته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين رضوان الله عليهم». راجع أيضا : جامع الرواة : 2 / 347. معجم الرجال : 20 / 155.
    (4) ـ جعد الشعر ـ بضم العين وكسرها ـ جعودة : إذا كان فيه التواء وتقبّض ، فهو جعد.
    وذاك خلاف المسترسل. شعر قطّ ـ وقطط أيضا ـ شديد الجعودة (مصباح).
    وكتب في هامش النسخة : «جعد قطط : أي كثير الجعودة».

    و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [6 / 103] ولا يحيط به علم ؛ (لَمْ يَلِدْ) ـ لأنّ الولد يشبه أباه ـ (وَلَمْ يُولَدْ) ـ فيشبه من كان قبله ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) ـ من خلقه ـ (كُفُواً أَحَدٌ) تعالى عن صفة من سواه علوّا كبيرا».
    وبإسنادهما (1) عن إبراهيم بن محمد الخزّار (2) ومحمد بن الحسين (3) ـ قالا ـ : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فحكينا له (4) أنّ محمّدا رأى ربّه في صورة الشابّ الموفّق (5) ، في سنّ أبناء ثلاثين سنة ؛ وقلنا (6) : هشام بن سالم (7) وصاحب الطاق (Cool
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى : 1 / 100 ، ح 3.
    التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 113 ، ح 13. عنه البحار : 4 / 39 ، ح 18.
    راجع أيضا التوحيد : باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة ، 97 و 99 ، ح 1 و 2 و 6. البحار : 3 / 300 و 303 ، ح 33 و 37.
    (2) ـ مجهول ، لم يذكر عنه شيء غير روايته هذه. راجع معجم الرجال : 1 / 290.
    (3) ـ مجهول ، وقد جاء هذا العنوان في كثير من الروايات ، راجع معجم الرجال : 15 / 268.
    (4) ـ التوحيد : فحكينا له ما روي أن محمّدا ...
    (5) ـ قال ـ ره ـ في الوافي (1 / 407) : الموفّق : الذي وصل في الشباب إلى الكمال ، وجمع بين تمام الخلقة وكمال المعنى في الجمال ؛ أو الذي هيّئت له أسباب الطاعة والعبادة.
    (6) ـ في التوحيد : في سن أبناء ثلاثين سنة ، رجلاه في خضرة ، وقلنا أنّ هشام ...
    (7) ـ هشام بن سالم الجواليقي من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام متفق على وثاقته. راجع معجم الرجال : 19 / 297.
    (Cool ـ قال النجاشي (الترجمة 886. ص 325) : «محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي مولى ، الأحول ، أبو جعفر ، كوفي صيرفي ، يلقب مؤمن الطاق وصاحب الطاق ؛ ويلقبه المخالفون شيطان الطاق ... فأما منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر».
    وقال الشيخ (الفهرست : 323) : «محمد بن النعمان الأحول ... وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، وكان ثقة متكلما حاذقا حاضر الجواب».
    راجع التحقيق حول اسم أبيه (علي أو النعمان) في قاموس الرجال : 8 / 311 ، من الطبعة الاولى. راجع أيضا اختيار معرفة الرجال : 185. جامع الرواة : 2 / 208. معجم الرجال : 17 / 32.

    والميثمي (1) يقولون : «إنّه أجوف إلى السرّة ، والبقيّة صمد» (2). فخرّ عليه‌السلام ساجدا لله ثمّ قال :
    «سبحانك ـ ما عرفوك ولا وحّدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ؛ سبحانك ـ لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ؛ سبحانك ـ كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبّهوك بغيرك ؛! اللهم لا أصفك إلّا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبّهك بخلقك ؛ أنت أهل لكلّ خير فلا تجعلني من القوم الظالمين».
    ثمّ التفت إلينا فقال : «ما توهّمتم من شيء فتوهّموا الله غيره» (3).
    __________________
    (1) ـ قال الكشي (اختيار : 468) : «قال حمدويه ، عن الحسن بن موسى ، قال : أحمد بن الحسن الميثمي كان واقفيا». قال النجاشي (الترجمة 179. ص 74) : «أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمّار ، مولى بني أسد ، قال أبو عمرو الكشي : كان واقفا ... وهو على كل حال ثقة ، صحيح الحديث ، معتمد عليه». جامع الرواة : 1 / 44. راجع : قاموس الرجال : 1 / 419 ـ 422. معجم الرجال : 2 / 71.
    (2) ـ قال المؤلف في الوافي (1 / 407) : والصمد يقابل الأجوف ، يعني به المصمت. وتوجيه كلامهم أنّهم زعموا أنّ العالم كله شخص واحد وذات واحدة ، له جسم وروح ؛ فجسمه جسم الكل ـ أعني الفلك الأقصى بما فيه ـ وروحه روح الكلّ ؛ والمجموع صورة الحق الإله. فقسمه الأسفل الجسماني أجوف ، لما فيه من معنى القوة الإمكانيّة والظلمة الهيولويّة ، الشبيهة بالخلإ والعدم. وقسمه الأعلى الروحاني صمد ، لأن الروح العقلي موجود فيه بالفعل ، بلا جهة إمكان استعدادي ومادّة ظلمانيّة ـ تعالى الله عن التشبيه والتمثيل ...». ولا يخفى أن توجيه كلامهم ـ لو صحّ عنهم ـ بمثل هذه الوجوه لا يخلو عن التكلّف.
    (3) ـ في هامش النسخة :
    هرچه در وهم تو گنجد كه من آنم ، نه من آنم
    هرچه در خاطرت آيد كه چنانم ، نه چنانم

    هرچه در فهم تو گنجد ، همه مخلوق بود آن
    در حقيقت تو بدان بنده كه من خالق آنم



    ثمّ قال : «نحن ـ آل محمّد ـ النمط الأوسط ، الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي ؛
    يا محمّد ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نظر إلى عظمة ربّه ، كان في هيئة الشابّ الموفّق ، وسنّ أبناء ثلاثين سنة.
    يا محمّد ، عظم ربّي وجلّ أن يكون في صفة المخلوقين».
    ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ، من كانت رجلاه في خضرة»؟
    قال : «ذلك محمّد ، كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه ، جعله في نور ، مثل نور الحجب ، حتّى يستبين له ما في الحجب ؛ إنّ نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك(1).
    يا محمّد ، ما شهد به (2) الكتاب والسنّة ، فنحن القائلون به».
    وبإسنادهما (3) الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عمّا يروون من الرؤية. فقال :
    «الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ، ليس دونها سحاب».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : إنّ نور الله منه أخضر ما أخضر ، ومنه أحمر ما أحمر ، ومنه أبيض ما أبيض ، ومنه غير ذلك.
    (2) ـ الكافي : شهد له.
    (3) ـ الكافي : باب في إبطال الرؤية : 1 / 98 ، ح 7.
    التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 108 ، ح 3.
    عنه البحار : 4 / 44 ، ح 22 و 58 / 28 ح 45 و 58 / 43 ، ح 5 و 58 / 161 ، ح 15.

    وبإسنادهما (1) عن أحمد بن إسحاق (2) ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالثعليهما‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس؟ فكتب : «لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه (3) ، لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لا بدّ له من اتّصالها بالمسبّبات» (4).
    __________________
    (1) ـ الكافي ، الباب السابق : 97 ، ح 4. التوحيد ، الباب السابق : 109 ، ح 7. عنه البحار : 4 / 34 ، ح 13. وجاء في الاحتجاج (2 / 486) : «فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية ، وفي وجوب اتصال الضياء بين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه ...». عنه البحار : 4 / 34.
    (2) ـ يظهر أنه أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، قال النجاشي (الترجمة : 225. ص 91) «... وكان وافد القميين ، وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما‌السلام ، وكان خاصّة أبي محمد عليه‌السلام».
    راجع معجم الرجال : 2 / 43 و 2 / 46. قاموس الرجال : 1 / 393 ـ 398.
    (3) ـ أي متى كان كذلك ، كان الله مشتبها بخلقه ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ (الوافي : 1 / 381).
    (4) ـ كتب المؤلّف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    وبإسنادهما عن محمد بن عبيد ، قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما يرويه العامة والخاصة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب بخطه :
    «اتفق الجميع ـ لا تمانع بينهم ـ أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يرى الله بالعين ووقعت المعرفة ضرورة ، ثمّ لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا ، أو ليست بإيمان ـ لأنها ضدّه ـ فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا ، فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان ، لأنها ضده ، فلا يكون في الدنيا مؤمن ، لأنهم لم يروا الله عزّ ذكره ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا ، لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ، ولا تزول في المعاد. فهذا دليل على أن الله ـ تعالى ذكره ـ لا يرى بالعين ، إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه».

    أقول : الرؤية الممتنعة على الله ـ جلّ جلاله ـ إنّما هي رؤية العين ، وأمّا رؤية القلب فليست بممتنعة عليه ـ جلّ وعزّ ـ وعليه تحمل الآيات والأخبار الدالّة على جوازها.
    يدلّ على ذلك ما رواه في كتاب التوحيد (1) بسند حسن ، عن مرازم (2) ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ سمعته يقول : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ـ عزوجل بقلبه (3)».
    وفي رواية اخرى رواها بإسناده فيه عنه عليه‌السلام (4) : «أما سمعت الله ـ عزوجل ـ يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [53 / 11]؟ لم يره بالبصر ، ولكن رآه بالفؤاد».
    وبإسناده (5) عن أبي بصير (6) ، عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت له : «أخبرني
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق ، 116 ، ح 16. عنه البحار : 4 / 43 ، ح 19.
    (2) ـ قال النجاشي : «مرازم بن حكيم الأزدي المدائني ، مولى ، ثقة ... يكنى أبا محمّد ؛ روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام ومات في أيام الرضا عليه‌السلام».
    (3) ـ في المصدر وكذا المنقول عنه في البحار (4 / 43) : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه عزوجل ـ يعني بقلبه». والجملة «يعني بقلبه» من كلام الصدوق ـ ره ـ على ما هو ظاهر.
    (4) ـ التوحيد : الباب السابق : 116 ، ح 17. والراوي محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام وليست عن الصادق عليه‌السلام. عنه البحار : 4 / 43 ، ح 19.
    (5) ـ التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 117 ، ح 20. عنه البحار : 4 / 44 ـ 45 ، ح 24.
    (6) ـ ابو بصير كنية عدة من الرواة ، وعند الإطلاق فالأظهر أن المراد به «يحيى بن القاسم الأسدي» ويحتمل كونه مرددا بينه وبين ليث بن البختري (معجم الرجال : 14 / 140) وكلاهما ثقتان.
    قال الشيخ في أصحاب الصادق عليه‌السلام (الرجال : 333 ، رقم 9) : «يحيى بن القاسم ، أبو محمد ، يعرف بأبي بصير (ن ـ أبي نصير) الأسدي ، مولاهم ، كوفي ، تابعي ؛ مات سنة خمسين ومائة ، بعد أبي عبد الله عليه‌السلام». وقال النجاشي (الترجمة 1187 ، ص 441) : «أبو بصير الأسدي ، وقيل : أبو محمد ، ثقة ، وجيه ، روى عن أبي جعفر ـ

    عن الله ـ عزوجل ـ هل يراه المؤمنون يوم القيامة»؟
    قال : «نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة».
    فقلت : «متى»؟ قال : «حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [7 / 172] ـ ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال : ـ «وإنّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة ؛ ألست تراه في وقتك هذا»؟.
    قال أبو بصير : «فقلت له : ـ جعلت فداك ـ فاحدّث بهذا عنك»؟
    فقال : «لا ؛ فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ـ ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر ـ وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ـ تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون».
    وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : رأيته فعرفته فعبدته ؛ لم أعبد ربّا لم أره.
    وعنه عليه‌السلام (2) : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله».
    __________________
    ـ وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل : يحيى بن أبي القاسم ، واسم أبي القاسم ، اسحاق ، وروى عن أبي الحسن موسى عليهما‌السلام». والجدير بالذكر أن لصاحب قاموس الرجال ـ قدس‌سره ـ رسالة فى المكنّين بأبي بصير ، طبعت ملحقة بقاموس الرجال (11 / 59 ـ 176 ، الطبعة الأولى) راجع التحقيق حول أبي بصير ـ هذا ـ في 137 ـ 176 منها.
    (1) ـ في التوحيد (109 ، ح 6) عن الصادق عليه‌السلام : «جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ، ما كنت أعبد ربّا لم أره.
    قال : كيف رأيته؟ قال : ويلك ـ لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». البحار : 4 / 44 ، ح 23.
    وقال عليه‌السلام في جواب ذعلب (نهج البلاغة : الخطبة 179) ـ وقد سأله : «هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين»؟ ـ : «أفأعبد ما لا أرى»؟ فقال ذعلب : «وكيف تراه»؟
    فقال عليه‌السلام : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ...». رواه الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد : باب حديث ذعلب ، 305. عنه البحار : 4 / 27 ، ح 2 و 4 / 52 ، ح 28.

    فصل [2]
    [التنزيه والتشبيه]
    قد دلّت العقول السليمة والأفهام المستقيمة على تنزيهه ـ تعالى ـ عمّا لا يليق بجنابه المقدّس ؛ مثل الجسميّة والصورة والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد ، وكونه محلّا للحوادث ، أو في جهة أو مكان أو زمان ، وكونه مرئيّا بالبصر ، أو مدركا بشيء من الحواسّ ، أو مكتنها بشيء من العقول ـ وغير ذلك من النقائص التي هي من صفات الممكنات والمعلولات.
    وما في الكتاب والسنّة ممّا يدلّ على ذلك ممّا ذكرناه وما لم نذكره ، أكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يخفى.
    ولكن بإزائها ممّا يدلّ بظاهره على التشبيه ـ أيضا ـ كثير ، كما هو متواتر منهما ؛ فمن الناس من أخذ بالأوّل ، وأوّل الثاني ، ومنهم من عكس.
    ولا تنافي في الواقع وعند المحقّق ، إذ لا تشبيه ولا تعطيل ؛ ولكن لمّا كانت أفهامهم قاصرة عن إدراك ما هو الحقّ فيه ، وإنّما كلّمهم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ على قدر عقولهم : يرون الألفاظ متناقضة في الظاهر ، ويتيهون فيه كالعميان والفيل ـ
    __________________
    (2) ـ قال المؤلف (عين اليقين : 305) : «قال بعض السالكين : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله بعده. فلما ترقوا عن تلك المرتبة درجة من المشاهدة والحضور قالوا : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله فيه. فلما ترقوا قالوا : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله قبله. فلما ترقوا قالوا : ما رأينا شيئا سوى الله».

    والقصّة مشهورة (1).
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن محمد بن عبيد (3) ، قال : دخلت على الرضاعليه‌السلام فقال لي :
    «قل للعباسي (4) : يكفّ عن الكلام في التوحيد وغيره ، ويكلّم الناس بما يعرفون ، ويكفّ عمّا ينكرون. وإذا سألوك عن التوحيد ، فقل كما قال الله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ
    __________________
    (1) ـ جاء في الدفتر الثالث من المثنوي (الأبيات : 1261 ـ 1269 ، ص 352) :
    پيل اندر خانه تاريك بود
    عرضه را آورده بودندش هنود

    از براى ديدنش مردم بسى
    اندر آن ظلمت همى شد هركسى

    ديدنش با چشم چون ممكن نبود
    اندر آن تاريكيش كف مى بسود

    آن يكى را كف به خرطوم اوفتاد
    گفت همچون ناودانست اين نهاد

    آن يكى را دست بر گوشش رسيد
    آن برو چون بادبيزن شد پديد

    آن يكى را كف چو بر پايش بسود
    گفت شكل پيل ديدم چون عمود

    آن يكى بر پشت او بنهاد دست
    گفت خود اين پيل چون تختى بدست

    همچنين هريك به جزوى كه رسيد
    فهم آن مى كرد هرجا مى شنيد

    از نظرگه گفتشان شد مختلف
    آن يكى دالش لقب كرد اين الف

    در كف هركس اگر شمعى بدى
    اختلاف از گفتشان بيرون شدى

    (2) ـ التوحيد : باب معنى قل هو الله أحد : 95 ، ح 14.
    عنه البحار : 2 / 69 ، ح 24. و 3 / 221 ، ح 11. و 4 / 297 ، ح 25.
    (3) ـ مجهول ، لم يذكر عنه شيء في كتب رجال الحديث ، غير أنه روى حديثا عن الرضا عليه‌السلام في الكافي ، وروى عن عبد الله بن موسى وعبيد بن هارون.
    راجع معجم الرجال : 16 / 263.
    (4) ـ هشام بن إبراهيم العباسي ، يظهر أنه كان متشيّعا ثم تزندق. فقد روى الكشي (اختيار : ما روي في هشام بن إبراهيم العباسي : 501) عن الريان بن الصلت : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : «إن هشام بن إبراهيم العباسي زعم أنك أحللت له الغناء»؟ فقال : «كذب الزنديق ...». راجع قرب الإسناد : باب قرب الإسناد عن الرضا عليه‌السلام : 342 ، ح 1250. معجم الرجال : 19 / 260.

    وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [112 / 1 ـ 4] ؛ وإذا سألوك عن الكيفيّة ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11] ؛ وإذا سألوك عن السمع ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [2 / 137] ؛ كلّم الناس بما يعرفون».
    وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (1) ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (2) ، عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ـ قال : ـ قال لي : «يا أحمد ، ما الخلاف بينكم وبين أصحاب هشام بن الحكم في التوحيد»؟
    فقلت : «جعلت فداك ـ قلنا نحن بالصورة ، للحديث الذي روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه في صورة شابّ ، وقال هشام بن الحكم بالجسم (3)».
    فقال : «يا أحمد ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اسري به إلى السماء وبلغ عند سدرة المنتهى ، خرق له في الحجب مثل سمّ الإبرة (4) ، فرأى من نور العظمة ما شاء الله أن يرى ؛ وأردتم أنتم التشبيه ؛ دع هذا ـ يا أحمد ـ لا ينفتح عليك أمر عظيم (5)».
    __________________
    (1) ـ تفسير القمي : المقدمة ، في الرد على من أنكر الرؤية : 1 / 48. عنه البحار : 3 / 307 ، ح 45.
    (2) ـ قال النجاشي (الترجمة : 180 ، ص 75) : أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر زيد مولى السكون ، أبو جعفر المعروف بالبزنطي ، كوفي لقي الرضا وأبا جعفر عليهما‌السلام ، وكان عظيم المنزلة عندهما». وعده الشيخ في رجاله من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام. راجع معجم الرجال : 2 / 231.
    (3) ـ كذا. ولكن في المصدر : «بالنفي للجسم». والمنقول عنه في البحار : «بالنفي بالجسم».
    (4) ـ سمّ الإبرة ثقبها.
    (5) ـ المصدر : هذا أمر عظيم. البحار : منه أمر عظيم.

    وقد يقال : إن السرّ في ذلك أنّ ذاته ـ سبحانه ـ من حيث هي منزّه عن التنزيه والتشبيه جميعا ، ومن حيث مراتب أسمائه وصفاته ومعيّته بالأشياء يتّصف بالأمرين من غير فرق ؛ كما ورد في الحديث القدسيّ الصحيح المتفق عليه (1) : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل ، حتّى احبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ...» ـ الحديث.
    وفي كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام في قوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [43 / 55] :
    «إنّ الله ـ سبحانه ـ لا يأسف كأسفنا ، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون (3) ، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه ، لأنّه جعلهم الدعاة إليه ، والأدلّاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك ، وليس ذلك (4) يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، لكن هذا معنى ما قال من ذلك. وقد قال : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها». وقال أيضا : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
    __________________
    (1) ـ البخاري : الرقاق ، باب التواضع ، 8 / 131. وجاء في التوحيد (باب أنّ الله لا يفعل بعباده إلا الأصلح : 400) : «... ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتّى احبّه ، ومتى أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ...».
    راجع ألفاظه المختلفة في كنز العمال : 1 / 229 ـ 231 ، ح 1155 ـ 1161.
    (2) ـ التوحيد : باب معنى رضاه عزوجل وسخطه : 168 ، ح 2. مع فروق يسيرة. معاني الأخبار : باب معنى رضى الله عزوجل وسخطه ، 19 ، ح 2.
    عنهما البحار : 4 / 65 ، ح 6.
    (3) ـ المصدر : مدبرون.
    (4) ـ المصدر : ذلك أن.

    أَطاعَ اللهَ) [4 / 80]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [48 / 10]. فكلّ هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ، مما يشاكل ذلك.
    ولو كان يصل إلى المكوّن الأسف والضجر ـ وهو الذي أحدثهما وأنشأهما ـ لجاز لقائل أن يقول : إنّ المكوّن يبيد يوما ، لأنّه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير ، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة ، ولو كان ذلك كذلك ، لم يعرف المكوّن من المكوّن ، ولا القادر من المقدور ، ولا الخالق من المخلوق ـ تعالى الله عن هذا القول علوّا كبيرا ـ.
    هو الخالق للأشياء لا لحاجة ، فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه ـ فافهم ذلك إن شاء الله».
    فصل [3]
    [الله تعالى قديم]
    لا يجوز على الله ـ عزوجل ـ العدم بوجه من الوجوه ، وإلّا لما كان وجوده واجبا ، ولا أزليّا ؛ فيكون محتاجا ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
    وأيضا : الشيء لا يقتضي عدم نفسه ، وإلّا لما تحقّق.
    وهو ـ جلّ جلاله ـ وحدانيّ لا شرط له في ذاته ، وما سواه تابع ؛ وإذ لا شرط له ولا مضادّ له ، فلا مبطل له ؛
    فهو إذن قيّوم دائم. لا يقال له : «متى؟» ، ولا يضرب له أمد ب «حتّى».

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:16 pm

    سئل مولانا الباقر عليه‌السلام (1) عن الله : «متى كان؟».
    فقال : «متى لم يكن ، حتّى اخبرك : متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فردا ، صمدا ، لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا».
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) : «إنّما يقال : «متى كان؟» لما لم يكن ؛ فأمّا ما كان ، فلا يقال : «متى كان؟» ؛ كان قبل القبل بلا قبل. وبعد البعد بلا بعد ، ولا منتهى غاية لتنتهي غايته».
    وقال أيضا (3) : «سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله».
    __________________
    (1) ـ السائل : نافع بن الأزرق. كما في الكافي (كتاب التوحيد ، باب الكون والمكان : 1 / 88 ، ح 1). وفي روضة الكافي (122 ، ح 93) عن نافع مولى عمر بن الخطاب. ومثله في الاحتجاج (احتجاج أبي محمد الباقر عليه‌السلام في شيء مما يتعلق بالاصول والفروع : 2 / 166). ورواه الصدوق ـ أيضا ـ في التوحيد (باب نفي المكان : 173 ، ح 1) وفيه : «... ويلك! أخبرني أنت متى لم يكن ...». البحار عنه وعن تفسير القمي : 3 / 284 ، ح 3.
    وجاء ما يقرب منه عن الرضا عليه‌السلام أيضا في الكافي : كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، 1 / 78 ، ح 3. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء من الأخبار في التوحيد ، 1 / 132 ، ح 28. البحار : 3 / 37 ، ح 12. وكذا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 77 ، ح 33.
    (2) ـ الكافي : باب الكون والمكان : 1 / 90 ، ح 5. وما يقرب منه أيضا في التوحيد : الباب السابق ، 174 ، ح 3 ، وأمالي الصدوق ـ قدس‌سره ـ : المجلس السادس والتسعون ، 769 ، ح 1. والاحتجاج : احتجاجه عليه‌السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه ... : 1 / 496. والسائل حبر من الأحبار. البحار : 3 / 283 ، ح 1.
    (3) ـ الكافى : كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد : 1 / 139 ، ح 4. نهج البلاغة : الخطبة 184. التوحيد : باب حديث ذعلب ، 308 ، ح 2. البحار : 4 / 305 ، ح 34.

    فصل (1) [4]
    وإذ ليست له ـ جلّ جلاله ـ جهة فقر أصلا ، فلا أغنى منه ، ولا أتمّ ، ولا أشدّ ولا أقدم ؛ بل هو غير متناه فى الغناء والتماميّة والشدّة والتقدّم (2). إذ لو كان متناهيا في شيء من ذلك ، لكان تتصوّر مرتبة فوقه ، يكون فاقدا لها ، مفتقرا إليها ـ تعالى عنه وتقدّس ـ فلا يحدّه حدّ ، ولا يضبطه رسم ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [20 / 110 ـ 111].
    فصل [5]
    وإذ ليس سبحانه فاقدا لشيء فهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [41 / 54] (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) [58 / 7] (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [57 / 4] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [2 / 186] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [56 / 85] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (3) [50 / 16] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [41 / 54].
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 303.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    برى ذاتش از تهمت ضدّ وجنس
    غنى ملكش از طاعت جنّ وانس

    (3) ـ في هامش النسخة :
    دوست نزديكتر از من به من است
    وين عجبتر كه من از وى دورم

    چه كنم با كه توان گفت كه يار
    در كنار من ومن مهجورم



    «لو أنّكم أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» (1).
    و : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [2 / 115].
    وفي كتاب التوحيد (2) ، بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه سئل عن وجه الربّ ـ تبارك وتعالى ، فدعا بنار وحطب ، فأضرمه ، فلمّا اشتعلت ، قال : «أين وجه النّار»؟
    قال السائل : «هي وجه من جميع حدودها».
    قال : «هذه النار مدبّرة مصنوعة ، لا يعرف وجهها ؛ وخالقها لا يشبهها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [2 / 115] ؛ لا يخفى على ربّنا خافية».
    وفيه (3) وفي الكافي (4) بإسناديهما ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام : أنّه قال رجل عنده : «الله أكبر».
    فقال عليه‌السلام : «الله أكبر من أيّ شيء»؟
    فقال : «من كلّ شيء».
    فقال الصادق عليه‌السلام : «حدّدته».
    فقال الرجل : «كيف أقول»؟
    __________________
    (1) ـ الترمذي : كتاب التفسير ، السورة 58 ، 5 / 404 ، ح 3298 ، وفيه : «دليتم بحبل».
    (2) ـ التوحيد : باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى ، 182 ، ح 16. والسائل الجاثليق.
    عنه البحار : 3 / 328 ، ح 28.
    (3) ـ التوحيد : باب معنى الله أكبر : 312 ، ح 1. ورواه أيضا في معاني الأخبار : نفس الباب : 11. البحار : 93 / 219 ، ح 2.
    (4) ـ الكافي : باب معاني الأسماء : 1 / 117 ، ح 8.

    قال : «قل : الله أكبر ، أكبر من أن يوصف» (1).
    وفي رواية اخرى (2) : «وكان ثمّة شيء ، فيكون أكبر منه».
    واعلم أنّ معيّته ـ سبحانه ـ للأشياء ليست بممازجة ، ولا مداخلة ، ولا حلول ، ولا اتّحاد ، ولا معيّة في درجة الوجود ، ولا في الزمان ، ولا في الإشارة ، ولا ما يشبه هذه ـ تعالى الله عن ذلك كلّه علوّا كبيرا (3).
    * * *
    __________________
    (1) ـ قال المؤلف في شرح الرواية (الوافى : 1 / 476) : «حدّدته ـ بالتشديد ـ من التحديد ؛ أي جعلت له حدا محدودا. وذلك لأنه جعله في مقابلة الأشياء ووضعه في حد ، والأشياء في حد آخر ، وازن بينهما ؛ مع أنّه محيط بكل شيء ، لا يخرج عن معيّته وقيّوميّته شيء. كما أشار إليه بقوله عليه‌السلام : «وكان ثمّ شيء» يعني مع ملاحظة ذاته الواسعة وإحاطته بكلّ شيء ومعيّته للكلّ لم يبق شيء تنسبه إليه بالأكبريّة ؛ بل كلّ شيء هالك عند وجهه الكريم ، وكلّ وجود وكمال وجود مضمحلّ في مرتبة ذاته ووجوده القديم».
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 313. الكافي : الباب السابق : 118.
    (3) ـ عين اليقين : 305 ـ 306.

    [4]
    باب
    صفاته العليا تبارك وتعالى
    (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [37 / 180]
    فصل [1]
    [إنّه تعالى كامل بالذات ومصدر كل كمال]
    قال بعض أهل التحقيق : (1) إنّ كل كمال لموجود بما هو موجود (2) ، فلا بدّ وأن ينتهي إلى كامل بالذّات في ذلك الكمال ، وكلّ كامل بالذات ـ في كمال ما ـ يجب أن يكون غنيّا بالذات في ذاته إذ لو افتقر في ذاته إلى الغير لافتقر في كماله أيضا إلى ذلك الغير ـ وهو ظاهر ـ.
    __________________
    (1) ـ لم أعثر على النصّ وإن كان المضمون موجودا في كتب الحكماء.
    (2) ـ كتب في الهامش :
    «إنما قيّد الكمال الموجود بكونه «كمالا بما هو موجود» لأنه قد يثبت بعض الكمالات لبعض الموجودات لا من هذه الحيثية ، بل من حيثيات أخرى كالصلابة للجسم ، والكرويّة للشكل ـ إلى غير ذلك ـ ولا يلزم فيها الانتهاء إلى كامل بالذات ، ولا يصحّ أيضا اتّصاف الله تعالى بشيء منها ـ فافهم ـ منه».

    وقد ثبت أنّ الغنيّ بالذّات في ذاته واحد ، فجميع الكمالات ينتهي إليه. فله ـ سبحانه ـ من كلّ متقابلين للموجود ـ بما هو موجود ـ أشرفهما ـ على وجه يليق بجلاله ـ وكلّ متقابلين يكونان كلاهما صفة كمال للموجود ـ بما هو موجود ـ فكلاهما ثابتان له ـ عزوجل ـ على الوجه الأكمل ، كالنعوت الجلاليّة والجماليّة ، المعبّر عنهما في القرآن المجيد بقوله ـ عزّ اسمه ـ : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [55 / 27] وذلك مثل اللطف والقهر ، والرحمة والغضب ، والرضا والسخط ـ وغير ذلك ـ ولا يكاد أن يخلوان عن اشتراك ما ؛ فإنّ تحت كلّ جمال جلالا ـ كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهي من انقهار العقل منه وتحيّره فيه ـ وتحت كلّ جلال جمالا ـ كاللطف المستور في القهر الإلهي ؛ كما قال ـ عزوجل ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [2 / 179].
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «سبحان من اتّسعت رحمته لأوليائه ، في شدّة نقمته ، واشتدّت نقمته لأعدائه فى سعة رحمته».
    ومن هنا يعلم سرّ قول نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات».
    __________________
    (1) ـ في نهج البلاغة (الخطبة : 90) : «الحمد لله المعروف من غير روية ... هو الذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته ، واتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته».
    (2) ـ مسلم : كتاب الجنّة وصفة نعيمها ، الحديث الأول : 4 / 2174. شعب الإيمان : باب الصبر ، فصل أي الناس أشد بلاء ، 7 / 147 ، ح 9795. وجاء في نهج البلاغة (الخطبة :176) : «فإنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يقول :» إنّ الجنة حفّت بالمكاره وإنّ النار حفّت بالشهوات». عنه البحار : 70 / 78.
    وفي البخاري (الرقاق ، باب حجبت النار بالشهوات ، 8 / 127) بلفظ : «حجبت النار بالشهوات ، وحجبت الجنة بالمكاره».

    وصل [2]
    [اتّصافه ـ سبحانه ـ بصفات الجلال والجمال]
    ليس اتّصافه ـ سبحانه ـ بكلتي المتقابلتين بالذّات ؛ كيف وهما متنافيتان ، وهو الله ـ جلّ جلاله ـ أحديّ الذات ، بسيط الحقيقة.
    بل اتّصافه بالذات ليس إلا بالصفات الجماليّة ؛ وأمّا الجلاليّة فإنّما يتّصف بها بالإضافة ، فإنّ للموجودات درجات بعضها فوق بعض ؛ فكلّ ما هو أقرب إليه جلّ جلاله ، فآثار صفات الجمال عليه أغلب ، وظهورها فيه أكثر ؛ وكلّ ما هو أبعد منه فهو بخلاف ذلك.
    فالمغضوب عليه إنّما هو مغضوب عليه بالإضافة إلى ما درجته أعلى منه ، وليس بمغضوب عليه على الإطلاق ، كيف ـ ورحمته ـ عزوجل ـ وسعت كلّ شيء ، فإنّ أصل الوجود رحمته.
    وكذلك القهر والبغض والكراهة ـ ونظائرها ـ فإنّها ليست بالنسبة إلى موجود ما ـ على الإطلاق ـ لأن الوجود كلّه محبوب ومراد ، وهو خير كلّه. وأمّا سرّ هذا الاختلاف : فلتفاوت درجات المستحقّين بحسب استعداداتهم الذاتيّة ـ كما يأتي تحقيقه ـ.
    قال مولانا الباقر عليه‌السلام : (1) «إنّ الله الحليم العليم إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه ... ـ الحديث».
    __________________
    (1) ـ الكافي : رسالة أبي جعفر عليه‌السلام إلى سعد الخير : 8 / 52 ، ح 16. عنه البحار : 78 / 359.

    (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [4 / 79] (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (1) [16 / 33].
    ومن هنا يظهر سرّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (2) : «سبقت رحمته غضبه».
    فصل [3]
    [كمالاته تعالى عين ذاته]
    ولمّا كانت كمالاته ـ عزوجل ـ ذاتيّة ، فهي جميعا حاصلة له بالفعل دائما ، وإلا لافتقر إلى مخرج لها من القوّة إلى الفعل ـ فلم تكن ذاتيّة ـ وللزم التركّب في ذاته ـ عزوجل ـ من جهتي قوّة وفعل ؛ تعالى عنه.
    ويجب أن يكون جميعا عين ذاته وجودا وعينا وفعلا وتأثيرا ؛ بمعنى أنّ ذاته تعالى بذاته يترتّب عليه آثار جميع الكمالات ، ويكون هو من حيث ذاته مبدءا لانتزاعها منه ، ومصداقا لحملها عليه ، وإن كانت
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    هرچه هست از قامت ناساز نازيباى ماست
    ور نه تشريف تو بر بالاى كس كوتاه نيست

    (2) ـ أخرج البخاري (كتاب التوحيد ، باب لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، 9 / 165) : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه : إنّ رحمتي سبقت غضبي» راجع ما يقرب منه أيضا : 9 / 153. و 9 / 147 منه. ومسلم كتاب التوبة : باب سعة رحمة الله تعالى ، 4 / 2107 ـ 2108 ، ح 14 ـ 16. والترمذي : كتاب الدعوات ، باب خلق الله مائة رحمة ، 5 / 549 ، ح 3543. وابن ماجة : المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهميّة ، 1 / 67 ، ح 189.

    هي غيره من حيث المفهوم والمعنى ؛ وذلك لجواز أن توجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود واحد.
    وإنّما قلنا بوجوب كونها عينه ـ تعالى ـ بهذا المعنى لأنّها لو كانت زائدة على ذاته ـ تعالى ـ وجودا لافتقر إليها في حدّ ذاته ، فلا يكون غنيّا بالذات من جميع الجهات ـ تقدّس ربّنا عن ذلك ـ.
    وأيضا : لو كانت زائدة على ذاته ، لزم أن يكون في حدّ ذاته ناقصا ، فلا يكون غير متناه في التماميّة ـ تعالى عنه.
    وأيضا : لو كانت زائدة على ذاته ، فلا تخلو إمّا أن تكون مستندة إلى غيره ـ كيف ، وليس ورائه شيء؟! ـ أو إلى ذاته ـ كيف ، ومفيض الكمال لا يكون قاصرا عنه؟! ـ.
    وأيضا : فيضانها من ذاته على ذاته ، تستدعى جهة أشرف ممّا عليه ذاته ، فيكون ذاته أشرف من ذاته ـ وهذا محال ـ ... كذا قيل (1).
    أقول : ويلزم أن يكون ذاته من حيث هو بلا كمال أشرف منه من حيث هو كامل ، لأنّه بالاعتبار الأوّل مفيض وبالاعتبار الثاني مستفيض ـ وهذا أشنع! ونزيدك في الإيضاح فاسمع :
    __________________
    (1) ـ الفصل مقتبس من الأسفار الأربعة : الفصل الرابع من الموقف الثاني من السفر الثالث ، 6 / 134. والمبدأ والمعاد : الفصل الأول من المقالة الثانية من الفن الأوّل : 72.

    فصل (1) [4]
    [الواجب تعالى واجد كل كمال ومفيضه]
    قال بعض المحقّقين (2) ما حاصله أنّه : كما أنّ مفيض الوجود ليس مسلوب الوجود في مرتبة ، فكذلك واهب الكمال لا يجوز أن يكون ممنوّا في حدّ ذاته ، إذ المفيض لا محالة أكرم وأعلى وأمجد من المفاض عليه.
    فكما أنّ في الوجود وجودا قائما بالذات ، غير متناه في التأكّد ـ وإلّا لم يتحقّق وجود بالغير ـ فكذلك يجب أن يكون في العلم علم متأكّد قائم بذاته ، وفي الاختيار اختيار قائم بذاته ، وفي القدرة قدرة قائمة بذاتها ، وفي الإرادة إرادة قائمة بذاتها ، وفي الحياة حياة قائمة بذاتها ؛ حتّى يصحّ أن يكون هذه الأشياء في شيء لا بذواتها ـ بل بغيرها ـ (3).
    فإذن : فوق كلّ ذي علم عليم بذاته ، وفوق كلّ ذي قدرة قدير بذاته ، وفوق كلّ ذي سمع سميع بذاته ، وفوق كلّ ذي بصر بصير بذاته ـ إلى غير ذلك من صفات الكمال.
    ويجب أن يكون جميع ذلك واحدا حقيقيّا بالوجود ـ لامتناع تعدّد الغنيّ بالذات ـ فهو الله ـ عزوجل ـ كما قيل (4) : «وجود كلّه ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 306.
    (2) ـ راجع المبدأ والمعاد : 72.
    (3) ـ راجع التعليقات لابن سينا : 52.
    (4) ـ نسبه صدر المتألهين ـ قدس‌سره ـ في الأسفار (6 / 121) إلى الفارابي ، ولم أعثر على النص فيما عندي من كتبه ، والأظهر أن المؤلف حكاه عنه اعتمادا على ما أورده استاده ـ قدس‌سرهما ـ ولعل ما أورده صدرا أيضا نقل المعنى.

    علم كلّه ، وجوب كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ؛ لا أنّ شيئا منه علم ، وشيئا آخر قدرة ـ ليلزم التركّب في ذاته ـ ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ، ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقيّة ـ».
    يعنى أنّ ذاته بذاته ـ من حيث هو هو ، مع كمال فرديّته ـ منشأ لهذه الصفات ، ومستحقّ لهذه الأسماء ، لا بحيثيّة اخرى وراء حيثيّة ذاته. وليس هو لأجل اتّصافه بها ذا معان متميّزة ، متخصّصة بأسماء متعدّدة ؛ بل كما أنّا نقول لكلّ واحد من موجودات العالم: «إنّه معلومه ، ومقدوره ، ومراده» من غير أن نثبت فيه معان شتّى : فكذلك نصف موجده بالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، مع كونه أحديّا فردا ، بل كلّ صفة من صفاته عين صفته الاخرى ، وما ندركه بصفة ، يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك. ونعم ما قيل :
    عباراتنا شتّى وحسنك واحد
    وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

    * * *
    روي في كتاب نهج البلاغة (1) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ...».
    ـ الحديث ، ويأتي تمامه فيما بعد (2) إن شاء الله تعالى ـ.
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة الاولى.
    (2) ـ راجع الفصل الرابع من الباب الخامس من هذا المقصد.

    وفي كتاب التوحيد (1) : بإسناده الصحيح ، عن هشام بن سالم ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال لي : «أتنعت الله»؟
    قلت : «نعم».
    قال : «هات».
    فقلت : «هو السميع البصير».
    قال : «هذه صفة يشترك فيها المخلوقون».
    قلت : «فكيف تنعته»؟
    فقال : «هو نور لا ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه ، وعلم لا جهل فيه ، وحق لا باطل فيه».
    فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد.
    وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (2) ـ قال : ـ «هو نور ليس فيه ظلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل ليس فيه جور ، وحق ليس فيه باطل ؛ كذلك لم يزل ولا يزال ، أبد الآبدين ، وكذلك كان إذ لم يكن أرض ولا سماء ، ولا ليل ولا نهار ، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ، ولا سحاب ولا مطر ولا رياح.
    وبإسناده عن مولانا الكاظم عليه‌السلام (3) ـ قال : ـ «علم الله لا يوصف منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حدّ».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 146 ، ح 14. البحار : 4 / 70 ، ح 16.
    (2) ـ التوحيد : باب القدرة : 128 ، ح 8. البحار : 3 / 306 ، ح 44.
    (3) ـ التوحيد : باب العلم ، 138 ، ح 16. عنه البحار : 4 / 86 ، ح 22.

    وبإسناده (1) عن محمد بن عروة (2) ـ قال : ـ قلت للرضا عليه‌السلام : «خلق الله الأشياء بقدرة ، أم بغير قدرة (3)»؟ فقال : «لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة ، لأنّك إذا قلت : «خلق الأشياء بالقدرة» فكأنّك قد جعلت القدرة شيئا غيره ، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء ، وهذا شرك ؛ وإذا قلت : «خلق الأشياء بقدرة» فإنّما تصفه أنّه جعلها باقتدار عليها وقدرة ، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره».
    وبإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام (4) أنّه قال : «سميع بصير ؛ يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع». وقال : «واحد [أحد صمد] (5) أحديّ المعنى ، ليس بمعان كثيرة مختلفة».
    وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (6) : «هو سميع بصير ؛ سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ؛ بل سميع لنفسه ، وبصير لنفسه. وليس قولي :
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القدرة ، 130 ، ح 12. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب 11 ، 1 / 117 ، ح 7.
    عنه البحار : 4 / 136 ، ح 3.
    (2) ـ كذا في النسخة وبعض نسخ العيون. ولم يرد بهذا العنوان في كتب رجال الحديث ، ولكنه في التوحيد وبعض نسخ العيون والمحكي عنه في البحار : محمد بن عرفة.
    روى عن الصادق والرضا عليه‌السلام ، ولم يرد قول في جرحه أو توثيقه. راجع معجم الرجال : 16 / 282.
    (3) ـ المصدر : بالقدرة أم بغير القدرة.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 144 ، ح 9. عنه البحار : 4 / 69 ، ح 14. ورواه أيضا صاحب الكافي : باب صفات الذات ، 1 / 108 ، ح 1.
    (5) ـ إضافة من الكافي والتوحيد.
    (6) ـ التوحيد : الصفحة السابقة ، ح 10. وفي باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، 245 ، ح 1.
    الكافي : باب صفات الذات : 1 / 109 ، ح 2. وأيضا في باب إطلاق القول بأنه شيء : 1 / 83 ، ح 6.

    «يسمع لنفسه» أنّه شيء والنفس شيء آخر (1) ولكن أردت عبارة عن نفسى ـ إذ كنت مسئولا ـ وإفهاما لك ـ إذ كنت سائلا ـ فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ كلّه له بعض ؛ ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك إلّا أنه السميع البصير (2) ، العالم الخبير ، بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى».
    وبإسناده عنه عليه‌السلام (3) : ـ إنّه قيل له : «إنّ رجلا ينتحل موالاتكم أهل البيت ، يقول : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يزل سميعا بسمع ، وبصيرا ببصر ، وعليما بعلم ، وقادرا بقدرة» ؛ فغضب عليه‌السلام ثمّ قال : ـ «من قال بذلك ودان به ، فهو مشرك ، وليس من ولايتنا على شيء ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ذات علّامة ، سميعة ، بصيرة ، قادرة».
    وفى رواية اخرى عن مولانا الرضا عليه‌السلام (4) : «من قال ذلك ودان به ، فقد اتّخذ مع الله آلهة اخرى ، وليس من ولايتنا على شيء» ـ ثمّ قال عليه‌السلام : ـ «لم يزل الله ـ عزوجل ـ عليما ، قادرا ، حيّا ، قديما سميعا ، بصيرا لذاته ـ تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّا كبيرا».
    __________________
    (1) ـ في المصدرين : ... بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، ليس قولي : إنه سميع يسمع بنفسه ، وبصير يبصر بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ...
    (2) ـ التوحيد : ... إلا إلى أنه السميع البصير ...
    (3) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 144 ، ح 8. أمالي الصدوق ـ قدس‌سره ـ : المجلس التاسع والثمانون ، 708 ، ح 5. البحار عنهما : 4 / 63 ، ح 2.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 140 ، ح 3. عيون الأخبار : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد : 1 / 119 ، ح 10. أمالي الصدوق : المجلس السابع والأربعون ، 352 ـ 353 ، ح 5. الاحتجاج : احتجاجات الرضا عليه‌السلام : 2 / 385. البحار : 4 / 62 ، ح 1.

    فصل (1) [5]
    [رجوع الإضافات والسلوب فيه تعالى إلى إضافة وسلب واحد]
    وكذلك لا يجوز أن يلحقه سبحانه إضافات مختلفة توجب اختلاف حيثيّات فيه ، بل له إضافة واحدة ـ وهي المبدئيّة ـ تصحّح جميع الإضافات ، كالرزاقيّة والمصوّريّة ونحوهما.
    ولا سلوب كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميعها ، وهو سلب الفقر ؛ فإنّه يدخل تحته سلب الجسميّة والعرضيّة وغيرهما ؛ كما يدخل تحت سلب الجماديّة من الإنسان سلب الحجريّة والمدريّة عنه.
    فصل (2) [6]
    [نسبته تعالى إلى جميع ما سواه نسبة واحدة]
    ثمّ إنّ نسبة ذاته ـ سبحانه ـ وأسمائه الحسنى إلى ما سواه من الفاقرات ، تمتنع أن تختلف المعيّة واللامعيّة ، والإفاضة واللاإفاضة ؛ وإلّا فيكون بالفعل مع بعض ، وبالقوّة مع آخرين ؛ فتتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ، وتتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجدّدات والمتعاقبات ـ تعالى عن ذلك ـ
    بل نسبة ذاته ـ التي هي فعليّة صرفة وغناء محض من جميع
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 306.
    (2) ـ عين اليقين : 306.

    الوجوه ـ إلى الجميع ـ وإن كان من الحوادث الزمانيّة ـ نسبة واحدة إيجابيّة ، ومعيّة قيّوميّة ثابتة غير زمانيّة ولا متغيّرة أصلا ؛ والكلّ عنده واجبات ، وبغنائه بقدر استعداداتها مستغنيات ، كلّ في وقته ومحلّه وعلى حسب طاقته ؛ وإنّما إمكانها وفقرها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها ، وليس هناك إمكان وقوّة البتة.
    فالمكان والمكانيّات بأسرها ـ بالنسبة إليه سبحانه ـ كنقطة واحدة في معيّة الوجود (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [39 / 67] والزمان والزمانيّات ـ بآزالها وآبادها ـ كآن واحد عنده في ذلك.
    «جفّ القلم بما هو كائن» (1).
    __________________
    (1) ـ في المعجم الكبير (11 / 178 ، ح 11560) : «... فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ...». أمالى الطوسي (المجلس التاسع عشر : 536 ، ح 1) عن أبي ذر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ...». الترمذي (كتاب الإيمان ، باب (18) ما جاء في افتراق هذه الامة ، 5 / 26 ، ح 2642) : «جفّ القلم على علم الله». وفيه (كتاب صفة القيامة ، باب 59 ، 4 / 667 ، ح 2516) : «رفعت الأقلام وجفّت الصحف». التوحيد (باب المشيّة والإرادة ، 343 ، ح 13) : عن معاذ بن جبل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سبق العلم وجفّ القلم ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وبالسعادة من الله عزوجل لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبولاية الله المؤمنين وبراءته من المشركين ...». وورد مثله أيضا في تفسير القمي ، عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2 / 211 ، تفسير الآية 35 / 45) بلفظ : «... سبق العلم وجف القلم ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب ...». عنه البحار : 5 / 94 ، ح 13. علل الشرائع (2 / 348 ، باب (56) العلة التي من أجلها لا تجوز الصلاة في السواد ، ح 7) : «جفّ القلم بما فيه». عنه البحار : 28 / 49 ، ح 14. البخاري : (باب في القدر ، ح 3 ، 8 / 152) : «جفّ القلم بما أنت لاق». شعب الإيمان (باب في أن القدر من الله ، 1 / 217 ، ح 195) : «جفّت الأقلام وطويت الصحف». مستدرك الحاكم (كتاب معرفة الصحابة ، 3 / 541) : «قد مضى القلم بما هو كائن».

    «ما من نسمة كائنة إلّا وهي كائنة» (1).
    والموجودات كلّها ـ شهاديّاتها وغيبيّاتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه (2) (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [31 / 28]. وإنّما التقدّم والتأخّر ، والتجدّد والتصرّم ، والحضور والغيبة ، في هذه كلّها بقياس بعضها إلى بعض وفي مدارك المحبوسين في مطمورة الزمان ، المسجونين في سجن المكان ـ لا غير ـ وإن كان هذا لممّا يستغربه الأوهام ، ويشمئزّ عنه قاصروا الأفهام.
    وأمّا قوله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [55 / 29] فهو كما قاله بعض أهل العلم : «إنّها شئون يبديها ، لا شئون يبتديها» ـ فافهم.
    فصل [7]
    روي في كتاب التوحيد (3) ـ بإسناده الصحيح ـ عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قول الله عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
    __________________
    (1) ـ البخاري (في العتق وفضله ، باب من ملك من العرب رقيقا ... ، 3 / 194) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة». أبو داود (كتاب النكاح ، باب ما جاء في العزل : 2 / 252 ، ح 2172) مثله.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    «ربما يمثّل ذلك بما إذا أخذت امتدادا مختلف الأجزاء في اللون ـ كخشب مثلا اختلف اللون في أجزائه ـ ثمّ أمررته في محاذاة ذرّة أو غيرها ـ مما يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتداد ـ فإنّ تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها ـ لضيق نظرها ـ متساوية في الحضور لديك لقوة إحاطتك ـ منه».
    (3) ـ التوحيد : باب معنى قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، 315 ، ح 1.
    تفسير القمي : في تفسير الآية المذكورة ، 2 / 58. عنه البحار : 3 / 337 ، ح 47.

    اسْتَوى) [20 / 5] قال : «استوى من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ؛ لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ؛ استوى من كلّ شيء».
    وفي الكافي بإسناده مثله (1).
    وفيه بإسناده عن مولانا الهادي النقي عليه‌السلام قال (2) : «الأشياء كلّها له سواء ، علما وقدرة وملكا وإحاطة».
    فصل (3) [8]
    [نسبة علمه تعالى إلى الحاضر والغائب سواء]
    قد ظهر ممّا ذكر أنّ إلهيّته جلّ وعزّ ثابتة له في الأزل ، وهو تامّ الفاعليّة فيه ؛ وكذلك عالميّته وسمعه وبصره وغير ذلك من الصفات.
    فإنّه سبحانه أدرك الأشياء جميعا إدراكا تامّا ، وأحاط بها إحاطة كاملة ، فهو عالم بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون بينه وبين الحادث الذي بعده أو قبله من المدّة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ؛ بل بدل ما نحكم بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال ، يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان ، من الأزمنة التي تكون قبله أو بعده.
    __________________
    (1) ـ الكافي : (كتاب التوحيد ، باب الحركة والانتقال ، 1 / 127 ـ 128 ، ح 6 ـ Cool واللفظ فيه : «استوى في كل شيء» في الموردين. وقد ورد فيه : «استوى من كل شيء». و : «استوى على كل شيء».
    (2) ـ الكافي : الباب السابق : 1 / 126 ، ح 4. ومثله عن الصادق عليه‌السلام في التوحيد : باب القدرة ، 133 ، ح 15. عنه البحار : 3 / 323 ، ح 21.
    (3) ـ عين اليقين : 307. الوافي : 1 / 449.

    وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان ، وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ، ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم.
    ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه عزوجل ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، بل بكلّ شيء محيط أزلا وأبدا (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [2 / 255].
    فصل (1) [9]
    قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) : «لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا».
    وقال عليه‌السلام (3) : «علمه بالأموات الماضين ، كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى».
    وعن مولانا الباقر عليه‌السلام (4) : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه ، كعلمه به بعد كونه».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 65. عنه البحار : 4 / 308 ـ 309 ، ح 37. 77 / 304 ، ح 9.
    (3) ـ نهج البلاغة : الخطبة 163. أولها : «الحمد لله خالق العباد ...» البحار : 4 / 307 ، ح 35.
    77 / 307 ، ح 11.
    (4) ـ الكافي : باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 2. وجاء في التوحيد (باب صفات الذات 145 ح 12) بلفظ : «... ولم يزل عالما بما كوّن ... بعد ما كوّنه».
    البحار : 4 / 86 ، ح 23. 57 / 82 ، ح 61. 57 / 161 ـ 162 ، ح 97.

    وعن مولانا الرضا عليه‌السلام (1) : «له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهيّة إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البرائيّة ؛ كيف ولا تعيّنه (2) «مذ» ولا تدنيه «قد» ، ولا تحجبه «لعلّ» ، ولا توقته «متى» ولا تشمله «حين» ولا تقارنه «مع» ...» ـ الحديث ـ (3).
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال ـ (4) : «لم يزل الله ـ جلّ وعزّ
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه : 38 ، ح 2. العيون : خطبة الرضا عليه‌السلام في التوحيد ، 1 / 152 ، ح 51. أمالي المفيد المجلس الثلاثون ، 256 ـ 257 ، ح 4. أمالي الطوسي : المجلس الأول ، 23 ، ح 28 ، مع فروق. البحار : 4 / 229. 57 / 43 ، ح 17.
    (2) ـ كذا في النسخة. وفي المصادر : ولا تغيبه.
    (3) ـ كتب المؤلف هنا مقاطع ، ثم شطب عليها ، وهي :
    وكما أنّه لا يلزم من فاعليّته ـ تعالى ـ للأشياء كون وجوداتها في ذواتها في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ بل كونه بحيث يتبع وجوده وإيجاده وجود الأشياء وصدوره عنه ، فكذلك لا يلزم من عالميّته بها كونها في ذواتها في مرتبة ذاته ، بل كونه بحيث يتبع انكشاف ذاته بذاته على ذاته ، انكشاف ذوات الأشياء بذواتها على ذاته ؛ وكما أنّ إيجادها للموجودات الكثيرة لا يقدح في بساطته الحقّة ، لكونها صادرة عنه على الترتيب السببي والمسببي ، فكذلك علمه سبحانه بالأشياء الكثيرة لا ينثلم وحدته الصرفة ، فتلك الكثرة ترتقي إليه وتجتمع في واحد محض ؛ إذ الترتيب تجمع الكثرة في واحد ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه.
    فصل
    روي في كتاب التوحيد [باب العلم ، 138 ، ح 16] عن مولانا الكاظم عليه‌السلام ـ قال : ـ علم الله لا يوصف الله منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حد.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 139 ، ح 1. الكافي : باب صفات الذات 1 / 107 ، ح 1. البحار : 4 / 71 ، ح 18. 57 / 161 ، ح 96.

    ربّنا ـ والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ؛ فلمّا أحدث الأشياء ـ وكان المعلوم ـ وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور».
    فصل (1) [[10
    [صفاته تعالى ذاتية]
    وإذ ثبت أنّ كمالاته سبحانه ليست بأمر زائد على ذاته ، وأنّها ثابتة له في الأزل ، ظهر أنّ مجده وعلوّه تعالى في الفاعليّة والعالميّة والقادريّة ـ ونحوها من صفات الكمال ـ ليس بالمعنى الإضافي الذي هو متأخّر عن ذاته ، وعن وجود ما أضيفت هي إليه ؛
    بل علوّه ومجده في هذه الصفات إنّما هو بمبادئ تلك الإضافات ، المتقدّمة على وجود ما تعلّقت هي به ـ وهي كونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات ـ وهو سبحانه إنّما هو كذلك بنفس ذاته.
    فإذن : علوّه ومجده في صفاته العليا ليس إلّا بذاته ـ لا غير.
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307. راجع أيضا الأسفار الأربعة : 6 / 120.

    فصل (1) [11]
    [علمه تعالى بذاته]
    وإذ هو سبحانه بسيط الحقيقة منزّه الذات عن الموضوع والمادّة والعوارض وسائر ما يجعل الذات بحال زائدة ، ويريها على غير ما هي عليه : فلا ليس له ، فهو صراح (2) ، وذاته غير محتجبة عن ذاته ؛
    فهو ظاهر بذاته على ذاته ،
    فهو يدرك ذاته أشدّ إدراك ، ويعلمها أتمّ علم ، لظهورها له أشدّ ظهور.
    بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم من سواه بذواتهم ، كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء ، حيث هو وراء ما لا يتناهى ، بما لا يتناهى (3).
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307.
    (2) ـ الصراح : الخالص من كلّ شيء.
    (3) ـ أضيف في علم اليقين : فعلمه بذاته عبارة عن كون ذاته ظاهرة لذاته ، ولا يوجب ذلك أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار ، فإنه ليس إلا اعتبار أن له حقيقة ظاهرة بذاته ، هي ذاته ، وأنه حقيقة ظاهرة ذاته له ؛ ففي الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصل شيء واحد ، ولا يجوز أن يحصل حقيقة الشيء مرتين ، فذاته ـ سبحانه ـ مع وحدته الصرفة عالم ومعلوم وعلم ؛ على أنك دريت ذلك في كل علم.

    فصل (1) [12]
    [علمه تعالى بغيره]
    ولمّا كان ذاته تعالى فاعلا تامّا لجميع ما عداه ، ومبدأ لفيضان كلّ إدراك ـ حسيّا كان أو عقليّا ـ ومنشأ لكلّ ظهور ـ عينيّا كان أو ذهنيّا ـ إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه ، وفاعليّته عين ذاته ، إذ هي من الكمالات ، والعلم التامّ بالفاعل التامّ للشيء من حيث حقيقته التي بها فاعل يستلزم العلم بكونه فاعلا لذلك الشيء ، وهو مستلزم للعلم بذلك الشيء :
    فهو سبحانه عالم بجميع الموجودات قاطبة ،
    (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [34 / 3] في الارض ولا في السماء ،
    (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [41 / 47] ،
    (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [6 / 59] ،
    (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [67 / 14].
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 308.

    فصل (1) [13]
    [علمه تعالى بالمحسوسات]
    ولمّا ثبت علمه سبحانه بالجزئيّات على ما هي عليه ـ ومن جملتها المسموعات ، من الحروف والأصوات ، والمبصرات ، ذوات الأضواء والألوان ـ فهو سبحانه يدركها لا محالة ـ بلا آلة وجارحة ـ ولكن إدراكا حقّا بنفس ذاته النوري ، الذي يظهر ويتنوّر به جميع الأشياء ، كما يدرك سائر المحسوسات كذلك.
    فذاته سبحانه ـ بهذا الاعتبار ـ سمعه وبصره (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [17 / 1].
    وأمّا عدم ورود توصيفه تعالى بالشام والذائق واللامس ـ مع علمه سبحانه بالمشمومات والمذوقات والملموسات ـ فلإيهامه التجسّم ـ تعالى عنه ربّنا وتقدّس.
    سئل مولانا الجواد عليه‌السلام (2) : «كيف يسمّى ربّنا سميعا»؟
    __________________
    (1) ـ كيف المؤلف ـ قدس‌سره ـ هنا فصلا في بيان كونه تعالى نور السماوات والأرض ، ثمّ شطب عليه ، ولما كان الفصل بألفاظه موجودا في عين اليقين (ص 308) أعرضنا عن إيراده هنا حذرا من التطويل ؛ على أنّه ـ قدس‌سره ـ كتب في عين اليقين فصولا يبين فيها عالميته تعالى لكونه بسيط الحقيقة ، فراجع إن شئت.
    (2) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى ، 194 ، ح 7. الكافي : كتاب التوحيد ، باب معاني الأسماء : 1 / 117 ، ح 7. الاحتجاج : احتجاج الإمام الجواد عليه‌السلام : 2 / 468.
    البحار : 4 / 154 ، ح 1.

    قال : «لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سمّيناه بصيرا لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون وشخص وغير ذلك ـ ولم نصفه بنظر لحظ العين (1)».
    فصل [14]
    [إنّه تعالى مختار]
    وإذ ثبت أنّ الوجود كلّه فعله سبحانه ، لا مدخل لغيره فيه ، وقد صدر عنه على وفق علمه ـ صدورا غير مستكره ولا مقهور ولا مغلوب ولا مضرور ـ
    فبان أنّه سبحانه على كلّ شيء قدير وبكلّ شيء بصير ؛
    وأنّه سبحانه مختار في فعله اختيارا أجلّ وأعلى من اختيارنا ، لأنّ الاختيار فينا ناقص مشوب بنحو من الاضطرار ، وذلك لتجدّد الأغراض ، واختلاف الدواعي ، وتفنّن الإرادات ، وسنوح الحالات فينا ، والمرجّح إنّما يرد علينا من خارج ـ كما يأتي تحقيقه (2) ـ بخلافه جلّ جلاله ، فإنّ صفاته جميعا نفس ذاته المقدّسة عن التغيّر والحدثان.
    * * *
    __________________
    (1) ـ الكافي : ولم نصفه ببصر لحظة العين. الاحتجاج : ولم نصفه ببصر طرفة العين.
    (2) ـ راجع الفصل الحادى عشر إلى الخامس عشر من الباب السابع من هذا المقصد.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:18 pm

    فصل (1) [15]
    [إرادته تعالى]
    وأمّا إرادته سبحانه : فهي من حيث نسبتها إليه سبحانه عين ذاته جلّ وعزّ ، وأمّا من حيث إضافتها إلى المراد فإنّها محدثة ، إلّا أنّها ليست كإرادتنا مقدّمة على الفعل ، بل هي هناك نفس الفعل والإيجاد.
    قال مولانا الكاظم عليه‌السلام (2) : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله ـ عزوجل ـ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله ـ تعالى ـ هي الفعل ، لا غير ؛ يقول له : «كن» فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ؛ كما أنّه بلا كيف» ـ رواه في كتاب التوحيد (3) ـ.
    قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [36 / 82].
    __________________
    (1) ـ راجع أيضا الوافي : 1 / 447.
    (2) ـ كذا فيما عندي من نسخ الكتاب ، ولكن الرواية مرويّة عن الرضا عليه‌السلام ، ولذلك أورده الصدوق ـ قدس‌سره ـ في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام أيضا ؛ والأظهر أنّه سهو نشأ مما قاله صفوان بن يحيى ـ الراوي ـ : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام.
    (3) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 1 / 147 ، ح 17. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد : 1 / 119 ، ح 11.
    الكافي : باب الإرادة أنها من صفات الفعل : 1 / 109 ، ح 3. وروى الشيخ صدر الحديث في أماليه : المجلس الثامن ، 211 ، ح 15. البحار : 4 / 137 ، ح 4. راجع أيضا ما كتبه المؤلف ـ قدس‌سره ـ شرحا لهذه الرواية في كتابه الوافي : 1 / 456.

    فصل [16]
    [قدرته تعالى وكيفيّة نسبة الخير والشر إليه]
    فقدرته تعالى عبارة عن كون ذاته بذاته بحيث تصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير ـ الذي هو عين ذاته ـ. ولا يعتبر في القدرة إلّا تعيّن الفعل بالمشيّة ، سواء كانت المشيّة يصحّ عليها التغيّر ، أو لا.
    فالقادر من إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ـ سواء شاء ففعل دائما ، أو لم يشأ فلم يفعل ـ والشرطيّة غير معلّقة الصحّة بصدق كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها ، أو كلاهما ممّا يكذب ـ كما حقّق في محلّه (1) ـ.
    وإرادته تعالى بالنسبة إليه سبحانه عبارة عن كون ذاته بذاته داعيا الصدور الموجودات عنه على وجه الخير والصلاح ، لأجل علمه بالنظام الأوفق.
    فإذا نسبت إليه الموجودات من حيث أنّها صادرة عن علمه : كان علمه بهذا الاعتبار «قدرة».
    وإذا نسبت إليه من حيث أنّ علمه كاف في صدورها : كان علمه بهذا الاعتبار «إرادة».
    __________________
    (1) ـ راجع الجوهر النضيد : 43.

    وعدم إرادته سبحانه الشرور مع إحاطة علمه بكلّ شيء لا تنافي كون إرادته الخير عين علمه ـ عزوجل ـ فإنّ وزان إرادته بالنسبة إلى صفة العلم ، وزان السمع والبصر بعينه ؛ فكما أنّ السمع سمع لكلّ مسموع ـ لا لكلّ شيء ـ والبصر بصر بالقياس إلى كلّ مبصر ـ لا كلّ شيء ـ فكذلك إرادته الحقّة ؛
    فذاته سبحانه علم بكلّ شيء ممكن ، وإرادة لكلّ خير ممكن ، وسمع لكلّ شيء مسموع ، وبصر لكلّ شيء مبصر ، وقدرة على كلّ شيء مقدور عليه.
    مع أنّ الشرور أيضا مرادة ومقتضية بالعرض ، أي بما هي لوازم للخيرات الغالبة عليها ـ وإن لم تكن مرادة بالذات ، أي بما هي شرور ـ وهي من حيث تبعيّتها للخيرات خيرات ومرادة ، كما أنّها معلومة ، فلم تخرج عن إحاطة الإرادة بها ، كما أنّها لم تخرج عن إحاطة العلم بها.
    * * *

    فصل [17]
    [شمول إرادته تعالى]
    ولمّا كانت إرادته سبحانه بالنسبة إلى المراد نفس الإيجاد ، فكلّما أراد شيئا وجد ، فقدرته عامّة وسعت كلّ شيء.
    وأمّا الممتنع فليس بشيء حتّى يسعه القدرة ، فعدم دخوله تحت الوجود ليس نقضا على ذلك ، ولا نقصا على الله سبحانه وتعالى (1).
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا ، أو يكبر البيضة»؟
    قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون».
    __________________
    (1) ـ كتب المؤلف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    «تبّا وتعسا لمن يتوهّم أنّ الله ـ سبحانه ـ لا يقدر على إخراج إبليس من مملكته ، أو لا يقدر أن يدخل السماوات في سمّ خياط ، أو نحو ذلك.
    فإنّ هذا المسكين لا يفهم ـ مع قطع النظر عن المصالح التي روعيت في خلق إبليس ـ أنّ العجز في عدم الاخراج إنّما هو من عدم المملكة التي غير مملكة الله ، حتى يتصوّر إخراجه إليها ، ولبس من عدم القدرة من الخالق ، وكذا العجز في الثاني إنّما هو من الإبرة ـ دونه تعالى».
    (2) ـ التوحيد : باب القدرة : 130 ، ح 9. البحار : 4 / 143 ، ح 10.

    وبإسناده (1) عنه عليه‌السلام ـ قال ـ : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : «أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض ولا يكبر البيضة»؟ فقال له : «ويلك ، إنّ الله لا يوصف بالعجز ، من أقدر ممّن يلطّف الأرض ، ويعظّم البيضة»؟
    وبإسناده عن مولانا الرضا عليه‌السلام (2) أنّه سئل : «هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة»؟ قال : «نعم ، وفي أصغر من البيضة ؛ قد جعلها في عينك وهي أقلّ من البيضة ، لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض ، وما بينهما ، ولو شاء لأعماك عنها».
    أقول : وقد صدر مثل هذا الجواب عن مولانا الصادق عليه‌السلام أيضا ـ كما روي فيه وفي الكافي (3) ـ ولكنّه جواب جدليّ مسكت ، ناسب فهم السائل ، وإنّما صدر من محلّ الخلافة النبويّة ، امتثالا لقوله سبحانه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [16 / 125].
    وأمّا الجواب الحقّ فهو الجواب الأوّل ، الصادر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام واختلاف الأجوبة ، إنّما تكون لاختلاف أفهام السائلين ـ والعلم عند الله ـ.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 130 ، ح 10. البحار : 4 / 143 ، ح 11.
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 130 ، ح 12. البحار : 43 / ح 11.
    (3) ـ التوحيد : باب القدرة : 123 ح 1. الكافي : باب حدوث العالم وإثبات المحدث : 1 / 79 ، ح 4.

    فصل [18]
    [حياته تعالى]
    حياته سبحانه عبارة عن نوريّته المحضة ، المستلزمة للإدراك والفعل ، فإنّ الحيّ هو الدرّاك الفعّال ، ولمّا كانت الصفتان عين ذاته تعالى ، فذاته بذاته حياته ، وكلّ حياة غيرها فإنّما هي رشحة من حياته ، وهو الحيّ بالحقيقة ـ لا إله إلّا هو.
    فصل [19]
    [تكلّمه سبحانه]
    تكلّمه ـ سبحانه ـ عبارة عن كون ذاته تعالى بحيث يقتضي إلقاء الكلام الدالّ على المعنى المراد ، لإفاضته ما في قضائه السابق ، من مكنونات علمه على من يشاء من عباده ، فإنّ المتكلّم عبارة عن موجد الكلام ، والتكلّم فينا ملكة قائمة بذواتنا ، بها نتمكّن من إفاضة مخزوناتنا العلميّة على غيرنا ، وفيه ـ سبحانه ـ عين ذاته ، إلّا أنّه باعتبار كونه من صفات الفعل متأخّر عن ذاته.
    قال مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ؛ كان الله ـ عزوجل ـ ولا متكلّم».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 139 ، ح 1.
    الكافي : باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 1. البحار : 4 / 72.

    أقول : وهذا مثل قولهم عليه‌السلام (1) : «كان الله ولم يكن معه شيء».
    وتمام الكلام في كلامه ـ عزوجل ـ يأتي في مباحث الكتب والرسل ـ إن شاء الله.
    فصل [20]
    [محبّته سبحانه للعبد ومحبّة العبد له]
    محبّته سبحانه للعبد عبارة عن كشفه الحجاب عن قلبه ـ حتّى يراه بقلبه ـ وعن تمكينه إيّاه من القرب إليه ، وإرادته ذلك به في الأزل.
    فحبّه لمن أحبّه أزليّ مهما اضيف إليه الإرادة الأزليّة التي اقتضت ذلك ، وإذا اضيف إلى فعله الذي يكشف به الحجاب عن قلب عبده : فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له ، كما قال تعالى (2) : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى احبّه». فيكون تقرّبه بالنوافل سببا لصفاء باطنه ، وارتفاع الحجاب عن قلبه ، وحصوله في درجة القرب من ربّه.
    ومحبّة العبد لله تعالى ميله إلى درك هذا الكمال ، الذي هو مفلس
    __________________
    (1) ـ في التوحيد (باب التوحيد ونفي التشبيه ، 67 ، 20) : «كان الله ولا شيء معه». وفي الكافي (باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 2) : «كان الله عزوجل ولا شيء غيره».
    وفي النهج (الخطبة : 186) : «... وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه ؛ كما كان قبل ابتدائها».
    (2) ـ مضى في الصفحة : 74.

    عنه ، فاقد له ؛ فلا جرم يشتاق إلى ما فاته منه ، وإذا أدرك منه شيئا يلتذّ به. والشوق والمحبّة ـ بهذا المعنى ـ محال على الله تعالى.
    فصل [21]
    [اختلاف مفهوم الكلمة عند إطلاقه عليه تعالى وعلى غيره]
    كلّ ما يطلق عليه سبحانه وعلى غيره ، فإنّما يطلق عليهما بمعنيين مختلفين ليسا في درجة واحدة ، حتّى أنّ «الوجود» الذي هو أعمّ الأشياء اشتراكا ، لا يشمله وغيره على نهج واحد ؛ بل كلّ ما سواه وجوداتها ظلال وأشباح محاكية لوجوده سبحانه.
    وهكذا في سائر صفاته ـ كالعلم والقدرة والإرادة والمحبّة والرحمة والغضب والحياء وغيرها ـ فكلّ ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، بل هو في حقّ الخلق يصحبه نقص وشين ؛ بخلافه في حقّ الخالق ، فإنّه مقدّس عن القصورات والنقائص ؛ وإنّما يطلق في حقّه ـ تعالى ـ باعتبار غاياتها التي هي الكمالات ـ دون مبادئها التي هي النقائص.
    وواضع اللغات إنّما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ، لأنّها أسبق إلى العقول والأفهام ؛ وفهم معانيها في حقّه تعالى عسر جدّا ، وبيانها أعسر منه ، بل كلّ ما قيل في تقريبه إلى الأفهام فهو تبعيد له من وجه.
    ولعلّ إلى هذا المعنى أشار من قال : «من عرف الله كلّ لسانه» (1).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة
    اين مدعيان در طلبش بى خبرانند
    كان را كه خبر شد خبرى بازنيامد



    فصل [22]
    [استحالة معرفة كنه صفاته تعالى]
    بل الحقّ أنّه كما لا يجوز لغيره سبحانه الإحاطة بمعرفة كنه ذاته تعالى ، فكذلك لا يجوز له الإحاطة بمعرفة كنه صفاته عزوجل ، وكلّ ما وصفه به العقلاء فإنّما هو على قدر أفهامهم وبحسب وسعهم ، فإنّهم إنّما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم ، مع سلب النقائص الناشئة من انتسابها إليهم بنوع من المقايسة ، ولو ذكر لهم من صفاته عزوجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة ، لم يفهموه ؛ فتوصيفهم إيّاه سبحانه إنّما هو على قدرهم ، لا على قدره ؛ وبحسبهم ، ليس بحسبه ؛ جلّ جلاله عمّا يصفون ، وتعالى شأنه عمّا يقولون ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    كيف ، وقد قال سيّدنا ونبيّنا سيّد الخلائق وأشرف النبيّين ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ (1) : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وما أحسن ما قال مولانا الباقر عليه‌السلام (2) : «هل سمّي
    __________________
    (1) ـ مضى في الصفحة : 54.
    (2) ـ لم أعثر على الرواية في الجوامع الروائية ـ وإن كان مضمونها يشهد بصدورها عن معادن الحكمة وأهل بيت الوحي ـ ولعل أقدم من استشهد بها الخواجة نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ في رسالة شرح مسئلة العلم (المسألة الخامسة عشرة ، 43) حيث قال : «... ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوة عليهم‌السلام : هل يسمى قادرا ...». ونقل منه المحقق السيد الداماد في القبسات : أواخر القبس الثامن : 343. والرواشح السماوية : 19. وقد نسبه الشيخ البهائي في شرح الأربعين (شرح الحديث الثاني : 81) إلى الباقر عليه‌السلام.

    عالما وقادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟ وكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والباري تعالى واهب الحياة ومقدّر الموت ؛ ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله تعالى زبانيتين ـ فإنّهما كمالها ـ وتتصوّر أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له ؛ هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به فيما أحسب ، وإلى الله المفزع» (1). ـ انتهى كلامه صلوات الله عليه.
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «إنّ الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه» (3).
    فسبحانه سبحانه ، ما أعلى شأنه ، وأبهر برهانه ، وأعظم امتنانه.
    __________________
    (1) ـ كتب في الهامش ما يلي : «مراده عليه‌السلام أنّ الله عزوجل منزّه عن كلّ وصف من أوصاف الكمال ، الذي يظنّه أكثر الخلق ، لأنّ الخلق إنّما يصفونه بما هو كمال في حقّهم ، والله تعالى منزّه عن أوصاف كمالهم ، كما أنّه عزوجل منزّه عن أوصاف نقصهم ، وكلّ صفة يصفه به الخلق ممّا يدركه حسّ أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يفضي به فكر ؛ فهو مقدّس عنها وعمّا يشبهها ، ولو لا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها عليه لم يجز إطلاق أكثرها ؛ ف (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [37 / 180 ـ 182] ـ منه».
    (2) ـ لم أجده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنه ورد بلفظه في التوحيد (باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، 80 ، ح 36) عن الصادق عليه‌السلام. وروى الكليني ـ قدس‌سره ـ (الكافي : باب إطلاق القول بأنه شيء : 1 / 82 ، ح 1) عن الباقر عليه‌السلام : «... فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ولا تدركه الأوهام ...».
    (3) ـ في هامش النسخة :
    اى برتر از خيال وقياس وگمان ووهم
    وز هرچه گفته اند وشنيديم وخوانده ايم

    مجلس تمام گشت وبه آخر رسيد عمر
    ما همچنان در اوّل وصف تو مانده ايم



    [5]
    باب
    نبذ من نعوته جلّ ذكره
    (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11]
    فصل [1]
    قد ورد في القرآن المجيد وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام من نعت الله ـ سبحانه ـ وتوحيده وتقديسه وتمجيده كلمات وعبارات تحتوى من الأسرار والمعارف ما لا يصل كلّ أحد إليه ، ولا يمكن المزيد عليه ـ سيّما عن مولانا أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين ـ صلوات الله عليه ـ فإنّ كلامه في التوحيد والعدل ويتضمّن ـ مع عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ـ من الإشارات والتنبيهات على أسرار العلوم ، ما هو بلال كلّ غلّة وجلاء كلّ شبهة (1).
    فأردنا أن نورد نبذا من ذلك تأييدا لما أسلفناه ، وتشييدا لما أصّلناه ، وليزداد الطالب بصيرة في معرفة الله وآياته.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : البلل ـ محركة ـ والبلة والبلال ـ بكسرهما ـ : النداوة. الغلّ والغلّة ـ بضمهما ـ والغلل ـ محركة ـ : وكآية العطش أو شدته أو حرارة الجوف.

    وليعلم أنّ جلّ ما أدركته العقول مقتبس من أنوار الشرع ومرموزاته بل لا يمكن المزيد على ما جاءت به الشرائع ؛ خصوصا شرع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا أتمّ منه ولا أحكم.
    رويا في كتابي الكافي والتوحيد (1) بإسناديهما ، عن عاصم بن حميد ـ قال ـ : سئل على بن الحسين عليهما‌السلام عن التوحيد ، فقال :
    «إنّ الله ـ عزوجل ـ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك ، فقد هلك».
    ونبدأ أولا بكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرويّ في كتاب التوحيد ، ثمّ كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام المرويّ فيه وفي الكافي ، ثمّ سائر كلماته ـ صلوات الله عليه وآله ـ المنقولة من نهج البلاغة ، إلّا ما نضيفه إلى غيره. وأمّا كلمات سائر أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فقد أوردناها في مواضعها متفرّقة ، وكذا بعض الآيات القرآنيّة ، مع أنّها مستغنية عن الذكر.
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب النسبة ، 1 / 91 ، ح 3. التوحيد : باب أدنى ما يجزى من معرفة التوحيد ، 283 ، ح 2. عنه البحار : 3 / 263 ـ 264 ، ح 21. واللفظ للكافي.

    فصل [2]
    قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) :
    «الحمد لله الذي كان في أوّليّته وحدانيّا ، وفي أزليّته متعظّما بالإلهيّة ، متكبّرا بكبريائه وجبروته ؛
    ابتدأ ما ابتدع ، وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق لشيء ممّا خلق ، ربّنا القديم بلطف ربوبيّته وبعلم خبره فتق ، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الإصباح فلق ؛
    فلا مبدّل لخلقه ، ولا مغيّر لصنعه ، ولا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لأمره ولا مستزاح عن دعوته ، ولا زوال لملكه ، ولا انقطاع لمدّته ؛ وهو الكينون أوّلا ، والديموم أبدا.
    المحتجب بنوره ـ دون خلقه ـ في الافق الطامح ، والعزّ الشامخ ، والملك الباذخ (2) ، فوق كلّ شيء علا ومن كلّ شيء دنا ، فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى ، وهو بالمنظر الأعلى.
    فأحبّ الاختصاص بالتوحيد إذ احتجب بنوره ، وسما في علوّه واستتر عن خلقه ، وبعث إليهم الرسل ، ليكون له الحجّة البالغة على
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه مع فروق يسيرة ، 44 ، ح 4.
    عنه البحار : 4 / 287 ، ح 19.
    وجاء ما يقرب منه في كفاية الأثر في خطبة للحسن بن على عليهما‌السلام باب ما روي عنه عليه‌السلام من النصوص ، 161. عنه البحار : 43 / 363 ، ح 6.
    (2) ـ في هامش النسخة : طمح بصره إليه ـ كمنع ـ : ارتفع. وكل مرتفع طامح. شمخ الجبل : علا وطال. البذخ ـ محركة ـ : الكبر. بذخ ـ كفرح ـ وتبذّخ : تكبر وعلا ـ ق.

    خلقه ، ويكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وانبعث (1) فيهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيّته بعد ما أنكروا ، ويوحّدوه بالإلهيّة بعد ما عندوا».
    فصل [3]
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) :
    «الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرّد ، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان ؛
    قدرة (3) بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه ، فليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ؛
    كلّ دون صفاته تحبير اللغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ،
    __________________
    (1) ـ كذا في التوحيد. ولكن كتب في النسخة «بعث» ثم صحفت الكلمة بحيث يمكن قراءتها «انبعث» و «ابتعث». والأظهر أن التغيير من غير المؤلف حيث أنها في نسخة ع المستنسخة بعد فوت المؤلف أيضا : بعث.
    (2) ـ الكافي : باب جوامع التوحيد ، 1 / 134 ، ح 1 واللفظ له. عنه البحار 57 / 164 ، ح 103.
    التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه مع فروق يسيرة ، 41 ، ح 3. عنه البحار : 4 / 269 ، ح 15.
    (3) ـ في التوحيد : قدرته. وقال المؤلف في الوافي : «قدرة منصوب على التمييز أو بنزع الخافض ، يعني ولكن خلق الأشياء قدرة ، أو بقدرة ؛ أو مرفوع ، أي له قدرة ، أو هو قدرة ، فإن صفته عين ذاته».

    تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الامور.
    فتبارك (1) الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن ، وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ، وسبحان الذي ليس له أوّل مبتدأ ، ولا غاية منتهى ، ولا آخر يفنى ؛
    سبحانه ، هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته.
    حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إبانة لها من شبهه ، وإبانة له من شبهها ؛
    فلم يحلل فيها فيقال : «هو فيها كائن» ؛
    ولم ينأ عنها فيقال : «هو منها بائن» ؛
    ولم يخل منها فيقال له : «أين»؟ ؛
    لكنّه ـ سبحانه ـ أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه ، وأحصاها حفظه.
    لم يعزب عنه خفيّات غيوب الهواء ، ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ، ولا ما في السماوات العلى إلى الأرضين السفلى ؛ لكلّ شيء منها حافظ ورقيب ، وكلّ شيء منها بشيء محيط ،
    والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد ، الذي لا يغيّره صروف الأزمان ، ولا يتكادّه صنع شيء كان ؛ إنّما قال لما شاء : «كن» ، فكان.
    ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ، ولا تعب ولا نصب ؛
    __________________
    (1) ـ كذا في النسخة ، ولكن في المصدرين : فتبارك الله الذي.

    وكلّ صانع شيء فمن شيء صنع ، والله لا من شيء صنع ما خلق ؛ وكلّ عالم فمن بعد جهل تعلّم ، والله لم يجهل ولم يتعلّم.
    أحاط بالأشياء علما قبل كونها ، فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها ؛
    لم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا خوف من زوال ولا نقصان ، ولا استعانة على ضدّ مناو ولا ندّ مكاثر ولا شريك مكابر ؛ لكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون.
    فسبحان الذي لا يؤده خلق ما ابتدع ولا تدبير ما برأ ، ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى ؛
    علم ما خلق ، وخلق ما علم ؛ لا بالتفكير في علم (1) حادث أصاب ما خلق ، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق ؛
    لكن قضاء مبرم ، وعلم محكم ، وأمر متقن.
    توحّد بالربوبيّة وخصّ نفسه بالوحدانيّة ، واستخلص بالمجد والثناء ، وتفرّد بالتوحيد والمجد والسّناء ؛ وتوحّد بالتحميد ، وتمجّد بالتمجيد (2) ، وعلا عن اتّخاذ الأبناء ، وتطهّر وتقدّس عن ملامسة النساء ، وعزوجل عن مجاورة الشركاء ؛
    فليس له فيما خلق ضدّ ، ولا له فيما ملك ندّ ؛ ولم يشركه في ملكه أحد ، الواحد الأحد الصمد المبيد (3) للأبد ، والوارث للأمد ، الذي
    __________________
    (1) ـ في التوحيد : ولا بعلم (بدلا من : في علم).
    (2) ـ في التوحيد : واستخلص المجد والثناء ، فتحمد بالتحميد ، وتمجد بالتمجيد.
    (3) ـ في هامش النسخة : المأبّد خ ل.

    لم يزل ولا يزال وحدانيّا أزليّا قبل بدء الدهور ، وبعد صرف الامور ، الذي لا يبيد ولا ينفد(1).
    بذلك أصف ربّي ، فلا إله إلّا الله ، من عظيم ما أعظمه! ومن جليل ما أجلّه! وعزيز ما أعزّه ، وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا».
    * * *
    قال ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ رحمه‌الله ـ بعد نقل الخطبة المذكورة (2) :
    «وهذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه‌السلام حتّى لقد ابتذلها العامّة ، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها وفهم ما فيها ؛ فلو اجتمع ألسنة الجنّ والإنس ـ ليس فيها لسان نبيّ ـ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به عليه‌السلام ـ بأبي وأمّي ـ ما قدروا عليه ؛ ولو لا إبانته عليه‌السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد.
    ألا ترون إلى قوله : «لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان» ؛
    فنفى بقوله : «لا من شيء كان» معنى الحدوث ؛
    وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال ، نفيا لقول من قال : «إنّ الأشياء كلّها محدثة ، بعضها من بعض» ، وإبطالا لقول الثنويّة ـ الذين زعموا أنّه لا يحدث
    __________________
    (1) ـ في التوحيد : لا يبيد ولا يفقد.
    (2) ـ الكافي : باب جوامع التوحيد : 1 / 136. عنه البحار : 57 / 164 ـ 166.

    شيئا إلا من أصل ، ولا يدبّر إلّا باحتذاء مثال.
    فدفع عليه‌السلام بقوله : «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنويّة وشبههم ؛ لأنّ أكثر ما يعتمد الثنويّة في حدوث العالم أن يقولوا «لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء ، أو من لا شيء» ؛ فقولهم : «من شيء» خطأ ، وقولهم : «من لا شيء» مناقضة وإحالة ؛ لأنّ «من» توجب شيئا ، و «لا شيء» تنفيه ؛ فأخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحّها ، فقال عليه‌السلام : «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا ، ونفى «الشيء» إذ كان كلّ شيء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق ، كما قالت الثنويّة : «أنّه خلق من أصل قديم ، فلا يكون تدبير إلّا باحتذاء مثال».
    ثمّ قوله عليه‌السلام : «ليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ، كلّ دون صفاته تحبير اللغات» ، فنفى عليه‌السلام أقاويل المشبّهة ، حين شبّهوه بالسبيكة والبلّورة ، وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء ، وقولهم : «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفيّة ولم ترجع إلى إثبات هيئة ، لم تعقل شيئا ، فلم تثبت صانعا» ؛ ففسّر أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه واحد بلا كيفيّة ، وأنّ القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.
    ثمّ قوله عليه‌السلام : «الذي لا تبلغه بعد الهمم ، ولا تناله غوص الفطن ، وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود» ، ثمّ قوله عليه‌السلام : «لم يحلل في الأشياء ، فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها ، فيقال : هو منها بائن». فنفى عليه‌السلام

    بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام ، لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة ، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسّة ، ومباينة الأجسام على تراخى المسافة.
    ثمّ قال : «لكن أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه» ، أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير ، وعلى غير ملامسة».
    ـ انتهى كلامه ـ.
    فصل [4]
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) :
    «أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ؛ فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله [ومن جهله فقد أشار إليه] (2) ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ؛ ومن قال : «فيم» فقد ضمّنه ، ومن قال : «علام» فقد أخلى منه.
    كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ؛ مع كلّ شيء لا بمقارنة
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة الاولى. عنه البحار : 4 / 247 ، ح 5 و 57 / 176 ، ح 136.
    (2) ـ إضافة من المصدر.

    وغير كلّ شيء لا بمزايلة ؛ فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.
    أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأ ابتداء ، بلا رويّة أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها ؛ أحال الأشياء لأوقاتها ، ولاءم بين مختلفاتها ، وغرّز غرائزها ، وألزمها أشباحها ؛ عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها ؛ عارفا بقرائنها وأحنائها».
    فصل [5]
    وقال عليه‌السلام (1) :
    «ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده (2) من أشار إليه وتوهّمه ؛
    كلّ معروف بنفسه مصنوع ، وكلّ قائم في سواه معلول ؛
    فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنيّ لا باستفادة ؛ لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده (3) الأدوات ؛
    سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ؛
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 186. عنه البحار : 77 / 310 ـ 314 ، ح 14.
    (2) ـ صمده : قصده.
    (3) ـ ترفده : تعينه.

    بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ؛
    ضادّ النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد (1) ؛
    مؤلّف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين متدانياتها ؛
    لا يشمل بحدّ ، ولا يحسب بعدّ ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة (2) إلى نظائرها ؛
    منعتها «منذ» القدمة ، وحمتها «قد» الأزليّة ، وجنّبتها «لو لا» التكملة ؛
    بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون.
    لا يجري عليه السكون والحركة ؛ وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو أبداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء ـ إذ وجد له أمام ـ ولالتمس التمام ـ إذ لزمه النقصان ـ واذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه.
    وخرج (3) بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره.
    الذي لا يحول ولا يزول ، ولا يجوز عليه الافول ؛
    __________________
    (1) ـ الصرد : البرد (فارسي معرب).
    (2) ـ في هامش النسخة : الآلات ل خ.
    (3) ـ عطف على : لا يجري عليه السكون والحركة.

    (لَمْ يَلِدْ) فيكون مولودا ، و (لَمْ يُولَدْ) فيصير محدودا ؛ جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ؛
    لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ؛
    لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيريّة والأبعاض ؛ ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أنّ الأشياء تحويه ، فتقلّه أو تهويه ، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
    ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ؛ يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ؛ يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، ويحبّ ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة ؛
    يقول لما أراد كونه : «كن» فيكون ـ لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ؛ وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
    لا يقال : «كان بعد أن لم يكن» ، فتجري عليه الصفات المحدثات ؛ ولا يكون بينه وبينها فصل ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبدع والبديع.
    خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ؛ وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من

    الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ؛ أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ أوديتها ؛
    فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قوّاه ؛
    هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزّته ؛
    لا يعجزه منها شيء فيطلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ؛
    خضعت الأشياء له وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تسطيع الهرب من سلطانه إلى غيره ، فتمتنع من نفعه وضرّه ؛
    ولا كفؤ له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه ؛
    هو المفني لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
    وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها ؛ وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها ـ من طيرها وبهائهما ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلّدة (1) اممها وأكياسها ـ على إحداث بعوضة ، ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها.
    وإنّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ؛ كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ؛ بلا وقت ولا مكان ،
    __________________
    (1) ـ المتبلدة : الغبيّة.

    ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ؛ فلا شيء إلا الله الواحد القهّار ، الذي إليه مصير جميع الامور ، بلا قدرة منها كان قبل ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها.
    لم يتكأدّه (1) صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ولا تخوّف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ندّ مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور (2) ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها.
    ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه.
    لا يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ؛
    ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ولا لاستعانة بشيء منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة».
    __________________
    (1) ـ لم يتكأدّه : لم يشق عليه.
    (2) ـ المثاور : المواثب المهاجم.

    فصل [6]
    ومن كلماته عليه‌السلام (1) :
    «الذي لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ؛
    كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل ، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قويّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها ، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر».
    ومنها (2) :
    «لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولّهه رحمة عن عقاب ، ولا تجنّه البطون عن ظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون ، قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن ، لم يذرأ الخلق باحتيال ، ولا استعان بهم لكلال».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 65. أولها : «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا ...».
    عنه البحار : 4 / 308 ـ 309 ، ح 37. 77 / 304 ، ح 9.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 195. أولها : «الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه ...».
    عنه البحار : 77 / 315 ، ح 15.

    ومنها (1) :
    «لم تحط به الأوهام ؛ بل تجلّى لها بها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ؛
    ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا وعظم سلطانا».
    ومنها (2) :
    «الذي بطن خفيّات الامور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره ؛
    سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ؛
    لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّا كبيرا».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 185. أولها : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ...».
    البحار : 4 / 261 ، ح 9 ، عن الاحتجاج.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 49. أولها : «الحمد لله الذي بطن خفيّات الامور ...».
    عنه البحار : 4 / 308 ، ح 36.

    فصل [7]
    ومن كلامه عليه‌السلام (1) :
    «كلّ شيء خاشع له وكلّ شيء قائم به ؛ غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف ؛
    من تكلّم سمع نطقه ، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه.
    لم ترك (2) العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ؛ لم تخلق الخلائق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك (3) من أخذت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد في ملكك من أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاك ، ولا يستغني عنك من تولّى عن أمرك ؛
    كلّ سرّ عندك علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ؛
    أنت الأبد فلا أمد لك وأنت المنتهى لا محيص عنك ، وأنت الموعد لا منجى منك ، [إلّا إليك] (4) ؛ بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 109. «أو لها : كل شيء خاشع له وكل ...».
    عنه البحار : 4 / 317 ـ 318 ، ح 43.
    (2) ـ على هامش النسخة : تدركك خ ل.
    (3) ـ على هامش النسخة : ولا يفوتك خ ل.
    (4) ـ زيادة من المصدر.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:20 pm

    فصل [8]
    ومن كلامه ـ صلوات الله عليه ـ (1) :
    «الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليّته وباشتباههم على أن لا شبه له.
    لا تستلمه المشاعر ولا تحجبه السواتر ؛ لافتراق الصانع والمصنوع والحادّ والمحدود ، والربّ والمربوب ؛
    الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسّة ، والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة.
    بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه.
    من وصفه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال : «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن قال : «أين؟» فقد حيّزه.
    عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 152. أو لها : «الحمد لله الذي الدالّ على وجوده بخلقه».

    فصل [9]
    ومن كلامه عليه‌السلام (1) قاله لذعلب اليماني (2) ـ وقد سأله : «هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين»؟ ـ
    فقال عليه‌السلام : «أفأعبد ما لا أرى»؟ قال : «وكيف تراه»؟
    فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه الأبصار (3) بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم بلا رويّة ، مريد بلا همّة (4) ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرقّة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجلّ القلوب من مخافته».
    وفي رواية اخرى رواها في كتاب التوحيد (5) : «ويلك يا ذعلب! إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ولا السكون ، ولا بالقيام ـ قيام
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 179. البحار : 4 / 52 ، ح 9. 72 / 279.
    (2) ـ لا نعلم منه شيئا غير ما جاء في رواية الصدوق (التوحيد : 305 ، باب حديث ذعلب) : «فقام إليه رجل يقال له : ذعلب ، فكان ذرب اللسان بليغا في الخطب ، شجاع القلب ، فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة ، لأخجلنّه اليوم لكم في مسألتي إياه ...». راجع أيضا قاموس الرجال : 4 / 306.
    (3) ـ كذا في النسخ. ولكن في المصدر : تدركه القلوب.
    (4) ـ المصدر : لا بهمة.
    (5) ـ التوحيد : باب حديث ذعلب : 305. أمالي الصدوق : المجلس الخامس والخمسون ، ح 1 ، 422 ـ 423. ورواه الكليني مع اختلافات كثيرة في الكافي : كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد ، 1 / 138 ـ 139 ، ح 4.

    انتصاب ـ ولا بجيئة ولا بذهاب ؛ لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رءوف الرحمة لا يوصف بالرقّة ؛ مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسّة ، قائل لا بلفظ (1) ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مباينة ، فوق كلّ شيء ولا يقال «شيء فوقه» ، وأمام كلّ شيء ولا يقال «له أمام» ، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها ، لا كشيء من شيء خارج». فخرّ ذعلب مغشيّا عليه.
    وفي رواية اخرى في الكتاب المذكور (2) ـ بعد كلام طويل قد مضى أكثره لفظا أو معنى ـ : «كان ربّا ولا مربوب ، وإلها ولا مألوه ، وعالما إذ لا معلوم ، وسميعا إذ لا مسموع» ـ ثمّ أنشأ يقول : ـ
    ولم يزل (3) سيّدي بالعلم (4) معروفا
    ولم يزل سيّدي بالجود موصوفا

    وكنت إذ ليس نور يستضاء به
    ولا ظلام على الآفاق معكوفا

    وربّنا بخلاف الخلق كلّهم
    وكلّ ما كان في الأوهام موصوفا

    __________________
    (1) ـ المصدر : لا باللفظ.
    (2) ـ التوحيد : باب حديث ذعلب : 309 ، ح 2. عنه البحار : 4 / 305 ، ح 34.
    (3) ـ في النسخة : ولم تزل. (وكذا في المصرع الثاني).
    (4) ـ المصدر والبحار : بالحمد.


    ومن يرده على التشبيه ممتثلا
    يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا

    وفي المعارج يلقى موج قدرته
    موجا يعارض طرف الروح مكفوفا

    فاترك أخا جدل في الدين منعمقا
    قد باشر الشكّ فيه الرأي مأووفا

    واصحب أخا ثقة حبّا لسيّده
    وبالكرامات مزمولا (1) ومحفوفا

    أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا
    وفي السماء جميل الحال معروفا

    فصل [10]
    ومن كلماته ـ صلوات الله عليه :
    «كان حيّا بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كيف ، ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفا قبل أن يكوّن شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدئ شيئا ، ولا يشبه شيئا مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ؛
    كان إلها حيّا بلا حياة ، ومالكا قبل أن ينشئ شيئا ، ومالكا بعد
    __________________
    (1) ـ في المصدر والبحار : من مولاه محفوفا.

    إنشائه للكون ؛ وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حدّ يعرف ، ولا شيء يشبهه ، ولا يهرم لطول بقائه ، ولا يصعق لذعره ، ولا يخاف كما يخاف خليقته من شيء ؛ ولكن سميع بغير سمع ، وبصير بغير بصر ، وقويّ بغير قوّة من خلقه ؛
    لا تدركه حدق الناظرين ، ولا يحيط بسمعه سمع السامعين ؛
    إذا أراد شيئا كان بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ، ولا يسأل أحدا عن شيء من خلقه أراده ؛ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [6 / 103].
    رواه في الكافي (1).
    فصل [11]
    ومن كلامه عليه‌السلام :
    «الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ؛
    مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به ـ من العجز ـ على قدرته ، وبما اضطرّها إليه ـ من الفناء ـ على دوامه ؛
    __________________
    (1) ـ كتاب الروضة : الخطبة الطالوتيّة : 31 ح 5. عنه البحار : 28 / 240 ، ح 27. و 57 / 159 ، ح 91. وجاء ما يقرب منه عن الباقر عليه‌السلام أيضا في الكافي : باب الكون والمكان ، 1 / 88 ـ 89 ، ح 3. والتوحيد : باب نفي المكان ، 173 ، ح 2.
    وأيضا فيه عن الكاظم عليه‌السلام : باب صفات الذات ... ، 141 ، ح 6. عنه البحار : 4 / 298 ـ 299 ، ح 27.

    لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّته (1) ، ولا له شبح (2) مثال فيوصف بكيفيّته ، ولم يغب عن شيء (3) فيعلم بحينيّته (4) ؛
    مباين لجميع ما أحدث في الصفات وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات ؛ محرّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى عوامق ناقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات الفطر تصويره ؛
    لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ؛ ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثّله ؛
    قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغر عن السموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ؛
    واحد لا من عدد ، ودائم بلا أمد (5) وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات ؛
    قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن
    __________________
    (1) ـ كذا في النسخة والعيون والبلد الأمين. ولكن في التوحيد : بأينية.
    (2) ـ كذا في النسخة والعيون والبلد الأمين ، ولكن في التوحيد : شبه.
    (3) ـ كذا في النسخة والعيون. ولكن في التوحيد : لم يغب عن علمه شيء.
    (4) ـ في المصادر : بحيثيته. وفي بعض نسخ التوحيد : بحيثية.
    (5) ـ في المصادر : لا بأمد.

    إحاطة ذكر أزليّته ، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ؛
    مقتدر بالآلاء وممتنع بالكبرياء ، ومتملّك على الأشياء ؛ فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به ؛ قد خضعت له رواتب الصعاب (1) في محلّ تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها ؛
    مستشهد بكلّيّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ؛ فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها ، ولا خروج من إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها ، ولا امتناع من قدرته عليها ؛
    كفى بإتقان الصنع لها آية ، وبمركّب الطبع عليها دلالة ، وبحدوث الفطر عليها قدمة ، وبإحكام الصنعة لها عبرة ؛ فلا إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه بمحجوب (2) ـ تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّا كبيرا».
    رواه في كتاب التوحيد (3) ، بإسناده عن مولانا الرضا عن آبائه ، عن جدّه عليه‌السلام.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : ثوابت الصعاب. العيون : الرقاب الصعاب. البلد الأمين : رقاب الصعاب.
    (2) ـ التوحيد والعيون : محجوب.
    (3) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 69 ـ 72 ، ح 26. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 121 ـ 122 ، ح 15. البلد الأمين : دعاء يوم الجمعة ، 92 مع فروق. عنه البحار : 90 / 138 ، ح 7.

    فصل [12]
    ومن كلامه الشريف ـ صلوات الله عليه ـ :
    «الحمد لله الذي لا يفره المنع (1) ولا يكديه الإعطاء ، إذ كلّ معط منتقص سواه ؛ المليء بفوائد النعم وعوائد المزيد ، وبجوده ضمن عيالة الخلق ، فأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه ؛ فليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل.
    ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ؛ ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال ، وضحكت عنه أصداف البحار ـ من فلذ اللجين (2) وسبائك العقيان ونضائد المرجان ـ لبعض عبيده ، لما أثّر ذلك في جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الإفضال ما لا ينفده مطالب السؤّال (3) ، ولا يخطر لكثرته على بال ؛ لأنّه الجواد الذي لا تنقصه المواهب ، ولا ينحله (4) إلحاح الملحّين ، و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] [36 / 82].
    __________________
    (1) ـ وفر يفر ـ كوعد يعد ـ من الوفور بمعني الكثرة ؛ أي لا يزيد المنع له شيئا. الإكداء : الإفقار والتقليل.
    (2) ـ الفلذ ـ بكسر الفاء وسكون اللام ـ : كبد البعير. وأفلاذ الأرض كنوزها. أو بكسر الأول وفتح الثاني ـ جمع الفلذة ـ بمعنى الذهب والفضة. وفي محكي البحار عن التوحيد : فلزّ ـ بالزاء المعجمة مشددة ـ وهو اسم الأجسام الذائبة مثل الذهب والفضة والرصاص. اللجين ـ مصغرا ـ : الفضة. العقيان : الذهب الخالص.
    (3) ـ السؤّال جمع السائل ؛ كطلاب جمع طالب.
    (4) ـ ينحله من الانحلال ، أو من التنحيل بمعنى الإعطاء ، أي لا يعطيه إلحاح الملحين شيئا ولا يؤثر فيه. وفى المنقول عن التوحيد في البحار : لا يبخله. ولعله الصحيح.

    الذي عجزت الملائكة ـ على قربهم من كرسيّ كرامته ، وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزّه ، وقربهم من غيب ملكوته ـ أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم ؛ وهم ـ من ملكوت القدس ـ بحيث هم في معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [2 / 32].
    فما ظنّك ـ أيّها السائل ـ بمن هو كذا؟ سبحانه وبحمده ؛ لم يحدث فيمكن فيه التغيّر والانتقال ، ولم يتصرّف في ذاته بكرور الأحوال ، ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيّام.
    الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ، ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله ؛ ولم تحط به الصفات ، فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهيا ، وما زال ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ـ عن صفة المخلوقين متعاليا ؛ وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا ، وبالذات التي لا يعلمها إلّا هو عند خلقه معروفا ؛ وفات ـ لعلوّه على أعلى الأشياء ـ مواقع وهم المتوهّمين ، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة (1) رويّات المتفكّرين.
    فليس له مثل فيكون ما يخلق مشبها به ، وما زال ـ عند أهل المعرفة به ـ عن الأشباه والأضداد منزّها ؛ كذب العادلون بالله إذ شبّهوه بمثل أصنامهم ، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزّءوه بتقدير منتج من خواطر هممهم ، وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم.
    وكيف يكون من لا يقدّر قدره مقدّرا في رويّات الأوهام؟ وقد
    __________________
    (1) ـ الفهاهة : العيّ.

    ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام؟! لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير ، أو تحيط به الملائكة ـ على قربهم من ملكوت عزّته ـ بتقدير.
    تعالى عن أن يكون له كفؤ فتشبّه به (1) ؛ لأنّه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه ، وحاولت الفكر المبرّأة من خطر الوسواس إدراك علم ذاته ، وتولّهت القلوب إليه لتحوي منه مكيّفا في صفاته (2) ، وغمضت (3) مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته : ردعت خاسئة ـ وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه.
    رجعت ـ إذ جبهت ـ معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال اولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته ، لبعده من أن يكون في قوى المحدودين ، لأنّه خلاف خلقه ، فلا شبه له في المخلوقين ، وإنّما يشبه الشيء بعديله ؛ فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله؟!.
    وهو البديء الذي لم يكن شيء قبله ، والآخر الذي ليس شيء بعده ؛
    لا تناله الأبصار من مجد جبروته ـ إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته ، ولا تخرق إلى ذي العرش متانة خصائص ستره (4) ؛ إنّه
    __________________
    (1) ـ المصدر : فيشبّه به.
    (2) ـ في هامش النسخة : لتجري في كيفية صفاته ـ خ ل.
    (3) ـ أي لطفت ودقّت.
    (4) ـ المصدر : ستراته. (بدلا من : ستره انه).

    الذي صدرت الامور عن مشيّته ، وتصاغرت عزّة المتجبّرين دون جلال عظمته ، وخضعت له الرقاب ، وعنت الوجوه من مخافته ، وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته ، وصار كلّ شيء خلق حجة له ومنتسبا إليه ؛ وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتدبير ناطقة فيه.
    فقدّر ما خلق ، فأحكم تقديره ووضع كلّ شيء بلطف تدبيره موضعه ، ووجّهه بجهة (1) فلم يبلغ منه شيء حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيّته ، ولم يستصعب إذ أمره بالمضيّ إلى إرادته ـ بلا معاناة للغوب مسّه ، ولا مكابدة لمخالف له على أمره ـ فتمّ خلقه ، وأذعن لطاعته ، ووافى الوقت الذي أخرجه إليه إجابة ؛ لم يعترض دونها ريث المبطئ ، ولا أناة المتلكّئ ؛
    وأقام من الأشياء أودها وتهيء (2) معالم حدودها ، ولاءم بقدرته بين متضادّاتها ، ووصل أسباب قرائنها ، وخالف بين ألوانها ، وفرّقها أجناسا مختلفات في الأقدار والغرائز والهيئات.
    بدايا (3) خلائق أحكم صنعها ، وفطرها على ما أراد إذ ابتدعها ؛ انتظم علمه صنوف ذرئها ، وأدرك تدبيره حسن تقديرها.
    أيّها السائل ـ اعلم أنّ من شبّه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه ، وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته : إنّه لم يعقد غيب
    __________________
    (1) ـ يحتمل القراءة : بجهته.
    (2) ـ المصدر : نهّى.
    (3) ـ في هامش النسخة : بدايا : جمع بديء. وهو العجيب البديع. والبدايا خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه الأشياء التي وصفتها بدائع خلائق.

    ضميره على معرفته ، ولم يشاهد قلبه اليقين بأنّه لا ندّ له ؛ وكانّه لم يسمع بتبرّي التابعين من المتبوعين وهم يقولون : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [26 / 97 ـ 98].
    فمن ساوى ربّنا بشيء فقد عدل به ، والعادل به كافر بما تنزّلت (1) به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيّناته ؛ لأنّه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهبّ فكرها مكيّفا ، وفي حواصل رويّات همم النفوس محدودا مسرّفا ؛ المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من مرّ حوادث الدهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور.
    الذي لمّا شبّهه العادلون بالخلق المنغصّ (2) المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته ـ وكان عزوجل الموجود بنفسه لا بآياته ـ انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره ، فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الأنداد ، وارتفاعا عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [39 / 67].
    فما دلّك القرآن عليه من صفته ، فاتّبعه ليوصل بينك وبين معرفته وأتمّ به ، واستضئ بنور هدايته ، فإنّها نعمة وحكمة اوتيتها ، فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين.
    __________________
    (1) ـ المصدر : نزلت به. وتحتمله قراءة النسخة أيضا.
    (2) ـ كذا في النسخة. غصّ بالطعام : اعترض في حلقه. وغص المكان به : ضاق عليه. والذي يظهر أن الصحيح ما في المصدر : المبعّض.

    وما دلّك الشيطان عليه ـ ممّا ليس في القرآن عليك فرضه ، ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهدى أثره ـ فكل علمه إلى الله عزوجل ؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك.
    واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام (1) في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [3 / 7] ؛ فمدح الله ـ عزوجل ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق ـ فيما لم يكلّفهم البحث عنه منهم ـ : رسوخا ؛ فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ...».
    رواه في كتاب التوحيد (2) ، وبعضه مذكور في نهج البلاغة (3) بأدنى تغيير في اللفظ.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : الاقتحام : الدخول في الشيء بشدة وصعوبة. والسدد : الحجب.
    (2) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 49 ـ 56 ، 13. عنه البحار : 4 / 274 ـ 276 ، ح 16.
    (3) ـ نهج البلاغة : الخطبة 91 (خطبة الأشباح). مع فروق كثيرة لم نتعرض لها. عنه البحار :
    57 / 106 ـ 107 ، 90. و 77 / 316 ـ 317.

    قال شارحه البحراني ـ رحمه‌الله ـ (1) :
    «واعلم أنّ في إحالته عليه‌السلام لطالب المعرفة على الكتاب والسنّة وبيان الأئمّة دلالة على أنّ مقصوده ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة فقط ، بل يتّبع أنوار القرآن والسنّة وآثار أئمّة الهدى.
    وقد ورد في القرآن الكريم والسنّة وكلام الأئمّة من الإشارات والتنبيهات على منازل السلوك ووجوب الانتقال في درجاتها ، ما لا يحصى كثرة ، ونبّهوا على كلّ مقام أهله ، وأخفوه عن غير أهله ، إذ كانوا أطبّاء النفوس.
    وكما أنّ الطبيب يرى أنّ بعض الأدوية لبعض المرضى ترياق وشفاء ، وذلك الدواء ـ بعينه ـ لشخص آخر سمّ وهلاك : كذلك كتاب الله والموضحون لمقاصده من الأنبياء والأولياء يرون أنّ بعض الأسرار الإلهيّة شفاء لبعض الصدور ، فيلقونها إليهم ؛ وربما كانت تلك الأسرار ـ بأعيانها ـ لغير أهلها سببا لضلالهم وكفرهم إذا القيت إليهم.
    فإذن مقصوده عليه‌السلام قصر كلّ عقل على ما هو الأولى به ، وما يحتمله ؛ والجمع العظيم هم أصحاب الظاهر ، الذين يجب قصرهم عليه» ـ انتهى ـ.
    ولنقتصر من كلماته عليه‌السلام في التوحيد على هذا القدر ، فإنّه مشتمل على مجامعها ، ولم يخرج عنه ـ ممّا وصل إليّ ـ من جهة المعنى إلّا أشياء متفرّقة ، ذكرناها في مواضعها الأنسب بها ـ ولله الحمد.
    __________________
    (1) ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : 2 / 336.

    فصل [13]
    روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال (1) : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تفكّروا في الله ، فإنّكم لن تقدّروا قدره».
    وفي الكافي بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام (2) : «تكلّموا في خلق الله ، ولا تتكلّموا في الله ، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيّرا».
    وفي رواية اخرى (3) : «تكلّموا في كلّ شيء ، ولا تتكلّموا في ذات الله».
    وبإسناده الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام (4) ـ قال : ـ «إنّ الله عزوجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [53 / 42] ، فإذا انتهى الكلام إلى الله ، فامسكوا».
    __________________
    (1) ـ أخرج الطبراني في المعجم الأوسط (7 / 172 ، ح 6315) : «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». ومثله في الكامل لابن عدي (ذكر وازع بن نافع العقيلى ، 7 / 95). وكنز العمال : 3 / 106 ، ح 5707.
    وحكى السيوطي في الجامع الصغير (باب التاء : 1 / 132) عن أبي الشيخ : «تفكّروا في الخلق ولا تفكّروا في الخالق ، فإنّكم لا تقدّرون قدره». الجامع الكبير : 4 / 111 ـ 112 ، ح 10503 ـ 10507. كنز العمال : ح 5706.
    (2) ـ الكافي : باب النهي عن الكلام في الكيفية : 1 / 92 ، ح 1.
    (3) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 1.
    (4) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 2. تفسير القمي : في تفسير الآية 53 / 42 : 2 / 348. عنه البحار : 3 / 259 ، ح 6. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب جوامع من التوحيد : 1 / 237 ، ح 206. عنه البحار : 3 / 264 ، ح 22. وعن تفسير النعمانى : 93 / 90.

    وبإسناده عنه عليه‌السلام (1) : «ابن آدم ـ لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك ، لو وضع عليه خرق إبرة تغطّاه ؛ تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض؟! إن كنت صادقا ، فهذه الشمس ـ خلق من خلق الله ـ فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول».
    قال بعض العارفين (2) : «إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنّه أدرك صورته بوجه ، وأنّه ما أدرك صورته بوجه ، لما يراه في غاية الصغر ـ لصغر جرم المرآة ـ أو الكبر ـ لعظمه ـ ولا يقدر أن ينكر أنّه رأى صورته ، ويعلم أنّه ليس في المرآة ـ صورته ، ولا هي بينه وبين المرآة ؛ فليس بصادق ولا كاذب في قوله : «رأى صورته» ، و : «ما رأى صورته». فما تلك الصورة المرئيّة؟ وما محلّها؟ وما شأنها؟ فهي منفيّة ثابتة ، موجودة معدومة ، معلومة مجهولة ؛ أظهر سبحانه هذه الحقيقة ضرب المثال ، ليعلم ويتحقّق أنّه إذا عجز وحار في درك حقيقة هذا ـ وهو من العالم ـ ولم يحصّل علما بحقيقته : فهو بخالقها إذن أعجز وأجهل ، وأشد حيرة». ـ انتهى كلامه ـ
    وأنشد بعضهم :
    اعتصام الورى بمغفرتك
    عجز الواصفون عن صفتك

    تب علينا فإنّنا بشر
    ما عرفناك حقّ معرفتك

    __________________
    (1) ـ الكافي : الباب المذكور : 1 / 93 ، ح 8.
    (2) ـ ابن عربي في الفتوحات المكية : الباب الثالث والستون : 1 / 304 ملخصا.

    [6]
    باب
    أسمائه الحسنى تبارك وتعالى
    (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [7 / 180]
    فصل [1]
    [الاسم وإطلاقاته] (1)
    الاسم ما دلّ على الذات الموصوفة بصفة معيّنة (2) ، كلفظ «الرحمن» ، فإنّه يدلّ على ذات متّصفة بالرحمة ، و «القهّار» فإنّه يدلّ على ذات لها القهر ـ إلى غير ذلك.
    وقد يطلق الاسم على نفس الذات باعتبار اتّصافها بالصفة ، وعلى
    __________________
    (1) ـ راجع عين اليقين : 311. الوافي : 1 / 464.
    (2) ـ أي على حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان. فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ ، كذلك تكون بالذوات ، من غير فرق بينهما فيما يئول إلى المعنى (هذه الحاشية والحاشية الآتية كتب على هامش م وع وليست في نسخة المؤلف ـ قدس‌سره ـ).

    هذا هو عين المسمّى باعتبار الهويّة والوجود ، وإن كان غيره باعتبار المعنى والمفهوم ـ حيث أنّ أحدهما مقيّد والآخر غير مقيّد ـ وهذا كما أنّ صفاته عزوجل عين ذاته المقدّسة وغيرها ـ بالاعتبارين ـ.
    والأسماء الملفوظة بالإطلاق الثاني هي أسماء الأسماء.
    وسئل مولانا الرضا عليه‌السلام عن الاسم : ما هو؟
    قال (1) : «صفة لموصوف».
    وهذا اللفظ يحتمل المعنيين ، وإن كان في الثاني أظهر.
    وقد يطلق الاسم على ما يفهم من اللفظ ـ أي المعنى الذهني (2) ـ وعليه ورد ما روي في الكافي (3) ، بسند حسن ، عن هشام بن الحكم ، أنّه سأل مولانا الصادق عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : «الله ، ممّا هو مشتق»؟
    ـ قال : ـ فقال لي : «يا هشام «الله» مشتقّ من «إله» والإله يقتضي
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب حدوث الأسماء ، 1 / 113 ، ح 3. التوحيد : باب أسماء الله تعالى ، 192 ، ح 5. العيون : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 129 ، ح 25. معانى الأخبار : باب معنى الاسم ، 2 ، ح 1.
    البحار : 4 / 159 ، ح 3. الوافي : 1 / 466 ، ح 377.
    (2) ـ فإنه يصحّ للعقل ملاحظة الاسم وحده ، مع قطع النظر عن تقييده ، وهو اعتبار اتصاف ذاته بالصفة الموجودة في المسمّى (راجع التعليقة الثانية في الصفحة السابقة).
    (3) ـ الكافي : باب المعبود : 1 / 87 ، ح 2. وباب معاني الأسماء واشتقاقها : 1 / 114 ، ح 2.
    ويوجد فروق يسيرة لفظية بين المنقول في البابين لم نتعرض لها ، واللفظ هنا يطابق ما في باب المعبود. التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 220 ، ح 13. الاحتجاج : 2 / 203. البحار : 4 / 157 ـ 158 ، ح 2. الوافي : 1 / 346 ، ح 270.

    مألوها (1) ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين (2) ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد ـ أفهمت يا هشام»؟
    ـ قال : ـ فقلت : «زدني».
    قال : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها ، ولكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ـ وكلّها غيره.
    يا هشام ـ الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ؛ أفهمت يا هشام ـ فهما تدفع به وتناضل به أعدائنا والمتّخذين مع الله ـ تعالى ـ غيره؟».
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة كتعليقة على الحديث ولم يعلّم بعلامة ، ولكنها من كلام المؤلف من غير ترديد لكونها موجودا في الوافي (1 / 347) بلفظها شرحا للحديث ، ولعلها مستنسخة منه بعد ولذلك لا توجد في النسخ الاخرى ، وهي :
    «قال في الصحاح : أله ـ بالفتح ـ الهة : أي عبد عبادة ، ومنه قولنا : الله. وتقول : أله يأله إلها : أي تحيّر. والظاهر أن لفظ «إله» في الحديث فعال بمعنى المفعول ، وقوله عليه‌السلام : «والإله يقتضي مألوها» معناه أن إطلاق هذا الاسم واستعماله بين الأنام يقتضي أن يكون في الوجود ذات معبود ينطلق عليه هذا الاسم ، فإن الاسم غير المسمى ، إذ الاسم عبارة عن اللفظ أو المفهوم (كذا ، وفي الوافي : والمفهوم) منه ، والمسمى هو المقصود (الوافي : هو المعنى المقصود) من اللفظ الذي هو مصداقه. ويحتمل أن يكون «إله» في الحديث فعل ماض أو مصدرا ، وقوله : «والإله يقتضي مألوها» ـ بالسكون ـ يعني أن العبادة تقتضي أن يكون في الوجود ذات معبود ، لا يكفي فيها مجرد الاسم من دون أن يكون له مسمى. والمراد بالخبز ومعطوفاته إما الألفاظ أو المفاهيم ، وبالمأكول ونظائره الأعيان التي في الخارج».
    (2) ـ أي وحدث عبادتان ، إحداهما لشيء والاخرى لغير شيء ؛ ففيه وقع الاشتراك (الأظهر : الإشراك) في نفس العبادة (كتب هذه الحاشية في هامش م وع وعليه علامة «منه رحمه‌الله» ولا يوجد في نسخة المؤلف ـ قدس‌سره ـ).

    قلت : «نعم».
    ـ قال : ـ فقال : «نفعك الله به وثبّتك ـ يا هشام»؟.
    قال هشام : «فو الله ما قهرني أحد في التوحيد ، حتّى قمت مقامي هذا».
    وما روي فيه وفي كتاب التوحيد (1) بإسنادهما عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «من عبد الله بالتوهّم فقد كفر (2) ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه ، فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرّ أمره وعلانيته ، فاولئك هم المؤمنون حقّا».
    وفي لفظ آخر (3) : «فاولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا».
    فالمراد ب «الاسم» ـ في الخبرين ـ ما يفهم من اللفظ ، وب «المعنى»
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب المعبود : 1 / 87 ، ح 1. التوحيد : الباب السابق : 220 ، ح 12.
    عنه البحار : 4 / 165 ـ 166 ، ح 7. الوافي : 1 / 345 ، 268.
    (2) ـ كتب النص التالي في هامش النسخة بلا علامة :
    قوله عليه‌السلام : «من عبد الله بالتوهم فقد كفر» أي من غير جزم بوجوده ، أو بما يتوهّمه من مفهوم اللفظ ، أي عبد الصورة الوهميّة التي تحصل في ذهنه من مفهوم اللفظ. قوله : «ومن عبد الاسم» أي اللفظ الدال على المسمى أو ما يفهم من اللفظ من الأمر الذهني. قوله عليه‌السلام : «دون المعنى» أي ما يصدق عليه اللفظ ، أعني المسمى الموجود في خارج الذهن. والحاصل أن الاسم وما يفهم منه غير المسمى ، فإن لفظ الإنسان ـ مثلا ـ ليس بإنسان ، وكذا ما يفهم من هذا اللفظ بما يحصل في الذهن ، فإنه ليس له جسمية ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإنسانية.
    (وقد جاء صدر هذه التعليقة فقط ـ إلى قوله : من مفهوم اللفظ ـ في م وع.
    وعليه علامة : منه رحمه‌الله).
    (3) ـ نفس المصدر.

    ما يصدق عليه اللفظ. فالاسم أمر ذهنيّ ، والمعنى أمر خارجيّ ، وهو المسمّى ، والاسم غير المسمّى ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ في الذهن ليس بإنسان ، ولا له جسميّة ولا حياة ، ولا حسّ ، ولا حركة ، ولا نطق ، ولا شيء من خواصّ الإنسانيّة.
    فتدبّر فيه تفهم معنى الحديث ـ ومن الله الإعانة. (1)
    فصل [2]
    [الأسماء الحسنى واندراجها تحت لفظ الجلالة].
    روى في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام عن أبيه محمّد بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ تسعة وتسعين اسما ـ مائة إلّا واحدا (3) ـ من أحصاها دخل الجنّة ، وهي : الله (4) ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العلىّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ،
    __________________
    (1) ـ هنا كتب المؤلف فصلا أو أكثر ثم رأى حذفه وأخرج الورقة من الكتاب وشطب على القسم الباقي منه في الورقة الموجودة ولذلك لم نتمكن من إيراده.
    (2) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى 194 ـ 195 ، ح 8. الخصال : أبواب الثمانين وما فوقه : 2 / 593 ـ 594 ، ح 4. البحار : 4 / 186 ـ 187 ، ح 1.
    (3) ـ كذا. ولكن في المصدر : واحدة.
    (4) ـ اضيف هنا في التوحيد والخصال وكذا فيما نقله المجلسي ـ ره ـ عنهما في البحار : «الإله».
    والأظهر أن الصحيح ما نقله المؤلف ـ قدس‌سره ـ إذ به يصير عدد الاسماء مائة.

    العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ، الرزّاق ، الرقيب ، الرءوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الدّيان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي».
    وبإسناده (1) عن مولانا الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لله ـ عزوجل ـ تسعة وتسعون اسما ، من دعا الله بها استجاب له ، ومن أحصاها دخل الجنّة «. ورواها العامّة أيضا بأسانيد متعدّدة (2) ، باختلاف بعضها في اللفظ ، واستبدال بعض من الأسماء مكان بعض ـ فيما تضمّن التفصيل منها (3) ـ.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق 195 ، ح 9. عنه البحار : 4 / 187 ، ح 2.
    (2) ـ روى عنهم الصدوق ـ ره ـ في التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 219 ، ح 11.
    راجع الأسماء والصفات للبيهقي : باب بيان الأسماء التي من أحصاها دخل الجنّة : 1 / 28.
    (3) ـ الأسماء والصفات : الصفحة المذكورة. المستدرك للحاكم : كتاب الإيمان ، 1 / 16.
    الترمذي : كتاب الدعوات ، الباب 83 ، 5 / 530 ، ح 3507.
    كنز العمال : 1 / 448 ـ 450 ، ح 1937 ـ 1939.

    وزاد في بعضها (1) : «انّ الله وتر يحبّ الوتر».
    وإنّما خصّ هذا العدد بالذكر ـ مع أنّ أسماء الله ـ سبحانه ـ أزيد من ذلك ، بما لا يدخل تحت الضبط ، كما يستفاد من تتبّع الكتاب والسنّة ـ إمّا لاختصاص هذه بما رتّب عليه من دخول الجنّة بإحصائها واستجابة الدعوة ، أو لامتيازها من سائر الأسماء بمزيد فضل ، لجمعها أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال ما لا يجمع غيرها.
    ولا بدّ أن يكون تحت كلّ منها معنى ليس في الآخر ، ولو باشتماله على زيادة دلالة لا يدلّ عليها الآخر ، كالغنىّ والملك ، فانّ الغنيّ هو الذي لا يحتاج إلى شيء ، والملك هو الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كلّ شيء ، فيكون الملك مفيدا معنى الغنيّ وزيادة ؛ وكذلك العليم والخبير : فإنّ العليم يدلّ على العلم فقط ، والخبير يدلّ على علم بالامور الباطنة.
    وربما عجزنا عن التنصيص على خصوص ما به الافتراق بين اثنين منها ـ وإن كنّا لا نشكّ في أصل الافتراق ـ كالعظيم والكبير ، فإنّه لا يستعمل أحدهما مكان الآخر في لغة العرب ، فلا يقال : «فلان أعظم سنّا» مكان قولهم : «أكبر سنّا» ؛ وفي الحديث القدسيّ (2) : «العظمة
    __________________
    (1) ـ مسلم : كتاب الذكر ، باب في أسماء الله تعالى ، 4 / 2062 ، ح 5.
    البخاري : كتاب الدعوات ، باب لله مائة اسم غير واحد ، 8 / 109.
    (2) ـ أبو داود (باب ما جاء في الكبر : 4 / 59 ، 4090) : «قال الله عزوجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري». وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (في تفسير الفاتحة :
    36) : «يا موسى إنّ الفخر ردائي والعظمة إزاري ، ومن نازعني في شيء منهما عذّبته بناري». عنه البحار : 23 / 267 ، ح 12.

    إزاري ، والكبرياء ردائي» ، ففرّق بينهما فرقا يدلّ على التفاوت ـ وإن كنّا لا نعرفه بعينه ـ.
    وإنّما قلنا بوجوب الافتراق ، لأنّ الأسامي لا تراد لحروفها ، ومخارج أصواتها ، بل لمفهوماتها ومعانيها ، فلا يجوز أن تكون مترادفة محضة ، حيث دخل تحت الضبط في عدد مخصوص ، وإن كانت أسماء الله ـ كلّها يندرج بعضها في بعض بالمعنى ، كاندراج «النافع» تحت «اللطيف» ، و «المانع» تحت «القهار» ـ إلى غير ذلك ـ.
    ويندرج الكلّ تحت «الله» لاشتماله على جميع الصفات الإلهيّة ، والأعظم (1) مستور فيها إلّا على (2) أهله ، ولها خواصّ عجيبة ، وآثار غريبة ، ومناسبات للنفوس ، وتأثيرات فيها ، ذكرا وكتابة ووفقا (3) واستصحابا ، بشرائط مخصوصة ذكرها جماعة من أهل هذا الفنّ في كتبهم ومصنّفاتهم.
    __________________
    (1) ـ يعني الاسم الأعظم.
    (2) ـ نسخة : عن.
    (3) ـ وفق الاسم أن تأخذ مربعا وتقسمه إلى أجزاء معينة متساوية عرضا وطولا ، فيكون أجزائها ثلاثة في ثلاثة أو أربعة في أربعة أو غيرها ، ويسمى الوفق باسم عدده ؛ ثم تحسب عدد اسم مخصوص وتضع في كل جزء من الجدول عددا بحيث يكون مجموع أعداد كل قطر من الجدول في كل جهة مساويا لعدد ذلك الاسم ، شرط أن لا يتكرر عدد في جزءين من الجدول.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:22 pm

    [3]
    باب
    تنزيهه سبحانه
    (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) [17 / 43]
    فصل [1]
    رويا في كتابي الكافي والتوحيد بإسنادهما (1) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ، ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث.
    وكيف أصفه بالكيف؟ وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف.
    أم كيف أصفه بأين؟ وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا ، فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين.
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى ، 1 / 103 ، ح 12. التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 115 ، ح 14. عنه البحار : 4 / 297 ، ح 26.

    أم كيف أصفه بحيث؟ وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا ، فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث.
    فالله تعالى داخل في كلّ مكان وخارج من كلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [6 / 103] ، لا إله إلّا (هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [2 / 255] ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [6 / 103]» (1).
    وبإسنادهما الصحيح (2) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله ـ تعالى ـ خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء ـ ما خلا الله ـ فهو مخلوق ، والله خالق كلّ شيء».
    وبإسنادهما (3) عن أبيه الباقر عليهما‌السلام أنّه سئل : «أيجوز أن يقال : إنّ الله شيء»؟ قال : «نعم ؛ تخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه» (4).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    خود مكان آفرين مكان چه كند
    آسمان گر خود آسمان چه كند

    (2) ـ الكافي : باب إطلاق القول بأنه شيء ، 1 / 83 ، ح 5. التوحيد : باب أنه تبارك وتعالى شيء : 105 ، ح 3. ورويا الحديث عن الباقر عليه‌السلام أيضا بلفظه : نفس الصفحتين. البحار : 3 / 263 ، ح 20. و 3 / 322 ، ح 18. و 4 / 149 ، ح 3. راجع أيضا ما جاء في التوحيد : 58 ، ح 16.
    (3) ـ الكافي : الباب السابق : 1 / 58 ، ح 7. أيضا 1 / 82 ، ح 2 عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام بلفظه.
    التوحيد : الباب السابق : 104 ، ح 1. معاني الأخبار : 8. عنهما البحار : 3 / 260 و 262 ، ح 9 و 18. المحاسن (مصابيح الظلم ، 1 / 240 ، ح 220) : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام : أيجوز أن يقال لله : إنه موجود؟ ...». عنه البحار : 3 / 265 ، ح 29.
    (4) ـ في هامش النسخة :
    شى ام از روى حقيقت نه از آن شيء مجازى
    آفريننده اشياء وخداوند جهانم



    أقول : ويصدّق هذا الحديث قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [6 / 19].
    وبإسنادهما (1) عنه عليه‌السلام أنّه سئل عمّا يروون : «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق آدم على صورته»؟ فقال : «هي صورة محدثة مخلوقة ، اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة ، فأضافها إلى نفسه ، كما أضاف الكعبة إلى نفسه ، والروح إلى نفسه فقال : (بَيْتِيَ) [2 / 125] ، وقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [15 / 29].
    وبإسنادهما (2) عن يعقوب السراج (3) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام «إنّ بعض أصحابنا يزعم أنّ لله صورة مثل صورة الإنسان ، وقال آخر «إنّه في صورة أمرد جعد قطط (4)». فخرّ أبو عبد الله عليه‌السلام ساجدا ، ثمّ رفع رأسه فقال : «سبحان الله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11] ،
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الروح ، 1 / 134 ، ح 4. التوحيد : باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة: 103 ، ح 18. الاحتجاج : احتجاجات الباقر عليه‌السلام ، 2 / 172.
    البحار : 4 / 13 ، ح 15.
    (2) ـ التوحيد : الصفحة السابقة. عنه البحار : 3 / 304. والرواية غير موجودة في الكافي.
    (3) ـ عده البرقي (29) من أصحاب الصادق عليه‌السلام. وقال النجاشي (الترجمة : 1217. ص 451) «يعقوب السراج ، كوفي ثقة له كتاب ...» وعده الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ (الإرشاد : باب ذكر الامام الكاظم عليه‌السلام ، فصل في النصّ عليه بالإمامة : 2 / 216) ضمن «شيوخ أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وخاصّته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين رضوان الله عليهم». راجع أيضا : جامع الرواة : 2 / 347. معجم الرجال : 20 / 155.
    (4) ـ جعد الشعر ـ بضم العين وكسرها ـ جعودة : إذا كان فيه التواء وتقبّض ، فهو جعد.
    وذاك خلاف المسترسل. شعر قطّ ـ وقطط أيضا ـ شديد الجعودة (مصباح).
    وكتب في هامش النسخة : «جعد قطط : أي كثير الجعودة».

    و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [6 / 103] ولا يحيط به علم ؛ (لَمْ يَلِدْ) ـ لأنّ الولد يشبه أباه ـ (وَلَمْ يُولَدْ) ـ فيشبه من كان قبله ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) ـ من خلقه ـ (كُفُواً أَحَدٌ) تعالى عن صفة من سواه علوّا كبيرا».
    وبإسنادهما (1) عن إبراهيم بن محمد الخزّار (2) ومحمد بن الحسين (3) ـ قالا ـ : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فحكينا له (4) أنّ محمّدا رأى ربّه في صورة الشابّ الموفّق (5) ، في سنّ أبناء ثلاثين سنة ؛ وقلنا (6) : هشام بن سالم (7) وصاحب الطاق (Cool
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى : 1 / 100 ، ح 3.
    التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 113 ، ح 13. عنه البحار : 4 / 39 ، ح 18.
    راجع أيضا التوحيد : باب أنه عزوجل ليس بجسم ولا صورة ، 97 و 99 ، ح 1 و 2 و 6. البحار : 3 / 300 و 303 ، ح 33 و 37.
    (2) ـ مجهول ، لم يذكر عنه شيء غير روايته هذه. راجع معجم الرجال : 1 / 290.
    (3) ـ مجهول ، وقد جاء هذا العنوان في كثير من الروايات ، راجع معجم الرجال : 15 / 268.
    (4) ـ التوحيد : فحكينا له ما روي أن محمّدا ...
    (5) ـ قال ـ ره ـ في الوافي (1 / 407) : الموفّق : الذي وصل في الشباب إلى الكمال ، وجمع بين تمام الخلقة وكمال المعنى في الجمال ؛ أو الذي هيّئت له أسباب الطاعة والعبادة.
    (6) ـ في التوحيد : في سن أبناء ثلاثين سنة ، رجلاه في خضرة ، وقلنا أنّ هشام ...
    (7) ـ هشام بن سالم الجواليقي من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام متفق على وثاقته. راجع معجم الرجال : 19 / 297.
    (Cool ـ قال النجاشي (الترجمة 886. ص 325) : «محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي مولى ، الأحول ، أبو جعفر ، كوفي صيرفي ، يلقب مؤمن الطاق وصاحب الطاق ؛ ويلقبه المخالفون شيطان الطاق ... فأما منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر».
    وقال الشيخ (الفهرست : 323) : «محمد بن النعمان الأحول ... وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، وكان ثقة متكلما حاذقا حاضر الجواب».
    راجع التحقيق حول اسم أبيه (علي أو النعمان) في قاموس الرجال : 8 / 311 ، من الطبعة الاولى. راجع أيضا اختيار معرفة الرجال : 185. جامع الرواة : 2 / 208. معجم الرجال : 17 / 32.

    والميثمي (1) يقولون : «إنّه أجوف إلى السرّة ، والبقيّة صمد» (2). فخرّ عليه‌السلام ساجدا لله ثمّ قال :
    «سبحانك ـ ما عرفوك ولا وحّدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ؛ سبحانك ـ لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ؛ سبحانك ـ كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبّهوك بغيرك ؛! اللهم لا أصفك إلّا بما وصفت به نفسك ، ولا أشبّهك بخلقك ؛ أنت أهل لكلّ خير فلا تجعلني من القوم الظالمين».
    ثمّ التفت إلينا فقال : «ما توهّمتم من شيء فتوهّموا الله غيره» (3).
    __________________
    (1) ـ قال الكشي (اختيار : 468) : «قال حمدويه ، عن الحسن بن موسى ، قال : أحمد بن الحسن الميثمي كان واقفيا». قال النجاشي (الترجمة 179. ص 74) : «أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمّار ، مولى بني أسد ، قال أبو عمرو الكشي : كان واقفا ... وهو على كل حال ثقة ، صحيح الحديث ، معتمد عليه». جامع الرواة : 1 / 44. راجع : قاموس الرجال : 1 / 419 ـ 422. معجم الرجال : 2 / 71.
    (2) ـ قال المؤلف في الوافي (1 / 407) : والصمد يقابل الأجوف ، يعني به المصمت. وتوجيه كلامهم أنّهم زعموا أنّ العالم كله شخص واحد وذات واحدة ، له جسم وروح ؛ فجسمه جسم الكل ـ أعني الفلك الأقصى بما فيه ـ وروحه روح الكلّ ؛ والمجموع صورة الحق الإله. فقسمه الأسفل الجسماني أجوف ، لما فيه من معنى القوة الإمكانيّة والظلمة الهيولويّة ، الشبيهة بالخلإ والعدم. وقسمه الأعلى الروحاني صمد ، لأن الروح العقلي موجود فيه بالفعل ، بلا جهة إمكان استعدادي ومادّة ظلمانيّة ـ تعالى الله عن التشبيه والتمثيل ...». ولا يخفى أن توجيه كلامهم ـ لو صحّ عنهم ـ بمثل هذه الوجوه لا يخلو عن التكلّف.
    (3) ـ في هامش النسخة :
    هرچه در وهم تو گنجد كه من آنم ، نه من آنم
    هرچه در خاطرت آيد كه چنانم ، نه چنانم

    هرچه در فهم تو گنجد ، همه مخلوق بود آن
    در حقيقت تو بدان بنده كه من خالق آنم



    ثمّ قال : «نحن ـ آل محمّد ـ النمط الأوسط ، الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي ؛
    يا محمّد ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نظر إلى عظمة ربّه ، كان في هيئة الشابّ الموفّق ، وسنّ أبناء ثلاثين سنة.
    يا محمّد ، عظم ربّي وجلّ أن يكون في صفة المخلوقين».
    ـ قال : ـ قلت : «جعلت فداك ، من كانت رجلاه في خضرة»؟
    قال : «ذلك محمّد ، كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه ، جعله في نور ، مثل نور الحجب ، حتّى يستبين له ما في الحجب ؛ إنّ نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك(1).
    يا محمّد ، ما شهد به (2) الكتاب والسنّة ، فنحن القائلون به».
    وبإسنادهما (3) الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عمّا يروون من الرؤية. فقال :
    «الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ، ليس دونها سحاب».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : إنّ نور الله منه أخضر ما أخضر ، ومنه أحمر ما أحمر ، ومنه أبيض ما أبيض ، ومنه غير ذلك.
    (2) ـ الكافي : شهد له.
    (3) ـ الكافي : باب في إبطال الرؤية : 1 / 98 ، ح 7.
    التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 108 ، ح 3.
    عنه البحار : 4 / 44 ، ح 22 و 58 / 28 ح 45 و 58 / 43 ، ح 5 و 58 / 161 ، ح 15.

    وبإسنادهما (1) عن أحمد بن إسحاق (2) ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالثعليهما‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس؟ فكتب : «لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه (3) ، لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لا بدّ له من اتّصالها بالمسبّبات» (4).
    __________________
    (1) ـ الكافي ، الباب السابق : 97 ، ح 4. التوحيد ، الباب السابق : 109 ، ح 7. عنه البحار : 4 / 34 ، ح 13. وجاء في الاحتجاج (2 / 486) : «فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية ، وفي وجوب اتصال الضياء بين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه ...». عنه البحار : 4 / 34.
    (2) ـ يظهر أنه أحمد بن إسحاق الأشعري القمي ، قال النجاشي (الترجمة : 225. ص 91) «... وكان وافد القميين ، وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن عليهما‌السلام ، وكان خاصّة أبي محمد عليه‌السلام».
    راجع معجم الرجال : 2 / 43 و 2 / 46. قاموس الرجال : 1 / 393 ـ 398.
    (3) ـ أي متى كان كذلك ، كان الله مشتبها بخلقه ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ (الوافي : 1 / 381).
    (4) ـ كتب المؤلّف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    وبإسنادهما عن محمد بن عبيد ، قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما يرويه العامة والخاصة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب بخطه :
    «اتفق الجميع ـ لا تمانع بينهم ـ أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، فإذا جاز أن يرى الله بالعين ووقعت المعرفة ضرورة ، ثمّ لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا ، أو ليست بإيمان ـ لأنها ضدّه ـ فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا ، فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان ، لأنها ضده ، فلا يكون في الدنيا مؤمن ، لأنهم لم يروا الله عزّ ذكره ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا ، لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ، ولا تزول في المعاد. فهذا دليل على أن الله ـ تعالى ذكره ـ لا يرى بالعين ، إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه».

    أقول : الرؤية الممتنعة على الله ـ جلّ جلاله ـ إنّما هي رؤية العين ، وأمّا رؤية القلب فليست بممتنعة عليه ـ جلّ وعزّ ـ وعليه تحمل الآيات والأخبار الدالّة على جوازها.
    يدلّ على ذلك ما رواه في كتاب التوحيد (1) بسند حسن ، عن مرازم (2) ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ سمعته يقول : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ـ عزوجل بقلبه (3)».
    وفي رواية اخرى رواها بإسناده فيه عنه عليه‌السلام (4) : «أما سمعت الله ـ عزوجل ـ يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [53 / 11]؟ لم يره بالبصر ، ولكن رآه بالفؤاد».
    وبإسناده (5) عن أبي بصير (6) ، عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت له : «أخبرني
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق ، 116 ، ح 16. عنه البحار : 4 / 43 ، ح 19.
    (2) ـ قال النجاشي : «مرازم بن حكيم الأزدي المدائني ، مولى ، ثقة ... يكنى أبا محمّد ؛ روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام ومات في أيام الرضا عليه‌السلام».
    (3) ـ في المصدر وكذا المنقول عنه في البحار (4 / 43) : «رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربه عزوجل ـ يعني بقلبه». والجملة «يعني بقلبه» من كلام الصدوق ـ ره ـ على ما هو ظاهر.
    (4) ـ التوحيد : الباب السابق : 116 ، ح 17. والراوي محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام وليست عن الصادق عليه‌السلام. عنه البحار : 4 / 43 ، ح 19.
    (5) ـ التوحيد : باب ما جاء في الرؤية : 117 ، ح 20. عنه البحار : 4 / 44 ـ 45 ، ح 24.
    (6) ـ ابو بصير كنية عدة من الرواة ، وعند الإطلاق فالأظهر أن المراد به «يحيى بن القاسم الأسدي» ويحتمل كونه مرددا بينه وبين ليث بن البختري (معجم الرجال : 14 / 140) وكلاهما ثقتان.
    قال الشيخ في أصحاب الصادق عليه‌السلام (الرجال : 333 ، رقم 9) : «يحيى بن القاسم ، أبو محمد ، يعرف بأبي بصير (ن ـ أبي نصير) الأسدي ، مولاهم ، كوفي ، تابعي ؛ مات سنة خمسين ومائة ، بعد أبي عبد الله عليه‌السلام». وقال النجاشي (الترجمة 1187 ، ص 441) : «أبو بصير الأسدي ، وقيل : أبو محمد ، ثقة ، وجيه ، روى عن أبي جعفر ـ

    عن الله ـ عزوجل ـ هل يراه المؤمنون يوم القيامة»؟
    قال : «نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة».
    فقلت : «متى»؟ قال : «حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [7 / 172] ـ ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال : ـ «وإنّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة ؛ ألست تراه في وقتك هذا»؟.
    قال أبو بصير : «فقلت له : ـ جعلت فداك ـ فاحدّث بهذا عنك»؟
    فقال : «لا ؛ فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ـ ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر ـ وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ـ تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون».
    وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : رأيته فعرفته فعبدته ؛ لم أعبد ربّا لم أره.
    وعنه عليه‌السلام (2) : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله».
    __________________
    ـ وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل : يحيى بن أبي القاسم ، واسم أبي القاسم ، اسحاق ، وروى عن أبي الحسن موسى عليهما‌السلام». والجدير بالذكر أن لصاحب قاموس الرجال ـ قدس‌سره ـ رسالة فى المكنّين بأبي بصير ، طبعت ملحقة بقاموس الرجال (11 / 59 ـ 176 ، الطبعة الأولى) راجع التحقيق حول أبي بصير ـ هذا ـ في 137 ـ 176 منها.
    (1) ـ في التوحيد (109 ، ح 6) عن الصادق عليه‌السلام : «جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ، ما كنت أعبد ربّا لم أره.
    قال : كيف رأيته؟ قال : ويلك ـ لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». البحار : 4 / 44 ، ح 23.
    وقال عليه‌السلام في جواب ذعلب (نهج البلاغة : الخطبة 179) ـ وقد سأله : «هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين»؟ ـ : «أفأعبد ما لا أرى»؟ فقال ذعلب : «وكيف تراه»؟
    فقال عليه‌السلام : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ...». رواه الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد : باب حديث ذعلب ، 305. عنه البحار : 4 / 27 ، ح 2 و 4 / 52 ، ح 28.

    فصل [2]
    [التنزيه والتشبيه]
    قد دلّت العقول السليمة والأفهام المستقيمة على تنزيهه ـ تعالى ـ عمّا لا يليق بجنابه المقدّس ؛ مثل الجسميّة والصورة والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد ، وكونه محلّا للحوادث ، أو في جهة أو مكان أو زمان ، وكونه مرئيّا بالبصر ، أو مدركا بشيء من الحواسّ ، أو مكتنها بشيء من العقول ـ وغير ذلك من النقائص التي هي من صفات الممكنات والمعلولات.
    وما في الكتاب والسنّة ممّا يدلّ على ذلك ممّا ذكرناه وما لم نذكره ، أكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يخفى.
    ولكن بإزائها ممّا يدلّ بظاهره على التشبيه ـ أيضا ـ كثير ، كما هو متواتر منهما ؛ فمن الناس من أخذ بالأوّل ، وأوّل الثاني ، ومنهم من عكس.
    ولا تنافي في الواقع وعند المحقّق ، إذ لا تشبيه ولا تعطيل ؛ ولكن لمّا كانت أفهامهم قاصرة عن إدراك ما هو الحقّ فيه ، وإنّما كلّمهم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ على قدر عقولهم : يرون الألفاظ متناقضة في الظاهر ، ويتيهون فيه كالعميان والفيل ـ
    __________________
    (2) ـ قال المؤلف (عين اليقين : 305) : «قال بعض السالكين : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله بعده. فلما ترقوا عن تلك المرتبة درجة من المشاهدة والحضور قالوا : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله فيه. فلما ترقوا قالوا : ما رأينا شيئا إلا ورأينا الله قبله. فلما ترقوا قالوا : ما رأينا شيئا سوى الله».

    والقصّة مشهورة (1).
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن محمد بن عبيد (3) ، قال : دخلت على الرضاعليه‌السلام فقال لي :
    «قل للعباسي (4) : يكفّ عن الكلام في التوحيد وغيره ، ويكلّم الناس بما يعرفون ، ويكفّ عمّا ينكرون. وإذا سألوك عن التوحيد ، فقل كما قال الله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ
    __________________
    (1) ـ جاء في الدفتر الثالث من المثنوي (الأبيات : 1261 ـ 1269 ، ص 352) :
    پيل اندر خانه تاريك بود
    عرضه را آورده بودندش هنود

    از براى ديدنش مردم بسى
    اندر آن ظلمت همى شد هركسى

    ديدنش با چشم چون ممكن نبود
    اندر آن تاريكيش كف مى بسود

    آن يكى را كف به خرطوم اوفتاد
    گفت همچون ناودانست اين نهاد

    آن يكى را دست بر گوشش رسيد
    آن برو چون بادبيزن شد پديد

    آن يكى را كف چو بر پايش بسود
    گفت شكل پيل ديدم چون عمود

    آن يكى بر پشت او بنهاد دست
    گفت خود اين پيل چون تختى بدست

    همچنين هريك به جزوى كه رسيد
    فهم آن مى كرد هرجا مى شنيد

    از نظرگه گفتشان شد مختلف
    آن يكى دالش لقب كرد اين الف

    در كف هركس اگر شمعى بدى
    اختلاف از گفتشان بيرون شدى

    (2) ـ التوحيد : باب معنى قل هو الله أحد : 95 ، ح 14.
    عنه البحار : 2 / 69 ، ح 24. و 3 / 221 ، ح 11. و 4 / 297 ، ح 25.
    (3) ـ مجهول ، لم يذكر عنه شيء في كتب رجال الحديث ، غير أنه روى حديثا عن الرضا عليه‌السلام في الكافي ، وروى عن عبد الله بن موسى وعبيد بن هارون.
    راجع معجم الرجال : 16 / 263.
    (4) ـ هشام بن إبراهيم العباسي ، يظهر أنه كان متشيّعا ثم تزندق. فقد روى الكشي (اختيار : ما روي في هشام بن إبراهيم العباسي : 501) عن الريان بن الصلت : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : «إن هشام بن إبراهيم العباسي زعم أنك أحللت له الغناء»؟ فقال : «كذب الزنديق ...». راجع قرب الإسناد : باب قرب الإسناد عن الرضا عليه‌السلام : 342 ، ح 1250. معجم الرجال : 19 / 260.

    وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [112 / 1 ـ 4] ؛ وإذا سألوك عن الكيفيّة ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11] ؛ وإذا سألوك عن السمع ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [2 / 137] ؛ كلّم الناس بما يعرفون».
    وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (1) ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (2) ، عن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ـ قال : ـ قال لي : «يا أحمد ، ما الخلاف بينكم وبين أصحاب هشام بن الحكم في التوحيد»؟
    فقلت : «جعلت فداك ـ قلنا نحن بالصورة ، للحديث الذي روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه في صورة شابّ ، وقال هشام بن الحكم بالجسم (3)».
    فقال : «يا أحمد ـ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اسري به إلى السماء وبلغ عند سدرة المنتهى ، خرق له في الحجب مثل سمّ الإبرة (4) ، فرأى من نور العظمة ما شاء الله أن يرى ؛ وأردتم أنتم التشبيه ؛ دع هذا ـ يا أحمد ـ لا ينفتح عليك أمر عظيم (5)».
    __________________
    (1) ـ تفسير القمي : المقدمة ، في الرد على من أنكر الرؤية : 1 / 48. عنه البحار : 3 / 307 ، ح 45.
    (2) ـ قال النجاشي (الترجمة : 180 ، ص 75) : أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر زيد مولى السكون ، أبو جعفر المعروف بالبزنطي ، كوفي لقي الرضا وأبا جعفر عليهما‌السلام ، وكان عظيم المنزلة عندهما». وعده الشيخ في رجاله من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام. راجع معجم الرجال : 2 / 231.
    (3) ـ كذا. ولكن في المصدر : «بالنفي للجسم». والمنقول عنه في البحار : «بالنفي بالجسم».
    (4) ـ سمّ الإبرة ثقبها.
    (5) ـ المصدر : هذا أمر عظيم. البحار : منه أمر عظيم.

    وقد يقال : إن السرّ في ذلك أنّ ذاته ـ سبحانه ـ من حيث هي منزّه عن التنزيه والتشبيه جميعا ، ومن حيث مراتب أسمائه وصفاته ومعيّته بالأشياء يتّصف بالأمرين من غير فرق ؛ كما ورد في الحديث القدسيّ الصحيح المتفق عليه (1) : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل ، حتّى احبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ...» ـ الحديث.
    وفي كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام في قوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [43 / 55] :
    «إنّ الله ـ سبحانه ـ لا يأسف كأسفنا ، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون (3) ، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه ، لأنّه جعلهم الدعاة إليه ، والأدلّاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك ، وليس ذلك (4) يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، لكن هذا معنى ما قال من ذلك. وقد قال : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها». وقال أيضا : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
    __________________
    (1) ـ البخاري : الرقاق ، باب التواضع ، 8 / 131. وجاء في التوحيد (باب أنّ الله لا يفعل بعباده إلا الأصلح : 400) : «... ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتّى احبّه ، ومتى أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ...».
    راجع ألفاظه المختلفة في كنز العمال : 1 / 229 ـ 231 ، ح 1155 ـ 1161.
    (2) ـ التوحيد : باب معنى رضاه عزوجل وسخطه : 168 ، ح 2. مع فروق يسيرة. معاني الأخبار : باب معنى رضى الله عزوجل وسخطه ، 19 ، ح 2.
    عنهما البحار : 4 / 65 ، ح 6.
    (3) ـ المصدر : مدبرون.
    (4) ـ المصدر : ذلك أن.

    أَطاعَ اللهَ) [4 / 80]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [48 / 10]. فكلّ هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ، مما يشاكل ذلك.
    ولو كان يصل إلى المكوّن الأسف والضجر ـ وهو الذي أحدثهما وأنشأهما ـ لجاز لقائل أن يقول : إنّ المكوّن يبيد يوما ، لأنّه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير ، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة ، ولو كان ذلك كذلك ، لم يعرف المكوّن من المكوّن ، ولا القادر من المقدور ، ولا الخالق من المخلوق ـ تعالى الله عن هذا القول علوّا كبيرا ـ.
    هو الخالق للأشياء لا لحاجة ، فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه ـ فافهم ذلك إن شاء الله».
    فصل [3]
    [الله تعالى قديم]
    لا يجوز على الله ـ عزوجل ـ العدم بوجه من الوجوه ، وإلّا لما كان وجوده واجبا ، ولا أزليّا ؛ فيكون محتاجا ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
    وأيضا : الشيء لا يقتضي عدم نفسه ، وإلّا لما تحقّق.
    وهو ـ جلّ جلاله ـ وحدانيّ لا شرط له في ذاته ، وما سواه تابع ؛ وإذ لا شرط له ولا مضادّ له ، فلا مبطل له ؛
    فهو إذن قيّوم دائم. لا يقال له : «متى؟» ، ولا يضرب له أمد ب «حتّى».

    سئل مولانا الباقر عليه‌السلام (1) عن الله : «متى كان؟».
    فقال : «متى لم يكن ، حتّى اخبرك : متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فردا ، صمدا ، لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا».
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) : «إنّما يقال : «متى كان؟» لما لم يكن ؛ فأمّا ما كان ، فلا يقال : «متى كان؟» ؛ كان قبل القبل بلا قبل. وبعد البعد بلا بعد ، ولا منتهى غاية لتنتهي غايته».
    وقال أيضا (3) : «سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله».
    __________________
    (1) ـ السائل : نافع بن الأزرق. كما في الكافي (كتاب التوحيد ، باب الكون والمكان : 1 / 88 ، ح 1). وفي روضة الكافي (122 ، ح 93) عن نافع مولى عمر بن الخطاب. ومثله في الاحتجاج (احتجاج أبي محمد الباقر عليه‌السلام في شيء مما يتعلق بالاصول والفروع : 2 / 166). ورواه الصدوق ـ أيضا ـ في التوحيد (باب نفي المكان : 173 ، ح 1) وفيه : «... ويلك! أخبرني أنت متى لم يكن ...». البحار عنه وعن تفسير القمي : 3 / 284 ، ح 3.
    وجاء ما يقرب منه عن الرضا عليه‌السلام أيضا في الكافي : كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، 1 / 78 ، ح 3. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء من الأخبار في التوحيد ، 1 / 132 ، ح 28. البحار : 3 / 37 ، ح 12. وكذا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 77 ، ح 33.
    (2) ـ الكافي : باب الكون والمكان : 1 / 90 ، ح 5. وما يقرب منه أيضا في التوحيد : الباب السابق ، 174 ، ح 3 ، وأمالي الصدوق ـ قدس‌سره ـ : المجلس السادس والتسعون ، 769 ، ح 1. والاحتجاج : احتجاجه عليه‌السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه ... : 1 / 496. والسائل حبر من الأحبار. البحار : 3 / 283 ، ح 1.
    (3) ـ الكافى : كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد : 1 / 139 ، ح 4. نهج البلاغة : الخطبة 184. التوحيد : باب حديث ذعلب ، 308 ، ح 2. البحار : 4 / 305 ، ح 34.

    فصل (1) [4]
    وإذ ليست له ـ جلّ جلاله ـ جهة فقر أصلا ، فلا أغنى منه ، ولا أتمّ ، ولا أشدّ ولا أقدم ؛ بل هو غير متناه فى الغناء والتماميّة والشدّة والتقدّم (2). إذ لو كان متناهيا في شيء من ذلك ، لكان تتصوّر مرتبة فوقه ، يكون فاقدا لها ، مفتقرا إليها ـ تعالى عنه وتقدّس ـ فلا يحدّه حدّ ، ولا يضبطه رسم ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [20 / 110 ـ 111].
    فصل [5]
    وإذ ليس سبحانه فاقدا لشيء فهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [41 / 54] (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) [58 / 7] (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [57 / 4] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [2 / 186] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [56 / 85] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (3) [50 / 16] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [41 / 54].
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 303.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    برى ذاتش از تهمت ضدّ وجنس
    غنى ملكش از طاعت جنّ وانس

    (3) ـ في هامش النسخة :
    دوست نزديكتر از من به من است
    وين عجبتر كه من از وى دورم

    چه كنم با كه توان گفت كه يار
    در كنار من ومن مهجورم



    «لو أنّكم أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» (1).
    و : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [2 / 115].
    وفي كتاب التوحيد (2) ، بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه سئل عن وجه الربّ ـ تبارك وتعالى ، فدعا بنار وحطب ، فأضرمه ، فلمّا اشتعلت ، قال : «أين وجه النّار»؟
    قال السائل : «هي وجه من جميع حدودها».
    قال : «هذه النار مدبّرة مصنوعة ، لا يعرف وجهها ؛ وخالقها لا يشبهها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [2 / 115] ؛ لا يخفى على ربّنا خافية».
    وفيه (3) وفي الكافي (4) بإسناديهما ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام : أنّه قال رجل عنده : «الله أكبر».
    فقال عليه‌السلام : «الله أكبر من أيّ شيء»؟
    فقال : «من كلّ شيء».
    فقال الصادق عليه‌السلام : «حدّدته».
    فقال الرجل : «كيف أقول»؟
    __________________
    (1) ـ الترمذي : كتاب التفسير ، السورة 58 ، 5 / 404 ، ح 3298 ، وفيه : «دليتم بحبل».
    (2) ـ التوحيد : باب نفي المكان والزمان والحركة عنه تعالى ، 182 ، ح 16. والسائل الجاثليق.
    عنه البحار : 3 / 328 ، ح 28.
    (3) ـ التوحيد : باب معنى الله أكبر : 312 ، ح 1. ورواه أيضا في معاني الأخبار : نفس الباب : 11. البحار : 93 / 219 ، ح 2.
    (4) ـ الكافي : باب معاني الأسماء : 1 / 117 ، ح 8.

    قال : «قل : الله أكبر ، أكبر من أن يوصف» (1).
    وفي رواية اخرى (2) : «وكان ثمّة شيء ، فيكون أكبر منه».
    واعلم أنّ معيّته ـ سبحانه ـ للأشياء ليست بممازجة ، ولا مداخلة ، ولا حلول ، ولا اتّحاد ، ولا معيّة في درجة الوجود ، ولا في الزمان ، ولا في الإشارة ، ولا ما يشبه هذه ـ تعالى الله عن ذلك كلّه علوّا كبيرا (3).
    * * *
    __________________
    (1) ـ قال المؤلف في شرح الرواية (الوافى : 1 / 476) : «حدّدته ـ بالتشديد ـ من التحديد ؛ أي جعلت له حدا محدودا. وذلك لأنه جعله في مقابلة الأشياء ووضعه في حد ، والأشياء في حد آخر ، وازن بينهما ؛ مع أنّه محيط بكل شيء ، لا يخرج عن معيّته وقيّوميّته شيء. كما أشار إليه بقوله عليه‌السلام : «وكان ثمّ شيء» يعني مع ملاحظة ذاته الواسعة وإحاطته بكلّ شيء ومعيّته للكلّ لم يبق شيء تنسبه إليه بالأكبريّة ؛ بل كلّ شيء هالك عند وجهه الكريم ، وكلّ وجود وكمال وجود مضمحلّ في مرتبة ذاته ووجوده القديم».
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 313. الكافي : الباب السابق : 118.
    (3) ـ عين اليقين : 305 ـ 306.

    [4]
    باب
    صفاته العليا تبارك وتعالى
    (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [37 / 180]
    فصل [1]
    [إنّه تعالى كامل بالذات ومصدر كل كمال]
    قال بعض أهل التحقيق : (1) إنّ كل كمال لموجود بما هو موجود (2) ، فلا بدّ وأن ينتهي إلى كامل بالذّات في ذلك الكمال ، وكلّ كامل بالذات ـ في كمال ما ـ يجب أن يكون غنيّا بالذات في ذاته إذ لو افتقر في ذاته إلى الغير لافتقر في كماله أيضا إلى ذلك الغير ـ وهو ظاهر ـ.
    __________________
    (1) ـ لم أعثر على النصّ وإن كان المضمون موجودا في كتب الحكماء.
    (2) ـ كتب في الهامش :
    «إنما قيّد الكمال الموجود بكونه «كمالا بما هو موجود» لأنه قد يثبت بعض الكمالات لبعض الموجودات لا من هذه الحيثية ، بل من حيثيات أخرى كالصلابة للجسم ، والكرويّة للشكل ـ إلى غير ذلك ـ ولا يلزم فيها الانتهاء إلى كامل بالذات ، ولا يصحّ أيضا اتّصاف الله تعالى بشيء منها ـ فافهم ـ منه».

    وقد ثبت أنّ الغنيّ بالذّات في ذاته واحد ، فجميع الكمالات ينتهي إليه. فله ـ سبحانه ـ من كلّ متقابلين للموجود ـ بما هو موجود ـ أشرفهما ـ على وجه يليق بجلاله ـ وكلّ متقابلين يكونان كلاهما صفة كمال للموجود ـ بما هو موجود ـ فكلاهما ثابتان له ـ عزوجل ـ على الوجه الأكمل ، كالنعوت الجلاليّة والجماليّة ، المعبّر عنهما في القرآن المجيد بقوله ـ عزّ اسمه ـ : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [55 / 27] وذلك مثل اللطف والقهر ، والرحمة والغضب ، والرضا والسخط ـ وغير ذلك ـ ولا يكاد أن يخلوان عن اشتراك ما ؛ فإنّ تحت كلّ جمال جلالا ـ كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهي من انقهار العقل منه وتحيّره فيه ـ وتحت كلّ جلال جمالا ـ كاللطف المستور في القهر الإلهي ؛ كما قال ـ عزوجل ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [2 / 179].
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «سبحان من اتّسعت رحمته لأوليائه ، في شدّة نقمته ، واشتدّت نقمته لأعدائه فى سعة رحمته».
    ومن هنا يعلم سرّ قول نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات».
    __________________
    (1) ـ في نهج البلاغة (الخطبة : 90) : «الحمد لله المعروف من غير روية ... هو الذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته ، واتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته».
    (2) ـ مسلم : كتاب الجنّة وصفة نعيمها ، الحديث الأول : 4 / 2174. شعب الإيمان : باب الصبر ، فصل أي الناس أشد بلاء ، 7 / 147 ، ح 9795. وجاء في نهج البلاغة (الخطبة :176) : «فإنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يقول :» إنّ الجنة حفّت بالمكاره وإنّ النار حفّت بالشهوات». عنه البحار : 70 / 78.
    وفي البخاري (الرقاق ، باب حجبت النار بالشهوات ، 8 / 127) بلفظ : «حجبت النار بالشهوات ، وحجبت الجنة بالمكاره».

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:25 pm

    وصل [2]
    [اتّصافه ـ سبحانه ـ بصفات الجلال والجمال]
    ليس اتّصافه ـ سبحانه ـ بكلتي المتقابلتين بالذّات ؛ كيف وهما متنافيتان ، وهو الله ـ جلّ جلاله ـ أحديّ الذات ، بسيط الحقيقة.
    بل اتّصافه بالذات ليس إلا بالصفات الجماليّة ؛ وأمّا الجلاليّة فإنّما يتّصف بها بالإضافة ، فإنّ للموجودات درجات بعضها فوق بعض ؛ فكلّ ما هو أقرب إليه جلّ جلاله ، فآثار صفات الجمال عليه أغلب ، وظهورها فيه أكثر ؛ وكلّ ما هو أبعد منه فهو بخلاف ذلك.
    فالمغضوب عليه إنّما هو مغضوب عليه بالإضافة إلى ما درجته أعلى منه ، وليس بمغضوب عليه على الإطلاق ، كيف ـ ورحمته ـ عزوجل ـ وسعت كلّ شيء ، فإنّ أصل الوجود رحمته.
    وكذلك القهر والبغض والكراهة ـ ونظائرها ـ فإنّها ليست بالنسبة إلى موجود ما ـ على الإطلاق ـ لأن الوجود كلّه محبوب ومراد ، وهو خير كلّه. وأمّا سرّ هذا الاختلاف : فلتفاوت درجات المستحقّين بحسب استعداداتهم الذاتيّة ـ كما يأتي تحقيقه ـ.
    قال مولانا الباقر عليه‌السلام : (1) «إنّ الله الحليم العليم إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه ... ـ الحديث».
    __________________
    (1) ـ الكافي : رسالة أبي جعفر عليه‌السلام إلى سعد الخير : 8 / 52 ، ح 16. عنه البحار : 78 / 359.

    (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [4 / 79] (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (1) [16 / 33].
    ومن هنا يظهر سرّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (2) : «سبقت رحمته غضبه».
    فصل [3]
    [كمالاته تعالى عين ذاته]
    ولمّا كانت كمالاته ـ عزوجل ـ ذاتيّة ، فهي جميعا حاصلة له بالفعل دائما ، وإلا لافتقر إلى مخرج لها من القوّة إلى الفعل ـ فلم تكن ذاتيّة ـ وللزم التركّب في ذاته ـ عزوجل ـ من جهتي قوّة وفعل ؛ تعالى عنه.
    ويجب أن يكون جميعا عين ذاته وجودا وعينا وفعلا وتأثيرا ؛ بمعنى أنّ ذاته تعالى بذاته يترتّب عليه آثار جميع الكمالات ، ويكون هو من حيث ذاته مبدءا لانتزاعها منه ، ومصداقا لحملها عليه ، وإن كانت
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    هرچه هست از قامت ناساز نازيباى ماست
    ور نه تشريف تو بر بالاى كس كوتاه نيست

    (2) ـ أخرج البخاري (كتاب التوحيد ، باب لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، 9 / 165) : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه : إنّ رحمتي سبقت غضبي» راجع ما يقرب منه أيضا : 9 / 153. و 9 / 147 منه. ومسلم كتاب التوبة : باب سعة رحمة الله تعالى ، 4 / 2107 ـ 2108 ، ح 14 ـ 16. والترمذي : كتاب الدعوات ، باب خلق الله مائة رحمة ، 5 / 549 ، ح 3543. وابن ماجة : المقدمة ، باب فيما أنكرت الجهميّة ، 1 / 67 ، ح 189.

    هي غيره من حيث المفهوم والمعنى ؛ وذلك لجواز أن توجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود واحد.
    وإنّما قلنا بوجوب كونها عينه ـ تعالى ـ بهذا المعنى لأنّها لو كانت زائدة على ذاته ـ تعالى ـ وجودا لافتقر إليها في حدّ ذاته ، فلا يكون غنيّا بالذات من جميع الجهات ـ تقدّس ربّنا عن ذلك ـ.
    وأيضا : لو كانت زائدة على ذاته ، لزم أن يكون في حدّ ذاته ناقصا ، فلا يكون غير متناه في التماميّة ـ تعالى عنه.
    وأيضا : لو كانت زائدة على ذاته ، فلا تخلو إمّا أن تكون مستندة إلى غيره ـ كيف ، وليس ورائه شيء؟! ـ أو إلى ذاته ـ كيف ، ومفيض الكمال لا يكون قاصرا عنه؟! ـ.
    وأيضا : فيضانها من ذاته على ذاته ، تستدعى جهة أشرف ممّا عليه ذاته ، فيكون ذاته أشرف من ذاته ـ وهذا محال ـ ... كذا قيل (1).
    أقول : ويلزم أن يكون ذاته من حيث هو بلا كمال أشرف منه من حيث هو كامل ، لأنّه بالاعتبار الأوّل مفيض وبالاعتبار الثاني مستفيض ـ وهذا أشنع! ونزيدك في الإيضاح فاسمع :
    __________________
    (1) ـ الفصل مقتبس من الأسفار الأربعة : الفصل الرابع من الموقف الثاني من السفر الثالث ، 6 / 134. والمبدأ والمعاد : الفصل الأول من المقالة الثانية من الفن الأوّل : 72.

    فصل (1) [4]
    [الواجب تعالى واجد كل كمال ومفيضه]
    قال بعض المحقّقين (2) ما حاصله أنّه : كما أنّ مفيض الوجود ليس مسلوب الوجود في مرتبة ، فكذلك واهب الكمال لا يجوز أن يكون ممنوّا في حدّ ذاته ، إذ المفيض لا محالة أكرم وأعلى وأمجد من المفاض عليه.
    فكما أنّ في الوجود وجودا قائما بالذات ، غير متناه في التأكّد ـ وإلّا لم يتحقّق وجود بالغير ـ فكذلك يجب أن يكون في العلم علم متأكّد قائم بذاته ، وفي الاختيار اختيار قائم بذاته ، وفي القدرة قدرة قائمة بذاتها ، وفي الإرادة إرادة قائمة بذاتها ، وفي الحياة حياة قائمة بذاتها ؛ حتّى يصحّ أن يكون هذه الأشياء في شيء لا بذواتها ـ بل بغيرها ـ (3).
    فإذن : فوق كلّ ذي علم عليم بذاته ، وفوق كلّ ذي قدرة قدير بذاته ، وفوق كلّ ذي سمع سميع بذاته ، وفوق كلّ ذي بصر بصير بذاته ـ إلى غير ذلك من صفات الكمال.
    ويجب أن يكون جميع ذلك واحدا حقيقيّا بالوجود ـ لامتناع تعدّد الغنيّ بالذات ـ فهو الله ـ عزوجل ـ كما قيل (4) : «وجود كلّه ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 306.
    (2) ـ راجع المبدأ والمعاد : 72.
    (3) ـ راجع التعليقات لابن سينا : 52.
    (4) ـ نسبه صدر المتألهين ـ قدس‌سره ـ في الأسفار (6 / 121) إلى الفارابي ، ولم أعثر على النص فيما عندي من كتبه ، والأظهر أن المؤلف حكاه عنه اعتمادا على ما أورده استاده ـ قدس‌سرهما ـ ولعل ما أورده صدرا أيضا نقل المعنى.

    علم كلّه ، وجوب كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ؛ لا أنّ شيئا منه علم ، وشيئا آخر قدرة ـ ليلزم التركّب في ذاته ـ ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ، ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقيّة ـ».
    يعنى أنّ ذاته بذاته ـ من حيث هو هو ، مع كمال فرديّته ـ منشأ لهذه الصفات ، ومستحقّ لهذه الأسماء ، لا بحيثيّة اخرى وراء حيثيّة ذاته. وليس هو لأجل اتّصافه بها ذا معان متميّزة ، متخصّصة بأسماء متعدّدة ؛ بل كما أنّا نقول لكلّ واحد من موجودات العالم: «إنّه معلومه ، ومقدوره ، ومراده» من غير أن نثبت فيه معان شتّى : فكذلك نصف موجده بالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، مع كونه أحديّا فردا ، بل كلّ صفة من صفاته عين صفته الاخرى ، وما ندركه بصفة ، يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف هناك. ونعم ما قيل :
    عباراتنا شتّى وحسنك واحد
    وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

    * * *
    روي في كتاب نهج البلاغة (1) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ...».
    ـ الحديث ، ويأتي تمامه فيما بعد (2) إن شاء الله تعالى ـ.
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة الاولى.
    (2) ـ راجع الفصل الرابع من الباب الخامس من هذا المقصد.

    وفي كتاب التوحيد (1) : بإسناده الصحيح ، عن هشام بن سالم ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال لي : «أتنعت الله»؟
    قلت : «نعم».
    قال : «هات».
    فقلت : «هو السميع البصير».
    قال : «هذه صفة يشترك فيها المخلوقون».
    قلت : «فكيف تنعته»؟
    فقال : «هو نور لا ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه ، وعلم لا جهل فيه ، وحق لا باطل فيه».
    فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد.
    وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (2) ـ قال : ـ «هو نور ليس فيه ظلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل ليس فيه جور ، وحق ليس فيه باطل ؛ كذلك لم يزل ولا يزال ، أبد الآبدين ، وكذلك كان إذ لم يكن أرض ولا سماء ، ولا ليل ولا نهار ، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ، ولا سحاب ولا مطر ولا رياح.
    وبإسناده عن مولانا الكاظم عليه‌السلام (3) ـ قال : ـ «علم الله لا يوصف منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حدّ».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 146 ، ح 14. البحار : 4 / 70 ، ح 16.
    (2) ـ التوحيد : باب القدرة : 128 ، ح 8. البحار : 3 / 306 ، ح 44.
    (3) ـ التوحيد : باب العلم ، 138 ، ح 16. عنه البحار : 4 / 86 ، ح 22.

    وبإسناده (1) عن محمد بن عروة (2) ـ قال : ـ قلت للرضا عليه‌السلام : «خلق الله الأشياء بقدرة ، أم بغير قدرة (3)»؟ فقال : «لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة ، لأنّك إذا قلت : «خلق الأشياء بالقدرة» فكأنّك قد جعلت القدرة شيئا غيره ، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء ، وهذا شرك ؛ وإذا قلت : «خلق الأشياء بقدرة» فإنّما تصفه أنّه جعلها باقتدار عليها وقدرة ، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره».
    وبإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام (4) أنّه قال : «سميع بصير ؛ يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع». وقال : «واحد [أحد صمد] (5) أحديّ المعنى ، ليس بمعان كثيرة مختلفة».
    وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (6) : «هو سميع بصير ؛ سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ؛ بل سميع لنفسه ، وبصير لنفسه. وليس قولي :
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القدرة ، 130 ، ح 12. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب 11 ، 1 / 117 ، ح 7.
    عنه البحار : 4 / 136 ، ح 3.
    (2) ـ كذا في النسخة وبعض نسخ العيون. ولم يرد بهذا العنوان في كتب رجال الحديث ، ولكنه في التوحيد وبعض نسخ العيون والمحكي عنه في البحار : محمد بن عرفة.
    روى عن الصادق والرضا عليه‌السلام ، ولم يرد قول في جرحه أو توثيقه. راجع معجم الرجال : 16 / 282.
    (3) ـ المصدر : بالقدرة أم بغير القدرة.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 144 ، ح 9. عنه البحار : 4 / 69 ، ح 14. ورواه أيضا صاحب الكافي : باب صفات الذات ، 1 / 108 ، ح 1.
    (5) ـ إضافة من الكافي والتوحيد.
    (6) ـ التوحيد : الصفحة السابقة ، ح 10. وفي باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، 245 ، ح 1.
    الكافي : باب صفات الذات : 1 / 109 ، ح 2. وأيضا في باب إطلاق القول بأنه شيء : 1 / 83 ، ح 6.

    «يسمع لنفسه» أنّه شيء والنفس شيء آخر (1) ولكن أردت عبارة عن نفسى ـ إذ كنت مسئولا ـ وإفهاما لك ـ إذ كنت سائلا ـ فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ كلّه له بعض ؛ ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك إلّا أنه السميع البصير (2) ، العالم الخبير ، بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى».
    وبإسناده عنه عليه‌السلام (3) : ـ إنّه قيل له : «إنّ رجلا ينتحل موالاتكم أهل البيت ، يقول : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يزل سميعا بسمع ، وبصيرا ببصر ، وعليما بعلم ، وقادرا بقدرة» ؛ فغضب عليه‌السلام ثمّ قال : ـ «من قال بذلك ودان به ، فهو مشرك ، وليس من ولايتنا على شيء ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ذات علّامة ، سميعة ، بصيرة ، قادرة».
    وفى رواية اخرى عن مولانا الرضا عليه‌السلام (4) : «من قال ذلك ودان به ، فقد اتّخذ مع الله آلهة اخرى ، وليس من ولايتنا على شيء» ـ ثمّ قال عليه‌السلام : ـ «لم يزل الله ـ عزوجل ـ عليما ، قادرا ، حيّا ، قديما سميعا ، بصيرا لذاته ـ تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّا كبيرا».
    __________________
    (1) ـ في المصدرين : ... بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، ليس قولي : إنه سميع يسمع بنفسه ، وبصير يبصر بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ...
    (2) ـ التوحيد : ... إلا إلى أنه السميع البصير ...
    (3) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 144 ، ح 8. أمالي الصدوق ـ قدس‌سره ـ : المجلس التاسع والثمانون ، 708 ، ح 5. البحار عنهما : 4 / 63 ، ح 2.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 140 ، ح 3. عيون الأخبار : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد : 1 / 119 ، ح 10. أمالي الصدوق : المجلس السابع والأربعون ، 352 ـ 353 ، ح 5. الاحتجاج : احتجاجات الرضا عليه‌السلام : 2 / 385. البحار : 4 / 62 ، ح 1.

    فصل (1) [5]
    [رجوع الإضافات والسلوب فيه تعالى إلى إضافة وسلب واحد]
    وكذلك لا يجوز أن يلحقه سبحانه إضافات مختلفة توجب اختلاف حيثيّات فيه ، بل له إضافة واحدة ـ وهي المبدئيّة ـ تصحّح جميع الإضافات ، كالرزاقيّة والمصوّريّة ونحوهما.
    ولا سلوب كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميعها ، وهو سلب الفقر ؛ فإنّه يدخل تحته سلب الجسميّة والعرضيّة وغيرهما ؛ كما يدخل تحت سلب الجماديّة من الإنسان سلب الحجريّة والمدريّة عنه.
    فصل (2) [6]
    [نسبته تعالى إلى جميع ما سواه نسبة واحدة]
    ثمّ إنّ نسبة ذاته ـ سبحانه ـ وأسمائه الحسنى إلى ما سواه من الفاقرات ، تمتنع أن تختلف المعيّة واللامعيّة ، والإفاضة واللاإفاضة ؛ وإلّا فيكون بالفعل مع بعض ، وبالقوّة مع آخرين ؛ فتتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ، وتتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجدّدات والمتعاقبات ـ تعالى عن ذلك ـ
    بل نسبة ذاته ـ التي هي فعليّة صرفة وغناء محض من جميع
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 306.
    (2) ـ عين اليقين : 306.

    الوجوه ـ إلى الجميع ـ وإن كان من الحوادث الزمانيّة ـ نسبة واحدة إيجابيّة ، ومعيّة قيّوميّة ثابتة غير زمانيّة ولا متغيّرة أصلا ؛ والكلّ عنده واجبات ، وبغنائه بقدر استعداداتها مستغنيات ، كلّ في وقته ومحلّه وعلى حسب طاقته ؛ وإنّما إمكانها وفقرها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها ، وليس هناك إمكان وقوّة البتة.
    فالمكان والمكانيّات بأسرها ـ بالنسبة إليه سبحانه ـ كنقطة واحدة في معيّة الوجود (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [39 / 67] والزمان والزمانيّات ـ بآزالها وآبادها ـ كآن واحد عنده في ذلك.
    «جفّ القلم بما هو كائن» (1).
    __________________
    (1) ـ في المعجم الكبير (11 / 178 ، ح 11560) : «... فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ...». أمالى الطوسي (المجلس التاسع عشر : 536 ، ح 1) عن أبي ذر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ...». الترمذي (كتاب الإيمان ، باب (18) ما جاء في افتراق هذه الامة ، 5 / 26 ، ح 2642) : «جفّ القلم على علم الله». وفيه (كتاب صفة القيامة ، باب 59 ، 4 / 667 ، ح 2516) : «رفعت الأقلام وجفّت الصحف». التوحيد (باب المشيّة والإرادة ، 343 ، ح 13) : عن معاذ بن جبل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سبق العلم وجفّ القلم ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وبالسعادة من الله عزوجل لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبولاية الله المؤمنين وبراءته من المشركين ...». وورد مثله أيضا في تفسير القمي ، عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2 / 211 ، تفسير الآية 35 / 45) بلفظ : «... سبق العلم وجف القلم ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب ...». عنه البحار : 5 / 94 ، ح 13. علل الشرائع (2 / 348 ، باب (56) العلة التي من أجلها لا تجوز الصلاة في السواد ، ح 7) : «جفّ القلم بما فيه». عنه البحار : 28 / 49 ، ح 14. البخاري : (باب في القدر ، ح 3 ، 8 / 152) : «جفّ القلم بما أنت لاق». شعب الإيمان (باب في أن القدر من الله ، 1 / 217 ، ح 195) : «جفّت الأقلام وطويت الصحف». مستدرك الحاكم (كتاب معرفة الصحابة ، 3 / 541) : «قد مضى القلم بما هو كائن».

    «ما من نسمة كائنة إلّا وهي كائنة» (1).
    والموجودات كلّها ـ شهاديّاتها وغيبيّاتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه (2) (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [31 / 28]. وإنّما التقدّم والتأخّر ، والتجدّد والتصرّم ، والحضور والغيبة ، في هذه كلّها بقياس بعضها إلى بعض وفي مدارك المحبوسين في مطمورة الزمان ، المسجونين في سجن المكان ـ لا غير ـ وإن كان هذا لممّا يستغربه الأوهام ، ويشمئزّ عنه قاصروا الأفهام.
    وأمّا قوله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [55 / 29] فهو كما قاله بعض أهل العلم : «إنّها شئون يبديها ، لا شئون يبتديها» ـ فافهم.
    فصل [7]
    روي في كتاب التوحيد (3) ـ بإسناده الصحيح ـ عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن قول الله عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
    __________________
    (1) ـ البخاري (في العتق وفضله ، باب من ملك من العرب رقيقا ... ، 3 / 194) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة». أبو داود (كتاب النكاح ، باب ما جاء في العزل : 2 / 252 ، ح 2172) مثله.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    «ربما يمثّل ذلك بما إذا أخذت امتدادا مختلف الأجزاء في اللون ـ كخشب مثلا اختلف اللون في أجزائه ـ ثمّ أمررته في محاذاة ذرّة أو غيرها ـ مما يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتداد ـ فإنّ تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها ـ لضيق نظرها ـ متساوية في الحضور لديك لقوة إحاطتك ـ منه».
    (3) ـ التوحيد : باب معنى قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، 315 ، ح 1.
    تفسير القمي : في تفسير الآية المذكورة ، 2 / 58. عنه البحار : 3 / 337 ، ح 47.

    اسْتَوى) [20 / 5] قال : «استوى من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ؛ لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ؛ استوى من كلّ شيء».
    وفي الكافي بإسناده مثله (1).
    وفيه بإسناده عن مولانا الهادي النقي عليه‌السلام قال (2) : «الأشياء كلّها له سواء ، علما وقدرة وملكا وإحاطة».
    فصل (3) [8]
    [نسبة علمه تعالى إلى الحاضر والغائب سواء]
    قد ظهر ممّا ذكر أنّ إلهيّته جلّ وعزّ ثابتة له في الأزل ، وهو تامّ الفاعليّة فيه ؛ وكذلك عالميّته وسمعه وبصره وغير ذلك من الصفات.
    فإنّه سبحانه أدرك الأشياء جميعا إدراكا تامّا ، وأحاط بها إحاطة كاملة ، فهو عالم بأنّ أيّ حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون بينه وبين الحادث الذي بعده أو قبله من المدّة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ؛ بل بدل ما نحكم بأنّ الماضي ليس موجودا في الحال ، يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان ، من الأزمنة التي تكون قبله أو بعده.
    __________________
    (1) ـ الكافي : (كتاب التوحيد ، باب الحركة والانتقال ، 1 / 127 ـ 128 ، ح 6 ـ Cool واللفظ فيه : «استوى في كل شيء» في الموردين. وقد ورد فيه : «استوى من كل شيء». و : «استوى على كل شيء».
    (2) ـ الكافي : الباب السابق : 1 / 126 ، ح 4. ومثله عن الصادق عليه‌السلام في التوحيد : باب القدرة ، 133 ، ح 15. عنه البحار : 3 / 323 ، ح 21.
    (3) ـ عين اليقين : 307. الوافي : 1 / 449.

    وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أيّ جزء يوجد من المكان ، وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ، ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم.
    ولا يحكم على شيء بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه عزوجل ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، بل بكلّ شيء محيط أزلا وأبدا (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [2 / 255].
    فصل (1) [9]
    قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) : «لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا».
    وقال عليه‌السلام (3) : «علمه بالأموات الماضين ، كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى».
    وعن مولانا الباقر عليه‌السلام (4) : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه ، كعلمه به بعد كونه».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 65. عنه البحار : 4 / 308 ـ 309 ، ح 37. 77 / 304 ، ح 9.
    (3) ـ نهج البلاغة : الخطبة 163. أولها : «الحمد لله خالق العباد ...» البحار : 4 / 307 ، ح 35.
    77 / 307 ، ح 11.
    (4) ـ الكافي : باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 2. وجاء في التوحيد (باب صفات الذات 145 ح 12) بلفظ : «... ولم يزل عالما بما كوّن ... بعد ما كوّنه».
    البحار : 4 / 86 ، ح 23. 57 / 82 ، ح 61. 57 / 161 ـ 162 ، ح 97.

    وعن مولانا الرضا عليه‌السلام (1) : «له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهيّة إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البرائيّة ؛ كيف ولا تعيّنه (2) «مذ» ولا تدنيه «قد» ، ولا تحجبه «لعلّ» ، ولا توقته «متى» ولا تشمله «حين» ولا تقارنه «مع» ...» ـ الحديث ـ (3).
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال ـ (4) : «لم يزل الله ـ جلّ وعزّ
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه : 38 ، ح 2. العيون : خطبة الرضا عليه‌السلام في التوحيد ، 1 / 152 ، ح 51. أمالي المفيد المجلس الثلاثون ، 256 ـ 257 ، ح 4. أمالي الطوسي : المجلس الأول ، 23 ، ح 28 ، مع فروق. البحار : 4 / 229. 57 / 43 ، ح 17.
    (2) ـ كذا في النسخة. وفي المصادر : ولا تغيبه.
    (3) ـ كتب المؤلف هنا مقاطع ، ثم شطب عليها ، وهي :
    وكما أنّه لا يلزم من فاعليّته ـ تعالى ـ للأشياء كون وجوداتها في ذواتها في مرتبة ذاته ـ سبحانه ـ بل كونه بحيث يتبع وجوده وإيجاده وجود الأشياء وصدوره عنه ، فكذلك لا يلزم من عالميّته بها كونها في ذواتها في مرتبة ذاته ، بل كونه بحيث يتبع انكشاف ذاته بذاته على ذاته ، انكشاف ذوات الأشياء بذواتها على ذاته ؛ وكما أنّ إيجادها للموجودات الكثيرة لا يقدح في بساطته الحقّة ، لكونها صادرة عنه على الترتيب السببي والمسببي ، فكذلك علمه سبحانه بالأشياء الكثيرة لا ينثلم وحدته الصرفة ، فتلك الكثرة ترتقي إليه وتجتمع في واحد محض ؛ إذ الترتيب تجمع الكثرة في واحد ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه.
    فصل
    روي في كتاب التوحيد [باب العلم ، 138 ، ح 16] عن مولانا الكاظم عليه‌السلام ـ قال : ـ علم الله لا يوصف الله منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حد.
    (4) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال ، 139 ، ح 1. الكافي : باب صفات الذات 1 / 107 ، ح 1. البحار : 4 / 71 ، ح 18. 57 / 161 ، ح 96.

    ربّنا ـ والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ؛ فلمّا أحدث الأشياء ـ وكان المعلوم ـ وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور».
    فصل (1) [[10
    [صفاته تعالى ذاتية]
    وإذ ثبت أنّ كمالاته سبحانه ليست بأمر زائد على ذاته ، وأنّها ثابتة له في الأزل ، ظهر أنّ مجده وعلوّه تعالى في الفاعليّة والعالميّة والقادريّة ـ ونحوها من صفات الكمال ـ ليس بالمعنى الإضافي الذي هو متأخّر عن ذاته ، وعن وجود ما أضيفت هي إليه ؛
    بل علوّه ومجده في هذه الصفات إنّما هو بمبادئ تلك الإضافات ، المتقدّمة على وجود ما تعلّقت هي به ـ وهي كونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات ـ وهو سبحانه إنّما هو كذلك بنفس ذاته.
    فإذن : علوّه ومجده في صفاته العليا ليس إلّا بذاته ـ لا غير.
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307. راجع أيضا الأسفار الأربعة : 6 / 120.

    فصل (1) [11]
    [علمه تعالى بذاته]
    وإذ هو سبحانه بسيط الحقيقة منزّه الذات عن الموضوع والمادّة والعوارض وسائر ما يجعل الذات بحال زائدة ، ويريها على غير ما هي عليه : فلا ليس له ، فهو صراح (2) ، وذاته غير محتجبة عن ذاته ؛
    فهو ظاهر بذاته على ذاته ،
    فهو يدرك ذاته أشدّ إدراك ، ويعلمها أتمّ علم ، لظهورها له أشدّ ظهور.
    بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم من سواه بذواتهم ، كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء ، حيث هو وراء ما لا يتناهى ، بما لا يتناهى (3).
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 307.
    (2) ـ الصراح : الخالص من كلّ شيء.
    (3) ـ أضيف في علم اليقين : فعلمه بذاته عبارة عن كون ذاته ظاهرة لذاته ، ولا يوجب ذلك أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار ، فإنه ليس إلا اعتبار أن له حقيقة ظاهرة بذاته ، هي ذاته ، وأنه حقيقة ظاهرة ذاته له ؛ ففي الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصل شيء واحد ، ولا يجوز أن يحصل حقيقة الشيء مرتين ، فذاته ـ سبحانه ـ مع وحدته الصرفة عالم ومعلوم وعلم ؛ على أنك دريت ذلك في كل علم.

    فصل (1) [12]
    [علمه تعالى بغيره]
    ولمّا كان ذاته تعالى فاعلا تامّا لجميع ما عداه ، ومبدأ لفيضان كلّ إدراك ـ حسيّا كان أو عقليّا ـ ومنشأ لكلّ ظهور ـ عينيّا كان أو ذهنيّا ـ إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه ، وفاعليّته عين ذاته ، إذ هي من الكمالات ، والعلم التامّ بالفاعل التامّ للشيء من حيث حقيقته التي بها فاعل يستلزم العلم بكونه فاعلا لذلك الشيء ، وهو مستلزم للعلم بذلك الشيء :
    فهو سبحانه عالم بجميع الموجودات قاطبة ،
    (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [34 / 3] في الارض ولا في السماء ،
    (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [41 / 47] ،
    (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [6 / 59] ،
    (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [67 / 14].
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 308.

    فصل (1) [13]
    [علمه تعالى بالمحسوسات]
    ولمّا ثبت علمه سبحانه بالجزئيّات على ما هي عليه ـ ومن جملتها المسموعات ، من الحروف والأصوات ، والمبصرات ، ذوات الأضواء والألوان ـ فهو سبحانه يدركها لا محالة ـ بلا آلة وجارحة ـ ولكن إدراكا حقّا بنفس ذاته النوري ، الذي يظهر ويتنوّر به جميع الأشياء ، كما يدرك سائر المحسوسات كذلك.
    فذاته سبحانه ـ بهذا الاعتبار ـ سمعه وبصره (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [17 / 1].
    وأمّا عدم ورود توصيفه تعالى بالشام والذائق واللامس ـ مع علمه سبحانه بالمشمومات والمذوقات والملموسات ـ فلإيهامه التجسّم ـ تعالى عنه ربّنا وتقدّس.
    سئل مولانا الجواد عليه‌السلام (2) : «كيف يسمّى ربّنا سميعا»؟
    __________________
    (1) ـ كيف المؤلف ـ قدس‌سره ـ هنا فصلا في بيان كونه تعالى نور السماوات والأرض ، ثمّ شطب عليه ، ولما كان الفصل بألفاظه موجودا في عين اليقين (ص 308) أعرضنا عن إيراده هنا حذرا من التطويل ؛ على أنّه ـ قدس‌سره ـ كتب في عين اليقين فصولا يبين فيها عالميته تعالى لكونه بسيط الحقيقة ، فراجع إن شئت.
    (2) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى ، 194 ، ح 7. الكافي : كتاب التوحيد ، باب معاني الأسماء : 1 / 117 ، ح 7. الاحتجاج : احتجاج الإمام الجواد عليه‌السلام : 2 / 468.
    البحار : 4 / 154 ، ح 1.

    قال : «لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سمّيناه بصيرا لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون وشخص وغير ذلك ـ ولم نصفه بنظر لحظ العين (1)».
    فصل [14]
    [إنّه تعالى مختار]
    وإذ ثبت أنّ الوجود كلّه فعله سبحانه ، لا مدخل لغيره فيه ، وقد صدر عنه على وفق علمه ـ صدورا غير مستكره ولا مقهور ولا مغلوب ولا مضرور ـ
    فبان أنّه سبحانه على كلّ شيء قدير وبكلّ شيء بصير ؛
    وأنّه سبحانه مختار في فعله اختيارا أجلّ وأعلى من اختيارنا ، لأنّ الاختيار فينا ناقص مشوب بنحو من الاضطرار ، وذلك لتجدّد الأغراض ، واختلاف الدواعي ، وتفنّن الإرادات ، وسنوح الحالات فينا ، والمرجّح إنّما يرد علينا من خارج ـ كما يأتي تحقيقه (2) ـ بخلافه جلّ جلاله ، فإنّ صفاته جميعا نفس ذاته المقدّسة عن التغيّر والحدثان.
    * * *
    __________________
    (1) ـ الكافي : ولم نصفه ببصر لحظة العين. الاحتجاج : ولم نصفه ببصر طرفة العين.
    (2) ـ راجع الفصل الحادى عشر إلى الخامس عشر من الباب السابع من هذا المقصد.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:26 pm

    فصل (1) [15]
    [إرادته تعالى]
    وأمّا إرادته سبحانه : فهي من حيث نسبتها إليه سبحانه عين ذاته جلّ وعزّ ، وأمّا من حيث إضافتها إلى المراد فإنّها محدثة ، إلّا أنّها ليست كإرادتنا مقدّمة على الفعل ، بل هي هناك نفس الفعل والإيجاد.
    قال مولانا الكاظم عليه‌السلام (2) : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله ـ عزوجل ـ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله ـ تعالى ـ هي الفعل ، لا غير ؛ يقول له : «كن» فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ؛ كما أنّه بلا كيف» ـ رواه في كتاب التوحيد (3) ـ.
    قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [36 / 82].
    __________________
    (1) ـ راجع أيضا الوافي : 1 / 447.
    (2) ـ كذا فيما عندي من نسخ الكتاب ، ولكن الرواية مرويّة عن الرضا عليه‌السلام ، ولذلك أورده الصدوق ـ قدس‌سره ـ في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام أيضا ؛ والأظهر أنّه سهو نشأ مما قاله صفوان بن يحيى ـ الراوي ـ : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام.
    (3) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 1 / 147 ، ح 17. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد : 1 / 119 ، ح 11.
    الكافي : باب الإرادة أنها من صفات الفعل : 1 / 109 ، ح 3. وروى الشيخ صدر الحديث في أماليه : المجلس الثامن ، 211 ، ح 15. البحار : 4 / 137 ، ح 4. راجع أيضا ما كتبه المؤلف ـ قدس‌سره ـ شرحا لهذه الرواية في كتابه الوافي : 1 / 456.

    فصل [16]
    [قدرته تعالى وكيفيّة نسبة الخير والشر إليه]
    فقدرته تعالى عبارة عن كون ذاته بذاته بحيث تصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير ـ الذي هو عين ذاته ـ. ولا يعتبر في القدرة إلّا تعيّن الفعل بالمشيّة ، سواء كانت المشيّة يصحّ عليها التغيّر ، أو لا.
    فالقادر من إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ـ سواء شاء ففعل دائما ، أو لم يشأ فلم يفعل ـ والشرطيّة غير معلّقة الصحّة بصدق كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها ، أو كلاهما ممّا يكذب ـ كما حقّق في محلّه (1) ـ.
    وإرادته تعالى بالنسبة إليه سبحانه عبارة عن كون ذاته بذاته داعيا الصدور الموجودات عنه على وجه الخير والصلاح ، لأجل علمه بالنظام الأوفق.
    فإذا نسبت إليه الموجودات من حيث أنّها صادرة عن علمه : كان علمه بهذا الاعتبار «قدرة».
    وإذا نسبت إليه من حيث أنّ علمه كاف في صدورها : كان علمه بهذا الاعتبار «إرادة».
    __________________
    (1) ـ راجع الجوهر النضيد : 43.

    وعدم إرادته سبحانه الشرور مع إحاطة علمه بكلّ شيء لا تنافي كون إرادته الخير عين علمه ـ عزوجل ـ فإنّ وزان إرادته بالنسبة إلى صفة العلم ، وزان السمع والبصر بعينه ؛ فكما أنّ السمع سمع لكلّ مسموع ـ لا لكلّ شيء ـ والبصر بصر بالقياس إلى كلّ مبصر ـ لا كلّ شيء ـ فكذلك إرادته الحقّة ؛
    فذاته سبحانه علم بكلّ شيء ممكن ، وإرادة لكلّ خير ممكن ، وسمع لكلّ شيء مسموع ، وبصر لكلّ شيء مبصر ، وقدرة على كلّ شيء مقدور عليه.
    مع أنّ الشرور أيضا مرادة ومقتضية بالعرض ، أي بما هي لوازم للخيرات الغالبة عليها ـ وإن لم تكن مرادة بالذات ، أي بما هي شرور ـ وهي من حيث تبعيّتها للخيرات خيرات ومرادة ، كما أنّها معلومة ، فلم تخرج عن إحاطة الإرادة بها ، كما أنّها لم تخرج عن إحاطة العلم بها.
    * * *

    فصل [17]
    [شمول إرادته تعالى]
    ولمّا كانت إرادته سبحانه بالنسبة إلى المراد نفس الإيجاد ، فكلّما أراد شيئا وجد ، فقدرته عامّة وسعت كلّ شيء.
    وأمّا الممتنع فليس بشيء حتّى يسعه القدرة ، فعدم دخوله تحت الوجود ليس نقضا على ذلك ، ولا نقصا على الله سبحانه وتعالى (1).
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا ، أو يكبر البيضة»؟
    قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون».
    __________________
    (1) ـ كتب المؤلف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    «تبّا وتعسا لمن يتوهّم أنّ الله ـ سبحانه ـ لا يقدر على إخراج إبليس من مملكته ، أو لا يقدر أن يدخل السماوات في سمّ خياط ، أو نحو ذلك.
    فإنّ هذا المسكين لا يفهم ـ مع قطع النظر عن المصالح التي روعيت في خلق إبليس ـ أنّ العجز في عدم الاخراج إنّما هو من عدم المملكة التي غير مملكة الله ، حتى يتصوّر إخراجه إليها ، ولبس من عدم القدرة من الخالق ، وكذا العجز في الثاني إنّما هو من الإبرة ـ دونه تعالى».
    (2) ـ التوحيد : باب القدرة : 130 ، ح 9. البحار : 4 / 143 ، ح 10.

    وبإسناده (1) عنه عليه‌السلام ـ قال ـ : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : «أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض ولا يكبر البيضة»؟ فقال له : «ويلك ، إنّ الله لا يوصف بالعجز ، من أقدر ممّن يلطّف الأرض ، ويعظّم البيضة»؟
    وبإسناده عن مولانا الرضا عليه‌السلام (2) أنّه سئل : «هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة»؟ قال : «نعم ، وفي أصغر من البيضة ؛ قد جعلها في عينك وهي أقلّ من البيضة ، لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض ، وما بينهما ، ولو شاء لأعماك عنها».
    أقول : وقد صدر مثل هذا الجواب عن مولانا الصادق عليه‌السلام أيضا ـ كما روي فيه وفي الكافي (3) ـ ولكنّه جواب جدليّ مسكت ، ناسب فهم السائل ، وإنّما صدر من محلّ الخلافة النبويّة ، امتثالا لقوله سبحانه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [16 / 125].
    وأمّا الجواب الحقّ فهو الجواب الأوّل ، الصادر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام واختلاف الأجوبة ، إنّما تكون لاختلاف أفهام السائلين ـ والعلم عند الله ـ.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 130 ، ح 10. البحار : 4 / 143 ، ح 11.
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 130 ، ح 12. البحار : 43 / ح 11.
    (3) ـ التوحيد : باب القدرة : 123 ح 1. الكافي : باب حدوث العالم وإثبات المحدث : 1 / 79 ، ح 4.

    فصل [18]
    [حياته تعالى]
    حياته سبحانه عبارة عن نوريّته المحضة ، المستلزمة للإدراك والفعل ، فإنّ الحيّ هو الدرّاك الفعّال ، ولمّا كانت الصفتان عين ذاته تعالى ، فذاته بذاته حياته ، وكلّ حياة غيرها فإنّما هي رشحة من حياته ، وهو الحيّ بالحقيقة ـ لا إله إلّا هو.
    فصل [19]
    [تكلّمه سبحانه]
    تكلّمه ـ سبحانه ـ عبارة عن كون ذاته تعالى بحيث يقتضي إلقاء الكلام الدالّ على المعنى المراد ، لإفاضته ما في قضائه السابق ، من مكنونات علمه على من يشاء من عباده ، فإنّ المتكلّم عبارة عن موجد الكلام ، والتكلّم فينا ملكة قائمة بذواتنا ، بها نتمكّن من إفاضة مخزوناتنا العلميّة على غيرنا ، وفيه ـ سبحانه ـ عين ذاته ، إلّا أنّه باعتبار كونه من صفات الفعل متأخّر عن ذاته.
    قال مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ؛ كان الله ـ عزوجل ـ ولا متكلّم».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب صفات الذات وصفات الأفعال : 139 ، ح 1.
    الكافي : باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 1. البحار : 4 / 72.

    أقول : وهذا مثل قولهم عليه‌السلام (1) : «كان الله ولم يكن معه شيء».
    وتمام الكلام في كلامه ـ عزوجل ـ يأتي في مباحث الكتب والرسل ـ إن شاء الله.
    فصل [20]
    [محبّته سبحانه للعبد ومحبّة العبد له]
    محبّته سبحانه للعبد عبارة عن كشفه الحجاب عن قلبه ـ حتّى يراه بقلبه ـ وعن تمكينه إيّاه من القرب إليه ، وإرادته ذلك به في الأزل.
    فحبّه لمن أحبّه أزليّ مهما اضيف إليه الإرادة الأزليّة التي اقتضت ذلك ، وإذا اضيف إلى فعله الذي يكشف به الحجاب عن قلب عبده : فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له ، كما قال تعالى (2) : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى احبّه». فيكون تقرّبه بالنوافل سببا لصفاء باطنه ، وارتفاع الحجاب عن قلبه ، وحصوله في درجة القرب من ربّه.
    ومحبّة العبد لله تعالى ميله إلى درك هذا الكمال ، الذي هو مفلس
    __________________
    (1) ـ في التوحيد (باب التوحيد ونفي التشبيه ، 67 ، 20) : «كان الله ولا شيء معه». وفي الكافي (باب صفات الذات : 1 / 107 ، ح 2) : «كان الله عزوجل ولا شيء غيره».
    وفي النهج (الخطبة : 186) : «... وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه ؛ كما كان قبل ابتدائها».
    (2) ـ مضى في الصفحة : 74.

    عنه ، فاقد له ؛ فلا جرم يشتاق إلى ما فاته منه ، وإذا أدرك منه شيئا يلتذّ به. والشوق والمحبّة ـ بهذا المعنى ـ محال على الله تعالى.
    فصل [21]
    [اختلاف مفهوم الكلمة عند إطلاقه عليه تعالى وعلى غيره]
    كلّ ما يطلق عليه سبحانه وعلى غيره ، فإنّما يطلق عليهما بمعنيين مختلفين ليسا في درجة واحدة ، حتّى أنّ «الوجود» الذي هو أعمّ الأشياء اشتراكا ، لا يشمله وغيره على نهج واحد ؛ بل كلّ ما سواه وجوداتها ظلال وأشباح محاكية لوجوده سبحانه.
    وهكذا في سائر صفاته ـ كالعلم والقدرة والإرادة والمحبّة والرحمة والغضب والحياء وغيرها ـ فكلّ ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، بل هو في حقّ الخلق يصحبه نقص وشين ؛ بخلافه في حقّ الخالق ، فإنّه مقدّس عن القصورات والنقائص ؛ وإنّما يطلق في حقّه ـ تعالى ـ باعتبار غاياتها التي هي الكمالات ـ دون مبادئها التي هي النقائص.
    وواضع اللغات إنّما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ، لأنّها أسبق إلى العقول والأفهام ؛ وفهم معانيها في حقّه تعالى عسر جدّا ، وبيانها أعسر منه ، بل كلّ ما قيل في تقريبه إلى الأفهام فهو تبعيد له من وجه.
    ولعلّ إلى هذا المعنى أشار من قال : «من عرف الله كلّ لسانه» (1).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة
    اين مدعيان در طلبش بى خبرانند
    كان را كه خبر شد خبرى بازنيامد



    فصل [22]
    [استحالة معرفة كنه صفاته تعالى]
    بل الحقّ أنّه كما لا يجوز لغيره سبحانه الإحاطة بمعرفة كنه ذاته تعالى ، فكذلك لا يجوز له الإحاطة بمعرفة كنه صفاته عزوجل ، وكلّ ما وصفه به العقلاء فإنّما هو على قدر أفهامهم وبحسب وسعهم ، فإنّهم إنّما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم ، مع سلب النقائص الناشئة من انتسابها إليهم بنوع من المقايسة ، ولو ذكر لهم من صفاته عزوجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة ، لم يفهموه ؛ فتوصيفهم إيّاه سبحانه إنّما هو على قدرهم ، لا على قدره ؛ وبحسبهم ، ليس بحسبه ؛ جلّ جلاله عمّا يصفون ، وتعالى شأنه عمّا يقولون ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    كيف ، وقد قال سيّدنا ونبيّنا سيّد الخلائق وأشرف النبيّين ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ (1) : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وما أحسن ما قال مولانا الباقر عليه‌السلام (2) : «هل سمّي
    __________________
    (1) ـ مضى في الصفحة : 54.
    (2) ـ لم أعثر على الرواية في الجوامع الروائية ـ وإن كان مضمونها يشهد بصدورها عن معادن الحكمة وأهل بيت الوحي ـ ولعل أقدم من استشهد بها الخواجة نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ في رسالة شرح مسئلة العلم (المسألة الخامسة عشرة ، 43) حيث قال : «... ونعم ما قال عالم من أهل بيت النبوة عليهم‌السلام : هل يسمى قادرا ...». ونقل منه المحقق السيد الداماد في القبسات : أواخر القبس الثامن : 343. والرواشح السماوية : 19. وقد نسبه الشيخ البهائي في شرح الأربعين (شرح الحديث الثاني : 81) إلى الباقر عليه‌السلام.

    عالما وقادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟ وكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والباري تعالى واهب الحياة ومقدّر الموت ؛ ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله تعالى زبانيتين ـ فإنّهما كمالها ـ وتتصوّر أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له ؛ هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به فيما أحسب ، وإلى الله المفزع» (1). ـ انتهى كلامه صلوات الله عليه.
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) : «إنّ الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه» (3).
    فسبحانه سبحانه ، ما أعلى شأنه ، وأبهر برهانه ، وأعظم امتنانه.
    __________________
    (1) ـ كتب في الهامش ما يلي : «مراده عليه‌السلام أنّ الله عزوجل منزّه عن كلّ وصف من أوصاف الكمال ، الذي يظنّه أكثر الخلق ، لأنّ الخلق إنّما يصفونه بما هو كمال في حقّهم ، والله تعالى منزّه عن أوصاف كمالهم ، كما أنّه عزوجل منزّه عن أوصاف نقصهم ، وكلّ صفة يصفه به الخلق ممّا يدركه حسّ أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يفضي به فكر ؛ فهو مقدّس عنها وعمّا يشبهها ، ولو لا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها عليه لم يجز إطلاق أكثرها ؛ ف (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [37 / 180 ـ 182] ـ منه».
    (2) ـ لم أجده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنه ورد بلفظه في التوحيد (باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، 80 ، ح 36) عن الصادق عليه‌السلام. وروى الكليني ـ قدس‌سره ـ (الكافي : باب إطلاق القول بأنه شيء : 1 / 82 ، ح 1) عن الباقر عليه‌السلام : «... فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ولا تدركه الأوهام ...».
    (3) ـ في هامش النسخة :
    اى برتر از خيال وقياس وگمان ووهم
    وز هرچه گفته اند وشنيديم وخوانده ايم

    مجلس تمام گشت وبه آخر رسيد عمر
    ما همچنان در اوّل وصف تو مانده ايم



    [5]
    باب
    نبذ من نعوته جلّ ذكره
    (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11]
    فصل [1]
    قد ورد في القرآن المجيد وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام من نعت الله ـ سبحانه ـ وتوحيده وتقديسه وتمجيده كلمات وعبارات تحتوى من الأسرار والمعارف ما لا يصل كلّ أحد إليه ، ولا يمكن المزيد عليه ـ سيّما عن مولانا أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين ـ صلوات الله عليه ـ فإنّ كلامه في التوحيد والعدل ويتضمّن ـ مع عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ـ من الإشارات والتنبيهات على أسرار العلوم ، ما هو بلال كلّ غلّة وجلاء كلّ شبهة (1).
    فأردنا أن نورد نبذا من ذلك تأييدا لما أسلفناه ، وتشييدا لما أصّلناه ، وليزداد الطالب بصيرة في معرفة الله وآياته.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : البلل ـ محركة ـ والبلة والبلال ـ بكسرهما ـ : النداوة. الغلّ والغلّة ـ بضمهما ـ والغلل ـ محركة ـ : وكآية العطش أو شدته أو حرارة الجوف.

    وليعلم أنّ جلّ ما أدركته العقول مقتبس من أنوار الشرع ومرموزاته بل لا يمكن المزيد على ما جاءت به الشرائع ؛ خصوصا شرع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا أتمّ منه ولا أحكم.
    رويا في كتابي الكافي والتوحيد (1) بإسناديهما ، عن عاصم بن حميد ـ قال ـ : سئل على بن الحسين عليهما‌السلام عن التوحيد ، فقال :
    «إنّ الله ـ عزوجل ـ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل الله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك ، فقد هلك».
    ونبدأ أولا بكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرويّ في كتاب التوحيد ، ثمّ كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام المرويّ فيه وفي الكافي ، ثمّ سائر كلماته ـ صلوات الله عليه وآله ـ المنقولة من نهج البلاغة ، إلّا ما نضيفه إلى غيره. وأمّا كلمات سائر أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فقد أوردناها في مواضعها متفرّقة ، وكذا بعض الآيات القرآنيّة ، مع أنّها مستغنية عن الذكر.
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب النسبة ، 1 / 91 ، ح 3. التوحيد : باب أدنى ما يجزى من معرفة التوحيد ، 283 ، ح 2. عنه البحار : 3 / 263 ـ 264 ، ح 21. واللفظ للكافي.

    فصل [2]
    قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) :
    «الحمد لله الذي كان في أوّليّته وحدانيّا ، وفي أزليّته متعظّما بالإلهيّة ، متكبّرا بكبريائه وجبروته ؛
    ابتدأ ما ابتدع ، وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق لشيء ممّا خلق ، ربّنا القديم بلطف ربوبيّته وبعلم خبره فتق ، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الإصباح فلق ؛
    فلا مبدّل لخلقه ، ولا مغيّر لصنعه ، ولا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لأمره ولا مستزاح عن دعوته ، ولا زوال لملكه ، ولا انقطاع لمدّته ؛ وهو الكينون أوّلا ، والديموم أبدا.
    المحتجب بنوره ـ دون خلقه ـ في الافق الطامح ، والعزّ الشامخ ، والملك الباذخ (2) ، فوق كلّ شيء علا ومن كلّ شيء دنا ، فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى ، وهو بالمنظر الأعلى.
    فأحبّ الاختصاص بالتوحيد إذ احتجب بنوره ، وسما في علوّه واستتر عن خلقه ، وبعث إليهم الرسل ، ليكون له الحجّة البالغة على
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه مع فروق يسيرة ، 44 ، ح 4.
    عنه البحار : 4 / 287 ، ح 19.
    وجاء ما يقرب منه في كفاية الأثر في خطبة للحسن بن على عليهما‌السلام باب ما روي عنه عليه‌السلام من النصوص ، 161. عنه البحار : 43 / 363 ، ح 6.
    (2) ـ في هامش النسخة : طمح بصره إليه ـ كمنع ـ : ارتفع. وكل مرتفع طامح. شمخ الجبل : علا وطال. البذخ ـ محركة ـ : الكبر. بذخ ـ كفرح ـ وتبذّخ : تكبر وعلا ـ ق.

    خلقه ، ويكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وانبعث (1) فيهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيّته بعد ما أنكروا ، ويوحّدوه بالإلهيّة بعد ما عندوا».
    فصل [3]
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) :
    «الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرّد ، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان ؛
    قدرة (3) بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه ، فليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ؛
    كلّ دون صفاته تحبير اللغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ،
    __________________
    (1) ـ كذا في التوحيد. ولكن كتب في النسخة «بعث» ثم صحفت الكلمة بحيث يمكن قراءتها «انبعث» و «ابتعث». والأظهر أن التغيير من غير المؤلف حيث أنها في نسخة ع المستنسخة بعد فوت المؤلف أيضا : بعث.
    (2) ـ الكافي : باب جوامع التوحيد ، 1 / 134 ، ح 1 واللفظ له. عنه البحار 57 / 164 ، ح 103.
    التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه مع فروق يسيرة ، 41 ، ح 3. عنه البحار : 4 / 269 ، ح 15.
    (3) ـ في التوحيد : قدرته. وقال المؤلف في الوافي : «قدرة منصوب على التمييز أو بنزع الخافض ، يعني ولكن خلق الأشياء قدرة ، أو بقدرة ؛ أو مرفوع ، أي له قدرة ، أو هو قدرة ، فإن صفته عين ذاته».

    تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الامور.
    فتبارك (1) الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن ، وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ، وسبحان الذي ليس له أوّل مبتدأ ، ولا غاية منتهى ، ولا آخر يفنى ؛
    سبحانه ، هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته.
    حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إبانة لها من شبهه ، وإبانة له من شبهها ؛
    فلم يحلل فيها فيقال : «هو فيها كائن» ؛
    ولم ينأ عنها فيقال : «هو منها بائن» ؛
    ولم يخل منها فيقال له : «أين»؟ ؛
    لكنّه ـ سبحانه ـ أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه ، وأحصاها حفظه.
    لم يعزب عنه خفيّات غيوب الهواء ، ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ، ولا ما في السماوات العلى إلى الأرضين السفلى ؛ لكلّ شيء منها حافظ ورقيب ، وكلّ شيء منها بشيء محيط ،
    والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد ، الذي لا يغيّره صروف الأزمان ، ولا يتكادّه صنع شيء كان ؛ إنّما قال لما شاء : «كن» ، فكان.
    ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ، ولا تعب ولا نصب ؛
    __________________
    (1) ـ كذا في النسخة ، ولكن في المصدرين : فتبارك الله الذي.

    وكلّ صانع شيء فمن شيء صنع ، والله لا من شيء صنع ما خلق ؛ وكلّ عالم فمن بعد جهل تعلّم ، والله لم يجهل ولم يتعلّم.
    أحاط بالأشياء علما قبل كونها ، فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها ؛
    لم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا خوف من زوال ولا نقصان ، ولا استعانة على ضدّ مناو ولا ندّ مكاثر ولا شريك مكابر ؛ لكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون.
    فسبحان الذي لا يؤده خلق ما ابتدع ولا تدبير ما برأ ، ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى ؛
    علم ما خلق ، وخلق ما علم ؛ لا بالتفكير في علم (1) حادث أصاب ما خلق ، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق ؛
    لكن قضاء مبرم ، وعلم محكم ، وأمر متقن.
    توحّد بالربوبيّة وخصّ نفسه بالوحدانيّة ، واستخلص بالمجد والثناء ، وتفرّد بالتوحيد والمجد والسّناء ؛ وتوحّد بالتحميد ، وتمجّد بالتمجيد (2) ، وعلا عن اتّخاذ الأبناء ، وتطهّر وتقدّس عن ملامسة النساء ، وعزوجل عن مجاورة الشركاء ؛
    فليس له فيما خلق ضدّ ، ولا له فيما ملك ندّ ؛ ولم يشركه في ملكه أحد ، الواحد الأحد الصمد المبيد (3) للأبد ، والوارث للأمد ، الذي
    __________________
    (1) ـ في التوحيد : ولا بعلم (بدلا من : في علم).
    (2) ـ في التوحيد : واستخلص المجد والثناء ، فتحمد بالتحميد ، وتمجد بالتمجيد.
    (3) ـ في هامش النسخة : المأبّد خ ل.

    لم يزل ولا يزال وحدانيّا أزليّا قبل بدء الدهور ، وبعد صرف الامور ، الذي لا يبيد ولا ينفد(1).
    بذلك أصف ربّي ، فلا إله إلّا الله ، من عظيم ما أعظمه! ومن جليل ما أجلّه! وعزيز ما أعزّه ، وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا».
    * * *
    قال ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ رحمه‌الله ـ بعد نقل الخطبة المذكورة (2) :
    «وهذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه‌السلام حتّى لقد ابتذلها العامّة ، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبّرها وفهم ما فيها ؛ فلو اجتمع ألسنة الجنّ والإنس ـ ليس فيها لسان نبيّ ـ على أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به عليه‌السلام ـ بأبي وأمّي ـ ما قدروا عليه ؛ ولو لا إبانته عليه‌السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد.
    ألا ترون إلى قوله : «لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان» ؛
    فنفى بقوله : «لا من شيء كان» معنى الحدوث ؛
    وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال ، نفيا لقول من قال : «إنّ الأشياء كلّها محدثة ، بعضها من بعض» ، وإبطالا لقول الثنويّة ـ الذين زعموا أنّه لا يحدث
    __________________
    (1) ـ في التوحيد : لا يبيد ولا يفقد.
    (2) ـ الكافي : باب جوامع التوحيد : 1 / 136. عنه البحار : 57 / 164 ـ 166.

    شيئا إلا من أصل ، ولا يدبّر إلّا باحتذاء مثال.
    فدفع عليه‌السلام بقوله : «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنويّة وشبههم ؛ لأنّ أكثر ما يعتمد الثنويّة في حدوث العالم أن يقولوا «لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء ، أو من لا شيء» ؛ فقولهم : «من شيء» خطأ ، وقولهم : «من لا شيء» مناقضة وإحالة ؛ لأنّ «من» توجب شيئا ، و «لا شيء» تنفيه ؛ فأخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحّها ، فقال عليه‌السلام : «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا ، ونفى «الشيء» إذ كان كلّ شيء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق ، كما قالت الثنويّة : «أنّه خلق من أصل قديم ، فلا يكون تدبير إلّا باحتذاء مثال».
    ثمّ قوله عليه‌السلام : «ليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ، كلّ دون صفاته تحبير اللغات» ، فنفى عليه‌السلام أقاويل المشبّهة ، حين شبّهوه بالسبيكة والبلّورة ، وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء ، وقولهم : «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفيّة ولم ترجع إلى إثبات هيئة ، لم تعقل شيئا ، فلم تثبت صانعا» ؛ ففسّر أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه واحد بلا كيفيّة ، وأنّ القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.
    ثمّ قوله عليه‌السلام : «الذي لا تبلغه بعد الهمم ، ولا تناله غوص الفطن ، وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود» ، ثمّ قوله عليه‌السلام : «لم يحلل في الأشياء ، فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها ، فيقال : هو منها بائن». فنفى عليه‌السلام

    بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام ، لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة ، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسّة ، ومباينة الأجسام على تراخى المسافة.
    ثمّ قال : «لكن أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه» ، أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير ، وعلى غير ملامسة».
    ـ انتهى كلامه ـ.
    فصل [4]
    وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) :
    «أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ؛ فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله [ومن جهله فقد أشار إليه] (2) ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ؛ ومن قال : «فيم» فقد ضمّنه ، ومن قال : «علام» فقد أخلى منه.
    كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ؛ مع كلّ شيء لا بمقارنة
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة الاولى. عنه البحار : 4 / 247 ، ح 5 و 57 / 176 ، ح 136.
    (2) ـ إضافة من المصدر.

    وغير كلّ شيء لا بمزايلة ؛ فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.
    أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأ ابتداء ، بلا رويّة أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها ؛ أحال الأشياء لأوقاتها ، ولاءم بين مختلفاتها ، وغرّز غرائزها ، وألزمها أشباحها ؛ عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها ؛ عارفا بقرائنها وأحنائها».
    فصل [5]
    وقال عليه‌السلام (1) :
    «ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده (2) من أشار إليه وتوهّمه ؛
    كلّ معروف بنفسه مصنوع ، وكلّ قائم في سواه معلول ؛
    فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنيّ لا باستفادة ؛ لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده (3) الأدوات ؛
    سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ؛
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 186. عنه البحار : 77 / 310 ـ 314 ، ح 14.
    (2) ـ صمده : قصده.
    (3) ـ ترفده : تعينه.

    بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ؛
    ضادّ النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد (1) ؛
    مؤلّف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين متدانياتها ؛
    لا يشمل بحدّ ، ولا يحسب بعدّ ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة (2) إلى نظائرها ؛
    منعتها «منذ» القدمة ، وحمتها «قد» الأزليّة ، وجنّبتها «لو لا» التكملة ؛
    بها تجلّى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون.
    لا يجري عليه السكون والحركة ؛ وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو أبداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء ـ إذ وجد له أمام ـ ولالتمس التمام ـ إذ لزمه النقصان ـ واذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه.
    وخرج (3) بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره.
    الذي لا يحول ولا يزول ، ولا يجوز عليه الافول ؛
    __________________
    (1) ـ الصرد : البرد (فارسي معرب).
    (2) ـ في هامش النسخة : الآلات ل خ.
    (3) ـ عطف على : لا يجري عليه السكون والحركة.

    (لَمْ يَلِدْ) فيكون مولودا ، و (لَمْ يُولَدْ) فيصير محدودا ؛ جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ؛
    لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ؛
    لا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيريّة والأبعاض ؛ ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أنّ الأشياء تحويه ، فتقلّه أو تهويه ، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
    ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ؛ يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ؛ يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، ويحبّ ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة ؛
    يقول لما أراد كونه : «كن» فيكون ـ لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ؛ وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
    لا يقال : «كان بعد أن لم يكن» ، فتجري عليه الصفات المحدثات ؛ ولا يكون بينه وبينها فصل ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبدع والبديع.
    خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ؛ وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من

    الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ؛ أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ أوديتها ؛
    فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قوّاه ؛
    هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزّته ؛
    لا يعجزه منها شيء فيطلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ؛
    خضعت الأشياء له وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تسطيع الهرب من سلطانه إلى غيره ، فتمتنع من نفعه وضرّه ؛
    ولا كفؤ له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه ؛
    هو المفني لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
    وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها ؛ وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها ـ من طيرها وبهائهما ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلّدة (1) اممها وأكياسها ـ على إحداث بعوضة ، ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها.
    وإنّه ـ سبحانه ـ يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ؛ كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ؛ بلا وقت ولا مكان ،
    __________________
    (1) ـ المتبلدة : الغبيّة.

    ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ؛ فلا شيء إلا الله الواحد القهّار ، الذي إليه مصير جميع الامور ، بلا قدرة منها كان قبل ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها.
    لم يتكأدّه (1) صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ولا تخوّف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ندّ مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور (2) ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها.
    ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه.
    لا يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ؛
    ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ولا لاستعانة بشيء منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة».
    __________________
    (1) ـ لم يتكأدّه : لم يشق عليه.
    (2) ـ المثاور : المواثب المهاجم.

    فصل [6]
    ومن كلماته عليه‌السلام (1) :
    «الذي لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ؛
    كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل ، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قويّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها ، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر».
    ومنها (2) :
    «لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تولّهه رحمة عن عقاب ، ولا تجنّه البطون عن ظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون ، قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن ، لم يذرأ الخلق باحتيال ، ولا استعان بهم لكلال».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 65. أولها : «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا ...».
    عنه البحار : 4 / 308 ـ 309 ، ح 37. 77 / 304 ، ح 9.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 195. أولها : «الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه ...».
    عنه البحار : 77 / 315 ، ح 15.

    ومنها (1) :
    «لم تحط به الأوهام ؛ بل تجلّى لها بها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ؛
    ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا وعظم سلطانا».
    ومنها (2) :
    «الذي بطن خفيّات الامور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره ؛
    سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ؛
    لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّا كبيرا».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 185. أولها : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ...».
    البحار : 4 / 261 ، ح 9 ، عن الاحتجاج.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 49. أولها : «الحمد لله الذي بطن خفيّات الامور ...».
    عنه البحار : 4 / 308 ، ح 36.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:27 pm

    فصل [7]
    ومن كلامه عليه‌السلام (1) :
    «كلّ شيء خاشع له وكلّ شيء قائم به ؛ غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف ؛
    من تكلّم سمع نطقه ، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه.
    لم ترك (2) العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ؛ لم تخلق الخلائق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك (3) من أخذت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد في ملكك من أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاك ، ولا يستغني عنك من تولّى عن أمرك ؛
    كلّ سرّ عندك علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ؛
    أنت الأبد فلا أمد لك وأنت المنتهى لا محيص عنك ، وأنت الموعد لا منجى منك ، [إلّا إليك] (4) ؛ بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 109. «أو لها : كل شيء خاشع له وكل ...».
    عنه البحار : 4 / 317 ـ 318 ، ح 43.
    (2) ـ على هامش النسخة : تدركك خ ل.
    (3) ـ على هامش النسخة : ولا يفوتك خ ل.
    (4) ـ زيادة من المصدر.

    فصل [8]
    ومن كلامه ـ صلوات الله عليه ـ (1) :
    «الدالّ على وجوده بخلقه وبمحدث خلقه على أزليّته وباشتباههم على أن لا شبه له.
    لا تستلمه المشاعر ولا تحجبه السواتر ؛ لافتراق الصانع والمصنوع والحادّ والمحدود ، والربّ والمربوب ؛
    الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسّة ، والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة.
    بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه.
    من وصفه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال : «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن قال : «أين؟» فقد حيّزه.
    عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور».
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 152. أو لها : «الحمد لله الذي الدالّ على وجوده بخلقه».

    فصل [9]
    ومن كلامه عليه‌السلام (1) قاله لذعلب اليماني (2) ـ وقد سأله : «هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين»؟ ـ
    فقال عليه‌السلام : «أفأعبد ما لا أرى»؟ قال : «وكيف تراه»؟
    فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه الأبصار (3) بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلّم بلا رويّة ، مريد بلا همّة (4) ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرقّة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجلّ القلوب من مخافته».
    وفي رواية اخرى رواها في كتاب التوحيد (5) : «ويلك يا ذعلب! إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ولا السكون ، ولا بالقيام ـ قيام
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 179. البحار : 4 / 52 ، ح 9. 72 / 279.
    (2) ـ لا نعلم منه شيئا غير ما جاء في رواية الصدوق (التوحيد : 305 ، باب حديث ذعلب) : «فقام إليه رجل يقال له : ذعلب ، فكان ذرب اللسان بليغا في الخطب ، شجاع القلب ، فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة ، لأخجلنّه اليوم لكم في مسألتي إياه ...». راجع أيضا قاموس الرجال : 4 / 306.
    (3) ـ كذا في النسخ. ولكن في المصدر : تدركه القلوب.
    (4) ـ المصدر : لا بهمة.
    (5) ـ التوحيد : باب حديث ذعلب : 305. أمالي الصدوق : المجلس الخامس والخمسون ، ح 1 ، 422 ـ 423. ورواه الكليني مع اختلافات كثيرة في الكافي : كتاب التوحيد ، باب جوامع التوحيد ، 1 / 138 ـ 139 ، ح 4.

    انتصاب ـ ولا بجيئة ولا بذهاب ؛ لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رءوف الرحمة لا يوصف بالرقّة ؛ مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسّة ، قائل لا بلفظ (1) ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مباينة ، فوق كلّ شيء ولا يقال «شيء فوقه» ، وأمام كلّ شيء ولا يقال «له أمام» ، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها ، لا كشيء من شيء خارج». فخرّ ذعلب مغشيّا عليه.
    وفي رواية اخرى في الكتاب المذكور (2) ـ بعد كلام طويل قد مضى أكثره لفظا أو معنى ـ : «كان ربّا ولا مربوب ، وإلها ولا مألوه ، وعالما إذ لا معلوم ، وسميعا إذ لا مسموع» ـ ثمّ أنشأ يقول : ـ
    ولم يزل (3) سيّدي بالعلم (4) معروفا
    ولم يزل سيّدي بالجود موصوفا

    وكنت إذ ليس نور يستضاء به
    ولا ظلام على الآفاق معكوفا

    وربّنا بخلاف الخلق كلّهم
    وكلّ ما كان في الأوهام موصوفا

    __________________
    (1) ـ المصدر : لا باللفظ.
    (2) ـ التوحيد : باب حديث ذعلب : 309 ، ح 2. عنه البحار : 4 / 305 ، ح 34.
    (3) ـ في النسخة : ولم تزل. (وكذا في المصرع الثاني).
    (4) ـ المصدر والبحار : بالحمد.


    ومن يرده على التشبيه ممتثلا
    يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا

    وفي المعارج يلقى موج قدرته
    موجا يعارض طرف الروح مكفوفا

    فاترك أخا جدل في الدين منعمقا
    قد باشر الشكّ فيه الرأي مأووفا

    واصحب أخا ثقة حبّا لسيّده
    وبالكرامات مزمولا (1) ومحفوفا

    أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا
    وفي السماء جميل الحال معروفا

    فصل [10]
    ومن كلماته ـ صلوات الله عليه :
    «كان حيّا بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كيف ، ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفا قبل أن يكوّن شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدئ شيئا ، ولا يشبه شيئا مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ؛
    كان إلها حيّا بلا حياة ، ومالكا قبل أن ينشئ شيئا ، ومالكا بعد
    __________________
    (1) ـ في المصدر والبحار : من مولاه محفوفا.

    إنشائه للكون ؛ وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حدّ يعرف ، ولا شيء يشبهه ، ولا يهرم لطول بقائه ، ولا يصعق لذعره ، ولا يخاف كما يخاف خليقته من شيء ؛ ولكن سميع بغير سمع ، وبصير بغير بصر ، وقويّ بغير قوّة من خلقه ؛
    لا تدركه حدق الناظرين ، ولا يحيط بسمعه سمع السامعين ؛
    إذا أراد شيئا كان بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ، ولا يسأل أحدا عن شيء من خلقه أراده ؛ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [6 / 103].
    رواه في الكافي (1).
    فصل [11]
    ومن كلامه عليه‌السلام :
    «الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ؛
    مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به ـ من العجز ـ على قدرته ، وبما اضطرّها إليه ـ من الفناء ـ على دوامه ؛
    __________________
    (1) ـ كتاب الروضة : الخطبة الطالوتيّة : 31 ح 5. عنه البحار : 28 / 240 ، ح 27. و 57 / 159 ، ح 91. وجاء ما يقرب منه عن الباقر عليه‌السلام أيضا في الكافي : باب الكون والمكان ، 1 / 88 ـ 89 ، ح 3. والتوحيد : باب نفي المكان ، 173 ، ح 2.
    وأيضا فيه عن الكاظم عليه‌السلام : باب صفات الذات ... ، 141 ، ح 6. عنه البحار : 4 / 298 ـ 299 ، ح 27.

    لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّته (1) ، ولا له شبح (2) مثال فيوصف بكيفيّته ، ولم يغب عن شيء (3) فيعلم بحينيّته (4) ؛
    مباين لجميع ما أحدث في الصفات وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات ؛ محرّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى عوامق ناقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات الفطر تصويره ؛
    لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ؛ ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثّله ؛
    قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغر عن السموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ؛
    واحد لا من عدد ، ودائم بلا أمد (5) وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات ؛
    قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن
    __________________
    (1) ـ كذا في النسخة والعيون والبلد الأمين. ولكن في التوحيد : بأينية.
    (2) ـ كذا في النسخة والعيون والبلد الأمين ، ولكن في التوحيد : شبه.
    (3) ـ كذا في النسخة والعيون. ولكن في التوحيد : لم يغب عن علمه شيء.
    (4) ـ في المصادر : بحيثيته. وفي بعض نسخ التوحيد : بحيثية.
    (5) ـ في المصادر : لا بأمد.

    إحاطة ذكر أزليّته ، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ؛
    مقتدر بالآلاء وممتنع بالكبرياء ، ومتملّك على الأشياء ؛ فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به ؛ قد خضعت له رواتب الصعاب (1) في محلّ تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها ؛
    مستشهد بكلّيّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ؛ فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها ، ولا خروج من إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها ، ولا امتناع من قدرته عليها ؛
    كفى بإتقان الصنع لها آية ، وبمركّب الطبع عليها دلالة ، وبحدوث الفطر عليها قدمة ، وبإحكام الصنعة لها عبرة ؛ فلا إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه بمحجوب (2) ـ تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّا كبيرا».
    رواه في كتاب التوحيد (3) ، بإسناده عن مولانا الرضا عن آبائه ، عن جدّه عليه‌السلام.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : ثوابت الصعاب. العيون : الرقاب الصعاب. البلد الأمين : رقاب الصعاب.
    (2) ـ التوحيد والعيون : محجوب.
    (3) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 69 ـ 72 ، ح 26. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 121 ـ 122 ، ح 15. البلد الأمين : دعاء يوم الجمعة ، 92 مع فروق. عنه البحار : 90 / 138 ، ح 7.

    فصل [12]
    ومن كلامه الشريف ـ صلوات الله عليه ـ :
    «الحمد لله الذي لا يفره المنع (1) ولا يكديه الإعطاء ، إذ كلّ معط منتقص سواه ؛ المليء بفوائد النعم وعوائد المزيد ، وبجوده ضمن عيالة الخلق ، فأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه ؛ فليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل.
    ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ؛ ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال ، وضحكت عنه أصداف البحار ـ من فلذ اللجين (2) وسبائك العقيان ونضائد المرجان ـ لبعض عبيده ، لما أثّر ذلك في جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الإفضال ما لا ينفده مطالب السؤّال (3) ، ولا يخطر لكثرته على بال ؛ لأنّه الجواد الذي لا تنقصه المواهب ، ولا ينحله (4) إلحاح الملحّين ، و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] [36 / 82].
    __________________
    (1) ـ وفر يفر ـ كوعد يعد ـ من الوفور بمعني الكثرة ؛ أي لا يزيد المنع له شيئا. الإكداء : الإفقار والتقليل.
    (2) ـ الفلذ ـ بكسر الفاء وسكون اللام ـ : كبد البعير. وأفلاذ الأرض كنوزها. أو بكسر الأول وفتح الثاني ـ جمع الفلذة ـ بمعنى الذهب والفضة. وفي محكي البحار عن التوحيد : فلزّ ـ بالزاء المعجمة مشددة ـ وهو اسم الأجسام الذائبة مثل الذهب والفضة والرصاص. اللجين ـ مصغرا ـ : الفضة. العقيان : الذهب الخالص.
    (3) ـ السؤّال جمع السائل ؛ كطلاب جمع طالب.
    (4) ـ ينحله من الانحلال ، أو من التنحيل بمعنى الإعطاء ، أي لا يعطيه إلحاح الملحين شيئا ولا يؤثر فيه. وفى المنقول عن التوحيد في البحار : لا يبخله. ولعله الصحيح.

    الذي عجزت الملائكة ـ على قربهم من كرسيّ كرامته ، وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزّه ، وقربهم من غيب ملكوته ـ أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم ؛ وهم ـ من ملكوت القدس ـ بحيث هم في معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [2 / 32].
    فما ظنّك ـ أيّها السائل ـ بمن هو كذا؟ سبحانه وبحمده ؛ لم يحدث فيمكن فيه التغيّر والانتقال ، ولم يتصرّف في ذاته بكرور الأحوال ، ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيّام.
    الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ، ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله ؛ ولم تحط به الصفات ، فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهيا ، وما زال ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ـ عن صفة المخلوقين متعاليا ؛ وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفا ، وبالذات التي لا يعلمها إلّا هو عند خلقه معروفا ؛ وفات ـ لعلوّه على أعلى الأشياء ـ مواقع وهم المتوهّمين ، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة (1) رويّات المتفكّرين.
    فليس له مثل فيكون ما يخلق مشبها به ، وما زال ـ عند أهل المعرفة به ـ عن الأشباه والأضداد منزّها ؛ كذب العادلون بالله إذ شبّهوه بمثل أصنامهم ، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزّءوه بتقدير منتج من خواطر هممهم ، وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم.
    وكيف يكون من لا يقدّر قدره مقدّرا في رويّات الأوهام؟ وقد
    __________________
    (1) ـ الفهاهة : العيّ.

    ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام؟! لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير ، أو تحيط به الملائكة ـ على قربهم من ملكوت عزّته ـ بتقدير.
    تعالى عن أن يكون له كفؤ فتشبّه به (1) ؛ لأنّه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه ، وحاولت الفكر المبرّأة من خطر الوسواس إدراك علم ذاته ، وتولّهت القلوب إليه لتحوي منه مكيّفا في صفاته (2) ، وغمضت (3) مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته : ردعت خاسئة ـ وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه.
    رجعت ـ إذ جبهت ـ معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال اولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته ، لبعده من أن يكون في قوى المحدودين ، لأنّه خلاف خلقه ، فلا شبه له في المخلوقين ، وإنّما يشبه الشيء بعديله ؛ فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله؟!.
    وهو البديء الذي لم يكن شيء قبله ، والآخر الذي ليس شيء بعده ؛
    لا تناله الأبصار من مجد جبروته ـ إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته ، ولا تخرق إلى ذي العرش متانة خصائص ستره (4) ؛ إنّه
    __________________
    (1) ـ المصدر : فيشبّه به.
    (2) ـ في هامش النسخة : لتجري في كيفية صفاته ـ خ ل.
    (3) ـ أي لطفت ودقّت.
    (4) ـ المصدر : ستراته. (بدلا من : ستره انه).

    الذي صدرت الامور عن مشيّته ، وتصاغرت عزّة المتجبّرين دون جلال عظمته ، وخضعت له الرقاب ، وعنت الوجوه من مخافته ، وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته ، وصار كلّ شيء خلق حجة له ومنتسبا إليه ؛ وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتدبير ناطقة فيه.
    فقدّر ما خلق ، فأحكم تقديره ووضع كلّ شيء بلطف تدبيره موضعه ، ووجّهه بجهة (1) فلم يبلغ منه شيء حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيّته ، ولم يستصعب إذ أمره بالمضيّ إلى إرادته ـ بلا معاناة للغوب مسّه ، ولا مكابدة لمخالف له على أمره ـ فتمّ خلقه ، وأذعن لطاعته ، ووافى الوقت الذي أخرجه إليه إجابة ؛ لم يعترض دونها ريث المبطئ ، ولا أناة المتلكّئ ؛
    وأقام من الأشياء أودها وتهيء (2) معالم حدودها ، ولاءم بقدرته بين متضادّاتها ، ووصل أسباب قرائنها ، وخالف بين ألوانها ، وفرّقها أجناسا مختلفات في الأقدار والغرائز والهيئات.
    بدايا (3) خلائق أحكم صنعها ، وفطرها على ما أراد إذ ابتدعها ؛ انتظم علمه صنوف ذرئها ، وأدرك تدبيره حسن تقديرها.
    أيّها السائل ـ اعلم أنّ من شبّه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه ، وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته : إنّه لم يعقد غيب
    __________________
    (1) ـ يحتمل القراءة : بجهته.
    (2) ـ المصدر : نهّى.
    (3) ـ في هامش النسخة : بدايا : جمع بديء. وهو العجيب البديع. والبدايا خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذه الأشياء التي وصفتها بدائع خلائق.

    ضميره على معرفته ، ولم يشاهد قلبه اليقين بأنّه لا ندّ له ؛ وكانّه لم يسمع بتبرّي التابعين من المتبوعين وهم يقولون : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [26 / 97 ـ 98].
    فمن ساوى ربّنا بشيء فقد عدل به ، والعادل به كافر بما تنزّلت (1) به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيّناته ؛ لأنّه الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهبّ فكرها مكيّفا ، وفي حواصل رويّات همم النفوس محدودا مسرّفا ؛ المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من مرّ حوادث الدهور ، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور.
    الذي لمّا شبّهه العادلون بالخلق المنغصّ (2) المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته ـ وكان عزوجل الموجود بنفسه لا بآياته ـ انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره ، فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الأنداد ، وارتفاعا عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [39 / 67].
    فما دلّك القرآن عليه من صفته ، فاتّبعه ليوصل بينك وبين معرفته وأتمّ به ، واستضئ بنور هدايته ، فإنّها نعمة وحكمة اوتيتها ، فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين.
    __________________
    (1) ـ المصدر : نزلت به. وتحتمله قراءة النسخة أيضا.
    (2) ـ كذا في النسخة. غصّ بالطعام : اعترض في حلقه. وغص المكان به : ضاق عليه. والذي يظهر أن الصحيح ما في المصدر : المبعّض.

    وما دلّك الشيطان عليه ـ ممّا ليس في القرآن عليك فرضه ، ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهدى أثره ـ فكل علمه إلى الله عزوجل ؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك.
    واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام (1) في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [3 / 7] ؛ فمدح الله ـ عزوجل ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق ـ فيما لم يكلّفهم البحث عنه منهم ـ : رسوخا ؛ فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ...».
    رواه في كتاب التوحيد (2) ، وبعضه مذكور في نهج البلاغة (3) بأدنى تغيير في اللفظ.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : الاقتحام : الدخول في الشيء بشدة وصعوبة. والسدد : الحجب.
    (2) ـ التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 49 ـ 56 ، 13. عنه البحار : 4 / 274 ـ 276 ، ح 16.
    (3) ـ نهج البلاغة : الخطبة 91 (خطبة الأشباح). مع فروق كثيرة لم نتعرض لها. عنه البحار :
    57 / 106 ـ 107 ، 90. و 77 / 316 ـ 317.

    قال شارحه البحراني ـ رحمه‌الله ـ (1) :
    «واعلم أنّ في إحالته عليه‌السلام لطالب المعرفة على الكتاب والسنّة وبيان الأئمّة دلالة على أنّ مقصوده ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة فقط ، بل يتّبع أنوار القرآن والسنّة وآثار أئمّة الهدى.
    وقد ورد في القرآن الكريم والسنّة وكلام الأئمّة من الإشارات والتنبيهات على منازل السلوك ووجوب الانتقال في درجاتها ، ما لا يحصى كثرة ، ونبّهوا على كلّ مقام أهله ، وأخفوه عن غير أهله ، إذ كانوا أطبّاء النفوس.
    وكما أنّ الطبيب يرى أنّ بعض الأدوية لبعض المرضى ترياق وشفاء ، وذلك الدواء ـ بعينه ـ لشخص آخر سمّ وهلاك : كذلك كتاب الله والموضحون لمقاصده من الأنبياء والأولياء يرون أنّ بعض الأسرار الإلهيّة شفاء لبعض الصدور ، فيلقونها إليهم ؛ وربما كانت تلك الأسرار ـ بأعيانها ـ لغير أهلها سببا لضلالهم وكفرهم إذا القيت إليهم.
    فإذن مقصوده عليه‌السلام قصر كلّ عقل على ما هو الأولى به ، وما يحتمله ؛ والجمع العظيم هم أصحاب الظاهر ، الذين يجب قصرهم عليه» ـ انتهى ـ.
    ولنقتصر من كلماته عليه‌السلام في التوحيد على هذا القدر ، فإنّه مشتمل على مجامعها ، ولم يخرج عنه ـ ممّا وصل إليّ ـ من جهة المعنى إلّا أشياء متفرّقة ، ذكرناها في مواضعها الأنسب بها ـ ولله الحمد.
    __________________
    (1) ـ شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : 2 / 336.

    فصل [13]
    روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال (1) : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تفكّروا في الله ، فإنّكم لن تقدّروا قدره».
    وفي الكافي بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام (2) : «تكلّموا في خلق الله ، ولا تتكلّموا في الله ، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيّرا».
    وفي رواية اخرى (3) : «تكلّموا في كلّ شيء ، ولا تتكلّموا في ذات الله».
    وبإسناده الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام (4) ـ قال : ـ «إنّ الله عزوجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [53 / 42] ، فإذا انتهى الكلام إلى الله ، فامسكوا».
    __________________
    (1) ـ أخرج الطبراني في المعجم الأوسط (7 / 172 ، ح 6315) : «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله». ومثله في الكامل لابن عدي (ذكر وازع بن نافع العقيلى ، 7 / 95). وكنز العمال : 3 / 106 ، ح 5707.
    وحكى السيوطي في الجامع الصغير (باب التاء : 1 / 132) عن أبي الشيخ : «تفكّروا في الخلق ولا تفكّروا في الخالق ، فإنّكم لا تقدّرون قدره». الجامع الكبير : 4 / 111 ـ 112 ، ح 10503 ـ 10507. كنز العمال : ح 5706.
    (2) ـ الكافي : باب النهي عن الكلام في الكيفية : 1 / 92 ، ح 1.
    (3) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 1.
    (4) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 2. تفسير القمي : في تفسير الآية 53 / 42 : 2 / 348. عنه البحار : 3 / 259 ، ح 6. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب جوامع من التوحيد : 1 / 237 ، ح 206. عنه البحار : 3 / 264 ، ح 22. وعن تفسير النعمانى : 93 / 90.

    وبإسناده عنه عليه‌السلام (1) : «ابن آدم ـ لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك ، لو وضع عليه خرق إبرة تغطّاه ؛ تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض؟! إن كنت صادقا ، فهذه الشمس ـ خلق من خلق الله ـ فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول».
    قال بعض العارفين (2) : «إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنّه أدرك صورته بوجه ، وأنّه ما أدرك صورته بوجه ، لما يراه في غاية الصغر ـ لصغر جرم المرآة ـ أو الكبر ـ لعظمه ـ ولا يقدر أن ينكر أنّه رأى صورته ، ويعلم أنّه ليس في المرآة ـ صورته ، ولا هي بينه وبين المرآة ؛ فليس بصادق ولا كاذب في قوله : «رأى صورته» ، و : «ما رأى صورته». فما تلك الصورة المرئيّة؟ وما محلّها؟ وما شأنها؟ فهي منفيّة ثابتة ، موجودة معدومة ، معلومة مجهولة ؛ أظهر سبحانه هذه الحقيقة ضرب المثال ، ليعلم ويتحقّق أنّه إذا عجز وحار في درك حقيقة هذا ـ وهو من العالم ـ ولم يحصّل علما بحقيقته : فهو بخالقها إذن أعجز وأجهل ، وأشد حيرة». ـ انتهى كلامه ـ
    وأنشد بعضهم :
    اعتصام الورى بمغفرتك
    عجز الواصفون عن صفتك

    تب علينا فإنّنا بشر
    ما عرفناك حقّ معرفتك

    __________________
    (1) ـ الكافي : الباب المذكور : 1 / 93 ، ح 8.
    (2) ـ ابن عربي في الفتوحات المكية : الباب الثالث والستون : 1 / 304 ملخصا.

    [6]
    باب
    أسمائه الحسنى تبارك وتعالى
    (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [7 / 180]
    فصل [1]
    [الاسم وإطلاقاته] (1)
    الاسم ما دلّ على الذات الموصوفة بصفة معيّنة (2) ، كلفظ «الرحمن» ، فإنّه يدلّ على ذات متّصفة بالرحمة ، و «القهّار» فإنّه يدلّ على ذات لها القهر ـ إلى غير ذلك.
    وقد يطلق الاسم على نفس الذات باعتبار اتّصافها بالصفة ، وعلى
    __________________
    (1) ـ راجع عين اليقين : 311. الوافي : 1 / 464.
    (2) ـ أي على حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان. فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ ، كذلك تكون بالذوات ، من غير فرق بينهما فيما يئول إلى المعنى (هذه الحاشية والحاشية الآتية كتب على هامش م وع وليست في نسخة المؤلف ـ قدس‌سره ـ).

    هذا هو عين المسمّى باعتبار الهويّة والوجود ، وإن كان غيره باعتبار المعنى والمفهوم ـ حيث أنّ أحدهما مقيّد والآخر غير مقيّد ـ وهذا كما أنّ صفاته عزوجل عين ذاته المقدّسة وغيرها ـ بالاعتبارين ـ.
    والأسماء الملفوظة بالإطلاق الثاني هي أسماء الأسماء.
    وسئل مولانا الرضا عليه‌السلام عن الاسم : ما هو؟
    قال (1) : «صفة لموصوف».
    وهذا اللفظ يحتمل المعنيين ، وإن كان في الثاني أظهر.
    وقد يطلق الاسم على ما يفهم من اللفظ ـ أي المعنى الذهني (2) ـ وعليه ورد ما روي في الكافي (3) ، بسند حسن ، عن هشام بن الحكم ، أنّه سأل مولانا الصادق عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : «الله ، ممّا هو مشتق»؟
    ـ قال : ـ فقال لي : «يا هشام «الله» مشتقّ من «إله» والإله يقتضي
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب حدوث الأسماء ، 1 / 113 ، ح 3. التوحيد : باب أسماء الله تعالى ، 192 ، ح 5. العيون : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 129 ، ح 25. معانى الأخبار : باب معنى الاسم ، 2 ، ح 1.
    البحار : 4 / 159 ، ح 3. الوافي : 1 / 466 ، ح 377.
    (2) ـ فإنه يصحّ للعقل ملاحظة الاسم وحده ، مع قطع النظر عن تقييده ، وهو اعتبار اتصاف ذاته بالصفة الموجودة في المسمّى (راجع التعليقة الثانية في الصفحة السابقة).
    (3) ـ الكافي : باب المعبود : 1 / 87 ، ح 2. وباب معاني الأسماء واشتقاقها : 1 / 114 ، ح 2.
    ويوجد فروق يسيرة لفظية بين المنقول في البابين لم نتعرض لها ، واللفظ هنا يطابق ما في باب المعبود. التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 220 ، ح 13. الاحتجاج : 2 / 203. البحار : 4 / 157 ـ 158 ، ح 2. الوافي : 1 / 346 ، ح 270.

    مألوها (1) ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين (2) ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد ـ أفهمت يا هشام»؟
    ـ قال : ـ فقلت : «زدني».
    قال : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها ، ولكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ـ وكلّها غيره.
    يا هشام ـ الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ؛ أفهمت يا هشام ـ فهما تدفع به وتناضل به أعدائنا والمتّخذين مع الله ـ تعالى ـ غيره؟».
    __________________
    (1) ـ كتب في هامش النسخة كتعليقة على الحديث ولم يعلّم بعلامة ، ولكنها من كلام المؤلف من غير ترديد لكونها موجودا في الوافي (1 / 347) بلفظها شرحا للحديث ، ولعلها مستنسخة منه بعد ولذلك لا توجد في النسخ الاخرى ، وهي :
    «قال في الصحاح : أله ـ بالفتح ـ الهة : أي عبد عبادة ، ومنه قولنا : الله. وتقول : أله يأله إلها : أي تحيّر. والظاهر أن لفظ «إله» في الحديث فعال بمعنى المفعول ، وقوله عليه‌السلام : «والإله يقتضي مألوها» معناه أن إطلاق هذا الاسم واستعماله بين الأنام يقتضي أن يكون في الوجود ذات معبود ينطلق عليه هذا الاسم ، فإن الاسم غير المسمى ، إذ الاسم عبارة عن اللفظ أو المفهوم (كذا ، وفي الوافي : والمفهوم) منه ، والمسمى هو المقصود (الوافي : هو المعنى المقصود) من اللفظ الذي هو مصداقه. ويحتمل أن يكون «إله» في الحديث فعل ماض أو مصدرا ، وقوله : «والإله يقتضي مألوها» ـ بالسكون ـ يعني أن العبادة تقتضي أن يكون في الوجود ذات معبود ، لا يكفي فيها مجرد الاسم من دون أن يكون له مسمى. والمراد بالخبز ومعطوفاته إما الألفاظ أو المفاهيم ، وبالمأكول ونظائره الأعيان التي في الخارج».
    (2) ـ أي وحدث عبادتان ، إحداهما لشيء والاخرى لغير شيء ؛ ففيه وقع الاشتراك (الأظهر : الإشراك) في نفس العبادة (كتب هذه الحاشية في هامش م وع وعليه علامة «منه رحمه‌الله» ولا يوجد في نسخة المؤلف ـ قدس‌سره ـ).

    قلت : «نعم».
    ـ قال : ـ فقال : «نفعك الله به وثبّتك ـ يا هشام»؟.
    قال هشام : «فو الله ما قهرني أحد في التوحيد ، حتّى قمت مقامي هذا».
    وما روي فيه وفي كتاب التوحيد (1) بإسنادهما عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «من عبد الله بالتوهّم فقد كفر (2) ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه ، فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرّ أمره وعلانيته ، فاولئك هم المؤمنون حقّا».
    وفي لفظ آخر (3) : «فاولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا».
    فالمراد ب «الاسم» ـ في الخبرين ـ ما يفهم من اللفظ ، وب «المعنى»
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب المعبود : 1 / 87 ، ح 1. التوحيد : الباب السابق : 220 ، ح 12.
    عنه البحار : 4 / 165 ـ 166 ، ح 7. الوافي : 1 / 345 ، 268.
    (2) ـ كتب النص التالي في هامش النسخة بلا علامة :
    قوله عليه‌السلام : «من عبد الله بالتوهم فقد كفر» أي من غير جزم بوجوده ، أو بما يتوهّمه من مفهوم اللفظ ، أي عبد الصورة الوهميّة التي تحصل في ذهنه من مفهوم اللفظ. قوله : «ومن عبد الاسم» أي اللفظ الدال على المسمى أو ما يفهم من اللفظ من الأمر الذهني. قوله عليه‌السلام : «دون المعنى» أي ما يصدق عليه اللفظ ، أعني المسمى الموجود في خارج الذهن. والحاصل أن الاسم وما يفهم منه غير المسمى ، فإن لفظ الإنسان ـ مثلا ـ ليس بإنسان ، وكذا ما يفهم من هذا اللفظ بما يحصل في الذهن ، فإنه ليس له جسمية ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإنسانية.
    (وقد جاء صدر هذه التعليقة فقط ـ إلى قوله : من مفهوم اللفظ ـ في م وع.
    وعليه علامة : منه رحمه‌الله).
    (3) ـ نفس المصدر.

    ما يصدق عليه اللفظ. فالاسم أمر ذهنيّ ، والمعنى أمر خارجيّ ، وهو المسمّى ، والاسم غير المسمّى ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ في الذهن ليس بإنسان ، ولا له جسميّة ولا حياة ، ولا حسّ ، ولا حركة ، ولا نطق ، ولا شيء من خواصّ الإنسانيّة.
    فتدبّر فيه تفهم معنى الحديث ـ ومن الله الإعانة. (1)
    فصل [2]
    [الأسماء الحسنى واندراجها تحت لفظ الجلالة].
    روى في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام عن أبيه محمّد بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ تسعة وتسعين اسما ـ مائة إلّا واحدا (3) ـ من أحصاها دخل الجنّة ، وهي : الله (4) ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العلىّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ،
    __________________
    (1) ـ هنا كتب المؤلف فصلا أو أكثر ثم رأى حذفه وأخرج الورقة من الكتاب وشطب على القسم الباقي منه في الورقة الموجودة ولذلك لم نتمكن من إيراده.
    (2) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى 194 ـ 195 ، ح 8. الخصال : أبواب الثمانين وما فوقه : 2 / 593 ـ 594 ، ح 4. البحار : 4 / 186 ـ 187 ، ح 1.
    (3) ـ كذا. ولكن في المصدر : واحدة.
    (4) ـ اضيف هنا في التوحيد والخصال وكذا فيما نقله المجلسي ـ ره ـ عنهما في البحار : «الإله».
    والأظهر أن الصحيح ما نقله المؤلف ـ قدس‌سره ـ إذ به يصير عدد الاسماء مائة.

    العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ، الرزّاق ، الرقيب ، الرءوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الدّيان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي».
    وبإسناده (1) عن مولانا الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لله ـ عزوجل ـ تسعة وتسعون اسما ، من دعا الله بها استجاب له ، ومن أحصاها دخل الجنّة «. ورواها العامّة أيضا بأسانيد متعدّدة (2) ، باختلاف بعضها في اللفظ ، واستبدال بعض من الأسماء مكان بعض ـ فيما تضمّن التفصيل منها (3) ـ.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق 195 ، ح 9. عنه البحار : 4 / 187 ، ح 2.
    (2) ـ روى عنهم الصدوق ـ ره ـ في التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 219 ، ح 11.
    راجع الأسماء والصفات للبيهقي : باب بيان الأسماء التي من أحصاها دخل الجنّة : 1 / 28.
    (3) ـ الأسماء والصفات : الصفحة المذكورة. المستدرك للحاكم : كتاب الإيمان ، 1 / 16.
    الترمذي : كتاب الدعوات ، الباب 83 ، 5 / 530 ، ح 3507.
    كنز العمال : 1 / 448 ـ 450 ، ح 1937 ـ 1939.

    وزاد في بعضها (1) : «انّ الله وتر يحبّ الوتر».
    وإنّما خصّ هذا العدد بالذكر ـ مع أنّ أسماء الله ـ سبحانه ـ أزيد من ذلك ، بما لا يدخل تحت الضبط ، كما يستفاد من تتبّع الكتاب والسنّة ـ إمّا لاختصاص هذه بما رتّب عليه من دخول الجنّة بإحصائها واستجابة الدعوة ، أو لامتيازها من سائر الأسماء بمزيد فضل ، لجمعها أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال ما لا يجمع غيرها.
    ولا بدّ أن يكون تحت كلّ منها معنى ليس في الآخر ، ولو باشتماله على زيادة دلالة لا يدلّ عليها الآخر ، كالغنىّ والملك ، فانّ الغنيّ هو الذي لا يحتاج إلى شيء ، والملك هو الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كلّ شيء ، فيكون الملك مفيدا معنى الغنيّ وزيادة ؛ وكذلك العليم والخبير : فإنّ العليم يدلّ على العلم فقط ، والخبير يدلّ على علم بالامور الباطنة.
    وربما عجزنا عن التنصيص على خصوص ما به الافتراق بين اثنين منها ـ وإن كنّا لا نشكّ في أصل الافتراق ـ كالعظيم والكبير ، فإنّه لا يستعمل أحدهما مكان الآخر في لغة العرب ، فلا يقال : «فلان أعظم سنّا» مكان قولهم : «أكبر سنّا» ؛ وفي الحديث القدسيّ (2) : «العظمة
    __________________
    (1) ـ مسلم : كتاب الذكر ، باب في أسماء الله تعالى ، 4 / 2062 ، ح 5.
    البخاري : كتاب الدعوات ، باب لله مائة اسم غير واحد ، 8 / 109.
    (2) ـ أبو داود (باب ما جاء في الكبر : 4 / 59 ، 4090) : «قال الله عزوجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري». وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (في تفسير الفاتحة :
    36) : «يا موسى إنّ الفخر ردائي والعظمة إزاري ، ومن نازعني في شيء منهما عذّبته بناري». عنه البحار : 23 / 267 ، ح 12.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:29 pm

    إزاري ، والكبرياء ردائي» ، ففرّق بينهما فرقا يدلّ على التفاوت ـ وإن كنّا لا نعرفه بعينه ـ.
    وإنّما قلنا بوجوب الافتراق ، لأنّ الأسامي لا تراد لحروفها ، ومخارج أصواتها ، بل لمفهوماتها ومعانيها ، فلا يجوز أن تكون مترادفة محضة ، حيث دخل تحت الضبط في عدد مخصوص ، وإن كانت أسماء الله ـ كلّها يندرج بعضها في بعض بالمعنى ، كاندراج «النافع» تحت «اللطيف» ، و «المانع» تحت «القهار» ـ إلى غير ذلك ـ.
    ويندرج الكلّ تحت «الله» لاشتماله على جميع الصفات الإلهيّة ، والأعظم (1) مستور فيها إلّا على (2) أهله ، ولها خواصّ عجيبة ، وآثار غريبة ، ومناسبات للنفوس ، وتأثيرات فيها ، ذكرا وكتابة ووفقا (3) واستصحابا ، بشرائط مخصوصة ذكرها جماعة من أهل هذا الفنّ في كتبهم ومصنّفاتهم.
    __________________
    (1) ـ يعني الاسم الأعظم.
    (2) ـ نسخة : عن.
    (3) ـ وفق الاسم أن تأخذ مربعا وتقسمه إلى أجزاء معينة متساوية عرضا وطولا ، فيكون أجزائها ثلاثة في ثلاثة أو أربعة في أربعة أو غيرها ، ويسمى الوفق باسم عدده ؛ ثم تحسب عدد اسم مخصوص وتضع في كل جزء من الجدول عددا بحيث يكون مجموع أعداد كل قطر من الجدول في كل جهة مساويا لعدد ذلك الاسم ، شرط أن لا يتكرر عدد في جزءين من الجدول.

    فصل [3]
    [تحقيق معنى إحصاء الأسماء]
    قال الشيخ الفقيه الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ـ رحمه‌الله ـ (1) : «إحصاؤها هو الإحاطة بها ، والوقوف على معانيها ؛ وليس معنى الإحصاء عدّها».
    وقال السيّد فضل الله الراوندي ـ في شرح الشهاب (2) :
    «الإحصاء بمعنى الإطاقة ، كما قال عليه‌السلام (3) : «استقيموا ولن تحصوا». وقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [73 / 20] أي لن تطيقوه. وفي الحديث (4) : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، من
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 195.
    (2) ـ شهاب الأخبار في الحكم والآداب للقاضي محمد بن سلامة القضاعي ، المتوفى سنة 454 ، كتاب معروف جمع فيه ألف حديث نبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شرحه جمع من الأعلام ، منهم السيد العالم ضياء الدين أبو الرضا فضل الله بن علي الراوندي ، كان معاصرا للقطب الراوندي ، قال الشيخ منتجب الدين في فهرسته : «هو علامة زمانه ... وكان استاد أئمة عصره ، وله تصانيف منها ضوء الشهاب في شرح الشهاب ...».
    راجع ترجمته في الرياض : 4 / 364 ـ 374. والكتاب مخطوط لم يطبع.
    (3) ـ ابن ماجة : كتاب الطهارة ، باب المحافظة على الوضوء : 1 / 101 ـ 102 ، ح 277 ـ 278.
    المسند : 5 / 282. الدارمي : كتاب الصلاة ، باب ما جاء في الطهور ، 1 / 168.
    مستدرك الحاكم : كتاب الطهارة ، 1 / 130. المعجم الكبير : 2 / 101 ، ح 1444.
    و 7 / 25 ـ 26 ، ح 6270. المعجم الصغير : 23 ، ح 8. و 418 ، ح 1013.
    الجامع الكبير : 1 / 426 ، ح 2925. كنز العمال : 3 / 57 ، ح 5474.
    (4) ـ مضى الحديث آنفا.

    أحصاها دخل الجنّة». ومعناه : من أطاق أن يقتدر بها قدر ما يطيق دخل الجنّة».
    وقال بعض أهل المعرفة (1) :
    «إحصاؤها أن يجعلها أسماء لنفسه بتحصيل معانيها فيها بقدر الإمكان ؛ وهذا كقوله عليه‌السلام (2) : «تخلّقوا بأخلاق الله» ؛ وإلّا فلو أنّ أحدا أحصى ألف ألف اسم من أسمائه العظام بمجرّد اللسان ، من غير أن ينطبع في طبعه ، وينتقش في نفسه تلك المعاني المدلول عليها بتلك الأسامي ، فمثله (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [2 / 171]».
    أراد بذلك أن يثبت للعبد من هذه الصفات امور [ا] تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ، وإن لم تماثلها مماثلة تامّة».
    وقال بعض العلماء (3) :
    «اعلم أنّ من لم يكن له حظ من معانى أسماء الله ـ تعالى ـ إلّا أن يسمع لفظه ويفهم في اللغة تفسيره ووضعه ، ويشهد
    __________________
    (1) ـ لم أعثر على القائل.
    (2) ـ لم أعثر عليه في الجوامع الروائية. استشهد به السيد حيدر الآملي في جامع الأسرار : القاعدة الاولى من الأصل الثالث ، 363. وعبد الرزاق القاساني في شرح منازل السائرين : باب الخلق ، 235. والغزالي في المقصد الأسنى : خاتمة الفصل الأول من الفن الثاني : 162. والفخر الرازي في المقاصد العالية : 7 / 300.
    (3) ـ الغزالي في المقصد الأسنى : الفصل الرابع من الفن الأول : 42 ـ 44.

    بالقلب وجوده ومعناه لله ـ تعالى ـ فهو مبخوس الحظّ نازل الدرجة ، ليس يحسن أن يتبجّح بما ناله.
    فإنّ سماع الألفاظ لا يستدعي إلّا سلامة حاسّة السمع ، التي بها تدرك الأصوات ، وهذه رتبة تشارك البهيمة فيها.
    وأمّا فهم وضعه في اللغة ، فلا يستدعي إلّا معرفة العربيّة ، وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغويّ ، بل الغوي البدويّ.
    وأمّا اعتقاد ثبوت معناه لله تعالى ـ من غير كشف ـ فلا يستدعي إلّا فهم معاني تلك الألفاظ ، والتصديق بها ؛ وهذه رتبة يشارك فيها العاميّ ، بل الصبيّ ؛ فإنّه بعد فهم الكلام إذا القي هذه المعاني إليه تلقّاها وتلقّنها واعتقدها بقلبه ، وصمّم عليها. وهذه درجات أكثر العلماء ـ فضلا من غيرهم ـ ولا ينكر فضل هؤلاء بالإضافة إلى من لم يشاركهم في هذه الدرجات الثلاث ، ولكنّه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال (1) ، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ؛
    بل حظوظ المقرّبين من معاني أسماء الله ـ تعالى ـ ثلاثة :
    الأوّل : معرفة هذه المعاني على سبيل المكاشفة والمشاهدة ، حتّى تتّضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطاء ، وينكشف لهم اتّصاف الله تعالى بها انكشافا يجرى في الوضوح والبيان مجرى اليقين ، الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التى
    __________________
    (1) ـ الذروة والذروة : أعلى الشيء.

    يدركها بمشاهدة باطنة ، لا بإحساس ظاهر ؛ وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلّمين تقليدا ، والتصميم عليه ، وإن كان مقرونا بأدلّة جدليّة كلاميّة.
    الحظّ الثاني من حظوظهم : استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من الاستعظام شوقهم إلى الاتّصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ، ليقربوا بها من الحقّ قربا بالصفة ـ لا بالمكان ـ فيأخذوا من الاتّصاف بها شبها بالملائكة المقرّبين عند الله ـ تعالى ـ ولن يتصوّر أن يمتلأ القلب باستعظام صفة واستشرافها عليه ، إلّا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة ، وعشق لذلك الكمال والجمال ، وحرص على التحلّى بذلك الوصف ، إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله ؛ وإن لم يمكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة.
    ولا يخلو عن هذا الشوق أحد إلّا لأحد أمرين :
    إمّا لضعف المعرفة واليقين بكون الوصف المعلوم من أوصاف الجلال والكمال.
    وإمّا كون القلب ممتلئا بشوق آخر ، مستغرقا به ؛ فالتلميذ إذا شاهد كمال استاده في العلم ، انبعث شوقه إلى التشبّه به والاقتداء به ، إلّا إذا كان ممنوعا بالجوع ـ مثلا ـ فإنّ استغراق باطنه بشوق القوت ربما منع انبعاث شوق العلم.
    ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات الله ـ تعالى ـ خاليا بقلبه عن إرادة ما سوى الله ـ عزوجل ـ فإنّ المعرفة بذر الشوق ، ولكن مهما صادف [ت] قلبا خاليا عن حسكة

    الشهوات ، فإن لم يكن خاليا لم يكن البذر منجحا.
    الحظّ الثالث : السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلّق بها ، والتحلّي بمحاسنها ، وبه يصير العبد ربّانيّا ـ أي قريبا من الربّ ـ تعالى ـ وبه يصير رفيقا للملإ الأعلى من الملائكة ، فإنّهم على بساط القرب فمن صرف [همّته] إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقرّبة لهم إلى الحقّ ـ تعالى ـ».
    ـ ثمّ قال : ـ
    «فإن قلت : فظاهر هذا الكلام يشير إلى إثبات مشابهة بين العبد وبين الله ـ تعالى ـ لأنّه إذا تخلّق بأخلاق الله كان شبها له ، ومعلوم شرعا وعقلا أنّ الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [42 / 11] ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.
    فأقول : مهما عرفت معنى المماثلة المنفيّة عن الله ـ تعالى ـ عرفت أنّه لا مثل له ؛ ولا ينبغي أن يظنّ أنّ المشاركة في كلّ وصف توجب المماثلة ؛ أفترى أنّ الضدّين يماثلان ـ وبينهما غاية البعد الذي لا يتصوّر أن يكون بعد فوقه ـ وهما متشاركان في أوصاف كثيرة ، إذ السواد يشارك البياض في كونه عرضا ، وفي كونه لونا ، وفي كونه مدركا بالبصر ـ وامور اخر سواه ـ أفترى أنّ من قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ موجود لا في محلّ ؛ وإنّه سميع ، بصير ، عالم ، مريد ، متكلّم ، حيّ ، قادر ، فاعل ؛ وإنّ الملك أو نفس الإنسان ـ أيضا ـ كذلك» فقد شبّه وأثبت المثل؟
    هيهات ـ ليس الأمر كذلك ، ولو كان كذلك ، لكان الخلق

    كلّهم مشبّهة ، إذ لا أقلّ من إثبات المشاركة في الوجود ، وهو موهم للمشابهة ؛
    بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهيّة ؛ والفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا للإنسان ، لأنّه مخالف له بالنوع وإنّما شابهه بالكياسة التي هي عارض [ة] خارج [ة] من الخاصيّة المقوّمة لذات الإنسانيّة ؛ والخاصيّة الإلهيّة : أنّه الموجود الواجب الوجود بذاته ، الذي عنه يوجد كلّ ما في الإمكان وجوده على أحسن وجوه النظام والكمال.
    وهذه الخاصيّة ، لا تتصوّر فيها مشاركة البتّة ؛ والمماثلة بها تحصل ؛ فكون العبد رحيما صبورا شكورا لا يوجب المماثلة ؛ ككونه سميعا ، بصيرا عالما ، قادرا ، حيّا ، فاعلا.
    بل أقول : الخاصيّة الإلهيّة ليست إلّا لله تعالى ، ولا يعرفها إلّا الله ، ولا يتصوّر أن يعرفها إلّا هو ، أو من هو مثله ، وإذ لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره ، فإذن الحقّ ما قيل (1) : «لا يعرف الله إلّا الله» ، ولذلك لم يعط أجلّ خلقه إلّا اسما حجبه به ، فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [87 / 1].
    والله ما عرف الله غير الله في الدنيا والآخرة».
    ثمّ شرع في شرح معاني أسماء الله ـ سبحانه ـ وبيان حظّ العبد منها واحدا واحدا ، ولنورد ملخّص ما ذكره ـ ومن الله التأييد ـ :
    __________________
    (1) ـ في المصدر : «الحق ما قاله الجنيد حيث قال». والمؤلف أيضا كتب كذلك أولا ثم شطب عليه وكتب : «الحق ما قيل».

    الله (1)
    اسم للموجود الحقّ الجامع لصفات الإلهيّة ، المنعوت بنعت الربوبيّة ، المتفرّد بالوجود الحقيقي ؛ فإنّ كلّ موجود سواه غير مستحقّ للوجود بذاته ، وإنّما استفاد الوجود منه ، فهو من حيث ذاته هالك ، ومن [ال] جهة التي تليه موجود.
    وهو أخصّ الأسماء وأعظمها ، لجمعه الصفات الإلهيّة كلّها ـ وسائر الأسماء لا يدلّ إلّا على آحاد المعاني ، من علم أو قدرة أو فعل ـ ولعدم انطلاقه على غيره ـ لا حقيقة ولا مجازا ـ لعدم اتّصاف غيره بشوب منه ، كسائر الأسماء ؛ ولهذا يعرف سائر الأسماء بالإضافة إليه ، فيقال : «الجبّار من أسماء الله» ؛ ولا يقال : «الله من أسماء الجبّار».
    وحظّ العبد من هذا الاسم التألّه ، بأن يكون مستغرق القلب والهمّة بالله ، لا يرى غيره ، ولا يلتفت إلى سواه ، ولا يرجو ولا يخاف إلّا إيّاه. وكيف لا يكون كذلك؟! وقد فهم من هذا الاسم أنّه الموجود الحقيقي الحقّ ، وكلّ ما سواه فان وهالك وباطل إلّا به ؛ فيرى أوّلا نفسه أوّل هالك وباطل ، كما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال (2) : «أصدق شعر
    __________________
    (1) ـ المقصد الأسنى : الفصل الأول من الفنّ الثاني : 64 ـ 161.
    (2) ـ الحديث مروي بألفاظ مختلفة : البخاري باب أيام الجاهلية ، 5 / 53 : «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد ...». مسلم : كتاب الشعر ، 4 / 1768 ـ 1769 ، ح 2 ـ 6 : «أشعر كلمة تكلمت بها العرب ... ؛ أصدق بيت قاله الشاعر ... ؛ أصدق بيت قالته الشعراء ...». راجع أيضا : الترمذي : كتاب الأدب ، باب (90) ما جاء في إنشاد الشعر ، 5 / 140 ، ح 2849. كنز العمال : 3 / 577 ، ح 7977 ـ 7978. ـ

    قاله شاعر قول لبيد (1) :
    ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
    [................... (2)]

    الرحمن الرحيم
    مشتقّان من «الرحمة» وهي إفاضة الخير على المحتاجين عناية بهم ورحمة الله ـ تعالى ـ تامّة وعامّة وكاملة.
    أمّا تمامها : فمن حيث أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها عناية بهم. وأمّا عمومها : فمن حيث شمل المستحقّ وغير المستحقّ ، وعمّ الدنيا والآخرة ، وتناول الضرورات وغيرها. وأمّا كمالها : فلخلوّها عن الرقّة المؤلمة التي تعتري الرحيم ، فتحرّكه إلى قضاء حاجة المرحوم ؛ فإنّ تلك الرقّة يكاد صاحبه [ا] يقصد بفعله دفع الألم عن نفسه ، فيكون نظر لنفسه ، وسعى لغرض نفسه ـ لا للمرحوم لأجل المرحوم ـ وذلك نقصان عن كمال معنى الرحمة.
    وليعلم أنّ تلك الرقّة لا مدخل لها في تحقّق معنى الرحمة ، وإنّما
    __________________
    ـ حلية الأولياء ، ترجمة شعبة بن الحجاج : 7 / 201. المسند : 2 / 248 و 470.
    ابن ماجة : كتاب الأدب ، باب الشعر ، 2 / 1236 ، ح 3757.
    الجامع الكبير : 1 / 455 ، ح 3151.
    (1) ـ لبيد بن ربيعة العامري من فحول الشعراء المخضرمين ، صاحب المعلقة. والمعروف أنه ترك الشعر بعد إسلامه ، وهو من المعمرين ، حكي في اسد الغابة (4 / 217) عن مالك بن أنس : «بلغني أنّ لبيد بن ربيعة عاش مائة وأربعين سنة».
    راجع اسد الغابة : 4 / 214 ـ 217 ، الترجمة 4521. الإصابة : 3 / 326 ـ 327 ، الترجمة 7541. الكامل للمبرد : 2 / 781 ـ 783.
    (2) ـ تمام البيت : وكل نعيم لا محالة زائل.

    تحصل الرحمة بحصول ثمرتها ، ولا حظّ للمرحوم في تألّم الراحم وتفجّعه ، وإنّما تألّمه لضعف نفسه ونقصانها ، ولا يزيد ذلك في غرض المحتاج شيئا.
    والرحمن أخصّ من الرحيم ؛ ولهذا لا يسمّى به غير الله ، فبالحريّ أن يكون المفهوم منه نوعا من الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد ، وهي ما يتعلّق بالسعادة الاخرويّة.
    أقول : وفي أخبار أهل البيت عليهم‌السلام (1) : «إنّ الرحمن هو بجميع العالم والرحيم بالمؤمنين خاصّة».
    وحظّ العبد من اسم «الرحمن» أن يرحم عباد الله الغافلين ، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله ـ تعالى ـ بالوعظ والنصح ، بطريق اللطف ـ دون العنف ـ وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة ، لا بعين الإزراء (2) ، وأن يكون كلّ معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه ، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه ، رحمة لذلك العاصي أن يتعرّض لسخط الله تعالى ويستحقّ البعد عن جواره.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب معنى بسم الله الرحمن الرحيم : 230 ، ح 2. معاني الأخبار : نفس الباب ، 3 ، ح 1 ـ 2. تفسير القمي : تفسير بسم الله الرحمن الرحيم : 1 / 57. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب جوامع التوحيد ، 238 ، ح 213. العياشي : 1 / 22.
    عنها البحار : 92 / 229 ، ح 8. و 92 / 321 ، ح 11 ـ 12. وعن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم : 85 / 51 ، ح 43.
    (2) ـ أزراه : عابه ووضع من حقه. أزرى عليه عمله : عاتبه أو عابه عليه.

    وحظّه من اسم «الرحيم» أن لا يدع فاقة لمحتاج إلّا يسدّها بقدر طاقته ، ولا يترك فقيرا في جواره إلّا ويقوم بتعهّده ورفع فقره ، إمّا بماله أو جاهه أو السعي في حقّه بالشفاعة إلى غيره ، فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء له وإظهار الحزن بسبب حاجته ، رقّة عليه وعطفا ، حتّى كأنّه مساهم له في ضرره وحاجته.
    سؤال وجواب :
    لعلّك تقول : ما معنى كونه تعالى رحيما ، وكونه أرحم الراحمين؟ والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعدما ومريضا ـ وهو يقدر على إماطة ما بهم ـ إلّا ويبادر إلى إماطته ؛ والربّ ـ تعالى ـ قادر على كفاية كلّ بليّة ، ودفع كلّ فقر ، وإماطة كلّ مرض ، وإزالة كلّ ضرر ، والدنيا طافحة (1) بالأمراض والمحن والبلايا ، وهو قادر على إزالة جميعها ، وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن؟
    فجوابك : أنّ الطفل الصغير قد ترقّ له أمّه فتمنعه من الحجامة ، والأب العاقل يحمله عليها قهرا ، والجاهل يظنّ أنّ الرحيم هي الامّ ـ دون الأب ـ والعاقل يعلم أنّ إيلام الأب إيّاه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته ، وأنّ الامّ له عدوّ في صورة صديق ؛ وأنّ الألم القليل إذا كان سببا للّذة الكثيرة لم يكن شرّا ـ بل كان خيرا ـ والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة ، وليس في الوجود شر إلّا وفي ضمنه
    __________________
    (1) ـ على هامش النسخة : طفح الإناء ـ كمنع ـ طفحا ، وطفوحا : امتلأ.

    خير ، لو رفع ذلك الشرّ لبطل الخير الذي في ضمنه ، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشرّ الذي يتضمّنه. فالخير مراد لذاته ، والشرّ مراد لغيره ؛ والمراد لذاته قبل المراد لغيره ، ولهذا قال تعالى (1) : «سبقت رحمتي غضبي».
    فغضبه إرادته للشرّ بالعرض ، ورحمته إرادته للخير بالذات ؛ فالآن إن خطر لك نوع من الشرّ لا ترى تحته خيرا ، أو خطر لك أنّه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا ـ لا في ضمن الشرّ ـ فاتّهم عقلك القاصر في أحد الخاطرين :
    إمّا في قولك : «إنّ هذا الشرّ لا خير تحته» ؛ فإنّ هذا ممّا تقصر العقول عن معرفته ، ولعلّك فيه مثل الصبيّ الذي يرى الحجامة شرّا محضا ، أو مثل الغبيّ الذي يرى القصاص شرّا محضا ، لأنّه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ويراه في حقّه شرّا محضا ، ويذهل عن الخير العامّ الحاصل للناس كافّة ، ولا يدرى أنّ التوسّل بالشرّ الخاصّ إلى الخير العامّ خير محض لا ينبغي للخيّر أن يهمله.
    أو اتّهم عقلك في الخاطر الثاني ، وهو قولك : «إنّ تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشرّ ممكن» فإنّ هذا أيضا دقيق غامض ؛ فليس كلّ ممكن ومحال ممّا يدرك استحالته وإمكانه بالبديهة ، ولا بالنظر القريب ، بل ربما عرف بنظر دقيق غامض يقصر عنه الأكثرون.
    فاتّهم عقلك في هذين الخاطرين ، ولا تشكّن أصلا في أنه أرحم الراحمين ، وأنّه «سبقت رحمته غضبه».
    __________________
    (1) ـ راجع ما مضى في الصفحة : 83.

    الملك
    هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كلّ موجود ، ويحتاج إليه كلّ موجود ؛ بل لا يستغني عنه شيء في شيء ـ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في وجوده ولا في بقائه ـ بل كلّ شيء فوجوده منه أو ممّا هو منه ، فكلّ شيء سواه فهو له مملوك في ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء.
    فهذا هو الملك المطلق ؛ والعبد لا يتصوّر أن يكون كذلك ، فإنّه أبدا فقير إلى الله ، ولكن يتصور أن يستغني عن بعض الأشياء ولا يستغني عنه بعض الأشياء. فيكون له شوب من الملك.
    فالملك من العباد هو الذي لا يملكه إلّا الله ـ تعالى ـ بل يستغني عن كلّ شيء سوى الله ، وهو مع ذلك يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياه ؛ وإنّما مملكته الخاصّة به قلبه وقالبه ، وجنده شهوته وغضبه وهواه ، ورعيّته لسانه وعيناه ويداه وسائر أعضائه. فإذا ملكها ـ ولم تملكه ـ وأطاعته ـ ولم يطعها ـ فقد نال درجة الملك في عالمه ، فإن انضمّ إليه استغناؤه عن كلّ الناس ، واحتياج الناس كلّهم إليه في حياتهم العاجلة والآجلة ، فهو الملك في العالم الأرضي.
    وذلك رتبة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ فإنّهم استغنوا في الهداية إلى الحياة الاخرويّة ، عن كل أحد سوى الله تعالى ، واحتاج إليهم كلّ أحد. ويليهم في هذا الملك العلماء ، الذين هم ورثة الأنبياء وإنّما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد.

    القدّوس
    هو المنزّه عن كلّ وصف يدركه حس أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يفضي به فكر.
    لست أقول : «منزّه عن العيوب والنقائص» ، فإنّ ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب ، فليس من الأدب أن يقول القائل : «ملك البلد ليس بحائك ولا حجّام» ، فإنّ النفي يكاد يوهم الإمكان ، وفي ذلك الإيهام نقص.
    بل أقول : القدّوس هو المنزّه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنّه أكثر الخلق ، لأنّ الخلق إنّما يصفونه بما هو كمال في حقّهم ، والله تعالى منزّه عن أوصاف كمالهم ، كما أنّه منزّه عن أوصاف نقصهم ؛
    بل كلّ صفة تتصوّر للخلق ، فهو مقدّس عنها وعمّا يشبهها ويماثلها ؛ ولو لا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها ، لم يجز إطلاق أكثرها.
    وقدس العبد في أن ينزّه علمه وإرادته :
    أمّا علمه : فينزّهه عن المتخيّلات والمحسوسات والموهومات وكلّ ما تشارك فيها البهائم من الإدراكات ؛ بل يكون تردّد نظره وتطواف علمه حول الامور الشريفة الكليّة الإلهيّة ، المتعلقة بالمعلومات الأزليّة الأبديّة ؛ دون الشخصيّات المتغيّرة المستحيلة.
    وأمّا إرادته : فينزّهها عن أن تدور حول الحظوظ البشريّة التي ترجع إلى لذّة الشهوة والغضب ، ومتعة المطعم والمنكح والملبس

    والمنظر ، وما لا يصل إليه من اللذّات ، إلّا بواسطة الحسّ والقالب ؛ بل لا يريد إلّا الله تعالى ، ولا يبقى له حظّ إلّا فيه ، ولا يكون له شوق إلّا إلى لقائه ، ولا فرح إلّا بالقرب منه ؛ ولو عرضت عليه الجنّة وما فيها من النعيم ، لم يلتفت همّته إليها ولم يبتغ من الدار إلّا ربّ الدار.
    وعلى الجملة ـ الإدراكات الحسيّة والخياليّة تشارك البهائم فيها ، فينبغي أن يترقّى عنها إلى ما هو من خواصّ الإنسانيّة ؛ والحظوظ البشريّة الشهوانيّة تزاحم البهائم أيضا فيها ، فينبغي أن ينزّه عنها ؛
    فجلالة المريد على قدر جلالة مراده ، ومن همّته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه ، ومن لم يكن همّته سوى الله ، فدرجته على قدر همّته ، ومن ترقى علمه عن درجة المتخيّلات والمحسوسات وقدس إرادته عن مقتضى الشهوات ، فقد نزل بحبوحة حظيرة القدس (1).
    السّلام
    هو الذي يسلم ذاته عن العيب والنقص ، وصفاته عن النقص (2) ، وأفعاله عن الشرّ ، حتّى إذا كان كذلك لم يكن في الوجود سلامة إلّا وكانت معزوّة (3) إليه ، صادرة منه. وقد فهمت أنّ أفعاله تعالى سالمة عن الشرّ المراد لذاته ـ لا لخير حاصل في ضمنه أعظم منه ـ
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    تو وطوبى وما وقامت يار
    فكر هركس به قدر همّت اوست

    (2) ـ كذا. وفي المصدر : يسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص.
    (3) ـ على هامش النسخة : أي منسوبة.

    وكلّ عبد سلم من الغشّ والحقد والحسد وإرادة الشرّ قلبه ، وسلم عن الآثام والمحظورات جوارحه ، وسلم عن الانتكاس والانعكاس صفاته : فهو الذي يأتي الله بقلب سليم ، وهو السلام من العباد ، القريب في وصفه من السلام المطلق الحقّ ، الذي لا مشوبة في صفته.
    وأعني بالانتكاس في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه ـ إذ الحقّ عكسه ، وهو أن يكون الشهوة والغضب أسير العقل وطوعه.
    المؤمن
    هو الذي يعزى إليه الأمن والأمان ، بإفادته أسبابه وسدّه طرق المخاوف كلّها ؛
    وهو الله ـ سبحانه ـ إذ لا أمن ولا أمان في الدنيا من الآفات والأمراض والمهلكات ، ولا في الآخرة من العذاب والنقمات ، إلّا وهو مستفاد من الله بأسباب هو متفرّد بخلقها ، والهداية إلى استعمالها.
    ولا يمنع ذلك خلقه لأسباب الخوف أيضا ، كما لا يمنع كونه «مذلّا» كونه «معزّا» ، ولا كونه «خافضا» كونه «رافعا» ؛ لكن «المؤمن» ورد التوقيف به دون «المخوّف».
    وحظّ العبد من هذا الوصف : أن يأمن الخلق كلّهم جانبه ؛ بل يرجو كلّ خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه ودنياه.

    وفي الحديث (1) : «المؤمن من آمن جاره بوائقه (2)» (3).
    وأحقّ العباد بهذا الاسم من كان سببا لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية والإرشاد ، وهم الأنبياء والعلماء ؛ ولذلك قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (4) : «إنّكم تتهافتون في النار ، وأنا آخذ بحجزكم (5)».
    أقول : وللمؤمن معنى آخر ، وهو المصدّق بالأشياء على ما هي عليها ، وعليه دلّ كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال في حديث ذعلب (6) : «مؤمن لا بعبادة» ولا شكّ أنّه سبحانه مصدّق بجميع الامور ـ معدوما وموجودا ـ تصديقا على أقصى رتب ما يمكن.
    __________________
    (1) ـ عن الصادق عليه‌السلام : الكافي : كتاب العشرة ، باب حقّ الجوار ، 2 / 668 ، ح 12. معاني الأخبار : باب معنى المسلم والمؤمن ... ، 239 ، ح 2. وجاء في العيون (باب 31 فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار المجموعة ، 2 / 24 ، ح 3) «ليس منّا من لم يأمن جاره بوائقه». البحار : 71 / 259 ، ح 2 و 75 / 51 ، ح 3.
    (2) ـ البائقة : النازلة. وهي الداهية والشرّ الشديد. وباقت الداهية إذا نزلت. والجمع : بوائق.
    (3) ـ في هامش النسخة : «كذا روي عن مولانا الصادق عليه‌السلام. وقال عليه‌السلام أيضا : «المؤمن من ائتمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم». وفي الحديث النبوي : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأمن جاره بوائقه» ؛ وشارح الأسماء إنّما أورد في المقام هذا الحديث النبوي ، وإنّما عدلنا عنه إلى ما ذكرناه لأنّه أوفق بما نحن فيه ـ كما لا يخفى ـ منه».
    (4) ـ كذا. وفي المصدر : «إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم».
    المسند (عن ابن مسعود : 1 / 390) : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «... ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب». وفي مسلم (كتاب الفضائل ، باب شفقته صلى‌الله‌عليه‌وآله على امته ... : 4 / 1789 ، ح 17) : «إنّما مثلي ومثل امتي كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدوابّ والفراش يقعن فيه. فأنا آخذ بحجزكم ، وأنتم تقحّمون فيه». وأيضا ما يقرب منه في مسلم : نفس الصفحة ، ح 18. البخاري : كتاب الرقاق ، باب الانتهاء عن المعاصي ، 8 / 127.
    (5) ـ الحجز جمع حجزة. وهي مقعد الإزار والسراويل.
    (6) ـ مضى حديث ذعلب في الفصل التاسع من الباب السابق ، 129.

    المهيمن
    معناه في حقّ الله ـ تعالى ـ أنّه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، باطلاعه واستيلاعه وحفظه ، وكلّ مشرف على كنه الامور مستول عليه ، حافظ له ، فهو مهيمن عليه (1).
    ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلّا لله تعالى ، ولذلك قيل : «إنّه من أسماء الله في الكتب القديمة».
    وكلّ عبد راقب قلبه حتّى أشرف على أغواره وأسراره ، واستولى مع ذلك على تقويم أحواله وأوصافه ، وقام بحفظه على الدوام على مقتضى تقويمه ، فهو مهيمن بالإضافة إلى قلبه ، فإن اتّسع إشرافه واستيلاؤه حتّى قام بحفظ بعض عباد الله على نهج السداد ، بعد اطّلاعه على بواطنهم وأسرارهم بطريق التفرّس والاستدلال بظواهرهم ، كان نصيبه من هذا المعنى أوفر وحظّه أتمّ.
    العزيز
    الخطير الذي يقلّ وجود مثله ، وتشتدّ الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ؛ فمن يستحيل مثله ويحتاج إليه كلّ شيء في كلّ شيء ، ويستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه ، أحق بهذا الاسم ممّن ليس كذلك.
    __________________
    (1) ـ والإشراف يرجع إلى العلم ، والاستيلاء إلى كمال القدرة ، والحفظ إلى الفعل ؛ فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن (من المصدر).

    ومن العباد من يحتاج إليه الخلق في أهمّ امورهم ـ وهي السعادة الأبديّة.
    الجبّار
    هو الذي ينفذ مشيّته على سبيل الإجبار في كلّ أحد ، ولا ينفذ فيه مشيّة أحد ، الذي لا يخرج أحد عن قبضته ، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته.
    ومن العباد من ارتفع عن الاتّباع ، ونال درجة الاستتباع ، بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ، كما قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي».
    المتكبّر
    هو الذي يرى الكلّ حقيرا بالإضافة إلى ذاته ، ولا يرى العظمة والكبرياء إلّا لنفسه ، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد ؛ فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبّر حقّا ؛ وليس ذلك إلّا لله ـ سبحانه ـ.
    ومن العباد من استحقر الدنيا والآخرة مترفّعا عن أن يشغله شيء منهما عن الله ـ جلّ جلاله.
    __________________
    (1) ـ معاني الأخبار : باب معنى المحاقلة والمزابنة ... وغير ذلك من المناهي ، 282.
    عنه البحار : 76 / 347. وفي أمالي الصدوق (المجلس 39 ، 287 ، ح 4) : «... إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي ونبوّتي ، ما نفعه إيمانه شيئا ولا نفعه نبوّته ...». وفي المسند (3 / 338) : «لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتّبعني».

    الخالق البارئ المصوّر
    كلّ ما يخرج من العدم إلى الوجود ، فيفتقر إلى تقدير أوّلا ، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا ، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا. فالله ـ سبحانه ـ هو الخالق البارئ المصوّر بالاعتبارات الثلاث.
    وحظّ العبد من المصوّر ، أن يحصّل في نفسه صورة الوجود كلّه ، على ما هو عليه بهيئته ونظامه ، حتّى يحيط بها كأنّه ينظر إليها ؛ والخلق والإيجاد يرجع إلى استعمال القدرة بموجب العلم ؛ فإذا بلغ في مجاهدة نفسه بالرياضة ، وفي سياستها وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيها باستنباط امور لم يسبق إليه ، ويقدر مع ذلك على فعلها والترغيب فيها : كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل ، فينطلق عليه اللفظان ـ ولو بنوع من المجاز البعيد.
    الغفّار
    هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح. والغفر : هو الستر.
    وقد ستر الله ـ سبحانه ـ على العبد مقابح بدنه التي يستقبحها الأعين ، وغطّاه بجمال ظاهره ـ أوّلا.
    ثمّ خواطره المذمومة وإراداته القبيحة المخطرة بباله في مجاري وساوسه وما ينطوي عليه ضميره ـ من الغشّ والخيانة وسوء الظنّ بالناس ـ التي لو انكشف شيء منها لهم لمقتوه وأهلكوه ـ ثانيا.
    ثمّ ذنوبه التي يستحقّ الفضيحة بها على ملأ الخلق ، بإسبال الستر

    عليها في الدنيا ، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة ـ ثالثا ـ
    وقد وعد أن يبدّل سيئاته حسنات ، لتستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته مهما مات على الإيمان.
    وحظّ العبد من هذا أن يستر من غيره ما يحبّ أن يستر عنه ؛ ففي الحديث (1) : «من ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عليه عورته يوم القيامة».
    القهّار
    هو الذي يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه ، فيقهرهم بالإماتة والإذلال ، بل الذي لا موجود إلّا وهو مسخّر تحت قهره وقدرته ، عاجز في قبضته.
    ومن العباد من قهر أعداءه ؛ وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه ، وهي أعدى له من الشيطان الذي قد حذّر عداوته ، ومهما قهر شهوات
    __________________
    (1) ـ المعجم الكبير (19 / 158 ، ح 350) : «من ستر على مؤمن عورته ستر الله عليه عورته».
    المسند (عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : 4 / 159) : «من ستر مؤمنا في الدنيا على عورة ستره الله عزوجل يوم القيامة». البخاري (كتاب المظالم ، باب لا يظلم المسلم المسلم ، 3 / 168) : «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». راجع أيضا كنز العمال : 3 / 248 ـ 251 ، ح 6379 ـ 6397. والمسند : 2 / 500. 4 / 153. الجامع الكبير : 7 / 40 ، ح 20713. و 7 / 223 ـ 224 ، ح 22045 ـ 22053.
    وفي الكافي (كتاب الإيمان ، باب تفريج كرب المؤمن ، 2 / 200 ، ح 5) عن الصادق عليه‌السلام : «من ستر على مؤمن عورة يخافها ، ستر الله عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة». مثله في ثواب الأعمال : ثواب من نفّس عن مؤمن ... ، 164. عنه البحار : 75 / 20.

    نفسه فقد قهر الشيطان ، لأنّه أخذ السلاح من يده ؛ بل قهر الناس كافّة فلم يقدر عليه أحد ، إذ غاية أعدائه السعي في إهلاك بدنه ، وذلك إحياء لروحه ، فإنّ من مات عن شهواته في حياته ، عاش في مماته.
    الوهّاب
    الكثير الإعطاء من غير عوض ولا غرض ـ من عين أو ثناء أو فرح أو صيت أو استكمال أو تخلّص من ذمّ أو توصّل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي ـ وكذا «الجواد».
    ولن يتصوّر ذلك حقيقة إلّا من الله ـ سبحانه ـ فإنّ العبد ما لم يكن الفعل أولى به من الترك لم يقدم عليه ، فيكون إقدامه لغرض نفسه ؛ ولكنّ الذي يبذل جميع ما يملكه ـ حتّى الروح ـ لوجه الله فقط ـ لا للوصول إلى نعيم الجنّة أو الحذر من عذاب النار ، أو لحظّ عاجل أو آجل ـ فهو جدير بأن يسمّى وهّابا وجوادا ؛ ودونه الذي يجود لينال نعيم الجنّة ، ودونه من يجود لينال حسن الا حدوثة.
    الرزّاق
    هو الذي خلق الأرزاق والمرتزقة ، وأو صلها إليهم ، وخلق لهم أسباب التمتّع بها.
    والرزق رزقان : ظاهر جسمانيّ للأبدان ـ وهي الأطعمة ـ وباطن روحانيّ للقلوب ـ وهي العلوم والأسرار ـ وهو أشرفهما إذ به حياة الأبد ، وبالأوّل حياة الجسد إلى مدّة قريبة الأمد ؛ ويمنع كلّ بموت

    أهله ، ولهذا وصف الجهّال بالأموات في قوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [35 / 22].
    والمتولّي للرزقين ، هو الله ـ سبحانه ـ ولكنّه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [13 / 26].
    وحظّ العبد منه : أن يكون واسطة بين الله ـ تعالى ـ وبين العباد في وصول الأرزاق إليهم من العلوم والطعوم ، ففي الحديث : «الخازن الذي يعطي ما امر به طيّبة به نفسه أحد المتصدّقين (1)».
    وأيدي العباد خزائن الله ، فمن جعلت يده خزانة أرزاق الأبدان ، ولسانه خزانة أرزاق القلوب ، فقد اكرم بشوب من هذه الصفة.
    وليكن حظّه منه أيضا أن يعرف حقيقة هذا الوصف ، وأنّه لا يستحقّه إلّا الله ، ولا ينتظر الرزق إلّا منه ، ولا يتوكّل فيه إلّا عليه.
    الفتّاح
    هو الذي ينفتح بعنايته كلّ منغلق ، وينكشف بهدايته كلّ مشكل ؛ فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ، ويخرجها من أيدي أعدائه ، ويقول : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [48 / 1] ، وتارة يرفع الحجاب من قلوب أوليائه ، ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه وجمال كبريائه و
    __________________
    (1) ـ في المقصد الأسنى : «الخازن الأمين ...». ومثله في البخاري مع فرق يسير : باب في الإجارة ، 3 / 115.
    راجع أيضا ما جاء فيه : كتاب الوكالة : باب وكالة الأمين : 3 / 135.
    ومسلم : كتاب الزكاة : باب أجر الخازن الأمين : 2 / 710 ، ح 79.
    المسند : 4 / 405. الجامع الكبير : 4 / 324 ، ح 11921.

    يقول : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [35 / 2].
    ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق ، فبالحريّ أن يكون فتّاحا.
    ومن العباد من يكون بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهيّة ، ويتيسّر بمعونته ما تعسّر على الخلق من الامور الدينيّة والدنيويّة.
    العليم
    معناه ظاهر ، وكماله أن يحيط علما بكلّ شيء ـ ظاهره وباطنه ، دقيقه وجليله ، أوّله وآخره ، عاقبته وفاتحته ـ ويكون علمه من حيث الوضوح والكشف على أتمّ ما يمكن ، بحيث لا يتصوّر مشاهدة وكشف أظهر منه ، ولا يكون مستفادا من المعلومات ، بل تكون المعلومات مستفادة منه.
    وحظّ العبد منه لا يكاد يخفى ، ولكن يفارق علمه علم الله ـ تعالى ـ في الامور الثلاثة ، فإنّ معلوماته ـ وإن اتّسعت ـ فهي محصورة في قلبه ، وهي وإن اتّضحت له ، فلا يبلغ الغاية ، بل كأنّه يراها من وراء ستر رقيق ، وعلمه بها تابع لها ، حاصل بها.
    القابض الباسط
    هو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات ، ويبسط

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:30 pm

    الأرواح في الأجساد عند الحياة ؛ ويقبض الصدقات عن الأغنياء ، ويبسط الأرزاق للضعفاء ؛ يبسط الرزق على الأغنياء حتّى لا تبقى فاقة ، ويقبضه عن الفقراء حتّى لا تبقى طاقة ، ويقبض القلوب فيضيّقها بما يكشف لها من تعاليه وجلاله ، ويبسطها بما يتعرّف إليها من لطفه وجماله.
    ومن العباد من الهم به بدائع الحكم ، واوتي جوامع الكلم ، فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكّرهم من آلاء الله ونعمائه ، وتارة يقبضها بما يحذّرهم من فنون عذابه وبلائه.
    الخافض الرافع
    هو الذي يخفض الكفّار إلى دركات ، ويرفع الّذين آمنوا (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [58 / 11] ؛ يخفض أعدائه بالإبعاد ، ويرفع أوليائه بالتقريب والإسعاد ؛ يخفض من قصر مشاهدته على المحسوسات وهمّته على الشهوات إلى أسفل سافلين ، ويرفع من نزّه فكره عن المحسوسات والمتخيّلات وإرادته عن رسم الشهوات إلى افق الملائكة المقرّبين.
    ومن العباد من يخفض الباطل ويرفع الحقّ ، بزجر المبطل ونصر المحقّ فيعادي أعداء الله ليخفضهم ، ويوالي أولياء الله ليرفعهم.
    المعزّ المذلّ
    هو الذي يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه ممّن يشاء.

    والملك الحقيقي في الخلاص من ذلّ الحاجة وقهر الشهوة ووصمة الجهل ، فمن رفع الحجاب عن قلبه حتّى شاهد جمال حضرته ، ورزقه القناعة حتّى استغنى بها عن خلقه ، وأمدّه بالقوّة والتأييد حتّى استولى بها على صفات نفسه : فقد أعزّه وآتاه الملك عاجلا ، وسيعزّه في الآخرة بالتقريب ويناديه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) [89 / 27 ـ 30].
    ومن مدّ عينه إلى الخلق حتّى احتاج إليهم ، وسلّط عليه الحرص حتّى لم يقنع بالكفاية ، ـ واستدرجه بمكره حتّى اغترّ بنفسه ، وبقي في ظلمة الجهل : فقد أذلّه وسلبه الملك ، وسيخاطب ويقال له : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ* فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [57 / 14 ـ 15].
    وهذا غاية الذلّ ، فهو المعزّ المذلّ ، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
    وكلّ عبد استعمل في تيسّر أسباب العزّ على يده فهو ذو حظّ من هذا الوصف.
    السميع
    هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع ـ وإن خفى ـ فيسمع السرّ والنجوى ، بل ما هو أدقّ من ذلك وأخفى ، ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء ، ويسمع حمد الحامدين فيجازيهم ، ودعاء الداعين فيستجيب لهم ، ويسمع بغير أصمخة وآذان ، كما يفعل بغير جارحة ويتكلّم بغير لسان ؛ وسمعه منزّه عن أن يطرق إليه الحدثان.

    البصير
    هو الذي يشاهد ويرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، وإبصاره أيضا منزّه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدّس عن التغيّر والحدثان.
    وحظّ العبد من الاسمين من حيث الحسّ الظاهر ، ولكنّه ضعيف قاصر ، إذ لا يدرك جميع المسموعات والمبصرات ، بل ما قرب منهما وظهر ، فليكن حظّه منهما أن يعلم أنّ الله سميع ، فيحفظ لسانه ؛ ويعلم أنّه بصير فلا يستهين بنظره إليه واطّلاعه عليه ؛ ويعلم أنّه لم يخلق له السمع إلّا ليسمع كلام الله ـ تعالى ـ وكتابه الذي أنزله ، فيستفيد به الهداية ؛ وأنّه لم يخلق له البصر إلّا لينظر إلى الآيات وعجائب الملكوت والسماوات فلا يكون نظره إلّا عبرة.
    الحكم
    هو الحاكم المحكم والقاضي المسلّم ، الذي لا رادّ لحكمه ولا معقّب لقضائه ، ومن حكمه في حقّ العباد (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) ، [53 / 39 ـ 40] فإنّ (الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [82 / 14 ـ 15]. ومعنى حكمه للبرّ والفاجر بالسعادة والشقاوة أنّه جعل البرّ والفجور سببا يسوق صاحبها إلى السعادة والشقاوة ، كما جعل الأدوية والسموم أسبابا تسوق متناولها إلى الشفاء والهلاك ، وإذ كان معنى حكمه ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسبّبات ، كان حكما مطلقا ، لأنّه مسبّب كلّ الأسباب ـ جملتها وتفصيلها.

    وحظّ العبد من الحكم ما إليه في تدبير الرياضات والمجاهدات ، وتقدير السياسات التي تفضي إلى مصالح الدين والدنيا ، ولذلك استخلف الله عباده في الأرض ، واستعمرهم فيها ، لينظر كيف يعملون.
    وليكن حظّه منه ـ أيضا ـ أن يعلم أنّ الأمر مفروغ منه ، وأنّ المقدور (1) كائن ، وأنّ الهمّ فضل ؛ فيكون في رزقه مجملا في الطلب مطمئنّ النفس ، غير مضطرب القلب ، وهذا حظّه الدينيّ منه.
    العدل
    معناه العادل ، وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضادّ للجور والظلم ؛ أعني : وضع كلّ شيء فى موضعه كما ينبغي وعلى ما ينبغي.
    ولن يعرف عدالة الله ـ سبحانه ـ من لم يحط علما بأفعاله جلّ وعزّ ـ من أعلى ملكوت السماوات إلى منتهى الثرى ـ حتّى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت ، ثمّ يرجع البصر فما رأى من فطور ، ثمّ يرجع مرّة اخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير (2) ، قد بهره جمال الحضرة الربوبيّة ، وحيّره اعتدالها وانتظامها ، فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدل الله تعالى.
    وشرح ذلك يفتقر إلى مجلّدات ، وكذا شرح معنى كلّ اسم ، فإنّ
    __________________
    (1) ـ كذا. والأظهر أن الصحيح : المقدّر.
    (2) ـ مقتبس من قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [67 / 3 ـ 4]

    الأسامي المشتقّة من الأفعال لا يفهم إلّا بعد فهم الأفعال ، وكلّ ما في الوجود من أفعال الله ـ تعالى ـ ومن لم يحط علما بتفصيلها ولا بجملتها فلا يكون معه إلّا محض التفسير واللغة.
    ولا مطمع في العلم بتفصيلها ، فإنّه لا نهاية له ؛ وأمّا الجملة فللعبد طريق إلى معرفته ، وبقدر اتّساع معرفته فيها يكون حظّه من معرفة الأسماء ، وذلك يستغرق العلوم كلّها.
    أقول : وسنذكر نبذا من آثار رحمة الله وآيات عظمته وحكمته ولطفه وعدالته في أواخر هذا المقصد ـ إن شاء الله تعالى ـ.
    وحظّ العبد من العدل لا يخفى ؛ فأوّل ما عليه من العدل في صفات نفسه ، وهو أن يجعل الشهوة والغضب أسيرا تحت إشارة العقل والدين ، ومهما جعل العقل خادما للشهوة والغضب فقد ظلم.
    وهذا جملة ، وتفصيله مراعاة حدود الشرع كلّه.
    وعدله في كلّ عضو أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه.
    وأمّا عدله في أهله وذريّته ثمّ في رعيّته ـ إن كان من أهل الولاية ـ فلا يخفى.
    وليكن حظّه من الإيمان بعدالة الله ـ سبحانه ـ أن لا يعترض عليه في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله ـ وافق مراده أو لم يوافق ـ وأن لا يسبّ الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ، ولا يعترض عليه ـ كما جرت به العادة ـ بل يعلم أنّ كلّ ذلك أسباب مسخّرة ، وأنّها رتّبت ووجّهت إلى المسبّبات ـ أحسن ترتيب وتوجيه ، بأقصى وجوه العدل واللطف.

    اللطيف
    هو العالم بدقائق المصالح وغوامضها ، السالك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق ـ دون العنف ـ ولا يتصوّر كمال ذلك في العلم والفعل إلّا لله ـ تعالى ـ ولن يعرف اللطف في فعله سبحانه إلّا من عرف تفاصيل أفعاله ، وعرف دقائق الرفق فيها ، وبقدر اتّساع المعرفة فيها يتّسع المعرفة بمعنى اسم اللطيف. وشرح ذلك أيضا يستدعى تطويلا ، ثمّ لا يتصوّر أن يفي مجلّدات بعشر عشيره.
    أقول : وسنشير إلى جمل من ذلك فيما بعد ـ إن شاء الله ـ.
    وحظّ العبد من هذا الوصف ، الرفق بعباد الله واللطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الأبد ، من غير أذى وعنف ، ومن غير تعصّب وخصام ؛ وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحقّ بالشمائل والسيرة المرضيّة ، والأعمال الصالحة ، فإنّها أوقع وألطف من الألفاظ المرتّبة.
    أقول : وإنّما سمّي فعل ما يقرّب العباد إلى الله ـ تعالى ـ ويبعّدهم عن المعاصي لطفا بهم لأنّ ذلك تلطيف لهم عن كثافة التجسّم ، وتجريد إيّاهم عن المواد الجسمانيّة ؛ وعلى هذا فإطلاق «اللطيف» على الله تعالى بمعنى فاعل اللطف.
    وحظّ العبد منه إرشاد العباد إلى ما يقرّبهم إلى الله ـ تعالى ـ ويبعّدهم عن النشأة الفانية.

    الخبير
    هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة ، فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرّك ذرّة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئنّ إلّا ويكون عنده خبره.
    وهو بمعنى العليم ، ولكن العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّي «خبرة» ، وسمّي صاحبها «خبيرا».
    وحظّ العبد منه أن يكون خبيرا بما يجري في عالمه ، وعالمه قلبه وبدنه ، والخفايا التي يتّصف القلب بها من الغشّ والخيانة ، والتطواف حول العاجلة ، واضمار الشرّ وإظهار الخير.
    والتجمّل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه لا يعرفها إلّا ذو خبرة بالغة ، قد خبّر نفسه ومارسها ، وعرف مكرها وتلبيسها ، فحاذرها وتشمّر لمعاداتها.
    الحليم
    هو الذي يشاهد معصية العباد ويرى مخالفة الأمر ، ثمّ لا يستفزّه غضب ولا يعتريه غيظ ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام ـ مع غاية الاقتدار ـ عجلة وطيش. كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [16 / 61].
    وحظّ العبد منه ظاهر.

    العظيم
    في أوّل الوضع إنّما اطلق على الأجسام ، ثمّ استعمل في مدركات البصائر ؛ وكما أنّ ما يحيط البصر بأطرافه من الأجسام ـ كالجبل ـ إنّما هو عظيم بالإضافة إلى ما دونه ـ وإنّما العظيم المطلق ما لا يحيط البصر بأطرافه كالسماء ـ فكذلك العظيم المطلق في مدركات العقول ما جاوز جميع حدود العقول حتّى لم يتصوّر الإحاطة بكنهه لعقل ما ؛ وذلك هو الله ـ سبحانه ـ.
    ومن العباد : الأنبياء والعلماء ، والذين إذا عرف العقلاء شيئا من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدورهم ، حتّى لا يبقى فيهم متّسع.
    وعظم كلّ منهم إنّما يظهر بالإضافة ـ لا مطلقا ـ فعظمتهم ناقصة ، بخلاف عظمة الله ـ جلّ جلاله ـ.
    الغفور
    هو بمعنى الغفّار ، ولكنّه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه «الغفّار» فإنّ الغفّار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكرّرة ، مرّة بعد اخرى ، و «الغفور» مبالغة فيها بالنسبة إلى تمامها وشمولها وكمالها ، حتّى يبلغ أقصى درجاتها ، وقد مضى الكلام فيه.
    الشّكور
    هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطي بالعمل

    في أيّام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة ؛ ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال : إنّه شكر تلك الحسنة ؛ ومن أثنى على المحسن ـ أيضا ـ فيقال ـ أيضا ـ : إنّه شكر ؛ فإن نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة ، لم يكن الشكور المطلق إلّا الله تعالى ، لأنّ زيادته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة ، فإنّ نعيم الجنّة لا آخر لها ، والله ـ تعالى ـ يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [69 / 24].
    وإن نظرت إلى معنى «الثناء» فثناء كل مثن على غيره ؛ والربّ ـ تعالى ـ إذا أثنى على أعمال عبده ، فقد أثنى على فعل نفسه ، لأنّ أعماله إنّما تتمّ بتوفيقه (1).
    والعبد يتصوّر أن يكون شاكرا في حقّ عبد آخر مرّة بالثناء عليه بإحسانه إليه ، واخرى بمجازاته بأكثر ممّا صنعه إليه ، وذلك من الخصال الحميدة.
    ففي الحديث (2) : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».
    وأمّا شكره لله فلا يكون إلّا بنوع من المجاز والتوسّع ، فإنّه إن أثنى
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    خود شكر چون كنم كه همه نعمت توام
    نعمت چگونه شكر كند بر زبان خويش

    (2) ـ الترمذي : كتاب البرّ والصلة ، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك : 4 / 339 ، ح 1955. المسند : 2 / 258. 3 / 32. المعجم الكبير : 2 / 356 ، ح 2501. الجامع الكبير : 7 / 104 ، ح 21183. كنز العمال : 3 / 259 ، ح 6443.
    وجاء في أبي داود (كتاب الأدب ، باب في شكر المعروف : 4 / 255 ، ح 4811) : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». وجاء ما يقرب منه عن السجاد عليه‌السلام في الكافي (كتاب الإيمان والكفر ، باب الشكر ، ح 30 ، 2 / 99) وعن الرضا عليه‌السلام (العيون : باب 31 فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار المجموعة : 2 / 24 ، ح 2).

    فثناؤه قاصر ، لأنّه لا يحصى ثناء عليه ، وإن أطاع فطاعته نعمة اخرى من الله سبحانه ، بل عين شكره نعمة اخرى وراء النعمة المشكورة. وإنّما أحسن وجوه الشكر لنعم الله ـ تعالى ـ أن لا يستعملها في معاصيه ، بل في طاعته ، وذلك أيضا بتوفيق الله وتيسيره في كون العبد شاكرا لربّه.
    العليّ
    هو الذي لا رتبة فوق رتبته ، وجميع المراتب منحطّة عنه ، لاشتقاقه من العلوّ المأخوذ من العلو ، المقابل للسفل ، والتدريجات العقليّة مفهومه كالتدريجات الحسيّة ، ولا يمكن قسمة الموجودات إلى درجات متفاوتة في العقل إلّا ويكون الحقّ تعالى في الدرجة العليّة من درجات أقسامها ، حتّى لا يتصوّر أن يكون فوقه درجة ، إذ هو مسبّب الأسباب ، ومعلّل العلل ، وجاعل الثواني والاوّل ، ومكمّل الكاملين والفاعل في القابلين ؛ فهو العليّ المطلق ، وكلّ ما سواه فإنّما هو عليّ بالإضافة إلى ما دونه ، ويكون دنيّا أو سافلا بالإضافة إلى ما فوقه.
    وحظّ العبد منه أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه ، وهي درجة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله.
    أقول : وبعده درجة وصيّه ـ صلوات الله عليه ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [43 / 4].
    الكبير
    هو الذي له الكبرياء ، والكبرياء عبارة عن كمال الذات ، الذي

    يرجع إلى دوامها أزلا وأبدا ، وكونها بحيث يصدر عنها وجود كلّ موجود ، فكلّ وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدّة وجوده : «إنّه كبير» ـ أي كبير السنّ ، طويل مدّة البقاء ـ ولا يقال : «عظيم السنّ» ـ
    فالكبر يستعمل فيما لا يستعمل فيها العظم ـ وكذلك من لا يسري كماله إلى غيره فليس بكبير.
    وحظّ العبد : أن لا يجالسه أحد إلّا ويفيض عليه شيء من كماله ؛ وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه.
    فالكبير هو العالم التقيّ المرشد للخلق ، الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ، ولذلك قال عيسى ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ (1) : «من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء».
    الحفيظ
    هو الحافظ جدّا بإدامة وجود الموجودات وإبقائها ، وصيانة المتعاديات والمتضادّات بعض عن بعض ؛ كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، التي جمع الله بينها في إهاب الإنسان وساير الحيوانات والنباتات.
    ولو لا حفظه إيّاها بتعديل قواها ـ مرّة ـ وبإمداد المغلوب منها
    __________________
    (1) ـ لم يرد في المصدر ، وأورده الغزالي في الإحياء (كتاب العلم ، الباب الأول ، فضيلة التعليم : 1 / 19) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1 / 150 و 2 / 46).
    وفيهما «السماوات» بدل «السماء».

    ثانيا : لتنافرت وتباعدت ، وبطل امتزاجها ، واضمحلّ تركيبها ، وبطل المعنى الذي صار مستعدّا لقبوله التركيب والمزاج. وكحفظه الحيوانات (1) من أسباب خارجة لهلاكها ـ كسباع ضارية ، وأعداء منازعة ـ بآلات وأدوات هيّأها لها ، من الجواسيس المنذرة بقرب العدوّ كالعين والاذن ، ومن اليد الباطشة والأسلحة الدافعة كالدرع والترس ، والقاصدة كالسيف والسكّين ـ إلى غير ذلك ـ ؛ وحفظه لباب النباتات بقشره الصلب ، وطراوته بالرطوبة ، وما لا ينحفظ بمجرّد القشر حفظه بالشوك النابت منه ليدفع به بعض الحيوانات المتلفة. بل كلّ قطرة من ماء ، فلها حافظ يحفظها عن الهواء المضادّ لها ، وقد ورد في الخبر (2) : «إنّه لا تنزل قطرة من المطر إلّا ومعها ملك يحفظها إلى أن تصل إلى مستقرّها من الأرض». والكلام في شرح حفظ الله السماوات والأرض وما بينهما طويل ـ كما في سائر الأفعال.
    وحظّ العبد منه : أن يحفظ جوارحه وقلبه ، ويحفظ دينه عن سوطة الغضب (3) وخلابة الشهوة (4) وخداع النفس وغرور الشيطان ؛ فإنّه على شفا جرف هار ، وقد اكتنفه هذه المهلكات المفضية إلى البوار.
    __________________
    (1) ـ المصدر : الإنسان.
    (2) ـ المصدر : 122. وفي علل الشرائع (الباب 222 النوادر ، ح 8 ، 2 / 463) عن علي عليه‌السلام : «... فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها ...».
    (3) ـ المصدر : سطوة. وفي المصباح : «السوط ـ معروف ـ والجمع : أسواط وسياط ـ مثل : ثوب وأثواب وثياب ـ وضربه سوطا : أي ضربه بسوط. وقوله تعالى : (سَوْطَ عَذابٍ) : أي ألم سوط عذاب. والمراد الشدّة ، لما علم أن الضرب بالسوط أعظم ألما من غيره».
    (4) ـ خلبه يخلبه ـ من بابي قتل وضرب ـ : إذا خدعه. والاسم : الخلابة ـ بالكسر ـ والفاعل : الخلوب ـ مثل رسول ـ أي كثير الخداع. (مصباح)

    المقيت
    معناه : خالق الأقوات وموصله (1) إلى الأبدان ـ وهي الأطعمة ـ وإلى القلوب ـ وهي المعرفة ـ فيكون بمعنى الرازق (2) ، إلّا أنّه أخصّ منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت ، والقوت ما يكتفى به في قوام البدن. وإمّا أن يكون معناه المستولي على الشيء ، القادر عليه ، ويرجع إلى العلم والقدرة معا ، وعليه يدلّ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [4 / 85] أي : مطّلعا قادرا.
    الحسيب
    هو الكافي ، وهو الذي من كان له [كان] (3) حسبه ، والله ـ تعالى ـ حسب كلّ أحد وكافيه وحده ، ولا يتصوّر حقيقة هذا الوصف لغيره ، فإنّ الكفاية إنّما يحتاج إليه المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده ، وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلّا الله ـ تعالى ـ بل الأشياء يتعلّق بعضها بالبعض ، وكلّها يتعلّق بقدرة الله ـ تعالى ـ. فليكن حظّ العبد منه أن يكون الله وحده حسبه بالإضافة إلى همّته وإرادته أي لا يريد إلّا الله ، فلا يريد الجنّة ، ولا يشغل قلبه بالنار ليحذر منها ، بل يكون مستغرق الهمّ بالله وحده.
    __________________
    (1) ـ المصدر : موصلها.
    (2) ـ المصدر : الرزاق.
    (3) ـ إضافة من المصدر.

    الجليل
    هو الموصوف بنعوت الجلال من الغناء والملك والتقدّس والعلم والقدرة وغيرها.
    وكأنّ «الكبير» يرجع إلى كمال الذات ، و «الجليل» إلى كمال الصفات ، والعظم إلى كمال الذات والصفات جميعا منسوبا إلى إدراك البصيرة إذا كان بحيث يستغرق البصيرة ولا تستغرقه البصيرة ؛ وصفات الجلال إذا نسبت إلى البصيرة المدركة لها سمّي «جمالا» ، وسمّي المتّصف به «جميلا» (1).
    والجميل الحقّ المطلق هو الله سبحانه ، لأنّ كلّ ما في العالم من جمال وكمال وبهاء وحسن ، فهو من أنوار ذاته وآثار صفاته ، وكلّ جميل فهو محبوب عند مدرك جماله ، فلذلك كان الله محبوبا عند العارفين ؛ (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [5 / 54].
    والجليل الجميل من العباد : من حسنت صفاته الباطنة التي تستلذّها القلوب البصيرة ، فأمّا جمال الظاهر فنازل القدر.
    الكريم
    هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى ، وإن وقعت حاجة إلى
    __________________
    (1) ـ كذا. المصدر ـ نسخة ـ : سميت جمالا وسميت المتصف بها جميلا.

    غيره لا يرضى ، وإذا جفي عاتب وما استقصى ، ولا يضيع من لاذ به والتجأ ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.
    فمن اجتمع له جميع ذلك ـ لا بالتكلّف ـ فهو الكريم المطلق ، وهو الله تعالى فقط.
    وقد يتمحّل العبد اكتسابها ـ ولكن في بعض الامور ومع نوع من التكلّف ـ فلذلك قد يوصف بالكرم ؛ وفي الحديث (1) : «لا تقولوا لشجرة العنب الكرم ، وإنّما الكرم الرجل المسلم».
    الرقيب
    هو الحفيظ العليم ، فمن راعى الشيء حتّى لم يغفل عنه ، ولاحظه ملاحظة دائمة لازمة ـ لزوما لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه ـ سمّي
    __________________
    (1) ـ المصدر : «لا تقولوا للعنب الكرم ...». مسلم : (كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها ، باب كراهة تسمية العنب كرما ، 4 / 1763 ، ح 6 و 10) : «لا يقولنّ أحدكم للعنب الكرم ، إنما الكرم الرجل المسلم» ؛ وفي حديث آخر (نفس المصدر) : «... فإن الكرم قلب المؤمن». الجامع الكبير (8 / 179 ، ح 25270) : «لا تقولوا : الكرم ؛ ولكن قولوا : العنب والحبلة». ومثله في كنز العمال : 16 / 427 ، ح 45258.
    قال ابن الأثير (النهاية : 4 / 167) : «قيل : سمّي الكرم كرما لأنّ الخمر المتّخذة منه تحثّ على السخاء والكرم ، فاشتقّوا له منه اسما ، فكره أن يسمّى باسم مأخوذ من الكرم ، وجعل المؤمن أولى به». وقال الزمخشري (الفائق : 3 / 257) : «أراد أن يقرّر ويشدّد ما في قوله عزوجل : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [49 / 13] بطريقة أنيقة ومسلك لطيف ... وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كرما ، ولكن الرمز إلى هذا المعنى ؛ كأنه قال : إن تأتّى لكم أن لا تسمّوه مثلا باسم الكرم ـ ولكن بالجفنة والحبلة ـ فافعلوا ... فإنما المستحقّ للاسم المشتقّ من الكرم المسلم ...».

    رقيبا. وكأنّه يرجع إلى العلم والحفظ ، لكن باعتبار كونه لازما دائما ، وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول.
    وحظّ العبد منه : أن يعلم أنّ الله ـ تعالى ـ رقيبه وشاهده في كلّ حال ، ويعلم أنّ نفسه عدوّ له ، والشيطان عدوّ له ، وإنّما ينتهزان منه الفرص حتّى يحملانه على الغفلة والمخالفة ؛ فياخذ منهما حذره ، بأنّ يلاحظ مكامنهما وتلبيسهما ومواضع انبعاثهما ، حتّى يسدّ عليهما المنافذ والمجاري ؛ فهذه مراقبته.
    المجيب
    هو الذي يقابل مسئلة السائل بالإسعاف ، ودعاء الداعين بالإجابة وضرورة المضطرّين بالكفاية ؛ بل ينعم قبل النداء ، ويتفضّل قبل الدعاء.
    وليس ذلك إلّا الله ـ تعالى ـ فإنّه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم ، وقد علمها في الأزل ودبّر كفاية الحاجات (1) بخلق الأطعمة والأقوات وتيسير الأسباب والآلات الموصولة إلى جميع المهمّات.
    والعبد ينبغي أن يكون مجيبا أوّلا لربّه فيما أمره به ونهاه ، وفيما ندبه إليه ودعاه ؛ ثمّ لعباده فيما أنعم الله عليه بالاقتدار عليه ، وفي إسعاف كلّ سائل بما يسأله ـ إن قدر عليه ـ وفي لطف الجواب إن عجز عنه ؛ قال الله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [93 / 10].
    __________________
    (1) ـ المصدر : فدبّر أسباب كفاية الحاجات.

    وفي الحديث النبوي (1) : «لو دعيت إلى كراع (2) لأجبت ولو اهدي إليّ ذراع لقبلت».
    الواسع
    مشتقّ من السعة ؛ والسعة تضاف مرّة إلى العلم ، إذا اتّسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، واخرى إلى الإحسان وبسط النعم ، وكيف ما قدّر وعلى أىّ شيء نزل. فالواسع المطلق هو الله ، إذ لا ساحل لبحر معلوماته ، ولا نهاية لسعة مقدوراته ، بل تنفد البحار لو كانت مدادا لكلماته ؛ وكلّ سعة ـ وإن عظمت ـ فتنتهي إلى طرف ، وتتصوّر الزيادة عليها ، وهي ضيّق بالإضافة إلى ما هو أوسع منها ؛ غير سعته تعالى.
    __________________
    (1) ـ المسند : 2 / 479 و 481. في الكافي (كتاب المعيشة ، باب الهدية : 5 / 141 و 143 ، ح 2 و 9) : «لو اهدي إليّ كراع لقبلته». وفي الاختصاص (حديث أبى الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام : 55) : «لو اهدي إليّ كراع لقبلته ، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت». وفي الفقيه (كتاب المعيشة ، باب الهدية ، 3 / 299 ، ح 4070. وباب النوادر ـ وهو آخر أبواب الكتاب ـ ، 4 / 364 ، ح 5762) : «لو اهدي إليّ كراع لقبلته ، ولو دعيت إلى كراع لأجبت». وفي البخاري (كتاب الهبة ، باب القليل من الهبة ، 3 / 201) : «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو اهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت». الترمذي (كتاب الأحكام ، باب ما جاء في قبول الهدية ، 3 / 623 ، ح 1338) : «لو اهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت عليه لأجبت».
    راجع أيضا : المسند : 2 / 479 و 512. كنز العمال : 6 / 116 ، ح 15095.
    (2) ـ قال في الوافي (أبواب وجوه المكاسب ، باب الهدية : 17 / 366) : «الكراع ـ كغراب ـ : مستدقّ الساق من الغنم والبقر». وقال أيضا (17 / 371) : «قيل : كراع الشاة. وقيل : كراع الغميم ـ وهو اسم موضع بين مكة والمدينة ، على ثلاثة أميال من عسفان. والأول مبالغة في القلة ، والثاني في البعد».

    وسعة العبد في معارفه وأخلاقه ، فإن كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه ، وإن اتّسعت أخلاقه ـ حتّى لا يضيّقه خوف الفقر وغيظ الحسود وغلبة الحرص ، وسائر الصفات ـ فهو واسع بقدر اتّساعه.
    الحكيم
    ذو الحكمة ؛ والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، وأجلّ الأشياء هو الله ـ تعالى ـ وقد ثبت أنّه لا يعرفه كنه معرفته غيره بالعلم الأزلىّ الدائم ، الذي لا يتصوّر زواله ، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرّق إليه خفاء وشبهة ؛ فهو الحكيم الحقّ.
    وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعها «حكيما» وكمال ذلك ـ أيضا ـ ليس إلّا لله جلّ جلاله.
    ومن عرف جميع الأشياء ولم يعرف الله ، لم يستحقّ أن يسمّى حكيما ، لأنّه لم يعرف أجلّ الأشياء وأفضلها ؛ ومن عرف الله فهو حكيم وإن كان ضعيف المنّة في سائر العلوم الرسميّة ، كليل اللسان ، قاصر البيان فيها ؛ ومن عرف الله كان كلامه مخالفا لكلام غيره ، فإنّه قلّما يتعرّض للجزئيّات ، بل يكون كلماته كلّها كلّية ، ولا يتعرّض لمصالح العاجلة ، بل يتعرّض لما ينفع في العاقبة.
    ولمّا كان ذلك أظهر عند الناس من أحوال الحكيم ـ من معرفته بالله ـ ربما أطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك الكلمات الكليّة ، ويقال للناطق بها «حكيم».

    وذلك مثل قول سيّد الأنبياء ـ صلوات الله عليه وآله ـ : «رأس الحكمة مخافة الله»(1).
    «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على الله ـ تعالى ـ» (2).
    «ما قلّ وكفى ، خير ممّا كثر وألهى» (3).
    «كن ورعا تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس» (4).
    __________________
    (1) ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الاختصاص : 343. تفسير القمي : في تفسير الآية : (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [9 / 42] : 1 / 318. البحار : 77 / 135. 21 / 121. كنز العمال : 3 / 141 ، ح 5873. الجامع الكبير : 4 / 386 ، ح 12327. وروى الصدوق في الأمالي (المجلس الرابع والسبعون ، 576 ، ح 1) : «... إنّ أشرف الحديث ذكر الله ورأس الحكمة طاعته ...». عنه البحار : 77 / 114 ، ح 8. وأورد المجلسي في البحار (كتاب الروضة ، باب نوادر المواعظ والحكم : 78 / 453 ، ح 23) عن كتاب الغايات : «عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : كان أحد ما أوصى به الخضر موسى بن عمران : ... رأس الحكمة مخافة الله».
    (2) ـ المسند : شداد بن أوس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : 4 / 124. المستدرك للحاكم : كتاب الإيمان ، 1 / 57. وكتاب التوبة ، 4 / 251. المعجم الكبير : 7 / 281 و 284 ، ح 7141 و 7143. حلية الأولياء : 1 / 267. وفيه (8 / 174) : «... والفاجر من اتبع نفسه ...».
    (3) ـ الكافي : باب الكفاف ، 2 / 141 ، ح 4. الاختصاص : 342. راجع أيضا ما جاء في كتاب الزهد للأهوازي : باب بر الوالدين ، 40 ، ح 109. تفسير القمي : 1 / 318. راجع البحار : 22 / 410 ، ح 27. و 74 / 102 ، ح 57.
    مستدرك الحاكم : كتاب التفسير ، 2 / 445. الكامل لابن عدي : 1 / 278 ، ترجمة اسماعيل بن سلمان الأزرق. كنز العمال : 6 / 375 ، ح 16124.
    (4) ـ ابن ماجة : كتاب الزهد ، باب 24 ، 2 / 1410 ، ح 4217. شعب الإيمان : باب (39) المطاعم ، فصل في طيب المطعم والملبس ، 5 / 53 ، ح 5750. وباب (77) أن يحبّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه ، 7 / 500 ، ح 11127. كنز العمال : 15 / 882 ، ح 43498. أخبار أصبهان : 2 / 302. الجامع الصغير : 2 / 97.

    «القناعة كنز لا ينفد» (1).
    «الصبر نصف الإيمان ، اليقين الإيمان كلّه» (2).
    فهذه الكلمات وأمثالها تسمّى «حكمة» ، وصاحبها يسمّى «حكيما».
    الودود
    هو الذي يحبّ الخير لجميع الخلق ، فيحسن إليهم ويثني عليهم ، وهو قريب من معنى «الرحيم» ، لكن أفعال الرحيم تستدعي مرحوما ضعيفا ، وأفعال المودّة لا تستدعي ذلك ، بل الإنعام على سبيل الابتداء من نتائج الودّ.
    وكما أنّ معنى رحمته تعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له من غير رقّة ، فكذلك ودّه إرادته الكرامة والنعمة من غير ميل ، فإنّهما لا يرادان إلّا لثمرتهما وفائدتهما ، دون الرقّة والميل.
    والودود من عباد الله : من يريد لخلق الله كلّ ما يريد [ه] لنفسه ، وأعلى من ذلك من يؤثرهم على نفسه ، كمن قال منهم «اريد أن أكون جسرا على جهنّم يعبر عليّ الخلق ولا يتأذّون».
    وكمال ذلك أن لا يمنعه من الإيثار والإحسان الغضب والحقد وما
    __________________
    (1) ـ الجامع الصغير : باب القاف ، 2 / 89 ، عن القضاعي عن أنس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القناعة مال لا ينفد». ومثله في الكامل لابن عدي : 4 / 191. وفي الدر المنثور (2 / 96 ، تفسير الآية : 2 / 273) عن البيهقي في الزهد : «القناعة كنز لا يفنى».
    (2) ـ الجامع الصغير (باب الصاد : 2 / 49) : عن البيهقي في شعب الإيمان وأبي نعيم في الحلية.
    كنز العمال : 3 / 271 ، ح 6498.

    ناله من الأذى ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كسرت رباعيّته وضرب (1) «اللهم أهد قومي فإنّهم لا يعلمون». فلم يمنعه سوء صنيعهم عن إرادة الخير بهم.
    المجيد
    هو الشريف ذاته ، الجميل أفعاله ، الجزيل عطاؤه ونواله ، فكأنّ شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمّي «مجدا».
    وهو «الماجد» أيضا ، ولكن أحدهما أدلّ على المبالغة. وكأنّه يجمع معنى اسم «الجليل» و «الوهّاب» و «الكريم» ؛ وقد سبق الكلام فيها.
    الباعث
    هو الذي يحيي الخلق يوم النشور ، ويبعث ما في القبور ، ويحصّل ما في الصدور ؛ والبعث هو النشأة الآخرة ، وللإنسان نشئات كثيرة من لدن كونه نطفة ، إلى أن يلقى الله سبحانه ، والانتقال من كلّ منها بعث. ولن يعرف حقيقة هذا الاسم إلّا من عرف حقيقة البعث ، وذلك من أغمض المعارف ـ وشرحه طويل.
    أقول : وسنورد في المقصد الآخر من هذا الكتاب ، بيان معنى البعث والنشآت ـ إن شاء الله.
    __________________
    (1) ـ إعلام الورى : ذكر غزوة احد : 92. مناقب آل أبي طالب : فصل في غزواته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : 1 / 192. البحار : 20 / 117 ، ح 47. 35 / 177. وفي البخاري (كتاب استتابة المريدين ، 9 / 20) : «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». ومثله في دلائل النبوة : 3 / 215.

    والباعث من العباد : من رقّى غيره من موت الجهل إلى حياة العلم ، ودعاهم إلى الله ، فإنّه أنشأ نشأة اخرى وأحيا حياة طيّبة.
    الشهيد
    يرجع معناه إلى العليم ، مع خصوص إضافة ، فإنّه ـ تعالى ـ عالم الغيب والشهادة ، و «الغيب» عبارة عمّا بطن ، و «الشهادة» عمّا ظهر ، وهو الذي يشاهد ، فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو «العليم» ، وإذا اضيف إلى الغيب والامور الباطنة فهو «الخبير» ، وإذا اضيف إلى الامور الظاهرة فهو «الشهيد».
    وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم ، والكلام في هذا الاسم يقرب من الكلام في العليم والخبير ، فلا نعيده.
    الحق
    فى مقابلة الباطل ، والأشياء قد تستبان بأضدادها.
    وكلّ ما يخبر عنه فإمّا باطل مطلقا ، وإمّا حقّ مطلقا ، وإمّا حقّ من وجه باطل من وجه ؛ فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا ، والواجب بذاته هو الحقّ مطلقا ، والممكن بذاته الواجب بغيره ، هو حقّ من وجه ، باطل من وجه ؛ فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ؛ ومن جهة غيره مستفيد للوجود ، فهو من الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك الوجه حقّ ، ومن جهة نفسه باطل ؛ فلذلك (كُلُ

    شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [28 / 88] ؛ وهو كذلك أزلا وأبدا ، ليس كذلك في حال دون حال ، لأنّ كلّ شيء سواه ـ أزلا وأبدا ـ من حيث ذاته لا يستحقّ الوجود ، ومن جهته يستحقّ ، فهو باطل بذاته ، حقّ بغيره.
    وعند هذا يعرف أنّ الحقّ المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته ، الذي منه يأخذ كلّ حقّ حقيقته.
    وقد يقال ـ أيضا ـ للمعقول الذي صادف به العقل «الموجود» ، حتّى ظنّ طائفة أنّه حقّ ، فهو من حيث ذاته يسمّى موجودا ، ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه ، يسمّى حقّا ؛ فإذن أحقّ الموجودات بأن يسمّى «حقّا» هو الله ـ تعالى ـ وأحقّ المعارف بأن يكون حقا هو معرفة الله وإنّه حقّ في نفسه ، أي مطابق للمعلوم ـ أزلا وأبدا ـ
    وقد يطلق على الأقوال فيقال : «قول حقّ» و «قول باطل» ، وعلى ذلك فأحقّ الأقوال قول «لا إله إلّا الله» ، لأنّه صادق أبدا وأزلا ، لذاته لا لغيره.
    وحظّ العبد من هذا أن يرى نفسه باطلا ، ولا يرى غير الله حقّا.
    الوكيل
    هو الموكول إليه الامور ، فإن كان مستحقّا لأن يوكّل إليه الامور كلّها بذاته لا بالتوكيل والتفويض ، مليّا بالقيام بها ، وفيّا بإتمامها : فهو الوكيل المطلق ـ وليس إلّا الله سبحانه.
    وحظّ العبد منه بقدر مدخله فيه.

    القويّ المتين
    القوّة تدلّ على القدرة التامّة ؛ والمتانة تدلّ على شدّة القوّة ؛ والله ـ تعالى ـ من حيث أنّه قادر بالغ بتمامها (1) «قويّ» ، ومن حيث أنّه شديد القوّة «متين» ؛ وذلك يرجع إلى معنى القدرة ـ وسيأتي.
    الوليّ
    هو المحبّ الناصر ، ومعنى ودّه ومحبّته قد سبق ، ومعنى نصرته ظاهر ، فإنّه يقمع أعداء الدين ، وينصر أولياءه. قال ـ تعالى ـ : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [2 / 257]. وقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [47 / 11] ـ أي لا ناصر لهم ـ. وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [58 / 21].
    ومن العباد : من يحبّ الله ويحبّ أولياءه وينصرهم ، ويقهر أعداءه ؛ ومن أعداء الله ـ تعالى ـ النفس والشيطان ، فمن خذلهما ونصر أمر الله ووالى أولياء الله ، وعادى أعداءه ، فهو الوليّ.
    الحميد
    هو المحمود المثنى عليه ، والله تعالى هو الحميد ؛ يحمد لنفسه أزلا وأبدا ، ويحمده عباده أبدا ؛ ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلوّ
    __________________
    (1) ـ المصدر : بالغ القدرة تامها.

    والكمال منسوبا إلى ذكر الذاكرين له ، فإنّ الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال. ومن العباد من حمدت عقائده وأخلاقه وأعماله كلّها من غير مشوبة ، وذلك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يقرب منه من الأنبياء ومن عداهم من الأولياء والعلماء ؛ كلّ منهم بقدر مدخله فيه.
    المحصي
    هو العالم ، ولكن إذا اضيف العلم إلى المعلومات من حيث يحصي المعلومات ويعدّها ويحيط بها ، سمّي إحصاء. والمحصي المطلق هو الذي ينكشف في علمه حدّ كلّ معلوم وعدده ومبلغه.
    والعبد ـ وإن أمكنه أن يحصي بعلمه بعض المعلومات ـ فإنّه يعجز عن حصر أكثرها ، فمدخله من هذا الاسم ضعيف ، كمدخله في أصل صفة العلم.
    المبدئ المعيد
    معناه الموجد ، لكنّ الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمّي إبداء ، وإذا كان مسبوقا بمثله سمّي إعادة ، والله ـ تعالى ـ أبدأ خلق الناس ، ثمّ هو يعيدهم ـ أي يحشرهم ـ والأشياء كلّها منه بدت وإليه تعود ، وبه بدت وبه تعود.
    المحيي المميت
    هذا أيضا يرجع إلى الإيجاد ، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة ،

    سمّي فعله إحياء ، وإذا كان هو الموت ، سمّي فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلّا الله ـ تعالى ـ فلا مميت ولا محيي إلّا الله.
    وقد سبقت الإشارة إلى معنى الحياة في الاسم «الباعث».
    الحيّ
    هو الفعّال الدرّاك ، حتّى أنّ من لا فعل له أصلا ولا إدراك فهو ميّت ؛ وأقلّ درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه ، فما لا يشعر بنفسه ، فهو الجماد الميّت (1) ، فالحيّ الكامل المطلق الذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه ، وجميع الموجودات تحت فعله ، حتّى لا يشذّ عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول ؛
    وذلك الله ـ تعالى ـ فهو الحيّ المطلق ، وكلّ ما سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله ، وكلّ ذلك محصور في قلّته. ثمّ إنّ الأحياء يتفاوتون فيه ، فمراتبهم بقدر تفاوتهم.
    القيّوم
    اعلم أنّ الأشياء تنقسم إلى ما يفتقر إلى محل ، كالأعراض والأوصاف ، فيقال فيها : «إنّها ليست قائمة بأنفسها» ؛ وإلى ما لا يحتاج إلى محلّ ـ فيقال : «إنّه قائم بنفسه» كالجوهر ؛ إلّا أنّ الجوهر وإن قام بنفسه مستغنيا عن محلّ يقوم به ، فليس مستغنيا عن امور لا بدّ منها
    __________________
    (1) ـ المصدر : فهو الجماد والميت.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:32 pm

    لوجوده ، ويكون شرطا في وجوده ، فلا يكون قائما بنفسه ، لأنّه يحتاج في قوامه إلى وجود غيره. وإن لم يحتج إلى محلّ ، فإن كان في الوجود موجود تكتفي ذاته بذاته ولا قوام له بغيره ولا يشترط في دوام وجوده وجود غيره : فهو القائم بنفسه مطلقا ؛ فإن كان مع ذلك يقوم به كلّ موجود ، حتّى لا يتصوّر للأشياء وجود ولا دوام وجود إلّا به فهو «القيّوم» ، لأنّ قوامه بذاته ، وقوام كلّ شيء به ؛
    وليس ذلك إلّا الله ـ تعالى ـ.
    ومدخل العبد في هذا الوصف بقدر استغنائه عمّا سوى الله.
    الواجد
    هو الذي لا يعوزه شيء ، وهو في مقابلة «الفاقد» ؛ فلعلّ من فاته ما لا حاجة به إلى وجوده لا يسمّى فاقدا ؛ والذي يحضره ما لا تعلّق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمّى واجدا ؛ بل الواجد ما لا يعوزه شيء ممّا لا بدّ منه ، وكلّ ما لا بدّ له منه من صفات الإلهيّة وكمالها فهو موجود لله ـ تعالى ـ فهو بهذا الاعتبار واجد ، وهو الواجد المطلق.
    ومن عداه إن كان واجدا لشيء من صفات الكمال وأسبابه ، فهو فاقد لأشياء ، فلا يكون واجدا إلّا بالإضافة.
    الماجد
    بمعنى «المجيد» ، كالعالم بمعنى العليم ، لكنّ الفعيل أكثر مبالغة ؛ وقد سبق معناه.

    الواحد
    هو الذي لا يتجزّء ولا يتثنّى.
    أمّا الذي لا يتجزّء فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم ، فيقال أنّه واحد ، بمعنى أنّه لا جزء له ، وكذا النقطة طرف لا جزء له ؛ والله تعالى واحد بمعنى أنّه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته.
    وأمّا الذي لا يتثنّى فهو الذي لا نظير له ، كالشمس ـ مثلا ـ فإنّها وإن كانت قابلة للقسمة بالوهم ، متجزّئة في ذاتها ـ لأنّها من قبيل الأجسام ـ فهي لا نظير لها ، إلّا أنّه يمكن أن يكون لها نظير.
    فإن كان في الوجود موجود يتفرّد بخصوص وجوده ـ تفرّدا لا يتصوّر أن يشاركه فيه غيره أصلا ـ فهو الواحد المطلق أزلا وأبدا.
    والعبد إنّما يكون واحدا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت ـ إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله ـ وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ؛ فلا وحدة على الإطلاق إلّا لله ـ تعالى ـ.
    الصمد
    هو الذي يصمد إليه في الحوائج ، ويقصد إليه في الرغائب ، إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد.
    ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمّات دينهم ودنياهم ، وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه ، فقد أنعم عليه بحظّ من معنى

    هذا الوصف ؛ لكنّ الصمد المطلق هو الذي يقصد إليه في جميع الحوائج ، وهو الله ـ تعالى ـ.
    أقول : وللصمد معنى آخر ، وهو الذي لا جوف له ، وهو بهذا المعنى لا يجوز إطلاقه على الله تعالى إلّا مجازا ، لأنّه صفة للأجسام ، والله يتعالى عنها.
    قال بعض المحقّقين (1) : «لمّا كان كلّ ممكن فوجوده أمر زائد على أصل ذاته ومقتضى ذاته ، وباطنه العدم واللاشيء ، فهو يشبه الأجوف ، كالحقّة الخالية عن شيء ، والكرة المفرّغة (2) ، لأنّ باطنه ـ الذي هو ذاته ـ لا شيء محض ، والوجود الذي يحيط به ويحدّده هو غيره ؛ وأمّا الذي ذاته الوجود والوجوب من غير شائبة عدم وفرجة خلل فيستعار له الصمد».
    أقول : وحظّ العبد من هذا الوصف أن يقوّي وجوده ويحصّل من صفات الوجود ـ بما هو وجود ـ حظّا وافرا ، حتّى يقرب منه ويبعد عن العدم.
    القادر المقتدر
    معناهما ذو القدرة ؛ ولكنّ المقتدر أكثر مبالغة ،
    والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء متقدّرا بتقدير الإرادة والعلم ، واقفا على وفقهما.
    __________________
    (1) ـ صدر المتألهين ـ قدس‌سره ـ : شرح الاصول من الكافي : باب النسبة ، الحديث الثاني.
    (2) ـ حلقة مفرّغة : مصمتة الجوانب ، فارغ جوفها.

    والقادر المطلق هو الذي يخترع كلّ موجود اختراعا يتفرّد به ، ويستغني فيه عن معاونة غيره وهو الله ـ تعالى ـ.
    فأمّا العبد فله قدرة على الجملة ، ولكنّها ناقصة ، إذ لا يتناول إلّا بعض الممكنات ، ولا يصلح للاختراع.
    المقدّم المؤخّر
    هو الذي يقرّب ويبعّد ، ومن قرّبه فقد قدّمه ، أي جعله قدّام غيره في الرتبة بالإضافة إلى نفسه ؛ ومن أبعده فقد أخّره وجعله متأخّرا عن غيره ؛ وقد قدّم أنبياءه وأولياءه بتقرّبهم وهدايتهم وحملهم على التوقير بالعبادة والعلم بإثارة دواعيهم ، وأخّر آخرين بصرف دواعيهم عن ذلك ، كما قال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [32 / 13].
    وقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [21 / 101].
    وحظّ العبد من صفات الأفعال ظاهر ، فلذلك قد لا نشتغل بإعادة كلّ اسم حذرا من التطويل.
    الأوّل الآخر
    هما مضافان متناقضان ، فلا يتصوّر أن يكون الشيء الواحد من وجه بالإضافة إلى شيء واحد أوّلا وآخرا جميعا.
    بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود ، ولاحظت سلسلة الموجودات

    المترتّبة ، فالله تعالى بالإضافة إليها أوّل ؛ إذ الموجودات كلّها استفادت الوجود منه ، وأمّا هو فموجود بذاته ، وما استفاد الوجود من غيره.
    ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ، ولاحظت مراتب منازل السائرين إليه ، فهو آخر بالإضافة ، إذ هو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين ، وكلّ معرفة تحصل قبل معرفته فهو مرقاة إلى معرفته ، والمنزل الأقصى هو معرفة الله ـ تعالى ـ.
    فهو آخر بالإضافة إلى السلوك ، أوّل بالإضافة إلى الموجود ؛ فمنه المبدأ أوّلا ، وإليه المرجع والمصير آخرا.
    الظاهر الباطن
    هما أيضا مضافتان متناقضان لا يجتمعان من وجه واحد ، وإنّما يكون بالإضافة إلى الإدراكات ؛ فالله ـ تعالى ـ باطن إن طلب من إدراك الحواسّ وخزانة الخيال ، ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق الاستدلال ؛ وإنّما خفي على أكثر العقول مع ظهوره لشدّة ظهوره ، فإنّ ظهوره سبب بطونه ، ونوره هو حجاب نوره ، وكلّ ما جاوز حدّه ، انعكس إلى ضدّه.
    ـ أقول : وقد مضى بيان ذلك وشرحه فيما سبق ، فلا نعيده ـ.
    ولا تتعجّبنّ من هذا في صفات الله ـ تعالى ـ فإنّ المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن ؛ فإنّه ظاهر إن استدلّ عليه بأفعاله المرئيّة المحكمة ، باطن إن طلب من إدراك الحسّ ؛ فإنّ الحسّ إنّما يتعلّق بظاهر بشرته ، وليس الإنسان إنسانا بالبشرة المرئيّة منه ؛ بل لو تبدّلت تلك

    البشرة ـ بل سائر أجزائه ـ فهو هو ، والأجزاء متبدّلة ؛ ولعلّ أجزاء كلّ إنسان بعد كبره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره ، فإنّها تحلّلت بطول الزمان ، وتبدّلت بأمثالها بطريق الاغتذاء ، وهويّته لم تتبدّل ؛ فتلك الهويّة باطنة عن الحواسّ ، ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال بآثارها وأفعالها.
    الوالي
    هو الذي دبّر امور الخلق وولّاها (1) ـ أي تولّاها ـ وكان مليّا بولايتها ؛ وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع جميع ذلك لم يطلق اسم الوالي ؛ ولا والي للامور إلّا الله ـ تعالى ـ فإنّه المتفرّد بتدبيرها أوّلا ، والمنفّذ للتدبير ـ بالتحقيق ـ ثانيا ، والقائم عليها بالإدامة والإبقاء ثالثا.
    المتعالي
    بمعنى العليّ مع نوع من المبالغة ؛ وقد سبق معناه.
    البرّ
    هو المحسن ؛ والبرّ المطلق هو الذي منه كلّ مبرّة وإحسان.
    والعبد إنّما يكون برّا بقدر ما يتعاطاه من البرّ ، لا سيّما بوالديه واستاده وشيوخه.
    __________________
    (1) ـ المصدر : وليها.

    التوّاب
    هو الذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرّة بعد اخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من تنبيهاته ويطلعهم عليها من تخويفاته وتحذيراته ، حتّى إذا اطّلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب ، استشعروا الخوف بتخويفه ، فرجعوا إلى التوبة ، فرجع إليهم فضل الله ـ تعالى ـ بالقبول. ومن العباد : من قبل معاذير المجرمين من رعاياه وأصدقائه ومعارفه مرّة بعد اخرى ، فقد تخلّق بهذا الخلق وأخذ منه نصيبا.
    المنتقم
    هو الذي يقصم ظهوره العتاة ، وينكل بالجناة ، ويشدّد العقاب على الطغاة ؛ وذلك بعد الإعذار والإنذار ، وبعد التمكين والإمهال ؛ وهو أشدّ من المعاجلة بالعقوبة ، فإنّه إذا عوجل بالعقوبة لم يمعن في المعصية ، فلم يستوجب عليه النكال في العقوبة.
    والمحمود من انتقام العبد أن ينتقم من أعداء الله ، وأعدى الأعداء نفسه ، وحقّه أن ينتقم منها ، مهما قارف معصية أو أخلّ بعبادة.
    العفوّ
    هو الذي يمحو السيّئات ، ويتجاوز عن المعاصي ، وهو قريب من «الغفور» ولكنّه أبلغ منه ، فإنّ الغفران ينبئ عن الستر ، والعفو ينبئ عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر.

    وحظّ العبد منه : أن يعفو عن كلّ من ظلمه ، بل يحسن إليه كما يحسن الله إلى العصاة والكفرة ويتوب عليهم بمحو سيّئاتهم ، إذ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1).
    الرءوف
    ذو الرأفة ؛ والرأفة شدّة الرحمة ، فهو بمعنى الرحيم مع المبالغة فيه.
    مالك الملك
    هو الذي ينفذ مشيّته في مملكته كيف شاء وكما شاء ، إيجادا وإعداما ، وإبقاء وإفناء ؛ و «الملك» هنا بمعنى المملكة ، و «المالك» بمعنى القادر التامّ القدرة ، والموجودات كأنّها مملكة واحدة هو مالكها وقادر عليها لارتباط بعضها ببعض ، كارتباط أجزاء بدن الإنسان وتعاونها على مقصود واحد ، وهو إتمام غاية الخير الممكن وجوده على ما اقتضاه الجود الإلهي.
    ومملكة كلّ عبد بدنه خاصّة ، فإذا نفّذت مشيّته في صفات قلبه وجوارحه فهو مالك مملكة نفسه بقدر ما اعطي من القدرة عليها.
    __________________
    (1) ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ابن ماجة : كتاب الزهد ، باب ذكر التوبة ، 2 / 1420 ، ح 4250.
    حلية الأولياء : ترجمة أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، 4 / 210. كنز العمال : 4 / 207 و 261 ، ح 10174 ـ 10176. و 10428. الرسالة القشيرية : باب التوبة ، 168. الجامع الصغير : باب التاء : 1 / 134. الجامع الكبير : 4 / 136 ـ 137 ، ح 10668 ـ 10669. وروي عن الباقر عليه‌السلام أيضا في الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب التوبة : 2 / 435 ، ح 10.

    ذو الجلال والإكرام
    هو الذي لا جلال ولا كمال إلّا وهو له ، ولا كرامة ولا مكرمة إلّا وهي صادرة منه ، والجلال له في ذاته ، والكرامة فائضة منه على خلقه ، وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر وتتناهى ، وعليه دلّ قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [17 / 70].
    المقسط
    هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم ، وكماله أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم ، بإثابة المظلوم ـ بعفوه عن الظالم ـ ما يصغّر في جنبه العفو عنه ، ـ كما ورد في الخبر (1) ـ وذلك غاية العدل والإنصاف ؛ ولا يقدر عليه إلّا الله ـ تعالى ـ.
    __________________
    (1) ـ المستدرك للحاكم (كتاب الأهوال : 4 / 576) : «... بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس إذ رأيناه ضحك حتّى بدت ثناياه ؛ فقال له عمر : «ما أضحك يا رسول الله بأبي أنت وأمّي»؟ قال : رجلان من أمّتي جثيا بين يدي ربّ العزّة ؛ فقال أحدهما : «يا ربّ خذلي مظلمتي من أخي». فقال الله تبارك وتعالى للطالب : «فكيف تصنع بأخيك ، ولم يبق من حسناته شيء»؟ قال : «يا ربّ ـ فليحمل من أوزاري». ـ قال : ـ وفاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبكاء ، ثمّ قال : إنّ ذلك يوم عظيم ، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم. فقال الله تعالى للطالب : «ارفع بصرك ، فانظر في الجنان». فرفع رأسه ، فقال : «يا ربّ ـ أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأيّ نبيّ هذا أو لأيّ صدّيق هذا أو لأيّ شهيد هذا»؟ قال : «هذا لمن أعطى الثمن». قال : «يا ربّ ـ ومن يملك ذلك»؟ قال : «أنت تملكه». قال : «بما ذا»؟ قال : «بعفوك عن أخيك». قال : «يا ربّ ـ فإنّي قد عفوت عنه». قال الله ـ عزوجل ـ : «فخذ بيد أخيك ، فادخله الجنّة» ...

    وأوفر العبيد حظّا من هذا الاسم من ينتصف أوّلا من نفسه ، ثمّ لغيره من غيره ، ولا ينتصف لنفسه من غيره.
    الجامع
    هو المؤلّف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادّات ، كجمعه الخلق الكثير من الإنس على ظهر الأرض ، وجمعه أجناس الموجودات في العالم ، وجمعه الكيفيّات المتضادّة في أمزجة الحيوانات ـ إلى غير ذلك ممّا يطول شرحه.
    ومن العباد من جمع بين الآداب الظاهرة في الجوارح والحقائق الباطنة في القلوب ، فمن كملت معرفته وحسنت سيرته فهو الجامع. ولذلك قيل : «الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه». وذلك لتعسّر الجمع بين الصبر والبصيرة ، فكم من صبور على الزهد والورع لا بصيرة له ، وبالعكس.
    الغنيّ المغني
    الغنيّ هو الذي لا تعلّق له بغيره ـ لا في ذاته ولا في صفات ذاته ـ بل يكون منزّها عن العلاقة مع الأغيار ؛ ولا يتصوّر ذلك إلّا لله تعالى.
    وهو المغني أيضا ، ولكنّ الذي أغناه لا يتصوّر أن يصير بإغنائه غنيّا مطلقا ، فإنّه في أقلّ اموره محتاج إلى المغني ؛ فلا يكون غنيّا ، بل يستغني عن غير الله بأن يمدّه [ب] ما يحتاج إليه ، لا بأن يقطع عنه أصل الحاجة.

    وهو غاية ما يدخل في الإمكان في حقّ غير الله ، بأن لم يبق له حاجة إلّا إلى الله ـ تعالى ـ.
    المانع
    هو الذي يردّ أسباب الهلاك والنقصان في الأبدان والأديان بما يخلقه من الأسباب المعدّة للحفظ ، وقد سبق معنى «الحفيظ» ، وكلّ حفظ فمن ضرورته منع ودفع ، فمن فهم معنى «الحفيظ» فهم معنى «المانع».
    والمنع إضافة إلى سبب (1) المهلك ، والحفظ إضافة إلى المحروس عن الهلاك ، وهو مقصود المنع وغايته ، إذ المنع يراد للحفظ ، والحفظ لا يراد للمنع ؛ وكلّ حافظ دافع مانع (2) ، وليس كلّ مانع حافظا إلّا إذا كان مانعا مطلقا لجميع أسباب الهلاك والنقص ، حتّى يحصل الحفظ من ضرورته.
    الضارّ النافع
    هو الذي يصدر منه الخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وإن كان أحدهما بالعرض ، سواء كان بواسطة أو بغير واسطة ؛ والوسائط كلّها مسخّرات بأمره ، كالقلم في يد الكاتب.
    __________________
    (1) ـ كذا. والمصدر : السبب.
    (2) ـ المصدر : وكل حافظ مانع.

    النور
    هو الظاهر الذي به كلّ ظهور ، ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود ، ولا ظلام أظلم من العدم ، فالبريء عن ظلمة العدم ـ بل عن إمكان العدم ـ المخرج كلّ الأشياء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود ، جدير بأن يسمّى «نورا». والوجود نور فائز على الأشياء كلّها من نور ذاته ، فهو (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [24 / 35]. وكما أنّه لا ذرّة من نور الشمس إلّا وهي دالّة على وجود الشمس المنوّرة ، فلا ذرّة من موجودات السماوات والأرض وما بينهما إلّا وهي بجواز وجودها دالّة على وجوب وجود موجدها.
    الهادي
    هو الذي هدى خوّاص عباده أوّلا إلى معرفة ذاته ، حتّى استشهدوا على الأشياء به ؛ وهدى عوامّ عباده إلى مخلوقاته ، حتّى استشهدوا بها على ذاته ؛ وهدى كلّ مخلوق إلى ما لا بدّ له منه في قضاء حاجته ، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله ، والفرخ إلى التقاط الحبّ وقت خروجه ، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس ـ لكونه أوفق الأشكال إلى بدنه وأحواها وأبعدها عن أن تتخلّلها فرج ضايعة ـ وشرح ذلك ممّا يطول.
    وعنه عبّر قوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [20 / 50]. وقوله : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [87 / 3].

    والهداة من العباد الأنبياء والعلماء ، الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الاخرويّة ، وهدوهم إلى صراط الله المستقيم ؛ بل الله الهادي بهم وعلى ألسنتهم ، وهم مسخّرون تحت قدرته وتدبيره.
    البديع
    هو الذي لا عهد بمثله ، فإن لم يكن بمثله عهد ـ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في كلّ أمر راجع إليه ـ فهو البديع المطلق ، وإن كان شيء من ذلك معهودا فليس ببديع مطلق ، ولا يليق هذا الاسم مطلقا إلّا بالله تعالى ، فإنّه ليس له قبل ـ فيكون مثله معهودا قبله ـ وكلّ موجود بعده فحاصل بإيجاده ، وهو غير مناسب لوجوده (1) ؛ فهو بديع أزلا وأبدا.
    وكلّ عبد اختصّ بخاصيّة في النبوّة والولاية والعلم ، لم يعهد مثلها ـ إمّا في سائر الأوقات ، أو في عصره ـ فهو بديع بالإضافة إلى ما هو متفرّد به وفي الوقت الذي هو متفرّد به (2).
    الباقي
    هو الموجود الواجب وجوده بذاته ، ولكنّه إذا اضيف في الذهن إلى الماضي سمّي «قديما» ، وإذا اضيف إلى الاستقبال سمّي «باقيا».
    __________________
    (1) ـ المصدر : لموجده.
    (2) ـ المصدر : منفرد فيه.

    والباقي المطلق هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ، ويعبّر عنه بأنّه «أبديّ» ؛ والقديم المطلق هو الذي لا ينتهي تمادي وجوده في الماضي إلى أوّل ، ويعبّر عنه بأنّه «أزليّ».
    وقولك : «واجب الوجود بذاته» متضمّن لجميع ذلك ، وإنّما هذه الأسامي بحسب إضافة هذا الوجود في الذهن إلى الماضي والمستقبل ، وإنّما يدخل في الماضي والمستقبل المتغيّرات ، لأنّهما عبارتان عن الزمان ، ولا يدخل في الزمان إلّا التغيّر والحركة ، إذ الحركة بذاتها تنقسم إلى ماض ومستقبل ؛ والمتغيّر يدخل في الزمان بواسطة التغيّر ؛ فما جلّ عن التغيّر بالحركة فليس في زمان ، فليس فيه ماض ومستقبل.
    والحقّ تعالى قبل الزمان ، وحيث خلق الزمان لم يتغيّر من ذاته شيء ؛ وقبل خلق الزمان لم يكن للزمان عليه جريان ، وبقي بعد خلق الزمان على ما عليه كان.
    الوارث
    هو الذي إليه ترجع الأملاك بعد فناء الملّاك ، وذلك هو الله ـ سبحانه ـ إذ هو الباقي بعد فناء خلقه ، وإليه مرجع كلّ شيء ومصيره ، وهو القائل إذ ذاك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [40 / 16].
    وهذا بحسب ظنّ الأكثرين ، إذ يظنّون لأنفسهم ملكا وملكا (1) ، فتنكشف لهم ذلك اليوم حقيقة الحال ؛ وهذا النداء عبارة عن حقيقة ما ينكشف لهم في ذلك الوقت.
    __________________
    (1) ـ الملك : السلطة. والملك : ما يملك.

    وأمّا أرباب البصائر ، فإنّهم أبدا شاهدون بمعنى هذا النداء ، سامعون له من غير صوت ولا حرف ، موقنون بأنّ الملك لله الواحد القهّار ـ في كلّ يوم وفي كلّ ساعة وفي كلّ لحظة ؛ وكذلك كان أزلا وأبدا.
    وهذا إنّما يدركه من أدرك حقيقة التوحيد في الفعل ، وعلم أنّ المتفرّد (1) في الملك والملكوت واحد.
    الرشيد
    هو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها ، على سنن السداد ، من غير إشارة مشير وتسديد مسدّد وإرشاد مرشد ، وهو الله ـ سبحانه ـ.
    ورشد كلّ عبد بقدر هدايته في تدابيره إلى إصابة شاكلة الصواب من مقاصده في دينه ودنياه.
    الصبور
    هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه ، بل ينزّل الامور بقدر معلوم ، ويجريها على سنن محدودة ، لا يؤخّرها عن آجالها المقدّرة لها ـ تأخير متكاسل ـ ولا يقدّمها على أوقاتها ـ تقديم مستعجل ـ بل يودع كلّ شيء في أوانه ، على الوجه الذي يجب أن يكون ، وكما ينبغي ، وكلّ ذلك من غير مقاساة داع على مضادّة الإرادة.
    __________________
    (1) ـ المصدر : المتفرّد بالفعل.

    وصبر العبد لا يخلو من مقاساة ، لأنّه دفع لداعي الشهوة والغضب في مقابلة داعي الدين أو العقل ، وميل إلى باعث التأخير.
    * * *
    هذا آخر كلام شارح الأسماء (1) مع اقتصار وتلخيص.
    وكلّ ما يوهم نقصا فلا يجوز إطلاقه على الله ـ سبحانه ـ مثل «العارف» و «العاقل» و «الفطن» و «الذكيّ» ؛ لأنّ المعرفة تشعر بسبق فكر ، والعقل هو المنع عمّا لا يليق ، والفطنة والذكاء تشعران بسرعة الإدراك لما غاب عن المدرك ؛ وكذا «المستهزئ» و «الماكر» ـ وإن وردا في الشرع ـ ولكن على نحو آخر غير موهم للنقص ، فلا يجوز التعدّي عن مورده.
    وقد يقال لا ينبغي لمن وفّق بحسن الأدب بين يدى الله ـ سبحانه ـ أن يفرد أحد الاسمين المتقابلين عن الآخر ـ كالقابض والباسط ، والمعزّ والمذلّ ، والخافض والرافع ، ونظائر ذلك ـ لأنّ مقارنتهما أدلّ على الحكمة ، وأنبأ عن القدرة ؛ فالإفراد مفوّت للغرض.
    * * *
    __________________
    (1) ـ الغزالي في المقصد.

    فصل [4]
    [الموجودات مظاهر الأسماء الحسنى ، بل عينها] (1)
    لكلّ اسم من الأسماء الإلهيّة مظهر من الموجودات ، باعتبار غلبة ظهور الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم فيه ، فإنّ الله ـ سبحانه ـ إنّما يخلق ويدبّر كلّ نوع من أنواع الخلائق باسم من أسمائه ، وذلك الاسم هو ربّ ذلك النوع ، والله ـ سبحانه ـ ربّ الأرباب.
    وأعني بالاسم هنا إطلاقه الثاني من اطلاقيه المشار إليهما فيما سبق (2).
    وإلى هذا اشير في كلام أهل البيت عليهم‌السلام في أدعيتهم بقولهم (3) : «وبالاسم الذي خلقت به العرش ، وبالاسم الذي خلقت به الكرسيّ ، وبالاسم الذي خلقت به الأرواح» ـ إلى غير ذلك من هذا النمط ـ.
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (4) : «نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلّا بمعرفتنا».
    __________________
    (1) ـ ورد ما في هذا الفصل مع تفصيل أكثر في عين اليقين : 312.
    (2) ـ راجع الصفحة : 144.
    (3) ـ راجع ما نقله المجلسي ـ قدس‌سره ـ عن مصباح السيد علي بن الحسين بن باقي ـ ره ـ (البحار : كتاب الصلاة ، باب صلاة النبي والأئمة عليهم‌السلام ، 91 / 182 ، ح Cool.
    البلد الأمين : الأسماء الحسنى : 412. دلائل الإمامة : ذكر دعاء علمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام ، 6.
    (4) ـ الكافي : باب النوادر من كتاب التوحيد : 1 / 144 ، ح 4.
    العياشي : سورة الأعراف ، 2 / 42 ، ح 119. البحار : 94 / 5 ـ 6 ، ح 7.

    وذلك لأنّهم عليهم‌السلام وسائل معرفة ذاته ووسائط ظهور صفاته ، وأرباب أنواع مخلوقاته(1).
    ولك أن تقول : إنّ حقائق الموجودات بأسرها هي بعينها أسماء الله ـ تعالى ـ لأنها تدلّ على الله ـ سبحانه ـ دلالة الاسم على المسمّى ـ فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ ، كذلك تكون بالذوات ، من غير فرق بينهما فيما يئول إلى المعنى ؛
    بل كلّ موجود بمنزلة كلام صادر عنه تعالى دالّ على توحيده ، وتمجيده ؛
    بل كلّ منها عند اولي البصائر لسان ناطق بوحدانيّته ، يسبّح بحمده ويقدّسه عمّا لا يليق بجنابه (2) ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [17 / 44] ؛
    بل كلّ من الموجودات ذكر وتسبيح له تعالى ، إذ يفهم منه وحدانيّته وعلمه ، واتّصافه بسائر صفات الكمال ، وتقدّسه عن صفات النقص والزوال ؛ فإنّ البراهين قائمة ـ بل العقول السليمة قاضية ـ بوجوب انتهاء كلّ طلب إلى مطلوب ، وكلّ فقر إلى غناء ، وكلّ نقصان إلى تمام ؛ كما أنّها قاضية بوجوب رجوع كل مخلوق إلى خالق ، وكلّ مصنوع إلى صانع ، وكلّ مربوب إلى ربّ ؛ فنقصانات الخلائق
    __________________
    (1) ـ كتب المؤلف هنا الحديث الأول من باب حدوث الأسماء من كتاب التوحيد من الكافي : 1 / 112 ؛ ثم شطب عليه ؛ وقد أعرضنا لأن المصدر سهل الوصول. المراجعين.
    (2) ـ كتب في هامش النسخة :
    برگ درختان سبز در نظر هوشيار
    هر ورقى دفتريست معرفت كردگار



    دلائل كمالات الخالق ـ جلّ ذكره ـ وكثراتها واختلافاتها شواهد وحدانيّته ونفي الشريك عنه والضدّ والندّ ـ جلّ جلاله ـ.
    كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له»
    ـ إلى أن قال ـ : «ففرّق بين قبل وبعد ، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ؛ شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه ...» ـ الحديث ـ
    وقال بعض الحكماء (2) في هذا المعنى ـ وهو يصف النرجس ـ :
    عيون في جفون في فنون
    بدت فأجاد صنعتها المليك

    بأبصار التغنّج طامحات
    كأنّ حداقها ذهب سبيك

    على قصب (3) الزمرّد مخبرات
    بأنّ الله ليس له شريك

    __________________
    (1) ـ الكافي : باب جوامع التوحيد : 1 / 139 ، ح 4. وقد روي مثله عن مولانا الرضا عليه‌السلام أيضا في التوحيد : باب التوحيد ونفي التشبيه ، 37 ـ 38 ، ح 2.
    عنه البحار : 4 / 229 ، ح 3.
    (2) ـ الأشعار لأبي نواس ، وقد أوردها الفخر الرازى في تفسيره (2 / 99 ، تفسير الآية : 2 / 21) برواية تختلف عما ذكره المؤلف :
    تأمل في نبات الأرض وانظر
    إلى آثار ما صنع المليك

    عيون من لجين شاخصات
    وأزهار كما الذهب السبيك

    على قضب الزبرجد شاهدات
    بأن الله ليس له شريك

    صدر المتألهين ـ قدس‌سره ـ في تفسير الآية أيضا ، تفسيره : 2 / 86.
    (3) ـ في هامش النسخة : «نسخة : قضب».

    فصل [5]
    [يسأله سبحانه من في السماوات والأرض] (1)
    كلّ موجود من الموجودات يطلب من الله ـ سبحانه ـ بلسان استعداده الكمال الذي يستعدّ له ؛ واستعداده لذلك الكمال ـ أيضا ـ من نعمه سبحانه ، وإليه اشير في الأدعية المأثورة بقولهم (2) : «يا مبتدأ بالنعم قبل استحقاقها».
    وإعطاؤه ـ سبحانه ـ الاستعداد دعاء منه إلى الطلب ، فالطلب بهذا الاعتبار إجابة لدعوة الحقّ (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [46 / 31]. وهو باعتبار آخر سؤال منه سبحانه : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [55 / 29].
    وهذا السؤال إنّما هو بلسان الحاجة والافتقار ، وعلى وجه الذلّ والاضطرار ، وإنّما هو باسم من أسمائه ـ جلّ جلاله ـ مناسب لحاجة السائل ، فالفقير ـ مثلا ـ إنّما يدعوه بالاسم «المغني» ، والمريض بالاسم
    __________________
    (1) ـ راجع عين اليقين : 312.
    (2) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى ، 222 ، ح 14. البلد الأمين : 18. دلائل الإمامة للطبري : باب معرفة من شاهد صاحب الزمان عليه‌السلام في حال الغيبة وعرفه ، الرواية الأخيرة : 552. مصباح المتهجد : أعمال يوم الجمعة ، 293. البحار : 86 / 75 ، ح 10. 51 / 305 ، ح 19. 90 / 37 ، ح 5. الدعوات للراوندي: فصل في ألحّ الدعاء وأوجزه ، من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : 60 ، ح 148. البحار : (كتاب الصلاة ، باب الأدعية والأذكار عند الصباح والمساء : 86 / 316 ، ح 67) نقلا عن مجموع الدعوات للتلعكبري ، دعاء الصادق عليه‌السلام عند الصباح : «... يا من بدء بالنعمة قبل استحقاقها ...».

    «الشافي» ، والمظلوم بالاسم «المنتقم» ـ وعلى هذا القياس ـ فكلّ ذرّة من ذرّات العالم تدعو الله اضطرارا ـ بلسان حالها ـ باسم من أسمائه تعالى ، وهو سبحانه يجيب دعوتها في حضرة ذلك الاسم الذي دعاه به ، كما قال : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [27 / 62].
    وذلك الاسم هو صورة إجابته تعالى لدعوة ذلك المضطرّ من وجه ، وهو ربّ ذلك المضطرّ بإذن الله من وجه آخر ؛ ومطالب الكلّ على حسب مسئولاتهم مبذولة دائما ، وحوائجهم مقضيّة أبدا ، لا يخيب منه أحد قطّ ، إلّا من كان على بصيرته غشاوة من استعداده ، فأخذ يدعو الله بلسان المقام ، خلاف ما يدعوه بلسان الحال ؛ فذلك يخيب قولا ، وإن استجيب حالا ؛ وهو قوله عزوجل : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [13 / 14]. وسائر أفعاله عزوجل يرجع إلى هذه الإجابة لدعوة المضطرّين ، وهي ترجع إلى إفاضة الوجود ، وإنّما تختلف أساميها باختلاف الاعتبارات.
    روي في كتاب التوحيد (1) بإسناده ، عن يحيى الخزاعي (2) ، قال :
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أسماء الله تعالى : 219 ، ح 10. معاني الأخبار : باب قول المريض آه : 354 ،. البحار : 81 / 202 ، ح 3. 93 / 393 ، ح 3.
    (2) ـ إسناد الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد : «حدثنا غير واحد ، قالوا : حدثنا محمّد بن همام ، عن عليّ بن الحسين (عليّ بن الحسن ـ ن) ، قال : حدثني جعفر بن يحيى الخزاعي ، عن أبيه ، قال دخلت مع أبي عبد الله عليه‌السلام ...». وفي معاني الأخبار : «حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد العلوي ، قال : حدثنا محمّد بن همام ، عن علي بن الحسين ، قال حدثني جعفر بن يحيى الخزاعي ، عن أبي اسحاق الخزاعي ، عن أبيه ، قال دخلت مع أبي عبد الله ...». وكما ترى يختلف الكتابين في راوي الحديث عن الصادق عليه‌السلام. ثم المجلسي ـ قدس‌سره ـ أورده عن معاني الأخبار في موضعين من ـ

    دخلت مع أبي عبد الله عليه‌السلام على بعض مواليه نعوده ، فرأيت الرجل يكثر من قول : «آه». فقلت له : «يا أخي ـ اذكر ربّك ، واستغث به».
    فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ «آه» اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فمن قال : «آه» ، فقد استغاث بالله ـ تبارك وتعالى».
    أقول : وسرّ هذا الحديث ما بحنا (1) لك به ـ ولله الحمد ـ.
    __________________
    ـ البحار : فمرّة في كتاب الطهارة (باب آداب المريض وأحكامه : 81 / 202) بدون ذكر عن «أبي اسحاق الخزاعي» ، ومرة في كتاب الذكر والدعاء (باب الاجتماع في الدعاء والتأمين ... : 93 / 393) مع إضافة اسمه. ثم قال في الموضعين : «التوحيد : عن غير واحد ، عن محمد بن همام ، مثله». فإما أنّه نقل السند في الأول معتمدا على ما في التوحيد ولم يلتفت إلى الاختلاف في الراوي ، أو كانت عنده نسختين من المعاني مختلفتين في السند واتفق النقل عن واحد منهما في كل مرّة من غير التفات إلى الاختلاف ـ والاحتمال بعيد ـ. والأظهر أنّ الصحيح ما في التوحيد ، إذ لم يذكروا في مشيخة جعفر بن يحيى الخزاعي شيئا عن أبي اسحاق الخزاعي ؛ وذكروا أنّه روى عن أبيه يحيى بن أبي العلاء ، وعن اسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وروى عن الحسين بن الحسن ، وعن بعض أصحابنا. (راجع معجم الرجال : 4 / 138.
    جامع الرواة : 1 / 163) بل ولم يرد شيئا عن أبي اسحاق هذا في تراجم الرجال.
    (1) ـ باح الشيء ، بوحا ـ من باب قال ـ : ظهر. ويتعدّى بالحرف ، فيقال : باح به صاحبه ؛ وبالهمزة أيضا فيقال : أباحه (مصباح).

    [7]
    باب
    أفعاله وقضائه وقدره
    جلّ ذكره
    (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [7 / 54]
    فصل (1) [1]
    إنّ الله ـ سبحانه ـ خلق ـ أوّل ما خلق ـ جوهرة شريفة ملكوتيّة روحانيّة وحدانيّة ، له وجوه متعدّدة وجهات مختلفة ؛ كان له بكلّ وجه وجهة اسم من الأسماء.
    ولهذا اختلفت ألفاظ الشرع في تسميته :
    فسمّي ب «العقل» في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ أوّل ما خلق الله
    __________________
    (1) ـ راجع عين اليقين : 317.

    العقل» (1) وذلك لأنّه محلّ علم الله ـ سبحانه ـ كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [15 / 21].
    وب «القلم» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) : «إنّ أوّل ما خلق الله القلم». لإفاضة الله الصور العلميّة على ألواح النفوس بتوسّطه ، وسيّما على النفس الكليّة التي هي اللوح الأعظم ، كما قال ـ تعالى ـ : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [96 / 3 ـ 5].
    وسئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن اللوح والقلم؟ فقال (3) : «هما ملكان».
    وب «الروح» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (4) : «أوّل ما خلق الله روحي» ؛ لإفاضة الله عزوجل ـ الحياة على كلّ حيّ بتوسّطه ، وإنّما أضافه إلى
    __________________
    (1) ـ أبو نعيم في الحلية : ترجمة سفيان بن عيينة ، 7 / 318. وجاء في الفقيه : (باب النوادر : 4 / 369) : «... يا علي ، إنّ أوّل خلق خلقه الله عزوجل العقل ...».
    (2) ـ أبو داود : كتاب السنّة ، باب في القدر : 4 / 226 ، ح 4700. الترمذي : كتاب القدر ، الباب 17: 4 / 458 ، ح 2155. كتاب التفسير ، سورة ن ، 5 / 424 ، ح 3319.
    المسند : 5 / 317. تفسير الطبري : سورة ن ، 29 / 11. تفسير القمي : في قوله تعالى (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) : 2 / 199.
    وفي المعجم الكبير (11 / 342 ، ح 12227) : «إن أول ما خلق الله القلم والحوت ...». كنز العمال : 1 / 126 و 6 / 122 ، ح 597 و 15115 ـ 15117.
    (3) ـ معاني الأخبار : باب معنى اللوح والقلم : 30. عنه البحار : 57 / 369 ، ح 6.
    (4) ـ تأويل الآيات الظاهرة (المطففين / 18 ، 2 / 773) نقلا عن الصدوق في كتاب المعراج ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا علي ، إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه ، فخلقني وخلقك ، روحين من نور جلاله ...». البحار عنه وعن المحتضر : 25 / 3 ـ 4 ، ح 5 ـ 6.

    نفسه ، لأنّه المبعوث إلى مقام الروح الأوّل ، كما قال عزّ اسمه : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) [78 / 38].
    وسئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [42 / 52] قال (1) : «خلق من خلق الله ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده ؛ وهو مع الأئمّة من بعده».
    وزاد في رواية اخرى (2) : «وهو من الملكوت».
    وفي اخرى (3) : «إنّه لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمّةعليهم‌السلام يوفّقهم ويسدّدهم».
    __________________
    (1) ـ مع فرق يسير في الكافي : كتاب الحجة ، باب الروح التي يسدد الله به الأئمة عليهم‌السلام : 1 / 273 ، ح 1. بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ ..) : 455 ، ح 2. تفسير القمي : الآية المذكورة ، 2 / 284 ، وأيضا في تفسير (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ، 2 / 370 ، (وليس فيهما : يخبره ويسدده). البحار : 18 / 265 ، ح 22. و 18 / 254 ، ح 3. و 18 / 267 ، ح 28. 25 / 47 ـ 48 ، ح 1 وح 5.
    (2) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 3. بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ...) : 462 ، ح 9. العياشي : في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) : 2 / 317 ، ح 165 ، بأدنى اختلاف في اللفظ. البحار : 18 / 265 ، ح 23. 25 / 47 ، ح 2. 25 / 69 ، ح 54.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 461 ، ح 1. العياشي : الصفحة السابقة بأدنى اختلاف.
    البحار : 25 / 67 ، 47.
    وروى الصدوق ـ قدس‌سره ـ في العيون (باب 46 ، ما جاء عن الرضا عليه‌السلام في وجه دلائل الأئمة ... : 2 / 200 ، ح 1) : «... إنّ الله عزوجل قد أيّدنا بروح منه مقدسة مطهرة ، ليست بملك ، لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مع الأئمة منّا ، تسددهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزوجل ...». البحار : 25 / 48 ، ح 7. و 25 / 134 ، ح 6.

    وفي اخرى (1) : «ليس كلّما طلب وجد».
    وفي اخرى (2) : «منذ أنزل الله ذلك الروح على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صعد إلى السماء ، وإنّه لفينا».
    وفي اخرى (3) : قيل له «أليس الروح جبرئيل»؟ فقال : «جبرئيل من الملائكة ، والروح خلق أعظم من الملائكة ؛ أليس الله يقول : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [97 / 4]»؟
    كلّ ذلك مروىّ في كتاب بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفّار ـ رحمه‌الله ـ بالأسانيد المتّصلة.
    __________________
    (1) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 4. بصائر الدرجات : الباب السابق : 461 ، ح 1 ـ 4.
    العياشي : في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) : 2 / 317. البحار : 18 / 265 ، ح 25 ،. 25 / 67 ـ 68 ، ح 47 ـ 49.
    وروى الكشي (اختيار معرفة الرجال : ما روي في عبد الله بن طاوس : 604) عن الرضا عليه‌السلام في الجواب عمّن سأله أن يحيى بن خالد سمّ أباه عليه‌السلام : ـ «قال : ـ نعم ، سمّه في ثلاثين رطبة. قلت له : فما كان يعلم أنّها مسمومة؟ قال : غاب عنها المحدّث. قلت : ومن المحدث؟ قال : ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ وليس كلّما طلب وجد ...» البحار : 48 / 242 ، ح 50. 49 / 66 ، ح 86.
    (2) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 2. بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا ...) : 457 ، ح 11. البحار : 18 / 265. 25 / 61.
    (3) ـ بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ...) : 464 ، ح 4.
    وجاء ما يشبهه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا فيه : ح 3 والكافي ، الباب السابق ، 1 / 274 ، ح 6. البحار : 25 / 64 ، ح 45 ـ 46.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:33 pm

    ومن جهة كثرته قال صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) :
    «أوّل ما خلق الله أرواحنا ، ثمّ خلق الملائكة».
    وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد».
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (3) : «انّ الروح ملك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، في كلّ وجه سبعون ألف لسان ، في كلّ لسان سبعون ألف لغة ، يسبّح الله بتلك اللغات كلّها ، ويخلق بكلّ تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة».
    __________________
    (1) ـ كمال الدين : باب نصّ الله عزوجل على القائم : 255 ، ح 4. عيون الأخبار : الباب 26 ، ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار النادرة في فنون شتّى ، 1 / 262 ، ح 22.
    البحار : 18 / 345 ، ح 56. 57 / 58 ، ح 29.
    وجاء في تفسير الفرات (سورة الزمر / 74 : ص 372) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «... قلت : يا ملائكة ربي ـ هل تعرفونا حقّ معرفتنا؟ فقالوا : يا نبي الله ـ كيف لا نعرفكم ، وأنتم أول ما خلق الله ، خلقكم أشباح نور من نور في نور ... ثم خلق السماوات والأرضين ... ثم خلق الملائكة ...». البحار : 57 / 176 ، ح 135. وفي الكافي (كتاب الحجّة : باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته : 1 / 442 ، ح 10) عن الباقرعليه‌السلام : «... إنّ الله أول ما خلق خلق محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الهداة المهديين ...».
    (2) ـ اختيار معرفة الرجال (ذكر سفيان الثوري : 396) : عن الصادق عليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله. ورواه الصدوق ـ قدس‌سره ـ في معاني الأخبار (باب معنى الأمانة التي ... : 108 ، ح 1) عن الصادق عليه‌السلام أيضا.
    وفي بصائر الدرجات (باب في أمير المؤمنين عليه‌السلام انه عرف ما رأى في الميثاق : 87) روي عدة روايات عن أمير المؤمنين جاء فيها : «... خلق الله الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ...».
    (3) ـ الأسماء والصفات للبيهقي : باب ما جاء في تفسير الروح : 2 / 104. تفسير الطبري : في تفسير الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) : 15 / 105.
    راجع تخريجاته أيضا في الدر المنثور : تفسير الآية المذكورة : 5 / 331.

    وسمّي ب «النور» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «أوّل ما خلق الله نوري» ، إذ به تنوّرت السماوات والأرض. ووجه الإضافة ما سبق.
    وب «الاسم» في قوله ـ عزوجل ـ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [87 / 1] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [55 / 78]. لأنّه مظهر أسمائه الحسنى المشتمل عليها كلّها ، بل هو اسمه الأعظم الأعظم ، الأجلّ الأكرم.
    وب «اليمين» في قوله ـ عزّ اسمه ـ : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [39 / 67]. لشرفه وقوّته بالإضافة إلى الجسمانيّات.
    وب «اليد» في قوله ـ عزّ ذكره ـ : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [48 / 10] لكونه بمنزلة اليد في خلق العالم ؛ وباعتبار كثرته قال : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [51 / 47]. وقال : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [36 / 71]. فله سبحانه أيد ليست بجوارح جسمانيّة ، بل ذوات عاقلة روحانيّة عمّالة بأمره.
    __________________
    (1) ـ عوالي اللئالي : الجملة الثانية من الخاتمة ، 4 / 99 ، ح 140. البحار : السماء والعالم ، باب حدوث العالم ... : 57 / 170 ، ح 117 ، نقلا عن رياض الجنان لفضل الله الفارسي. وفي الكافي (كتاب الحجة ، باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : 1 / 440 ، ح 3) : عن الصادق عليه‌السلام : «قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : يا محمّد ـ إنّي خلقتك وعليّا نورا ـ يعني روحا بلا بدن ـ قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري ؛ فلم تزل تهللني ...». راجع أيضا : البحار : باب بدء خلقهم عليهم‌السلام : 25 / 22.

    وب «الحجب النوريّة» في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «إنّ لله سبعا وسبعين حجابا من نور ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». وهذا بالنظر إلى كثرته.
    وفي رواية (2) : «من نور وظلمة» ؛ وهي إشارة إلى جهاته المختلفة مع ما خلق منه ولأجله من الأجسام والجسمانيّات.
    ولعلّ تسميته ب «الحجب» ما سبق من أنّ الخلق حجاب للربّ ؛ كما قال مولانا الكاظم عليه‌السلام (3) : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه».
    وب «العرش» و «الكرسي» كما يأتي في الحديث (4).
    __________________
    (1) ـ ورد الحديث بألفاظ مختلفة ، سيما في عدد الحجب : أخرج الطبراني (المعجم الكبير ، روايات سهل بن سعد : 6 / 148 ، 5802) : «الله عزوجل دون سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، وما يسمع من نفس شيئا من حسّ تلك الحجب إلّا زهقت».
    وأورد الغزالي في الإحياء (قواعد العقائد ، الفصل الثاني من كتاب الاعتقاد : 1 / 149) : «انّ لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور ؛ لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره». وأخرج مسلم (كتاب الإيمان ، الباب 79 : 1 / 162 ، ح 294) : «... حجابه النور ؛ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». واضيف في حديث آخر (ح 293) : «من خلقه». وفي ابن ماجة (المقدمة ، الباب 13 : 1 / 71 ، ح 196) : «... حجابه النور ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره».
    وأما بلفظ المؤلف (سبعا وسبعين) فلم أعثر عليه.
    (2) ـ راجع ما أوردنا في التعليقة السابقة عن الطبراني.
    (3) ـ مضى في الصفحة : 51.
    (4) ـ راجع الفصل الثالث من هذا الباب.

    وأمّا ما ورد من (1) : «أوّل ما خلق الله الماء» فاريد به أوّل ما خلق من عالم الأجسام ، واريد بالماء مادّة الأجسام ، وما به قوامها.
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) : «أوّل ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة ، فذابت أجزاؤه فصارت ماء ؛ فتحرّك الماء وطفى فوقه زبد ، وارتفع منه دخان ، فخلق السماوات من ذلك الدخان والأرضين من ذلك الزبد».
    وفي الكافي (3) عن مولانا الباقر عليه‌السلام ما يقرب منه ؛ وهو إشارة إلى كيفيّة تكثّره ـ ويأتي الكلام فيه.
    ولعلّ تسمية ما ذاب منه ب «الماء» إنّما هي لسيلانه وقبوله التشكّلات المختلفة بسهولة ، فإنّ المخلوقات الجسمانيّة ـ كلّها ـ إنّما خلقت به وبواسطته (4).
    __________________
    (1) ـ التوحيد (باب التوحيد : 67 ، ح 20) : عن الباقر عليه‌السلام «... فأول شيء خلقه من خلقه ، الشيء الذي جميع الأشياء منه ، وهو الماء».
    (2) ـ لم أعثر عليه بلفظه. وقد ورد ما يقرب منه في البحار (15 / 30 ، ح 48. و 57 / 201 ، ح 145) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.
    (3) ـ الكافي : الروضة ، حديث أهل الشام ، 8 / 94 ، ح 67. وفيه أيضا (كتاب التوحيد ، باب العرش والكرسي ، 1 / 133 ، ح 7) عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله حمّل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون أرض أو سماء أو جنّ أو إنس أو شمس أو قمر ...».
    (4) ـ كتب المؤلف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    وب «ادباره» وب «اقباله» كما رواه في الكافي (لج بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أدبر. فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل. فأقبل ؛ فقال الله ـ تعالى ـ : خلقتك خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي. ـ قال ـ : ثمّ خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيّا ، فقال له : أدبر. فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فلم يقبل ، فقال ـ

    وفي كتاب التوحيد بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام (1) : «أوّل شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه ؛ وهو الماء».
    __________________
    ـ له : استكبرت. فلعنه» ـ الحديث ـ
    وفي رواية اخرى (* لج بعد ذكر الإقبال والإدبار : «ما خلقت خلقا أحسن منك ، بك اعطي وبك أمنع». وفي اخرى (* * لج : «وبك اثيب ، وبك اعاقب».
    ومعنى إقباله وإدباره غامض جدّا لا يحتمل هذا الكتاب ذكره ، وقد ذكرنا في كتاب «عين اليقين» بما لا مزيد عليه.
    لج الكافي : كتاب العقل والجهل : 1 / 21 ، ح 14. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب العقل : 1 / 196 ، ح 22. علل الشرائع : باب علة الطبائع والشهوات والمحبات : 1 / 114 ، ح 10. الخصال : ابواب السبعين وما فوقه ، الحديث 13 : 2 / 589. بفروق يسيرة. والراوي في الجميع سماعة بن مهران : «قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده جماعة من مواليه ، فجرى ذكر العقل والجهل ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اعرفوا العقل وجنده ، والجهل وجنده تهتدوا. قال سماعة : فقلت جعلت فداك ـ لا نعرف الا ما عرّفتنا. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : انّ الله عزوجل خلق العقل وهو أول خلق ...» ولكن رواه صاحب تحف العقول ضمن وصايا الإمام الكاظم عليه‌السلام لهشام (تحف العقول : وصيته عليه‌السلام لهشام وصفته للعقل : 400) : «... يا هشام اعرف العقل وجنده ، والجهل وجنده تكن من المهتدين. قال هشام : فقلت : جعلت فداك ـ لا نعرف إلا ما عرّفتنا. فقال عليه‌السلام : يا هشام إنّ الله خلق العقل وهو أول خلق ...». وفي الروايتين اختلافات يسيرة والأظهر أنها رواية واحدة اختلطت عند الرواة.
    * لج ـ) : الكافي : 1 / 28 ، ح 32. والمحاسن : 192 ، ح 7. واللفظ فيهما : «بك آخذ ، وبك اعطي».
    * * لج ـ) الفقيه : باب النوادر ـ وهو آخر أبواب الكتاب ـ : 4 / 369. وجاء في الكافي (1 / 26 ، ح 26) والمحاسن (1 / 192 ، ح 6) بلفظ : «إياك اثيب ، وإياك اعاقب».
    (1) ـ التوحيد : باب التوحيد : 67 ، ح 20.
    الكافي : الروضة ، حديث أهل الشام : 8 / 94 ، ح 67 ، وفيه فروق يسيرة.

    قيل : «فالشيء ، خلقه من شيء ، أو من لا شيء»؟ فقال عليه‌السلام : «خلق الشيء لا من شيء كان قبله ؛ ولو خلق الشيء من شيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ؛ لم يزل الله إذا ومعه شيء. ولكن كان الله ولا شيء ، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ـ وهو الماء ـ» (1)
    فصل [2]
    [العرش والكرسي والحجب]
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن أبي الصلت الهروي (3) قال :
    __________________
    (1) ـ هنا في نسخة س فصلان ، ورد فيهما قسم من الخطبة الاولى من نهج البلاغة (ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ... في فلك دائر وسقف سائر ورقيم مائر) ثم ما أورده الشارح المحقق ابن ميثم البحراني شرحا للخطبة (شرح نهج البلاغة : 1 / 133 ـ 146). وحيث أن الشرح بمتناول أيدي المراجعين ، لم نر في إيراد هذه المطالب بعد إعراض المؤلف عنها فائدة ، وأعرضنا عن ذكرها صونا عن التطويل.
    (2) ـ التوحيد : باب معنى قوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ، 320 ، ح 2. عيون الأخبار : الباب 11 ما جاء عن الرضا عليه‌السلام في التوحيد ، 1 / 134 ، ح 33. ورواه الطبرسي ـ ره ـ مرفوعا (الاحتجاج : احتجاج أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام 2 / 393) وفيه فروق يسيرة.
    البحار : 3 / 317 ـ 318 ، ح 14. 10 / 342 ، ح 4. 57 / 74 ـ 75 ، ح 50.
    (3) ـ عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي من أصحاب الرضا عليه‌السلام وثّقه الخاصة والعامة ، ـ إلا الشاذ منهم ـ وصرّحوا بأنّه من الشيعة ؛ ونقل الكشي عنهم (اختيار : 615) : «نقيّ الحديث ورأيناه يسمع ، ولكن كان شديد التشيع» ، إلا أنّ الشيخ قال (رجال الشيخ : أصحاب الرضا عليه‌السلام 14 ، ص 380) : «عبد السلام بن صالح الهروي ، أبو الصلت عامي». وقال في باب الكني (رقم 5 ، ص 396) : «أبو الصلت الخراساني الهروي عامي». راجع التحقيق حول هذا الكلام في معجم الرجال : 10 / 16.

    سأل المأمون أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [11 / 7] فقال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض ، فكانت الملائكة تستدلّ بأنفسها وبالعرش والماء على الله ـ عزوجل ـ ثمّ جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة ، فيعلموا أنّه على كلّ شيء قدير ؛ ثمّ رفع العرش بقدرته ونقله ، فجعله فوق السماوات السبع ، وخلق السماوات والأرض في ستّة أيّام وهو مستول على عرشه ؛ وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين ، ولكنّه ـ عزوجل ـ خلقها في ستّة أيّام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء ، فيستدلّ بحدوث ما يحدث على الله ـ تعالى ـ ذكره ـ مرّة بعد مرّة ؛ ولم يخلق الله العرش لحاجة به إليه ، لأنّه غنيّ عن العرش ، وعن جميع ما خلق ؛ لا يوصف بالكون على العرش ، لأنّه ليس بجسم ـ تعالى الله عن صفة خلقه علوّا كبيرا ...» ـ الحديث ـ
    وبإسناده (1) عن أبي جعفر ، عن أبيه عليّ بن الحسين عليهم‌السلام قال : إنّ الله عزوجل ـ خلق العرش أرباعا ، لم يخلق قبله إلّا ثلاثة أشياء : الهواء ، والقلم ، والنور ؛ ثمّ خلقه من أنوار مختلفة (2) ، فمن ذلك النور ،
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أن العرش خلق أرباعا : 325 ، ح 1. وجاء في الاختصاص : 72 ،.
    تفسير القمي : في تفسير الآية (مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ...) : 2 / 23.
    الكشي (اختيار : عبد الله بن عباس : 54) مع إضافات في صدر الرواية وذيلها.
    البحار : 24 / 375. 58 / 24 ـ 25.
    (2) ـ الاختصاص والتفسير : ثمّ خلقه من ألوان أنوار مختلفة.
    الكشي : ثم خلقه من ألوان مختلفة.

    نور أخضر اخضرّت منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرّت منه الصفرة ، ونور أحمر احمرّت منه الحمرة ، ونور أبيض وهو نور الأنوار ومنه ضوء النهار ؛ ثمّ جعله سبعين ألف طبق ، غلظ كلّ طبق كأوّل العرش إلى أسفل السافلين ، ليس من ذلك طبق إلّا يسبّح بحمد ربّه ويقدّسه بأصوات مختلفة ، وألسنة غير مشتبهة ، ولو اذن للسان منها فاسمع شيئا ممّا تحته لهدم الجبال والمدائن والحصون ، ولخسفت البحار (1) ولأهلك ما دونه (2).
    له ثمانية أركان ، على كلّ ركن منها (3) من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلّا الله ـ عزوجل ـ يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، ولو حسّ شيء ممّا فوقه ما قام لذلك طرفة عين (4) ، بينه وبين الإحساس : الجبروت ، والكبرياء والعظمة ، والقدس ، والرحمة ، ثمّ العلم (5) ؛ وليس وراء هذا مقال (6)».
    وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (7) ـ في قول الله ـ عزوجل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [2 / 255] ـ قال : «علمه».
    __________________
    (1) ـ التفسير : وكشف البحار.
    (2) ـ التفسير والكشي : ولهلك ما دونه.
    (3) ـ الاختصاص والكشي : يحمل كل ركن منها.
    (4) ـ التفسير : ولو أحسّ حسّ شيء مما فوقه. الاختصاص : ولو أحسّ شيئا مما فوقه ما أقام لذلك طرفة عين. الكشي : ولو حسّ حسّ شيء مما فوقه ما أقام لذلك طرفة عين.
    (5) ـ على هامش النسخة : بالعين والقاف معا.
    (6) ـ «مقال» غير موجود في الكشي.
    (7) ـ التوحيد : باب معنى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ ...) : 327 ، ح 1. معاني الأخبار : باب معنى العرش والكرسى : 30 ، ح 2. البحار : 4 / 89 ، ح 27. 58 / 9 ، ح 6.

    وفي رواية اخرى ، قال (1) : «السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدّر أحد قدره».
    وفي رواية اخرى (2) : «والعرش وكلّ شيء في الكرسي».
    وعنه عليه‌السلام (3) ـ أنّه سئل عن العرش والكرسى ، ما هما؟ فقال : ـ «العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسيّ وعاؤه ، وفي وجه آخر العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه عليهم‌السلام ؛ والكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام».
    وعن مولانا سيّد العابدين عليه‌السلام (4) : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله من البرّ والبحر» ـ قال : ـ «وهذا تأويل قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [15 / 21] ـ
    وإنّ بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع (5) مسير ألف عام (6) ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من نور ، لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الصفحة السابقة ، ح 2. البحار : 4 / 89 ، ح 28. 58 / 29 ، ح 50.
    (2) ـ التوحيد : الصفحة السابقة ، ح 4.
    (3) ـ معاني الأخبار : باب معنى العرش والكرسي : 29 ، ح 1.
    عنه البحار : 58 / 28 ـ 29 ، ح 47.
    (4) ـ روضة الواعظين : المجلس الثالث : 59. البحار عنه : 58 / 34 ، 54.
    (5) ـ خفق الطائر ، خفوقا : طار.
    (6) ـ هذا المقطع من الرواية حكي في البحار (السماء والعالم : باب العرش والكرسي وحملتهما : 58 / 36 ، 61) عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفيه : «... خفقان الطير عشرة آلاف عام».

    العرش كحلقة في فلاة» (1).
    __________________
    (1) ـ كتب المؤلف هنا رواية طويلة ثم شطب عليها وتوجد في نسخة س فقط ، وهي ما يلي :
    وفي التوحيد [باب العرش وصفاته : 321 ـ 324 ، ح 1. البحار عنه : 58 / 30 ـ 31 ، ح 51] بإسناده إلى حنان بن سدير ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن العرش والكرسي؟ فقال : «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة ، له في كلّ سبب وضع في القرآن ، صفة على حدة ؛ فقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [9 / 129] يقول : الملك العظيم. وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [20 / 5] يقول : على الملك احتوى ؛ وهذا ملك الكيفوفيّة في الأشياء.
    ثمّ العرش في الوصل متفرّد من الكرسيّ ، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ؛ لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ، ومنه الأشياء كلّها ؛ والعرش هو الباب الباطن ، الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والأين ، والمشيّة ، وصفة الإرادة ، وعلم الألفاظ والحركات والترك ، وعلم العود والبدء. فهما في العلم بابان مقرونان ؛ لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسيّ وعلمه أغيب من علم الكرسيّ ؛ فمن ذلك قال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [9 / 129] أي صفته أعظم من صفة الكرسي وهما في ذلك مقرونان».
    قلت : «جعلت فداك ـ فلم صار في الفضل جار الكرسيّ»؟ قال : «إنّه صار جاره لأنّ علم الكيفوفيّة فيه ، وفيه الظاهر من أبواب البداء ، وأبنيتها ، وحدّ رتقها وفتقها ؛ فهذا جاران ، أحدهما حمل صاحبه في الظرف ، وبمثل صرف العلماء ويستدلوا على صدق دعواهما ؛ لأنّه يختصّ برحمته من يشاء ، وهو القويّ العزيز. فمن اختلاف صفات العرش أنّه قال ـ تبارك وتعالى ـ (رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [21 / 22] وهو عرش وصف الوحدانيّة لأقوام أشركوا ـ كما قلت لك ـ قال سبحانه : (رَبِّ الْعَرْشِ) ربّ الوحدانيّة (عَمَّا يَصِفُونَ). وقوم وصفوه بيدين ، فقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [5 / 64]. وقوم وصفوه بالرجلين ، فقالوا : «وضع رجله على صخرة بيت المقدّس ، فمنها ارتقى إلى السماء» ؛ ووصفوه بالأنامل فقالوا : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّي وجدت برد أنامله على قلبي». فلمثل هذه الصفات قال : (رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) يقول : ربّ المثل الأعلى عمّا به ـ

    وبإسناده (1) إلى زيد بن وهب (2) ، أنّه قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحجب؟ فقال : «أوّل (3) الحجب سبعة ، غلظ كلّ حجاب منها
    __________________
    ـ مثّلوه ، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [16 / 60] الّذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهّم ، فذلك المثل الأعلى ، ووصف الذين لم يؤتوا من الله فوائد العلم ، فوصفوا ربّهم بأدنى الأمثال وشبّهوه بالمتشابه منهم فيما جهلوا به ؛ فلذلك قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [17 / 85]. فليس له شبه ولا مثل ولا عدل ، وله (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي لا يسمّى بها غيره ، وهي التي وصفها في الكتاب فقال : (فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [7 / 180] جهلا بغير علم ؛ فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم ويكفر به ـ وهو يظنّ أنّه يحسن ـ فلذلك قال : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [12 / 106] فهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم ، فيضعونها غير مواضعها.
    ـ يا حنّان ـ إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أمر أن يتخذ أقوام أولياء ، فهم الذين أعطاهم الله الفضل ، وخصّهم بما لم يخصّ به غيرهم ، فأرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان الدليل على الله بإذن الله ـ عزوجل ـ حتّى مضى دليلا هاديا ؛ فقام من بعده وصيّه عليه‌السلام دليلا هاديا ، على ما كان هو دلّ عليه من أمر ربّه من ظاهر علمه ؛ ثمّ الأئمة الراشدون عليه‌السلام».
    (1) ـ التوحيد : باب ذكر عظمة الله جلّ جلاله : 278 ، ح 3. الخصال : باب السبعة ، ح 109 ، 2 / 401. البحار عنهما : 58 / 39 ـ 40 ، ح 1.
    (2) ـ عدّه الشيخ في رجاله (رقم 6 ، ص 42) من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلا : «زيد بن وهب الجهني ، كوفي» وقال في الفهرست (ص 148) : «زيد بن وهب ، له كتاب خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها ...». وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء : 4 / 196) : «زيد بن وهب ، الإمام الحجة ، أبو سليمان الجهني الكوفي ، مخضرم قديم ، ارتحل إلى لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبته ، فقبض صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيد في الطريق على ما بلغنا ـ ... توفي بعد وقعة الجماجم ، في حدود سنة ثلاث وثمانين». وحكى ابن الأثير (اسد الغابة (2 / 150 ، الترجمة 1879) : «... انه كان في الجيش الذين كانوا مع عليّ ، الذين ساروا إلى الخوارج ...».
    راجع أيضا معجم الرجال : 7 / 360. طبقات ابن سعد : 6 / 102. حلية الأولياء : 4 / 171 ـ 174. تذكرة الحفاظ : 1 / 62. غاية النهاية : 1 / 299.
    (3) ـ «أوّل» ساقط من الخصال.

    مسيرة خمسمائة عام ، بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام. والحجاب الثاني سبعون حجابا ، بين كلّ حجابين منها مسيرة خمسمائة عام ، وطوله خمسمائة عالم ، حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك ، قوّة كلّ ملك منها قوّة الثقلين ؛ منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ، ومنها دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ، ومنها جبل ، ومنها عجاج ، ومنها ماء ، ومنها أنهار وهي حجب مختلفة ، غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعين ألف عام.
    ثمّ سرادقات الجلال ، وهى سبعون سرادقا (1) ، في كلّ سرادق سبعون ألف ملك ، بين كلّ سرادق وسرادق مسيرة خمسمائة عام ، ثمّ سرادق العزّ ، ثمّ سرادق الكبرياء ، ثمّ سرادق العظمة ، ثمّ سرادق القدس ، ثمّ سرادق الجبروت ، ثمّ سرادق الفخر ، ثمّ سرادق النور الأبيض ، ثمّ سرادق الوحدانيّة ، وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثمّ الحجاب الأعلى».
    وانقضى كلامه عليه‌السلام وسكت. فقال له عمر : «لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن».
    قال ابن الفارسي (2) : «إنّما هذه الحجب مضروبة على العظمة العليا
    __________________
    (1) ـ الخصال : «ستون سرادقا». السرادق : الفسطاط.
    (2) ـ لم يتضح المقصود من «ابن الفارسي» والمنقول مقتبس مما قاله الصدوق ـ قدس‌سره ـ بعد نقل الرواية في الخصال (ص 401) قائلا : «قال مصنف الكتاب ـ رضي الله عنه ـ : ليست هذه الحجب مضروبة على الله عزوجل ـ تعالى الله عن ذلك ـ لأنه لا يوصف بمكان. ولكنها مضروبة على العظمة العليا من خلقه التي لا يقادر قدرها ـ

    من خلق الله التي لا يقدّر قدرها ، وليست مضروبة على الله ـ تعالى ـ لأنّه تعالى لا يوصف بمكان ، ولا أنّه مستتر بحجاب».
    فصل [3]
    اعلم أنّ صور جميع ما أوجده الله ـ سبحانه ـ من ابتداء العالم إلى آخره منتقشة في العالم العقلي ـ أي الخلق الأوّل ـ نقشا لا يشاهد بهذه العين ، بل حاصلة فيه على وجه بسيط عقلي ، مقدّس عن شائبة كثرة وتفصيل ، وهو صورة القضاء الإلهي ، وكأنّه إليه اشير بقوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [15 / 21].
    وبقول مولانا زين العابدين عليه‌السلام :
    «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله».
    وهو بهذا الاعتبار ، يسمّى ب «أمّ الكتاب» ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [43 / 4]. ومنه ينتقش في لوح
    __________________
    ـ غيره ـ تبارك وتعالى».
    والرواية غير محتاجة إلى هذا البيان ، إذ الاحتجاب لا يختصّ بالمكانيّ أو الماديّ ، بل حجاب كل موجود بحسبه ، ومن الواضح المتيقّن عند الجميع استحالة الوصول إلى كنه ذاته تعالى لخلقه ، فبينه وبين الخلق حجاب ـ أو حجب ـ لا يمكن ارتفاعه لأحد ، وإن كان هناك حجبا قد يرتفع للبعض دون آخرين فيعبر عنها ، ويقرب إليه تعالى ، كما قد يتّفق لكل من يشتغل بعبادة ناويا التقرب إليه تعالى وكما كان لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله من العبور عن الحجب الكثيرة العظيمة ليلة المعراج حتى (دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).
    راجع أيضا ما أورده المؤلف في توضيح الحجاب في الوافي : 1 / 408 ـ 409.

    النفوس الكليّة السماويّة ، كما ينتسخ بالقلم في اللوح صور معلومة مضبوطة ، منوطة بعللها وأسبابها ـ على وجه كلّيّ ـ وهي قدره تعالى ، كما قال : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [15 / 21].
    ومن هذه النفوس الكلّية ينتقش في قواها المنطبعة الخياليّة ، نقوش جزئيّة ، متشخّصة بأشكال وهيئات معيّنة ، على طبق ما يظهر في الخارج.
    وهذا العالم هو لوح القدر ، كما أنّ عالم النفوس الكليّة هو لوح القضاء ؛ وكلّ منها ـ بهذا الاعتبار «كتاب مبين» : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [6 / 59]. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [11 / 6]. (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [57 / 22]. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [13 / 38].
    إلّا أنّ الأوّل محفوظ من المحو والإثبات : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [15 / 9]. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [85 / 22]
    والثاني كتاب المحو والإثبات : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [13 / 39] ـ يعني اللوح المحفوظ.
    والثاني ـ أيضا ـ هو السماء الدنيا ، التي تنزل إليها الكائنات أوّلا من غيب الغيوب ثمّ تظهر في عالم الشهادة ؛ كما ورد في الخبر (1) وهو عالم
    __________________
    (1) ـ راجع ما مضى في الفصل السابق.

    الملكوت العمّالة بإذن الله ، المسخّرة بأمره ، المدبّرة لامور العالم بإعداد الموادّ ، وتهيئة الأسباب ، ومنه ينزل الشيء المعيّن الخارجي الضروريّ الوجود عند تحقّق وقته : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [15 / 21].
    فمنه تنزّل الشرائع والصحف والكتب على الأنبياء والرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما. ولما فيه من المحو والإثبات يصحّ البداء منه سبحانه ، والتردّد في الأمر ـ كما ورد في الأحاديث الصحيحة المستفيضة.
    [المحو والإثبات والبداء]
    فإن قلت (1) : ما السبب في المحو والإثبات؟ وما الحكمة فيهما؟ وكيف تصحّ نسبة البداء والتردّد وإجابة الدعاء ونحو ذلك إلى الله ـ سبحانه ـ مع إحاطة علمه بكلّ شيء أزلا وأبدا ـ على ما هو عليه في نفس الأمر ـ وتقدّسه عمّا يوجب التغيّر والسنوح ونحوهما؟
    فاعلم : أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الامور دفعة واحدة ـ لعدم تناهيها ـ بل إنّما تنتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ، وجملة فجملة ، مع أسبابها وعللها ، على نهج مستمرّ ، ونظام مستقرّ ؛ فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله ـ تعالى ـ ونتائج بركاتها ، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا ، كان كذا ؛ فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه ، فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربّما تأخّر بعض
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 319. الوافي : 1 / 507 ـ 510.

    الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب ـ لو لا ذلك السبب ـ ولم يحصل لها العلم بذلك السبب بعد ، لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثمّ لمّا جاء أوانه واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل ، فيمحى عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر.
    مثلا : لمّا حصل لها العلم بموت زيد ، بمرض كذا ، في ليلة كذا ، لأسباب تقتضي ذلك ؛ ولم يحصل لها العلم بتصدّقه الذي يأتي به قبيل ذلك الوقت ـ لعدم اطلاعها على أسباب التصدّق بعد ـ ثمّ علمت به ـ وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق ـ فتحكم أوّلا بالموت ، وثانيا بالبرء. وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ، ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ـ لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد ـ كان له التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، فينتقش فيها الوقوع ـ تارة ـ واللّاوقوع اخرى ؛ فهذا هو السبب في المحو والإثبات والحكمة فيهما.
    * * *
    وأمّا صحّة نسبة البداء والتردّد وأمثالهما إلى الله ـ سبحانه ـ مع إحاطة علمه ـ عزوجل ـ بالكليّات والجزئيّات جميعا ـ أزلا وأبدا ـ على ما هي عليها في الواقع ، من غير تطرّق تغيّر وسنوح في ذاته ـ عزّ وعلا ـ فالوجه فيه ما ذكره بعض المحقّقين ـ قدس‌سره ـ قال(1):
    __________________
    (1) ـ صدر المتألهين ـ كما صرح به المؤلف ـ قدس‌سره ـ في عين اليقين ـ راجع شرح الكافي لصدر المتألهين : الحديث الأول من باب البداء (ص 381) ملخصا. وأيضا : الأسفار الأربعة : 6 / 395 ـ 399.

    «لمّا كان ما يجري في العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة الله سبحانه ، بل فعلهم بعينه فعل الله تعالى ، حيث أنّهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [66 / 6] ، إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة الله ـ جلّ وعزّ ـ لاستهلاك إرادتهم في إرادته ـ تعالى ـ ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان : كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحاسّة لما همّ به وأرادته دفعة ، فكلّ كتابة تكون في هذه الألواح والصحف فهو أيضا مكتوب الله ـ عزوجل ـ بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل.
    فيصحّ أن يصف الله عزوجل نفسه بالنسخ والبداء والتردّد وإجابة الدعاء والابتلاء ونحوها بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الامور يشعر بالتغيّر والسنوح ، وهو ـ سبحانه ـ منزّه عنه ، فإنّ كلّ ما وجد أو سيوجد فهو غير خارج عن عالم ربوبيّته. كما ورد في الحديث(1) :
    «إنّ الله لا يأسف كأسفنا ، إلّا أنّه خلق أولياء لنفسه.
    يأسفون ويرضون ـ وهم مخلوقون مربوبون ـ فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه».
    ـ قال : ـ
    ولو لم يكن الأمر كذلك ـ من توسيط هذه النفوس القابلة
    __________________
    (1) ـ الكافي باب النوادر من كتاب التوحيد ، 1 / 144 ، ح 6. التوحيد : باب معنى رضاه عزوجل وسخطه : 168 ، ح 2. معاني الأخبار : نفس الباب : 19 ، ح 2.
    البحار : 4 / 65 ، ح 6.

    لتعاقب الصور الإراديّة منها ، على حسب توارد الأرقام القلميّة عليها ـ لكانت الامور كلّها حتما مقضيّا ، وكان الفيض الإلهي مقصورا على عدد معيّن غير متجاوز عن حدود الإبداع ، وكان قد انسدّ طرق الاهتداء للسالكين ، وإجابة الدعاء للداعين.
    أقول : ليس حكم النسخ حكم البداء ، إلّا إذا كان عبارة عن رفع الحكم السابق ، وأمّا إذا كان عبارة عن انتهاء مدّة الحكم ـ كما هو التحقيق ـ فلا مدخل للمحو والإثبات فيه أصلا.
    والدعاء ـ أيضا ـ يجرى فيه نظير الأمرين ، فليتدبّر.
    * * *
    وأمّا سبب الاطلاع على البداء ونحوه : فهو اتّصال نفس النبيّ أو الوليّ بالملائكة العمّالة ـ بإذن الله ـ وقراءتهم ما كتب في قلوبهم ؛ مما أوحى الله إليهم فيخبرون بما رأوه بأعين قلوبهم ، أو شاهدوه بأنوار بصائرهم أو سمعوه بآذان قلوبهم من صرير أقلام اولئك الكرام ، ثمّ إذ اتّصلت أنفسهم بها تارة اخرى. ورأوا في تلك الألواح غير ما رأوه أوّلا ، وغير ما ناسبته الصور السابقة ، فيقال لمثل هذا الأمر : «البداء» وما أشبهها.

    فصل [4]
    [البداء في الروايات]
    اعلم أنّ القول بجواز البداء على الله ـ عزوجل ـ من خواصّ أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وشيعتهم ـ رضي الله عنهم ـ :
    روي في كتابي الكافي والتوحيد (1) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما عبد الله بشيء مثل البداء».
    وفي رواية صحيحة عنه عليه‌السلام (2) : «ما عظّم الله بمثل البداء».
    وفي اخرى صحيحة (3) ـ في هذه الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب البداء ، 1 / 146 ، ح 1 ، عن أحدهما عليهما‌السلام.
    التوحيد : باب البداء : 332 ، ح 1. عنه البحار : 4 / 107 ، ح 19.
    (2) ـ الكافي : الصفحة السابقة (ح 1).
    التوحيد : باب البداء : 333 ، ح 2. عنه البحار : 4 / 107 ، ح 20.
    (3) ـ الكافي : 1 / 147 ، ح 2. التوحيد : الصفحة السابقة ، ح 4. عنه البحار : 4 / 108 ، ح 22. العياشي : سورة الرعد ، الآية 39 ، 2 / 215 ، ح 60 ، بتقديم وتأخير في اللفظ. عنه البحار 4 / 118 ، ح 53.
    والرواية صحيحة على اصطلاح المؤلف ـ راجع الاصول الأصيلة : 58 ـ وإلا فقد نصّ المجلسي (مرآة العقول : 2 / 137) في هذه وتاليتها على أنهما حسنتان.
    ثم إنه ورد الرواية ـ بلفظها مع إضافات ـ عن الإمام العسكري عليه‌السلام أيضا ، رواها الراوندي في الخرائج (أعلام الإمام العسكري عليه‌السلام : 2 / 687 ، ح 10) عنه البحار : 4 / 90 ، ح 33 ، و 50 / 257 ، ح 14 : «ومنها ما قال أبو هاشم : سأله محمّد بن صالح الأرمني عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ...) فقال : هل يمحو إلا ما كان؟ وهل يثبت إلا ما لم يكن؟ فقلت في نفسي : «هذا خلاف قول هشام بن الحكم : إنه لا يعلم بالشيء حتّى يكون». فنظر إليّ ، فقال : «تعالى الجبّار العالم بالأشياء قبل كونها». ـ

    وَيُثْبِتُ) [13 / 39] قال ـ : «وهل يمحي إلّا ما كان (1) ، وهل يثبت إلّا ما لم يكن»؟.
    وفي اخرى صحيحة (2) قال : «ما بعث الله ـ عزوجل ـ نبيّا حتّى أخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء».
    وقال (3) : «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ، ما فتروا عن الكلام فيه».
    وقال (4) : «إنّ الله لم يبد له من جهل».
    وفي رواية صحيحة (5) : «ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له».
    __________________
    ـ قلت : أشهد أنّك حجّة الله». رواه أيضا الطوسي في الغيبة : 430 ، ح 421.
    الإربلي (كشف الغمة : ذكر الإمام الحادي عشر : 3 / 209) واضيف فيه : «الخالق إذ لا مخلوق. والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه». الثاقب في المناقب :
    الفصل الثاني من الباب الرابع عشر : 566.
    (1) ـ الكافي : وهل يمحي إلا ما كان ثابتا ... التوحيد : وهل يمحو الله إلا ما كان ...
    (2) ـ الكافي والتوحيد : الصفحتان السابقتان. المحاسن : باب ما لا يسع الناس جهله : 1 / 233 ـ 234 ح 189. وفيه : «... وأن الله يمحو ما يشاء ويثبت». العياشي : 2 / 215 ، ح 57 ، وفيه : «ثلاث خلال» بدل «ثلاث خصال». البحار عن التوحيد والمحاسن والعياشي : 4 / 108 ، ح 21. وروى العياشي أيضا (نفس الصفحة) ما في معناه عن العسكري عليه‌السلام. وعنه البحار : 4 / 108 ، ح 21.
    (3) ـ الكافي : باب البداء : 1 / 148 ، ح 12. التوحيد : 334 ، ح 7.
    البحار عنه : 4 / 108 ، ح 26.
    (4) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 10.
    (5) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 9.

    وفي الصحيح عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال (1) : «العلم علمان : فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله ؛ فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ؛ وعلم عنده مخزون ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء».
    ومثله عن مولانا الصادق (2) وجدّهما.
    وعن مولانا الرضا عليه‌السلام (3) في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [51 / 54] ـ قال : ـ «أراد إهلاكهم ، ثمّ بدا لله ، فقال : (وَ
    __________________
    (1) ـ الكافي : باب البداء : 1 / 147 ، ح 6. المحاسن : باب العلم : 1 / 243 ، ح 231 ، مع فرق يسير. العياشي : سورة الرعد ، الآية 39 ، 2 / 217 ، ح 67. البحار عن المحاسن والعياشي : 4 / 113 ، ح 36.
    ورواه العياشي بلفظ آخر أيضا : 2 / 216 ، ح 63. عنه البحار : 4 / 119 ، ح 56.
    (2) ـ حكى الرضا عن جده الصادق عليهما‌السلام أنّه قال : «إنّ لله عزوجل علمين : علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو ـ ومن ذلك يكون البداء ـ وعلما علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبوّته يعلمونه» ؛ رواه الصدوق ـ قدس‌سره ـ في التوحيد : باب مجلس الرضا عليه‌السلام مع المروزي : 443. والعيون : 1 / 181 ، ح 1. البحار عن الكتابين : 10 / 331. وفي بصائر الدرجات (باب في الأئمّة عليهم‌السلام أنه صار إليهم جميع العلوم ... : 109 ، ح 2) عن الصادق : «إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون ، لا يعلمه إلّا هو ، من ذلك يكون البداء ؛ وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبيائه ، ونحن نعلمه».
    (3) ـ التوحيد : باب ذكر مجلس الرضا عليه‌السلام مع سليمان المروزي : 443.
    العيون : 1 / 181. البحار عن الكتابين : 10 / 330.
    وأورد الراوندي ما يقرب من القصة في قصص الأنبياء (الباب السادس عشر ، فصل 2 ، 241) وفيه أنّ النبي حزقيل. والبحار عنه : 13 / 382 ، ح 3. و 4 / 112 ، ح 33. ونقل الراوندي ما يقرب منه (الباب السابع عشر ، 241) في ذكر شعيا النبي ، البحار عنه : 14 / 161 ، ح 2.

    ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [51 / 55]».
    ثمّ قال عليه‌السلام : «لقد أخبرني أبي عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليهم ـ قال ـ : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا ؛ فأتاه ذلك النبيّ فأخبره ؛ فدعا الله الملك ـ وهو على سريره ـ حتّى سقط من السرير ، فقال : يا ربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي وأقضي أمري ؛ فأوحى الله إلى ذلك النبيّ أن ائت الملك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله ، وزدت في عمره خمس عشرة سنة. فقال ذلك النبيّ : «يا ربّ إنّك لتعلم أنّي لم اكذب قطّ». فأوحى الله ـ عزوجل ـ : إنّما أنت عبد مأمور ، فأبلغه ذلك ، والله لا يسأل عمّا يفعل».
    أقول : هذا الخبر لا ينافي قول الباقر عليه‌السلام ـ في الحديث السابق : ـ «فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه سيكون ، لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله» ؛ لأنّ مثل ذلك ليس فيه تكذيب في الحقيقة ، فإنّ إخبارهم بالشيء قد يكون من اللوح المحفوظ ، فيكون حتما ، وقد يكون من لوح المحو والإثبات ، فيكون موقوفا ، ولا يحكمون في الثاني على القطع ، إلّا نادرا ؛ يدلّ على ذلك حديث أشراط الساعة ـ كما يأتي ذكره في بابه ـ إن شاء الله ـ.
    والأخبار في البداء عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كثيرة.
    وأمّا نسبة التردّد إلى الله ـ سبحانه ـ فمتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة.

    وقد ورد في الحديث القدسيّ (1) :
    «ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مسائة له ، ولا بدّ له منه».
    مع أنّه قد قضي عليه الموت قضي عليه الموت قضاء حتما ، قال تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [6 / 2] ـ وقال : ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [7 / 34].
    * * *
    __________________
    (1) ـ الحديث متّفق عليه ، رواه العامّة والخاصّة مع اختلافات يسيرة لفظية ؛ راجع : الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم : 2 / 352 ح 7 و 8. و 2 / 354 ، ح 11. التوحيد : باب أن الله لا يفعل بعباده الا الأصلح لهم : 399 ، ح 1. علل الشرائع : الباب 9 ، علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم : 1 / 12 ، ح 7. المحاسن : كتاب الصفوة والنور ، باب الانفراد : 1 / 159 ـ 160 ، ح 99. وكتاب مصابيح الظلم ، باب المحبوبات : 2 / 291 ، ح 443. المؤمن : باب ما خصّ الله به المؤمنين من الكرامات : 32 ـ 33 ، ح 61 ـ 63. البحار : 5 / 283 ، ح 3. 6 / 160 ، ح 24. 67 / 65 ـ 66 ، ح 14 و 23. 67 / 148 ، ح 5 ـ 6. 67 / 154 ، ح 15. 70 / 22 ، ح 21. 75 / 155 ،. و 159. 86 / 7 ، ح 7. البخاري : الرّقاق ، باب التواضع : 8 / 131. المسند : 6 / 256. حلية الأولياء : 1 / 5. المعجم الكبير (ما ترددت عن شيء ...) : 12 / 113 ، ح 12719. الأسماء والصفات : باب ما جاء في التردد : 2 / 251.

    فصل [5]
    قال بعض العارفين (1) :
    «ومن هذه الحقيقة الإلهيّة التي كنّى عنها بالتردّد انبعث التردّدات الكونيّة ، والتحيّر في النفوس ، وذلك أنّا قد نتردّد في أمرنا ـ هل نفعله أم لا؟ ـ وما زلنا نتردّد حتّى يكون أحد الامور المتردّد فيها. فذلك الأمر الواقع هو الثابت في اللوح من تلك الامور ؛ وذلك أنّ القلم الكاتب في اللوح القدريّ ، يكتب أمرا ما ، وزمان الخاطر ، ثمّ يمحوه ، فيزول ذلك الخاطر ؛ لأنّ من هذا اللوح إلى النفوس رقائق ممتدّة إليها ، تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع بمحوها ، فإذا صار الأمر ممحوّا كتب غيره ، فتمتدّ منه رقيقة إلى نفس هذا الشخص ـ الذي كتب هذا من أجله ـ فيخطر له خاطر نقيض الخاطر الاوّل ؛ وهكذا إلى أن أراد الحقّ إثباته ، فلم يمحه ؛ فيفعله الشخص أو يتركه ـ حسب ما ثبت في اللوح (2).
    والموكّل بالمحو ملك كريم ، والإملاء عليه من الصفة الإلهيّة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الامور كلّها حتما مقضيّا ـ وهذا شأن الأقلام القدريّة ـ.
    __________________
    (1) ـ ملخص مما جاء في الفتوحات المكيّة : الباب السادس عشر وثلاثمائة : 3 / 61.
    (2) ـ كتب فى النسخة ما يلي ثم شطب عليه : «فإذا فعله وتركه وانقضى محاه الحقّ من كونه محكوما بفعله ، وأثبت صورة عمل ، قبيح أو حسن ، على قدر ما يكون ؛ ثمّ إنّ القلم يكتب أمرا آخرا ـ وهكذا إلى غير النهاية».

    وأمّا القلم الأعلى فأثبت في اللوح المحفوظ صورة كلّ شيء يجري من هذه الأقلام ـ من محو وإثبات ـ ففيه إثبات المحو ، وإثبات الإثبات ، ومحو المحو ، ومحو الإثبات على وجه أرفع ؛ فصورته مقدّسة عن المحو والتغيّر ، لأنّ نسبة القلم الأعلى إلى هذه الأقلام كنسبة قوّتنا العقليّة ، إلى مشاعرنا الخياليّة والحسيّة ، ونسبة اللوح المحفوظ إلى هذه الألواح كنسبة الإرادة الكليّة لمطلوب نوعيّ ، إلى إرادات جزئيّة وقعت في طريق تحصيله في ضمن واحد منه.
    فصل [6]
    [الحكم ، التدبير ، القضاء ، القدر]
    قد ظهر ممّا ذكرنا معنى حكم الله ـ عزوجل ـ وقضائه وقدره :
    فإنّ تدبيره أصل وضع الأسباب وترتيبها ليتوجّه إلى المسبّبات حكمه ـ تعالى ـ.
    ونصبه الأسباب الكليّة الأصلية الثابتة المستقرّة ، التي لا تزول ولا تحول ـ كالأرض ، والسماوات السبع والكواكب والأفلاك وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغيّر ولا تنعدم ـ إلى أن يبلغ الكتاب أجله :
    قضاؤه ـ عزوجل ـ كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [41 / 12].
    وتوجيه هذه الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدّرة المحسوبة إلى المسبّبات الحادثة منها ـ لحظة بعد لحظة ـ قدره.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:35 pm

    فالحكم هو التدبير الأوّل الكلّي والأمر الاوّليّ الذي هو (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [54 / 50].
    والقضاء هو الوضع الكلّي للأسباب الكلّية الدائمة.
    والقدر هو توجيه الأسباب الكلّية بحركاتها المقدّرة المحسوبة ، إلى مسبّباتها المعدودة المحدودة بقدر معلوم ، لا يزيد ولا ينقص ، ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره.
    والكلّ إنّما يوجد بأمر (كُنْ) ؛ فإنّ الله ـ عزوجل ـ (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) بلا حرف ولا صوت ، بل بالمعنى الذي يليق بجلاله (فَيَكُونُ) [2 / 117] كما أراد.
    فصل [7]
    قال بعض الحكماء ما محصّله (1) :
    «إنّ وجود العالم عن الباري ـ جلّ شأنه ـ ليس كوجود الدار عن البنّاء ، ولا كوجود الكتابة عن الكاتب ـ الثابتة العين ، المستقلّة بذاتها ، المستغنية عن الكاتب بعد فراغه ـ ولكن كوجود الكلام عن المتكلّم ، إن سكت بطل الكلام ؛ بل كوجود ضوء الشمس في الجوّ المظلم الذات ما دامت الشمس طالعة ، فإن غابت الشمس بطل الضوء من الجوّ ، لكنّ شمس الوجود يمتنع عليه العدم لذاته.
    __________________
    (1) ـ الأسفار الأربعة : الفصل الخامس عشر من المرحلة الخامسة : 2 / 216 و 215.
    راجع أيضا عين اليقين : 320.

    وكما أنّ الكلام ليس جزء المتكلّم ـ بل فعله وعمله ، أظهره بعد ما لم يكن ـ وكذا النور الذي يرى في الجوّ ، ليس بجزء الشمس ، بل هو انبجاس وفيض منها. فهكذا الحكم في وجود العالم عن الباري ـ جلّ ثناؤه ـ ليس بجزء من ذاته ، بل فضل وفيض يتفضّل به ويفيض.
    إلّا أنّ الشمس لم تقدر أن تمنع نورها وفيضها ، لأنّها مطبوعة على ذلك ؛ بخلافه ـ عزوجل ـ فإنّه مختار في أفعاله بنحو من الاختيار أجلّ وأرفع ممّا يتصوّره الجهّال ، وأشدّ وأقوى من اختيار مثل المتكلّم القادر على الكلام ـ إن شاء تكلّم وإن شاء سكت ـ فهو عزوجل إن شاء أفاض جوده وفضله وأظهر حكمته ، وإن شاء أمسك ؛ ولو أمسك طرفة عين عن الإفاضة والتوجّه ، لتهافتت السماوات ، وبادت الأفلاك ، وتساقطت الكواكب ، وعدمت الأركان ، وهلكت الخلائق ، ودثر العالم دفعة واحدة ، بلا زمان ؛ كما قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [35 / 41].

    فصل (1) [8]
    [المأثور في القدر وأعمال العباد]
    روي في كتاب التوحيد (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ في قول الله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [5 / 64] ـ : «لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر ، فلا يزيد ولا ينقص ؛ فقال الله ـ جلّ جلاله ـ تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [5 / 64] ؛ ألم تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [13 / 39]».
    وبإسناده (3) عن مولانا الرضا عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ عليه‌السلام ـ قال : ـ «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله ـ عزوجل ـ قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام» ـ».
    وفي رواية اخرى (4) : «قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 319 ـ 320.
    (2) ـ التوحيد : باب معنى قوله تعالى (قالَتِ الْيَهُودُ ...) : 167 ، ح 1. معاني الأخبار : باب معاني ألفاظ وردت ... : 18 ، ح 15. البحار عنهما : 4 / 104 ، ح 17.
    (3) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر : 376 ، ح 22. العيون : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد : 1 / 140 ، ح 140. البحار : 5 / 93.
    (4) ـ التوحيد : الباب السابق : 368 ، ح 7. عنه البحار : 5 / 114 ، ح 43. رواه أيضا الترمذي : كتاب القدر ، الباب 18 : 4 / 458 ، ح 2156. المسند : 2 / 169.
    وفي مسلم (كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى ، 4 / 2044 ، ح 16) : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين سنة».

    وبإسناده (1) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال ـ : «لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر ، خيره وشرّه ، وحلوه ومرّه».
    وبإسناده (2) عن العالم عليه‌السلام قال (3) : «علم ، وشاء ، وأراد ، وقدّر ، وقضى ، وأبدا (4) ؛ فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ؛ فبعلمه كانت المشيّة ، وبمشيّته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء.
    فالعلم متقدّم المشيّة (5) ، والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء. فلله ـ تبارك وتعالى ـ البداء فيما علم متى
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 380 ، ح 27. وفي الخصال (باب الأربعة ، 1 / 198 ، ح Cool عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يؤمن عبد حتّى يؤمن بأربعة : حتّى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّي رسول الله بعثني بالحقّ ، وحتّى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتّى يؤمن بالقدر». ورواه الترمذي (كتاب القدر : باب ما جاء في الإيمان بالقدر : 4 / 451 ، ح 2144) أيضا عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه : «لا يؤمن عبد حتى ...».
    وفي مسلم (كتاب الإيمان ، الباب الأول : 1 / 37 ، ح 1) والترمذي (كتاب الإيمان ، باب ما جاء في وصف جبرئيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإيمان والإسلام : 5 / 7 ، ح 2610) وابن ماجة (المقدمة ، باب في الإيمان : 1 / 24 ، ح 63) : «[الإيمان] أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّ».
    وجاء ما يقرب منه في ابن ماجة : المقدمة ، باب في القدر : 1 / 32 ، ح 81.
    (2) ـ التوحيد : باب البداء : 334 ، ح 9. عنه البحار : 5 / 102 ، ح 27.
    الكافي : باب البداء : 1 / 148 ، ح 16.
    (3) ـ المصدر : لما سئل : «كيف علم الله»؟ قال : ...
    (4) ـ الكافي : وأمضى. ولعله الصحيح ، بقرينة قوله : «فأمضى ما قضى ...» و «بقضائه كان الإمضاء ...».
    (5) ـ الكافي : متقدم على المشيّة. الوافي (1 / 517) : والعلم يتقدم المشية ...

    شاء ، وفيما أراد لتقدير الأشياء ؛ فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
    فالعلم بالمعلوم قبل كونه ، والمشيّة في المشاء (1) قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها ـ عيانا وقياما (2) ـ والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواسّ ، من ذي لون وريح ، ووزن وكيل ، وما دبّ ودرج ـ من إنس وجنّ وطير وسباع ـ وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ ؛ فلله ـ تبارك وتعالى ـ فيه البداء ، ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء ؛ والله يفعل ما يشاء.
    وبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيّة عرف صفاتها وحدودها ، وأنشأها قبل إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها (3) ، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ، ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [6 / 96]».
    * * *
    __________________
    (1) ـ التوحيد : المنشأ.
    (2) ـ الكافي : ووقتا.
    (3) ـ التوحيد : + وحدودها.

    فصل [9]
    اعلم أنّ القدر في الأفعال وخلق الأعمال من الأسرار والغوامض التي تحيّرت فيها الأفهام ، واضطربت فيها آراء الأنام ، ولم يرخّص في إفشائه بالكلام ؛ فلا يدوّن إلّا مرموزا ، ولا يعلم إلّا مكنونا ، لما في إظهاره من إفساد العامّة وهلاكهم.
    فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «القدر سرّ الله ، فلا تظهروا سرّ الله».
    وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) : «إذا ذكر القدر فامسكوا».
    وسئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ، فقال : «إنّه طريق وعر ، فلا تسلكه» ـ
    ثمّ قال : ـ «إنّه صعود عسر ، فلا تتكلّفه».
    __________________
    (1) ـ الجامع الصغير (باب القاف : 2 / 88) : «القدر سرّ الله ، فلا تفشوا سرّ الله».
    وفي الكامل لابن عدي (الهيثم بن جماز ، 7 / 102) : «لا تكلموا في القدر فإنه سر لله فلا تفشوا سره». وفيه (يحيى بن أبي انيسة ، 7 / 191) : «القدر سر الله ، من تكلم به يسأله عنه يوم القيامة ، ومن لم يتكلم به لم يسأله عنه». كنز العمال (1 / 107 ، ح 485) : «القدر سر الله ، من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا بريء منه».
    (2) ـ أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عمر : 6 / 162 وابن مسعود : 7 / 25.
    المعجم الكبير : 2 / 96 ، ح 1427. و 10 / 198 ، ح 10448. الجامع الصغير (باب الألف : 1 / 26).
    وقال الزبيدى (اتحاف السادة : 1 / 222) : «رواه الخطيب في كتاب القول في علم النجوم ... ورواه أبو الشيخ في كتاب الطبقات ... وقال ابن رجب : روي من وجوه في إسنادها كلها مقال».

    وفي رواية اخرى رواها في التوحيد (1) بإسناده عن عبد الملك بن عنترة الشيباني (2) عن أبيه ، عن جدّه ، قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : «يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر»؟
    قال : «بحر عميق ، فلا تلجه».
    قال : «يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر»؟
    فقال : «طريق مظلم ، فلا تسلكه».
    قال : «يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر»؟
    قال : «سرّ الله ، فلا تكلّفه».
    قال : «يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر»؟
    فقال : له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أمّا إذا أبيت ، فإنّي سائلك : أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد؟ أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله»؟
    ـ قال : ـ فقال له الرجل : «بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد».
    فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «قوموا فسلّموا على أخيكم ، فقد أسلم ، وقد كان كافرا».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر : 35 ، ح 3. عنه البحار : 5 / 110 ، ح 35. وأوردها في 5 / 57 ، ح 103 ، عن مطالب السئول مع فروق وإضافات. وأورد الرضي ـ قدس‌سره ـ صدر الكلام مع فروق يسيرة في نهج البلاغة : الحكمة 287.
    (2) ـ قال المامقاني (تنقيح المقال : 2 / 231 ، رقم 7511) أنه عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني ، الذي قال فيه النجاشي (الترجمة : 637 ، ص 240) : «كوفيّ ، ثقة ، عين ، روى عن أصحابنا ورووا عنه ، ولم يكن متحقّقا بأمرنا».
    راجع أيضا قاموس الرجال : 7 / 22 و 26 ، رقم 4643 و 4647.

    قال : فانطلق الرجل غير بعيد ، ثمّ انصرف إليه فقال له : «يا أمير المؤمنين ـ أبالمشيّة الاولى نقوم ونقعد ، ونقبض ونبسط»؟
    فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وإنّك لبعد في المشيّة ؛ أمّا إنّي سائلك عن ثلاث ـ لا يجعل الله لك في شيء منها مخرجا ـ : أخبرني أخلق الله العباد كما شاء ، أو كما شاءوا»؟
    فقال : «كما شاء».
    قال : «فخلق الله العباد لما شاء ، أو لما شاءوا»؟
    فقال : «لما شاء».
    قال : «يأتونه يوم القيامة كما شاء ، أو كما شاءوا»؟
    قال : «يأتونه كما شاء».
    قال : «قم ؛ فليس إليك من المشيّة شيء».
    وبإسناده (1) عن الأصبغ بن نباتة (2) ، قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام فى القدر :
    «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ الله ، وستر من ستر الله ، وحرز من حرز الله ؛ مرفوع في حجاب الله ، مطويّ عن خلق الله ، مختوم بخاتم الله ، سابق في علم الله ؛ وضع الله العباد عن علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم ، لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربانيّة ، ولا بقدرة الصمدانيّة ، ولا بعظمة النورانيّة ، ولا بعزّة الوحدانيّة ، لأنّه بحر زاخر خالص لله
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر : 383 ، ح 32.
    (2) ـ أصبغ بن نباتة المجاشعي معروف ، قال النجاشي (8 ، الترجمة 5) : «كان من خاصّة أمير المؤمنين وعمّر بعده ، روى عنه عهد الأشتر ووصيّته إلى محمّد ابنه ...».

    تعالى ؛ عمقه ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس ، كثير الحيّات والحيتان ؛ تعلو مرّة وتسفل اخرى ، في قعرها شمس تضيء.
    لا ينبغي أن يطّلع عليها إلّا الله الواحد الفرد ؛ فمن اطّلع عليها فقد ضادّ الله عزوجل في حكمه ، ونازعه في سلطانه ، وكشف عن ستره وسرّه ، وباء بغضب من الله ، ومأواه جهنّم وبئس المصير».
    وبإسناده (1) عن الزهري (2) ـ قال : ـ قال رجل لعلي بن الحسين عليهما‌السلام :
    «جعلني الله فداك ـ أبقدر يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل»؟
    فقال عليه‌السلام : «إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد ، فالروح بغير جسد لا تحسّ ، والجسد بغير روح صورة لا حراك لها ؛ فإذا اجتمعا قويا وصلحا ؛ كذلك العمل والقدر ، فلو لم يكن القدر واقعا على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق ، وكان القدر شيئا لا يحسّ ؛ ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتمّ ؛ ولكنّهما باجتماعهما قويا ، ولله فيه العون لعباده الصالحين».
    ثمّ قال عليه‌السلام : «ألا ، [إنّ] (3) من أجور الناس من رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا ؛ ألا ـ إنّ للعبد أربعة أعين : عينان يبصر بهما أمر
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر : 366 ، ح 4. عنه البحار : 5 / 112 ، ح 39.
    (2) ـ محمد بن شهاب الزهري ، عاميّ من أصحاب السجاد عليه‌السلام.
    راجع معجم الرجال : 16 / 181. تنقيح المقال : 3 / 186 ، الترجمة : 11372.
    (3) ـ إضافة من المصدر.

    دنياه ، وعينان يبصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله ـ عزوجل ـ بعبد خيرا ، فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما الغيب ؛ وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه».
    ثمّ التفت إلى السائل عن القدر ، فقال : «هذا منه ، هذا منه».
    وبإسناده (1) عن مهزم (2) ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت له : «أجبر الله العباد على المعاصي»؟
    قال : «الله أقهر لهم من ذلك».
    ـ قال : ـ قلت : «ففوّض إليهم»؟ قال : «الله أقدر عليهم من ذلك»
    ـ قال : ـ قلت : «فأيّ شيء هذا ـ أصلحك الله ـ»؟
    ـ قال : ـ «فقلّب يده ـ مرّتين أو ثلاثا ـ ثمّ قال : لو أجبتك فيه لكفرت».
    وبإسناده (3) عن معاذ بن جبل (4) ـ قال : ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب نفي الجبر والتفويض ، 363 ، ح 11. البحار عنه : 5 / 53 ، ح 89.
    وفي الكافي (باب الجبر والقدر ، 159 ، ح 11) : «... عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ـ قال: ـ قلت : أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : لا. قلت : ففوّض إليهم؟ قال : لا. قلت : فما ذا؟ قال: لطف من ربّك بين ذلك».
    (2) ـ مهزم الأسدي ، عده الشيخ من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهما‌السلام ، راجع رجال الشيخ : 137 و 323 و 360 ، رقم 46 و 695 و 24. معجم الرجال : 19 / 88.
    (3) ـ التوحيد : باب المشيّة والإرادة ، 343 ، ح 13.
    (4) ـ معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس ، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري. من مشاهير الصحابة ؛ توفى سنة سبع أو ثمان عشرة.
    راجع ابن سعد : 2 / 347. سير أعلام النبلاء : 1 / 443. المعارف : 254. حلية الأولياء : 1 / 228. اسد الغابة : 4 / 418 ، رقم 4953.

    «سبق العلم وجفّ القلم ، ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل ، وبالسعادة من الله ـ عزوجل ـ لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبولاية الله المؤمنين وببراءته من المشركين».
    ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عن الله أروي حديثي ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول : يا ابن آدم ، بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعوني وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي ، فأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، فالخير منّى إليك بما أوليت بداء ، والشرّ منّي إليك بما جنيت جزاء ؛ وبإحساني إليك قويت على طاعتي ، وبسوء ظنّك بي قطنت من رحمتي ؛ فلي الحمد والحجّة عليك بالبيان ، ولي السبيل عليك بالعصيان ، ولك جزاء الخير عندي بالإحسان ، لم أدع تحذيرك ، ولم آخذك عند عزمك ، ولم اكلّفك فوق طاقتك ، ولم احمّلك من الأمانة إلّا بما قدّرت به على نفسك ، رضيت لنفسي منك ما رضيت لنفسك منّي».
    وبإسناده عن ابن عمر (1) ما يقرب منه ، وعن أهل البيت عليهم‌السلام ما يقرب منهما(2).
    وفي الكافي (3) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر ؛ أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ،
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب المشيّة والإرادة : 340 ، ح 10.
    (2) ـ التوحيد : باب المشيّة والإرادة : 338 ، ح 6.
    (3) ـ الكافي : باب المشيّة والإرادة : 1 / 151 ، ح 3.

    ولو شاء لسجد ؛ ونهى آدم عن أكل الشجرة ، وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل».
    وبإسناده (1) عن أبي الحسن عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ لله إرادتين ومشيّتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهي وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ؛ أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة ، وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيّتهما مشيّة الله» (2).
    وبإسناده (3) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «شاء وأراد ، ولم يحبّ ولم يرض ؛ شاء أن لا يكون شيء إلّا بعلمه ، وأراد مثل ذلك ؛ ولم يحبّ أن يقال : ثالث ثلاثة ، ولم يرض لعباده الكفر».
    وبإسناده (4) عن أبي بصير ، عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «قلت له : شاء وأراد وقدّر وقضى»؟ قال : «نعم».
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب المشية والإرادة : 1 / 151 ، ح 4.
    (2) ـ وتمام الخبر فيه : «وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ، ولم يشأ أن يذبحه ؛ ولو شاء لما غلبت مشيئة ابراهيم مشيئة الله تعالى».
    والرواية شطر من رواية طويلة رواها الصدوق في التوحيد (باب التوحيد ونفي التشبيه : 60 ـ 66 ، ح 18) عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن الرضا عليه‌السلام.
    وحكاها عنه المجلسي في البحار : 4 / 293 ،.
    (3) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 5. وورد مثله في معاني الأخبار : 170. عنه البحار : 5 / 90 ، ح 10. والتوحيد : باب المشيّة والإرادة ، 343 ، ح 12. عنه البحار : 5 / 51 ، ح 81. 5 / 106 ، ح 34.
    (4) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب المشيّة والإرادة ، 1 / 150 ، ح 1. ورواه البرقي في المحاسن بلفظ آخر : كتاب مصابيح الظلم ، باب الإرادة والمشيّة ، 1 / 245 ، ح 139. وعنه البحار : 5 / 121 ، ح 66.

    قلت : «وأحبّ»؟ قال : «لا».
    قلت : «وكيف شاء وأراد وقدّر وقضى ، ولم يحبّ»؟!
    قال : «هكذا خرج إلينا».
    وبإسناده (1) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ» لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه الخصال السبع : بمشيّة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ؛ فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة ، فقد كفر».
    وفي لفظ آخر (2) : «فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله ، أو ردّ على الله [عزوجل]».
    وبإسناده (3) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «ما من قبض ولا بسط ، إلّا ولله فيه مشيّة وقضاء وابتلاء».
    وروي في الكافي بإسناده (4) مرفوعا إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلا بسبعة ، 1 / 149 ، ح 1. وروى مثله البرقي في المحاسن (كتاب مصابيح الظلم ، باب الإرادة والمشيّة ، 1 / 244 ، ح 236) عن الباقر عليه‌السلام.
    (2) ـ الكافي : الصفحة السابقة ، ح 2. الخصال : باب السبعة ، 359 ، ح 46. وهذه الرواية عن الكاظم عليه‌السلام.
    (3) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الابتلاء والاختبار ، 1 / 152 ، ح 1. التوحيد : باب الابتلاء والاختبار ، 354 ، ح 2. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب الابتلاء والاختبار ، 279 ، ح 403. واللفظ فيه : «... مشية وفضل وابتلاء ...».
    ولعله غلط الطبع إذ حكاه المجلسي ـ قدس‌سره ـ عن الكتابين (البحار : 5 / 216 ، ح 5) ولم يشر إلى الاختلاف.
    (4) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر ، 1 / 155 ، ح 1.

    كان جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفّين ، إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (1) ، ثمّ قال : «يا أمير المؤمنين ـ أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء من الله وقدر»؟
    فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أجل ـ يا شيخ ـ ما علوتم تلعة (2) ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر».
    فقال له الشيخ : «عند الله أحتسب عنائي ـ يا أمير المؤمنين».
    فقال له : «مه ـ يا شيخ ـ فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرّين».
    فقال له الشيخ : «وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا»؟
    فقال له : «وتظنّ أنّه كان قضاء حتما ، وقدرا لازما؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ؛ ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، وكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ؛ تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الامّة ومجوسها ؛ إنّ الله ـ تعالى ـ كلّف تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع
    __________________
    (1) ـ جثا يجثو : جلس على ركبتيه وأقام على أطراف أصابعه.
    (2) ـ التلعة : ما ارتفع من الأرض.

    مكرها ، ولم يملّك مفوّضا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين ـ مبشّرين ومنذرين ـ عبثا ، (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [38 / 27]».
    فأنشأ الشيخ يقول :
    أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته
    يوم النجاة من الرحمن غفرانا

    أو ضحت من أمرنا ما كان ملتبسا
    جزاك ربّك بالإحسان إحسانا (1)

    وفي رواية اخرى رواها الصدوق في التوحيد (2) مسندا ما يقرب منه ، وزاد :
    فليس معذرة في كلّ فاحشة
    قد كنت راكبها فسقا وعصيانا

    لا ، لا ؛ ولا قائلا : ناهيه أوقعه
    فيها ؛ عبدت إذا يا قوم شيطانا

    ولا أحبّ ولا شاء الفسوق ولا
    قتل الوليّ له ظلما وعدوانا

    أنّى يحبّ وقد صحّت عزيمته
    ذو العرش أعلن ذاك الله إعلانا

    وفي رواية اخرى فيه (3) مسندا عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : فقال الشيخ : «يا أمير المؤمنين ـ فما القضاء والقدر الذان ساقانا ، وما هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلّا بهما»؟
    __________________
    (1) ـ في التوحيد :
    أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا
    جزاك ربّك عنّا فيه إحسانا

    (2) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر ، 380 ، ح 28. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 139 ، ح 38. الاحتجاج : احتجاجه عليه‌السلام فيما يتعلق بتوحيد الله ... : 1 / 491 ، مع فروق. البحار : 5 / 95 ، ح 19.
    (3) ـ التوحيد : الباب السابق ، 382 ، ح 28.

    فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الأمر من الله والحكم». ـ ثمّ تلا هذه الآية : ـ (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [17 / 23] أي أمر ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه ، وبالوالدين إحسانا (1)».
    وبإسناده الصحيح (2) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء ، فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شيء ، فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونوا آخذين ولا تاركين إلّا بإذن الله تعالى».
    وبإسنادهما (3) عنه عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زعم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله ، فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار».
    __________________
    (1) ـ الأظهر أنّ قوله «أي أمر ربك ...» من كلام الصدوق ـ قدس‌سره ـ.
    (2) ـ التوحيد : باب نفي الجبر والتفويض ، 359 ، ح 1. ورواه بسند آخر في باب الاستطاعة : 349 ، ح 8. وعنه البحار : 5 / 37 ، ح 55. 5 / 51 ، ح 84.
    الكافي : كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر ، 1 / 158 ، ح 5 ، مع فروق.
    ورواه الطبرسي في الاحتجاج (احتجاج موسى بن جعفر عليه‌السلام في أشياء شتى على المخالفين : 2 / 330) عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ، وفيه زيادة. وعنه البحار : 5 / 26 ، ح 32.
    (3) ـ التوحيد : الباب السابق ، 359 ، ح 2. عنه البحار : 5 / 51 ، ح 85.
    الكافي : 1 / 158 ، ح 6. ورواه المجلسي (البحار : 5 / 127 ، ح 79) عن العياشي عن الصادق عليه‌السلام غير محكيّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

    يعني (1) بالخير والشرّ الصحة والمرض ، وذلك قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (2) [21 / 35].
    وبإسنادهما (3) عنه وعن أبيه الباقر عليهما‌السلام ـ قالا ـ : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».
    ـ قال (4) : ـ فسئلا عليه‌السلام : «هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة»؟
    قالا : «نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض».
    وبإسنادهما (5) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين». قيل : «وما أمر بين أمرين»؟
    قال (6) : «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته ، فلم ينته ، فتركته ، ففعل تلك المعصية ؛ فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».
    __________________
    (1) ـ هذا من كلام الصدوق في التوحيد وليس من تتمة الحديث على ما هو ظاهر ؛ ويؤيده عدم وجوده في الكافي. وأنّ المراد في الحديث أعمّ من الصحّة والمرض.
    (2) ـ في النسخة : «بالخير والشر فتنة» والصحيح ما أثبتناه.
    (3) ـ التوحيد : الباب السابق ، 360 ، ح 3. عنه البحار : 5 / 51 ، ح 82.
    الكافي : الباب المذكور ، 1 / 159 ، ح 9.
    (4) ـ أي الراوي.
    (5) ـ التوحيد : الباب السابق : 362 ، ح 8. عنه البحار : 5 / 17 ، ح 27.
    الكافي : الباب المذكور ، 1 / 160 ، ح 13.
    (6) ـ قال المؤلف في الوافي (باب الجبر والقدر ... : 1 / 545) توضيحا لمضمون الحديث : «هذا مثال حسن لمخاطبة العامي الضعيف ، الذي قصر فهمه عن درك كيفيّة الأمر بين الأمرين ، تقريبا لفهمه وحفظا لاعتقاده في أفعال العباد ، حتّى لا يعتقد كون العبد مجبورا في فعله ولا مفوّضا إليه اختياره».

    وفي التوحيد (1) بإسناده الصحيح ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أنّ الله تعالى أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد أظلم الله في حكمه ، فهو كافر ؛ ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد وهّن الله في سلطانه فهو كافر ؛ ورجل يقول : إنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهو مسلم بالغ».
    وبإسناده عنه عليه‌السلام قال (2) : «إنّ القدريّة مجوس هذه الامّة ، وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآية : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [54 / 47 ـ 48].
    وبإسناده (3) عن مولانا الرضا عليه‌السلام أنّه ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : «ألا اعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه»؟ قيل : «إن رأيت ذلك».
    فقال : ـ «إنّ الله ـ عزوجل ـ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّا ، ولا منها مانعا ،
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 360 ، ح 5. الخصال : باب الثلاثة ، 1 / 195 ، ح 271.
    عنهما البحار : 5 / 9 ، ح 14.
    (2) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر ، 382 ، ح 29.
    (3) ـ التوحيد : باب نفي الجبر والتفويض ، 361 ، ح 7. العيون : باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الاخبار في التوحيد ، 1 / 144 ، ح 48. البحار عنهما : 5 / 16 ، ح 22.

    وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينه (1) وبين ذلك لفعل ، وإن لم يحل وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه».
    ثمّ قال عليه‌السلام : «من يضبط حدود هذا الكلام ، فقد خصم من خالفه».
    وفي كتاب الاحتجاج (2) للشيخ أحمد بن [على بن] (3) أبي طالب الطبرسي ـ رحمه‌الله ـ عن مولانا الزكيّ العسكري عليه‌السلام ـ فيما أجاب به في رسالته إلى الأهواز ، حين سألته عن الجبر والتفويض ـ ما هو واف في هذا المعنى ، فمن أراده فليرجع إليه ، وفي آخره قال الإمام :
    «بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سأله عبابة بن ربعي الأسدي (4) عن الاستطاعة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «تملكها من دون الله ، أو مع الله»؟ فسكت عبابة بن ربعي.
    فقال له : «يا عبابة ـ قل».
    قال : «ما أقول يا أمير المؤمنين»؟
    قال : (5) «تقول : تملكها بالله الذي يملكها من دونك ؛ فإن تملّككها ، كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها ، كان ذلك من بلائه ؛ هو المالك لما
    __________________
    (1) ـ المصدر : بينهم.
    (2) ـ الاحتجاج : 2 / 494. تحف العقول : 468 مع فروق يسيرة.
    البحار : 5 / 24 ، ح 30. 5 / 75.
    (3) ـ النسخة : ـ علي بن.
    (4) ـ كذا في النسخة. ولكن المضبوط في ترجمته «عباية» وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام راجع معجم الرجال : 9 / 253. قاموس الرجال : 6 / 47 ، رقم 3926.
    (5) ـ زاد في المصدر : «إن قلت : «تملكها مع الله» قتلتك. وإن قلت : «تملكها من دون الله» قتلتك. قال : وما أقول يا أمير المؤمنين. قال».

    ملّكك ، والمالك لما عليه أقدرك ؛ أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة ، حيث يقولون : لا حول ولا قوّة إلّا بالله»؟.
    فقال الرجل : «ما تأويلها ـ يا أمير المؤمنين»؟
    قال : «لا حول بنا عن معاصي الله إلّا بعصمة الله ، ولا قوّة لنا على طاعة الله ، إلّا بعون الله». ـ قال : ـ فوثب الرجل وقبّل يديه ورجليه».
    * * *
    هذا ما ورد من الأخبار في هذا المقام ، بعد كلام الله الملك العلّام ، وفيه بعد إجمال ، إذ الغور فيه ممنوع منه ، إلّا أنّه يمكن الإشارة إلى لمعة منه لمن كان أهله ، بنقل المذاهب وبيانها ؛ فإنّ الآراء أربعة :
    اثنان فاسدان ـ وهما الجبر والتفويض اللذان هلك بهما كثير من الناس ـ واثنان دائران حول التحقيق ، ومرجعهما إلى الأمر بين الأمرين :
    أحدهما أقرب إلى الحقّ وأبعد من الأفهام ـ وهو طريقة أهل الكشف والشهود ـ والآخر بالعكس ـ وهو طريقة أهل العقل والنظر.
    وبيان الاوّل عسير لغموضه جدّا ، فلا يناسب وضع هذا الكتاب ، وقد ذكرناه في غيره (1) ونكتفي هنا بالثاني كما استفدناه من أهل التحقيق (2) ـ ومن الله التأييد ـ فالق سمعك وأنت شهيد.
    __________________
    (1) ـ كتب «عين اليقين» ثم شطب عليه. راجع عين اليقين : أواخر المقصد الأول : 220 ـ 224.
    (2) ـ أورد المؤلف نفس ما كتبه هنا بألفاظه في عين اليقين : 320 ، والوافي : 1 / 537 ـ 539.
    وقال في الوافي : «ونكتفي ببيان الثاني وإن لم نرتضه». وقال فيه أيضا : «ولنذكر ... ما ذكره بعض المحققين موافقا لما حقّقه المحقق الطوسي نصير الملة والدين ـ قدس‌سره ـ في بعض رسائله المعمول في ذلك». والمقصود من بعض المحققين صدر المتألهين (راجع شرح الكافي : 405) وما أورده مقتبس مما كتبه الخواجا نصير الدين الطوسي : في رسالته «جبر واختيار» ـ بالفارسية.

    فصل [10]
    [الإنسان مجبور على الاختيار]
    قد دريت أنّ كلّ ما يوجد في هذا العالم ، فقد قدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر ـ فوق هذا العالم ـ قبل وجوده ، وقد ثبت أنّ الله ـ عزوجل ـ قادر على جميع الممكنات ، ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده ـ بواسطة أو بغير واسطة ـ وإلّا لم يصلح لمبدئيّة الكلّ.
    فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وسائر المتقابلات كلّها منتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته ومشيّته ؛ إمّا بالذات أو بالعرض.
    فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها ـ بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ، ولكن بتوسط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإرادتنا وحركاتنا وسكناتنا ، وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا ، الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.
    فاجتماع تلك الامور ـ التي هي الأسباب والشرائط ـ مع ارتفاع الموانع علّة تامّة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبّر ، والمقتضي المقدّر ؛ وعند تخلّف شيء منها أو حصول مانع ، بقي وجوده في حيّز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيّا بالقياس إلى كلّ واحد من الأسباب الكونيّة.
    ولمّا كان من جملة الأسباب ـ وخصوصا القريبة منّا ـ إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا ، وبالجملة ما نختار به أحد طرفي الفعل والترك فالفعل

    اختياريّ لنا ؛ فإنّ الله أعطانا القوّة والقدرة والاستطاعة ، ليبلونا أيّنا أحسن عملا ، مع إحاطة علمه.
    فوجوبه لا ينافي إمكانه ، واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريّا.
    كيف ، وإنّه ما وجب إلّا بالاختيار ، ولا شكّ أنّ القدرة والاختيار كسائر الأسباب ـ من الإدراك والعلم ، والإرادة ، والتفكّر ، والتخيّل ، وقواها وآلاتها ـ كلّها بفعل الله ـ تعالى ـ لا بفعلنا واختيارنا ـ وإلّا لتسلسلت القدر والإرادات إلى غير النهاية.
    وذلك لأنّا وإن كنّا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل ؛ لكنّا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ، وإن لم نشأ لم نشأ ؛ بل إذا شئنا فلم يتعلّق مشيّتنا بمشيّتنا ، بل بغير مشيّتنا ، فليست المشيّة إلينا ، إذ لو كانت إلينا لاحتجنا إلى مشيّة اخرى سابقة ، وتسلسل الأمر إلى غير النهاية.
    ومع قطع النظر عن استحالة التسلسل ، نقول : جملة مشيّاتنا الغير المتناهية ـ بحيث لا يشذّ عنها مشيّة ـ لا تخلو : إمّا أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيّتنا ، أو بسبب مشيّتنا.
    والثاني باطل ، لعدم إمكان مشيّة اخرى خارجة عن تلك الجملة.
    والأوّل هو المطلوب.
    فقد ظهر أنّ مشيّتنا ليست تحت قدرتنا ، كما قال الله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [76 / 30].
    فإذن نحن في مشيّتنا مضطرّون ، وإنّما تحدث المشيّة عقيب

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:36 pm

    الداعي ؛ وهو تصوّر الشيء الملائم ـ تصوّرا ظنّيّا أو تخيّليّا أو علميّا ـ فإنّا إذا أدركنا شيئا ، فإن وجدنا ملائمته أو منافرته لنا دفعة بالوهم أو ببديهة العقل ، انبعث منّا شوق إلى جذبه أو دفعه ، وتأكّد هذا الشوق هو العزم الجازم المسمّى ب «الإرادة». وإذا انضمّت إلى القدرة التى هي هيئة للقوّة الفاعلة ، انبعثت تلك القوّة لتحريك الأعضاء الأدوية ـ من العضلات وغيرها ـ فيحصل الفعل.
    فإذن إذا تحقّق الداعي للفعل الذي تنبعث منه المشيّة ، تحقّقت المشيّة ؛ وإذا تحقّقت المشيّة التي تصرف القدرة إلى مقدورها ، انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة.
    فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيّة ، والمشيّة تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي.
    فهذه ضروريّات ترتّب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقّق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشيّة عند تحقّق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ؛ فنحن مضطرّون في الجميع ، فنحن في عين الاختيار مجبورون ؛
    فنحن إذن مجبورون على الاختيار (1)
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    كردار ماست گرچه به نيروى اختيار
    نبود به اختيار ولى اختيار ما



    فصل [11]
    [كيف يستند الحوادث إليه تعالى]
    قال بعض العلماء (1) :
    الحوادث كلّها مستندة إلى القدرة الأزليّة ، ولكن بعضها مرتّب على البعض في الحدوث ـ ترتّب المشروط على الشرط ـ فلا تصدر من القدرة الأزليّة والقضاء الإلهي إرادة حادثة ، إلّا بعد علم ، ولا علم إلّا بعد حياة ، ولا حياة إلّا بعد محلّها (2) ؛ ولكنّ بعض الشروط ممّا ظهر للعامّة وبعضها ممّا لم يظهر إلّا للخواصّ المكاشفين بنور الحقّ.
    فكلّ ما في عالم الإمكان حادث على ترتيب واجب وحقّ لازم ، لا يتصوّر أن يكون إلّا كما يكون ، وعلى الوجه الذي يكون ، فلا يسبق سابق إلّا بحقّ ولا يلحق لاحق إلّا بحقّ كما اشير إليه بقوله سبحانه (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [44 / 39].
    فما تأخّر متأخّر إلّا لانتظار شرطه ، إذ وقوع المشروط قبل وقوع الشرط ممتنع ، والمحال لا يوصف بكونه مقدورا ؛ فلا يتخلّف العلم عن النطفة إلّا لفقد شرطه ـ وهو الحياة ـ
    __________________
    (1) ـ مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب التوحيد والتوكل ، بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل : 4 / 372.
    (2) ـ كتب المؤلف ما يلي ثم شطب عليه : «وكما لا يجوز أن يقال : حصل الحياة من الجسم الذي هو شرطها. فكذلك في سائر مراتب الترتيب ودرجات التوقيف».

    ولا الإرادة عن العلم إلّا لفقد شرطها ـ وهو القدرة ـ ولا الفعل عن القدرة إلّا لفقد شرطه ـ وهو الإرادة ؛ وكلّ ذلك على المنهاج الواجب ، والترتيب الواجب ، ليس شيء منها ببخت واتّفاق ؛ بل كله بحكمة وتدبير.
    فصل (1) [12]
    [التوحيد الأفعالي ينفي الجبر والتفويض]
    وإذا كان هذا هكذا ، فمن نظر إلى الأسباب القريبة للفعل ورآه مستقلّة ، قال بالقدر والتفويض ؛ أى بكون أفاعيلنا واقعة بقدرتنا ، مفوّضة إلينا ـ والله سبحانه أحكم من أن يهمل عبده ، ويكله إلى نفسه ، وأعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.
    ومن نظر إلى السبب الأوّل ـ وقطع النظر عن الأسباب القريبة مطلقا ـ قال بالجبر والاضطرار ، ولم يفرّق بين أعمال الإنسان وأعمال الجمادات ؛ والله تعالى أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذّبهم ، وأكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ؛
    فكلاهما أعور لا يبصر بإحدى عينيه :
    أمّا القدريّة فبالعين اليمنى ، أي النظر الأقوى ، الذي به يدرك
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 321. راجع تفسير صدر المتألهين : 1 / 343. وشرح اصول الكافي له ، باب الجبر والقدر ، شرح الحديث الرابع : 408.

    الحقائق والأسباب القصوى للأشياء ـ كالدجّال حيث يقول (1) : «أنا ربّكم الأعلى».
    وأمّا الجبريّة فباليسرى ، أي الأضعف ، الذي به يدرك الظواهر والأسباب القريبة ، ـ كإبليس ، حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [15 / 39].
    وأمّا من نظر حقّ النظر ، فقلبه ذو عينين ، يبصر الحقّ باليمنى ، فيضيف الأعمال كلّها إلى الله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [4 / 78] ؛
    ويبصر الخلق باليسرى فيثبت تأثيرهم في الأعمال ؛ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (2) [22 / 10] ؛ لكن بالله ـ عزوجل ـ لا بالاستقلال : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ؛
    فيتحقّق بمعنى قول مولانا الصادق عليه‌السلام (3) : «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» فيتذهّب به ـ وذلك الفوز الكبير.
    * * *
    __________________
    (1) ـ راجع كمال الدين : باب حديث الدجال ، 527. عنه البحار : 52 / 194 ، ح 26.
    (2) ـ في النسخة : «ذلك بما كسبت يداك». والصحيح ما أثبتناه.
    (3) ـ مضى في الفصل العاشر من هذا الباب. راجع أيضا : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : الباب (11) ، 1 / 124 ، ح 11. معاني الأخبار : باب معنى قول الصادق عليه‌السلام : الترتر حمران : 212. البحار : 69 / 4 ، ح 4.

    فصل (1) [13]
    [سرّ نسبة الفعل إلى الفواعل المختلفة]
    ولأجل هذا التطابق بين الجبر والتفويض ، والتوافق بين الوجوب والإمكان ، نسب الله الأفعال في القرآن تارة إلى نفسه ، ومرّة إلى الملائكة ، واخرى إلى العباد. فقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [39 / 42]. وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [32 / 11].
    وقال في نفخ الروح في مريم ـ على نبيّنا وعليها‌السلام ـ : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [66 / 12] ؛ وقال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [19 / 17] ـ وفي الحديث (2) : «إنّ النافخ فيه جبرئيل»
    وقال ـ عزوجل ـ في القتل : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [9 / 14] ، فأضاف القتل إلى العباد والتعذيب إلى نفسه ، والتعذيب عين القتل هنا ؛ وقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [8 / 17].
    وقال في الرمي : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [8 / 17] ، وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا ، ولكنّ معناه : «وما رميت بالمعنى الذي يكون العبد به راميا ، إذ رميت بالمعنى الذي يكون الربّ به راميا» ، إذ هما معنيان مختلفان.
    __________________
    (1) ـ مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب التوحيد والتوكل : 4 / 374. وأورده في عين اليقين أيضا 322 بألفاظه.
    (2) ـ راجع تفسير القمي : سورة مريم ، 2 / 48. قصص الأنبياء : الباب الثامن عشر ، 264.

    فصل (1) [14]
    [كيف يؤثر الدعاء]
    وكما أنّ الأشياء الداخلة في وجود الإنسان ـ كالعلم والقدرة والإرادة ـ من جملة أسباب الفعل ، فكذلك الامور الخارجة ـ من الدعوات والطاعات والسعي والجدّ والتدبير والحذر والالتماس والتكليف والوعد والوعيد والإرشاد والتهذيب والترغيب والترهيب وأمثال ذلك ـ
    فإنّ ذلك كلّه أسباب ووسائط ووسائل وروابط لوجود الأفعال ، ودواع إلى الخير ، ومهيّجات للأشواق ، ومهيّئة للمطالب ، موصلة إلى الأرزاق ، مخرجة من القوّة إلى الفعل ؛ وكلّ ذلك ممّا يقاوم القضاء لا من حيث أنّه فعل العبد ـ فإنّه من هذه الحيثيّة ممّا يتحكّم به القضاء ، لأنّه لو لم يقض لم يوجد ـ بل من حيث أنّ الله ـ سبحانه ـ جعله من الأسباب ، على حسب ما قدّر وقضى ، لربط وموافاة بينه وبين الفعل ؛ كما جعل شرب الدواء سببا لحصول الصحّة في هذا المريض. فالسبب والمسبّب كلاهما ينبعثان من القضاء ، ويستندان إلى الله ـ سبحانه ـ وإلى أمره ، أمرا ذاتيّا عقليّا. وقد يكون بالأمر القوليّ السمعيّ ـ أيضا ـ كما فيما كلّفنا به من ذلك ، كالدعاء ـ مثلا ـ فإنّه ـ سبحانه ـ أمرنا به وحثّنا عليه ؛ فقال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [40 / 60] ، (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [2 / 186].
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 322 بألفاظه.

    فالدعاء والاستجابة كلاهما من أمر الله ، أمرا تكليفيّا ، كما أنّه من أمره الذاتي ؛ ولسان العبد ترجمان الدعاء ، وكلّ من فعل شيئا بأمر أحد فيده يد الآمر في الحقيقة ، إلّا أنّ بعض هذه الامور علل وموجبات ، وبعضها علامات ومعرّفات ، وبعضها ينقسم إلى القسمين.
    ولعلّ الدعاء من القسم الثالث ؛ ولهذا اشتهر بين الداعين «إنّ الدعاء كالدواء ، بعضها يؤثّر بالطبع ، وبعضها بالخاصيّة». فالأوّل إشارة إلى الأوّل ، والثاني إلى الثانى.
    فصل (1) [15]
    وأمّا الابتلاء من الله ـ سبحانه ـ فهو إظهار ما كتب ـ لنا أو علينا ـ في القدر ، وإبراز ما أودع فينا ، وغرّز في طباعنا بالقوّة ، بحيث يترتّب عليه الثواب والعقاب ، فإنّه ما لم يخرج من القوّة إلى الفعل لم يوجد بعد ـ وإن كان معلوما لله سبحانه ـ فلا تحصل ثمرته وتبعته اللازمتان.
    ولهذا قال عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [47 / 31] ـ وأمثال ذلك من الآيات ـ أي نعلمهم موصوفين بهذه الصفة ، بحيث يترتّب عليها الجزاء ؛ وأمّا قبل ذلك الابتلاء فإنّه علمهم مستعدّين للمجاهدة والصبر ، صائرين إليهما بعد حين.
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 322. الوافي : 1 / 524.

    فصل (1) [16]
    وأمّا الثواب والعقاب : فهما من لوازم الأفاعيل الواقعة منّا وثمراتها ، ولواحق الامور الموجودة فينا وتبعاتها ، ليسا يردان علينا من خارج.
    فالمجازاة أيضا هو إظهار ما كتب لنا أو علينا في القدر ، وابراز ما اودع فينا وغرّز في طباعنا بالقوّة ، كما قال سبحانه : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) [6 / 139] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [29 / 54].
    فمن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده ، فإنّما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده ، فكان أهلا للشقاوة في معاده ؛ وليس ذلك لأنّ الله سبحانه يستولى عليه الغضب ، ويحدث له الانتقام ـ تعالى عن ذلك ـ.
    وإنّما ورد أمثال ذلك في الشرع على نحو من التجوّز.
    فصل (2) [17]
    [لمّية تفاوت النفوس]
    وأمّا تفاوت النفوس في ذلك وعدم تساويها في الخيرات والشرور ، واختلافها في السعادة والشقاوة فلاختلاف الاستعدادات
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 322. راجع ما أورده في الوافي 1 / 549 أيضا.
    (2) ـ عين اليقين : 323. راجع شرح اصول الكافي : باب الخير والشر ، شرح الحديث الثاني : 402. وقد أورد المؤلف ـ قدس‌سره ـ نفس البيان في الوافي : 1 / 528.

    وتنوّع الحقائق ؛ فإنّ الموادّ السفليّة بحسب الخلقة والماهيّة ، ومتباينة في اللطافة والكثافة ، وأمزجتها مختلفة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي ؛ والأرواح الإنسيّة التي بإزائها مختلفة بحسب الفطرة الاولى في الصفاء والكدورة ، والقوّة والضعف ، مترتّبة في درجات القرب والبعد من الله ـ تعالى ـ لما تقرّر وتحقّق أنّ بإزاء كلّ مادّة ما تناسبه من الصور ؛ فأجود الكمالات لأتمّ الاستعدادات ، وأخسّها لأنقصها ، كما اشير إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) :
    «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام».(2)
    وفي الحديث النبوي (3) : «من وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه».
    __________________
    (1) ـ المسند : من حديث أبي هريرة ، 2 / 539. كنز العمال : 10 / 149 ، ح 28761. الجامع الكبير :
    8 / 6 ، ح 23983. وفي مسلم (كتاب فضائل الصحابة ، باب (48) خيار الناس ، 4 / 1958 ، ح 199) : «تجدون الناس معادن ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». ومثله في المسند : 2 / 498. ومستدرك الحاكم : 3 / 243. وحلية الأولياء : 6 / 256. وروى الكليني ـ قدس‌سره ـ في الكافي (الروضة ، 177 ، ح 197) عن الصادق عليه‌السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، فمن كان له في الجاهليّة أصل ، فله في الإسلام أصل».
    (2) ـ كتب المؤلف هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    قال في فصوص الحكم [الفصّ الإبراهيمي : 83] : «ما كنت في ثبوتك ، ظهرت به في وجودك ، فليس للحقّ إلّا إفاضة الوجود عليك ، والحكم لك عليك ؛ فلا تحمد إلّا نفسك ، ولا تذمّ إلّا نفسك ، وما يبقى للحقّ إلّا حمد إفاضة الوجود ، لأنّ ذلك له لا لك» ـ انتهى كلامه ـ.
    (3) ـ مسلم : كتاب البرّ والصلة ، باب تحريم الظلم ، 4 / 1995 ، ح 55.

    وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «ولا يحمد حامد إلّا ربّه ، ولا يلم لائم إلّا نفسه».
    ووجه آخر (2) : وهو أنّه قد علمت أنّ لله ـ عزوجل ـ صفات وأسماء متقابلة هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، ولها مظاهر متباينة بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكلّ من الأسماء يوجب تعلّق إرادته ـ سبحانه ـ وقدرته إلى ايجاد مخلوق يدلّ عليه ـ من حيث اتّصافه بتلك الصفة ـ فلذلك اقتضت رحمة الله ـ جلّ وعزّ ـ إيجاد المخلوقات كلّها ، لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى ، ومجالي لصفاته العليا.
    ـ مثلا ـ لمّا كان قهّارا ، أوجد المظاهر القهريّة التي لا يترتّب عليها إلّا أثر القهر ـ من الجحيم وساكنيه ، والزقّوم ومتناوليه ـ ولمّا كان عفوّا غفورا ، أوجد مجالي للعفو والغفران يظهر فيها آثار رحمته ، وقس على هذا.
    فالملائكة ومن ضاهاهم ـ من الأخيار وأهل الجنّة ـ مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم ـ من الأشرار وأهل النار ـ مظاهر القهر.
    ومنها يظهر السعادة والشقاوة : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [11 / 105].
    فظهر أن لا وجه لإسناد الظلم والقبائح إلى الله ـ سبحانه ـ لأنّ
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة 16 ـ أولها : «ذمّتي بما أقول رهينة ...».
    (2) ـ عين اليقين : 323 مع تفصيل وتوضيح أكثر.

    هذا الترتيب والتمييز ـ من وقوع فريق في طريق اللطف ، وآخر في طريق القهر ـ من ضروريّات الوجود والإيجاد ، ومن مقتضيات الحكمة والعدالة.
    ومن هنا قال بعض العلماء : «ليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي ـ حيث يجعل بعض من تحت تصرّفه وزيرا قريبا ، وبعضهم كنّاسا بعيدا ؛ لأنّ كلا منهما من ضروريات مملكته ـ وينسب الظلم إلى الله تعالى في تخصيص كلّ من عبيده بما خصّص ، مع أنّ كلا منهما ضرورىّ في مقامه.
    فصل (1) [18]
    [ما ورد من الأخبار في السعادة والشقاوة]
    روي في الكافي (2) بإسناده عن مولانا الباقر عليه‌السلام ـ قال : ـ» لو علم الناس كيف خلق الله [تبارك وتعالى] (3) هذا الخلق ، لم يلم أحد أحدا».
    وبإسناده (4) عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : «من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم»؟
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 323.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب درجات الإيمان : 2 / 44.
    (3) ـ الإضافة من المصدر.
    (4) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب السعادة والشقاوة : 1 / 153 ، ح 2. التوحيد : نفس الباب : 354 ، ح 1. البحار : 5 / 156 ، ح 8. راجع شرح الرواية في الوافي : 1 / 529.

    فقال : «أيّها السائل ـ حكم الله أن لا يقوم (1) له أحد من خلقه بحقّه ، فلمّا حكم بذلك وهب لأهل محبّته القوّة على معرفته ، ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ، ووهب لأهل المعصية القوّة على معصيته ـ لسبق علمه فيهم ـ ومنعهم (2) إطاقة القبول منه ؛ فواقعوا (3) ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا (4) أن يأتوا حالا ينجيهم من عذابه ، لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق ؛ وهو معنى «شاء ما شاء» ، وهو سرّه».
    وبإسناده (5) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه ، فمن خلقه الله سعيدا (6) لم يبغضه أبدا ، وإن عمل شرّا أبغض عمله ولم يبغضه ؛ وإن كان شقيّا (7) لم يحبّه أبدا ، وإن عمل صالحا أحبّ عمله ، وأبغضه لما يصير إليه. فإذا أحبّ الله شيئا لم يبغضه أبدا ، وإذا أبغض شيئا لم يحبّه أبدا».
    وبإسناده (Cool الصحيح عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ ممّا أوحى الله إلى
    __________________
    (1) ـ الكافي : حكم الله عزوجل لا يقوم. التوحيد : علم الله عزوجل ألا يقوم ... فلما علم.
    (2) ـ التوحيد : ولم يمنعهم.
    (3) ـ الكافي نسخة : فوافقوا.
    (4) ـ في التوحيد بدلا من «ولم يقدروا أن يأتوا ...» : وإن قدروا أن يأتوا خلالا (نسخة : ولم يقدروا أن يأتوا حالا) تنجيهم عن معصيته وهو معنى شاء ما شاء وهو سر.
    (5) ـ الكافي : الباب السابق ، 1 / 152 ، ح 1. التوحيد : الباب السابق ، 357 ، ح 5.
    المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب السعادة والشقاء ، 1 / 279 ، ح 405.
    البحار عنهما : 5 / 157 ، ح 11.
    (6) ـ التوحيد : فمن علمه الله سعيدا ...
    (7) ـ التوحيد : وإن كان علمه شقيّا ...
    (Cool ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الخير والشرّ ، 1 / 154 ، ح 1.
    المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب خلق الخير والشرّ ، 283 ، ح 414.

    موسى عليه‌السلام وأنزل عليه في التوراة : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الخير ، وأجريته على يدي من احبّ ، فطوبى لمن أجريته على يديه ؛ وأنا الله لا إله إلّا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الشرّ ، وأجريته على يدي من اريده ، فويل لمن أجريته على يديه».
    وفي رواية اخرى (1) : «وويل لمن يقول : كيف ذا ، وكيف ذا»؟
    وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ـ قال : ـ «الشقيّ من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمّه».
    والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
    فصل (3) [19]
    [القضاء والقدر في المأثور]
    لمّا كانت الحكمة الإلهيّة تقتضي أن يكون العبد معلّقا بين الرجاء والخوف ، الّذين بهما تتمّ العبوديّة ، جعل الله كيفيّة علمه وقضائه وقدره وسائر الأسباب غائبة عن العقول ، وجعل الدعوات والطاعات ـ
    __________________
    (1) ـ الكافي : الصفحة السابقة. المحاسن : الصفحة السابقة.
    (2) ـ التوحيد : باب السعادة والشقاوة : 356 ، ح 3. تفسير القمي : 1 / 255 ، تفسير قوله تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ ...). وفي أمالي الصدوق (المجلس الرابع والسبعون ، 576 ، ح 1) : «... والشقيّ من شقي في بطن أمّه والسعيد من وعظ بغيره ...». ومثله في تفسير القمي : 1 / 319 ، (تفسير قوله تعالى : (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ...)).
    البحار : 5 / 9 و 153 و 157 ، ح 13 وح 1 وح 10 و 21 / 212 ، ح 2.
    (3) ـ عين اليقين : 324.

    وما يجري مجرى ذلك ـ مناط التكليف وملاك العبوديّة ليتمّ المقصود.
    وهذا إحدى الطرق في تصحيح القول بالتكاليف مطلقا ، مع الاعتراف بإحاطة علم الله ، وكون الأقدار جارية والأقضية سابقة في الكلّ.
    روي أنّه جاء سراقة بن مالك (1) إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال (2) : «يا رسول
    __________________
    (1) ـ سراقة بن مالك بن جعشم ، أسلم بعد الفتح ، ورووا أنه ذهب في طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد خروجه من مكة ، لما أن قريش جعلت فيه مائة ناقة لمن ردّه إليهم ؛ ولما وصل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ساخت قوائم فرسه في الأرض وسقط منها.
    راجع الاستيعاب : 2 / 179 ، الترجمة 1955.
    (2) ـ مسلم : كتاب القدر : باب (1) كيفية خلق الآدمي ... ، 4 / 2040 ، ح 8.
    وروي بألفاظ اخر : ابن ماجة المقدمة ، باب (10) في القدر ، 1 / 35 ، ح 91.
    المعجم الكبير : 7 / 119 ـ 121 ، ح 6562 ـ 6567. أخبار أصبهان : 1 / 105 ـ 106. موضح أوهام الجمع والتفريق : 1 / 131.
    راجع أيضا : المسند : 1 / 82 و 3 / 304 و 4 / 67 و 431. الترمذي : كتاب القدر ، باب (3) ما جاء في الشقاوة والسعادة ، 4 / 445 ، ح 2136. وكتاب التفسير ، باب (81) سورة الليل ، 5 / 441 ، ح 3344. المعجم الكبير : 4 / 237 ، ح 4235 و 4236. 7 / 119 و 121 ، ح 6562 و 6566. 18 / 130 ـ 131 ، ح 267 ـ 270.
    تفسير الطبري : 27 / 65 ، سورة القمر ، الآية 49. مسلم : كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي ... ، 4 / 2040 ، ح 7.
    وبفرق يسير في المسند : 1 / 140 و 375. 3 / 293. البخاري : كتاب التفسير ، سورة الليل ، 6 / 211 ـ 212. وكتاب الأدب ، باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض ، 8 / 59. وكتاب القدر ، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا ، 8 / 154.
    وكتاب التوحيد ، باب ولقد يسرنا القرآن للذكر ، 9 / 195. أبي داود : كتاب السنة ، باب في القدر ، 4 / 222 ، ح 4694. المعجم الكبير : 7 / 120 ـ 122 و 130 ، ح 6565 و 6567 و 6568 و 6593. 18 / 129 ـ 131 ، ح 266 و 268 و 269 و 272 و 273. تفسير الطبري : 30 / 143.

    الله ـ بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن ، ففيم العمل اليوم؟ فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل»؟
    قال : «بل فيما جفّت به الأقلام ، وجرت به المقادير».
    قال : «ففيم العمل»؟
    قال : «اعملوا ، فكلّ ميسّر لما خلق له ، وكل عامل بعمله».
    فعلّقنا بين الأمرين : رهّبنا بسابق القدر ، ثمّ رغّبنا في العمل ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، فقال : «كلّ ميسّر لما خلق له» ، يريد أنّه ميسّر في أيّام حياته للعمل الذي سبق إليه القدر قبل وجوده ؛ ولم يقل «مسخّر» لكيلا يغرق في لجّة القضاء والقدر.
    وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «أنحن في أمر فرغ منه أو أمر مستأنف»؟
    قال : «في أمر فرغ منه ، وفي أمر مستأنف».
    وسئل (2) : «هل يغيّر الدواء والرقية (3) من قدر الله»؟
    __________________
    (1) ـ ورد الحديث بألفاظ مختلفة ، وفي الجواب عن سؤال عدة من الصحابة ـ منهم عمر وأبو بكر وسراقة بن مالك وأبو الدرداء وغيرهم ـ ولم أعثر على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «وفي أمر مستأنف»
    راجع المسند : 1 / 6 و 29. 2 / 52 و 77. 3 / 304. 6 / 441. الترمذي : كتاب التفسير ، سورة هود ، 5 / 289 ، ح 3.
    (2) ـ جاء في ابن ماجة (كتاب الطب ، باب (1) ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ، 2 / 1137 ، ح 3437) : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيت أدوية نتداوي بها ، ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها ، هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال : هي من قدر الله».
    ومثله في الترمذي : كتاب القدر ، الباب (12) : 4 / 453 ، ح 2148.
    ويقرب منه ما في المعجم الكبير : 3 / 192 ، ح 3090. و 6 / 48 ، ح 5468.
    (3) ـ الرقية : ما يقرأ من الدعاء والعزائم ويعوذ به.

    قال : «والدواء والرقية ـ أيضا ـ من قدر الله».
    ومثله عن مولانا الصادق عليه‌السلام رواه في التوحيد (1).
    وبإسناده (2) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عند انحرافه عن جدار يريد أن ينقضّ : «أتفرّ من قضاء الله»؟
    قال : «أفرّ من قضائه إلى قدره».
    وبإسناده (3) عنه عليه‌السلام ـ قال : «أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى داود : «يا داود ، تريد واريد ، ولا يكون إلّا ما اريد ؛ [فإن أسلمت لما اريد أعطيتك ما تريد] (4) وإن لم تسلم لما اريد أتعبتك فيما تريد ، ثمّ لا يكون إلّا ما اريد».
    وفي الكافي (5) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينيّا أنّ الله ـ تعالى ـ لم يجعل للعبد ـ وإن اشتدّ جهده ، وعظمت حيلته ، وكثرت مكابدته ـ أن يسبق ما سمّي له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد ـ في ضعفه وقلّة حيلته ـ أن يبلغ ما سمّي له في الذكر الحكيم.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب القضاء والقدر : 382 ، ح 29 ، عن عليّ بن سالم : سألته عليه‌السلام عن الرقى : أتدفع من القدر شيئا؟ فقال : «هي من القدر».
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 369 ، ح 8. عنه البحار : 5 / 114 ، ح 41. و 41 / 2 ، ح 2.
    (3) ـ التوحيد : باب المشيّة والإرادة ، 337 ، ح 4. عنه البحار : 5 / 104 ، ح 28.
    (4) ـ زيادة من المصدر.
    (5) ـ الكافي : كتاب المعيشة ، باب الإجمال في الطلب ، 5 / 81 ، ح 9. وأورده الحراني أيضا مع فروق يسيرة ضمن حكمه عليه‌السلام في تحف العقول : 155. عنه البحار : 77 / 408 ، ح 38.

    أيّها الناس ـ إنّه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه ، ولم ينقص امرؤ نقيرا بحمقه ؛ فالعالم بهذا ، العامل به ، أعظم الناس راحة في منفعة ؛ والعالم بهذا ، التارك له ، أعظم الناس شغلا في مضرّة ، وربّ منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه ، وربّ مغرور في الناس مصنوع له.
    فأفق أيّها الساعي من سعيك ، واقصر من عجلتك ، وانتبه من سنة غفلتك ، وتفكّر فيما جاء عن الله ـ عزوجل ـ على لسان نبيّه ـ صلوات الله عليه ـ ...» ـ الحديث.
    وبإسناده (1) عن ثابت بن سعيد (2) ـ قال : ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا ثابت ـ ما لكم والناس؟ كفّوا عن الناس ، ولا تدعوا أحدا إلى أمركم ، فو الله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه ، ولو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبدا يريد الله هداه ، ما استطاعوا أن يضلّوه ؛
    كفّوا عن الناس ولا يقول أحد : عمّي وأخي وابن عمّي وجاري ؛
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب الهداية ، 1 / 165 ، ح 1. وكتاب الإيمان والكفر ، باب في ترك دعاء الناس ، 2 / 213 ، ح 2. عنه البحار : 68 / 208 ، ح 12. المحاسن : كتاب مصابيح الظلم ، باب الهداية من الله عزوجل : 1 / 200 ، ح 34. عنه البحار : 5 / 203 ، ح 30. وورد ما يقرب منه فيما رواه الحراني (تحف العقول : 312) ضمن وصيته عليه‌السلام لمؤمن الطاق ، وأورده عنه البحار : 78 / 291 ، ح 2.
    (2) ـ كذا ورد في الكافي : 1 / 165. ولكن في 2 / 213 منه وكذا في المحاسن : «ثابت أبي سعيد» ولعلهما صحيحان ، أو أحدهما محرف ، وكذا ما في البحار (68 / 208) : «ثابت بن أبي سعيدة». ولم يذكروا عنه شيئا غير روايته هذا عن الصادق عليه‌السلام التي يفيد كونه من خواصّه عليه‌السلام ، غير أنّ فيه كون الممدوح نفس الراوي.

    فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرا طيّب روحه ، فلا يسمع معروفا إلّا عرفه ، ولا منكرا إلّا أنكره ، ثمّ يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره».
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : ـ «اعلم أنّ الامّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلّا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك ، لم يضرّوك إلّا بشيء كتبه الله عليك ؛ رفعت الأقلام وجفّت الصحف».
    أقول : وتصديق ذلك في كتاب الله ـ عزوجل ـ قوله سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [9 / 15].
    فصل (2) [20]
    [القضاء لا تتخلف]
    قد تبيّن بما ذكرنا أن لا رادّ لقضاء الله ، ولا معقّب لحكمه ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا ملجأ لعباده فيما قضى ، ولا حجّة لهم فيما ارتضى ، لم يقدروا على عمل ولا معالجة ممّا أحدث في أبدانهم المخلوقة ، إلّا بربّهم ، فمن زعم أنّه يقوى على عمل لم يرده الله عزوجل
    __________________
    (1) ـ الترمذي : كتاب صفة القيامة : الباب (59) ، 4 / 667 ، ح 2516. كنز العمال : 3 / 102 ، ح 5691. و 15 / 863 ح 43435.
    وجاء ما يقرب منه في شعب الإيمان : باب 5 ، 1 / 217 ، ح 195. و 2 / 28 ، باب 12 ، ح 1074. مستدرك الحاكم : كتاب معرفة الصحابة ، 3 / 542. الجامع الكبير : 9 / 198 و 199 ، ح 28006 و 28011.
    (2) ـ عين اليقين : 324.

    فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة الله ـ تعالى عمّا يقولون ـ هذا.
    وقد ثبت أنّ الأجسام تحت قهر الطبائع ، والطبائع تحت قهر النفوس ، والنفوس تحت قهر العقول ، والعقول تحت قهر كبرياء الأوّل ، وهو الله الواحد القهّار.
    ومن وجه آخر : إنّ الأرضيّات تحت تأثير السماوات ـ بإذن الله ـ والسماوات في ذلّ تسخير الملكوت ، والملكوت في قيد أسر الجبروت ، والجبروت مقهور بأمر الجبّار ، وهو الغالب على أمره ، و (الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [6 / 18] ؛ فلا مؤثّر في الوجود سواه ، ولا فاعل غيره ؛ (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ [يَوْمَ الْقِيامَةِ] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [39 / 67] ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [7 / 54] و (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [11 / 56] ؛ أيدي الكلّ مغلولة بيد قدرته (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [37 / 96] ، وأرجلهم معقولة بعقال مشيّته (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [10 / 22] ، وآمالهم منقطعة إلّا بحوله وقوّته (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [10 / 107] ، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [3 / 160] ؛ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [36 / 83] و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [67 / 1].

    فصل [21]
    اعلم : أنّ الله ـ عزوجل ـ لا يفعل بعباده إلّا ما هو أصلح لهم ، لأنّه سبحانه لطيف بعباده ، رءوف بهم ، وهو قادر حكيم.
    روي في التوحيد (1) بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرئيل عليه‌السلام ، عن الله ـ تبارك وتعالى ـ : ـ قال ـ : «قال الله عزوجل : من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تردّدت في شيء أنا فاعله ما تردّدت في (2) قبض نفس المؤمن ؛ يكره الموت ، وأكره مساءته ـ ولا بدّ له منه ـ
    وما تقرّب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتّى احبّه ، ومتى أحببته كنت له سمعا وبصرا ، ويدا ومؤيّدا ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ؛
    وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلّا يدخله عجب فيفسده ، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ، ولو أغنيته لأفسده ؛ وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالغناء ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ؛ وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالسقم ، ولو صحّحت جسمه لأفسده ذلك ؛ وإنّ من
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أنّ الله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ، 398. علل الشرائع : باب (9) علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ، 1 / 12 ، ح 7. عنه البحار : 5 / 283 ، ح 3.
    وجاء ما يقرب منه في الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، 2 / 350 ـ 353 ح 1 ـ 11.
    (2) ـ نسخة : عن (هامش النسخة).

    عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالصحّة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ؛ وإنّي ادبّر عبادي بعلمي بقلوبهم ، فإنّي عليم خبير».
    وبإسناده (1) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : ـ «ربّ أغبر أشعث (2) ذى طمرين (3) مدفّع بالأبواب (4) لو أقسم على الله عزوجل لأبرّه».
    وبإسناده (5) عن مولانا الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه عليه‌السلام ـ قال : ـ «ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم حتّى بدت نواجذه ـ ثمّ قال : ـ لا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : عجبت للمرء المسلم ، أنّه ليس من قضاء يقضيه الله عزوجل له إلّا كان خيرا له في عاقبة أمره».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق ، 400. أمالي الصدوق : المجلس الحادي والستون ، ح 6 ، 470. عنه البحار : 72 / 36 ، ح 29. أمالي الطوسي : المجلس الخامس عشر ، ح 16 ، 429. عنه البحار : 75 / 143 ، ح 7. وفي مسلم (كتاب البر ، باب (40) فضل الضعفاء والخاملين : 4 / 2024 ، ح 138. وكتاب الجنّة : باب (13) ، 4 / 2191 ، ح 48) : «ربّ أشعث مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرّه».
    وفي الترمذي (كتاب المناقب ، باب (55) البراء بن مالك : 5 / 693 ، ح 3854) : «كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به ، لو أقسم على الله لأبرّه».
    (2) ـ شعث الشعر شعثا ، فهو شعث ـ من باب تعب ـ : تغيّر وتلبّد لقلّة تعهّده بالدهن ... والشعث أيضا : الوسخ. ورجل شعث : وسخ الجسد شعث الرأس أيضا ؛ وهو أشعث أغبر : أي من غير استحداد ولا تنظّف. والشعث أيضا الانتشار والتفرّق (مصباح ـ شعث).
    (3) ـ الطمر : الثوب الخلق. والجمع : أطمار.
    (4) ـ أى يدفع عند الدخول على الأعيان والحضور في المحافل ولا يترك أن يلج الباب ، فضلا أن يحضر المجالس.
    (5) ـ التوحيد : الباب السابق : 401. أمالي الصدوق : المجلس الحادي والثمانون ، ح 15 ، 640.
    عنه البحار : 71 / 140 ـ 141 ، ح 32.

    وبإسناده (1) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ «كان فيما أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى موسى عليه‌السلام أن يا موسى : ما خلقت خلقا أحبّ إليّ من عبدي المؤمن ؛ وإنّما ابتليته لما هو خير له واعافيه لما هو خير له ؛ وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي ، وليرض بقضائي ، اكتبه في الصدّيقين عندي ، إذا عمل برضواني وأطاع أمري».
    وبإسناده (2) عنه عليه‌السلام ـ أنّه قال : ـ «والذي بعث جدّي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ نبيّا ـ إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ليرزق العبد وعلى قدر المروّة ، وإنّ المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة ، وإنّ الصبر على قدر شدّة البلاء».
    والأخبار في هذه المعاني كثيرة.
    * * *
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 405. أمالي الطوسي : المجلس التاسع ، ح 13 ، 238.
    وجاء ما يقرب منه في أمالي المفيد : المجلس الحادي عشر ، ح 2 ، 93. المؤمن : باب شدة ابتلاء المؤمن : 17 ، ح 9. عنه البحار : 13 / 348 ، 36. و 67 / 235 ، ح 52.
    و 71 / 139 ـ 140 ، ح 32. 71 / 145 و 160 ، ح 42 و 77.
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق ، 401. أمالي الصدوق : المجلس الثاني والثمانون ، ح 3 ، 646.
    أمالي الطوسي : المجلس الحادي عشر ، 41 ، 301. عنهما البحار : 76 / 311.

    [8]
    باب نبذ من آثار رحمته وآيات عظمته
    ـ جلّ ذكره ـ
    (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ)
    [30 / 50]
    فصل [1]
    [أقسام مخلوقاته تعالى والتفكر فيها]
    أكثر ما نورده في هذا الباب أخذناه من كلام بعض العلماء (1) مع تلخيص له وتوشيح بآيات قرآنيّة وأخبار عن أهل البيت عليهم‌السلام وكلمات نزرة عن غيرهم.
    اعلم أنّ كلّ ما في الوجود سوى الله ـ عزوجل ـ فهو فعل الله ـ جلّ جلاله ـ وخلقه ، وكلّ ذرّة من الذرّات ـ من جوهر وعرض ، وصفة وموصوف ـ ففيها عجائب تظهر بها حكمة الله وقدرته ، وجلاله وعظمته ؛ وإحصاء ذلك غير ممكن ، لأنّه (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ
    __________________
    (1) ـ الغزالي : إحياء علوم الدين ، كتاب التفكر ، التفكر في خلق الله تعالى : 4 / 631 ـ 637.

    رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [18 / 109] ؛ بل ولا عشر عشير من ذلك ؛ ولكنّا نشير إلى جمل ليكون ذلك كالمثال لما عداه ، فنقول :
    الموجودات المخلوقة منقسمة إلى ما لا نعرف أصلها ، فلا يمكننا التفكّر فيها ، وكم من الموجودات التي لا نعلمها ، كما قال ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [36 / 36] ؛ وقال : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [56 / 61].
    وإلي ما نعرف أصلها وجملتها ، ولا نعرف تفصيلها ، فيمكننا أن نتفكّر في تفصيلها لنزداد معرفة وبصيرة بخالقها ـ جلّ جلاله ـ
    وهي منقسمة إلى ما أدركناه بحسّ البصر ، وإلى ما لا ندركه بالبصر :
    أمّا الذي لا ندركه بالبصر فكالملائكة والجنّ والشياطين.
    وأمّا المدركات بحسّ البصر فهي السماوات السبع ، والأرضون ، وما بينهما. والسماوات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها ، وحركاتها ودورانها في طلوعها وغروبها ؛ والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها ؛ وما بين السماء والأرض ـ وهو الجوّ ـ مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها.
    فهذه هي الأجناس المشاهدة من السماوات والأرض وما بينهما. وكلّ جنس منها ينقسم إلى أنواع ، وكلّ نوع ينقسم إلى أقسام ، وينشعب

    كلّ قسم إلى أصناف ؛ ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامها في اختلاف صفاتها وهيئاتها ومعانيها الظاهرة والباطنة ، وجميع ذلك مجال الفكر والتدبّر لتحصيل المعرفة والبصيرة.
    فلا تتحرّك ذرّة في السماوات والأرض ـ من جماد ونبات وحيوان وفلك وكوكب ـ إلّا ومحرّكها هو الله ـ عزوجل ـ وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة ؛ كلّ ذلك شاهد (1) لله ـ تعالى ـ بالوحدانيّة ، ودالّ على جلاله وكبريائه ، وهي الآيات الدالّة عليه.
    وقد ورد القرآن بالحثّ على التفكّر في هذه الآيات ، كما قال عزوجل : (الَّذِينَ ... إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ) [3 / 190].
    وكما قال : (وَمِنْ آياتِهِ ... وَمِنْ آياتِهِ ...) [30 / 20 ـ 25] من أوّله إلى آخره.
    فلنشر إلى طرف من ذلك وكيفيّة التفكّر فيه في فصول :
    __________________
    (1) ـ النسخة : شاهدة.

    فصل [2]
    [عجائب خلقة الإنسان]
    فمن آياته الإنسان المخلوق من النطفة :
    فانظر يا أخي أوّلا في نفسك وبدنك ، فإنّه أقرب شيء إليك ، وفيك من العجائب الدالّة على عظمة الله ـ تعالى ـ ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيرها ، وأنت غافل عنها ؛ فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل بها ، كيف تطمع في معرفة غيرها (1)؟!
    وقد أمرك الله ـ تعالى ـ بالتدبّر في نفسك في كتابه العزيز ، فقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [51 / 21].
    وذكر أنّك مخلوق من نطفة قذرة ، فقال ـ تعالى ـ : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [80 / 17 ـ 22].
    (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [75 / 37 ـ 38]. (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [77 / 20 ـ 21]. (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [36 / 77].
    (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    تو كه در نفس خود زبون باشى
    عارف كردگار چون باشى



    فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [23 / 12 ـ 14].
    فانظر إلى النطفة ـ وهي قطرة من الماء قذرة ، ولو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت ـ كيف أخرجها ربّها ـ ربّ الأرباب ـ من الصلب والترائب؟ وكيف جمع بين الذكر والانثى ، وألقى الإلف والمحبّة في قلبهما؟ وكيف قادهما بسلسلة المحبّة والشهوة إلى الاجتماع؟ وكيف استخرج النطفة عن الرجل بحركة الوقاع؟ وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الأرحام؟ ثمّ كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض (1) ، وغذّاه وربّاه؟ وكيف جعل النطفة ـ وهي بيضاء مشرقة ـ علقة حمراء؟ فشكّلها وأحسن تشكيلها وقدّرها فأحسن تقديرها ، وصوّرها فأحسن تصويرها؟! وقسّم أجزائها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام في أرجائها. وحسّن أشكال أعضائها ، وزيّن ظاهرها وباطنها ، ورتّب عروقها وجعلها مجرى لغذائها ، ليكون ذلك سببا لبقائها. وجعلها سميعا بصيرا عالما ناطقا.
    فخلق لها الظهر أساسا لبدنها ، حاويا لآلات غذائها ؛ والرأس جامعا لحواسّها.
    ففتح العين ورتّب طبقاتها ، وأحسن شكلها ولونها وهيئتها ، ثمّ
    __________________
    (1) ـ الغرض بيان العجائب الموجودة في تكوين الإنسان ، فلا يقدح فيه ذكر بعض المصطلحات الغير الصحيحة المعروفة قديما ، كتغذية الجنين بدم الحيض ؛ فمن الواضح الآن أنّ الجنين يشترك في التغذية مع أمّها ويتغذّى بغذائها من طريق جريان الدم الجارية الى عروقه منها. وفي ذلك من لطائف الحكم والعجائب ما لا يحصى.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:39 pm

    حماها بأجفان لتسترها ، وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ؛ ثمّ أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماء مع اتّساع أكنافها وتباعد أقطارها ؛ فهو ينظر إليها.
    وشقّ الاذن وأودعها ما يحفظ سمعها (1) ، ويدفع الهوامّ عنها ، وحوطها بصدفة الاذن لتجمع الصوت فتردّه إلى صاحبها (2) ، وليحسّ بدبيب الهوامّ إليها ، وجعل فيها تحريفات واعوجاجات ، لتكثر حركة ما يدبّ فيها ، ويطول طريقها فينتبه عن النوم صاحبها إذا قصدته الدابّة في نوم.
    ثمّ رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وأودع فيها حاسّة الشمّ ، ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته ، وليتنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه ، وترويحا لحرارة باطنه.
    وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقا وترجمانا ومعربا عمّا في القلب ؛ وزيّن الفم بالأسنان ليكون آلة للطحن والكسر والقطع ، فأحكم اصولها وحدّد رءوسها ، وحسّن لونها ، ورتّب صفوفها ، متساوية الرءوس متناسقة الترتيب ، كأنّها الدرّ المنظوم.
    وخلق الشفتين وحسّن لونهما وشكلهما لتنطبقا على الفم ، وتسدّا منفذه ، وليتمّ بهما حروف الكلام.
    ثمّ خلق الحنجرة وهيأها لخروج الأصوات. وخلق للّسان قدرة
    __________________
    (1) ـ المصدر : وأودعها ماء مرّا ليحفظ سمعها.
    (2) ـ المصدر : صماخها.

    الحركات والتقطيعات ، ليقطع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ، ليتّسع طريق النطق بكثرتها ؛ ثمّ خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة ، والخشونة والملاسة ، وصلابة الجوهر ورخاوته ، والطول والقصر ، حتّى اختلفت بسببها الأصوات ؛ فلا تتشابه صوتان ، بل يظهر بين كلّ صوتين فرقان ، حتّى يميّز السامع بعض الناس عن بعض بمجرّد الصوت في الظلمة.
    ثمّ زيّن الرأس بالشعور والأصداغ ، وزيّن الوجه باللحية ، وزيّن الحاجبين بدقّة الشعر ، واستقواس الشكل ، وزيّن العينين بالأهداب.
    ثمّ خلق الأعضاء الباطنة ، وسخّر كلّ واحد لفعل مخصوص :
    فسخّر المعدة لنضج الغذاء ، والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم ، والطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد ؛ فالطحال يخدمه بجذب السوداء عنه ، والمرارة تخدمه بجذب الصفراء عنه ، والكلية تخدمه بجذب المائيّة ، والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثمّ تخرجه عن طريق الإحليل ، والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن.
    ثمّ خلق اليدين وطوّلهما لتمتدّ إلى المقاصد ، وعرّض الكفّ وقسّم الأصابع الخمس ، وقسّم كلّ إصبع بثلاث أنامل ، ووضع الأربع في جانب والإبهام في جانب ، ليدور الإبهام على الجميع ؛ ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع ـ سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع ، وتفاوت الأربع في الطول ، وترتيبها في صفّ واحد ـ لم يقدروا عليه ؛ إذ بهذا الترتيب صلحت للقبض والإعطاء ، فإن بسطها كانت له طبقا يضع

    عليها ما يريد ، وإن جمعها كانت آلة للضرب ، وإن ضمّها ـ ضمّا غير تامّ ـ كانت مغرفة له ، وإن بسطها وضمّ أصابعها كانت مخرقة له.
    ثمّ خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل ، وعمادا لها من وراءها حتّى لا تنقطع ، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل ، وليحكّ بها بدنه عند الحاجة ، فالظفر الذي هو أخسّ الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهرت به حكّة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ، ولم يقم شيء مقامه في حكّ بدنه ، ثمّ هدى اليد إلى موضع الحكّ حتّى يمتدّ إليه ـ ولو في النوم والغفلة ـ من غير حاجة إلى طلب ، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحكّ إلّا بعد تعب طويل.
    ثمّ خلق هذا كلّه في النطفة ، وهي في جوف الرحم في ظلمات ثلاث ، ولو كشف الغطاء وامتدّ البصر إليه لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا [ف] شيئا ، ولا يرى المصوّر ولا آلته ؛ فهل رأيت مصوّرا [أو] فاعلا لا يمسّ آلته مصنوعه ولا يلاقيه ـ وهو يتصرّف فيها؟!
    فسبحانه ، ما أعظم شأنه وأظهر برهانه.
    * * *

    فصل (1) [3]
    [مراحل خلق الإنسان]
    ثمّ انظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته ، فإنّه لمّا ضاق الرحم عن الصبيّ ـ لمّا كبر ـ كيف هداه السبيل حتّى تنكّس وتحرّك ، وخرج من ذلك المضيق ، وطلب المنفذ كأنّه عاقل بصير بما يحتاج إليه.
    ثمّ لمّا خرج واحتاج إلى الغذاء ، كيف هداه إلى التقام الثدي.
    ثمّ لمّا كان بدنه سخيفا ـ لا يحتمل الأغذية الكثيفة ـ كيف دبّر له في خلق اللبن اللطيف ، واستخرجه من بين الفرث والدم خالصا صائغا ، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن ، وأنبت منهما الحلمة على قدر ما ينطبق عليه فم الصبيّ ، ثمّ فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيّقة جدّا ، حتّى لا يخرج اللبن إلّا بعد المصّ تدريجا ـ فإنّ الطفل لا يطيق منه إلّا القليل ـ ثمّ كيف هداه إلى الامتصاص حتّى يستخرج من المضيق اللبن الكثير عند شدّة الجوع به.
    ثمّ انظر إلى عطفه ورأفته كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين ، لأنّه في الحولين لا يتغذّى إلّا باللبن ، فيستغنى عن السنّ ، وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ، ويحتاج إلى طعام غليظ ، ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن ؛ فأنبت له الأسنان عند الحاجة ، لا قبلها ولا بعدها.
    فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة من اللثات الليّنة ، ثمّ
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الفصل السابق : 4 / 637 ـ 638.

    حنّن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزا عن تدبير نفسه ؛
    ثمّ انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجا حتّى بلغ وتكامل ، فصار مراهقا ، ثمّ شابّا ، ثمّ كهلا ، ثمّ شيخا ـ إمّا كفورا أو شكورا ، مطيعا أو عاصيا ، مؤمنا أو كافرا ـ تصديقا لقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [76 / 1 ـ 3].
    فانظر إلى اللطف والكرم ثمّ إلى القدرة والحكمة ، تبهرك عجائب الحضرة الربوبيّة ؛ والعجب ـ كلّ العجب ـ لمن (1) يرى خطّا عجبا ، أو نقشا حسنا على حائط ، فيستحسنه ، فيصرف جميع همّه إلى التفكّر في الخطّاط والنقّاش وأنّه كيف خطّه ونقّشه ، وكيف اقتدر عليه ؛ ولا يزال يستعظمه ويقول : «ما أحذقه ، وما أجمل صنعته وأحسن قدرته» ، ثمّ ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ويغفل عن صانعه ومصوّره ، فلا تدهشه عظمته ولا يحيّره جلاله وحكمته.
    فهذه نبذة من عجائب بدنك التي لا يمكن استقصاؤها ، وهي أقرب مجال تفكّرك وأجلى شاهد على عظمة خالقك ؛ ولو ذهبنا نصف ما في آحاد الأعضاء من العجائب والآيات لانقضت فيه الأعمار ؛ وما فيما لا تدركه الحواسّ ـ من الروح والمعاني والصفات الإنسانيّة ـ أكثر وأعظم ؛ وسنشير إلى بعضها فيما بعد إن شاء الله.
    __________________
    (1) ـ المصدر : ممن.

    فتبارك (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [32 / 7 ـ 9].
    فصل [4]
    [رواية في بدء خلق الإنسان]
    روي في الكافي بأسناده الصحيح (1) عن مولانا الباقر عليه‌السلام ـ قال : ـ «إذا أراد الله أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليه الميثاق في صلب آدم أو ما يبدو له فيه (2) ويجعلها في الرحم ، حرّك الرجل للجماع ، وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك ، حتّى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري ؛ فتفتح الرحم بابها ، فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردّد فيه أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة أربعين يوما ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما ، ثمّ تصير لحما ثمّ تجري فيه عروق مشتبكة.
    ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين ، يخلقان في الأرحام ما يشاء ، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة ، فيصلان إلى الرحم ، وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء.
    فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقّان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن ـ بإذن الله تعالى ـ.
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب العقيقة ، باب بدء خلق الإنسان ... : 6 / 13. عنه البحار : 60 / 344.
    (2) ـ أي يبدو له في خلقه فلا يتم خلقه بأن يجعله سقطا (الوافي).

    ثمّ يوحي الله إلى الملكين : «اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري ، واشترطا لي البداء فيما تكتبان».
    فيقولان : «يا ربّ ـ ما نكتب»؟
    ـ قال : ـ فيوحي الله إليهما : «أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمّه». فيرفعان رءوسهما ، فإذا اللوح يقرع جبهة أمّه ، فينظران فيه ، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه ـ شقيّا أو سعيدا ـ وجميع شأنه.
    ـ قال : ـ فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ، ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ، ثمّ يقيمانه قائما في بطن أمّه.
    ـ قال : ـ وربّما عتى فانقلب ، ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد.
    فإذا بلغ أوان خروج الولد ـ تامّا أو غير تامّ ـ أوحى الله إلى الرحم : «أن افتحي بابك ، حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري ، فقد بلغ أوان خروجه».
    ـ قال : ـ ففتح الرحم باب الولد ، فيبعث الله إليه ملكا يقال له : «زاجر» ، فيزجره زجرة ، فيفزع منها الولد فينقلب ، فيصير رجلاه فوق رأسه ، ورأسه في أسفل البطن ، ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج.
    ـ قال : ـ فإذا احتبس ، زجره الملك زجرة اخرى ، فيفزع منها ، فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة.

    فصل [5]
    [لست هذا البدن المحسوس]
    ومن آياته العظام نفسك وحقيقتك ؛ فارجع البصر إلى نفسك كرّتين ، فإنّك لست هذا البدن المحسوس ، بل لك حقيقة اخرى غير هذا من عالم الملكوت ، وأنت في الحقيقة تلك الحقيقة ـ لا هذا البدن ـ فاعرف نفسك ، تعرف ربّك ؛ فإنّ : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (1) و «أعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربّه» ـ كما ورد في الحديث (2) ـ
    فاعلم أنّ الله ـ سبحانه ـ خلق في إهابك حيوانا آخر من عالم الغيب ، هو في الحقيقة يسمع ويرى ويشمّ ويذوق ويلمس ويبطش ويمشي ، ولهذا تفعل هذه الأفاعيل وإن ركدت هذه القوى والحواسّ
    __________________
    (1) ـ مصباح الشريعة ، الباب الثاني والستّون (ص 41) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. عنه البحار : 2 / 32 ، ح 22. وجاء في رسالة «الباب المفتوح إلى ما قبل في النفس والروح» التي نقلها المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار (السماء والعالم : باب حقيقة النفس والروح : 61 / 91) : «وقد قال العالم الربّاني الذي أوجب الله حقّه : من عرف نفسه فقد عرف ربّه». ونسبه الآمدي إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام : الغرر والدرر : الرقم 7946. وكذا ابن أبي الحديد : الحكم التي أوردها في آخر شرحه والتقطها من كلماته عليه‌السلام الغير الموجودة في نهج البلاغة ، رقم 339 : 20 / 292. وجاء أيضا في صحيفة إدريس النبي عليه‌السلام (التي أوردها المجلسي ـ قدس‌سره ـ في البحار بترجمة ابن متّويه عن السريانية : خاتمة كتاب الذكر والدعاء : 95 / 456) : «الصحيفة الرابعة ، صحيفة المعرفة : من عرف الخلق عرف الخالق ، ومن عرف الرزق عرف الرازق ، ومن عرف نفسه فقد عرف ربّه ...». وأما في كتب أهل العرفان فقد اشتهر نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : جامع الأسرار : 270 و 308 و 315.
    (2) ـ جامع الأخبار : الفصل الأول : 35. روضة الواعظين : 1 / 25.

    البدنيّة منك ـ كما في النوم والإغماء والسكر ـ فلك في ذاتك هذه المشاعر والقوى والآلات من غير عوز ، إلّا أنّها ليست ثابتة في عالم الحسّ والشهادة ؛ وهذه المشاعر الظاهرة بمنزلة ظلال لتلك ، وكذلك هذا البدن الظاهر بمنزلة قشر وغلاف وقالب لذلك البدن ، وإنّما حياة هذه كلّها بذاك ، وهو الحيوان بالذات. وإليه الإشارة بقوله عزوجل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [23 / 14]. وقال في حقّ آدم : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [15 / 29]. وفي حقّ عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [4 / 171]. وهذه الإضافة تؤذن على شرف الروح ، وكونها عريّة عن عالم الأجرام.
    وقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [89 / 27 ـ 28] والرجوع يدلّ على السابقة. وقال عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) [3 / 169 ـ 170] وذلك لبقاء تلك الحقيقة بعد الموت ، إذ لا سبيل للموت إليها بوجه.
    * * *
    روى الشيخ الطبرسي ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الاحتجاج (1) ، عن مولانا الصادق عليه‌السلام إنّه قال : «الروح لا توصف بثقل ولا خفّة. وهي جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا ... فهي بمنزلة الريح في الزقّ فإذا نفخت فيه امتلأ الزقّ منها ، فلا يزيد في وزن الزقّ ولوجها فيه ، ولا ينقصه خروجها منه. وكذلك الروح : ليس لها وزن ولا ثقل ...»
    __________________
    (1) ـ المنقول هنا ملتقات من أجوبته عليه‌السلام عن سؤالات الزنديق الذي سأله عن مسائل كثيرة ، الاحتجاج : 2 / 245.

    قيل (1) : «أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق»؟ قال : «بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفني ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة نسيت فيها الخلق (2) ، وذلك بين النفختين».
    وقال أيضا (3) : «إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا ...» ـ الحديث ـ.
    وروي أنّه قال (4) : «وبها يؤمر البدن وينهى ، ويثاب ويعاقب ، وقد تفارقه ويلبسها الله ـ سبحانه ـ غيره كما تقتضيه حكمته».
    قوله عليه‌السلام «وقد تفارقه ويلبسها الله غيره» صريح في أنّها مجرّدة عن البدن مستقلّة ، وأن ليس المراد بها الروح البخاريّة ؛ وأمّا إطلاق الجسم عليها : فلأنّ نشأة الملكوت ـ أيضا ـ جسمانيّة من حيث الصورة ، وإن كانت روحانيّة من حيث المعنى ، وغير مدركة بهذه الحواسّ الظاهرة.
    روى محمّد بن الحسن الصفّار في بصائر الدرجات (5) بإسناده عنه
    __________________
    (1) ـ الاحتجاج : 2 / 245.
    (2) ـ المصدر : يسبت فيها الخلق.
    (3) ـ الاحتجاج : 2 / 246.
    (4) ـ لم أعثر على مستند الرواية ، وقد أشار إليه المجلسي في البحار (61 / 36) ولكنه أيضا محكي قول المصنف كما يظهر مما أورده بعده : «وقال بعضهم قوله عليه‌السلام وقد تفارقه ... صريح في أنها ...» وذلك نص كلام المصنف هنا.
    (5) ـ بصائر الدرجات : الجزء 9 ، باب (18) الروح التي قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ...) : 463 ، ح 12. عنه البحار : 61 / 40 ، ح 11.

    عليه‌السلام ـ أنّه قال : ـ «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا اخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به».
    ـ قال : ـ «إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله ، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به».
    وممّا يدلّ على ذلك دلالة واضحة أنّ بدن الإنسان وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان ، لعكوف الحرارة الغريزيّة على التحليل والتنقيص ، وكذا غيرها من الأسباب ـ كالأمراض الحارّة ، والمسهلات ـ وذاته منذ أوّل الصبى باقية ؛ فهو هو لا ببدنه.
    ومن هذا يظهر أنّ هذيّة البدن ـ من حيث هو بدن لهذه النفس ـ إنّما هي بهذه النفس ، وإن تبدّل تركيبه ؛ وكذا هذيّة الأعضاء ـ كهذه اليد ، وهذا الإصبع ـ إذ كلّها متحفّظ الهويّة تبعا لهويّة النفس.
    وإلى مثل هذا اشير فيما روي عن مولانا الصادق عليه‌السلام (1) في قوله سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [4 / 56] حيث سئل : «ما ذنب الغير»؟ قال : «ويحك ـ هي هي ، وهي غيرها» (2) ـ فافهم واغتنم فسينفعك.
    ومن الشواهد أنّك ـ مع شواغلك ـ إذا فكرت في آلاء الله أو
    __________________
    (1) ـ أمالي الطوسي : المجلس الرابع والعشرون ، 581 ، ح 9. عنه البحار : 7 / 39 ، ح 7. و 10 / 219 ، ح 19.
    الاحتجاج : احتجاج الإمام الصادق عليه‌السلام : 2 / 256. عنه البحار : 7 / 38 ، ح 6.
    (2) ـ السائل ابن أبي العوجاء وتمام الحديث : قال : «أعقلني هذا القول». فقال عليه‌السلام : «أرأيت لو أنّ رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ، ثمّ صبّ عليها الماء وجبلها ، ثمّ ردّها إلى هيئتها الاولى ، ألم تكن هي هي ، وهي غيرها»؟ قال : «بلى ـ أمتع الله بك».

    سمعت آية تشير إلى الامور الإلهيّة وأحوال المآب ، انظر كيف يقشعرّ جلدك ، ويقف شعرك ويهون عليك حينئذ رفض البدن وقواه ، وهوسه وهواه ؛ وذلك لأجل نور قذف في قلبك من الجنبة العالية ، وانعكس أثره إلى ظاهر جلدك من جهة الباطن ـ على عكس ما ينفعل الداخل من الخارج ـ فباطنك غير ظاهرك.
    وكذلك إذا أردت إخلاص نيّة في التقرّب إلى الله ـ سبحانه ـ لم يتيسّر لك ذلك إلّا بمجاهدة تامّة ؛ فالجوهر النطقي منك من عالم آخر وقع غريبا في الجسد بيد الشهوة والغضب والوهم وغيرها.
    وتمام الكلام في النفس يأتي فيما بعد إن شاء الله.
    فصل (1) [6]
    [عجائب خلق الأرض]
    إذا نظرت في بدنك ونفسك وعرفت نبذا من عجائبها ، فانظر إلى الأرض التي هي مقرّك ، ثمّ في أنهارها وبحارها وجبالها ومعادنها ونباتها وحيوانها ، ثمّ ارتفع منها إلى السماوات والملكوت :
    ومن آياته ـ عزوجل ـ أن خلق (الْأَرْضَ فِراشاً) [2 / 22] و (مِهاداً) [78 / 6] ، و (سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) [20 / 53] وجعلها ذلولا لتمشوا في مناكبها (2).
    __________________
    (1) ـ راجع إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 638.
    (2) ـ اقتباس من (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [67 / 15].

    ثمّ وسّع في أكنافها حتّى عجز الآدميّون عن بلوغ جميع جوانبها ـ وإن طالت أعمارهم وكثر تطوافهم ـ وجعلها وقورا لا تتحرّك ، وأرسى فيها الجبال أوتادا لها تمنعها من أن تميد : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [78 / 5 ـ 6] (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ... هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [31 / 10 ـ 11].
    فظهرها مقرّ للأحياء ، وبطنها للأموات : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً* أَحْياءً وَأَمْواتاً) [77 / 25].
    قال مولانا زين العابدين عليه‌السلام (1) في قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [2 / 22] : «إنّه جعلها ملائمة لطبائعكم ، موافقة لأجسادكم ؛ لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين ـ كالماء ـ فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ؛ ولكنّه ـ عزوجل ـ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون عليها ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها ما ينقاد به لدوركم وقبوركم ، وكثير من منافعكم» ـ رواه في التوحيد.
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب أنّ الله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم : 404 ، ح 11. عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : باب ما جاء عنه عليه‌السلام من الأخبار في التوحيد ، 1 / 137 ، ح 36.
    وقد ورد مثله في التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام (142 ، تفسير الآية 2 / 22) والاحتجاج (احتجاج الإمام العسكري عليه‌السلام : 2 / 506) عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ؛ البحار عن العيون والاحتجاج والتفسير : 3 / 35 ، ح 10. و 60 / 82 ، ح 9. ولعل الأظهر اشتباه أبي محمد العسكري عليه‌السلام بأبي محمد الباقر عليهما‌السلام.

    «فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا ، وبسطها لهم فراشا ، فوق بحر لجّيّ راكد لا يجري ، وقائم لا يسري ، تكركره (1) الرياح العواصف ، وتمخضه الغمام الذوارف» (2).
    «أمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها».
    ـ كذا في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (3).
    فصل (4) [7]
    [آيات الله تعالى في خلق الجبال والنبات]
    أما تأمّلت ـ يا أخي ـ إلى آيات عظمته وآثار رحمته في الجبال الراسيات ، والشوامخ الصمّ الصلاب ؛ كيف اودعت المياه تحتها ، ففجرت العيون واسيلت الأنهار تجري على وجهها ، وإنّما أخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا عذبا صافيا زلالا ، وجعل به كلّ شيء حيّا ، فأخرج به فنون الأشجار والنبات ـ من حبّ
    __________________
    (1) ـ تكركره : تذهب به وتعود بكركرة.
    (2) ـ نهج البلاغة : من الخطبة 211 التي أولها : «وكان من اقتدار جبروته ...» والذوارف : جمع ذارفة من «ذرف الدمع» إذا سال.
    (3) ـ نهج البلاغة ، من فقرات الخطبة : 186. التي أولها : ما وحّده من كيّفه ...
    (4) ـ احياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 638.

    وعنب وقضب وزيتون ونخل ورمّان ، وفواكه كثيرة لا تحصى ـ مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والصفات والأراييح ، ففضّل بعضها على بعض في الأكل يسقى جميعا بماء واحد ، ويخرج من أرض واحدة.
    ثمّ [انظر] إلى أراضي البوادي ، وفتّش ظاهرها وباطنها ، فترى بها ترابا متشابها ، فإذا أنزل (عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [22 / 5] ، ألوانا مختلفة ونباتا متشابها وغير متشابه ، لكلّ واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر.
    فانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها وكثرة أشكالها ، ثمّ اختلاف طبائع النبات وكثرة منافعها ، وكيف أودع العقاقير المنافع الغريبة.
    فهذا النبات يغذّي ، وهذا يقوّي ، وهذا يحيي ، وهذا يقتل ، وهذا يبرد ، وهذا يسخّن ، وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق ، وهذا يستحيل إلى الصفراء ، وهذا يقمع البلغم والسوداء ، وهذا يستحيل إليهما ، وهذا يصفّي الدم ، وهذا يفرّح ، وهذا ينوّم ، وهذا يقوي ، وهذا يضعّف ؛ فلم تنبت من الأرض ورقة ولا نبتة إلّا وفيها منافع لا يقوي البشر على الوقوف على كنهها.
    وكلّ واحد منها يحتاج الفلّاح في تربيتها إلى عمل مخصوص ؛ فالنخيل يؤبر ، والكرم يقطع ، والزرع ينقى منه الحشيش ؛ وبعضها يستنبت ببثّ البذر في الأرض ، وبعضها يغرس كالأغصان ، وبعضها يركّب في الشجر.
    ثمّ لمّا [لم] يجد الجرم الصلب غذاء يتشبّه به دفعة بلا تدريج ، انظر كيف خلق الله في الأشجار الصلبة لبّا يشبه المخّ في العظام ، عناية

    من الله تعالى في حقّها. وأمّا الأشجار الضعيفة القوام المتخلخلة ، فهي بمعزل عن ذلك لعدم حاجتها إليه ؛ وما كان الغرض فيه أن يعظم حجمه ويطول قدس‌سره في مدّة قصيرة امتنع أن يكون صلبا ، لأنّ الصلب يحتاج إلى مادّة عاصية وقوّة طابخة ، والتصرّف في مثلها يحتاج إلى مدّة طويلة.
    ولو ذهبنا نذكر أحوال النباتات وصفاتها ، واختلاف أجناسها ومنافعها وعجائبها ، لأنقضت الأيام في وصفها ؛ فيكفيك من كلّ جنس نبذة يسيرة ، تدلّك على عظمة الله ولطيف صنعه ، وكمال عدله وجوده.
    فسبحان من (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [6 / 99].
    (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [13 / 4].

    فصل (1) [8]
    [الحكم والآيات في خلق المعادن]
    ألم تر إلى آياته في أصناف الجواهر المودّعة تحت الجبال ، والمعادن الحاصلة من الأرض ، ففي الأرض قطع متجاورات مختلفة :
    فانظر إلى الجبال ، كيف يخرج منها الجواهر النفيسة ـ من الذهب والفضّة والفيروزج واللعل وغيرها ـ بعضها منطبعة تحت المطارق ـ كالذهب والنحاس والرصاص والحديد ـ وبعضها لا ينطبع ـ كالفيروزج واللعل ـ وكيف هدى الله ـ عزوجل ـ الناس إلى استخراجها وتنقيتها واتّخاذ الأواني والآلات والنقود والحلى منها؟
    ثمّ انظر إلى معادن الأرض ـ من النفط والكبريت والقار وغيرها ـ وأقلّها الملح ، ولا يحتاج إليه إلّا لتطييب الطعام ، ولو خلت عنه بلدة لتسارع الهلاك عليها. فانظر إلى رحمة الله ، كيف خلق بعض الأراضي سبخة بجوهرها ، بحيث يجتمع فيها الماء الصافي من المطر ، فيصير ملحا بحيث لا يمكن تناول مثقال منه ، ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته ، فيتهنّأ عيشك. وما من جماد وحيوان ونبات إلّا وفيه حكمة وحكم من هذا الجنس ، ما خلق شيء منها ضائعا ولا هزلا ، بل خلق الكلّ بالحقّ ، وكما ينبغي ، وعلى ما ينبغي ، وكما يليق بجلاله وكرمه ولطفه ، ولذلك قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [44 / 38 ـ 39].
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 639.

    فصل (1) [9]
    [الحكم والآيات في خلق الحيوانات]
    أو ما تدبّرت في آيات حكمته وآثار رحمته في أصناف الحيوانات وانقسامها إلى ما يطير وإلى ما يمشي ؛ وانقسام ما يمشي إلى ما يمشي على بطنه ، وما يمشي على رجلين ، وما يمشي على أربع ، وعلى عشر ، وعلى مائة ؛ واختلافها في الصور والأشكال والأخلاق والطبائع والمنافع ، وفي إعداد الله عزوجل بلطيف صنعه وبلاغ حكمته ، لكلّ منها آلات وقوى لخاص أفاعيلها وحاجات تناسبها ، وفيها من العجائب ما لا يشكّ معها في عظمة خالقها وقدرة مقدّرها وحكمة مصوّرها ، ولا يمكن أن يستقصى ذلك.
    وكيف ، ولو أردنا أن نذكر عجائب البقّة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت ـ وهي من صغار الحيوانات ـ في بنائها بيتها ، وفي جمعها غذائها ، وفي إلفها لزوجها ، وفي ادّخارها لنفسها ، وفي حذقها في هندسة بيتها ، وفي هدايتها إلى حاجاتها : لم نقدر.
    فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر ، فيطلب أوّلا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونها ، حتّى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ، ثمّ يبتدئ فيلقي اللعاب ـ الذي هو خيطه ـ على جانب ليلتصق به ، فيعدو إلى الجانب الآخر ، فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثمّ يحكم كذلك ـ ثانيا وثالثا ـ ويجعل بعد ما بينهما متناسبا ـ تناسبا
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 640.

    هندسيّا ـ حتّى إذا أحكم معاقد القمط ورتّب الخيوط كاللحمة فيشتغل بالتسدية (1) ، فيلتصق السدي إلى اللحمة ، ويحكم العقد على موضع التقاء السدي باللحمة ، ويرعى في جميع ذلك تناسب الهندسة ، ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب ، ويقعد في زاوية مترصّدا لوقوع الصيد في الشبكة ؛ فإذا وقع فيها بادر إلى أخذه وأكله ، فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ، ووصل بين طرفي الزاوية بخيطه ، ثمّ علّق نفسه منها بخيط آخر ، وبقي منكّسا في الهواء ينتظر ذبابة تطير ، فاذا طارت ذبابة رمى بنفسه إليها ، فأخذها وأحكم خيطه على رجلها وأحكمها ثمّ أكلها.
    وما من حيوان ـ صغير ولا كبير ـ إلّا وفيه من هذه العجائب ما لا يحصى ؛ أفترى أنّ شيئا منها تعلّم مثل هذه الصنائع من نفسه ، أو تكوّن بنفسه ، أو كوّنه آدميّ ، أو علّمه ، أو لا هادي له ولا معلّم ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) [52 / 35].
    أيشكّ ذو بصيرة في أنّه مسكين عاجز ضعيف ؛ بل الفيل العظيم شخصه ، الظاهر قوّته ، عاجز عن أمر نفسه ؛ فكيف بهذا الحيوان الضعيف.! أفلا يشهد هو ـ بنفسه وشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته ـ لفاطره الحكيم ، وخالقه القادر العليم.
    فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبّر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ، ما تتحيّر فيه الألباب والعقول فضلا
    __________________
    (1) ـ القمط في الأصل حبل من ليف أو خوص تشد به الأخصاص. اللحمة في النسيج ما يمدّ عرضا ، وهو خلاف السدي وهو ما يمدّ طولا. يقال لهما في الفارسية : تاروپود.

    عن ساير الحيوانات. وهذا الباب أيضا لا حصر له ، فإنّ الحيوانات وأشكالها وأخلاقها وطباعها غير محصورة ، وإنّما سقط تعجّب القلوب منها لانسها بكثرة المشاهدة.
    نعم ، إذا رأى حيوانا غريبا ـ ولو دودا ـ تجدّد تعجّبه وقال : «سبحان الله ما أعجبه» ، والإنسان أعجب الحيوانات ، وليس يتعجّب من نفسه.
    بل لو نظر إلى الأنعام التي ألفها ، ونظر إلى أشكالها وصورها ، ثمّ إلى منافعها وفوائدها ـ من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها الّتي جعلها لباسا لخلقه وأكنانا لهم في ظعنهم وإقامتهم ، وآنية لأشربتهم ، وأوعية لأغذيتهم ، وصوانا لأموالهم (1) ؛ وجعل ألبانها ولحومها أغذية لهم ؛ ثمّ جعل بعضها زينة للركوب ، وبعضها حاملة للأثقال قاطعة للبراري والمفازات ، وإلى بلاد لم يكونوا بالغيه إلّا بشقّ الأنفس ـ لأكثر الناظر التعجّب من حكمة خالقها ومصوّرها ، فإنّه ما خلقها إلّا بعلم محيط بجميع منافعها ، سابق على خلقه إيّاها.
    * * *
    وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) : «ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ، وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به ومسلّمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته ، وما ذرأ من مختلف صور
    __________________
    (1) ـ المصدر : لأقدامهم.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 165. عنه البحار : 65 / 30 ، ح 1.

    الأطيار ، التي أسكنها أخاديد (1) الأرض وخروق فجاجها (2) ، ورواسي أعلامها (3) ـ من ذوات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة مصرّفة في زمام التسخير ، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسخ (4) ، والفضاء المنفرج ـ كوّنها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة (5) ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوفا (6) ، وجعله يدفّ دفيفا (7) ، ونسفها (Cool على اختلافها في الأصابيع بلطيف قدرته ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون (9) لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، و [منها] مغموس في لون صبغ ، قد طوّق بخلاف ما صبغ فيه (10).
    ومن أعجبها خلقا الطاوس ، الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد ...»
    ـ الحديث ـ وتمامه مذكور في نهج البلاغة.
    __________________
    (1) ـ الأخاديد : جمع اخدود ؛ وهو الشقّ في الأرض.
    (2) ـ الفجاج : جمع فجّ. وهو الطريق الواسع ؛ وقد يستعمل في متّسع الفلاة.
    (3) ـ الأعلام : جمع علم ؛ وهو الجبل.
    (4) ـ رفرف الطائر : إذا بسط جناحيه.
    والمخارق : جمع مخرق ؛ وهي الفلاة ؛ وشبّه الجوّ بالفلاة للسعة فيها.
    (5) ـ الحقاق : جمع حقّ ؛ وهو مجتمع المفصلين. واحتجاب المفاصل استتارها باللحم والجلد.
    (6) ـ العبالة : الضخامة. ويسمو : يرتفع. وخفوفا : سرعة وخفة.
    (7) ـ دفيف الطائر : مروره فويق الأرض ؛ أو أن يحرك جناحيه ورجلاه في الأرض.
    (Cool ـ نسفها : زينها.
    (9) ـ القالب : مثال تفرغ فيه الجواهر لتأتي على قدره. والطائر ذو اللون الواحد كأنما افرغ في قالب من اللون.
    (10) ـ أي جميع بدنه بلون واحد إلا لون عنقه ، فإنه مخالف لسائر بدنه ، كأنه طوق صيغ لحليته.

    فصل (1) [10]
    وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له يصف فيها عجيب خلق أصناف الحيوان (2) : «ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والأبصار (3) مدخولة ، ألا تنظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر (4).
    انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة تركيبها (5) ـ لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ـ كيف دبّت على أرضها ، وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى حجرها ، وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها ، وفي وردها لصدرها (6) ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها (7) ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس (Cool ؛ ولو فكّرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 352.
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 185 أولها : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ...» عنه البحار : 64 / 39 ، ح 19. وأورده الطبرسي ـ قدس‌سره ـ في الاحتجاج : احتجاجه عليه‌السلام فيما يتعلق بتوحيد الله .... : 1 / 481 وفيه فروق. عنه البحار : 3 / 26 ، ح 1.
    وأورد الزمخشري بعض فقراتها في ربيع الأبرار : 4 / 481 و 459.
    (3) ـ نهج البلاغة : البصائر.
    (4) ـ البشر : جمع بشرة ، ظاهر الجلد.
    (5) ـ نهج البلاغة : لطافة هيئتها.
    (6) ـ الصدر ـ محركا ـ : الرجوع بعد الورود.
    (7) ـ بكسر الواو أو فتحها : أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
    (Cool ـ الصفا ـ جمع الصفاة ـ : الحجر الصلد الضخم. الجامس : الجامد.

    وما في الجوف من شراسيف بطنها (1) ، وما في الرأس من عينها واذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ؛ فتعالى الله الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر.
    ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ، ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة ، لدقيق تفصيل كل شيء ، وغامض اختلاف كلّ شيء (2) ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقويّ والضعيف ـ في خلقه ـ إلّا سواء.
    وكذلك السماء والهواء والرياح والماء ؛ فانظر إلى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال (3) ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ؛
    فالويل لمن جحد المقدّر وأنكر المدبّر.
    وزعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان.
    وإن شئت قلت في الجرادة ؛ إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين(4) ، وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفم
    __________________
    (1) ـ الشراسيف : أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن.
    (2) ـ المصدر : كل حي.
    (3) ـ القلال : جمع قلّة. وهي رأس الجبل.
    (4) ـ أي مضيئتين ، كأنّ كلا منهما ليلة قمراء أضاءها القمر.

    السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض (1) ، يرهبها الزرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتّى ترد الحرث في نزواتها (2) ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة.
    فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفّر له (3) خدّا ووجها ، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا ، ويعطي له القياد رهبة وخوفا ؛ فالطير مسخّرة لأمره ؛ أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ؛ قدّر أقواتها وأحصى أجناسها.
    فهذا غراب وهذا عقاب ، وهذا حمام وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال ، فاهطل ديمها (4) ، وعدّد قسمها (5) ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها.
    __________________
    (1) ـ المنجل ـ كمنبر ـ آلة من حديد معروفة يقضب بها الزرع ؛ قالوا : أراد عليه‌السلام بهما هنا رجليها ، لاعوجاجهما وخشونتهما.
    (2) ـ نزواتها : أي وثباتها.
    (3) ـ نهج البلاغة : يعنو له.
    (4) ـ الهطل ـ بالفتح ـ تتابع المطر والدمع.
    الديم ـ كالهمم ـ جمع ديمة ؛ وهي مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق.
    (5) ـ تعديد القسم : إحصاء ما قدر منها لكل بقعة.

    فصل (1) [21]
    [حكم وجود الآلام وأكل الحيوانات جثث الموتى]
    ومن عناية الله ـ عزوجل ـ ولطفه أن جعل في جبلّة الحيوانات الآلام والأوجاع والجوع والعطش ، حثّا لنفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها ، إذ كانت الأجساد لا تقدر على جرّ منفعة ودفع مضرّة ، فلو لا ذلك لتهاونت النفوس بالأجساد ، وأسلمتها إلى المهالك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها ، ولمّا علم أنّه لا يدوم بقاؤها أبد الآبدين ، جعل لكلّ منها عمرا طبيعيّا أكثر ما يمكن ، ثمّ يجيئه الموت الطبيعي ـ شاء أم أبى ـ.
    وقد علم الله أنّه يموت كلّ يوم منها ـ في البرّ والبحر ، والسهل والجبل ـ عدد لا يحصيه إلّا هو ، فجعل بواجب حكمته جثث جيف موتاها غذاء لأحيائها ، ومادّة لبقائها ، لئلّا يضيع شيء ممّا خلق بلا نفع وفائدة ، فكان في هذا منفعة للأحياء ، ولم يكن فيه ضرر على الموتى ؛ وهذا أحد وجوه الحكمة في أكل بعض الحيوانات بعضا.
    ومن جملة تلك الوجوه : أنّه لو لم يكن الأحياء تأكل جثث الموتى لبقيت تلك الجثث واجتمع منها على مرّ الأيام والدهور ما كاد يمتلئ بها وجه الأرض وقعر البحار ، وتفسد المياه وريحها ؛ فتصير تلك سبب هلاك الأحياء.
    فالغرض الأصلي من ذلك إنّما هو جلب المنفعة ودفع المضرّة ؛ وإن
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 352.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:41 pm

    كان ينال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل والقبض ، فإنّ ذلك إنّما هو بالعرض.
    ولنقتصر في هذا النمط من الكلام في حيوان البرّ على ذلك فإنّه بحر لا ساحل له ، إذ بدائع حكم الله ـ سبحانه ـ وعناياته في خلقه أكثر من أن تصل إلى صفته عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين.
    فصل (1) [12]
    [الآيات في خلق البحار والماء]
    أو لم تنظر إلى آثار عظمة الله ـ عزوجل ـ وآياته في خلق البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض ، التي هي قطع من البحر الأخضر (2) المحيط بجميع الأرض ، حتّى أنّ جميع المكشوف من البوادي والجبال بالإضافة إلى الماء ، جزيرة صغيرة في بحر عظيم ؛ وبقيّة الأرض مستورة بالماء.
    قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (3) : «الأرض في البحر كالإصطبل في الأرض» فأنسب إصطبلا إلى جميع الأرض.
    واعلم أنّ الأرض بالإضافة إلى البحر مثله ، قد شاهدت عجائب
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 641.
    (2) ـ الإحياء : البحر الأعظم.
    (3) ـ أورده الغزالي في الإحياء (4 / 460 و 641). وقال العراقي في تخريجه (المغني : ذيل الإحياء من الطبعة القديمة : 4 / 318 و 4 / 442) : «لم أجد له أصلا».

    الأرض والتي فيها ، فتأمّل عجائب البحر ، فإنّ عجائب ما فيها (1) ـ من الحيوان والجواهر ـ أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض ، كما أنّ سعته أضعاف سعته [ا] ؛ ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما يرى ظهورها في البحر فيظنّ أنّها جزيرة ، فينزل الركبان عليها ، فربما يحسّ بالنيران إذا استعملت فيتحرّك ، فيعلم أنّها حيوان (2) وما [من] صنف من أصناف حيوان البرّ ـ من فرس وطير وبقر وإنسان (3) ـ إلّا وفي البحر أمثالها وأصنافها ، وفيه أجناس لا يعهد لها نظير في البرّ ، قد ذكرت أوصافها في مجلّدات ، وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه.
    ثمّ انظر كيف خلق اللؤلؤ (4) ودوّرها في صدفه تحت الماء ؛ وانظر كيف أنبتت المرجان من صمّ الصخور تحت الماء ـ وإنّما هو نبات على هيئة شجرة تنبت من الحجر ـ.
    ثمّ تأمّل ما عداه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر ويستخرج منها ، كما قال عزوجل : (هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
    __________________
    (1) ـ كذا. ولكن في الإحياء والمحجة البيضاء : فيه.
    (2) ـ الغرض ذكر عظم الحيوانات الموجودة في البحار بالنسبة إلى موجودات البرّ ، ولا شك في صحّة ذلك ، فلا يقدح فيه ما جاء في مطاوي الكلام شيئا من هذه المسائل التي ربما كانت مذكورة في القصص والحكايات القديمة أمثال «ألف ليلة وليلة» الواضحة البطلان.
    (3) ـ الإنسان البحريّ ووجودها أيضا من قبيل ما ذكرنا من الأباطيل المذكورة في القصص والأساطير.
    (4) ـ في هامش النسخة :
    زابر آورد قطره اى سوىِ يم
    ز صلب افكند نطفه اى در شكم

    از آن قطره لؤلؤى لالا كند
    وزين صورتى سرو بالا كند



    لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [16 / 14].
    (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) [42 / 32 ـ 33].
    فانظر إلى عجائب السفن ، كيف أمسكها الله ـ عزوجل ـ على وجه الماء وسيّر فيها التجّار وطلّاب الأموال وسخّرها لهم لتحمل أثقالهم ، ثمّ أرسل الرياح لتسوقها ، ثمّ عرّف الملّاحين موارد الرياح ومهابّها ومواقيتها.
    ولا يستقصى ـ على الجملة ـ عجائب صنع الله في البحر في مجلّدات.
    وأعجب من ذلك كلّه ما هو أظهر من كلّ ظاهر ، وهو كيفيّة قطرة الماء ؛ وهو جسم رقيق لطيف سيّال مشف متّصل الأجزاء كأنّه شيء واحد ، لطيف التركيب ، سريع القبول للتقطيع ، كأنّه منفصل مسخّر للتصرّف ، وقابل للانفصال والاتّصال ، به حيات كلّ ما على وجه الأرض ـ من حيوان ونبات ـ فلو احتاج العبد إلى شربة ومنع ، لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها ـ لو ملك ذلك ـ ثمّ ـ إذا شربها ـ لو منع من اخراجها ، لبذل جميع خزائن الأرض في إخراجها.

    فصل (1) [13]
    [الآيات في خلق الهواء والسحاب]
    أو ما تشاهد الهواء اللطيف؟ المحبوس بين مقعّر السماء ومحدّب الأرض ، يدرك بحسّ اللمس عند هبوب الريح جسمه ، ولا يرى بالعين شخصه ، وجملته مثل البحر الواحد ، والطيور مختلفة في جوّ السماء ، سبّاحة فيها بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء ؛ قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [67 / 19]. (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [16 / 79].
    أو ما ترى كيف تضطرب جوانب الهواء وأمواجه عند هبوب الرياح ، كما تضطرب أمواج البحر ، فإذا حرّك الله الهواء وجعله ريحا هابّة ؛ فإن شاء جعله بشرى بين يدي الرحمة ، كما قال : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [15 / 22] فيصل بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنباتات ، فيستعد للنماء.
    وإن شاء جعله عذابا على العصاة من خليقته ، كما قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [54 / 19 ـ 20].
    ثمّ انظر إلى لطف الهواء ، ثمّ شدّته وقوّته مهما ضبط في الماء ،
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 643.

    فالزقّ المنفوخ يتحامل عليه الرجل القويّ ليغمسه في الماء ، فيعجز عنه ؛ والحديد الصلب تضعه على وجه الماء (1) فيرسب فيه ، فانظر كيف ينقبض الهواء من الماء بقوّته مع لطافته.
    ولهذه الحكمة أمسك الله ـ عزوجل ـ السفن على وجه الماء ، وكذلك كلّ مجوّف فيه هواء لا يغوص في الماء ، لأنّ الهواء ينقبض عن الغوص في الماء ولا ينفصل عن السطح الداخل في السفينة ، فتبقى السفينة الثقيلة مع قوّتها وصلابتها معلّقة في الهواء اللطيف ، كالذي يقع في البئر فيتعلّق بذيل رجل قويّ يمتنع عن الهويّ في البئر ؛ والسفينة بمقعّرها تتشبّث بأذيال الهواء لتقوى على أن تمتنع عن الهويّ والغوص في الماء ، فسبحان من علّق المركب الثقيل من هواء لطيف من غير علاقة تشاهده ، وعقدة تشدّ.
    ثمّ انظر إلى عجائب الجوّ ، وما يظهر فيها من الغيوم والرعود والبروق والأمطار والثلوج والشهب والصواعق ، فهي عجائب ما بين السماء والأرض ؛ وقد أشار القرآن إلى جملته في قوله عزوجل : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [44 / 38].
    وأشار إلى تفصيله في مواضع شتّى حيث قال : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [2 / 164] وحيث تعرّض للرعد والبرق والسحاب والمطر.
    فإذا لم يكن لك حظّ من هذه الجملة إلّا أن ترى المطر بعينك ، وتسمع الرعد باذنك ، فالبهيمة تشاركك في هذه المعرفة ، فارتفع من
    __________________
    (1) ـ في النسخة : «على وجه الأرض». والصحيح ما أثبتناه مطابقا للمصدر.

    حضيض عالم البهائم إلى عالم الملأ الأعلى ، فقد فتحت عينك فأدركت ظاهرها ، فغمّض عينك الظاهرة ، وانظر ببصيرتك الباطنة ، لترى عجائب باطنها ، وغرائب أسرارها. وهذا ـ أيضا ـ باب يطول الفكر فيه ، ولا مطمع في استيفائه.
    فتأمّل السحاب الكثيف المظلم ، كيف تراه يجتمع في جوّ صاف لا كدورة فيه ، وكيف يخلقه الله ـ عزوجل ـ إذا شاء ومتى شاء؟ وهو مع رخاوته حامل للماء الثقيل ، وممسك في جوّ السماء ، إلى أن يأذن الله ـ عزوجل ـ في إرساله الماء ، وتقطيع القطرات ، كلّ قطرة بالقدر الذي أراده الله ـ عزوجل ـ وعلى الشكل الذي شاءه.
    فترى السحاب يرشّ الماء على الأرض ويرسله قطرات متفاصلة ، لا تدرك قطرة منها اخرى ، ولا تتصل واحدة باخرى ، بل تنزل كلّ واحدة في الطريق الذي ترسم فيه ، لا تعدل عنه ، ولا يتقدّم المتأخّر ، ولا يتأخّر المتقدّم ، حتّى يصيب الأرض قطرة قطرة.
    فلو اجتمع الأوّلون والآخرون على أن يخلقوا منها قطرة واحدة ، أو يعرفوا عدد ما ينزل منها في بلدة واحدة ، أو قرية واحدة لعجز حسّاب الجنّ والإنس عنه ، فلا يعلم عددها إلّا الذي أوجدها.
    ثمّ كلّ قطرة منها عيّنت لكلّ جزء من الأرض ، ولكلّ حيوان من طير ووحش ودود ، مكتوب على تلك القطرة بخطّ إلهيّ لا يدرك بالبصر الظاهر : «إنّه رزق الدود الفلاني ، الذي هو في ناحية الجبل الفلاني ، يصل إليه عند عطشه في الوقت الفلاني».
    ـ هذا ـ مع ما في انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف ، وفي تناثر الثلوج كالقطن المندوف ، ومن العجائب التي لا تحصى ؛ كلّ ذلك

    فضل من الجبّار القادر ، وقهر من الخالق القاهر ؛ ما لأحد فيه شركة ومدخل ، بل ليس للمؤمن من خلقه إلّا الاستكانة والخضوع تحت جلاله وعظمته ، ولا للعميان الجاحدين إلّا الجهل بكيفيّته ورجم الظنّ بسببه وعلّته. فسبحان من (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [13 / 13].
    فصل [14]
    [السماء وما فيها من الآيات]
    أو ما ترفع رأسك إلى السماء وتنظر فيها وفي تزيّنها بزينة الكواكب ، وتتدبّر في عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها وكيفيّة أشكالها المرتسمة من اجتماعها ، وفي دورانها وطلوعها وغروبها ، وسيّما في شمسها وقمرها اللذين جعلهما الله ـ سبحانه ـ ضياء ونورا (1) ، وجعل أعظمهما سراجا وهّاجا (2) ، وصيّرها رئيس السماء ، واهب الضياء ، فاعل النهار والليل بالحضور والغيبة ، وجاعل الفصول الأربعة بالذهاب والأوبة ـ بأمر الله سبحانه وطاعته ـ قرّة عين الدنيا ، وهادي سبيل العقبى ؛ ما ازدادت على الكواكب بمجرّد المقدار والقرب ، بل بالشدّة ، فإنّ ما يتراءى من الكواكب بالليل مقدار مجموعها أكبر من الشمس بما لا يتقايس ، ولا يضيء ضوؤها.
    فسبحان من صوّرها ونوّرها ، وفي عشق جماله دوّرها.
    __________________
    (1) ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [10 / 5].
    (2) ـ (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) [78 / 13].

    وفي الخمسة المتحيّرة في جمال بارئها ، المعبّر عنها في القرآن المجيد : ب (بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [81 / 15 ـ 16] وعن أعلاها ب (الطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [86 / 1 ـ 3] ثمّ في اختلاف مشارقها ومغاربها ودءوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ، ولا تغيّر في سيرها ؛ بل يجري جميعها في منازل مرتّبة بحساب مقدّر لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن يطويها الله ـ عزوجل ـ (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [21 / 104] قال ـ عزوجل ـ : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [55 / 5] (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [36 / 40].
    فانظر (1) إلى هذين النيّرين ولطيف عناية الله وجوده ورحمته فيهما ، فإنّ الشمس مع كونها تسير في فلكها في مدّة سنة ، تطلع كلّ يوم وتغرب بسير آخر سخّرها خالقها ، ولو لا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ، ولم تعرف المواقيت ، وأطبق الظلام على الدوام ، أو الضياء على الدوام ، ولفسدت بإحراقها موادّ الكائنات ، أو هلكت بالبرودة المفرطة وبقيت في وحشة شديدة وليل مظلم لا أوحش منه ، ولم يكن محلّ سكن للحيوانات ، وكان لا يتميّز وقت المعاش عن وقت الاستراحة :
    (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ
    __________________
    (1) ـ إحياء علوم الدين : الباب السابق : 4 / 647.

    النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) [28 / 71 ـ 73].
    فانظر كيف جعل (اللَّيْلَ لِباساً) [78 / 10] و (النَّهارَ مَعاشاً) [78 / 11] وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على ترتيب مخصوص ، وإلى إمالته سير الشمس عن وسط السماء حتّى اختلف بسببه الزمان ، وحصلت الفصول الأربعة التي بها يتمّ الكون والفساد ، وتنصلح أمزجة البقاع والبلاد ؛ فإذا انخفض عن وسط السماء مسيره برد الهواء فظهر الشتاء ، وإذا استوى في وسط السماء اشتدّ القيظ ، وإن كان فيما بينهما اعتدل الزمان.
    وعجائب السماوات لا مطمع في إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها.
    وهذا تنبيه على طريق التفكّر ، واعتقد على الجملة أنّه ما من كوكب من الكواكب إلّا ولله تعالى حكمة كثيرة في خلقه ، ثمّ في مقداره ، ثمّ في شكله ، ثمّ في لونه ، ثمّ في وضعه في السماء وقربه من وسط السماء وبعده عنه ، وقربه من الكواكب التي بجنبه وبعده عنها ، وقس ذلك بما ذكرناه في أعضاء بدنك ، إذ ما من جزء إلّا وفيه حكمة ، بل حكم كثيرة ، وأمر السماء أعظم :
    (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [40 / 57] (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ
    __________________
    (1) ـ كتب الآية الاولى بعد الثانية وأثبتناها حسب الكتاب الكريم.

    سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [79 / 27 ـ 30].
    بل لا نسبة لعالم الأرض إلى عالم السماء ـ لا في كبر جسمه ولا في كثرة معانيه ـ وقس التفاوت الذي بينهما في كثرة معانيه بما بينهما من التفاوت في الكبر ، مع أنّ كبر الأرض واتّساع أطرافها بحيث أنّه لا يقدر آدميّ على أن يدور بجوانبها. وقد اتّفق الناظرون على أن الشمس مثل الأرض مائة ونيّفا وستين مرّة (1) ، وفي الأخبار ما يدلّ على عظمتها ، والكواكب التي تراها أصغرها هي مثل الأرض ثماني مرّات ، وأكبرها ينتهي إلى قريب من مائة وعشرين مرّة مثل الأرض ؛ وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها ؛ فللبعد صارت ترى صغارا ، ولذلك أشار الله تعالى إلى بعدها فقال : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) [79 / 28].
    وفي الأخبار (2) : «إنّ بين كلّ سماء إلى اخرى مسيرة خمسمائة عام».
    فإذا كان هذا مقدار كوكب واحد من الأرض ، فانظر إلى كثرة الكواكب ، ثمّ انظر إلى السماء التي الكوكب مركوز فيها ، وإلى عظمتها ،
    __________________
    (1) ـ هذا على ما كان معروفا في الهيئة القديمة ، وأما على ما يحسب اليوم فالشمس أكبر من ذلك بكثير.
    (2) ـ في الترمذي : (كتاب صفة الجنة ، باب (Cool ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة : 4 / 679 ، ح 2540) : «... ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ....».
    وجاء ما يقرب منه فيه أيضا : كتاب صفة جهنم ، باب (6) : 4 / 709 ، ح 2588.
    راجع الدر المنثور : تفسير الآية 29 من سورة البقرة ، 1 / 108 ـ 109. وفي تفسير القمي (سورة مريم ، 2 / 50) : «... وغلظ السماء الرابعة مسيرة خمسمائة عام ، ومن السماء الرابعة إلى السماء الثالثة مسيرة خمسمائة عام ، ومن السماء الثالثة إلى الثانية خمسمائة عام ، وكل سماء وما بينهما كذلك ...» البحار : 58 / 90 ، ح 6.

    ثمّ انظر إلى سرعة حركتها ، وأنت لا تحسّ بحركتها ، فضلا من أن تدرك سرعتها ، لكن لا تشكّ في أنّه في لحظة تسير مقدار عرض كوكب ، لأنّ الزمان من طلوع أوّل جزء من كوكب إلى تمامه يسير ، وذلك الكوكب هو مثل الأرض مائة مرّة وزيادة ، فقد دار الفلك في هذه اللحظة مثل الأرض مائة مرّة ، وهكذا يدور على الدوام ، وأنت غافل عنه ، وانظر كيف عبّر جبرئيل عليه‌السلام عن سرعة حركته إذ قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «هل زالت الشمس»؟ فقال : «لا ، نعم». فقال : «كيف تقول : لا ، نعم»؟
    فقال : «من حيث أن قلت : «لا» ، إلى أن قلت : «نعم» ، سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام».
    فانظر إلى عظم شخصها ، ثمّ إلى خفّة حركتها ، ثمّ انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم ، كيف أثبت صورتها ـ مع اتّساع أكنافها ـ في حدقة العين مع صغرها ، حتّى أنّك تجلس على الأرض وتفتح عينيك نحوها فترى جميعها.
    فهذه السماء لعظمتها وكثرة كواكبها لا تنظر إليها ، بل انظر إلى بارئها ، كيف خلقها ، ثمّ أمسكها من غير عمد ترونها ، ومن غير علاقة من فوقها متدل بها.
    فكلّ العالم كبيت واحد والسماء سقفه ، فالعجب منك أنّك تدخل في بيت غنيّ فتراه مزوّقا بالصبغ ، مموّها بالذهب ، فلا تنقطع تعجّبك عنه ، ولا تزال تذكّره وتصف حسنه طول عمرك ؛ وأنت أبدا
    __________________
    (1) ـ قال الزبيدى (الإتحاف : 10 / 215) : «هكذا ذكره صاحب القوت». وقال العراقي (المغني : ذيل الطبعة القديمة من الإحياء : 4 / 446) : «لم أجد له أصلا».

    تنظر إلى هذا البيت العظيم ، وإلى أرضه ، وإلى سقفه ، وإلى هوائه ، وإلى عجائب أمتعته وغرائب حيواناته وبدائع نقوشه ، ثمّ لا تتحدّث به ولا تلتفت بقلبك إليه ؛ فما هذا البيت دون البيت الذي تصفه ، بل ذلك البيت هو ـ أيضا ـ جزء من الأرض التي هي أخسّ أجزاء هذا البيت ، ومع هذا فلا تنظر إليه.
    أو (فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [50 / 6 ـ 8]. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [21 / 32]. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [78 / 12] إشارة إلى صلابتها وحفظها عن التغيّر إلى أن يبلغ الكتاب أجله.
    وهذا بخلاف الأرضيّات فإنّها متغيّرة على القرب ، ولهذا عظّم الله أمر السماوات والنجوم وأقسم بها في غير موضع من كتابه كقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [85 / 1] (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [86 / 1] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [51 / 7] (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [91 / 5] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [91 / 1 ـ 2] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [53 / 1] (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [81 / 15 ـ 16] (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [56 / 75 ـ 76] إلى غير ذلك.
    وأحال الأرزاق إليها : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [51 / 22] ـ يعني الجنّة ـ. «(1) وجعلها موضعا لعرشه ، ومسكنا لملائكته ،
    __________________
    (1) ـ اقتباس من نهج البلاغة : الخطبة 182. أولها : «الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق ...»

    ومصعدا للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه ، وجعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم تمتنع ضوء نورها ادلهام سجف الليل المظلم (1) ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس (2) أن تردّ ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر».
    «(3) أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده ، وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوّة من ليلها ، وأجراهما في مناقل مجراهما ، وقدّر مسيرهما في مدارج درجهما ليميّز بين الليل والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما ؛ ثمّ علّق في جوّها فلكا ، وناط بها زينتها من خفيّات دراريها ومصابيح كواكبها ، ورمى مسترقي السمع بثواقب شهبها ، وأجراها على إذلال تسخيرها ، من ثبات ثابتها ، ومسير سائرها ، وهبوطها وصعودها ، ونحوسها وسعودها».
    وكلّ له قانتون ، مقرّون بالربوبيّة مذعنون بالطواعية ، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّيات ولا مبطّئات ، حيث (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [41 / 11 ـ 12].
    (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
    __________________
    (1) ـ السجف ـ بالفتح والكسر ـ : الستر.
    (2) ـ الجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب واسع تلبسه المرأة فوق ثيابها. الحنادس جمع حندس ، وهو الليل المظلم.
    (3) ـ من نهج البلاغة : الخطبة 91 ، وهي المعروفة بخطبة الأشباح.

    عِلْماً) [65 / 12]. (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [67 / 3 ـ 4].
    فسبحان الله ربّ السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ وربّ العرش العظيم.
    فصل [15]
    [الملكوت]
    ثمّ أجل ـ يا أخي فكرك في الملكوت ؛ وما أدراك ما الملكوت؟
    الملكوت ما غاب عن الأبصار ، كما أنّ الملك ما ظهر لها ، وهو عالم الغيب والباقى ، كما أنّ هذا العالم عالم الشهادة والفاني (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [6 / 75].
    (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [7 / 185].
    فانظر ـ يا أخي ـ في الملكوت ، عسى أن تفتح لك أبواب السماء ، فترى من عجائب العزّ والجبروت ، ويضيء لك من سناء برق اللاهوت.
    والملكوت قسمان :
    قسم لا تعلّق له بهذا العالم أصلا ـ لا تعلّق الحلول ولا التدبير ـ وهم إمّا وسائط جود الله ـ سبحانه ـ وفيضه ، وهم العقول والأرواح

    ـ وقد مرّ ذكرهم ـ وإمّا المستغرقون في ذكر الله ـ عزوجل ـ من الكرّوبيّين وغيرهم ، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله.
    وقسم له تعلّق بهذا العالم بالتصرّف والتدبير والتحريك ـ ويقال له : الروحانيّات ـ فمنهم ما يتعلّق بالسماوات ـ ويقال له الملكوت الأعلى ـ ومنهم ما يتعلّق بالأرضيّات ـ ويقال له : الملكوت الأسفل ـ ولكلّ منهما أجناس وطبقات كثيرة ، حسب تفاوت طبقات الأجسام. فما من جسم ـ علويّ أو سفليّ ـ إلّا وله جوهر ملكوتيّ ، وقد أشرنا إلى ذلك في الإنسان ، وسنتمّ الكلام فيه في المقاصد الآتية إن شاء الله.
    (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). [36 / 83].
    فصل [16]
    [وراء هذا العالم]
    قال بعض الحكماء (1) :
    «من وراء هذا العالم سماء وأرض وبحر وحيوان ونبات وناس سماويّون ، وكلّ من في ذلك العالم سماويّ ، وليس هناك شيء أرضيّ ، والروحانيّون الذين هناك ملائمون للإنس الذين هناك ، لا ينفر بعضهم عن بعض ، وكل واحد لا ينافر صاحبه ولا يضادّه ؛ بل يستريح إليه».
    __________________
    (1) ـ اثولوجيا : الميمر الرابع. وقد أورده في عين اليقين (288) أيضا.

    وروى محمد بن الحسن الصفّار ـ ره ـ في بصائر الدرجات (1) بإسناده عن هشام الجواليقي (2) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ لله مدينة خلف البحر سعتها مسيرة أربعين يوما للشمس ، فيها قوم لم يعصوا الله قطّ ، ولا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس ؛ نلقاهم في كل حين ، فيسألونا عمّا يحتاجون إليه ، ويسألون الدعاء فنعلّمهم ، ويسألونا عن قائمنا : ـ متى يظهر؟ ـ وفيهم عبادة واجتهاد شديد.
    لمدينتهم أبواب ما بين المصراع إلى المصراع مائة فرسخ ؛ لهم تقديس واجتهاد شديد ، لو رأيتموهم لاحتقرتم عملكم ، يصلّي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من سجوده ؛ طعامهم التسبيح ، ولباسهم الورع ، ووجوههم مشرقة بالنور ؛ إذا رأوا منّا واحدا لحسوه (3) واجتمعوا إليه وأخذوا من أثره من الأرض يتبرّكون به ؛ لهم دويّ إذا صلّوا أشدّ من دويّ الريح العاصف ؛ فيهم جماعة لم يضعوا السلاح منذ كانوا ، ينتظرون قائمنا ، يدعون الله أن يريهم إيّاه ؛ وعمر أحدهم ألف سنة.
    إذا رأيتهم رأيت الخشوع والاستكانة ، وطلب ما يقرّبهم إليه ، إذا احتبسنا ظنّوا أنّ ذلك من سخط الله ؛ يتعاهدون أوقاتنا التي نأتيهم فيها ، لا يسأمون ولا يفترون ، يتلون كتاب الله كما علّمناهم ؛ وإنّ فيما نعلّمهم ما لو تلي على الناس لكفروا به ولأنكروه ؛ ويسألونا عن الشيء إذا ورد
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الجزء العاشر ، باب (14) أنّ الخلق الذين خلف المشرق والمغرب يعرفونهم ... : 490 ، ح 4. عنه البحار : 27 / 42 ، ح 3.
    (2) ـ يظهر أنه هشام بن سالم الجواليقي ، وقد مضت الإشارة إليه في ص (65) والله أعلم.
    (3) ـ في هامش النسخة : «تحيوه (نسخة). تقول : لحست الشيء إذا أخذته بلسانك. ويقال : ألحست منه حقّي : أي أخذته. واللاحوس : الحريص ـ قاله الجزري ـ منه».

    عليهم من القرآن لا يعرفونه ، فإذا أخبرناهم به انشرحت صدورهم لما يسمعون منّا ، وسألوا الله لنا طول البقاء ، وأن لا يفقدونا ، ويعلمون أن المنّة من الله عليهم فيما نعلّمهم عظيمة. ولهم خرجة مع الإمام إذا قاموا يسبقون فيها أصحاب السلاح منهم ويدعون الله أن يجعلهم ممّن ينتصر به لدينه.
    فيهم كهول وشبّان ، إذا رأى شابّ منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد ، لا يقوم حتّى يأمره ، لهم طريق هم أعلم به من الخلق إلى حيث يريد الإمام ، فإذا أمرهم الإمام بأمر قاموا عليه أبدا ، حتّى يكون هو الذي يأمرهم بغيره.
    لو أنّهم وردوا على ما بين المشرق والمغرب من الخلق لأفنوهم في ساعة واحدة ، لا يختلّ الحديد فيهم ، ولهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ، لو ضرب أحدهم بسيفه جبلا لقدّه حتّى يفصله ؛ يغزو بهم الإمام الهند والديلم والكرك والترك والروم وبربر ، وما بين جابرس إلى جابلق ـ وهما مدينتان : واحدة بالمشرق واخرى بالمغرب ـ
    لا يأتون على أهل دين إلّا دعوهم إلى الله ، وإلى الإسلام ، وإلى الإقرار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن لم يقرّ بالإسلام ولم يسلم قتلوه حتّى لا يبقى بين المشرق والمغرب وما دون الجبل أحد إلّا أقرّ» (1).
    __________________
    (1) ـ لو صحّت الرواية ـ وكذا الروايات الآتيات ـ فلا استغراب فيها ، إذ الظاهر من القرائن المتعدّدة المذكورة فيها كونهم خلقا غيرنا لا يشبهونا ، ولعلّهم غير جسمانيين ، كما يومي إليه قوله : «طعامهم التسبيح» و «لا يختل فيهم الحديد» و «يصلي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من السجود» و «لا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس».

    وبإسناده (1) عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ـ قال : ـ «إنّ لله مدينتين إحداهما بالمشرق ، والاخرى بالمغرب. عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة منها سبعون ألف ألف مصراع من ذهب ، وفيها سبعون ألف ألف لغة ، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبه ، وأنا أعرف جميع اللغات ، وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجّة غيري وغير الحسين أخي».
    وبإسناده (2) عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنينعليهم‌السلام ـ قال : ـ «إنّ لله بلدة خلف المغرب ، يقال لها جابلقا ، وفي جابلقا سبعون ألف أمّة ، ليس منها أمّة إلّا مثل هذه الامّة ، فما عصوا الله طرفة عين ، فما يعملون من عمل(3) ولا يقولون قولا إلّا الدعاء على الأوّلين ، والبراءة منهما ، والولاية لأهل بيت رسول الله».
    وبإسناده (4) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء أرضكم هذه أرضا بيضاء ، ضوؤها منها ؛ فيها خلق يعبدون الله لا يشركون به شيئا ، يتبرّءون من فلان وفلان».
    وبإسناده (5) عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد خضر ـ وإنّما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل ـ وخلق خلفه خلقا لم يفترض عليهم شيئا مما افترض على خلقه من صلاة
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 494 ، ح 11.
    عنه البحار : 27 / 44 ، ح 4. و 43 / 337. و 57 / 327 ، ح 6.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 490 ، ح 1. عنه البحار : 57 / 329 ، ح 11.
    (3) ـ المصدر : عملا.
    (4) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 490 ، ح 2. عنه البحار : 57 / 329 ، ح 12.
    (5) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 492 ، ح 6. راجع البحار : 27 / 47 ، ح 10.

    وزكاة ، وكلّهم يلعن رجلين من هذه الامّة» ـ وسمّاهما.
    وبإسناده (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس ، فيها خلق كثير ؛ وإنّ من وراء قمركم أربعين قمرا ، فيها خلق كثير ، لا يدرون أنّ الله خلق آدم أم لم يخلقه ، ألهموا إلهاما لعنة فلان وفلان».
    وفي كتاب الكافي (2) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي (3) ، عن أبي جعفر عليهما‌السلام ـ قال : ـ قال في ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء فقال : «يا [أ] با حمزة ، هذه قبّة أبينا آدم عليه‌السلام وإنّ لله ـ تعالى ـ سواها تسعة وثلاثين قبّة ، فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين».
    وروى الشيخ الصدوق ـ محمد بن علي بن بابويه ـ في كتاب الخصال (4) بإسناده عن جابر بن يزيد (5) ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 490 ، ح 3. عنه البحار : 57 / 329 ، ح 13.
    (2) ـ الكافي : الروضة ، حديث القباب : 8 / 231 ، ح 300.
    (3) ـ قال النجاشي (الترجمة : 296 ، ص 115) : «ثابت بن أبي صفيّة أبو حمزة الثمالي ، واسم أبي صفية : دينار ، مولى ، كوفي ، ثقة ... لقى علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله ، وأبا الحسن عليهم‌السلام ، وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم ...».
    راجع معجم الرجال : 3 / 385 و 21 / 135. قاموس الرجال : 2 / 444.
    (4) ـ الخصال : باب ما بعد الألف : 2 / 652 ، ح 54. التوحيد : باب ذكر عظمة الله جلّ جلاله : 277 ، ح 2. البحار : 57 / 321 ، ح 3. و 8 / 375 ، ح 2.
    (5) ـ جابر بن يزيد الجعفي ، روى عن الباقر والصادق عليهما‌السلام وكان من خواص أصحابهم.
    راجع : معجم الرجال : 4 / 17. قاموس الرجال : 2 / 323 ، 2 / 514. ونقل الذهبي (ميزان الاعتدال : 1 / 379) أقوال علماء العامة فيه وتوثيقهم له وتوصيفهم له بأنّه «من أوثق الناس» و «أورع الناس في الحديث» إلا أنهم ضعفوه بأنه شيعي ومؤمن بالرجعة.

    قول الله ـ تعالى ـ : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [50 / 15] فقال :
    «يا جابر ـ تأويل ذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكّن أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، جدّد الله عزوجل عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحولة ولا اناث ، يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّهم ؛ لعلّك ترى أنّ الله ـ عزوجل ـ إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ الله ـ عزوجل ـ لم يخلق بشرا غيركم ؛ بلى ـ والله خلق ـ تبارك وتعالى ـ ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واولئك الآدميّين».
    وروى العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقرب من بعض هذه ، والروايات في أمثال ذلك كثيرة.
    * * *
    وقال بعض أهل المعرفة (1) :
    «في كلّ نفس خلق الله فيها عوالم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، وخلق الله من جملة عوالمها عالما على صورنا إذا أبصرها العارف يشاهد نفسه فيها. وقد أشار إلى ذلك عبد الله بن عبّاس فيما روي عنه في حديث : «هذه الكعبة ، وإنّها بيت واحد من أربعة عشر بيتا ، وإنّ في كل أرض من الأرضين
    __________________
    (1) ـ مقططفات من الفتوحات المكية : الباب الثامن : 1 / 126 ـ 130.
    راجع عين اليقين : 289. الوافي : 26 / 480.

    السبع خلقا مثلنا ، حتّى أنّ فيهم ابن عبّاس ، مثلي».
    وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف ... وكلّ ما فيها حيّ ناطق ... وهي باقية لا تفنى ولا تتبدّل ... وإذا دخلها العارفون إنّما يدخلون بأرواحهم لا بأجسامهم ، فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ويتجرّدون ... وفيها مدائن لا تحصى ... بعضها يسمّى مدائن النور ـ لا يدخلها من العارفين إلا كلّ مصطفى مختار ... وكلّ حديث وآية وردت عندنا فصرفها العقل عن ظاهرها ، وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض ، وكلّ جسد يتشكّل فيه الروحاني من ملك وجنّ ، وكلّ صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم فمن أجساد هذه الأرض».
    وقال الغزالي في المقالة الحادية والثلاثين من كتاب سرّ العالمين (1) :
    __________________
    (1) ـ طبع الكتاب (على ما جاء في مؤلفات الغزالي : 225) في بومباي سنة 1314 ه‍ ـ ، والقاهرة سنة 1324 و 1327. وطهران بغير تأريخ. وأما الموجود عندي فطبعة المكتبة الثقافة الدينية ، النجف الأشرف ، سنة 1385 ه‍ ـ. ويشتمل الكتاب على ثلاثين مقالة ، ويوجد النصّ في المقالة الثلاثين منه ـ مع فروق ـ فما قاله المؤلف ـ قدس‌سره ـ إما سهو جرى على القلم ، أو لاختلاف في ترتيب نسخته مع ما بأيدينا.
    ويجدر بنا الإشارة إلى تشكيكات وقعت في نسبة الكتاب إلى الغزالي (راجع 281 من مؤلفات الغزالي) ؛ ومن مستندات النافين قوله فيه (المقالة السادسة والعشرون : 142) : «أنشد المعري لنفسه وأنا شاب في صحبة يوسف بن علي شيخ الإسلام ...» ـ ثمّ أورد أشعارا يوجد بعضها في اللزوميات لأبي العلاء المعري. وأبو العلاء ـ هذا ـ قد توفى سنة (448) بينما الغزالي ولد سنة (450).
    وتحقيق الأمر يطلب مجالا آخر ونطاقا من البحث أوسع ، فإن وضوحها ذا أهميّة ، إذ به يصح ما اعتقده بعض الباحثين ـ منهم المؤلف في مقدمة كتابه «المحجة البيضاء في إحياء الإحياء» ـ بأن الغزالي تشيّع في أواخر عمره.

    «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «إنّ بالمغرب عنّا لأرضا بيضاء من وراء قاف ، لا تقطعها الشمس في أربعين سنة».
    قالوا : «يا رسول الله ، أو فيها خلق»؟
    قال : «نعم ؛ فيها قوم مؤمنون لا يعصون الله طرفة عين ، لا يعرفون آدم ولا إبليس ، بينهم الملائكة يعلّمونهم شريعتنا ، ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز».
    قالوا : «يا رسول الله ، زدنا من هذه الأعاجيب».
    فقال : «إنّ لي صدّيقة من مؤمني الجنّ غابت عنّي سنين ، فسألتها أين كنت؟ فقالت : كنت عند اختي من وراء الأرض البيضاء التي من وراء قاف. فقلت : أوهم مؤمنون؟ فقالت : نعم ؛ قرأت عليهم كتابك فآمن بذلك كلّهم ...... فقلت : أو تصعد الشمس في ذلك البلاد؟ قالت : نعم .......
    «(2) وأمّا قصّة زعيم بن بلعام ، فهي عجيبة : فإنّه أراد أن ينظر من أين منبع النيل ، فلم يزل يسير حتّى وجد الخضر عليه‌السلام فقال له «ستدخل مواضع» ـ ثمّ أعطاه علائمها ـ فوصل إلى جبل وفيه قبّة من ياقوت على أربعة أعمدة ، والنيل يخرج من تحتها ، وفيه فاكهة لا تتغيّر.
    ـ قال : ـ فرقيت رأس الجبل ، فرأيت وراءه بساتين وقصورا ودورا وعالما غزيرا ، وكنت شيخا أبيض الشعر فهبّ
    __________________
    (1) ـ لم أعثر على الحديث على ما فيه من أمارات الوضع.
    (2) ـ سر العالمين : 181.

    عليّ نسيم سوّد شعري وأعاد شبابي ، فنوديت من تلك القصور «إلينا يا زعيم ، إلينا ، فهذه دار المتّقين» فجذبني الخضر ومنعني.
    * * *
    فهذا سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : سبعة أنهار من الجنّة : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، وعين ماليرون (2) ، وبالمقدس عين سلوان (3)
    * * *
    «(4) وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفّان ؛
    __________________
    (1) ـ هذا الحديث ليس في سرّ العالمين. والأظهر كونه من إضافات المؤلف ، ولعله كان في نسخته. وجاء في الخصال (250 ، باب الأربعة ، ح 116) والمسند (2 / 261) : «أربعة أنهار من الجنة : الفرات والنيل وسيحان وجيحان». وجاء ما يقرب منه في مسلم : كتاب صفة الجنة ، باب (10) ما في الدنيا من أنهار الجنة ، 4 / 2183 ، ح 26.
    والمعجم الكبير : 17 / 18 ـ 19 ، ح 19. وكنز العمال : 12 / 344 و 335 ، ح 35334 و 35335 و 35340 و 35342.
    وقال السيوطي (الدر المنثور : تفسير الآية المؤمنون / 19 / 6 / 95) : «أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : ـ «أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون وهو نهر الهند ؛ وجيحون وهو نهر بلخ ؛ ودجلة والفرات وهما نهري العراق ؛ والنيل وهو نهر مصر ...». وأما عدد السبعة فلم أعثر عليه.
    (2) ـ عين ماليرون لم أعثر عليه.
    (3) ـ قال ياقوت (معجم البلدان : عين سلوان) : «قال أبو عبد الله البشاري المقدسي : سلوان محلة في ربض ، مدينة بيت المقدس ، تحتها عين عذبة ، تسقي جنانا عظيمة ، وقفها عثمان بن عفان على ضعفاء البلد ، تحتها بير أيوب ، ... قال عبيد الله الفقير : ليس من هذا الوصف اليوم شيء ، لأن عين سلوان محلة في وادي جهنم ، في ظاهر المقدس ، لاعمارة عندها البتة ، إلا أن يكون مسجدا أو ما يشبهه. وليس هناك جنان ولا ربض ، ولعل هذا كان قديما ـ والله أعلم.
    (4) ـ سر العالمين : 181.

    فحديثهما طويل ، وإشارة منه كافية :
    فقد بلغ من سفرهما حتّى وصلا إلى المكان الذي فيه النبيّ سليمان عليه‌السلام ، فتقدّم بلوقيا إلى سليمان ليأخذ الخاتم من إصبعه ، فنفخ فيه التنين الموكّل معه فأحرقه ، فضربه عفّان بقاذورة فأحياه ، ثمّ مدّ يده ثانية وثالثة فأحياه بعد ثلاث ، فمدّ يده رابعة ، فاحترق وهلك.
    فخرج عفّان وهو يقول : «أهلك الشيطان ، الشيطان».
    فناداه التنين : «ادن أنت وجرّد ، فهذا الخاتم لا يقع في يد أحد إلّا في يد محمّد إذا بعث ؛ فقل له : إنّ الملأ الأعلى قد اختلفوا في فضلك وفضل الأنبياء قبلك فاختارك الله على الأنبياء».
    ـ قال عفّان : ـ ثمّ أتيت فانتزعت خاتم سليمان ، فجئت بها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه عليّا عليه‌السلام ، فوضعه في إصبعه ، فحضر الطير والجان والناس يشاهدون ويشهدون ...
    فلمّا كانوا في صلاة الظهر تصوّر جبرئيل بصورة سائل طائف بين الصفوف ، فبيناهم في الركوع ، إذ وقف السائل من وراء عليّ طالبا ، فأشار عليّ بيده ، فطارت الخاتم إلى السائل ، فضجّت الملائكة تعجّبا ، فجاء جبرئيل مهنّئا وهو يقول : «أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم ، الذين أذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».
    فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك عليّا ، فقال عليّ عليه‌السلام : «ما نصنع

    بنعيم زائل ، وملك حائل ، ودنيا [في] حلالها حساب ، و [في] حرامها عقاب» (1). ـ انتهى كلام الغزالي (2).
    وأمثال هذه الحكايات العجيبة والقصص الغريبة أكثر من أن تحصى ، سيّما عن أئمّتنا المعصومين ، وخصوصا عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مثل حديث الغمامة (3) وغيره ، وحديث صاحب الأمر عليه‌السلام ومدنه ومملكته وأولاده مشهور (4).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : «قال الغزالي بعد هذا الكلام بلا فصل (ص 182) : فإن اعترض المفتن وقال : «كيف قاتل معاوية على الدنيا»؟ فالجواب أنه قاتل على حق هو له ، ليصل به إلى حق ، وقد قال أبو حازم : «أول حكومة تجري بين العباد في المعاد بين علي عليه‌السلام ومعاوية ، والباقون تحت المشية». وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» ، ولا ينبغي للإمام أن يكون باغيا ـ هذا كلامه قدس‌سره ـ (منه)».
    (2) ـ سر العالمين : 182. والقصتان ـ كما ترى ممّا يضعه القاصّ لجلب السامعين وقد يستفاد فيها مما له أصل ـ كتصدق علي عليه‌السلام خاتمه راكعا في الصلاة ، ونزول آيه التطهير في شأن أهل الكساء ـ وأما كون بقية الكلام موضوعا مما لا يخفى على أحد. وإنّما أورده المصنّف استطرادا ولحسن ظنه بالكتاب واعتقاده بكونه من الغزالي. إذ لو صحّ القصة يمكن توجيهها بتأويلات بعيدة جدا.
    (3) ـ حديث الغمامة أيضا من ضعاف الروايات ولم يرد في الجوامع المعتبرة ، وقد نقله صاحب المحتضر. ولتلميذ المؤلف القاضي سعيد القمي ـ ره ـ عليه شرح غير مطبوع.
    (4) ـ النظر في قصة مدن صاحب الأمر عليه‌السلام التي أوردها المجلسي (ره) أيضا في البحار ـ مع شك منه في صحتها ـ مما لا يبقي شكا ـ لقاربها المتأمل ـ في كونها موضوعة من قبيل القصص الخرافية التي يضعها القاص ، ولو أحسنّا الظنّ فمن قبيل ما يراه النائم أو المكاشف. وقد ألمح المؤلف بذلك أيضا فيما نقله آنفا عن أثولوجيا «في كل نفس خلق الله فيها عوالم يسبحون ...» ؛ ثمّ إنّ العجائب الموجودة في خلقه تعالى ـ وقد اشير إلى نزر قليل منها ـ أكثر وأعظم بكثير من أن يحتاج إلى ذكر هذه المطالب الغير الثابتة أو الغير المأنوسة. وقد نقل عن أمير المؤمنين وإمام الموحدين عليه‌السلام : «لا تحدّث بما تخاف تكذيبه» (غرر الحكم : رقم 10173).

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:43 pm

    فصل [17]
    اعلم أنّه لو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضّل الله ـ عزوجل ـ علينا بمعرفته ، وكلّ ما عرفناه قليل نزر بالإضافة إلى ما عرفه جملة الأولياء والعلماء ، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ، والملائكة المقرّبون ـ كجبرئيل وإسرافيل وغيرهما ـ صلوات الله عليهم ـ.
    ثمّ جميع علوم الأنبياء والملائكة والجنّ والإنس إذا اضيف إلى علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يستحقّ أن يسمّى علما ، بل هو إلى أن يسمّى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ؛ فسبحان من عرّف عباده ما عرّف ، ثمّ قال مخاطبا جميعهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [17 / 85].
    فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكّرين في خلق الله ـ عزوجل ـ وليس فيها فكر في ذات الله ، ولكن تستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق ، وعظمته ، وجلاله وقدرته ، وكلّما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أكثر.
    وهذا كما أنّك إن تعظّم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره ، فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسبه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتّى أنّ كلّ كلمة من كلماته وكلّ بيت من أبيات شعره يزيده محلّا في قلبك ، ويستدعي التعظيم له من نفسك.
    فهكذا تأمّل في خلق الله وتصنيفه وتأليفه ، وكلّ ما في الوجود من

    خلق الله وتصنيفه ؛ فالنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا ، وإنّما لكلّ عبد منها بقدر ما رزق.
    * * *
    فسبحان بديع السماوات والأرض ،
    ما أعظم ما نرى من خلقك ،
    وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك ،
    وما أهول ما نرى من ملكوتك ،
    وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ،
    وما أسبغ نعمك في الدنيا
    وما أصغرها في نعم الآخرة.
    * * *
    هذا آخر الكلام في العلم بالله ـ والحمد لله وحده.
    * * *

    المقصد الثاني
    في العلم بالملائكة
    (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (1) [21 / 26 ـ 27] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [16 / 50] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 20]
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    الآية الاولى في سورة الأنبياء.
    (مُكْرَمُونَ) : أي مقربون.
    (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) : لا يقولون شيئا حتى يقوله ، كما هو شيمة العبيد المؤدبين.
    (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) : لا يعملون قط ما لم يأمره به.

    [1]
    باب الملائكة المقرّبين
    (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [4 / 172]
    فصل (1) [1]
    [الملائكة الكروبيون]
    الملائكة المقرّبون منهم الكروبيّون (2) المهيّمون ، المستغرقون في بحار الأحديّة ، المتحيّرون في عظمة ربّ العالمين ، المتواجدون في جلال أوّل الأوّلين ، المستهترون بذكر آلائه ، المتواضعون لجبروته وكبريائه ؛ لا التفات لهم إلى ذواتهم المنوّرة بنور الحقّ ـ فضلا عن غيرهم ـ لولههم وهيمانهم في جمال الحقّ ـ أبدا سرمدا ـ وكأنّه إليهم اشير في الحديث حيث قيل (3) : «إنّ لله ملائكة لا يعلمون أنّ الله خلق آدم وذريّته».
    __________________
    (1) ـ راجع مفاتيح الغيب : الفصل الثالث من المفتاح الثامن : 339.
    (2) ـ في القاموس : الكروبيون ـ مخففة الراء ـ : سادة الملائكة.
    (3) ـ لم أعثر عليه. وجاء في شرح القاساني لمنازل السائرين (باب السر : 477) : «الملائكة الذين قيل فيهم : إنهم لا يعلمون أنّ الله خلق آدم».

    وروى محمّد بن الحسن الصفّار (1) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الكرّوبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل ، جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور أحدهم على أهل الأرض لكفاهم».
    ـ ثمّ قال : ـ «إنّ موسى عليه‌السلام لمّا أن سئل ربّه ما سأل ، أمر واحدا من الكرّوبيّين فتجلّى للجبل فجعله دكّا».
    أقول : لا منافاة بين الحديثين عند اولى الألباب ، وإن حملنا الأوّل على الكرّوبيّين ، لأنّ التشيّع لا يتوقّف على العلم بخلق آدم وذريّته ، كما يظهر عند تفسيرنا الشيعة ـ إن شاء الله.
    فصل (2) [2]
    [الملائكة العقلية]
    ومنهم الملائكة العقليّة الذين أبدعهم الله عزوجل وسائط جوده ورحمته ، وحجب جلاله وعظمته ، وهم مبادئ سلسلة الموجودات وغاياتها ، ومنتهى أشواق النفوس ونهاياتها.
    وقد أشرنا إليهم فيما سبق (3) ، وذكرنا أنّهم أوّل ما خلق الله ، وأنّ لهم
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الجزء الثاني ، باب نادر من الباب (6) ، ما خصّ به الأئمّة من ولاية الملائكة : 69.
    عنه البحار : 13 / 224 ، ح 18. 26 / 342 ، ح 12. 59 / 184 ، ح 26.
    (2) ـ راجع مفاتيح الغيب : الباب السابق : 340.
    (3) ـ راجع ما مضى في الفصل الأول من الباب السابع من المقصد الأول.

    أسام متعدّدة باعتبارات مختلفة ، وأنّ لهم جهتي وحدة وكثرة ، وأنّ كثرتهم بإزاء كثرة المخلوقات نوعا.
    كما روينا (1) عن مولانا زين العابدين عليه‌السلام : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله» ، وإنّه تأويل قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [15 / 21].
    وكأنّه إليهم اشير في حديث المعراج (2) حيث قيل :
    «أنزل الله العزيز الجبّار عليه محملا من نور ، فيه أربعون نوعا من أنواع النور ، كانت محدقة حول العرش ـ عرش الله ـ يغشي أبصار الناظرين ، أما واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ؛ وواحد منها أحمر ، فمن أجل ذلك احمرّت الحمرة ؛ وواحد منها أبيض ، فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على قدر ما خلق الله من الأنواع والألوان».
    وكذا ما نقلناه عن بعض الحكماء (3) : «إنّ من وراء هذا العالم سماء وأرضا ...» ـ إلى آخر ما قال ـ.
    وإنّما خلق الله سبحانه بسبب تراكيب جهاتها ومشاركتها ومناسبتها وهيئاتها النوريّة وأشعّتها العقليّة ـ من المحبّة واللذّة ، والعزّ والذلّ ، والقهر والانقهار ، والاستغناء والافتقار ، وغير ذلك من المعاني والهيئات ـ امورا في هذا العالم تناسبها من عجائب الترتيبات ولطائف
    __________________
    (1) ـ راجع الصفحة : 235.
    (2) ـ يأتي حديث المعراج مفصلا في باب المعراج.
    (3) ـ مضى في الصفحة : 340.

    النسب وبدائع النظم في السماوات والأرضين ، وما فيهما من الأجسام وتوابعها ، وفي عالم النفوس ـ من العجائب الروحانيّة والغرائب الجسمانيّة من أحوال قواها وكيفيّة تعلقها بالأبدان وغير ذلك ـ كما اشير إليه في حديث المعراج بقوله : «ومن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ... ومن أجل ذلك احمرّت الحمرة» ـ وما يشبه ذلك.
    فصل [3]
    وإذ ليس للملائكة المقرّبين حجاب ـ لبراءتهم من الغواشي ـ فذواتهم ظاهرة لأنفسهم ، معقولة لهم ؛ وكذا ذوات بعضهم لبعض ؛ وبهم ظهور من دونهم من الموجودات.
    فهم إذن انوار مجرّدة وأشعّة إلهيّة وأضواء قاهرة ؛ وكلّهم أحياء ناطقون ، عالمون ، وعالمهم عالم القدرة ؛ وللعالي منهم قهر على السافل ، وإشراق وإحاطة ؛ وللسافل عشق إلى العالي ، ومحبّة له ومشاهدة من دون إحاطة ، لانقهاره عنه (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [85 / 20] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [6 / 61].
    والكلّ مبتهجون بالله ـ تعالى ـ وبذواتهم ، لا من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ، لأنّهم يعرفون أنفسهم به تعالى ، فلذّتهم ـ أيضا ـ بذاته سبحانه.
    وأمّا لذّتهم بأنفسهم فهي من حيث رأوا أنفسهم عبيدا وخدما له مسخّرين ، فهي ترجع إلى لذّتهم به ، فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ، لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ـ كذا قال بعض المحققين.

    [2]
    باب
    الملائكة المدبّرين
    (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [79 / 5]
    فصل [1]
    الملائكة المدبّرون هم الروحانيّات (1) المتعلّقة بعالم الأجسام ، على كثرة أجناسها وأنواعها ، وطبقاتها المتخالفة المتفاوتة حسب تخالف طبقات الأجسام السماويّة والأرضيّة وتفاوتها ـ كما مرّت الإشارة إليهم.
    ونسبتهم إلى النفس الكليّة ـ المسمّاة ب «اللوح» ـ كنسبة سائر العقول والأرواح إلى العقل الأوّل المسمّى ب «القلم» ؛ وإليهم الإشارة في كلمات الأنبياء الماضين عليهم‌السلام (2) «إنّ لكلّ شيء ملكا».
    __________________
    (1) ـ كذا.
    (2) ـ لم أعثر عليه.

    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في كثرة ملائكة السماء (1) : «أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ (2) ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع».
    وقال في كثرة ملائكة الأرض (3) : «ما من قطرة تنزل من السماء إلّا ومعها ملك ، حتّى يضعها موضعها».
    وقد يكون الواحد منهم ذا قوى متعدّدة يفعل بكل قوّة فعلا من الأفاعيل ، وتلك القوى ملائكة اخرى مسخّرة تحت سلطانه ـ كأنّها أجزاؤه وجوارحه وأجنحته ـ وهو جهة وحدتها والمشتمل عليها كلّها.
    وذلك (4) لأنّ الملائكة كلّهم وحدانيّة الصفات ، ليس فيهم خلط وتركيب ـ البتة ـ فلا يكون لكلّ واحد منهم بجهة واحدة وقوّة واحدة ـ إلّا فعل واحد ـ كما اشير إلى ذلك بقوله سبحانه حكاية عنهم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [37 / 164].
    فلذلك ليس لهم تنافس وتقابل ، بل مثال كلّ واحد في مرتبته
    __________________
    (1) ـ بلفظ : «... موضع أربع أصابع ...» في المسند : 5 / 173. الترمذي : كتاب الزهد ، باب (9) ، 4 / 556 ، ح 2312. مستدرك الحاكم : كتاب التفسير ، سورة هل أتى ، 2 / 510. وكتاب الفتن : 4 / 544 ، وكتاب الأهوال ، 4 / 579. حلية الأولياء : ترجمة مورق العجلي ، 2 / 236. كنز العمال : 10 / 367 ، ح 29838.
    راجع أيضا تخريجاتها في الدر المنثور : الصافات / 164 ، 7 / 135 ـ 136.
    (2) ـ قال ابن الأثير (النهاية : أطط : 1 / 54) : «الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ؛ أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتّى أطّت ؛ وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ؛ وإنما هو كلام تقريب اريد به تقرير عظمة الله تعالى».
    (3) ـ مضت الإشارة إليه في الصفحة : 186.
    (4) ـ إلى آخر الفصل مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب الشكر ، الطرف الثامن : 4 / 177.

    وفعله مثال الحواسّ ، فإنّ البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ، ولا الشمّ يزاحمهما ، ولا هما يزاحمان الشمّ ، بل هي ـ أيضا ـ نوع منهم كما سنشير إليه.
    وهذا بخلاف اليد والرجل ، فإنّك قد تبطش بأصابع الرجل ـ بطشا ضعيفا ـ وقد تضرب غيرك برأسك ، فتزاحم بذينك اليد التي هي آلة البطش والضرب ؛ وكذلك الإنسان الذي يتولّى بنفسه الأفاعيل المختلفة ، فإنّ هذا نوع من العدول والاعوجاج عن العدل ، سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه ، فإنّه ليس وحدانيّ الصفة ، فلم يكن وحدانيّ الفعل ؛ فلذلك تراه يطيع الله تارة ، ويعصيه اخرى ، لاختلاف دواعيه وصفاته.
    وذلك غير ممكن في طباع الملائكة ، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقّهم ، فلا جرم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [66 / 6] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 20] ، والراكع منهم راكع أبدا ، والساجد منهم ساجد أبدا ، والقائم منهم قائم أبدا.
    وطاعتهم لله ـ عزوجل ـ من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن يشبه بطاعة أطرافك لك ، فإنّك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردّد ولا اختلاف في طاعتك مرّة ومعصيتك اخرى ، بل كأنّه منتظر لأمرك ونهيك ، ينفتح وينطبق متّصلا بإشارتك ، فهذا يشبهه من وجه ، ولكن يخالفه من وجه ، إذ الجفن لا علم له بما يصدر عنه من الحركة ـ فتحا وإطباقا ـ والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.

    فصل [2]
    [الملائكة الموكلة بالإنسان]
    لمّا كانت الأجسام الأرضيّة منحصرة في الجماد والنبات والحيوان والإنسان وكلّ لاحق من الأربعة مشتمل على سابقه وزيادة أمر ، فانّ النبات جماد مع زيادة معنى ـ لحفظه التركيب مع قوّة نامية ـ والحيوان نبات مع زيادة معنى ـ لنموّه في الأقطار مع حسّ وحركة ـ والإنسان حيوان مع زيادة معنى ـ لإحساسه وحركته مع نطق وإدراك امور كليّة ـ فالملائكة الموكّلة بكلّ منها موجودة في الإنسان ، مطيعة إيّاه ، خاضعة له ، لاشتماله على النفوس الأربع كلّها.
    لست أقول : «إنّه ذو أربع أنفس» ؛ بل أقول : «إنّ نفسه الواحدة تفعل أفاعيل الأنفس الأربع باستخدام الملائكة ، لكمالها ولتماميّتها وشرفها وقوّتها بالإضافة إلى ما دونها».
    فالملائكة المدبّرة الحافظة لبينته : منها ما تعلّق به من حيث جسميّته ونموّه ويسمّى ب «القوى».
    ومنها ما تعلّق به من جهة حيوانيّته ، ويسمّى ب «الحواسّ».
    ومنها ما تعلّق به من حيث إنسانيّته ويسمّى ب «الأرواح البشريّة»
    ومنها ما تعلّق به من حيث أعماله وأخلاقه وخواطره ويسمّى ب «الكرام الكاتبين» و «الملكات» و «مبادئ اللمم».
    ومنها ما تعلّق به من جهة حفظه عن الشرور والآفات ، ويسمّى ب «المعقّبات».

    إلى غير ذلك من الأنواع وأساميها ، ويتعدّد كلّ منها حسب تعدّد الأفاعيل المتعلّقة بذلك النوع.
    وكذلك المدبّرة للأجسام العلويّة وغيرها إنّما تعدّدها بتعداد الأفاعيل التي فيها ، لما دريت من وحدة فعل الملائكة.
    ولنشر إلى ما يتعلّق بالنبات والحيوان والإنسان من الملائكة والشياطين إشارة مقنعة ـ ومن الله التأييد ـ :
    فصل (1) [3]
    [الملائكة الموكلة بالنبات]
    أمّا النبات فلا بدّ فيه من ملك يزيد في أقطاره الثلاثة على نسبة لائقة محفوظة ، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء ، ومن ملك يقطع فضلة من مادّته ليكون مبدءا لشخص آخر ، ولمّا توقّف فعل الأوّل على التغذّي فلا بدّ من سبعة أملاك اخر لا أقل يخدمونه في هذا الأمر.
    أوّلهم عملا : ملك لا بدّ منه لجذب الغذاء إلى جوار الجسم المتغذي وذلك لأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأطراف ، لأنّه لا محالة إمّا أن يكون ثقيلا ، فلا يصل إلى الأطراف العالية ، أو خفيفا فلا يصل إلى الأطراف السافلة.
    والثاني لا بدّ منه لإمساك الغذاء في جواره ، وذلك لأنّ الغذاء بعيد المشابهة ـ أوّلا ـ فلا بدّ فيه من الاستحالة حتّى يحصل الشبه ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 348.

    والاستحالة حركة ، والحركة إنّما تكون في زمان ، فلا بدّ من زمان في مثله تحصل الاستحالة والتشبّه.
    والثالث لا بدّ منه لنزع الصورة عن الغذاء وخلعها ، وذلك لأنّ تشبيه الغذاء بالعضو إنّما يحصل إذا قرب استعداده لحصول الصورة العضويّة فلا بدّ من ملك يجعله قريب الاستعداد لذلك.
    والرابع لا بدّ منه ليكسو الغذاء صورة العضو ، فإنّ إفادة الصورة غير نزعها ، وكونها غير فسادها. غير فسادها والخامس لا بدّ منه ليدفع ما لا يقبل المشابهة من الغذاء وإلّا لأدّى إلى السداد وثقل البدن ، بل الفساد والإفساد سيّما في الحيوان.
    والسادس لا بدّ منه ليلصق ما اكتسب بصورة العضو بالعضو ، حتّى لا يكون منفصلا.
    والسابع لا بدّ منه ليراعى المقادير في الإلصاق ؛ ويسمّى هؤلاء الأملاك في عرف الجمهور بالقوى.
    فالذي يزيد في الأقطار يسمّى ب «القوّة النامية» ، والقاطع للفضلة ب «القوّة المولّدة» ، والخوادم ب «الجاذبة» و «الماسكة» و «الهاضمة» و «الدافعة» وكلّها ب «الغاذية».
    * * *

    فصل (1) [4]
    [الملائكة الغاذية]
    وهؤلاء الأملاك دائما في شغلهم ، لا يمسكون عن أفعالهم طرفة عين ، فإنّ الشجر ـ مثلا ـ إذا سقى الماء ، أو الحيوان أكل الغذاء فذلك ليس بغذاء ولا أكل على الحقيقة ، وإنّما مثلها كمثل الجابي الجامع للمال في خزانته ـ وهي المعدة في الحيوان وما يجري مجراها في النبات ـ فاذا اخترن ما فيهما وأمسكا عن السقي والأكل ، فحينئذ يتولّاه الملائكة بالتدبير ، وتحيله من حال إلى حال ، وتغذيهما به في كلّ آن ونفس ؛ فهما لا يزالان في غذاء دائم.
    ولو لا ذلك لبطلت الحكمة في نشأة كلّ متغذّ ؛ والله حكيم ، فإذا خلت الخزانة حرّكت الملائكة الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به ، فاذا لم يوجد غذاء يحلّلون الموادّ والفضلات التي في البدن ؛ ولا يزال الأمر كذلك أبدا.
    فهذه صورة الغذاء في كلّ نفس ، فكلّ نفس اكلها دائم في هذه النشأة ـ أيضا ـ كما في الآخرة.
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 350.

    فصل (1) [5]
    [الملائكة المغيرة والمصورة]
    ويخدم المولّد ملكان : أحدهما يجعل فضلة الهضم الأخير منيّا أو ما يجرى مجراه من بيضة أو بذر ، والثاني يهيّئ كلّ جزء من أجزاء تلك المادة لقبول صورة مخصوصة من واهب الصور ، وهو إنّما يوجد في تلك المادّة المفروزة عند كونها في الرحم أو ما يجرى مجراه خاصّة ، وهذان الملكان ربما اجتمعا في شخص واحد ـ كما في أكثر النباتات ـ وربما افترقا في شخصين ، ذكر وانثى ـ كما في أكثر الحيوانات ـ وإذا اجتمعا حصل التوليد.
    ويسمّى الأوّل عند الجمهور بالمغيّرة ، والثاني بالمصوّرة.
    أمّا واهب الصور فهو الله ـ سبحانه ـ بتوسّط الملك العقلي الذي هو ربّ نوع النفس النباتيّة المخدوم لهذه الأملاك جميعا ، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [3 / 6] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [56 / 58 ـ 59].
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف ملك الأرحام (2) : «إنّه يدخل الرحم ، فيأخذ النطفة في يده ، ثمّ يصوّرها جسدا ، فيقول يا ربّ ذكر أم انثى؟
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 350.
    (2) ـ راجع الحديث بألفاظه المختلفة في مسلم : كتاب القدر ، 4 / 2036 ـ 2038 ، ح 1 ـ 4.
    وورد ما يقرب منه عن علي عليه‌السلام في علل الشرائع : باب (85) ، 1 / 85 ، ح 4.
    عنه البحار : 5 / 155 ، ح 6. 60 / 340 ، ح 20.

    سوىّ أم معوج؟ فيقول الله ما شاء ، ويخلق الملك».
    وفي لفظ آخر : «ويصوّر الملك ثمّ ينفخ فيها الروح بالسعادة أو بالشقاوة». وقد مرّ حديث آخر في هذا الباب عن مولانا الباقر عليه‌السلام.
    فصل [6]
    [القوى المحركة والمدركة]
    وأمّا الحيوان فلا بدّ فيه من محرّك ومدرك.
    والمحرّك : منه باعث على الحركة ، ومنه فاعل لها ؛ والباعث : منه باعث على جلب النافع طلبا للذّة ، ومنه حامل على دفع الضارّ ـ طلبا للانتقام ـ.
    والمدرك : منه ظاهر مشهور ، ومنه باطن مستور.
    أمّا الظاهر : فلامس وذائق وشامّ وسامع وباصر.
    وأمّا الباطن : فمدرك للصور المحسوسة دفعة وحافظ لها ، ومدرك للمعاني الجزئيّة وحافظ لها ، ومتصرّف في الأمرين بالتركيب والتحليل.
    وبالأوّل يشاهد النقطة الجوالة بسرعة دائرة ، والقطرة النازلة خطّا مستقيما ، مع أنّ المشاهدة بالبصر ليست إلّا للمقابل ، وما قابل منهما إلّا نقطة وقطرة.
    وبالثاني يحكم على شيء شاهده ثمّ ذهل عنه ثمّ شاهده مرّة اخرى : بأنّه هو الذي شاهده من قبل.
    وبالثالث يدرك الصفات الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات ،

    ويحكم أحكاما جزئيّة ، كإدراك السنّور معنى في الفأر يحمله على الطلب ، وإدراك الفأر معنى في السنّور يوجب الهرب ؛ وهذا في الإنسان ينازع عقله ، لأنّه قوّة جرمانيّة لا يعترف بما يعترف به العقل ، ولهذا ينفر الإنسان من البيات في بيت فيه ميّت.
    والرابع نسبته إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الأوّل.
    وبالخامس يجمع أجزاء أنواع مختلفة ، كجمعها حيوانا من رأس إنسان وعنق بعير وظهر فيل ـ مثلا ـ ويفرّق أجزاء نوع واحد ـ كإنسان بلا رأس ولا يسكن عن فعله ـ لا نوما ولا يقظة ـ ويحاكي للمدركات والهيئات المزاجيّة ، وينتقل من الشيء إلى ضدّه وشبيهه ، ويسمّى هؤلاء كلّها ـ أيضا ـ ب «القوى».
    ففاعل الحركة ب «القوّة المحرّكة» والباعث على المنفعة ب «الشهويّة». والدافع للمضرّة ب «الغضبيّة». والمدركات الظاهرة ب «اللامسة» ، و «الذائقة» ، و «الشامّة» ، و «السامعة» ، و «الباصرة». والباطنة ب ـ «الحسّ المشترك» ، و «المصوّرة» ، و «الواهمة» ، و «الحافظة» و «المتصرّفة».
    وربّما يقال للمصوّرة : «الخيال» ، وللمتصرّفة عند استعمال النفس إيّاها بواسطة الواهمة : «المتخيّلة» ، وعند استعمالها إيّاها بواسطة القوّة العقليّة ـ الآتية ذكرها ـ : «المفكّرة».
    وربّما يسمّى الثلاث الأخيرة منها ب «المسترجعة» واولاها ب «الذاكرة» و «المتصرّفة» و «المتذكّرة» ، كأنّها يد روحانيّة للنفس ، كما أنّ الواهمة عين روحانيّة لها.
    فسبحان خالق البشر ، وحمدا لواهب القوى والقدر.

    فصل (1) [7]
    [العقل العملي والنظري]
    وأمّا الإنسان بما هو إنسان فله في ذاته ـ باعتبار ما يخصّه من القبول عمّا فوقه والفعل فيما دونه ـ ملكان : علّام وفعّال.
    فبالأوّل يدرك التصوّرات والتصديقات ، ويعتقد الحقّ والباطل فيما يعقل ويدرك ، ويسمّى ب «العقل النظري».
    وبالثاني يستنبط الصناعات الإنسانيّة ويعتقد الجميل والقبيح فيما يفعل ويترك ، ويسمّى ب «العقل العملي» ، وهو الذي يستعمل الفكر والرويّة في الأفعال والصنائع مختارا للخير ـ أو ما يظنّ خيرا ـ وله الجربزة والبلاهة والتوسّط بينهما المسمّى ب «الحكمة الخلقيّة».
    وكلّ ما ورد في الأخبار من مدح العقل والعاقل فهو راجع إليهما وإلى صاحبهما ، كقول مولانا الصادق عليه‌السلام (2) «العقل دليل المؤمن».
    وفي الحديث القدسي (3) : «ما خلقت خلقا أحسن منك ، إيّاك آمر وإيّاك أنهي ، وإيّاك اثيب وإيّاك اعاقب».
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (4) : «بالعقل استخرج غور الحكمة ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 358.
    (2) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل : 1 / 25 ، ح 24.
    (3) ـ راجع ما مضى في الصفحة : 231.
    (4) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل ، الحديث الرابع والثلاثين : 1 / 28.

    وبالحكمة استخرج غور العقل ، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح».
    وكان عليه‌السلام يقول (1) : «التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلّص وقلّة التربّص».
    ـ إلى غير ذلك من الروايات.
    فصل (2) [8]
    [النفوس أربعة]
    روي عن كميل بن زياد (3) أنّه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليّا عليه الصلاة والسلام ، فقلت : «يا أمير المؤمنين اريد أن تعرّفني نفسي».
    قال : «يا كميل ـ وأيّ الأنفس تريد أن اعرّفك»؟
    قلت : «يا مولاي ـ هل هي إلّا نفس واحدة»؟
    قال : «يا كميل ـ إنّما هي أربعة : النامية النباتيّة ، والحسيّة
    __________________
    (1) ـ الكافي : تتمة الحديث السابق. وورد فيه (كتاب فضل القرآن ، 2 / 599 ، ح 2) أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإن التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربّص». وفي البحار (77 / 135 ، ح 46 و 92 / 17 ، ح 17) عن النوادر للراوندي مع تغيير في الألفاظ.
    (2) ـ عين اليقين : 382.
    (3) ـ كميل بن زياد النخعي من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قتله الحجاج ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام أخبره بذلك. راجع الإرشاد للمفيد ـ قدس‌سره ـ : 1 / 327.
    والرواية أوردها المجلسي (البحار : 61 / 85) عن بعض كتب الصوفية ـ ولم يسم المصدر ـ ثم قال : «وهذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة ...»

    الحيوانيّة ، والناطقة القدسيّة ، والكليّة الإلهيّة ؛ ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان:
    فالناميّة النباتيّة لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربيّة. ولها خاصيّتان : الزيادة والنقصان ؛ وانبعاثها من الكبد.
    والحسيّة الحيوانيّة لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشمّ ، وذوق ، ولمس. ولها خاصيّتان : الرضا والغضب ؛ وانبعاثها من القلب.
    والناطقة القدسيّة لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة. وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة (1) ولها خاصيّتان : النزاهة والحكمة.
    والكليّة الإلهيّة لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ؛ ولها خاصيّتان : الرضا ، والتسليم ؛ وهذه التي هي مبدؤها من الله وإليه تعود ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [15 / 29] وقال ـ تعالى ـ : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [89 / 27 ـ 28].
    والعقل وسط الكلّ.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    «قوله عليه‌السلام : «وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة» أراد بالملك نوعا خاصّا منه ، لما دريت أن مرتبة كثير من الملائكة السفليّة دون مرتبة الإنسان ، وكذلك يكون أكثر إطلاقاته في الكتاب والسنّة. ولهذا أيضا لم تسمّ به القوى الحيوانيّة في هذا الحديث ، وسمّيت بالروح في أخبار كثيرة ؛ مع أنّ الروح أعظم من الملك. وتحت هذا الحديث أسرار ليس هنا محل ذكرها (منه ـ ره)».

    [3]
    باب
    الأرواح البشريّة
    (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22]
    فصل (1) [1]
    الأرواح البشريّة هي الملائكة المدبّرة لبنية الإنسان ـ كما ذكرناه مفصّلا ـ وجملتها ما في حديث كميل المذكور آنفا.
    وإنّما سمّيت بالأرواح لإعطائها الحياة ، فإنّ للإنسان بكلّ منها حياة غير حياته التى تكون بالآخر ، وتسميتها بالأرواح إنّما تكون في الكتاب والسنّة ، ولا سيّما في كلمات أهل البيت عليهم‌السلام :
    روى محمد بن الحسن الصفّار رحمه‌الله في كتاب بصائر الدرجات (2) بإسناده عن جابر ـ قال : ـ سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الروح؟ قال :
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 379.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الجزء التاسع ، باب (14) ما جعل الله في الأنبياء والأولياء والمؤمنين وسائر الناس من الأرواح ... : 447 ـ 449 ، ح 5. وفي الباب أخبار اخر في معناه. عنه البحار : 69 / 191 ـ 192 ، ح 6.

    «يا جابر ـ إنّ الله خلق الخلق على ثلاث طبقات ، وأنزلهم ثلاث منازل ، وبيّن ذلك في كتابه حيث قال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [56 / 8 ـ 11].
    فأمّا ما ذكره من أمر السابقين : فهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين ، جعل الله فيهم خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ وبيّن ذلك في كتابه حيث قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [2 / 253] ؛ ثمّ قال في جميعهم : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22].
    فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين [وغير مرسلين] (1) وبروح القدس علموا جميع الأشياء ، وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئا ، وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم وعالجوا معايشهم ، وبروح الشهوة أصابوا لذّة الطعام ونكحوا الحلال من النساء ، وبروح البدن يدبّ ويدرج.
    وأمّا ما ذكره من أصحاب الميمنة : فهم المؤمنون حقّا ، جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ ولا يزال العبد مستكملا هذه الأرواح الأربعة حتّى يهمّ بالخطيئة ، فإذا همّ بالخطيئة زيّن له روح الشهوة ، وشجّعه روح القوّة ، وقاده روح البدن حتّى يوقعه في تلك الخطيئة ؛ فاذا لامس الخطيئة
    __________________
    (1) ـ إضافة من المصدر.

    انتقص روح الإيمان (1) ، وانتقص الإيمان منه ؛ فإن تاب ، الله عليه.
    وقد تأتى على العبد تارات ينتقص منه بعض هذه الأربعة ، وذلك قول الله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [16 / 70] ؛ فينتقص منه روح القوّة ، ولا يستطيع مجاهدة العدوّ ولا معالجة المعيشة ، وينتقص منه روح الشهوة ، فلو مرّت به أحسن بنات آدم لم يحن إليها ؛ ويبقى فيه روح الإيمان وروح البدن ؛ فبروح الإيمان يعبد الله ، وبروح البدن يدبّ ويدرج ، حتّى يأتيه ملك الموت.
    وأمّا ما ذكره من أصحاب المشئمة فهم (2) أهل الكتاب ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [2 / 146 ـ 147] عرفوا رسول الله والوصيّ من بعده ، وكتموا ما عرفوا من الحقّ بغيا وحسدا ، فسلبهم الله روح الإيمان ، وجعل لهم ثلاثة أرواح : روح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [25 / 44] ؛ لأنّ الدابّة ـ يا جابر ـ إنّما تحمل بروح القوّة ، وتعتلف بروح الشهوة ، وتسير بروح البدن».
    وبإسناده عن امير المؤمنين عليه‌السلام ما يقرب من هذا الحديث (3).
    __________________
    (1) ـ المصدر : من الإيمان (بدلا من : روح الإيمان).
    (2) ـ المصدر : فمنهم.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 449 ـ 450 ، ح 6. البحار : 69 / 181 ، ح 3.

    ورواه ـ أيضا ـ محمد بن يعقوب ـ رحمه‌الله ـ في الكافى عنه عليه‌السلام (1)
    وفي رواية اخرى لجابر : قال عليه‌السلام في المقربين (2) :
    «فبروح القدس ـ يا جابر ـ عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى ـ ثمّ قال : ـ يا جابر ، إنّ هذه الأربعة الأرواح تصيبها الحدثان إلّا روح القدس ، فإنّها لا تلهو ولا تلعب».
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (3) ما يقرب منه ، وفي آخره : «وروح الإيمان يلازم الجسد ما لم يعمل بكبيرة ، فاذا عمل بكبيرة فارقه الروح ، وروح القدس من سكن فيه فإنّه لا يعمل بكبيرة أبدا».
    وفي الحديث النبوى صلى‌الله‌عليه‌وآله (4) : «من قارف ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا».
    وفيه أيضا (5) : «إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان». قال مولانا
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ، 2 / 281 ـ 284 ، ح 16. تحف العقول : ذكره عليه‌السلام الإيمان والأرواح واختلافها : 188. عنهما البحار : 69 / 179.
    (2) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم‌السلام ، 1 / 272 ، ح 2.
    بصائر الدرجات : الباب السابق ، 447 ، ح 3. عنه البحار : 25 / 55 ، ح 15.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 447 ، ح 3. عنه البحار : 25 / 54 ، ح 14.
    (4) ـ أورده الغزالي في الإحياء (كتاب شرح عجائب القلب ، بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة : 3 / 23. وكتاب التوبة ، الركن الرابع : 4 / 77 ، وكتاب المراقبة والمحاسبة ، بيان حقيقة المراقبة : 4 / 583). وقال العراقي في تخريجه (المغني : ذيل الإحياء الطبعة القديمة : 3 / 13) : «لم أر له أصلا».
    (5) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ، 2 / 280 ، ح 11. ثواب الأعمال : عقاب الزاني والزانية ، 313 ، ح 8. المحاسن : كتاب عقاب الأعمال ، باب (46) عقاب الزاني : 1 / 106 ، ح 90. وجاء مثله عن الصادق عليه‌السلام في الكافي : الباب المذكور ، 2 / 284 ، ح 17. البحار : 69 / 195 ، ح 11. و 79 / 26 ـ 27 ، ح 29.

    الباقر عليه‌السلام : «هو قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22] ، ذاك الّذي يفارقه».
    وعن مولانا الكاظم عليه‌السلام ـ قال ـ (1) : «إنّ الله أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتّقي ، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ...» ـ الحديث. والروايات في هذا الباب كثيرة.
    فصل [2]
    [الأوصياء محدّثون]
    روي في بصائر الدرجات (2) بإسناده عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، قال : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ الأوصياء محدّثون ، يحدّثهم روح القدس ولا يرونه ، وكان عليّعليه‌السلام يعرض على روح القدس ما يسأل عنه ، فيوجس في نفسه أن قد اصيب بالجواب ، فيخبر فيكون كما قال».
    وبإسناده (3) عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : «بما تحكمون إذا حكمتم»؟ فقال : «بحكم الله ، وحكم داود ، وحكم محمّد ؛ فاذا ورد علينا ما ليس في كتاب عليّ تلقّانا به روح القدس أو ألهمنا الله إلهاما».
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الروح الذي ايّد به المؤمن ، 2 / 286 ، ح 1.
    عنه البحار : 69 / 194 ، ح 10.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الجزء التاسع ، باب في الأئمة عليهم‌السلام إن روح القدس يتلقّاهم إذا احتاجوا إليه : 453 ، ح 9. عنه البحار : 25 / 57 ، ح 24.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 452 ، ح 6. وفي الباب عدة أحاديث تقرب منه.
    عنه البحار : 25 / 56 ، ح 18.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:43 pm

    فصل [17]
    اعلم أنّه لو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضّل الله ـ عزوجل ـ علينا بمعرفته ، وكلّ ما عرفناه قليل نزر بالإضافة إلى ما عرفه جملة الأولياء والعلماء ، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ، والملائكة المقرّبون ـ كجبرئيل وإسرافيل وغيرهما ـ صلوات الله عليهم ـ.
    ثمّ جميع علوم الأنبياء والملائكة والجنّ والإنس إذا اضيف إلى علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يستحقّ أن يسمّى علما ، بل هو إلى أن يسمّى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ؛ فسبحان من عرّف عباده ما عرّف ، ثمّ قال مخاطبا جميعهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [17 / 85].
    فهذا بيان معاقد الجمل التي يجول فيها فكر المتفكّرين في خلق الله ـ عزوجل ـ وليس فيها فكر في ذات الله ، ولكن تستفاد من الفكر في الخلق لا محالة معرفة الخالق ، وعظمته ، وجلاله وقدرته ، وكلّما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أكثر.
    وهذا كما أنّك إن تعظّم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو شعره ، فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسبه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتّى أنّ كلّ كلمة من كلماته وكلّ بيت من أبيات شعره يزيده محلّا في قلبك ، ويستدعي التعظيم له من نفسك.
    فهكذا تأمّل في خلق الله وتصنيفه وتأليفه ، وكلّ ما في الوجود من

    خلق الله وتصنيفه ؛ فالنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا ، وإنّما لكلّ عبد منها بقدر ما رزق.
    * * *
    فسبحان بديع السماوات والأرض ،
    ما أعظم ما نرى من خلقك ،
    وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك ،
    وما أهول ما نرى من ملكوتك ،
    وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ،
    وما أسبغ نعمك في الدنيا
    وما أصغرها في نعم الآخرة.
    * * *
    هذا آخر الكلام في العلم بالله ـ والحمد لله وحده.
    * * *

    المقصد الثاني
    في العلم بالملائكة
    (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (1) [21 / 26 ـ 27] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [16 / 50] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 20]
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    الآية الاولى في سورة الأنبياء.
    (مُكْرَمُونَ) : أي مقربون.
    (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) : لا يقولون شيئا حتى يقوله ، كما هو شيمة العبيد المؤدبين.
    (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) : لا يعملون قط ما لم يأمره به.

    [1]
    باب الملائكة المقرّبين
    (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [4 / 172]
    فصل (1) [1]
    [الملائكة الكروبيون]
    الملائكة المقرّبون منهم الكروبيّون (2) المهيّمون ، المستغرقون في بحار الأحديّة ، المتحيّرون في عظمة ربّ العالمين ، المتواجدون في جلال أوّل الأوّلين ، المستهترون بذكر آلائه ، المتواضعون لجبروته وكبريائه ؛ لا التفات لهم إلى ذواتهم المنوّرة بنور الحقّ ـ فضلا عن غيرهم ـ لولههم وهيمانهم في جمال الحقّ ـ أبدا سرمدا ـ وكأنّه إليهم اشير في الحديث حيث قيل (3) : «إنّ لله ملائكة لا يعلمون أنّ الله خلق آدم وذريّته».
    __________________
    (1) ـ راجع مفاتيح الغيب : الفصل الثالث من المفتاح الثامن : 339.
    (2) ـ في القاموس : الكروبيون ـ مخففة الراء ـ : سادة الملائكة.
    (3) ـ لم أعثر عليه. وجاء في شرح القاساني لمنازل السائرين (باب السر : 477) : «الملائكة الذين قيل فيهم : إنهم لا يعلمون أنّ الله خلق آدم».

    وروى محمّد بن الحسن الصفّار (1) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الكرّوبيّين قوم من شيعتنا من الخلق الأوّل ، جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور أحدهم على أهل الأرض لكفاهم».
    ـ ثمّ قال : ـ «إنّ موسى عليه‌السلام لمّا أن سئل ربّه ما سأل ، أمر واحدا من الكرّوبيّين فتجلّى للجبل فجعله دكّا».
    أقول : لا منافاة بين الحديثين عند اولى الألباب ، وإن حملنا الأوّل على الكرّوبيّين ، لأنّ التشيّع لا يتوقّف على العلم بخلق آدم وذريّته ، كما يظهر عند تفسيرنا الشيعة ـ إن شاء الله.
    فصل (2) [2]
    [الملائكة العقلية]
    ومنهم الملائكة العقليّة الذين أبدعهم الله عزوجل وسائط جوده ورحمته ، وحجب جلاله وعظمته ، وهم مبادئ سلسلة الموجودات وغاياتها ، ومنتهى أشواق النفوس ونهاياتها.
    وقد أشرنا إليهم فيما سبق (3) ، وذكرنا أنّهم أوّل ما خلق الله ، وأنّ لهم
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الجزء الثاني ، باب نادر من الباب (6) ، ما خصّ به الأئمّة من ولاية الملائكة : 69.
    عنه البحار : 13 / 224 ، ح 18. 26 / 342 ، ح 12. 59 / 184 ، ح 26.
    (2) ـ راجع مفاتيح الغيب : الباب السابق : 340.
    (3) ـ راجع ما مضى في الفصل الأول من الباب السابع من المقصد الأول.

    أسام متعدّدة باعتبارات مختلفة ، وأنّ لهم جهتي وحدة وكثرة ، وأنّ كثرتهم بإزاء كثرة المخلوقات نوعا.
    كما روينا (1) عن مولانا زين العابدين عليه‌السلام : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله» ، وإنّه تأويل قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [15 / 21].
    وكأنّه إليهم اشير في حديث المعراج (2) حيث قيل :
    «أنزل الله العزيز الجبّار عليه محملا من نور ، فيه أربعون نوعا من أنواع النور ، كانت محدقة حول العرش ـ عرش الله ـ يغشي أبصار الناظرين ، أما واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ؛ وواحد منها أحمر ، فمن أجل ذلك احمرّت الحمرة ؛ وواحد منها أبيض ، فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على قدر ما خلق الله من الأنواع والألوان».
    وكذا ما نقلناه عن بعض الحكماء (3) : «إنّ من وراء هذا العالم سماء وأرضا ...» ـ إلى آخر ما قال ـ.
    وإنّما خلق الله سبحانه بسبب تراكيب جهاتها ومشاركتها ومناسبتها وهيئاتها النوريّة وأشعّتها العقليّة ـ من المحبّة واللذّة ، والعزّ والذلّ ، والقهر والانقهار ، والاستغناء والافتقار ، وغير ذلك من المعاني والهيئات ـ امورا في هذا العالم تناسبها من عجائب الترتيبات ولطائف
    __________________
    (1) ـ راجع الصفحة : 235.
    (2) ـ يأتي حديث المعراج مفصلا في باب المعراج.
    (3) ـ مضى في الصفحة : 340.

    النسب وبدائع النظم في السماوات والأرضين ، وما فيهما من الأجسام وتوابعها ، وفي عالم النفوس ـ من العجائب الروحانيّة والغرائب الجسمانيّة من أحوال قواها وكيفيّة تعلقها بالأبدان وغير ذلك ـ كما اشير إليه في حديث المعراج بقوله : «ومن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ... ومن أجل ذلك احمرّت الحمرة» ـ وما يشبه ذلك.
    فصل [3]
    وإذ ليس للملائكة المقرّبين حجاب ـ لبراءتهم من الغواشي ـ فذواتهم ظاهرة لأنفسهم ، معقولة لهم ؛ وكذا ذوات بعضهم لبعض ؛ وبهم ظهور من دونهم من الموجودات.
    فهم إذن انوار مجرّدة وأشعّة إلهيّة وأضواء قاهرة ؛ وكلّهم أحياء ناطقون ، عالمون ، وعالمهم عالم القدرة ؛ وللعالي منهم قهر على السافل ، وإشراق وإحاطة ؛ وللسافل عشق إلى العالي ، ومحبّة له ومشاهدة من دون إحاطة ، لانقهاره عنه (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [85 / 20] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [6 / 61].
    والكلّ مبتهجون بالله ـ تعالى ـ وبذواتهم ، لا من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ، لأنّهم يعرفون أنفسهم به تعالى ، فلذّتهم ـ أيضا ـ بذاته سبحانه.
    وأمّا لذّتهم بأنفسهم فهي من حيث رأوا أنفسهم عبيدا وخدما له مسخّرين ، فهي ترجع إلى لذّتهم به ، فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ، لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ـ كذا قال بعض المحققين.

    [2]
    باب
    الملائكة المدبّرين
    (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [79 / 5]
    فصل [1]
    الملائكة المدبّرون هم الروحانيّات (1) المتعلّقة بعالم الأجسام ، على كثرة أجناسها وأنواعها ، وطبقاتها المتخالفة المتفاوتة حسب تخالف طبقات الأجسام السماويّة والأرضيّة وتفاوتها ـ كما مرّت الإشارة إليهم.
    ونسبتهم إلى النفس الكليّة ـ المسمّاة ب «اللوح» ـ كنسبة سائر العقول والأرواح إلى العقل الأوّل المسمّى ب «القلم» ؛ وإليهم الإشارة في كلمات الأنبياء الماضين عليهم‌السلام (2) «إنّ لكلّ شيء ملكا».
    __________________
    (1) ـ كذا.
    (2) ـ لم أعثر عليه.

    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في كثرة ملائكة السماء (1) : «أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ (2) ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع».
    وقال في كثرة ملائكة الأرض (3) : «ما من قطرة تنزل من السماء إلّا ومعها ملك ، حتّى يضعها موضعها».
    وقد يكون الواحد منهم ذا قوى متعدّدة يفعل بكل قوّة فعلا من الأفاعيل ، وتلك القوى ملائكة اخرى مسخّرة تحت سلطانه ـ كأنّها أجزاؤه وجوارحه وأجنحته ـ وهو جهة وحدتها والمشتمل عليها كلّها.
    وذلك (4) لأنّ الملائكة كلّهم وحدانيّة الصفات ، ليس فيهم خلط وتركيب ـ البتة ـ فلا يكون لكلّ واحد منهم بجهة واحدة وقوّة واحدة ـ إلّا فعل واحد ـ كما اشير إلى ذلك بقوله سبحانه حكاية عنهم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [37 / 164].
    فلذلك ليس لهم تنافس وتقابل ، بل مثال كلّ واحد في مرتبته
    __________________
    (1) ـ بلفظ : «... موضع أربع أصابع ...» في المسند : 5 / 173. الترمذي : كتاب الزهد ، باب (9) ، 4 / 556 ، ح 2312. مستدرك الحاكم : كتاب التفسير ، سورة هل أتى ، 2 / 510. وكتاب الفتن : 4 / 544 ، وكتاب الأهوال ، 4 / 579. حلية الأولياء : ترجمة مورق العجلي ، 2 / 236. كنز العمال : 10 / 367 ، ح 29838.
    راجع أيضا تخريجاتها في الدر المنثور : الصافات / 164 ، 7 / 135 ـ 136.
    (2) ـ قال ابن الأثير (النهاية : أطط : 1 / 54) : «الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ؛ أي إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتّى أطّت ؛ وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة ، وإن لم يكن ثمّ أطيط ؛ وإنما هو كلام تقريب اريد به تقرير عظمة الله تعالى».
    (3) ـ مضت الإشارة إليه في الصفحة : 186.
    (4) ـ إلى آخر الفصل مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب الشكر ، الطرف الثامن : 4 / 177.

    وفعله مثال الحواسّ ، فإنّ البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ، ولا الشمّ يزاحمهما ، ولا هما يزاحمان الشمّ ، بل هي ـ أيضا ـ نوع منهم كما سنشير إليه.
    وهذا بخلاف اليد والرجل ، فإنّك قد تبطش بأصابع الرجل ـ بطشا ضعيفا ـ وقد تضرب غيرك برأسك ، فتزاحم بذينك اليد التي هي آلة البطش والضرب ؛ وكذلك الإنسان الذي يتولّى بنفسه الأفاعيل المختلفة ، فإنّ هذا نوع من العدول والاعوجاج عن العدل ، سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه ، فإنّه ليس وحدانيّ الصفة ، فلم يكن وحدانيّ الفعل ؛ فلذلك تراه يطيع الله تارة ، ويعصيه اخرى ، لاختلاف دواعيه وصفاته.
    وذلك غير ممكن في طباع الملائكة ، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقّهم ، فلا جرم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [66 / 6] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 20] ، والراكع منهم راكع أبدا ، والساجد منهم ساجد أبدا ، والقائم منهم قائم أبدا.
    وطاعتهم لله ـ عزوجل ـ من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن يشبه بطاعة أطرافك لك ، فإنّك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردّد ولا اختلاف في طاعتك مرّة ومعصيتك اخرى ، بل كأنّه منتظر لأمرك ونهيك ، ينفتح وينطبق متّصلا بإشارتك ، فهذا يشبهه من وجه ، ولكن يخالفه من وجه ، إذ الجفن لا علم له بما يصدر عنه من الحركة ـ فتحا وإطباقا ـ والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.

    فصل [2]
    [الملائكة الموكلة بالإنسان]
    لمّا كانت الأجسام الأرضيّة منحصرة في الجماد والنبات والحيوان والإنسان وكلّ لاحق من الأربعة مشتمل على سابقه وزيادة أمر ، فانّ النبات جماد مع زيادة معنى ـ لحفظه التركيب مع قوّة نامية ـ والحيوان نبات مع زيادة معنى ـ لنموّه في الأقطار مع حسّ وحركة ـ والإنسان حيوان مع زيادة معنى ـ لإحساسه وحركته مع نطق وإدراك امور كليّة ـ فالملائكة الموكّلة بكلّ منها موجودة في الإنسان ، مطيعة إيّاه ، خاضعة له ، لاشتماله على النفوس الأربع كلّها.
    لست أقول : «إنّه ذو أربع أنفس» ؛ بل أقول : «إنّ نفسه الواحدة تفعل أفاعيل الأنفس الأربع باستخدام الملائكة ، لكمالها ولتماميّتها وشرفها وقوّتها بالإضافة إلى ما دونها».
    فالملائكة المدبّرة الحافظة لبينته : منها ما تعلّق به من حيث جسميّته ونموّه ويسمّى ب «القوى».
    ومنها ما تعلّق به من جهة حيوانيّته ، ويسمّى ب «الحواسّ».
    ومنها ما تعلّق به من حيث إنسانيّته ويسمّى ب «الأرواح البشريّة»
    ومنها ما تعلّق به من حيث أعماله وأخلاقه وخواطره ويسمّى ب «الكرام الكاتبين» و «الملكات» و «مبادئ اللمم».
    ومنها ما تعلّق به من جهة حفظه عن الشرور والآفات ، ويسمّى ب «المعقّبات».

    إلى غير ذلك من الأنواع وأساميها ، ويتعدّد كلّ منها حسب تعدّد الأفاعيل المتعلّقة بذلك النوع.
    وكذلك المدبّرة للأجسام العلويّة وغيرها إنّما تعدّدها بتعداد الأفاعيل التي فيها ، لما دريت من وحدة فعل الملائكة.
    ولنشر إلى ما يتعلّق بالنبات والحيوان والإنسان من الملائكة والشياطين إشارة مقنعة ـ ومن الله التأييد ـ :
    فصل (1) [3]
    [الملائكة الموكلة بالنبات]
    أمّا النبات فلا بدّ فيه من ملك يزيد في أقطاره الثلاثة على نسبة لائقة محفوظة ، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء ، ومن ملك يقطع فضلة من مادّته ليكون مبدءا لشخص آخر ، ولمّا توقّف فعل الأوّل على التغذّي فلا بدّ من سبعة أملاك اخر لا أقل يخدمونه في هذا الأمر.
    أوّلهم عملا : ملك لا بدّ منه لجذب الغذاء إلى جوار الجسم المتغذي وذلك لأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأطراف ، لأنّه لا محالة إمّا أن يكون ثقيلا ، فلا يصل إلى الأطراف العالية ، أو خفيفا فلا يصل إلى الأطراف السافلة.
    والثاني لا بدّ منه لإمساك الغذاء في جواره ، وذلك لأنّ الغذاء بعيد المشابهة ـ أوّلا ـ فلا بدّ فيه من الاستحالة حتّى يحصل الشبه ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 348.

    والاستحالة حركة ، والحركة إنّما تكون في زمان ، فلا بدّ من زمان في مثله تحصل الاستحالة والتشبّه.
    والثالث لا بدّ منه لنزع الصورة عن الغذاء وخلعها ، وذلك لأنّ تشبيه الغذاء بالعضو إنّما يحصل إذا قرب استعداده لحصول الصورة العضويّة فلا بدّ من ملك يجعله قريب الاستعداد لذلك.
    والرابع لا بدّ منه ليكسو الغذاء صورة العضو ، فإنّ إفادة الصورة غير نزعها ، وكونها غير فسادها. غير فسادها والخامس لا بدّ منه ليدفع ما لا يقبل المشابهة من الغذاء وإلّا لأدّى إلى السداد وثقل البدن ، بل الفساد والإفساد سيّما في الحيوان.
    والسادس لا بدّ منه ليلصق ما اكتسب بصورة العضو بالعضو ، حتّى لا يكون منفصلا.
    والسابع لا بدّ منه ليراعى المقادير في الإلصاق ؛ ويسمّى هؤلاء الأملاك في عرف الجمهور بالقوى.
    فالذي يزيد في الأقطار يسمّى ب «القوّة النامية» ، والقاطع للفضلة ب «القوّة المولّدة» ، والخوادم ب «الجاذبة» و «الماسكة» و «الهاضمة» و «الدافعة» وكلّها ب «الغاذية».
    * * *

    فصل (1) [4]
    [الملائكة الغاذية]
    وهؤلاء الأملاك دائما في شغلهم ، لا يمسكون عن أفعالهم طرفة عين ، فإنّ الشجر ـ مثلا ـ إذا سقى الماء ، أو الحيوان أكل الغذاء فذلك ليس بغذاء ولا أكل على الحقيقة ، وإنّما مثلها كمثل الجابي الجامع للمال في خزانته ـ وهي المعدة في الحيوان وما يجري مجراها في النبات ـ فاذا اخترن ما فيهما وأمسكا عن السقي والأكل ، فحينئذ يتولّاه الملائكة بالتدبير ، وتحيله من حال إلى حال ، وتغذيهما به في كلّ آن ونفس ؛ فهما لا يزالان في غذاء دائم.
    ولو لا ذلك لبطلت الحكمة في نشأة كلّ متغذّ ؛ والله حكيم ، فإذا خلت الخزانة حرّكت الملائكة الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به ، فاذا لم يوجد غذاء يحلّلون الموادّ والفضلات التي في البدن ؛ ولا يزال الأمر كذلك أبدا.
    فهذه صورة الغذاء في كلّ نفس ، فكلّ نفس اكلها دائم في هذه النشأة ـ أيضا ـ كما في الآخرة.
    * * *
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 350.

    فصل (1) [5]
    [الملائكة المغيرة والمصورة]
    ويخدم المولّد ملكان : أحدهما يجعل فضلة الهضم الأخير منيّا أو ما يجرى مجراه من بيضة أو بذر ، والثاني يهيّئ كلّ جزء من أجزاء تلك المادة لقبول صورة مخصوصة من واهب الصور ، وهو إنّما يوجد في تلك المادّة المفروزة عند كونها في الرحم أو ما يجرى مجراه خاصّة ، وهذان الملكان ربما اجتمعا في شخص واحد ـ كما في أكثر النباتات ـ وربما افترقا في شخصين ، ذكر وانثى ـ كما في أكثر الحيوانات ـ وإذا اجتمعا حصل التوليد.
    ويسمّى الأوّل عند الجمهور بالمغيّرة ، والثاني بالمصوّرة.
    أمّا واهب الصور فهو الله ـ سبحانه ـ بتوسّط الملك العقلي الذي هو ربّ نوع النفس النباتيّة المخدوم لهذه الأملاك جميعا ، (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [3 / 6] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [56 / 58 ـ 59].
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف ملك الأرحام (2) : «إنّه يدخل الرحم ، فيأخذ النطفة في يده ، ثمّ يصوّرها جسدا ، فيقول يا ربّ ذكر أم انثى؟
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 350.
    (2) ـ راجع الحديث بألفاظه المختلفة في مسلم : كتاب القدر ، 4 / 2036 ـ 2038 ، ح 1 ـ 4.
    وورد ما يقرب منه عن علي عليه‌السلام في علل الشرائع : باب (85) ، 1 / 85 ، ح 4.
    عنه البحار : 5 / 155 ، ح 6. 60 / 340 ، ح 20.

    سوىّ أم معوج؟ فيقول الله ما شاء ، ويخلق الملك».
    وفي لفظ آخر : «ويصوّر الملك ثمّ ينفخ فيها الروح بالسعادة أو بالشقاوة». وقد مرّ حديث آخر في هذا الباب عن مولانا الباقر عليه‌السلام.
    فصل [6]
    [القوى المحركة والمدركة]
    وأمّا الحيوان فلا بدّ فيه من محرّك ومدرك.
    والمحرّك : منه باعث على الحركة ، ومنه فاعل لها ؛ والباعث : منه باعث على جلب النافع طلبا للذّة ، ومنه حامل على دفع الضارّ ـ طلبا للانتقام ـ.
    والمدرك : منه ظاهر مشهور ، ومنه باطن مستور.
    أمّا الظاهر : فلامس وذائق وشامّ وسامع وباصر.
    وأمّا الباطن : فمدرك للصور المحسوسة دفعة وحافظ لها ، ومدرك للمعاني الجزئيّة وحافظ لها ، ومتصرّف في الأمرين بالتركيب والتحليل.
    وبالأوّل يشاهد النقطة الجوالة بسرعة دائرة ، والقطرة النازلة خطّا مستقيما ، مع أنّ المشاهدة بالبصر ليست إلّا للمقابل ، وما قابل منهما إلّا نقطة وقطرة.
    وبالثاني يحكم على شيء شاهده ثمّ ذهل عنه ثمّ شاهده مرّة اخرى : بأنّه هو الذي شاهده من قبل.
    وبالثالث يدرك الصفات الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات ،

    ويحكم أحكاما جزئيّة ، كإدراك السنّور معنى في الفأر يحمله على الطلب ، وإدراك الفأر معنى في السنّور يوجب الهرب ؛ وهذا في الإنسان ينازع عقله ، لأنّه قوّة جرمانيّة لا يعترف بما يعترف به العقل ، ولهذا ينفر الإنسان من البيات في بيت فيه ميّت.
    والرابع نسبته إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الأوّل.
    وبالخامس يجمع أجزاء أنواع مختلفة ، كجمعها حيوانا من رأس إنسان وعنق بعير وظهر فيل ـ مثلا ـ ويفرّق أجزاء نوع واحد ـ كإنسان بلا رأس ولا يسكن عن فعله ـ لا نوما ولا يقظة ـ ويحاكي للمدركات والهيئات المزاجيّة ، وينتقل من الشيء إلى ضدّه وشبيهه ، ويسمّى هؤلاء كلّها ـ أيضا ـ ب «القوى».
    ففاعل الحركة ب «القوّة المحرّكة» والباعث على المنفعة ب «الشهويّة». والدافع للمضرّة ب «الغضبيّة». والمدركات الظاهرة ب «اللامسة» ، و «الذائقة» ، و «الشامّة» ، و «السامعة» ، و «الباصرة». والباطنة ب ـ «الحسّ المشترك» ، و «المصوّرة» ، و «الواهمة» ، و «الحافظة» و «المتصرّفة».
    وربّما يقال للمصوّرة : «الخيال» ، وللمتصرّفة عند استعمال النفس إيّاها بواسطة الواهمة : «المتخيّلة» ، وعند استعمالها إيّاها بواسطة القوّة العقليّة ـ الآتية ذكرها ـ : «المفكّرة».
    وربّما يسمّى الثلاث الأخيرة منها ب «المسترجعة» واولاها ب «الذاكرة» و «المتصرّفة» و «المتذكّرة» ، كأنّها يد روحانيّة للنفس ، كما أنّ الواهمة عين روحانيّة لها.
    فسبحان خالق البشر ، وحمدا لواهب القوى والقدر.

    فصل (1) [7]
    [العقل العملي والنظري]
    وأمّا الإنسان بما هو إنسان فله في ذاته ـ باعتبار ما يخصّه من القبول عمّا فوقه والفعل فيما دونه ـ ملكان : علّام وفعّال.
    فبالأوّل يدرك التصوّرات والتصديقات ، ويعتقد الحقّ والباطل فيما يعقل ويدرك ، ويسمّى ب «العقل النظري».
    وبالثاني يستنبط الصناعات الإنسانيّة ويعتقد الجميل والقبيح فيما يفعل ويترك ، ويسمّى ب «العقل العملي» ، وهو الذي يستعمل الفكر والرويّة في الأفعال والصنائع مختارا للخير ـ أو ما يظنّ خيرا ـ وله الجربزة والبلاهة والتوسّط بينهما المسمّى ب «الحكمة الخلقيّة».
    وكلّ ما ورد في الأخبار من مدح العقل والعاقل فهو راجع إليهما وإلى صاحبهما ، كقول مولانا الصادق عليه‌السلام (2) «العقل دليل المؤمن».
    وفي الحديث القدسي (3) : «ما خلقت خلقا أحسن منك ، إيّاك آمر وإيّاك أنهي ، وإيّاك اثيب وإيّاك اعاقب».
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (4) : «بالعقل استخرج غور الحكمة ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 358.
    (2) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل : 1 / 25 ، ح 24.
    (3) ـ راجع ما مضى في الصفحة : 231.
    (4) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل ، الحديث الرابع والثلاثين : 1 / 28.

    وبالحكمة استخرج غور العقل ، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح».
    وكان عليه‌السلام يقول (1) : «التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلّص وقلّة التربّص».
    ـ إلى غير ذلك من الروايات.
    فصل (2) [8]
    [النفوس أربعة]
    روي عن كميل بن زياد (3) أنّه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليّا عليه الصلاة والسلام ، فقلت : «يا أمير المؤمنين اريد أن تعرّفني نفسي».
    قال : «يا كميل ـ وأيّ الأنفس تريد أن اعرّفك»؟
    قلت : «يا مولاي ـ هل هي إلّا نفس واحدة»؟
    قال : «يا كميل ـ إنّما هي أربعة : النامية النباتيّة ، والحسيّة
    __________________
    (1) ـ الكافي : تتمة الحديث السابق. وورد فيه (كتاب فضل القرآن ، 2 / 599 ، ح 2) أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإن التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربّص». وفي البحار (77 / 135 ، ح 46 و 92 / 17 ، ح 17) عن النوادر للراوندي مع تغيير في الألفاظ.
    (2) ـ عين اليقين : 382.
    (3) ـ كميل بن زياد النخعي من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قتله الحجاج ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام أخبره بذلك. راجع الإرشاد للمفيد ـ قدس‌سره ـ : 1 / 327.
    والرواية أوردها المجلسي (البحار : 61 / 85) عن بعض كتب الصوفية ـ ولم يسم المصدر ـ ثم قال : «وهذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة ...»

    الحيوانيّة ، والناطقة القدسيّة ، والكليّة الإلهيّة ؛ ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان:
    فالناميّة النباتيّة لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربيّة. ولها خاصيّتان : الزيادة والنقصان ؛ وانبعاثها من الكبد.
    والحسيّة الحيوانيّة لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشمّ ، وذوق ، ولمس. ولها خاصيّتان : الرضا والغضب ؛ وانبعاثها من القلب.
    والناطقة القدسيّة لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة. وليس لها انبعاث ، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة (1) ولها خاصيّتان : النزاهة والحكمة.
    والكليّة الإلهيّة لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ؛ ولها خاصيّتان : الرضا ، والتسليم ؛ وهذه التي هي مبدؤها من الله وإليه تعود ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [15 / 29] وقال ـ تعالى ـ : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [89 / 27 ـ 28].
    والعقل وسط الكلّ.
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    «قوله عليه‌السلام : «وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة» أراد بالملك نوعا خاصّا منه ، لما دريت أن مرتبة كثير من الملائكة السفليّة دون مرتبة الإنسان ، وكذلك يكون أكثر إطلاقاته في الكتاب والسنّة. ولهذا أيضا لم تسمّ به القوى الحيوانيّة في هذا الحديث ، وسمّيت بالروح في أخبار كثيرة ؛ مع أنّ الروح أعظم من الملك. وتحت هذا الحديث أسرار ليس هنا محل ذكرها (منه ـ ره)».

    [3]
    باب
    الأرواح البشريّة
    (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22]
    فصل (1) [1]
    الأرواح البشريّة هي الملائكة المدبّرة لبنية الإنسان ـ كما ذكرناه مفصّلا ـ وجملتها ما في حديث كميل المذكور آنفا.
    وإنّما سمّيت بالأرواح لإعطائها الحياة ، فإنّ للإنسان بكلّ منها حياة غير حياته التى تكون بالآخر ، وتسميتها بالأرواح إنّما تكون في الكتاب والسنّة ، ولا سيّما في كلمات أهل البيت عليهم‌السلام :
    روى محمد بن الحسن الصفّار رحمه‌الله في كتاب بصائر الدرجات (2) بإسناده عن جابر ـ قال : ـ سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الروح؟ قال :
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 379.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الجزء التاسع ، باب (14) ما جعل الله في الأنبياء والأولياء والمؤمنين وسائر الناس من الأرواح ... : 447 ـ 449 ، ح 5. وفي الباب أخبار اخر في معناه. عنه البحار : 69 / 191 ـ 192 ، ح 6.

    «يا جابر ـ إنّ الله خلق الخلق على ثلاث طبقات ، وأنزلهم ثلاث منازل ، وبيّن ذلك في كتابه حيث قال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [56 / 8 ـ 11].
    فأمّا ما ذكره من أمر السابقين : فهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين ، جعل الله فيهم خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ وبيّن ذلك في كتابه حيث قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [2 / 253] ؛ ثمّ قال في جميعهم : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22].
    فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين [وغير مرسلين] (1) وبروح القدس علموا جميع الأشياء ، وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئا ، وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم وعالجوا معايشهم ، وبروح الشهوة أصابوا لذّة الطعام ونكحوا الحلال من النساء ، وبروح البدن يدبّ ويدرج.
    وأمّا ما ذكره من أصحاب الميمنة : فهم المؤمنون حقّا ، جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ ولا يزال العبد مستكملا هذه الأرواح الأربعة حتّى يهمّ بالخطيئة ، فإذا همّ بالخطيئة زيّن له روح الشهوة ، وشجّعه روح القوّة ، وقاده روح البدن حتّى يوقعه في تلك الخطيئة ؛ فاذا لامس الخطيئة
    __________________
    (1) ـ إضافة من المصدر.

    انتقص روح الإيمان (1) ، وانتقص الإيمان منه ؛ فإن تاب ، الله عليه.
    وقد تأتى على العبد تارات ينتقص منه بعض هذه الأربعة ، وذلك قول الله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [16 / 70] ؛ فينتقص منه روح القوّة ، ولا يستطيع مجاهدة العدوّ ولا معالجة المعيشة ، وينتقص منه روح الشهوة ، فلو مرّت به أحسن بنات آدم لم يحن إليها ؛ ويبقى فيه روح الإيمان وروح البدن ؛ فبروح الإيمان يعبد الله ، وبروح البدن يدبّ ويدرج ، حتّى يأتيه ملك الموت.
    وأمّا ما ذكره من أصحاب المشئمة فهم (2) أهل الكتاب ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [2 / 146 ـ 147] عرفوا رسول الله والوصيّ من بعده ، وكتموا ما عرفوا من الحقّ بغيا وحسدا ، فسلبهم الله روح الإيمان ، وجعل لهم ثلاثة أرواح : روح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [25 / 44] ؛ لأنّ الدابّة ـ يا جابر ـ إنّما تحمل بروح القوّة ، وتعتلف بروح الشهوة ، وتسير بروح البدن».
    وبإسناده عن امير المؤمنين عليه‌السلام ما يقرب من هذا الحديث (3).
    __________________
    (1) ـ المصدر : من الإيمان (بدلا من : روح الإيمان).
    (2) ـ المصدر : فمنهم.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 449 ـ 450 ، ح 6. البحار : 69 / 181 ، ح 3.

    ورواه ـ أيضا ـ محمد بن يعقوب ـ رحمه‌الله ـ في الكافى عنه عليه‌السلام (1)
    وفي رواية اخرى لجابر : قال عليه‌السلام في المقربين (2) :
    «فبروح القدس ـ يا جابر ـ عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى ـ ثمّ قال : ـ يا جابر ، إنّ هذه الأربعة الأرواح تصيبها الحدثان إلّا روح القدس ، فإنّها لا تلهو ولا تلعب».
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (3) ما يقرب منه ، وفي آخره : «وروح الإيمان يلازم الجسد ما لم يعمل بكبيرة ، فاذا عمل بكبيرة فارقه الروح ، وروح القدس من سكن فيه فإنّه لا يعمل بكبيرة أبدا».
    وفي الحديث النبوى صلى‌الله‌عليه‌وآله (4) : «من قارف ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا».
    وفيه أيضا (5) : «إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان». قال مولانا
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ، 2 / 281 ـ 284 ، ح 16. تحف العقول : ذكره عليه‌السلام الإيمان والأرواح واختلافها : 188. عنهما البحار : 69 / 179.
    (2) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم‌السلام ، 1 / 272 ، ح 2.
    بصائر الدرجات : الباب السابق ، 447 ، ح 3. عنه البحار : 25 / 55 ، ح 15.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 447 ، ح 3. عنه البحار : 25 / 54 ، ح 14.
    (4) ـ أورده الغزالي في الإحياء (كتاب شرح عجائب القلب ، بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة : 3 / 23. وكتاب التوبة ، الركن الرابع : 4 / 77 ، وكتاب المراقبة والمحاسبة ، بيان حقيقة المراقبة : 4 / 583). وقال العراقي في تخريجه (المغني : ذيل الإحياء الطبعة القديمة : 3 / 13) : «لم أر له أصلا».
    (5) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبائر ، 2 / 280 ، ح 11. ثواب الأعمال : عقاب الزاني والزانية ، 313 ، ح 8. المحاسن : كتاب عقاب الأعمال ، باب (46) عقاب الزاني : 1 / 106 ، ح 90. وجاء مثله عن الصادق عليه‌السلام في الكافي : الباب المذكور ، 2 / 284 ، ح 17. البحار : 69 / 195 ، ح 11. و 79 / 26 ـ 27 ، ح 29.

    الباقر عليه‌السلام : «هو قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [58 / 22] ، ذاك الّذي يفارقه».
    وعن مولانا الكاظم عليه‌السلام ـ قال ـ (1) : «إنّ الله أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتّقي ، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ...» ـ الحديث. والروايات في هذا الباب كثيرة.
    فصل [2]
    [الأوصياء محدّثون]
    روي في بصائر الدرجات (2) بإسناده عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، قال : قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ الأوصياء محدّثون ، يحدّثهم روح القدس ولا يرونه ، وكان عليّعليه‌السلام يعرض على روح القدس ما يسأل عنه ، فيوجس في نفسه أن قد اصيب بالجواب ، فيخبر فيكون كما قال».
    وبإسناده (3) عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : «بما تحكمون إذا حكمتم»؟ فقال : «بحكم الله ، وحكم داود ، وحكم محمّد ؛ فاذا ورد علينا ما ليس في كتاب عليّ تلقّانا به روح القدس أو ألهمنا الله إلهاما».
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب الروح الذي ايّد به المؤمن ، 2 / 286 ، ح 1.
    عنه البحار : 69 / 194 ، ح 10.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الجزء التاسع ، باب في الأئمة عليهم‌السلام إن روح القدس يتلقّاهم إذا احتاجوا إليه : 453 ، ح 9. عنه البحار : 25 / 57 ، ح 24.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 452 ، ح 6. وفي الباب عدة أحاديث تقرب منه.
    عنه البحار : 25 / 56 ، ح 18.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:45 pm

    وبإسناده الصحيح (1) عن أبي بصير ، ـ قال : ـ سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [42 / 52] قال : «خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّة من بعده».
    وفى رواية اخرى (2) ـ قال : ـ «ملك منذ أنزل الله ذلك الملك لم يصعد إلى السماء ، كان مع رسول الله وهو مع الأئمّة ، يسدّدهم».
    وفي رواية اخرى (3) صحيحة عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ قال : ـ «لقد أنزل الله ذلك الروح على نبيّه وما صعد إلى السماء منذ أنزل ، وإنّه لفينا».
    وبإسناده (4) الصحيح عن إبراهيم بن عمر (5) ـ قال : ـ قلت لأبي
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الجزء التاسع ، باب الروح التي قال الله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا ...) ، 455 ، ح 2. عنه البحار : 25 / 59 و 61 ، ح 28. الكافي : كتاب الحجة ، باب الروح التي يسدد بها الأئمة عليه‌السلام ، 1 / 273 ، ح 1. عنه البحار : 18 / 265 ، ح 22.
    تأويل الآيات : 2 / 551 ، ح 21. عنه البحار : 24 / 318 ، ح 25.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 456 ، ح 7. عنه البحار : 25 / 60 ، ح 32.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 457 ، ح 12 ، بلفظ : لقد أنزل ... وفيه رواية اخرى مثله عن الصادق ، ح 11. عنه البحار : 25 / 61 ، ح 36 ـ 37.
    الكافي : الباب السابق : 1 / 273 ، ح 2. عنه البحار : 18 / 265 ، ح 24.
    (4) ـ البصائر الدرجات : باب ما يسأل العالم عن ... : 459 ، ح 3. البحار : 25 / 62 ، ح 40.
    (5) ـ يظهر أنه إبراهيم بن عمر اليماني الصنعاني ، قال النجاشي (الترجمة 26 ، ص 20) : «شيخ من أصحابنا ثقة ...». وعده الشيخ (رجال الشيخ : 103 ، رقم 7 و 145 ، رقم 58) من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام. راجع معجم الرجال : 1 / 263. قاموس الرجال : 1 / 252. ويظهر أنه سقط عن سند البصائر المطبوعة «حماد بن عيسى» ففي البحار : «محمد بن عيسى ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر» وبقرينة روايته عن إبراهيم بن عمر.

    عبد الله عليه‌السلام : «أخبرني عن العلم الذي تعلمونه؟ أهو شيء تعلمونه من أفواه الرجال ـ بعضكم من بعض ـ أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ ـ قال ـ :
    فقال : «الأمر أعظم من ذلك ، أما سمعت قول الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [42 / 52]»؟
    ـ قال : ـ قلت : «بلى».
    قال : «فلمّا أعطاه الله تلك الروح علم بها ، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بها العلم والفهم» ـ تعرّض بنفسه عليه‌السلام ـ.
    وفي رواية اخرى (1) : «وهي الروح التي يعطيها الله من يشاء ، فإذا أعطاها الله عبدا علّمه الفهم والعلم».
    وبإسناده الصحيح (2) عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [17 / 85] قال : «خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمّة يوفّقهم ويسدّدهم ؛ وليس كلّما طلب وجد».
    وفي رواية اخرى صحيحة (3) قال : «ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل ...» ـ الحديث.
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 460 ، ح 5. عنه البحار : 25 / 62 ، ح 40.
    (2) ـ بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ...) ، 460 ، ح 1.
    وفي الباب روايات اخر مثله. عنه البحار : 25 / 67 ، ح 47.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 461. عنه البحار : 25 / 68.

    وفي لفظ آخر (1) : «وهو من الملكوت».
    وفي رواية اخرى (2) في هذه الآية قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أحد وصمد ، والصمد: الذي ليس له جوف ؛ وإنّما الروح خلق من خلقه له بصر (3) وقوّة وتأييد ، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين».
    وبإسناده (4) عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ قال : ـ سألته عن قول اللهعزوجل: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [16 / 2] فقال : «جبرئيل الذي نزل على الأنبياء ، والروح يكون معهم ومع الأوصياء لا يفارقهم ، يفقّههم ويسدّدهم من عند الله ...». ـ الحديث.
    وبإسناده (5) عن أبي بصير ـ قال : ـ كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام ، فذكر شيئا من أمر الإمام إذا ولد ، قال : «استوجب زيادة الروح في ليلة القدر».
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 462 ، ح 9. عنه البحار : 25 / 69 ، ح 54.
    وروى العياشي (2 / 317 في تفسير الآية ، ح 165) عن الصادق عليه‌السلام : «خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، وهو مع الأئمة يفقّههم ، وهو من الملكوت».
    عنه البحار : 61 / 42 ، ح 15.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 463 ، ح 12. عنه البحار : 25 / 70 ، ح 57.
    وفي التوحيد (باب معنى قوله عزوجل : ونفخت فيه من روحي ، 171 ، ح 2) : «عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ إنّ الله تبارك وتعالى أحد صمد ، ليس له جوف ، وإنّما الروح خلق من خلقه ، نصر وتأييد وقوّة ، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين». عنه البحار : 3 / 228 ، ح 17. و 4 / 13 ، ح 10.
    (3) ـ كذا في المصدر والبحار. والأنسب «نصر» كما جاء في التوحيد. وليس فيه : «له».
    (4) ـ بصائر الدرجات : باب الروح التي قال الله تعالى ، ينزل الملائكة ... : 463 ، ح 1.
    (5) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 464 ، ح 4.

    فقلت : «جعلت فداك ـ أليس الروح جبرئيل»؟
    فقال : «جبرئيل من الملائكة ، والروح خلق أعظم من الملائكة ؛ أليس الله يقول : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [97 / 3]»؟
    فصل [3]
    قال بعض العلماء (1) في بيان مراتب الأرواح البشريّة النوريّة :
    إنّ الأول منها : الروح الحسّاس وهو الذي يتلقّى ما تورده الحواسّ الخمس ، وكأنّه أصل الروح الحيواني وأوله ، إذ به يصير الحيوان حيوانا ، وهو موجود للصبيّ الرضيع.
    الثاني : الروح الخيالي ، وهو الذي يستثبت ما أورده الحواسّ ويحفظ [ه] مخزونا عنده ، ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه ، وهذا لا يوجد للصبيّ الرضيع في بداية نشوءه ، ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ، فإذا غاب عنه فينساه ولا تنازعه نفسه إليه ، إلى أن يكبر قليلا فيصير بحيث إذا غيّب عنه بكى وطلب ، لبقاء صورته محفوظة في خياله.
    وهذا قد وجد لبعض الحيوانات دون بعض ، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار ، لأنّه يقصد النار فلشغفه بضياء النار ، فيظنّ أنّ السراج كوّة مفتوحة إلى موضع الضياء ، فيلقي نفسه فيتأذّى به ، لكنّه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرّة
    __________________
    (1) ـ الغزالي في مشكاة الأنوار : الفصل الثاني ، القطب الثاني : 62.

    بعد مرّة ، ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أدّاه الحسّ إليه من الألم لما عاوده مرّة بعد أن تضرّر مرّة به ؛ فالكلب إذا ضرب مرّة بخشبة ، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد هرب.
    الثالث : الروح العقلي ، الذي تدرك به المعاني الخارجة عن الحسّ والخيال وهو الجوهر الإنسي الخاصّ ، ولا يوجد للبهائم ولا للصبيان ومدركاته المعارف الضروريّة الكليّة.
    واعلم (1) أنّ في قلب الإنسان عينا ، هذه صفة كمالها ، وهي [التي] يعبّر عنها تارة ب «العقل» ، وتارة ب «الروح» ، وتارة ب «النفس الإنساني». ودع عنك العبارات ... ونعني بها المعنى الذي يتميّز به العاقل عن الطفل الرضيع ، وعن البهيمة وعن المجنون ....
    فالعقل يدرك غيره ويدرك نفسه ، ويدرك صفاته ، إذ يدرك نفسه عالما وقادرا ، ويدرك علم نفسه ، ويدرك علمه بعلم نفسه ... إلى غير نهاية ؛ فهذه خاصيّة لا تتصوّر أن تدرك بآلة الأجسام بل الحقائق كلّها لا تحتجب عن العقل ...
    وأمّا حجاب العقل ـ حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له ـ تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان ... وله حواسّ خمس في الظاهر جواسيسه وكلّها بأخسّ مراتبه لأنّ المسموعات والمبصرات والمشمومات والمذوقات والملموسات ـ التي مدركات الحواسّ الخمس
    __________________
    (1) ـ مشكاة الأنوار : الفصل الأول ، الدقيقة الثانية : 39 ـ 40 تلخيصا واقتباسا.

    الظاهرة ـ أعراض الأجسام ، والأجسام أخسّ أقسام الموجودات ؛ وله في الباطن جواسيس سواها ـ من خيال ووهم وذكر وفكر وحفظ.
    فإن قلت (1) : نرى العقلاء يغلطون في نظرهم؟
    فاعلم أنّ فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنّون أحكامها أحكام العقل ، فالغلط منسوب إليها ... وأمّا العقل إذا تجرّد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصوّر أن يغلط ؛ بل رأى الأشياء كما هي ، وفي تجريده عسر عظيم ؛ وإنّما يكمل تجرّده عن هذه النوازع بعد الموت ... وعنده يقال (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ...) [50 / 22].
    الرابع (2) : الروح الفكري وهو الذي يأخذ المعارف العقليّة المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة ، ثمّ إذا استفاد نتيجتين ـ مثلا ـ ألّف بينهما مرّة اخرى واستفاد نتيجة اخرى ، ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير النهاية.
    الخامس : الروح القدسي ، الذي يختصّ به الأنبياء وبعض الأولياء ، ومنه تتجلّى لوائح الغيب وأحكام الآخرة ، وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانيّة التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري ، وإليه
    __________________
    (1) ـ مشكاة الأنوار : 41.
    (2) ـ مشكاة الأنوار : 63 ـ 64. تتمة المقطع الأول ؛ والمقطعان السابقان منقولان عن مواضع اخرى من الكتاب تتميما ، وقد أشرنا إلى مواضعها.

    الإشارة بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ـ الآية ـ [42 / 52].
    ولا تبعد ـ أيها العاكف في عالم العقل ـ أن يكون وراء العقل طورا آخر ، يظهر فيه ما لا يظهر في عالم العقل ، كما لا يبعد كون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ، تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز ـ ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك.
    وان أردت مثالا مما نشاهده من جملة خواصّ بعض البشر ، فانظر إلى ذوق الشعر ، كيف يختصّ به قوم من الناس ـ وهو نوع إحساس وإدراك ـ ويحرم عنه بعضهم ، حتّى لا تتميّز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة (1). وانظر كيف عظمت قوّة الذوق في طائفة حتّى استخرجوا بها الموسيقي والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات ـ التي منها المحزن ، ومنها المطرب ، ومنها المنوّم ، ومنها المضحك ، ومنها المجنّن ، ومنها القاتل ، ومنها الموجب للغشي ؛ وإنّما تقوي هذه الآثار فيمن له أصل الذوق ، وأمّا العاطل عن خاصيّة الذوق ،
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    «المنزحفة : ما فيه بعض الزحافات العروضيّة. والزحف في الأصل : تداني الجيش في القتال ؛ وفي الشعر ـ على وزن كتاب ـ هو أن تسقط بين الحرفين حرفا أو أزيد ، أو حركة ؛ فزاحف أحدهما إلى الآخر. والشعر مزاحف ـ بفتح الحاء ـ ومنه : يزحف إليه : إذا يمشي. (منه ـ ره)».

    فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار ـ وهو يتعجّب من صاحب الوجد والغشي ـ ولو اجتمع العقلاء كلّهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.
    فهذا مثال في أمر خسيس ، لكنّه قريب إلى فهمك ، فقس به الذوق الخاصّ النبويّ ، واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشيء من ذلك الروح ، فإنّ للأولياء منه حظّا وافرا ؛ فإنّ لم تقدر فاجتهد أن تصير ... من أهل العلم بها ، فإن لم تقدر فلا أقلّ من أن تكون من أهل الإيمان بها. و (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [58 / 11].
    والعلم فوق الإيمان ، والذوق فوق العلم ؛ فالذوق وجدان ، والعلم قياس وعرفان ، والإيمان قبول مجرّد بالتقليد وحسن الظنّ بأهل الوجدان أو بأهل العرفان.
    فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فاعلم أنّها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات ، والحسّي والخياليّ منها ، وإن كان يشارك البهائم في جنسها لكنّ الذي للإنسان منه نمط آخر أشرف وأعلى ، وخلق الإنسان لأجل غرض أجلّ وأسمى ، وأمّا الحيوانات فلم يخلق لها إلّا لتكون آلتها في طلب غذائها في تسخّرها للآدميّ ، وإنما خلق للآدميّ لتكون شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادئ المعارف الدينيّة الشريفة ، إذ الإنسان إذا أدرك بالحسّ شخصا معيّنا اقتبس عقله منه معنى عامّا مطلقا».

    [4]
    باب
    المعقّبات والشياطين
    (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [13 / 11] وفي قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : بأمر الله.
    فصل [1]
    قيل (1) في تفسير المعقّبات : إنّها الملائكة تتعاقبون ، تعقّب ملائكة الليل ملائكة النهار ، وملائكة النهار ملائكة الليل ؛ وهم الحفظة ، يحفظون على العبد عمله.
    وعن أئمّتنا عليهم‌السلام (2) : إنّهم أربعة أملاك ، يجتمعون عند صلاة الفجر ، وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [17 / 78]».
    __________________
    (1) ـ مجمع البيان : 6 / 281 ، في تفسير الآية عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والجبائي.
    راجع تفسير الطبري : 13 / 76 ـ 79
    (2) ـ مجمع البيان : الصفحة السابقة.

    وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «إنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى المقادير ، فيخلّون بينه وبين المقادير».
    قيل (2) : «هم عشرة أملاك على كلّ آدميّ تحفظه».
    وروى أبو إمامة (3) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (4) ـ إنّه قال : «وكّل بالمؤمن مائة وستّون ملكا (5) يذبّون عنه ما لم يقدّر عليه ؛ من ذلك سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذي (6) في اليوم الصائف. وما لو بدا
    __________________
    (1) ـ مجمع البيان : الصفحة السابقة. وروى ما يقرب منه الكليني (الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب فضل اليقين ، 2 / 59 ، ح Cool.
    والعامّة عنه عليه‌السلام ، راجع الدر المنثور : تفسير الآية المذكورة : 4 / 615.
    وروى القمي في تفسيره (2 / 389) ما يقرب منه عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا.
    (2) ـ مجمع البيان : الصفحة السابقة. تفسير الطبري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : 13 / 76 في تفسير الآية. وحكى مثله ابن طاوس ـ قدس‌سره ـ في سعد السعود (225) عن كتاب قصص القرآن للهيصم بن محمد النيسابوري. عنه البحار : 5 / 324 ، ح 12.
    (3) ـ قال الطبراني في المعجم الكبير (8 / 89) : «صديّ بن العجلان أبو أمامة الباهلي نزل الشام ومات بها». وحكى الذهبي (سير أعلام النبلاء : 3 / 363) عن المدائني وجماعة أنه توفّي سنة ستّ وثمانين ، وعن إسماعيل بن عياش : أنّه مات سنة إحدى وثمانين.
    راجع طبقات ابن سعد : 7 / 411.
    (4) ـ معجم الطبراني : 8 / 167 ، 7704. وأورده الغزالي في الإحياء : كتاب شرح عجائب القلب ، تفصيل مداخل الشيطان إلى القلب : 3 / 60 ـ 61. وقال العراقي : «أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان والطبراني في المعجم بإسناد ضعيف».
    (5) ـ في معجم الطبراني : «... تسعون ومائة ملك ... من ذلك النفر تسعة أملاك يذبون ...» ولعله خطأ الطبع. وفي الدر المنثور (4 / 615) : «أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، والطبراني والصابوني فيالمائتين عن أبي إمامة ... وكّل بالمؤمن ثلاثمائة وستون ملكا ...». كنز العمال (1 / 254 ، الحديث 1279) : «وكل بالمؤمن ستون وثلاثمائة ملك ... تسعة أملاك يذبون ...» ولا يحضرني من مصادرة غير المعجم الكبير وقد حكيت ما فيه.
    (6) ـ في معجم الطبراني والدر المنثور : قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف.

    لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل ، كلّهم باسط يده ، فاغر فاه ؛ ولو وكلّ العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».
    وعن كعب (1) : «لو لا أنّ الله وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطّفتكم (2) الجنّ».
    * * *
    قال شارح نهج البلاغة (3) : «الحفظة منهم حفظة للعباد كما قال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [13 / 11] ، ومنهم حفظة على العباد كما قال تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [6 / 61]. والمراد من الأوّلين حفظ العباد بأمر الله من الآفات التي تعرض لهم ، ومن الآخرين ضبط الأعمال والأقوال من الطاعات والمعاصي كما قال : (كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [82 / 11 ـ 12]. وكقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [50 / 18].
    ـ قال : ـ «ويحتمل أن يكون تعدّدهما تعدّدا بحسب الذوات ، ويحتمل أن يكون بحسب الاعتبار» ـ انتهى ـ.
    ويأتى الكلام في الحفظة على العباد والكرام الكاتبين في باب آخر (4) ـ إن شاء الله ـ.
    __________________
    (1) ـ كعب الأحبار. حكاه عنه في مجمع البيان : 5 / 281. والطبري : 13 / 79.
    (2) ـ مجمع البيان : لتخطفنكم. الطبري : لتخطفتم (وليس فيه كلمة «الجن»).
    (3) ـ شرح نهج البلاغة للبحراني : شرح الخطبة الاولى : 1 / 163.
    (4) ـ راجع الباب الآتي.

    فصل (1) [1]
    [الإلهام والوسوسة]
    والسرّ في ذلك يتبيّن ممّا حقّقه بعض العلماء (2) وملخّصه :
    «إنّ الجوهر النطقي من الإنسان ـ المسمّى بالقلب الحقيقي ـ مثاله مثال هدف تنصبّ إليه السهام من الجوانب ، أو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور ، فيتراءى فيها صورة بعد صورة ، ولا يخلو عنها دائما ...
    ومداخل هذه الآثار المتجدّدة فيه إمّا من الظاهر ـ كالحواسّ الخمس ـ وإمّا من الباطن ـ كالخيال ، والشهوة ، والغضب ، والأخلاق والصفات ؛ فإنّه مهما أدرك الإنسان بالحواسّ شيئا حصل منها (3) أثر في قلبه وكذلك إذا هاجت الشهوة أو الغضب ، حصل منها أثر في القلب ، وإن كفّ عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وتنقل المتخيّلة من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال ؛ فباطنه إذن في التغيّر دائما من هذه الأسباب.
    وأحضر الأسباب الحاصلة فيه هي الخواطر ـ أي الأفكار
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 377.
    (2) ـ الغزالي : إحياء علوم الدين : كتاب شرح عجائب القلب ، بيان تسلط الشيطان على القلب ... : 3 / 42 ، اقتباسا.
    (3) ـ المصدر : منه.

    والأذكار التي من أنواع الإدراكات والعلوم ، إمّا على سبيل الورود التجدّدي ، وإمّا على سبيل التذكّر من المحفوظات في الحافظة.
    وهذه الخواطر هي المحرّكات للإدراكات ، فإنّ النيّة والعزم والإرادة إنّما تكون بعد [خطور (1)] المنويّ بالبال ؛ فمبدأ الأحوال الخواطر ، ثمّ الخاطر تحرّك الرغبة ، والرغبة تحرّك العزم ، و [العزم تحرّك] (2) النيّة ، والنيّة تحرّك الأعضاء.
    والخواطر المحرّكة للرغبة : إمّا تدعوا إلى الخير ـ أعني ما ينفع في الدار الآخرة ـ وإمّا تدعوا إلى الشرّ ـ أعني ما يضرّ في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان ، لهما سببان مختلفان ، لأنّهما حادثان ، وكلّ حادث يفتقر إلى سبب ، والمعلولات المختلفة تستدعي عللا مختلفة ، فيسمّى السبب الداعي إلى الخير ملكا وفعله إلهاما ، والآخر شيطانا ، وفعله وسوسة (3) ؛ وهما جواهران مسخّران لقدرة الله ـ سبحانه ـ في تقليب القلوب.
    ولعلّهما المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبه كيف يشاء» (4).
    __________________
    (1) ـ النسخة : حضور. وما أثبتناه مطابق للمصدر وأنسب مع السياق.
    (2) ـ إضافة من المصدر.
    (3) ـ في هامش النسخة :
    «فالوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ـ منه ـ».
    (4) ـ المستدرك للحاكم : كتاب الدعاء : 1 / 525. وكتاب الرقاق : 4 / 321. واللفظ فيهما : «ما ـ

    والقلب لصفاته ولطافته صالح بأصل الفطرة لقبول آثار الملكيّة والشيطانيّة ـ صلاحا متساويا ـ وإنّما يترجّح أحد الجانبين باتّباع الهوى والإكباب على الشهوات ، أو الإعراض عنها ومخالفتها. فإن اتّبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه ظهر تسلّط الشيطان بواسطة اتّباع الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة ، وصار القلب عشّ الشيطان ومعدنه ، لأنّ الهوى مرعى الشيطان ومرتعه ، لمناسبة ما بينهما ونحو من الاتّحاد. وإن جاهد الشهوات ولم يسلّطها على نفسه ، وعارض بقوّة اليقين الظنون والأوهام الكاذبة المستدعية للشهوات والركون إلى الدنيا وتشبّه بأخلاق الملائكة : صار قلبه مستقرّ الملائكة ومهبطها(1).
    ولمّا كان الإنسان لا يخلو عن شهوة وغضب وحرص
    __________________
    ـ من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه». وفي كنز العمال (1 / 391 ، ح 1684 عن الدارقطني) : رواه بلفظ «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع رب العالمين ، إن شاء يقيمه ، وإن شاء يزيغه» و (ح 1686) «ما من آدميّ إلا وقلبه بين اصبع (كذا) من أصابع الله ، ما شاء منها أقام ، وما شاء أزاغ» و (ح 1687) : «انّ قلب ابن آدم بين أصابع ، إن شاء أن يقلبه إلى هداية ، وإن شاء أن يقلبه إلى ضلالة قلبه». أيضا راجع الجامع الكبير : 5 / 365 و 392 ، ح 19332 و 19499.
    (1) ـ كتب المؤلف ـ قدس‌سره ـ هنا ما يلي ثم شطب عليه :
    فمن البواطن والصدور ما تنزل فيه لزيارته كل يوم ألوف من الملائكة لغاية صفاته ، ومنها ما يقع فيه كل يوم ألف وسواس وكذب وفحش وخصومة ومجادلة بين الناس ، فهو مرتع الشياطين. أقول : وتصديق ذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) [41 / 30] وفي مقابله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [26 / 221 ـ 222].

    وطمع وطول أمل ـ إلى غير ذلك من الصفات البشريّة المنشعبة عن الهوى ، المتّبع للقوّة الوهميّة التي شأنها إدراك الامور على غير وجهها ـ : فلا جرم لم يخل باطنه من جولان الشيطان فيه بالوسوسة ـ إلّا من عصمه الله ـ
    ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (1) : «ما منكم إلّا وله شيطان».
    قالوا : «وأنت يا رسول الله»؟
    قال : «وأنا ؛ إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم على يدي فلا يأمرني إلّا بخير».
    فمهما غلب على النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى والشهوات ، وجد الشيطان للتدرّع بها مجالا ، فوسوس لها ؛ ومهما انصرفت النفس إلى ذكر الله ارتحل الشيطان وضاق مجاله فاقبل الملك وألهم ؛ فالتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس الإنسانيّة دائم ، لهيولانيّة وجوده وقابليّتها للأمرين بتوسّط قوّتيه العقليّة والوهميّة ، إلى أن ينفتح لأحدهما ويستوطن فيها ، ويكون اجتياز الثاني اختلاسا ...
    وكما أنّ الشهوات ممتزجة بلحم الآدميّ ودمه ، فسلطنة
    __________________
    (1) ـ مسلم (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم : 4 / 2167 ، ح 69) : «قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما منكم من أحد إلا وكلّ به قرينه من الجن. قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : وإياي إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم ؛ فلا يأمرني إلا بخير». وفيه (رقم 70) : «قالت عائشة : يا رسول الله ـ أو معي شيطان؟ قال : نعم. قالت : ومعك يا رسول الله؟ قال : نعم ؛ ولكن ربي أعانني عليه حتّى أسلم». راجع الحديث بألفاظ اخر في كنز العمال : 1 / 253 ، ح 1275 ـ 1277. و 1 / 247 ، ح 1242 ـ 1243.

    الشيطان ـ أيضا ـ سارية في لحمه ودمه ومحيطة بقلبه الذي هو منبع الدم ، المركب للروح البخاريّة الحاملة للقوى الوهميّة والشهويّة والغضبيّة.
    ومن هنا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيّقوا مجاريه بالجوع».
    ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه ، قال الله ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [7 / 16].
    هذا ملخّص ما ذكره ؛ ويصدّقه جملة ما رواه في الكافي (2) بسند حسن عن مولانا الصادق عليه‌السلام إنّه قال : «ما من قلب إلّا وله اذنان : على
    __________________
    (1) ـ رواه العامة في صحاحهم ، غير أني لم أعثر على الفقرة الأخيرة من الحديث : «فضيقوا مجاريه بالجوع» ؛ راجع البخاري : كتاب بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، 4 / 150. كتاب الصوم الاعتكاف ، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه ، 3 / 65.
    ابن ماجة : كتاب الصيام باب (65) في المعتكف يزوره أهله في المسجد ، 1 / 566 ، ح 1779. دارمي : كتاب الرقائق ، باب أن الشيطان يجري ... ، 2 / 320.
    المسند : 3 / 156 ، 285 ، 309. 6 / 337. أبي داود : كتاب الصوم ، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته ، 2 / 333 ، ح 2470. كتاب الأدب : باب حسن الظن : 4 / 299 ، ح 4994. كتاب السنة : باب في ذراري المشركين ، 4 / 230 ، 4719.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب أن للقلب اذنين ، 2 / 266 ، ح 1.
    عنه البحار : 63 / 205 ، ح 34. 70 / 33 ، ح 1.
    وجاء ما يقرب منه في تفسير القمي : البقرة ، قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب ... ، 1 / 61. سورة الناس : 2 / 492. عنه البحار 63 / 245 ، ح 99.

    إحداهما ملك مرشد ، وعلى الاخرى شيطان مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ؛ الشيطان يأمره بالمعاصي ، والملك يزجره عنها ؛ وهو قول الله ـ تعالى ـ : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ* ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [50 / 17 ـ 18].
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «إنّ للشيطان لمّة بابن آدم ، وللملك لمّة (2) ، أمّا لمّة الشيطان : فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ ، وأمّا لمّة الملك : فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الاخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم» ـ ثمّ قرأ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [2 / 268].
    فصل (3) [3]
    وكما أنّ في الملائكة الذين يدبّرون امور الإنسان كثرة ، لاستدعاء تعدّد الأفعال والآثار نوعا تعدّد الفواعل والمؤثرات ـ كما مضى بيانه (4) ـ
    __________________
    (1) ـ الترمذي : كتاب التفسير ، الباب (3) ، 5 / 219 ، 2988.
    كنز العمال : 1 / 246 ، ح 1240. الدر المنثور (2 / 65 ، في الآية : الشيطان يعدكم الفقر ...) عن الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي.
    وفي الكافي (كتاب الإيمان والكفر ، باب القسوة ، 2 / 330 ، ح 3) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لمّتان : لمّة من الشيطان ، ولمّة من الملك ؛ فلمّة الملك : الرقّة والفهم.
    ولمّة الشيطان السهو والقسوة».
    (2) ـ اللمّة : النزول والقرب.
    (3) ـ مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب شرح عجائب القلب ، بيان تفصيل مداخل الشيطان ... : 3 / 60. راجع مفاتيح الغيب : 210.
    (4) ـ راجع الفصل الأول من الباب الثاني من هذا المقصد.

    فكذلك الشياطين الموسوسين ، الداعين له إلى المعاصي ، جنود مجنّدة حسب تعدّد المعاصي ؛ وهم فروع لشيطان واحد يخصّ بذلك الإنسان.
    وهو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «ما منكم إلّا وله شيطان».
    قال بعض المفسّرين (2) : لإبليس خمسة من الأولاد ، قد جعل كلّ واحد منهم على شيء من أمره ؛ فذكر : ثبر ، والأعور ، ومسوط (3) ، وداسم ، و [زلنبور] (4).
    فأمّا ثبر : فهو صاحب المصائب ، الذي يأمر بالثبور وشقّ الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهليّة. وأمّا الأعور : فهو صاحب الرياء (5) ، يأمر به ويزيّنه. وأمّا مسوط : فهو صاحب الكذب. وأمّا داسم : فهو يدخل مع الرجل إلى أهله ويريه العيب فيهم ويغضبه عليهم. وأمّا [زلنبور] : فهو صاحب السوق وبسببه لا يزالون متلطّمين (6).
    __________________
    (1) ـ مضى في الفصل السابق.
    (2) ـ القائل مجاهد ؛ راجع الإحياء : 3 / 60. تهذيب اللغة : 13 / 288. والدر المنثور : 5 / 403 ، تفسير الآية الكهف / 50.
    (3) ـ في الإحياء (3 / 60) والمحجة البيضاء (5 / 70) : مبسوط (بدلا من : مسوط) ، والأظهر أن الصحيح ما أورده المؤلف هنا ، ويؤيده ما في الدر المنثور (5 / 403). وجاء في شرح الإحياء (إتحاف : 7 / 288) : ... مسوط ـ كمنبر ـ كأنه مفعّل من السوط.
    (4) ـ في النسخ ـ هنا وفيما يأتي ـ : «زلينور» والأظهر كونه من سهو القلم ، والصحيح ما أثبتناه كما جاء في الإحياء (3 / 60 ، و 2 / 128) والمحجة البيضاء (5 / 70) ، والدر المنثور (5 / 403) وتهذيب اللغة : 13 / 288 ، وغيرها من المصادر.
    (5) ـ الإحياء : صاحب الزنا.
    (6) ـ الإحياء : متظلمين.

    وشيطان الصلاة يسمّى «خنزب» (1) ، وشيطان الوضوء : الولهان (2) ؛ قيل (3) : وقد ورد بذلك أخبار.
    وقال يونس بن يزيد (4) : «بلغنا أنّه يولد مع أولاد الإنس من أولاد الجنّ ، ثمّ ينشئون معهم».
    وقال جابر بن عبد الله (5) : إنّ آدم عليه‌السلام لمّا اهبط إلى الأرض ، قال : «يا ربّ هذا العبد الذي جعلت بينه وبيني عداوة إلّا تعنّي (6) عليه لا أقو عليه». قال : «يا آدم ، لا يولد لك ولد إلّا وكّل به ملك». قال : «يا ربّ زدني». قال : «بالسيّئة السيّئة (7) ، وبالحسنة عشرا إلى ما اريد».
    __________________
    (1) ـ مسلم : كتاب السلام ، باب (25) التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة : 4 / 1729 ، ح 68. كنز العمال : 1 / 400 ، ح 1711.
    حكاه في البحار (21 / 364 ، ح 1) عن إعلام الورى أيضا.
    (2) ـ ابن ماجة : كتاب الطهارة وسننها ، باب (48) باب ما جاء في المقصد في الوضوء ... ، 1 / 146 ، ح 421. مستدرك الحاكم : كتاب الطهارة 1 / 162. المسند : 5 / 136.
    (3) ـ إحياء علوم الدين : 3 / 60.
    (4) ـ كذا. وفي الإحياء (3 / 61) : أيوب بن يونس بن يزيد. وفي المحجة (5 / 70) : أيوب بن يونس. وفي شرح الإحياء (الإتحاف : 7 / 289) : «أيوب بن يزيد بن زيد ، روى عن التابعين ، قال الرازي : مجهول. كذا في المغني للذهبي».
    (5) ـ جابر بن عبد الله الصحابي المعروف.
    والحديث منقول من الإحياء (3 / 61) وورد ما يقرب منه عن جابر ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في العياشي : تفسير الآية النمل / 119 ، 1 / 276 ، ح 277. عنه البحار : 6 / 33 ، ح 44. و 11 / 212 ، ح 20. و 63 / 219 ، ح 58. وفي الدر المنثور : تفسير الآية الإسراء / 64 ، 5 / 313 ، عن ثابت. و 1 / 135.
    راجع أيضا : الكافي : 2 / 440 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب فيما أعطى الله عزوجل آدمعليه‌السلام وقت التوبة ، ح 1.
    (6) ـ الإحياء : تعينني. (وكذا فيما يأتي).
    (7) ـ الإحياء : سيئة.

    قال : «ربّ زدني». قال : «باب التوبة مفتوح ما دام في الجسد الروح».
    قال إبليس : «يا ربّ هذا العبد الّذي كرّمته إلّا تعنّي عليه لا أقو عليه». قال : «لا يولد له ولا ولد إلّا ويولد لك ولد». قال : «ربّ زدني». قال : «تجري منهم مجرى الدم ، وتتخذون في (1) صدورهم بيوتا». قال : «ربّ زدني». قال : «(أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [17 / 64] (2).
    وشيطان كلّ إنسان في المكر والحيلة على قدر عقله وذكائه ، وكذلك الملائكة الذابّون عنه ، الحافظون له بأمر الله.
    * * *
    __________________
    (1) ـ «في» غير موجود في الإحياء.
    (2) ـ في هامش النسخة :
    «وقال الشعبي : إبليس أبو الجنّ ، كما أنّ آدم أبو الإنس ، وقيل : أبو الجنّ هو الجانّ ، وإبليس أبو الشياطين ؛ فالشياطين أولاد إبليس ، وكلهم في النار ، إلا شيطان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الله أعانه عليه فأسلم. وأمّا أولاد الجانّ : فمسلمهم في الجنّة وكافرهم في النار. ومع كلّ جنّي شيطان ، كما أنّ مع كلّ آدميّ شيطان. والجانّ خلق من خضرة النار ، والشيطان من يحمومها ، والملائكة من نورها.
    (منه ـ ره)».

    فصل [4]
    قال بعض أهل المعرفة (1) :
    «إنّ إلهام الملك ووسوسة الشيطان تقع في النفوس على وجوه وعلامات :
    أحدها : كالعلم واليقين الحاصلين من جانب يمين النفس ، ويقابله الهوى والشهوة الحاصل [ت] ين من جانب الشمال.
    وثانيها : كالنظر إلى الآفاق والأنفس ، على سبيل النظام والإحكام المزيل للشكوك والأوهام ، والمحصّل للمعرفة والحكمة في القوّة العاقلة التي هي على الجانب الأيمن من النفس ، ويقابله النظر إليها على سبيل الاشتباه والغفلة والإعراض عنها ، الناشئة منهما الشبه والوسواس في الواهمة والمتخيّلة التي على الجانب الأيسر منها ، فإنّ الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة المقدّسة من العقول والنفوس الكليّة ، لأنّها مبادئ العلوم اليقينيّة ؛ والمتشابهات الوهميّات بمنزلة الشياطين والنفوس الوهمانيّة ، لأنّها مبادئ المقدّمات السفسطيّة.
    وثالثها : كطاعة الرسول المختار والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام في مقابلة أهل الجحود والإنكار وأهل التعطيل والتشبيه من
    __________________
    (1) ـ أورده في عين اليقين (378) أيضا وهو مقتبس من مفاتيح الغيب : المشهد الرابع من المفتاح الرابع : 162.

    الكفّار ؛ فكلّ من سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة الملائكة الملهمين للخير ، ومن سلك سبيل الضلال فهو بمنزلة الشياطين المغوين بالشرّ.
    ورابعها : كتحصيل العلوم والإدراكات التي هي في الموضوعات العالية والأعيان الشريفة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والبعث وقيام الساعة ومثول الخلائق بين يدي الله ، وحضور الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين ؛ في مقابلة تحصيل العلوم والإدراكات الّتي هي من باب الحيل والخديعة والسفسطة ، والتأمّل في الأمور الدنياويّة الغير الخارجة عن دار المحسوسات.
    فإنّ الأوّل يشبه الملائكة الروحانية وجنود الرحمن ، الذين هم سكّان عالم الملكوت السماوي ؛ والثاني : يشبه الأبالسة المطرودة عن باب الله ، الممنوعة من ولوج السماوات ، المحبوسة في الظلمات ، المحرومة في الدنيا من الارتقاء ، والمحجوبة في الآخرة عن دار النعيم».
    * * *

    فصل (1) [5]
    [النفوس تصير شيطانا أو ملكا]
    قال بعض الحكماء (2) :
    «إنّ النفوس المتجسّدة الخيّرة ملائكة بالقوّة ، فإذا خرجت قوّتها إلى الفعل وفارقت أجسادها صارت ملائكة بالفعل.
    وكذلك النفوس المتجسّدة الشريرة هي شياطين بالقوّة ، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.
    فهذه النفوس الشيطانيّة توسوس أهل الشيطنة بالقوّة ، لتخرجها من القوّة إلى الفعل ، كما قال ـ تعالى ـ : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [6 / 112].
    وشياطين الإنس هي النفوس المتجسّدة الشريرة ، آنست بالأجساد.
    وشياطين الجنّ هي النفوس الشريرة المفارقة للأجساد ، المستحجبة عن الأبصار.
    ومثل وسوسة هذه النفوس المفارقة ، لهذه النفوس المتجسّدة ، كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب ،
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 406.
    (2) ـ رسائل إخوان الصفاء : الرسالة السادسة عشرة : 3 / 81.

    وضعفت حرارته الهاضمة عن نضجها ، فهو يشتهي ولا يستمرئ (1) فعند ذلك يكون همّته أن يرى الطعام والآكلين له ، لينظر إليهم فيستروح من ألم شهواته الممنوع عنها ، لضعف الآلة وبطلان فعل القوّة ؛ فهكذا حكم تلك النفوس المفارقة ، كما اشير إليهم بقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [114 / 4 ـ 6]».
    ـ قال ـ : (2) «ولمّا كانت الجنسيّة علّة الضمّ ، فالنفوس البشريّة الطاهرة النورانيّة تنضمّ إليها الأرواح الطاهرة النورانيّة ، من النفوس الكاملة المفارقة للأبدان ، الواقعين في عالم الملكوت مع الملائكة الذين هنالك ، فيعينونها على أعمالها التي هي من باب الخيرات والمبرّات ، والنفوس الشريرة الخبيثة تنضمّ إليها الأرواح الخبيثة من النفوس الشريرة المفارقة للأبدان ، الواقعين هنالك مع الشياطين ، فيعينونها على أعمالها التي هي من باب الشرور والآثام ، والظلم والعدوان.
    ويسمّى الأوّل : إلهاما ، والثاني : وسوسة».
    أقول : ويشهد لهذا قول الله ـ عزوجل ـ : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) [6 / 128]. وقوله
    __________________
    (1) ـ استمرأ الطعام : استطيبه ووجده أو صار له مريئا.
    (2) ـ راجع مفاتيح الغيب : المشهد العاشر من المفتاح الرابع 184.

    سبحانه : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ* وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [26 / 94].
    قيل (1) في التوراة : إنّ أهل الجنّة يمكثون في الجنّة خمسة عشر ألف سنة ، ثمّ يصيرون ملائكة ، وإنّ أهل النار يمكثون في الجحيم كذا ، أو أزيد ، ثمّ يصيرون شياطين.
    وفي الإنجيل : إنّ الناس يحشرون ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتوالدون.
    فصل (2) [6]
    [الجن وأصنافها]
    الجنّ من الاجتنان ـ بمعنى الاختفاء ـ سمّيت به لاستتارهم عن الأبصار ؛
    ولهذا سمّيت به الملائكة ـ أيضا ـ في قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [37 / 158].
    والشياطين في قوله ـ عزوجل ـ (كانَ مِنَ الْجِنِ) [18 ـ 50].
    وهي أجسام لطيفة نفّاذة حيّة ، ذوات نفوس قويّة غالبة على أجسادها ، قادرة على التمدّد والانقباض ، وعلى تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة بعضها ممّا يوجب لها سهولة النفوذ في المنافذ وعلى الأعمال الشاقّة.
    __________________
    (1) ـ ذكر في الأسفار الأربعة : 9 / 181 أيضا ، ولم أعثر عليه.
    (2) ـ عين اليقين : 404.

    قال الله عزوجل : في قصّة سليمان ـ على نبيّنا وعليه‌السلام ـ : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...) ـ إلى أن قال ـ : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [34 / 12 ـ 13].
    ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا الوهميّة وأوائل العقليّات ، قال الله ـ جلّ جلاله ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [46 / 29].
    فمنهم مؤمن صالح ، ومنهم كافر مارد ، قال الله تعالى حكاية عنهم : (أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [72 / 14]. وقال أيضا عنهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) [72 / 1 ـ 4].
    قال مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «الجنّ على ثلاثة أجزاء : فجزء مع الملائكة ، وجزء يطيرون في الهواء ، وجزء كلاب وحيّات» رواه في الكافي (2).
    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (3) : «خلق الله الجنّ ثلاثة أصناف : صنف حيّات
    __________________
    (1) ـ الخصال : باب الثلاثة : 154. عنه البحار : 63 / 78 ، ح 32.
    (2) ـ الرواية غير موجودة في الكافي ، وتوجد في الخصال وقد أشرنا إلى موضعها.
    (3) ـ الجامع الصغير : باب الخاء : 2 / 5. كنز العمال : 6 / 143 ، ح 15179.
    ومع فرق يسير فى حياة الحيوان : الجن ، 1 / 288. عنه البحار : 63 / 291.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:47 pm

    وعقارب و [خشاش] (1) الأرض ، وصنف كالريح في الهواء ، وصنف عليهم الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف : صنف كالبهائم ، قال الله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) [7 / 179] ـ الآية ـ وصنف أجسادهم أجساد بني آدم ، وأرواحهم أرواح الشياطين ؛ وصنف كالملائكة في ظلّ الله ـ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ـ.
    فصل (2) [7]
    [الشيطان وتسلطه على الناس]
    قال بعض أهل التحقيق (3) :
    «إنّ أوّل من سلك سبيل الغواية والضلالة ، وطرده الحقّ عن عالم رحمته ووقع عليه اسم «إبليس» هو جوهر نطقيّ شرّير متولّد من طبقة دخانيّة ناريّة ، لها نفس ملكوتيّة ، شأنه الإغواء وسبيله الإضلال ، كما في قوله ـ تعالى ـ حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [38 / 82 ـ 83]. وقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [7 / 16].
    وذلك لأنّ له سلطنة ـ بحسب الطبع ـ على الأجسام
    __________________
    (1) ـ في النسخ : «حشايش» والصحيح ما أثبتناه مطابقا لما في المصادر. والخشاش : قال ابن الأثير (النهاية : خشش ، 2 / 33) : «أي هوامها وحشراتها. الواحدة : خشاشة».
    (2) ـ عين اليقين : 406 ـ 407.
    (3) ـ مقتبس من المبدأ والمعاد : 196.

    الدخانيّة والبخاريّة ونفوسها الجزئيّة والطبائع الوهمانيّة ، وتطيعها تلك النفوس والقوى الوهمانيّة لمناسبة النقص والشرارة ، وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد والاستكبار.
    وادّعاؤه العلوّ ـ كما في قوله ـ سبحانه ـ : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [38 / 75] ـ إنّما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه الناريّة الموجبة للإهلاك والعلوّ.
    ووجه تأثيره في نفوس الآدميّين : أمّا من جانب المؤثّر : فللطافته وسرعة نفوذه في عروقهم ولطائف أعضائهم وأخلاطهم ـ التي هى محالّ الشعور والاعتقاد ـ واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والإضلال.
    وأمّا من جانب القابل : فلقصور القوى الإدراكيّة لأكثر الإنسان وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع جنوده وأعوانهم من القوى الغضبيّة والشهويّة وغيرهما ـ لا سيّما الوهميّة ـ إلّا من عصمه الله من عباده المخلصين ، الذين أيّدهم الله بالعقل ، وهداهم إلى الصراط المستقيم (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [58 / 22].
    أقول : ويشبه أن يكون عن هذا الملعون المطرود عبّر ب «الجهل» فيما رواه في الكافي (1) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ
    «إنّ الله خلق العقل ـ وهو أوّل خلق من الروحانيّين ـ عن يمين
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب العقل والجهل : 1 / 21.

    العرش من نوره ، فقال له : «أدبر» فأدبر. ثمّ قال له : «أقبل» فاقبل. فقال الله تعالى : «خلقتك خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي».
    ـ قال : ـ «ثمّ خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيّا ، فقال له : «أدبر» فأدبر. ثمّ قال له : «أقبل» فلم يقبل. فقال له : «استكبرت» فلعنه.
    ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جندا ، فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه ، أضمر له العداوة ، فقال الجهل : «يا ربّ ـ هذا خلق مثلي ، خلقته وكرّمته وقوّيته ، وأنا ضدّه ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته».
    فقال : «نعم ؛ فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي».
    قال : «رضيت». فأعطاه خمسة وسبعين جندا»
    ـ الحديث بطوله ـ.
    فصل (1) [8]
    [حكمة خلق الشياطين]
    قال بعض أهل المعرفة والتحقيق (2) :
    «إنّ الإنسان كما ينتفع من إلهام الملك كذلك ينتفع من وسوسة الشيطان بوجه ، وذلك لأنّ وجود الشياطين من الله
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 378.
    (2) ـ مفاتيح الغيب : المشهد الخامس من المفتاح الرابع : 165. تفسير سورة يس : 245.

    ـ سبحانه ـ لا محالة لحكمة ومصلحة ، وإلّا لم توجد ، لاستحالة العبث والتعطيل عليه تعالى ـ.
    وذلك أنّ : أتباع الشياطين كلّهم تبعة الوهم والخيال ، ولو لم يكن أوهام المعطّلين وخيالات المتفلسفين والدهريّين وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم وفنون اعوجاجهم ، لما انبعث أولياء الله في تحقيق الحقائق ، وتعليم العلوم ، وطلب البراهين لبيان التوحيد وعلّة حدوث العالم بالكشف واليقين وغير ذلك.
    وكذلك في الأخلاق والأعمال ـ مثلا ـ لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين لعيوب الناس لم يتجنّب كلّ التجنّب من العيوب الخفيّة التي لا يراها أحبّاؤه ، وإنّما يظهر له ثبوتها من تدقيقات أعدائه وتجسّسهم عيوبه وإظهارهم إيّاها.
    فكم من عدوّ خبيث الذات انتفع الإنسان من عداوته أكثر ممّا انتفع من محبّة صديقه ، فإنّ المحبّة ممّا يورث الجهل بعيوب المحبوب والعمى والصمم عن معاينة معايبه وسماع مثالبه ؛ كما قيل : «حبّك الشيء يعمي ويصمّ».
    فظهر أنّ لوجود الأعمال الشيطانيّة منافع عظيمة للناس ، وما لا نعلمه أكثر».

    [5]
    باب
    ملائكة الأعمال والكرام الكاتبين
    (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [82 / 11]
    فصل (1) [1]
    [الملك ، الشيطان ، الملكة]
    قيل (2) : كلّ هيئة وصفة ترسّخت في النفس وتأكّدت فيها من تكرّر أفاعيله وأعماله يسمّى في الشرع «ملكا» إن كانت حسنة ، و «شيطانا» إن كانت سيّئة ، وفي الحكمة كلتاهما «ملكة».
    ويؤيّد هذا ما ورد في الحديث (3) «إنّ كلّ من عمل حسنة يخلق الله منها ملكة يثاب به ، ومن اقترف سيّئة يخلق الله منها شيطانا يعذّب به».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 378.
    (2) ـ راجع الأسفار الأربعة : 9 / 292 ـ 293.
    (3) ـ لم أعثر عليه ، وقال صدر المتألهين (الأسفار : 9 / 292) : «وقد ورد في الخبر إن من عمل حسنة كذا يخلق الله منها ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة ...».

    وفي حديث القبر (1) : «... فإن كان لله وليّا أتاه أطيب الناس ريحا وأحبّهم منظرا وأحسنهم رياشا ؛ فقال : أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم. فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة» ...
    ـ قال : ـ «وإذا كان لربّه عدوّا فإنّه يأتيه أقبح من خلق الله زيّا وأنتنه ريحا ، فيقول: أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم».
    فصل [2]
    [الملك والشيطان وارتباطهما مع الإنسان]
    وفي الحديث (2) : «من زار أخاه في الله ـ عزوجل ـ شيّعه سبعون ألف ملك ، يقولون : ألا طبت وطابت لك الجنّة».
    وفيه (3) : «من عطس ثمّ وضع يده على قصبة أنفه ثمّ قال : «الحمد
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الجنائز ، باب أن الميت يمثل له ماله وولده ... : 3 / 232 ، ح 1.
    تفسير القمي : تفسير الآية : إبراهيم / 27 ، 1 / 399 ـ 400.
    أمالي الطوسي : 348 ، المجلس الثاني عشر ، ح 59 ، مع فروق يسيرة.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب زيارة الإخوان : 175 و 177 و 179. مع فروق يسيرة عنه البحار : 74 / 342 و 350.
    وفي الاختصاص (188) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من زار أخاه المسلم في الله ، ناداه الله عزوجل : أيها الزائر ، طبت وطابت لك الجنّة». عنه البحار : 74 / 355.
    (3) ـ ما يقرب منه في فقه الرضا ، عنه البحار : 76 / 55 ، ح 13. وفي الدعوات للراوندي (فصل أدعية مفردة لأوجاع معينة ، 198 ، ح 543) : «وقال الصادق عليه‌السلام : من عطس ثمّ وضع يده على قصبة أنفه ، ثمّ قال : الحمد لله كثيرا ... وسلم ، يستغفر الله له طائر تحت العرش إلى يوم القيامة». عنه البحار : 76 / 53 ، ح 2.

    لله ربّ العالمين كثيرا كما هو أهله ، وصلى الله على محمد النبيّ وآله وسلّم» خرج من منخره طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب ، حتى يصير تحت العرش ، يستغفر الله له إلى يوم القيامة».
    وأمثال ذلك من الأخبار كثيرة.
    وقد قيل : «إنّ من البواطن والصدور وما ينزل فيه لزيارته كلّ يوم ألوف من الملائكة ـ لغاية صفائه ـ ومنها ما يقع فيه كلّ يوم ألف وسواس وكذب وفحش وخصومة ومجادلة بين الناس فهو مرتع للشياطين».
    ويصدّقه قول الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) [41 / 30].
    وفي مقابله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [26 / 221 ـ 222] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [43 / 36].
    * * *

    فصل (1) [3]
    [كتابة الأعمال والكرام الكاتبون]
    قيل (2) : إنّ الآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال والعقائد في النفوس ، بمنزلة النقوش الكتابيّة في الألواح ، كما قال الله ـ سبحانه ـ : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [58 / 22].
    وهذه الألواح النفسيّة يقال لها «صحائف الأعمال». وهذه النقوش والصور كما تفتقر إلى قابل يقبلها ، كذلك تفتقر إلى ناقش ومصوّر ، فالمصوّرون والكتّاب هم «الكرام الكاتبون».
    وهم طائفتان : «ملائكة اليمين» و «ملائكة الشمال» ؛ قال الله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [50 / 17].
    أقول : قد روي (3) : «إنّ كلّ إنسان معه ملكان : أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات من غير شهادة صاحبه ، والآخر عن يساره يكتب السيّئات ولا يكتبها إلّا بشهادة صاحبه ، وإن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإن مشى فأحدهما خلفه والآخر أمامه ، وإن نام فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه».
    __________________
    (1) ـ عين اليقين : 379.
    (2) ـ راجع الشواهد الربوبية : الإشراق التاسع من المشهد الرابع : 293. الأسفار الأربعة : 9 / 291. مفاتيح الغيب : المشهد الثاني عشر من المفتاح التاسع عشر : 647.
    (3) ـ قال السيوطي (الدر المنثور : 7 / 594 ، سورة ق / 17) «أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة من طريق ابن المبارك عن ابن جريح ...».

    وفي رواية اخرى (1) : خمسة أملاك : ملكان لليل ، وملكان للنهار ، وملك لا يفارقه في وقت من الأوقات.
    وفي الكافي بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام (2) أنّه قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : «قف ، فإنّه قد همّ بالحسنة» ؛ فإذا هو عملها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له. واذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : «قف ، فإنّه قد همّ بالسيّئة» ، فاذا هو فعلها كان ريقه مداده ولسانه قلمه ، فأثبتها عليه».
    وروى أيضا بأسانيد متعدّدة (3) عنه عليه‌السلام : «إنّ العبد إذا عمل سيّئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها ، قال له صاحب اليمين : «أمسك» ، فيمسك سبع ساعات ، فإن استغفر الله لم يكتب ، وإن لم يستغفر كتب سيّئة واحدة».
    وروى (4) غيره مثل ذلك ، وفي آخره : «وإذا قبض العبد ووضع في قبره قال الملكان: «يا ربّ وكّلتنا بعبدك نكتب عمله ، قد قبضت روح عبدك ، فأذن لنا نصعد إلى السماء». فيقول الله ـ تعالى ـ : «السماء
    __________________
    (1) ـ نفس المصدر عن ابن المبارك.
    (2) ـ الكافي : كتاب الإيمان والكفر ، باب من بهمّ بالحسنة أو السيئة : 2 / 429 ، ح 3.
    والرواية فيه وكذا في الوافي (5 / 1022) والبحار (5 / 325 ، ح 16) عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، والأظهر أن نسبتها إلى الصادق عليه‌السلام من سهو القلم.
    (3) ـ ما يقرب منه في الكافي : 2 / 430 ، ح 4 و 437 ، ح 2 ـ 3.
    (4) ـ جاء ما يقرب منه في البحار (5 / 327 ـ 328 ، ح 23. و 68 / 67 ، ح 121) عن فضائل الشيعة للصدوق قدس‌سره.

    مملوّ من الملائكة يسبّحون ، فسبّحا على قبر عبدي وهلّلا ، واكتبا ذلك لعبدي حتّى أبعثه من قبره».
    * * *
    وقال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في اعتقاداته (1) : «اعتقادنا في ذلك أنّه ما من عبد إلّا وله ملكان موكّلان يكتبان جميع أعماله ، ومن همّ بحسنة ولم يعملها كتب له حسنة ، فإن عملها كتب له عشر ، وإن همّ بسيّئة لم يكتب حتّى يعملها ، فإن عملها [اجّل سبع ساعات فإن تاب قبلها لم يكتب عليه ، وإن لم يتب] (2) كتب عليه سيّئة واحدة ؛ والملكان يكتبان على العبد كلّ شيء حتّى النفخ في الرماد. وقال الله عزوجل : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [82 / 10 ـ 13].
    ومرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام برجل ـ وهو يتكلّم بفضول الكلام ـ فقال : «يا هذا ـ إنّك تملي على ملكيك كتابا إلى ربّك ، فتكلّم بما يعنيك ، ودع ما لا يعنيك».
    وقال عليه‌السلام : «لا يزال الرجل المسلم يكتب محسنا ما دام ساكتا ، فإذا تكلّم كتب إمّا محسنا وإمّا مسيئا».
    وموضع الملكين من ابن آدم : الترقوتان ، فإنّ صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيّئات ؛ وملكا النهار يكتبان عمل العبد بالنهار ، وملكا الليل يكتبان عمل العبد بالليل».
    ـ انتهى كلام الصدوق ـ.
    __________________
    (1) ـ الاعتقادات : باب الاعتقاد فيما يكتب على العبد.
    (2) ـ إضافة من المصدر.

    * * *
    وقال المفسّرون : فائدة ذلك أنّ المكلّف إذا علم أنّ الملائكة موكّلون به ، يحصرون عليه أعماله ، ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في موقف القيامة : كان ذلك أزجر له عن القبائح.
    قيل : ويشبه أن يكون الإشارة بانتظار ملك اليسار ـ كاتب السيّئات ـ توبة العبد : إلى أنّه ما دامت السيّئة حالة غير متمكّنة من جوهر نفس العبد فإنّ رحمة الله تسعه ، فإذا تاب من تلك السيّئة لم تكتب في لوح نفسه ، وإن لم يتب حتّى صارت ملكة راسخة في نفسه كتبت وعذّب بها يوم تقوم الساعة.
    قيل : وإنّما سمّوا : «كراما» لأنّهم إذا كتبوا حسنة يصعدون به إلى السماء ويعرضون على الله ـ تعالى ـ ويشهدون على ذلك ، فيقولون : «إنّ عبدك فلان : ، عمل حسنة كذا وكذا» ، وإذا كتبوا من العبد سيّئة يصعدون به إلى السماء مع الغمّ والحزن ، فيقول الله ـ تعالى ـ : «ما فعل عبدي»؟ فيسكتون حتّى يسأل الله ثانيا ، وثالثا ، فيقولون : «إلهى ـ أنت ستّار ، وأمرت عبادك أن يستر عيوبهم ، استر عيوبهم وأنت علّام الغيوب».
    ولهذا يسمّون : «كراما كاتبين».

    [6]
    باب
    أصناف الملائكة
    (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [37 / 1 ـ 3]
    (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً* وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً* وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [79 / 1 ـ 5]
    (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [48 / 4]
    فصل [1]
    [أكابر الملائكة]
    إنّ للملائكة ـ على كثرة شعوبها وقبائلها وضروبها وطبقاتها ـ أنواعا شتّى وأجناسا مختلفة ، حتّى أنّه لا يتفاوت ما يطلق عليه اسم من الأسماء ما يتفاوت ما يطلق عليه اسم «الملك» ، ولنشر إلى ما ورد في الكتاب والسنّة من أصنافهم وبعض صفاتهم ـ على سبيل الإجمال ـ وإن تداخل بعضها في بعض من وجه :

    فمن أصنافهم (1) الأكابر الأربعة المشهورون ، وهم : جبرئيل وميكائيل اللذان تكرّر ذكرهما في القرآن المجيد ، وإسرافيل وعزرائيل اللذان تكرر ذكرهما في الحديث.
    أمّا جبرئيل : فهو صاحب الوحي ، وروح القدس ، وروح الأمين ؛ ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه ، قال الله ـ عزوجل ـ في شأنه : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [81 / 19 ـ 21]. فرسالته أنّه رسول الله إلى جميع أنبيائه ؛ وكرمه على ربّه أنّه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده ؛ وقوّته أنّه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلّبها ؛ ومكانته عند الله أن جعله ثاني نفسه في قوله : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ) [66 / 4] ؛ وكونه مطاعا أنّه إمام الملائكة ومقتداهم ؛ وأمّا كونه أمينا فلأنّه ائتمنه الله على الرسالة ، وائتمنه الأنبياء على ما نزل به إليهم (2).
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة :
    قال شارح النهج [البحراني : 1 / 156] : «اتّفق الكل على أنّ الملائكة ، ليس عبارة عن أشخاص جسمانيّة كثيفة تجيء وتذهب كالناس والبهائم ، بل القول المحصّل فيه قولان : الأول هو قول المتكلّمين : أنّها أجسام نورانيّة إلهيّة خيّرة سعيده قادرة على التصرّفات السريعة والأفعال الشاقّة ، ذوات عقول وأفهام ، وبعضها عند الله أقرب من البعض وأكمل درجة ؛ كما قال تعالى حكاية عنهم : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [37 / 164].
    والقول الثاني قول غيرهم ، وهي أنّها ليست بأجسام ، لكنّ منها ما هو مجرّد عن الجسميّة وعن تدبير الأجسام ، ومنها من له الأمر الأوّل دون الثاني ، ومنها من ليس بمجرّد ، بل جسمانيّ حالّ في الأجسام وقائم بها. ولهم في تنزيل المراتب المذكورة على قولهم تفصيل». (منه).
    (2) ـ كتب هنا ما يلي ثم شطب عليه : فهو قوله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [26 / 193].

    قيل : وفعله الخاصّ بالذات الوحي والتعليم وتأديه الكلام من الله سبحانه إلى عباده ؛ وسائر أفعاله إنّما يصدر عنه بالعرض ، وله ارتباط مع القوّة النطقيّة ، ولو لم يكن هو لم يستفد أحد معنى من المعاني بالبيان والقول ، ولم يقبل قلب أحد إلهام الحقّ وإلقاءه في الروع.
    وأمّا ميكائيل : فهو صاحب الأرزاق والأغذية.
    قيل : وفعله الخاصّ بالذات إعطاؤه الرزق بالتغذية والتنمية على قدر لائق وميزان معلوم ؛ وله ارتباط مع الحفظ والإمساك ؛ ولو لم يكن هو لم يحصل النشوء والنماء في الأبدان ، ولا التطوّر في أطوار الملكوت في الأرواح ولا الأرزاق الحسّية للخلقة ، ولا العلوم الجمّة الغفيرة للفطرة.
    وأمّا إسرافيل : فهو صاحب الصور ، قال الله ـ عزوجل ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [18 / 99].
    وفي الخبر : «إنّ إسرافيل صاحب القرن» ـ ويأتي تمام الحديث (1) ـ.
    قيل : وفعله الخاصّ بالذات نفخ الأرواح في قوالب الأجساد ، وإعطاء الحياة وقوّة الحسّ والحركة لانبعاث الشوق والطلب ؛ وله ارتباط مع المفكّرة ، ولو لم يكن هو لم ينبعث الشوق والحركة لتحصيل الكمال.
    __________________
    (1) ـ راجع الفصل الأول من الباب الثامن من هذا المقصد.

    وأمّا عزرائيل : فهو ملك الموت ، قال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [32 / 11].
    قيل : وفعله الخاصّ بالذات نزع الصور من الموادّ ، وتجريد الأرواح عن الأجساد ، وإخراج النفوس من الأبدان ، ونقلها من الدنيا إلى الآخرة. وله ارتباط مع المصوّرة ، ولو لم يكن هو لم يمكن الاستحالات والانقلابات في الأجسام ولا الاستكمالات والانتقالات الفكريّة في النفوس ، ولا الخروج من الدنيا والقيام عند الله للأرواح ؛ بل كانت الأشياء كلّها واقفة في منزل واحد ومقام أوّل.
    ولكلّ من هؤلاء الأربعة جنود وأتباع لا يعلم عددها إلّا الله كما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [74 / 31]
    * * *

    فصل [2]
    [حملة العرش]
    ومن أصنافهم حملة العرش والحافّين حوله ؛ قال الله عزوجل : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [69 / 17] وقال سبحانه : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [39 / 75]
    والحملة في الدنيا أربعة ، فيصيرون يوم القيامة ثمانية.
    وعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) : «إنّ الذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ، وليس يخرج عن هذه الأربعة (2) شيء ممّا خلق الله في ملكوته ، وهو الملكوت الّذي أراه أصفياءه وأراه خليله ـ صلوات الله عليه ـ».
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (3) : «حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية : أربعة منّا ، وأربعة ممّن شاء الله».
    وفي الكافي (4) عن مولانا الكاظم عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة كان
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب التوحيد ، باب العرش والكرسي : 1 / 130 ، ح 1 ، وفيه فروق يسيرة.
    عنه البحار : 58 / 9 ، ح 8.
    (2) ـ إشارة إلى ما سبق ذكرها في الحديث : السماوات والأرض والعرش والكرسي.
    راجع بيان المؤلف لهذه الأحاديث في الوافي أيضا : 1 / 504.
    (3) ـ الكافي : الباب السابق : 1 / 132 ، ح 6.
    (4) ـ لم أعثر عليه في الكافي ، وقد ورد في تفسير القمي (قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ...) : 2 / 403) ولم ينسب إلى الكاظم عليه‌السلام.

    حملة العرش ثمانية : أربعة من الأوّلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وأربعة من الآخرين : محمّد وعليّ والحسن والحسين».
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «إنّ حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم ، يسترزق الله لولد آدم ، والثاني : على صورة الديك ، يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة الديك ، يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة الأسد ، يسترزق الله للسباع ، والرابع على صورة الثور ، يسترزق الله للبهائم ـ ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل ـ فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية».
    وروي من طريق العامّة (2) : «إنّهم ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا الله ، لكلّ ملك منهم أربعة وجوه ، لهم قرون كقرون الوعلة ، من اصول القرون إلى منتهاها مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على قرونهم وأقدامهم في الأرض السفلى ورءوسهم في السماء العليا ، ودون العرش سبعون حجابا من نور».
    وقال شيخنا الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في اعتقاداته (3) :
    «اعتقادنا في العرش أنّه جملة جميع الخلق ؛ والعرش في وجه آخر هو العلم»
    __________________
    (1) ـ الخصال : باب الثمانية : 407 ، ح 5. عنه البحار : 7 / 130 ـ 131 ، ح 5. وفي 58 / 7 ، ح 5 ، عن عقائد الصدوق. وجاء ما يقرب منه في الفقيه : أبواب الصلاة ، باب القول عند صراخ الديك : 1 / 483 ، ح 1397.
    وأورد القمي ما يقرب منه (تفسير آية الكرسي : 1 / 112) غير أن فيه «النسر» بدلا من الديك. عنه البحار : 58 / 21 ـ 22 ، ح 38. ويقرب منه ما في الدر المنثور : 7 / 275. في تفسير الآية : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ...).
    (2) ـ جاء ما يقرب منه في الدر المنثور : 7 / 274.
    (3) ـ الاعتقادات : باب الاعتقاد في العرش.

    ـ ثمّ قال : ـ
    «فأمّا العرش الذي هو جملة جميع الخلق فحملته أربعة من الملائكة ، لكلّ منهم ثمانية أعين طباق الدنيا ، واحد منهم على صورة بني آدم ...» ـ إلى آخر الحديث الّذي ذكرناه آنفا بأدنى تغيير في اللفظ ـ.
    ـ قال : ـ
    «وأمّا العرش الذي هو العلم ، فحملته أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين ؛ فأمّا الأربعة من الأوّلين : فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام. وأمّا الأربعة من الآخرين : محمد وعليّ والحسن والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ».
    هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمّة عليهم‌السلام في العرش وحملته.
    وإنّما صار هؤلاء حملة العلم : لأنّ الأنبياء الذين كانوا قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله على شرايع الأربعة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ؛ ومن قبل هؤلاء صارت العلوم إليهم ، وكذلك صار العلم من بعد محمد وعليّ والحسن والحسين إلى من بعد الحسين من الأئمّة عليهم‌السلام.
    وقال ابن ميثم البحرانى في شرح نهج البلاغة (1) :
    «وأمّا حملة العرش : فالأرواح الموكّلة بتدبير العرش ؛
    __________________
    (1) ـ شرح الخطبة الاولى : 1 / 156.

    وقيل : هم الثمانية المذكورة في القرآن الكريم : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [69 / 17] وهم رؤساء الملائكة المدبّرين للكرسي ، والسماوات السبع. وذلك أنّ هذه الأجرام لها كالأبدان ، فهي بأبدانها أشخاص حاملون للعرش فوقهم.
    وأمّا الحافّون حول العرش فقيل : هم صفوف ، وأقربهم إلى العرش (1) هي الأرواح الحاملة للكرسيّ ، الموكّلة والمتصرّفة فيه.
    فصل [3]
    [خزنة الجنان وزبانية النار]
    ومنهم سكّان الجنان وخزنتها ، قال في شرح النهج (2) :
    أمّا السكّان : فهم الذين عند ربك (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 19 ـ 20] ، وهم الذين يتلقّون عباد الله الصالحين بالشفقة والبشارة بالجنّة.
    وذلك أنّ الإنسان الطائع إذا كملت طاعته ، وبلغ النهاية في الصورة الإنسانيّة واستحقّ بأعماله الصالحة وما اكتسبه من الأفعال الزكيّة صورة ملكيّة ورتبة سماويّة ، تلقّته الملائكة الطيّبون بالرأفة والرحمة والشفقة ، وتقبّلوه بالروح والريحان ،
    __________________
    (1) ـ «فقيل ... العرش» غير موجود في المصدر.
    (2) ـ شرح الخطبة الاولى : 1 / 158.

    وقبلوه كما تقبل القوابل والدايات أولاد الملوك بفاخر امور الدنيا وطيّبات روائحها ، من مناديل السندس والاستبرق ، وبالفرح والسرور ، ومرّوا به إلى الجنّة ، فيعاين من البهجة والسرور ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويبقى معهم عالما درّاكا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ ، ويتّصل بإخوانه المؤمنين في الدنيا أخباره وأحواله ، ويتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة والسعادة وحسن المنقلب ؛ وإذا كان يوم القيامة الكبرى عرجت به ملائكة الرحمة إلى جنان النعيم والسرور المقيم ، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [44 / 56] ، في (غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) [39 / 20] (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [10 / 9] ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [10 / 10]».
    قال (1) :
    «وأمّا الخزنة للجنان فيشبه أن يكون هم السكّان لها أيضا باعتبار آخر ، وذلك أنّه لمّا كان الخازن هو المتولّي لأحوال أبواب الخزانة بفتحها وتفريق ما فيها على مستحقّها ـ باذن ربّ الخزانة ومالكها ـ وغلقها ومنعها عن غير مستحقّها ، وكانت الملائكة هم المتولّون لإفاضة الكمالات ، وتفريق ضروب الإحسان والنعم على مستحقّها ، وحفظها ومنعها من غير مستحقّها والمستعدّ بالطاعة لها ـ باذن الله وحكمته ـ
    __________________
    (1) ـ شرح نهج البلاغة : 1 / 159.

    لا جرم صدق أنّهم خزّان الجنان بهذا الاعتبار ، وهم الذين يدخلون على المؤمنين (مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [13 / 23 ـ 24].
    قال بعض الفضلاء : إنّ العبد إذا راض نفسه حتّى استكمل مراتب القوّة النظريّة ومراتب القوّة العمليّة ، فإنّه يستعدّ بكلّ مرتبة من تلك المراتب لكمال خاصّ يفاض عليه من الله تعالى ، ويأتيه الملائكة فيدخلون عليه من كلّ باب من تلك الأبواب بالسلام والتحيّة والإكرام ، ثمّ إنّ الرضا بقضاء الله ـ من خير وشرّ ـ باب عظيم من تلك الأبواب ، فالملك الذي يدخل على الإنسان منه برضاء الله ـ كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [5 / 119] ـ هو رضوان خازن الجنان ـ والله أعلم.
    وأمّا ملائكة النار : فقال بعض الفضلاء : هي تسعة عشر نوعا من الزبانية ، لا يعصون الله ما أمرهم ؛ وهم الخمسة الذين ذكرنا أنّهم يوردون عليه الأخبار من خارج ، ورئيسهم ، والخازنان ، والحاجب ، والملك المتصرّف بين يديه بإذن ربّه ، وملكا الغضب والشهوة ، والسبعة الموكّلون بأمر الغذاء.
    وذلك أنّه إذا كان يوم الطامّة الكبرى وكان الإنسان ممّن (طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) حتّى كانت (الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [79 / 38 ـ 39] كانت اولئك التسعة عشر من الزبانية هم الناقلين له إلى الهاوية بسبب ما استكثر من المشتهيات ، واقترف من السيّئات ، وأعرض عن قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ

    لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [53 / 39 ـ 42].
    واعلم ـ وفّقك الله ـ أنّ هؤلاء الذين ذكر هذا القائل أنّهم ملائكة النار ربّما كانوا ـ أيضا ـ مع إنسان آخر من ملائكة الجنّة ، وذلك إذا استخدمهم ذلك الإنسان في دار الدنيا على وفق أوامر الله ، وأوقفهم على طاعة الله دون أن يطلب منهم فوق ما خلقوا لأجله ، وامروا به من طاعته ويعبر بهم إلى معصية الله وارتكاب نواهيه ومحارمه ـ وبالله التوفيق ـ».
    انتهى كلام شارح النهج (1).
    فصل [4]
    قال مولانا سيد الساجدين وزين العابدين عليه‌السلام في بعض أدعية الصحيفة الكاملة (2) بعد تحميد الله ـ عزوجل ـ والثناء عليه والصلاة على سيد المرسلين وآله مصلّيا على حملة العرش وأصناف من الملائكة ما هذا لفظه :
    «اللهم ، وحملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ، ولا يسأمون من تقديسك ، ولا يستحسرون من عبادتك ، ولا يؤثرون التقصير على الجدّ في أمرك ، ولا يغفلون عن الوله إليك.
    __________________
    (1) ـ شرح نهج البلاغة للبحراني : شرح الخطبة الاولى : 1 / 159.
    (2) ـ الدعاء الثالث من أدعية الصحيفة السجادية على منشئها آلاف التحيّة والسلام.

    وإسرافيل صاحب الصّور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن ، وحلول الأمر ، فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور ـ وميكائيل ذو الجاه عندك ، والمكان الرفيع من طاعتك ـ وجبريل الأمين على وحيك ، المطاع في أهل سماواتك ، المكين لديك المقرّب عندك ـ
    والروح الذي هو على الملائكة الحجب ، والروح الذي هو من أمرك ـ
    فصلّ عليهم وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكّان سماواتك ، وأهل الأمانة على رسالاتك ، والذين لا تدخلهم سئمة من دءوب ، ولا إعياء من لغوب ولا فتور ، ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ، ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ؛ الخشّع الأبصار ، فلا يرومون النظر إليك ، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك ، المستهترون بذكر آلائك ، المتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنّم تزفر على أهل معصيتك : «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك» ؛
    فصلّ عليهم وعلى الروحانيّين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك ، وحمّال الغيب إلى رسلك ، والمؤتمنين على وحيك ، وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك ، وأغنيتهم عن الطعام والشراب بتقديسك ، وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك ، والذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك ، وخزّان المطر وزواجر السحاب ، والذي بصوت زجره يسمع

    زجل الرعود ، وإذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق ، ومشيّعي الثلج والبرد ، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، والقوّام على خزائن الرياح ، والموكّلين بالجبال فلا تزول ، والذين عرّفتهم مثاقيل المياه ، وكيل ما تهويه لواعج الأمطار وعوالجها ، ورسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء ، والسفرة الكرام البررة ، والحفظة الكرام الكاتبين ، وملك الموت وأعوانه ومنكر ونكير ومبشّر وبشير ، ورومان فتّان القبور ، والطائفين بالبيت المعمور ، ومالك والخزنة ، ورضوان وسدنة الجنان ، والذين (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [66 / 6] ، والذين يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [13 / 24] ، والزبانية الذين إذا قيل لهم (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [69 / 30 ـ 31] ، ابتدروه سراعا ولم ينظروه ، ومن أو همنا ذكره ، ولم نعلم مكانه منك ، وبأيّ أمر وكّلته ، وسكّان الهواء والأرض والماء ، ومن منهم على الخلق.
    فصلّ عليهم يوم يأتي كلّ نفس معها سائق وشهيد» (1).
    __________________
    (1) ـ كتب ما يلي ثم شطب عليه : «وسيأتى لبعض هذه شرح فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ».

    [7]
    باب
    كثرة الملائكة
    (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [74 / 31]
    فصل [1]
    قد ورد في الخبر (1) : «إنّ بني آدم عشر الجنّ ، والجنّ وبني آدم عشر حيوانات البرّ ، وهؤلاء كلّهم عشر حيوانات البحر ، وكلّهم عشر ملائكة البحر ، وكلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها ، وكلّ هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكلّ هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ـ وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ـ ثمّ الكلّ في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل.
    ثمّ كلّ هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش ـ التي [عددها] (2) ستّمائة ألف ، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا
    __________________
    (1) ـ أورده الفخر الرازي في تفسير الآية البقرة / 31 ، 2 / 161 ـ 162.
    (2) ـ إضافة من تفسير الفخر الرازي.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:48 pm

    قوبلت بها السماوات والأرضون وما فيهما وما بينهما ، فإنّها كلّها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا ؛ وما من مقدار موضع قدم إلّا وفيها ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس.
    ثمّ كلّ هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يعرف عددهم إلّا الله تعالى ، ثمّ هؤلاء مع ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل والملائكة الذين هم جنود جبرئيل عليه‌السلام ـ كلّهم ـ سامعون مطيعون لأمر الله لا يفترون ، مشتغلون بعبادة الله ، مطاب الألسنة بذكره وتعظيمه ، يتسابقون بذلك مذ خلقهم لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار لا يسأمون ، لا تحصى أجناسهم ولا مدّة أعمارهم وكيفيّة عباداتهم».
    فصل [2]
    وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (1) : «ليس خلق أكثر من الملائكة ، إنّه لينزل كلّ ليلة من السماء سبعون ألف ملك ، فيطوفون بالبيت الحرام ليلتهم ، وكذلك في كلّ يوم».
    وسأله رجل ـ فقال ـ : «الملائكة أكثر ، أم بنو آدم»؟
    __________________
    (1) ـ الكافي : الروضة ، 272 ، ح 402. عنه البحار : 59 / 191 ، ح 47. وورد ما يقرب منه في تفسير القمي : قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) : 2 / 207. ثواب الأعمال : ثواب من زار قبر الحسين عليه‌السلام ، 121 ، ح 26. وأمالي الطوسي : 214 ، المجلس الثامن ، ح 22. البحار : 59 / 175 ، ح 4. 59 / 176 ، ح 8. 100 / 117 ، ح 7 ـ 8. 100 / 257 ، ح 1.

    فقال عليه‌السلام : «والذي نفسي بيده ـ لملائكة الله في السماوات أكثر من عدد التراب في الأرض ، وما في السماء موضع قدم إلّا وفيه ملك يسبّح له ويقدّسه ، ولا في الأرض شجرة ولا عودة إلّا وفيها ملك موكّل يأتي الله في كلّ يوم بعملها (1) ، الله أعلم بها ؛ وما منهم أحد إلّا ويتقرّب إلى الله بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبّينا ، ويلعن أعدائنا ، ويسأل الله أن يرسل عليهم من العذاب إرسالا».
    رواه في بصائر الدرجات (2).
    وفيه وفي الكافي (3) بإسناديهما عن مولانا الباقر عليه‌السلام : «والله ـ إنّ في السماء لسبعين صنفا من الملائكة ، لو اجتمع أهل الأرض كلّهم يحصون عدد كلّ صنف منهم ما أحصوهم ، وإنّهم ليدينون بولايتنا».
    وعنه عليه‌السلام (4) قال : «إنّ في الجنّة نهرا يغتمس فيه جبرئيل عليه‌السلام كلّ غداة ، ثمّ يخرج منه فينتقض ، فيخلق الله ـ تعالى ـ من كلّ قطرة يقطر منه ملكا».
    __________________
    (1) ـ يحتمل القراءة : بعلمها.
    (2) ـ بصائر الدرجات : باب ما خصّ الله به الأئمة من ولاية الملائكة ، 69 ، ح 9.
    ورواه القمي في تفسير الآية غافر / 7 ، 2 / 258.
    البحار : 24 / 210 ، ح 7. 26 / 339 ، ح 5. 59 / 176 ، ح 7.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 67 ، ح 1. عنه البحار : 26 / 340 ، ح 6.
    الكافي : كتاب الحجة ، باب جوامع الرواية في الولاية : 1 / 437 ، ح 5.
    (4) ـ الكافي : الروضة ، 272 ، ح 404. وجاء ما يقرب منه في أمالي الصدوق : المجلس السادس والخمسون ، 435 ، ح 10. عنه البحار : 59 / 248 ، ح 1.
    وأيضا ما يقرب منه في الدر المنثور : تفسير الآية (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ...) ، 1 / 228.

    وروي (1) «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين عرج به ـ رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق ، بعضهم يمشي تجاه بعض. فسأل رسول الله عليه‌السلام : «إلى أين يذهبون»؟ قال جبرئيل : «لا أدري ؛ إلّا أنّي أراهم منذ خلقت ، ولا أرى واحدا منهم قد رأيت قبل ذلك».
    ثمّ سألوا واحدا وقيل له : «منذ كم خلقت»؟
    قال : «لا أدري ، غير أنّ الله يخلق كوكبا في كلّ أربعمائة ألف سنة ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرّة».
    * * *
    __________________
    (1) ـ حكاه الفخر الرازي (في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) : 2 / 162) قائلا : «رأيت في بعض كتب التذكير أنه عليه‌السلام ...» ولا يخفى للمتدبّر ضعف الرواية متنا ، فإنها أشبه شيء بموضوعات القاص الذي قصده نقل المطالب العجيبة لجلب السامعين ، على أنها غير واردة في الجوامع الروائية ؛ وأما بيان كثرة الملائكة فلا يحتاج فيها إلى ذكر هذه القصص.

    [8]
    باب
    أصناف الملائكة وبدائع خلقهم
    (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [35 / 1]
    فصل (1) [1]
    [صفات الملائكة]
    إنّ للملائكة صفات عجيبة ونعوتا غريبة في لسان الشرع ، تدلّ على شيء من عظمة الله ـ جلّ جلاله ـ وبديع خلقه ؛ فلنذكر جملة منها في فصول :
    فمن أوصافهم الواردة في الشرع كونهم رسل الله اولي أجنحة ـ كما في الآية المذكورة.
    __________________
    (1) ـ أكثر ما في هذا الفصل مقتبس من مفاتيح الغيب ، الفصل الثالث من المفتاح التاسع : 351 ـ 353. كما أنها أيضا مقتبس مما جاء في تفسير الفخر الرازي : تفسير الآية (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...) ج 2 / ص 159 ـ 165.

    وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال (1) : «الملائكة على ثلاثة أجزاء : جزء له جناحان ، وجزء له ثلاثة أجنحة ، وجزء له أربعة أجنحة».
    رواه في الكافي.
    وفي بعض الأخبار (2) : «إنّ جبرئيل له ستّمائة جناح» (3).
    ومنها : قربهم من الله بالشرف والكرامة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [21 / 19] (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [21 / 26].
    ومنها : عصمتهم عن الذنوب والمعاصي : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [66 / 6] ، وذلك لأنّ المعصية في الحقيقة
    __________________
    (1) ـ الكافي : كتاب الروضة : 272 ، ح 403. الخصال : 1 / 153 ، باب الثلاثة ، ح 191.
    عنهما البحار : 59 / 177 ، ح 12.
    (2) ـ البخاري بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين ... ، 4 / 140. المسند : 1 / 398 و 407.
    (3) ـ في هامش النسخة :
    قال بعض العارفين : «إنّ أجنحة الملائكة إنّما ينزل بها إلى من هو دونها ، وليس لها قوّة تصعد بها فوق مقامها ، فإذا نزلت بها من مقامها إلى من هو دونها ، رجعت علوا من ذلك الذي نزلت عليه إلى مقامها ـ لا يتعدّاه ـ فما اعطيت الأجنحة إلّا من أجل النزول ، كما أنّ الطائر ما اعطي الجناح إلّا من أجل الصعود ، وإذا نزل نزل بطبعه ، وإذا علا علا بجناحه.
    والملك على خلاف ذلك ، إذا نزل نزل بجناحه ، وإذا علا علا بطبعه ؛ فأجنحة الملائكة للنزول إلى ما دون مقامها ، والطائر جناحه للعلو إلى ما فوق مقامه.
    وذلك ليعرف كلّ موجود عجزه ، وأنّه لا يتمكّن له أن يتصرّف بأكثر من طاقته التي أعطاه الله ، فالكلّ تحت ذلّ الحصر والتقييد والعجز ، ليتفرّد جلال الله بالكمال على الإطلاق ، لا إله إلّا هو العليّ الكبير ...
    وللملائكة مدارج ومعارج يعرجون عليها ، ولا يعرج منهم إلّا من نزل ، فيكون عروجه رجوعا». ـ منه ـ
    [مقتبس من الفتوحات المكيّة : الباب الرابع عشر وثلاثمائة : 3 / 54.]

    عبارة عن مخالفة القوّة السافلة للقوّة العالية فيما لها أن يفعل للغرض الأعلى عند تخالف الأغراض والدواعي ، وذلك إنّما يتصوّر فيما يتقوّم ذاته ووجوده من تركيب قوى وطبائع متضادّة ، والملائكة ـ سيّما العليّون ـ منزّهون عن ذلك.
    ومنها : مواظبتهم على العبادة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [21 / 20] ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [2 / 30] ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [37 / 166].
    ومنها : مبادرتهم إلى امتثال أمر الله ـ تعظيما له ـ : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [15 / 30].
    ومنها : أنّهم لا يفعلون إلّا بوحيه وأمره : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [21 / 27].
    ومنها : كونهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على المعاصي والزلّات خائفين وجلين ، كأنّ عباداتهم معاصي ـ تذلّلا لعظمته ، وحياء من قهّاريّته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [16 / 50] (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [21 / 28] (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [34 / 23].
    روي في بعض التفاسير (1) : «إنّ الله ـ سبحانه ـ إذا تكلّم بالوحي سمعه أهل السماوات مثل صوت الصلصلة على الصفوان ففزعوا ، فاذا
    __________________
    (1) ـ الفخر الرازي : تفسير قوله تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) : 2 / 164.
    وفي الدر المنثور ، 6 / 697 ـ 698 ، تفسير الآية سبأ / 23 ، ما يقرب منه. وكذا تفسير القمي : 2 / 203.

    انقضى الوحي قال بعضهم لبعضهم : ما ذا قال ربّكم؟ قالوا : الحقّ وهو العليّ الكبير».
    وروى البيهقي في شعب الإيمان (1) ، عن ابن عبّاس ـ رضى الله عنه ـ قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بناحية ومعه جبرئيل عليه‌السلام ، إذا انشقّ افق السماء فأقبل جبرئيل يتضاءل ويدخل بعضه في بعض ويدنو من الأرض ؛ فإذا الملك مثل بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: «يا محمّد ـ إنّ ربّك يقرئك السلام ، ويخيّرك بين أن تكون نبيّنا ملكا ، وبين أن تكون نبيّا عبدا»؟
    ـ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ فأشار جبرئيل عليه‌السلام بيده أن تواضع ؛ فعرفت أنّه لي ناصح ، فقلت : «عبدا نبيّا». فعرج ذلك الملك إلى السماء. فقلت : «يا جبرئيل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا؟ فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة ، فمن هذا يا جبرئيل»؟
    فقال : «هذا إسرافيل ، خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافّا قدميه لا يرفع طرفه ، وبين الربّ وبينه سبعون نورا ، ما منها نور يدنو منه إلّا احترق ؛ بين يديه اللوح المحفوظ ، فاذا أذن الله في شيء من السماء والأرض ارتقم ما في ذلك إلى جبينه فيه (2) ، فإن كان من عملي أمرني
    __________________
    (1) ـ شعب الإيمان : 1 / 177 ، الباب 3 ، في الإيمان بالملائكة ، فصل في معرفة الملائكة ، ح 157. وحكاه المؤلف عن تفسير الفخر الرازي (2 / 164) وأورده السيوطي في الدر المنثور : 1 / 226 ، تفسير الآية البقرة / 98 ، عن الطبراني وأبو الشيخ والبيهقي. وجاء في البحار (59 / 250 ، ح Cool ما يقرب منه عن تفسير القمي.
    (2) ـ المصدر : «ارتفع ذلك اللوح يضرب جبهته ...». الدر المنثور : «ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته ، فينظر فيه ...». وفي تفسير الفخر : «ارتفع ذلك اللوح بقرب جبينه فينظر فيه ...».

    به ، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل عزرائيل أمره به». قلت : «يا جبرئيل ـ على أي شيء أنت»؟
    قال : «على الرياح والحياة».
    قلت : «وعلى أي شيء ميكائيل»؟ فقال : «على النبات».
    قلت : «على أي شيء ملك الموت»؟ قال : «على قبض الأنفس. وما ظننت أنّه هبط إلّا لقيام الساعة ، وما ذلك الذي رأيت منّي إلّا خوفا من قيام الساعة».
    * * *
    ومنها شدّة قوّتهم ؛ فإنّ ثمانية منهم يحملون العرش ، المشتمل على الكرسي ـ الذي وسع السماوات والأرض ـ وينزلون من العرش في لحظة واحدة ، مع أنّ علوّ العرش لا يحيط به الفهم (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [70 / 4]. وجبرئيل بلغ من قوّته : إلى أن حمل جبال آل لوط وبلادهم دفعة واحدة ، وصاحب الصور بلغ في القوّة إلى حيث أنّ بنفخة واحدة منه يصعق من في السماوات ومن في الأرض ، وبالنفخة الثانية منه يعودون أحياء.
    وفي الخبر (1) : أنّ إسرافيل صاحب القرن ، وخلق الله ـ تعالى ـ اللوح المحفوظ من درّة بيضاء ما بين السماء والأرض سبع مرّات ، وعلّقه بالعرش ، مكتوب فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة.
    ولإسرافيل أربعة أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب
    __________________
    (1) ـ لم أعثر عليه ، ولعله مقتطف من أخبار متفرقة ، فإن محتواه يوجد في مجموعة من الأخبار متفرقة.

    وجناح ليستر عليه ويغطّى به رأسه ووجهه من خشية الله الجبّار ، وناكس رأسه نحو العرش ، وأحد قوائم العرش على كاهله ، ولا يحمل العرش إلّا بقدرة الله ، فإنّه يصغر من خشية الله مثل العصفور.
    وإذا قضى الله بشيء في اللوح فيكشف الغطاء عن وجهه وينظر إلى ما قضى الله من حكم وأمر. وليس من الملائكة أقرب مكانا من العرش من إسرافيل ، بينه وبين العرش سبعة حجب ، من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام. وبين جبرئيل وإسرافيل سبعون حجابا وأنّه قائم قد وضع الصور على فخذه الأيمن ورأس الصور على فمه ، فينتظر متى يؤمر فينفخ فيه ، فاذا قضت مدّة الدنيا يدنو الصور إلى جهة إسرافيل ، فيضمّ إسرافيل أجنحته الأربعة ، ثمّ ينفخ في الصور ، ويجعل ملك الموت إحدى كفّيه تحت الأرض السابعة ، فيأخذ أرواح أهل السماوات والأرض ، ولا يبقى في الأرض إلّا إبليس ، وفي السماء فيبقى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وهم الذين استثنى الله ـ تعالى ـ في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [27 / 87].
    وعن مولانا سيّد العابدين عليه‌السلام (1) : «إنّ لله ملكا يقال له خرقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر : «هل فوق العرش شيء»؟ فزاده الله ـ تعالى ـ مثلها أجنحة اخرى ، فكان له ستّ وثلاثون ألف جناح ، ما بين الجناح
    __________________
    (1) ـ روضة الواعظين : 1 / 59. عنه البحار : 58 / 34 ، ح 54. والرواية مرفوعة وغير موجودة في الجوامع المعتبرة ، ولا يخفى على الناظر فيها أمارات الوضع ، ولعل المؤلف ـ قدس‌سره ـ لو أعرض عن ذكر أمثال هذه الأخبار الضعاف ـ مما لو صحّ صدورها لاحتاج تصديق معناها إلى تكلفات في التأويل ـ لكان أحسن.

    إلى الجناح خمسمائة عام ؛ ثمّ أوحى الله إليه : «أيّها الملك طر» ؛ فطار مقدار عشرين ألف عام ، لم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ؛ ثمّ ضاعف الله له في الجناح والقوّة ، وأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام ، لم ينل ـ أيضا ـ. فأوحى الله : «أيّها الملك ـ لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي».
    فقال الملك : «سبحان ربّي الأعلى».
    فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «اجعلوها في سجودكم».
    فصل [2]
    وفي كتاب نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال في بعض خطبه (2) في وصف الملائكة ما هذا لفظه :
    «ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ، فملأ بهم فروج فجاجها (3) ، وحشا بهم فتوق أجوائها ، وبين فجوات تلك الفروج زجل (4) المسبّحين منهم في حظائر القدس ، وسترات الحجب ، وسرادقات المجد ، ووراء ذلك الضجيج (5) الذي تستكّ منه الأسماع ؛ سبحات نور تردع الأبصار عن
    __________________
    (1) ـ اضيف في روضة الواعظين : فأنزل الله عزوجل : سبح اسم ربك الأعلى ، فقال النبي ...
    (2) ـ نهج البلاغة : الخطبة 91. وهي المعروفة بخطبة الأشباح.
    (3) ـ الفجاج : جمع فجّ. وهو الطريق الواسع بين جبلين وحائطين.
    (4) ـ الزجل : رفع الصوت.
    (5) ـ في هامش النسخة : «الضجيج : الصوت الهائل». وفي النهج : «الرجيج» والرجيج : الزلزلة والاضطراب. وما في المتن أنسب مع ما بعده. تستك منه : تصمّ منه.

    بلوغها ، فتقف خائبة (1) على حدودها. أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات ، اولي أجنحة تسبّح جلال عزّته ، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا ممّا انفرد به ؛ (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [21 / 26 ـ 27].
    جعلهم الله فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه ، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ، وعصمهم من ريب الشبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ، وأيّدهم (2) بفوائد المعونة ، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة ، وفتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده ، ونصب منارا واضحة على أعلام توحيده.
    لم تثقلهم موصرات الآثام (3) ولم ترتحلهم عقب (4) الليالي والأيّام ، ولم ترم الشكوك بنوازغها (5) عزيمة إيمانهم ، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم ، ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم ، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم ، وسكن من عظمته وهيبة جلاله في أثناء صدورهم ، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم.
    منهم من هو في خلق الغمام الدّلّح (6) ، وفي عظم الجبال الشمّخ ، وفي قترة الظلام الأيهم ، ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض
    __________________
    (1) ـ هامش النسخة : «خ ل : خاسئة».
    (2) ـ هامش النسخة : «خ ل : أمدهم».
    (3) ـ في هامش النسخة : «موصرات الآثام : مثقلاتها».
    (4) ـ في الهامش : «العقب : جمع العقبة ، وهي المرة من التعاقب».
    (5) ـ في الهامش : «النوازغ ـ بالغين المعجمة ـ : الخواطر المفسدة. وبالمهملة : القسي. وكلاهما مروي هاهنا».
    (6) ـ في الهامش : «الدلّح : جمع دالحة ، وهي الثقال. الشمخ : أي العالية».

    السفلى ، فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء ، وتحتها ريح هفّافة (1) ، تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ، قد استفرغتهم أشغال عبادته ، ووسلت (2) حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته ، وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه ، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره.
    قد ذاقوا حلاوة معرفته ، وشربوا بالكأس الرويّة من محبّته ، وتمكّنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته (3) ، فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم ، ولم ينفد طول الرغبة إليه مادّة تضرّعهم ، ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق (4) خشوعهم ، ولم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، ولا تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم ، ولم تجر الفترات فيهم على طول دءوبهم ، ولم تغض رغباتهم فتخالفوا (5) عن رجاء ربّهم ، ولم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم (6) ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الحنين (7) إليه أصواتهم ، ولم تختلف في مقادم (Cool الطاعة مناكبهم ، ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم ، ولا تعدوا على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ، ولا تنتضل (9) في هممهم خدائع
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : «الريح الهفافة : الساكنة الطيبة».
    (2) ـ في هامش النسخة : «وسلت أي وصلت». وفي النهج بدلا منها : وصلت.
    (3) ـ سويداء القلب : حبّة القلب. الوشيجة : عرق الشجرة ؛ استعير هنا لبواعث الخوف.
    (4) ـ هامش النسخة : «الربق ـ جمع ربقة ـ : وهي الحلقة من الحبل».
    (5) ـ هامش النسخة : «أي تعدلوا». دأب في العمل : بالغ في المداومة.
    (6) ـ الأسالات : جمع أسلة. وأسلة اللسان طرفه. أي لم تيبس أطراف ألسنتهم.
    (7) ـ هامش النسخة : «خ ل : الخبر».
    (Cool ـ هامش النسخة : «مقاوم».
    (9) ـ هامش النسخة : «الانتضال : الرمي بالسهام».

    الشهوات ، قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم ، ويمّموه (1) عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم ؛ لا يقطعون أمد غاية عبادته ، ولا يرجع بهم الاستهتار (2) بلزوم طاعته ، إلّا إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته.
    لم تنقطع أسباب الشفقة منهم ، فينوا في جدّهم (3) ، ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم (4) ، ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم ؛ ولو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم (5) ، ولم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم ، ولم يفرّقهم سوء التقاطع ، ولا تولّاهم غلّ التحاسد ، ولا أشعبتهم مصارف الريب ، ولا اقتسمتهم أخياف الهمم (6) ، فهم اسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ ، ولا عدول ولا ونىّ ولا فتور ، وليس في أطباق السماء موضع إهاب (7) إلّا وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد ؛ يزدادون على طول الطاعة بربّهم علما ، وتزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما.
    __________________
    (1) ـ يمموه : قصدوه.
    (2) ـ هامش النسخة : «استهتر بالأمر : أعجبه وتظاهر به».
    (3) ـ ونى ، يني : تأنى. فينوا : فيضعفوا.
    (4) ـ وشيك السعي : مقاربه وهينه.
    في هامش النسخة : «أي يؤثروا ما قرب السعي في تحصيله على ما يستعدونه من تحصيل السعادة الاخرويّة».
    (5) ـ أي ولو استعظموا أعمالهم لأذهب خوفهم رجاءهم بها.
    (6) ـ الأخياف : جمع خيف ؛ وهو ما انحدر من سفح الجبل. والمراد هنا سواقط الهمم. وفي هامش النسخة : «أي مختلفاتها. واحده : أخيف».
    (7) ـ الإهاب : جلد الحيوان.

    فصل [3]
    وفي الكتاب المذكور (1) عنه عليه‌السلام أيضا أنّه قال في خطبة اخرى في وصفهم :
    ثمّ فتق ما بين السماوات العلى ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان.
    ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده ، والسدنة لأبواب جنانه.
    ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفّعون (2) تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة وأستار القدرة ؛
    لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر.
    __________________
    (1) ـ نهج البلاغة : الخطبة الاولى.
    (2) ـ تلفّعت بالثوب : التحفت به. وفي هامش النسخة : «تلفع : تغطى».

    فصل [4]
    وفي كتاب التوحيد (1) عنه عليه‌السلام إنّه قال في بعض خطبه ـ بعد أن سئل عن قدرة الله ـ جلّت عظمته ـ :
    «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته ـ لعظم خلقه وكثرة أجنحته ـ ومنهم من لو كلّفت الجنّ والإنس أن يصفوه ما وصفوه ـ لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته ـ وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه وشحمة اذنيه.
    ومنهم من يسدّ الافق بجناح من أجنحته ، دون عظم بدنه.
    ومنهم من السماوات إلى حجزته (2).
    ومنهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل ، والأرضون إلى ركبتيه.
    ومنهم من لو القي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها.
    ومنهم من لو القيت السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين
    ـ فتبارك الله أحسن الخالقين ـ».
    __________________
    (1) ـ التوحيد : باب ذكر عظمة الله ـ جلّ جلاله ـ ، 278 ، ح 3. الخصال : 400 ، باب السبعة ، ح 109. عنهما البحار : 59 / 178 ، ح 13.
    (2) ـ هامش النسخة : «الحجزة ـ بالضم ـ : مقعد الازار. ومن السراويل : موضع التكة».

    فصل [5]
    وفي الكتاب المذكور (1) بإسناده عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : ـ
    «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ديكا رجلاه في تخوم الأرض السابعة ، ورأسه عند العرش ، ثاني عنقه تحت العرش.
    وهو ملك من ملائكة الله ـ عزوجل ـ خلقه الله ـ تبارك وتعالى ـ ورجلاه في تخوم الأرض السابعة السفلى ، مضى مصعدا فيها مدّ الأرضين ، حتّى خرج منها إلى افق السماء ، ثمّ مضى فيها مصعدا حتّى انتهى قرنه إلى العرش ؛ وهو يقول : «سبحانك ربّي».
    وإنّ لذلك الديك جناحين إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب ؛ فاذا كان في آخر الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح يقول : «سبحان الملك القدّوس ، سبحان الكبير المتعال القدّوس ، لا إله إلّا الله الحيّ القيّوم» ؛ فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلّها ، وخفقت بأجنحتها ، وأخذت في الصراخ ؛ فاذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت الديكة في الأرض ؛ فإذا كان في بعض السحر [نشر جناحيه] (2) فجاوز [ا] المشرق والمغرب وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح : «سبحان الله العظيم ، سبحان الله العزيز القهّار ، سبحان الله ذي العرش المجيد ،
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق ، 279 ، ح 4. عنه البحار : 59 / 181 ، ح 20. 93 / 179. وجاء ما يقرب منه فيما نقله القمي في رواية المعراج (2 / 10 ، الإسراء / 1). عنه البحار :
    18 / 327 ، ح 34. و 59 / 173 ، ح 3.
    (2) ـ إضافة من المصدر.

    سبحان الله ربّ العرش الرفيع» ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض فاذا هاج هاجت الديكة في الأرض تجاوبه بالتسبيح والتقديس لله ـ عزوجل ـ.
    ولذلك الديك ريش أبيض ـ كأشدّ بياض رأيته قطّ ـ وله زغب أخضر (1) تحت ريشه الأبيض ـ كأشدّ خضرة رأيتها قطّ ـ فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى خضرة ريش ذلك الديك».
    وبهذا الإسناد (2) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : ـ «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ملكا من الملائكة نصف جسده الأعلى نار ، ونصفه الأسفل ثلج ؛ فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفئ النار ؛ وهو قائم ينادي بصوت له رفيع : «سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا يذيب هذا الثلج ، وكفّ برد هذا الثلج فلا يطفئ حرّ النار ، اللهمّ مؤلّف بين الثلج والنار ، ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك».
    وبهذا الإسناد (3) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ملائكة ليس شيء من أطباق أجسادهم إلّا وهو يسبّح لله ـ عزوجل ـ ويحمده من ناحية بأصوات مختلفة ، لا يرفعون رءوسهم إلى السماء ولا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء والخشية لله ـ عزوجل ـ».
    __________________
    (1) ـ هامش النسخة : «الزغب : صغار الشعر».
    (2) ـ التوحيد : الباب السابق : 280 ، ح 5. عنه البحار : 59 / 182 ، ح 21. تفسير القمي ، ضمن الحديث المذكور : 2 / 6. عنه البحار : 18 / 323 ، ح 34. 59 / 172 ، ح 2.
    (3) ـ التوحيد : الباب السابق : 280 ، ح 6. تفسير القمي ، ضمن الحديث المذكور : 2 / 7.

    فصل [6]
    وفي الكتاب المذكور (1) بإسناده إلى أصبغ بن نباتة ، قال : جاء ابن الكوّاء (2) إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال :
    «يا أمير المؤمنين ـ والله إنّ في كتاب الله ـ عزوجل ـ لآية قد أفسدت عليّ قلبى وشكّكتني في ديني».
    فقال له عليّ عليه‌السلام «ثكلتك أمّك وعدمتك ، وما تلك الآية»؟
    قال : «قول الله ـ عزوجل ـ (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [24 / 41]».
    فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا ابن الكوّاء ـ إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ
    __________________
    (1) ـ التوحيد : الباب السابق : 282 ، ح 10. عنه البحار : 59 / 183 ، ح 24 و 87 / 182 ، ح 3. 93 / 180 ،. تفسير القمي : 2 / 107 ، الآية النور / 41. وجاء ما يقرب منه في تفسير الفرات : سورة الأعراف ، ص 143. عنه البحار 24 / 254 ، ح 16. والاحتجاج : احتجاجه عليه‌السلام على ابن الكواء : 1 / 542. وتأويل الآيات الظاهرة : سورة النور ، 1 / 365. وأورد ما يقرب منه في البحار عن كتاب صفوة الأخبار : 40 / 283 ، ح 45.
    (2) ـ ابن الكواء هو عبد الله بن أبي بكر اليشكري (البحار 53 / 72) وقال الطبري (التاريخ : 5 / 212): «اسم أبي الكواء عبد الله بن أبي أوفى». وكان ممن طردوا بأمر عثمان إلى حمص والأمير عليه يومئذ عبد الرحمن بن خالد (ابن أبي الحديد : 2 / 134) وكان من أصحاب علي عليه‌السلام (مروج الذهب : 3 / 232) وكان معه عليه‌السلام في صفين (ابن أبي الحديد : 2 / 231) وصار من أمراء الخوارج (ابن أبي الحديد : 2 / 271 ، 275 ، 311. تاريخ الطبري : 5 / 63 ، 65 ، 91. مروج الذهب : 3 / 144) وله أسئلة سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، راجع البحار : 59 / 324 ، و 370 ، و 377. 60 / 200. 66 / 50. الطبري : 1 / 75 ـ 76.

    خلق الملائكة في صور شتّى ، إلا أنّ لله ملكا في صورة ديك أبحّ أشهب (1) ، براثنه في الأرض السابعة السفلى ، وعرفه مثنّى تحت العرش ؛ له جناحان : جناح في المشرق ، وجناح في المغرب ؛ واحد من نار ، والآخر من ثلج ؛ فاذا حضر وقت الصلاة قام على براثنه ، ثمّ رفع عنقه من تحت العرش ، ثمّ صفّق بجناحيه ، ثمّ تصفّق الديوك في منازلكم ؛ فلا الذي من النار تذيب الثلج ، ولا الّذي من الثلج يطفئ النار ؛ فينادي : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا سيّد النبيّين ، وأنّ وصيّه سيّد الوصيّين ، وأنّ الله سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح».
    ـ قال : ـ فقال : «فتخفق الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه عن قوله ؛ وهو قوله عزوجل : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [24 / 41] ـ من الديكة في الأرض» (2) انتهى كلامه صلوات الله عليه.
    فسبحان من يسبّح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ،
    قدّوس سبّوح ، ربّ الملائكة والروح.
    هذا آخر الكلام في العلم بالملائكة
    والحمد لله وحده.
    * * *
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : «الابح : السمين. البراثن : المخالب».
    (2) ـ ورد هنا في المطبوعة الحجرية من الكتاب فصولا تتضمن شرح الخطب الماضية مقتبسا من شرح ابن ميثم البحراني ـ قدس‌سره ـ (2 / 354 و 1 / 160). ـ


    المقصد الثالث
    العلم بالكتب والرسل
    (صلوات الله عليهم)
    (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [57 / 25]

    [1]
    باب الاضطرار إلى الرسل والشرائع
    وأسرار التكاليف
    (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [35 / 24]
    فصل [1]
    [الاضطرار إلى الشرع والشارع] (1)
    اعلم أنّ الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله ـ عزوجل ـ والبدن مركب ، ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتمّ سفره ، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتمّ أمر التبتّل والانقطاع إلى الله ، الذي هو السلوك ، ولا يتمّ ذلك حتّى يبقى بدنه سالما ، ونسله دائما ، وإنّما يتمّ كلاهما بأسباب الحفظ لوجودهما ، وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما.
    __________________
    (1) ـ راجع الشفاء : الإلهيات. المقالة العاشرة ، الفصل الثاني : 441. الشواهد الربوبيّة : المشهد الخامس ، الشاهد الثاني ، الإشراق الأول : 359. المبدأ والمعاد : 488.

    أمّا أسباب الحفظ لوجودهما : فالأكل والشرب ـ وذلك لبقاء البدن ـ والمناكحة ـ وذلك لبقاء النسل ـ وقد خلق الله الغذاء سببا للحياة ، والاناث محلا للحراثة ؛ إلّا أنّه ليس يختصّ المأكول والمنكوح ببعض الآكلين والناكحين بحكم الفطرة ، مع أنّهم محتاجون إلى تمدّن واجتماع وتعاون ، إذ لا يمكن لكلّ منهم أن يعيش وحده ، يتولّى تدبيراته المتكثّرة المختلفة من غير شريك يعاونه على ضروريّات حاجاته ؛
    بل لا بدّ ـ مثلا ـ لأن ينقل هذا لهذا ، ويطحن هذا لهذا ، ويخبز هذا لهذا ـ وعلى هذا القياس ـ
    فافترقت أعداد ، واختلفت أحزاب ، وانعقدت ضياع وبلاد ، فاضطرّوا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مرجوع إليه بين كافّتهم ، يحكمون به بالعدل ، وإلّا لتهارشوا وتقاتلوا ، بل شغلهم ذلك عن السلوك للطريق ، بل أفضى بهم إلى الهلاك ، وانقطع النسل ، واختلّ النظام ، لما جبّل عليه كلّ أحد من أنّه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه فيه.
    وذلك القانون هو الشرع.
    وذلك القانون هو الشرع.
    ولا بدّ من شارع يعيّن لهم ذلك القانون والمنهج ، لينتظم به معيشتهم في الدنيا ، ويسنّ لهم طريقا يصلون به إلى الله ـ عزوجل ـ بأن يفرض عليهم ما يذكّرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربّهم ، وينذرهم يوم ينادون فيه (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [50 / 41] ،
    وينشقّ (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) [50 / 44] ،
    (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [5 / 16] ،

    لئلّا ينسوا ذكر ربّهم ويذهلوا بدنياهم عن عقباهم التي هي الغاية القصوى والمقصد الأقصى (1).
    فصل [2]
    وبوجه آخر : لمّا كان الإنسان في أوّل أمره ومبدأ نشوءه خاليا عن كماله الذي خلق له ، قاصرا عن الغاية التي ندب إليها ـ كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [16 / 78] ـ قابلا إيّاه بفطرته التي فطر عليها ، يمكن له الوصول إليه بما اوتي من أسبابه ، وهيّئ له من شرائطه ـ كما قال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [16 / 78] وقال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [3 / 103] ـ
    ـ لكنّه ممنوع بمقتضيات نشأته التي جبّل عليها ـ لو خلّي وشأنه ـ لتشاكله على ما يقتضيه مزاجه وطبيعته بحسب الغالب من قواه ، وموجب طينته وهواه ، ـ كما قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [17 / 84] ـ إذ كلّ مزاج يناسب قوّة دون اخرى ، ويسهل له فعل بعضها ممّا يلائم حالها دون بعض ؛ على ما عبّر عنه في القرآن مرّة بقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، [21 / 37] واخرى : (كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) ، [17 / 100] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) ، [70 / 19] (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [33 / 72].
    __________________
    (1) ـ كتب المؤلف هنا مقاطع ثم شطب عليها وكتب بدلا منها الفصل الآتي ، وأورد القسم المشطوب عليه كفصل مستقل سيجيء في الفصل الرابع.

    فمن الواجب أن يكون له سياسة تسوسه وتربّيه لصلاحيّته الكمال ، وتدبّره وتجريه في طريق الخير والسعادة ؛ وإلّا لبقي في مرتبة البهائم ، وحيل بينه وبين النعيم الدائم.
    فصل [3]
    [وجوب بعث الأنبياء] (1)
    وكما لا بدّ في العناية الإلهيّة لنظام العالم من المطر ، ورحمة الله لم تقصر عن إرسال السماء مدرارا لحاجة الخلق ؛ فنظام العالم لا يستغني عمّن يعرّفهم موجب صلاح الدنيا والآخرة.
    نعم ـ من لم يهمل إنبات الشعر على الحاجبين للزينة ، وكذا تقعير الأخمص في القدمين ـ كيف أهمل وجود رحمة للعالمين؟ مع ما في ذلك النفع العاجل السلامة في العقبى ، والخير الآجل؟ أم من لم يترك الجوارح والحواسّ حتّى جعل لها رئيسا يصحّح لها الصحيح ، ويتيقّن به ما شكّت فيه ـ وهو الروح ـ كيف يترك الخلائق كلّهم في حيرتهم وشكّهم وضلالتهم ، لا يقيم لهم هاديا يردّون إليه شكّهم وحيرتهم؟!
    روي في الكافي (2) بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال للزنديق
    __________________
    (1) ـ راجع المبدأ والمعاد : 448. الشفاء : الفصل السابق : 442.
    (2) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب الاضطرار إلى الحجة ، 1 / 168 ، ح 1. التوحيد : باب الرد على الثنوية والزنادقة ، 249 ، ح 1. عنه البحار : 11 / 29 ، ح 20. علل الشرائع : باب (98) علة إثبات الأنبياء والرسل ... ، 1 / 120 ، ح 3. الاحتجاج : 2 / 213. البحار : 10 / 164 ، ح 2. 10 / 199 ، ح 3. 11 / 29 ، ح 20.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:50 pm

    الّذي سأله : «من اين أثبتّ الأنبياء والرسل»؟ :
    «إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا ، لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه : ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ؛ فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ؛ وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم ، مؤيّدين (1) عند الحكيم العليم بالحكمة. ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلوا أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته».
    فصل [4]
    [النبي إنسان صاحب معجزة] (2)
    ويجب أن يكون ذلك السانّ إنسانا ، لأنّ مباشرة الملك لتعليم الإنسان على هذا الوجه مستحيل ـ كما قال الله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [6 / 9] ودرجة باقي الحيوانات أنزل.
    __________________
    (1) ـ المصدر : مؤيدين من عند. / المصدر نسخة : مؤيدون عند.
    (2) ـ راجع الشواهد الربوبية : 360. الشفاء : الصفحة السابقة.

    ولا بدّ من تخصّصه بآيات من الله ـ سبحانه ـ دالّة على أنّ شريعته من عند ربّهم العالم ، القادر ، الغافر ، المنتقم ؛ ليخضعوا له ، ويلزم لمن وقف لها أن يقرّ بتقدّمه ورئاسته ؛ وهي المعجزة ؛ وإليه الإشارة بقول الصادق عليه‌السلام (1) :
    «يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته».
    فصل [5]
    [ما يجب على النبي أن يقرره ويأتي به]
    قال بعض أهل العلم والحكمة (2) :
    «يجب على النبي أن يسنّن للناس في امورهم سننا بإذن الله وأمره ووحيه ، وإنزاله الروح القدس عليه ؛ ويكون الأصل الأوّل فيما يسنّه تعريفه إيّاهم أنّ لهم صانعا واحدا قادرا ، وأنّه عالم بالسرّ والعلانية ، وأنّه من حقّه أن يطاع بأمره ـ فإنّه يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق ـ وأنّه قد أعدّ لمن أطاعه النعيم ، ولمن عصاه الجحيم ، حتّى يتلقّوا رسمه المنزل على لسانه من الله والملائكة بالسمع والطاعة.
    ولا ينبغي له أن يشغلهم بشيء من معرفة الله فوق معرفة أنّه واحد ، حقّ ، لا شبيه له ؛ لئلّا يعظم عليهم الشغل ويشوّش
    __________________
    (1) ـ في الحديث الماضي آنفا.
    (2) ـ راجع الشفاء الصفحة السابقة.

    فيما بين أيديهم الدين ، ويوقعهم فيما لا مخلص عنه ـ من الشكوك والشبه ـ إلّا لمن كان المعان الموفّق ، الذي يشذّ وجوده ويندر كونه ؛ فإنّهم لا يمكنهم تصوّر ذلك على وجهه إلّا بكدّ ، فيقعوا في تنازع وآراء مختلفة مخالفة لصلاح المدينة.
    بل يجب أن يعرفهم جلالة الله وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التى هي عندهم جليلة وعظيمة ، ويلقي إليهم مع هذا أنّه لا نظير له ولا شريك ولا شبيه.
    وكذلك يقرر لهم أمر المعاد على وجه يتصوّرون كيفيّته ويسكن إليه نفوسهم ، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالا مما يفهمونه ويتصوّرونه ، وإن اشتمل مع ذلك على رموز وإشارات يستدعي المستدعين بالجبلّة للنظر إلى البحث الحكميّ فلا بأس».
    فصل [6]
    [يلزم على النبي إيجاب العبادات] (1)
    ويجب أن يلزمهم الطاعات والعبادات ليسوقهم بالتعويد عن مقام الحيوانيّة إلى مقام الملكيّة :
    إمّا امورا وجوديّة يخصّهم نفعها ـ كالصلوات والأذكار على هيئة الخشوع والخضوع ليحرّكهم بالشوق إلى الله ـ أو يعمّ نفعها لهم ولغيرهم ـ كالصدقات والقرابين في هيكل العبادات ـ
    __________________
    (1) ـ راجع المبدأ والمعاد : 488. الشفاء : الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الثالث : 443.

    وإمّا امورا عدميّة تزكّيهم ؛ إمّا تخصّهم كالصيام ؛ أو تعمّهم وغيرهم كالكفّ عن الكذب وإيلام النوع والحبس ، والصمت.
    وأن يسنّ عليهم أسفارا ينزعجون فيها عن بيوتهم طالبين رضاء ربّهم ، ويتذكّرون يوما (مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [36 / 51] ، فيزورون الهياكل الإلهيّة ، والمشاهد النبويّة ونحوها.
    ويشرع لهم عبادات يجتمعون عليها ـ كالجمعة والجماعات ـ فيكسبون مع المثوبة التودّد والايتلاف والمصافاة ؛ ويكرّر عليهم العبادات والأذكار في كل يوم لئلّا ينسوا ذكر ربّهم فيهملوا.
    فصل [7]
    [يلزم على النبي إيجاب قواعد مدنية] (1)
    ويجب أيضا : أن يقنّن للناس قوانين الاختصاصات في الأموال وعلاماتها ، من عقود المعاوضات والمداينات ، وقسمة المواريث والغنائم والصدقات ؛ ويعرّف كيفيّة التخصيص عند الاستبهام بالأقارير والأيمان والشهادات.
    ويقنّن قوانين الاختصاص بالاناث وعلاماتها ، من أحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدّة ، ومحرّمات النسب والرضاع ، والمصاهرات وسائر المعاملات ؛ وأن يفرض في المعاملات المؤدّية إلى الأخذ والإعطاء سننا تمنع وقوع الغرر والحيف ، وأن يحرّم المعاملات التي فيها غرر.
    __________________
    (1) ـ راجع الشفاء : المقالة السابقة ، الفصل الرابع : 447.

    وأن يسنّ على الناس معاونة الناس والذبّ عنهم ، ووقاية أموالهم وأنفسهم من غير أن يغرم متبرّع فيما يلحق بتبرّعه.
    وأن يحرّم البطالة والتعطّل والصناعات التي تقع فيها انتقالات الأملاك والمنافع من غير مصالح تكون بإزائها ، ولو منفعة أو ذكر جميل كالقمار ، وكذا الذي تدعوا إلى أضداد المصالح والمنافع كالسرقة والقيادة والحرف التي تغني الناس عن تعلّم الصناعات الداخلة في الشركة كالربا ، والأفعال التي تؤدّي إلى ضدّ ما عليه بناء التمدّن كالزنا واللواطة المؤدّيين إلى الاستغناء عن التزويج ، الذي به يحصل التناسل الضروري لحفظ النوع.
    وأن يدعو إلى التزويج ويحرّض عليه ، لأنّ في بقاء الأنواع دليل وجود الله ـ سبحانه ـ وعبادته المطلوبة من الخلق.
    وأن يؤكّد الامور في ثبوت هذه الوصلة ، حتّى لا يقع بأدنى سبب فرقة ، فتؤدّي إلى تشتّت الشمل الجامع للأولاد ووالديهم ، وإلى تجدّد احتياج كل إنسان إلى المزاوجة ـ وفي ذلك أنواع من الضرر ـ.
    وأن يكون إلى الفرقة سبيل ما ، لأنّ من الطبائع ما لا يتئالف ، فكلّما اجتهد إلى الجمع زاد الشرّ والنبوّ وتبغّضت المعايش ، وربّما كان الزوج غير كفؤ ولا حسن المذاهب في العشرة ، فتدعوا الرغبة في غيره ، إذ الشهوة طبيعيّة فيؤدّى ذلك إلى وجوه من الفساد ؛ وربّما كان المتزاوجان لا يتعاونان على النسل ، فاذا بدّلا بآخرين تعاونا.
    ويجب أن تكون الفرقة مشدّدا فيها ، ولا تكون في يدي المرأة ، لأنّها واهية العقل ، مبادرة إلى متابعة الهوى والغضب.

    وأن يسنّن فيها التستّر والتخدّر ، لأنّ من حقّها أن تصان ، لكثرة شهوتها وانخداعها وقلّة عقلها ، وكون الاشتراك فيها ممّا يوقع أنفة وعارا عظيما ـ وهي من المضارّ المشهورة ـ بخلاف الاشتراك في الرجل ، فإنّه لا يوقع عارا ، بل حسدا ، والحسد غير ملتفت إليه لأنّه طاعة للشيطان ، ولذلك يجب أن يسنّ لها أن تكفى من جهة الرجل ، فيلزم الرجل نفقتها ، لكن الرجل يجب أن يعوّض من ذلك عوضا ، وهو أنّه يملكها ولا تملكه ، فلا يكون لها أن تنكح غيره ، وأمّا الرجل فلا يحجر عليه في هذا الباب ، وإن حرّم عليه تجاوز عدد لا يفي بإرضاء ما وراءه وعوله.
    ويسنّ في الولد أن يتولّاه كلّ واحد من الأبوين في التربية ، أمّا الوالدة فبما تحضنه ، وأمّا الوالد فبالنفقة.
    وكذلك الولد ـ أيضا ـ يسنّ عليه خدمتهما وطاعتهما وإكبارهما وإجلالهما ، فهما سببا وجوده ، ومع ذلك فقد احتمالا مئونته.
    وأن يسنّ في الأخلاق والعادات سننا تدعو إلى العدالة التي هي الوساطة لتزكية النفوس ولمصالح دنيويّة ، فإنّ الرذائل الإفراطية ، تضرّ في المصالح الإنسانيّة ، والتفريطيّة تضرّ في التمدّن.
    وأن يسنّ مقاتلة الكفّار وأهل البغي ـ بعد أن يدعوهم إلى الحقّ ـ دفعا لما يعرض من الجاحدين للحق من تشويش أسباب الديانة والمعيشة ، اللتين بهما الوصول إلى الله.
    وأن يباح أموالهم وفروجهم ، لأنّها ليست عائدة بالمصلحة التي تطلب الأموال والفروج لها ، بل معينة على الفساد والشرّ.

    وإذ لا بدّ للناس من الخدم فيجب أن يكون أمثال هؤلاء يجبرون على خدمة أهل الحقّ ، وكذا كلّ من كان بعيدا عن تلقّن الفضيلة ممّن لم تكن له قريحة صحيحة ـ مثل الترك والزنج ـ
    وإذا كانت لقوم سنّة حميدة لم يتعرّض لهم ، إلّا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنّة غير السنّة النازلة ، فحينئذ يؤدّب هؤلاء ـ أيضا ـ ويجاهدوا ـ لكن مجاهدة دون مجاهدة أهل الضلال الصرف ـ أو يلزموا غرامة على ما يؤثرونه ، فيسالمون على فداء أو جزية.
    وبالجملة يصحّح عليهم أنّهم مبطلون ، وكيف لا يكونون مبطلين ، وقد امتنعوا من طاعة الشريعة التي أنزلها الله تعالى؟!
    ويجب عليه أن ينصب خليفة يكون إماما للناس بعده ، يحفظ ويبقي سنّته وشرعه إلى بعثه نبيّ آخر ، لأنّ النبيّ ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كلّ وقت ، ولا الناس يحتاجون إلى شريعة متجدّدة في كلّ حين.
    وأن لا يكون الاستخلاف إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف.
    وأن يفرض على الناس جميعا طاعة من يخلفه ، ويحكم في سنّته أنّ من خرج وادّعى خلافته بفضل قوّة أو مال فعلى كافّتهم قتاله وقتله ، فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به ، ويحلّ دم من قعد عن ذلك وهو متمكّن بعد أن يصحّ على رأس الملأ ذلك منه.
    ويجب أن يسنّ أن لا قربة عند الله بعد الإيمان بالنبيّ أعظم من إتلاف هذا المتغلّب ، لينضبط السياسة الدينيّة التي يتولّاها حارس السالكين وكافل المحقّين نائبا عن رسول الله ربّ العالمين.

    هذا ملخّص ما ذكره بعض أهل العلم والحكمة في هذا الباب (1) ، وقد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام في علل الأحكام والشرائع أخبار ونصوص مفصّلة ، منعنا عن إيرادها خوف الإطالة والإطناب ، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى كتاب علل الشرائع للصدوق ـ رحمه‌الله ـ وإلى كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام له وإلى غير ذلك.
    فصل [8]
    قد ذكر بعض العلماء (2) ضابطة يعلم بها كبائر المعاصى عن صغائرها ، بل مراتب التكاليف الشرعيّة كلّها أو جلّها ، وملخّصها :
    «إنّا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر ـ جميعا ـ أنّ مقصود الشرائع ـ كلّها ـ سياقة الخلق إلى جوار الله وسعادة لقائه ، وأنّه لا وصول لهم إلى ذلك إلّا بمعرفة الله ـ تعالى ـ ومعرفة صفاته ورسله وكتبه ، وإليه الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [51 / 56] أي ليكونوا عبيدا ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربّه بالربوبيّة ونفسه بالعبوديّة ؛ فلا بدّ وأن يعرف نفسه وربّه.
    فهذا هو المقصود الأصلي ببعثة الأنبياء ؛ ولكن لا يتمّ هذا إلّا في الحياة الدنيا ، وهو المعنيّ بقوله عليه‌السلام :
    __________________
    (1) ـ ما ذكره ـ قدس‌سره ـ كما أشرنا إليه اقتباس وتلخيص مما أورده ابن سينا في الشفاء : الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الرابع والخامس ، 447 ـ 455.
    (2) ـ إحياء علوم الدين : كتاب التوبة ، بيان أقسام الذنوب : 4 / 31.

    «الدنيا مزرعة الآخرة» (1).
    فصار حفظ الدنيا ـ أيضا ـ مقصودا تابعا للدين ، لأنّه وسيلة إليه ، والمتعلّق من الدنيا بالآخرة شيئان : النفوس والأموال.
    فكلّ ما يسدّ باب معرفة الله ، فهو أكبر الكبائر ، ويليه ما يسدّ باب حياة النفوس ، ويلى ذلك ما يسدّ باب المعايش التي بها حياة النفوس.
    فهذه ثلاث مراتب : فحفظ المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروريّ في مقصود الشرائع كلّها.
    وهذه ثلاثة امور لا يتصوّر أن يختلف فيها الملل ، فلا يجوز أن يبعث الله ـ تعالى ـ نبيّنا يريد ببعثته إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ، ثمّ يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله ، ويأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال ؛
    فحصل من هذا أنّ الكبائر على ثلاث مراتب :
    الاولى : ما يمنع من معرفة الله ومعرفة رسله ـ وهو الكفر ـ
    __________________
    (1) ـ نسبه الغزالي في الإحياء (كتاب التوبة ، الركن الثاني ، 4 / 31) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال العراقي في تخريجه (المغني ، ذيل الطبعة القديمة من الإحياء : 4 / 19) : «لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا ، وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم : نعمت الدار الدنيا لمن تزوّد منها لآخرته ـ الحديث ـ وإسناده ضعيف». وورد الحديث الذي ذكره العراقي في مستدرك الحاكم أيضا : كتاب الرقاق ، 4 / 312.

    فلا كبيرة في المعاصي فوق الكفر ، كما لا فضيلة فوق الإيمان ـ على مراتبه في قوّة المعرفة وضعفها ـ لأنّ الحجاب بين العبد وبين الله هو الجهل ؛
    ويتلو الجهل بحقائق الإيمان ـ أعني الكفر ـ الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ، فانّ هذا باب من الجهل بالله ـ بل عينه ـ فمن عرف الله لم يتصوّر أن يكون آمنا من مكره ، ولا يكون آيسا من رحمته ؛
    ويتلو هذه الرتبة البدع ـ كلّها ـ المتعلّقة بذات الله وصفاته وأفعاله ـ وبعضها أشدّ من بعض ـ.
    المرتبة الثانية : قتل النفوس ، إذ ببقائها تدوم الحياة وبدوامها تحصل المعرفة والإيمان بالله وآياته ؛ فهو لا محالة من الكبائر ـ وإن كان دون الكفر ـ لانّه يصدم عن المقصود ، وهذا يصدم عن وسيلته ؛
    ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف ، وكلّ ما يفضي إلى الهلاك ـ حتّى الضرب ـ وبعضها أكبر من بعض ؛
    ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواطة ، لأنّه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور لانقطع النسل ، ودفع الوجود قريب من رفعه ؛ وأمّا الزنا فإنّه وإن لم يفوّت أصل الوجود ، ولكن يشوّش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وما يتعلّق بهما ، من عدم انتظام العيش ، وتحريك أسباب تكاد تفضي إلى التقاتل.
    المرتبة الثالثة : تلف الأموال لأنّها معايش الخلق ، فلا بدّ

    من حفظها ؛ إلّا أنّه إذا اخذت أمكن استردادها ، وإن اكلت أمكن تغريمها ؛ فليس يعظّم الأمر فيها ؛ نعم إذا اخذ بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر ، وذلك بطرق خفيّة ـ كالسرقة ، وأكل الولي مال اليتيم وتفويته بشهادة الزور وباليمين الغموس ـ فإنّ في هذه الطرق لا يمكن الاسترداد والتدارك ، ولا يجوز أن يختلف الشرائع في تحريمها أصلا ؛ وبعضها أشدّ من بعض ، وكلّها دون الرتبة الثانية المتعلّقة بالنفوس.
    وأمّا أكل الربا : فلا يبعد أن يختلف فيه الشرائع ، إذ ليس فيه إلّا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشارع ، إلّا أنّ الشارع عظّم الزجر عنه وعدّه من الكبائر لمصلحة يراها ، وإن لم يجعل الغصب ـ الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع ـ منها ؛
    والله أعلم.
    * * *

    فصل [9]
    وليعلم أنّ الغرض الأصلي من إرسال الرسل ووضع الشرائع إنّما هو استخدام الغيب للشهادة ، وسياقة الخلق إلى الله ، وخدمة الشهوات للعقول ، وإرجاع الدنيا إلى الآخرة ، والحثّ على هذه الامور والزجر على عكسها ، لكي ينجو الخلائق من عذاب الآخرة والوبال ، ووخامة العاقبة وسوء المآل ، ويفوزوا بالسعادة القصوى على قدر استعداداتهم ؛ وإلّا فيكفي الإنسان ـ في أن يعيش ـ نوع من السياسة يحفظ اجتماعهم الضروري ، وإن كان ذلك منوطا بتغلّب أو ما يجري مجراه ـ كما ترى من تعيّش سكّان أطراف العمارة بالسياسات الضروريّة ـ
    فالسياسة الدنيويّة بالنسبة إلى النبي إنّما هو بالعرض ـ لا بالذات ـ مع أنّه لا شيء منها إلّا وفيه حكمة اخرويّة ، إذا باشرها النبىّ أو نائبه ؛ فإنّك إذا تدبّرت في الأحكام الشرعيّة لم تجد شيئا منها خاليا عن تقوية الجنبة العالية ـ وإن كان ممّا يتعلّق بامور الدنيا ـ.
    قال بعض الحكماء : «إذا قام العدل خدمت الشهوات للعقول ، وإذا قام الجور خدمت العقول للشهوات» ؛ فطلب الآخرة أصل كلّ سعادة ، وحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. وليلاحظ العاقل اللبيب هذا الأصل في حكمة كلّ ما امر به او نهي عنه في الشريعة.
    قيل (1) : نسبة النبوّة إلى الشريعة كنسبة الروح إلى الجسد الذي فيه الروح ؛ والسياسة المجرّدة عن الشرع كجسد لا روح فيه.
    __________________
    (1) ـ الشواهد الربوبية : المشهد الخامس ، الشاهد الثاني ، الإشراق الرابع : 364.

    [2]
    باب
    صفات النبي واصول المعجزات
    (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [40 / 15]
    فصل [1]
    النبيّ من اطّلعه الله من صفوة خلقه على ما يشاء من أحكام وحيه وأسرار غيبه وأمره ، تارة بالمشافهة ، وتارة بواسطة ملك ، وتارة بإلقاء ذلك في قلبه.
    قال بعض المحقّقين (1) :
    «ومن صفاته أن يكون صافي النفس في قوّتها النظريّة ، صفاء تكون شديدة الشبه بالروح الأعظم ، فيتّصل به متى أراد من غير كثير تعمّل وتفكّر ؛ حتّى يفيض عليه العلوم اللدنيّة من غير توسّط تعليم بشري ، بل يكاد زيت عقله يضيء
    __________________
    (1) ـ راجع الشواهد الربوبيّة : المشهد الخامس ، الشاهد الأول ، الإشراق الثالث والرابع : 341 ـ 345.

    ولو لم تمسسه نار التعليم البشري ، بمقدحة الفكر وزند البحث والتكرار. فإنّ النفوس متفاوتة في درجات الحدس والاتّصال بعالم النور. فمن محتاج إلى التعلّم في جلّ المقاصد ـ بل كلّها ـ ومن غبيّ لا يفلح في فكره ولا يؤثر فيه التعليم أيضا ، حتّى خوطب النبيّ الهادي في حقّه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [28 / 56] ولا تسمع (مَنْ فِي الْقُبُورِ) [35 / 22] و (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) [27 / 80 و 30 / 52].
    وذلك لعدم وصولهم بعد إلى درجة استعداد الحياة العقليّة ؛ فلم يكن لهم سمع باطنيّ يسمع به الكلام المعنوي والحديث الربّانيّ : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها]) (1) وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [7 / 179].
    ومن شديد الحدس كثيره ـ كيفا وكمّا ـ سريع الاتّصال بعالم الملكوت ، يدرك بحدسه أكثر المعلومات في زمان قليل إدراكا شريفا نوريّا سمّيت نفسا قدسيّة ، ينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في زمان قصير من غير تعلّم ، فيدرك امورا يقصر عن دركها غيره من الناس إلّا بتعب الفكر والرياضة في مدّة كثيرة ، فيقال له «نبيّ» ، أو «وليّ» ، وأنّ ذلك منه أعلى ضروب المعجزة والكرامة ، وهو من الممكنات الأقليّة ، وبينهما مراتب ودرجات.
    وأن يكون قوّته المتخيّلة قويّة ، بحيث يشاهد في اليقظة
    __________________
    (1) ـ إضافة من القرآن الكريم.

    عالم الغيب ، وتتمثّل له الصور المثاليّة الغيبيّة ، ويسمع الأصوات الملكوتيّة ، ويتلقّى المغيّبات والأخبار الجزئيّة من الملكوت ، فيطّلع على الحوادث الماضية والآتية.
    وأن يكون قوّته الحسّاسة والمحرّكة في القوّة بحيث تؤثّر في مادّة العالم بإزالة صورة وإلباس اخرى ؛ فيحيل الهواء إلى الغيم بإذن الله ، ويحدث الأمطار والزلازل لاستهلاكه أمّة فجرت وعتت عن أمر ربّها ورسله ، ويسمع دعاؤها في الملك والملكوت لعزيمة قوّتة ، فيستشفي المرضى ، ويستسقي العطشى ، ويخضع له الحيوانات.
    فإنّ الأمزجة يجوز أن تتأثّر عن الأوهام بإذن الله ـ إمّا عن أوهام عاميّة ، أو عن أوهام شديدة التأثير في بدء الفطرة أو بالتعويد والاكتساب ـ فلا عجب من أن يكون لبعض النفوس قوّة كماليّة مؤيّدة من عند الله ـ عزوجل ـ تؤثّر في غير بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة العالم طاعة البدن للنفس ؛ فتؤثّر في إصلاحها وإهلاك ما يفسدها أو يضرّها ؛ كلّ ذلك لمزيد قوّة شوقيّة واهتزاز علوىّ يوجب شفقة على خلق الله ، شفقة الوالد لولده.
    وكيف لا يجوز ذلك ، وقد جاز في جانب الشرّ من النفوس الشريرة الدنيّة كالعين ؛ فجوازه في جانب الخير من النفوس العظيمة الشديدة البطش ـ المستحقّة لمسجوديّة الملائكة وتعليمهم الأسماء ـ أرجح وأولى.
    والجمهور يعظّمون هذه الخاصيّة أكثر من الأوّلين ، لغلبة

    الجسمانيّة عليهم ، ثمّ يعظّمون أمر الإخبار عن الحوادث الجزئيّة أكثر من الاطلاع على المعارف الحقيقيّة.
    وأمّا اولى الألباب : فافضل أجزاء النبوّة عندهم هو الضرب الأوّل ، ثمّ الثاني ، ثمّ الثالث ؛ ومجموع الامور الثلاثة على الوجه المذكور يختصّ بالأنبياء عليهم‌السلام ، وكل جزء منها ربّما يوجد في غيرهم.
    والأوّل لا يكون إلّا خيرا وفضيلة ، وهو قد يوجد في الأولياء على وجه التابعيّة لهم ، وكلّ من الآخرين ينقسم إلى الخير والشرّ ، فإنّ ضربا من الإخبار ببعض المغيّبات الجزئية من الحوادث ربّما يوجد في أهل الكهانة والمستنطقين ، وكذا قوّة التأثير للنفس ، المتعدّي من النفوس الشريرة.
    فصل [2]
    [خوارق العادات والمعجزات]
    قيل : الفرق بين النبيّ والمتنبّي ، والمحقّ والمبطل ـ إذا صدر منهما الخوارق ـ أنّ صدورها عن الأنبياء والأولياء إنّما هو لاتّصالهم التامّ بالملإ الأعلى ، بل بالمبدإ ـ تعالى شأنه ـ وهذا الارتباط التامّ لا يحصل إلّا بعد أن كانت النفس منسلخة عن الرذائل ، منطبعة على الفضائل.
    فمن تحقّقته على أنّه مرن على الصدق والصفا ، والوفاء بالعهد والاجتهاد في العبادة ، والورع عن المحارم ، وغوث الملهوف ونصرة المظلوم ، وإجابة المضطرّ ، وحبّ المساكين ـ إلى غير ذلك من صفات

    الملائكة المقرّبين ـ ثمّ ظهر منه خارق عادة : تحقّقت أنّه صدر منه ذلك لقربه من الله وملائكته.
    ومن عرفته على ضدّ تلك الصفات ، عرفت أنّ صدور الخوارق منه لقربه من الشيطان وأوليائه.
    ومن هنا يظهر فرق آخر ، وهو أنّ ما يصدر من غير المؤمن ـ من خوارق العادات ـ لا يتجاوز عن مقدورات الشياطين ، بخلاف المؤمن.
    فصل [3]
    [الطرق المختلفة للهداية]
    قال بعض العلماء ما حاصله (1) :
    إنّ أشرف معجزات الأنبياء وأفضلها العلم والحكمة ـ وهما للخواصّ ـ وخوارق العادات ـ للعوام البله ـ وأمّا أهل الشعب والعناد منهم فلا ينفعهم إلّا السيف.
    وإلى الثلاثة أشار الله ـ سبحانه ـ بقوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [57 / 25].
    فأسرار الكتاب والميزان ـ وهو البرهان العقلي بأقسامه ـ للخواصّ الذين لهم قريحة نافذة وفطنة قويّة ، وقد خلى
    __________________
    (1) ـ راجع رسالة القسطاس المستقيم للغزالي (رسائل الغزالي 3) : 48 ـ 54. ولعله مقتبس من كتاب آخر لم أعثر عليه.

    باطنهم عن تقليد وتعصّب لمذهب موروث ومسموع ، فإنّهم يؤمنون للنبيّ بميزان العلم والمعرفة والحكمة على قرب ، ولا يحتاجون إلى خوارق العادات.
    وأمّا الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق ، أو كان لهم ذلك ولكن ليست لهم داعية الطلب ، بل شغلهم الصناعات والحرف ، وليس فيهم ـ أيضا ـ داعية الجدل وتحذلق المتكايسين في الخوض في العلم ، مع قصور فهمهم عنه : فإنّهم يعالجون بالموعظة وإظهار المعجزات ، ثمّ يحالون على ظواهر الكتاب ، ليس لهم التجاوز عنها إلى أسراره.
    والحديد لأهل الجدل والشغب ، الذين يتّبعون (ما تَشابَهَ) من الكتاب مع عدم أهليّتهم له (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [3 / 7] فإنّهم يتلطّف بهم أوّلا ويجادل معهم بالتي هي أحسن ، بأخذ الاصول المسلّمة عندهم واستنتاج الحقّ منها بالميزان والقسط ، فإن لم ينفعهن ف (الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [57 / 25]. وإلى الثلاثة ـ أيضا ـ الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [16 / 125].
    أقول : قد عامل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس بما امر به ، وبما يليق بحالهم ؛ فقوم أخذهم بالرفق واللين ، لصفاء قلوبهم ورقّة أفئدتهم ، فانقادوا له عاجلا ، ودخلوا في شرعه سريعا ؛ والفريق الآخر أخذهم بالسنان والحسام ، والشدّة والقتال ، حتّى أدخلهم في دينه قهرا وقادهم إليه

    قسرا ، ثمّ تألّفهم بإحسانه ، واستمالهم بموعظة لسانه ، حتّى طابت له نفوسهم ، وانشرحت صدورهم ؛ وذلك معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) : «عجب ربّك من قوم يدخلون الجنّة في السلاسل» ، أي يدخلون في الإسلام الذي هو سبب دخولهم الجنّة ـ
    فجزاه الله عنّا خير الجزاء بما بلّغ عن ربّه وصدع بأمره.
    فصل [4]
    [اتصال النبي بالحق والخلق]
    قال بعض المحقّقين (2) :
    ومن صفات النبيّ أن يكون جالسا في الحدّ المشترك بين عالم المعقول وعالم المحسوس ؛ فهو تارة مع الحق بالحبّ له ، وتارة مع الخلق بالرحمة عليهم والشفقة لهم ؛ فاذا عاد إلى الخلق كان كواحد منهم ، كأنّه لا يعرف الله وملكوته ، وإذا خلا بربّه مشتغلا بذكره وخدمته فكأنّه لا يعرف الخلق ؛ يأخذ من الله ويتعلّم من لدنه ، ويعطي لعباده ويعلّمهم ويهديهم (3) ؛ فيسأل ويجاب ، ويسأل ويجيب ؛ ناظما للطرفين ، واسطة بين العالمين ؛ سمعا من جانب ، ولسانا إلى جانب.
    __________________
    (1) ـ البخاري : فضل الجهاد ، باب الأسارى في السلاسل ، 4 / 73 (بلفظ : عجب الله).
    أبو داود : كتاب الجهاد ، باب في الأسير يوثق ، 3 / 56 ، ح 2677 ، (بلفظ : عجب ربنا) وكذا في المسند : 2 / 302 و 406 و 448. ويقرب منه 2 / 457 و 5 / 256.
    (2) ـ راجع الشواهد الربوبية : المشهد الخامس ، الشاهد الأول ، الإشراق التاسع ، 355.
    (3) ـ في النسخة : يهدي لهم (التصحيح قياسي).

    فلقلبه بابان مفتوحان : أحدهما ـ وهو الباب الداخلاني ـ إلى مطالعة اللوح والذكر الحكيم ، فيعلّمه علما يقينيّا لدنيّا ، من عجائب ما كان أو سيكون ، وأحوال العالم ـ ما مضى وما سيقع ـ وأحوال القيامة والحشر والحساب ، ومآل الخلق إلى الجنّة أو النار ؛ وإنّما ينفتح هذا الباب لمن توجّه إلى عالم الغيب ، وأفرد ذكر الله على الدوام.
    والثاني : إلى مطالعة ما في الحواسّ ليطّلع على سوانح مهمّات الخلق ويهديهم إلى الخير ، ويردعهم عن الشرّ ؛ فيكون قد استكملت ذاته في كلتي القوّتين ، آخذا بحظّ وافر من نصيب الوجود والكمال من الله سبحانه بحيث يسع الجانبين ، ويوفي حقّ الطرفين ؛ وهذا أكمل مراتب الإنسانيّة (1).
    فصل [5]
    [صفات النبي]
    ومن لوازم الخصائص المذكورة اثنتا عشرة صفة مفطورة له ، عدّدها بعض المحقّقين (2) وهي :
    [1] أن يكون جيّد الفهم لكلّ ما يسمعه ويقال له على ما يقصده القائل ، وعلى ما هو الأمر عليه ـ
    __________________
    (1) ـ النسخة : المراتب الإنسانية (التصحيح قياسي).
    (2) ـ الشواهد الربوبية : المشهد الخامس ، الشاهد الأول ، الإشراق العاشر : 357.
    راجع أيضا آراء أهل المدينة الفاضلة : الفصل الثامن والعشرون : 127.

    وكيف لا؟ وهو في غاية إشراق العقل ونوريّة النفس.
    [2] وأن يكون حفوظا لما يفهمه ويحسّه ، لا يكاد ينساه ـ وكيف لا؟ ونفسه متّصلة باللوح المحفوظ.
    [3] وأن يكون صحيح الفطرة والطبيعة ، معتدل المزاج ، تامّ الخلقة ، قويّ الآلات على الأعمال التي من شأنه أن يفعلها ـ كالمناظرة في العلوم مع أهل الجدال ، والمباشرة في الحروب مع الأبطال ـ لإعلاء كلمة الله ، وهدم كلمة الكفر ، وطرد أولياء الطاغوت ، ليكون (الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [8 / 39] (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [9 / 33] ؛ وكيف لا؟ والكمال الأوفى إنّما يفيض على المزاج الأتمّ.
    [4] وأن يكون حسن العبارة ، يؤاتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره ـ إبانة تامّة ـ وكيف لا؟ وشأنه التعليم والإرشاد والهداية إلى طريق الخير للعباد.
    [5] وأن يكون محبّا للعلم والحكمة ، لا يؤلمه التأمّل في المعقولات ، ولا يؤذيه الكدّ الذي يناله منها ؛ وكيف لا؟ والملائم للشيء ملذّ إدراكه ، لأنّه يتقوّى به.
    [6] وأن يكون بالطبع غير شره على الشهوات ، متجنّبا بالطبع عن اللعب ، ومبغضا للّذات النفسانيّة ؛ وكيف لا؟ وهي حجاب عن عالم النور ، ووصلة بعالم الغرور ، فيكون ممقوتا عند أهل الله ومجاوري عالم القدس.
    [7] وأن يكون كبير النفس محبّا للكرامة ، تكبر نفسه عن

    كلّ ما يشين ويضع من الامور ، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، ويختار من كلّ شيء عقيلته ، ويجتنب عن سفساف الامور ، ويكره خداجها وسقطها ؛ اللهمّ إلّا لرياضة النفس والاكتفاء بأيسر امور هذه الدار وأخفّها ، وذلك لأنّ فى الأشرف مزيد قرب من العناية الاولى.
    [8] وأن يكون رءوفا عطوفا على خلق الله أجمع لا يعتريه الغضب عند مشاهدة المنكر ، ولا يعطّل حدود الله من غير أن يهمّه التجسّس ؛ وكيف لا؟ وهو شاهد بسرّ الله في لوازم القدر.
    [9] وأن يكون شجاع القلب غير خائف من الموت ؛ وكيف لا؟ والآخرة خير له من الاولى ، فيكون قويّ العزيمة على ما يرى ينبغي أن يفعل ، جسورا مقداما عليه ـ لا ضعيف النفس.
    [10] وأن يكون جوادا ، لأنّه عارف بأنّ خزائن رحمة الله لا تبيد ولا تنقص.
    [11] وأن يكون أهشّ خلق الله إذا خلا بربّه ، لأنّه عارف بالحقّ وهو أجلّ الموجودات بهجة وبهاء.
    [12] وأن يكون غير جموح ولا لجوج ، سلس القياد إذا دعي إلى العدل ، صعب القياد إذا دعي إلى الجور والقبيح.
    والمفطور على هذه الصفات لا يكون إلّا الآحاد كما قيل :

    «جلّ جناب الحقّ أن يكون شريعة لكلّ وارد أو يطّلع عليه إلّا واحد بعد واحد»(1).
    فصل [6]
    [نزاهة النبي وعصمته]
    ويجب أن يكون منزّها عن كلّ ما يدنّسه ويشينه ـ من الغلظة ، والفظاظة ، والحسد ، والبخل ، ودناءة الآباء ، وعهر الامّهات ، والانوثة ، والخنوثة ، وما شابه ذلك.
    وأن يكون معصوما من الذنوب ، محفوظا عن الكبائر والصغائر ـ عمدا وسهوا.
    كلّ ذلك لئلّا تتنفّر عنه الطباع ، بل تطيعه طوعا ورغبة.
    * * *
    وروى الشيخ الفقيه محمد بن عليّ بن بابويه القمّي ـ رحمه‌الله ـ في كتاب معاني الأخبار(2) ، بإسناده عن محمد بن أبي عمير قال : ما سمعت وما استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام. فإني سألت يوما عن الإمام : «أهو معصوم»؟
    __________________
    (1) ـ ابن سينا في الإشارات والتنبيهات : النمط التاسع : 3 / 394.
    (2) ـ معاني الأخبار : باب معنى عصمة الإمام ، 133 ، ح 3. ورواه أيضا في الخصال : باب الأربعة ، 1 / 215 ، ح 36. والأمالي : المجلس الثاني والتسعون ، 731 ، ح 5.
    والعلل : 204 ، باب (155) العلة التي من أجلها يكون الإمام معروف القبيلة ... ، ح 2.

    فقال : «نعم».
    قلت : «فما صفة العصمة فيه ، وبأيّ شيء يعرف»؟
    فقال : «إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه ـ ولا خامس لها ـ : الحرص والحسد والغضب والشهوة ؛ فهذه منفيّة عنه :
    لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا ؛ وهي تحت خاتمه ، لأنّه خازن المسلمين ـ فعلى ما ذا يحرص؟
    ولا يجوز أن يكون حسودا ، لأنّ الإنسان إنّما يحسد من فوقه ـ وليس فوقه أحد ـ فكيف يحسد من هو دونه؟
    ولا يجوز أن يغضب لشيء من امور الدنيا ، إلّا بأن يكون غضبه لله تعالى ؛ فإنّ الله عزوجل قد فرض عليه إقامة الحدود ، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في دينه ، حتّى يقيم حدود الله ـ عزوجل ـ.
    ولا يجوز أن يتّبع الشهوات ، ويؤثر الدنيا على الآخرة ، لأنّ الله ـ عزوجل ـ حبّب إليه الآخرة ـ كما حبّب إليه الدنيا ـ فهو ينظر إلى الآخرة كما ينظر إلى الدنيا ؛ فهل رأيت أحدا يؤخّر وجها حسنا لوجه قبيح؟ وطعاما طيّبا لطعام مرّ؟ وثوبا ليّنا لثوب خشن؟ ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟».
    وهذا الكلام وإن ورد في عصمة الإمام ، ولكنّه يجري في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق أولى لأنّه أخصّ.

    وقال في الإشارات (1) : «العارف شجاع ، وكيف لا؟ وهو بمعزل عن تقيّة الموت ؛
    وجواد ، وكيف لا؟ وهو بمعزل عن محبّة الباطل ؛
    وصفاح ، وكيف لا؟ ونفسه أكبر من أن يخرجها زلّة بشر.
    ونسّاء للأحقاد ، وكيف لا؟ وذكره مشغول بالحقّ».
    وكلّ ما ورد في القرآن والأخبار من نسبة الذنوب إلى الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام فهو مأوّل ، وله محمل آخر غير ظاهره ، كما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام في نصوص مستفيضة ، وأنّهم عليهم‌السلام لمّا كانوا مستغرقين في طاعة الله ـ عزوجل ـ فإذا اشتغلوا أحيانا عن ذلك ببعض المباحات ـ زيادة على الضرورة ـ عدّ ذلك ذنبا في حقّهم عليهم‌السلام ـ هكذا ينبغي أن يعتقد في المصطفين الأخيار ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ.
    * * *
    __________________
    (1) ـ الإشارات والتنبيهات : النمط التاسع : 3 / 393.

    [3]
    باب
    صفة نزول الوحي
    والفرق بينه وبين الإلهام
    (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [42 / 51]
    فصل [1]
    [طرق تحصيل العلوم وموانعه] (1)
    قد أشرنا فيما سلف (2) إلى أنّ حقائق الأشياء كلّها مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقرّبين ، ومن هنالك يخرج إلى الوجود ، وقد نبّه القرآن على ذلك في غير موضع ؛ فالعلوم الحقّة كلها إنّما تفيض على قلوبنا من ذلك العالم بواسطة القلم العقلي الكاتب في ألواح نفوسنا.
    __________________
    (1) ـ هذا الفصل مقتبس من إحياء علوم الدين ، كتاب شرح عجائب القلب ، بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة : 3 / 23 وما بعدها. وقد أورده المؤلف ـ قدس‌سره ـ في الوافي أيضا بألفاظه : 2 / 76.
    (2) ـ راجع الفصل الخامس والسابع من الباب السابع من المقصد الأول.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    علم اليقين في اصول الدين ج1 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: علم اليقين في اصول الدين ج1   علم اليقين في اصول الدين ج1 Emptyالأربعاء أكتوبر 30, 2024 4:51 pm

    كما قال عزوجل : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [58 / 22] ، وقال سبحانه: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [96 / 4 ـ 5].
    وقلب الإنسان صالح لأن ينتقش فيها العلوم كلّها ، وهو كمرآة مستعدّة لأن يتجلّى فيها حقيقة الحقّ في الامور كلّها من اللوح المحفوظ ، وإنّما خلا عمّا خلا عنه من العلوم :
    إمّا لنقصان في ذاته ، كقلب الصبيّ ـ وهو يشبه نقصان صورة المرآة ، كجوهر الحديد قبل أن يصقل ـ
    أو لكثرة المعاصي والخبث الذي تراكم عليه من كثرة الشهوات المانعة من صفائه وجلائه ـ وهذا يشبه خبث المرآة وصدأها ـ
    أو لعدوله عن جهة الحقيقة المطلوبة ، لاستيعاب همّه بتهيئة أسباب المعيشة ، أو تفصيل الأعمال والطاعات البدنيّة المانعة من التأمّل في الحضرة الربوبيّة ، والحقائق الخفيّة الإلهيّة ؛ فلا ينكشف له إلّا ما هو متفكّر فيه ـ وهذا يشبه كون المرآة معدولا بها عن جهة الصورة.
    أو لحجاب بينه وبين المطلوب من اعتقاد سبق إليه منذ الصبى على سبيل التقليد والقبول بحسن الظنّ ، فإنّ ذلك يحول بينه وبين حقائق الحقّ ، ويمنع أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد ـ وهذا يشبه الحجاب المرسل بين المرآة وبين الصورة المطلوبة رؤيتها.
    أو لجهل بالجهة التي يقع فيها العثور على المطلوب ، فإنّ طالب العلم ليس يمكنه أن يحصّل العلم المطلوب إلّا بالتذكّر للعلوم التي تناسب مطلوبه ، حتّى إذا ذكرها ورتّبها في نفسه ـ ترتيبا مخصوصا ـ حصل له المطلوب فإذا لم يكن عنده العلوم المناسبة لذلك لم يحصل له المطلوب ـ وهذا يشبه الجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة.

    فهذه هي الأسباب المانعة من إدراك الحقائق.
    (1) ثمّ إنّ العلوم التي ليست ضروريّة إنّما تحصل في القلب تارة بالاكتساب بطريق الاستدلال والتعلّم ـ ويسمّى «اعتبارا» و «استبصارا» ـ ويختصّ به العلماء والحكماء.
    وتارة بهجومه على القلب ، كأنّه القي فيه من حيث لا يدري ؛
    وهذا قد يكون مع عدم الاطلاع على السبب الذي منه استفيد ذلك العلم ، وهو مشاهدة الملك الملقي في القلب ـ ويسمّى «إلهاما» و «نفثا في الروع» ـ إن كان نكتا في القلب ـ و «حديث ملك» ، إن كان نقرا في السمع ـ ويختصّ بهما الأولياء والأئمّة ـ
    وقد يكون مع الاطلاع على ذلك ـ ويسمّى «وحيا» ـ ويختصّ به الأنبياء والرسل.
    وكما أنّ الحجاب بين المرآة والصورة يزال تارة بتعمّل اليد المتصرّفة ، وتارة بهبوب ريح تحرّكه ؛ فكذلك استفادة العلوم بالقلم الإلهي للإنسان ، قد تكون بقوّة فكرته المتصرّفة في تجريد الصور عن الغواشي ، والانتقال من بعضها إلى بعض ، وقد تهبّ رياح الألطاف الإلهيّة ، فتكشف الحجب والغواشي عن عين بصيرته ، فيتجلّى فيها بعض ما هو مثبت في اللوح الأعلى ، فيكون تارة عند المنام ، فيظهر به ما سيكون في المستقبل ؛ وتمام ارتفاع الحجاب يكون بالموت ـ وبه ينكشف الغطاء.
    __________________
    (1) ـ راجع احياء علوم الدين : كتاب شرح عجائب القلب : 3 / 31.

    وتارة ينقشع الحجاب بلطف خفيّ من الله ، فيلمع في القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب أسرار الملكوت في اليقظة ، فربّما يدوم ، وربّما يكون كالبرق الخاطف ـ ودوامه في غاية الندور ـ
    فلم يفارق الإلهام وحديث الملك الاكتساب في العلم ولا في محلّه ولا في سببه ، ولكن يفارقه في طريقة زوال الحجاب ، وجهته.
    ولم يفارق الوحي الإلهام والحديث في شيء من ذلك ، بل في شدّة الوضوح والنوريّة ومشاهدة الملك المفيد للعلم.
    والكلّ مشترك في أنّه بواسطة الملك الذي هو القلم ، كما قال ـ عزوجل ـ (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [96 / 4].
    ولعلّ الإشارة إلى هذه المراتب الثلاث في قوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [42 / 51].
    قال بعض العارفين (1) :
    «إذا كان الحقّ هو المكلّم عبده في سرّه بارتفاع الوسائط ، فإنّ الفهم يستصحب كلامه ، فيكون عين الكلام منه عين الفهم منك ، لا يتأخّر عنه ، فإن تأخّر عنه فليس هو كلام الله ، ومن لم يجد هذا فليس عنده علم بكلام الله عباده ، فإذا كلّمه بالحجاب الصوري بلسان نبيّ أو من شاء الله من العالم فقد يصحبه الفهم ، وقد يتأخّر».
    __________________
    (1) ـ ابن عربي : الفتوحات المكية ، الباب السادس والستون وثلاثمائة : 3 / 334.

    أقول : وهذا فرق آخر بين الاكتساب وبين الثلاثة ، ولعلّه أراد بارتفاع الوسائط ارتفاع الوسائط البشريّة خاصّة ، لتوقّف الثلاثة ـ أيضا ـ على توسّط الملك كما دريت.
    * * *
    قال بعض العلماء (1) في الفرق بين مقام الأنبياء والأولياء وبين مقام العلماء :
    «إنّا لو فرضنا حوضا محفورا في الأرض احتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار يفتّح إليه ، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقرّ الماء الصافي ، فينفجر الماء من أسفل الحوض ، ويكون ذلك أصفى وأدوم ، وقد يكون أغزر وأكثر.
    فكذلك القلب مثل الحوض ، والعلم مثل الماء ، والحواسّ الخمس مثل الأنهار ، ويمكن أن يساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواسّ والاعتبار بالمشاهدات ، حتّى يمتلئ علما ، ويمكن أن يسدّ عنه هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغضّ البصر ، ويعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه ، فينفجر ينبوع العلم من داخله.
    وحديث أهل الصين والروم في تصوير جانبي الصفّة المرخى بينهما سترا ـ بكدّ الروميّين وصبغهم بالأصباغ الغريبة ، وتجلية
    __________________
    (1) ـ مقتبس من إحياء علوم الدين : كتاب شرح عجائب القلب ، بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس : 3 / 33.

    أهل الصين وتصقيلهم من غير صبغ ـ مشهور ، وهو مثال حسن للفرق بين المقامين (1).
    وإلى الفرق بينهما ـ أيضا ـ أشار من قال (2) : «أخذتم علمكم ميّتا عن ميّت ، وأخذنا علمنا عن الحيّ الذي لا يموت».
    __________________
    (1) ـ جاء تفصيل الحكاية في الإحياء : 3 / 35 ـ 36 وفي الدفتر الأول من المثنوي المعنوي (الأبيات 3466 ـ 3488) :
    ور مثالى خواهى از علم نهان
    قصه گو از روميان وچينيان

    چينيان گفتند : «ما نقّاش تر»
    روميان گفتند : «ما را كرّ وفرّ»

    گفت سلطان : امتحان خواهم درين
    كز شماها كيست در دعوى گزين

    اهل چين وروم چون حاضر شدند
    روميان در علم واقف تر بدند

    چينيان گفتند : يك خانه به ما
    خاص بسپاريد ، ويك آنِ شما

    بود دو خانه مقابل ، در به در
    زان يكى چينى ستد ، رومى دگر

    چينيان صد رنگ از شه خواستند
    پس خزينه باز كرد آن ارجمند

    هر صباحى از خزينه رنگها
    چينيان را راتِبِه بود وعطا

    روميان گفتند : نه نقش ونه رنگ
    در خور آيد كار را جز دفع زنگ

    در فروبستند وصيقل مى زدند
    همچو گردون ساده وصافى شدند

    از دو صد رنگى ، به بى رنگى رهيست
    رنگ چون ابرست وبى رنگى مهيست

    هرچه اندر ابر ضَو بينىّ وتاب
    آن ز اختر دان وماه وآفتاب

    چينيان چون از عمل فارغ شدند
    از پى شادى دُهلها مى زدند

    شه درآمد ديد آنجا نقشها
    مى ربود آن عقل را وفهم را

    بعد از آن آمد به سوى روميان
    پرده را بالا كشيدند از ميان

    عكس آن تصوير وآن كردارها
    زد برين صافى شده ديوارها

    هرچه آنجا ديد اينجا به نمود
    ديده را از ديده خانه مى ربود

    (2) ـ نسب إلى أبي يزيد البسطامي : شطحات الصوفية : 77. راجع الفتوحات المكية : 1 / 31 ، مقدمة الكتاب. وجاء في قوت القلوب (الفصل الثلاثون : 1 / 121) وإحياء العلوم (كتاب شرح عجائب القلب ، 3 / 39) : «وقد كان أبو يزيد وغيره يقولون : ليس العالم الذي يحفظ من كتاب الله ، فإذا نسي ما حفظ صار جاهلا ، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه عزوجل أي وقت شاء بلا تحفظ ولا درس».

    فصل [2]
    [الوحي وكيفية أخذه]
    قيل (1) :
    «السرّ في اطّلاع النبيّ على الملك الموحي دون غيره أنّه لمّا صقل روحه بصقالة العقل للعبوديّة التامّة ، وزالت عنه غشاوة الطبيعة ورين المعصية بالكلّيّة وكانت قدسيّة شديدة القوى ، قويّة الإنارة لما تحتها ، لم يشغلها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فيضبط الطرفين ويسع الجانبين ، ولا يستغرقها حسّها الباطن عن حسّها الظاهر ؛ فإذا توجّهت إلى الافق الأعلى ، وتلقّت أنوار المعلومات بلا تعليم بشريّ من الله ، يتعدّى تأثيرها إلى قواها ، وتتمثّل صورة ما يشاهده لروحها البشري ، ومنها إلى ظاهر الكون ، فتمثّل للحواسّ الظاهرة سيّما السمع والبصر ـ لكونهما أشرف الحواسّ الظاهرة وألطفها ـ فيرى شخصا محسوسا ، ويسمع كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة ، أو صحيفة مكتوبة.
    فالشخص هو الملك النازل الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله ، والكتاب كتابه ، وقد نزل كلّ منها من عالم الأمر القول القضائي ، وذاته الحقيقيّة ، وصورته الأصليّة،
    __________________
    (1) ـ راجع مفاتيح الغيب : 34 ، الفاتحة الثامنة من المفتاح الأول. الأسفار الأربعة : 7 / 25.
    وقد أورده المؤلف ـ قدس‌سره ـ في الوافي (2 / 78) أيضا بألفاظه.

    إلى عالم الخلق الكتابي القدري في أحسن صورة وأجمل كسوة ؛ كتمثّل جبرئيل عليه‌السلام لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله في صورة دحية بن خليفة الكلبي الذي كان أجمل أهل زمانه (1).
    وما رآه في صورته الحقيقيّة إلّا مرّتين (2) : وذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سأله أن يريه نفسه على صورته ، فواعده ذلك بحراء ، فطلع له جبرئيل عليه‌السلام ، فسدّ الافق من المشرق إلى المغرب.
    وفي رواية كان له ستّمائة جناح.
    ورآه مرّة اخرى على صورته ليلة المعراج عند سدرة المنتهى.
    ـ انتهى ـ.
    * * *
    __________________
    (1) ـ دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي القضاعي صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسوله بكتابه إلى عظيم بصرى ليوصله إلى هرقل. راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء : 2 / 550. طبقات ابن سعد : 4 / 249. معجم الطبرانى : 4 / 224. اسد الغابة : 2 / 6 الترجمة 1507. وغيرها من الكتب. وورد تمثّل جبرئيل عليه‌السلام بصورته في عدة روايات ، راجع مصادر الترجمة وأيضا : الكافي : كتاب الدعاء ، باب دعوات موجزات لجميع الحوائج ، 2 / 587 ، ح 25. أمالي الطوسي : المجلس السابع والعشرون ، ح 7 ، 604. اليقين : الباب الخامس عشر : 18. البحار : 18 / 267 ، ح 29. 20 / 210 و 223. 22 / 400 ، ح 9. 28 / 90 ، ح 3. 37 / 295 ،. 37 / 307. المسند : 2 / 107.
    (2) ـ راجع مسلم : كتاب الإيمان ، باب معنى قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ ...) ، 1 / 159 ، ح 287. البخاري : بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين ... ، 4 / 140. دلائل النبوة : باب الدليل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عرج به إلى السماء : 2 / 370.

    وفي الخبر (1) : «إنّ بين عيني إسرافيل لوح ، فإذا أراد الله أن يتكلّم بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر فيه ، فيقرأ ما فيه ، فيلقيه إلى ميكائيل ، ويلقيه ميكائيل إلى جبرئيل ، ويلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهم‌السلام».
    وربّما يعاشر النبيّ الملائكة ويسمع صريف أقلامهم ؛ كما حكاه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) أنّه بلغ ليلة المعراج إلى مقام كان يسمع صريف أقلام الملائكة.
    وربّما يخاطبه الله ـ عزوجل ـ بلا حجاب ، كما وقع له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة ، فسمع كلام الله ـ سبحانه ـ من دون واسطة ؛ وكما وقع للكليم عليه‌السلام.
    * * *
    ولضبطه الجانبين واستعماله المشاعر الحسيّة وتشييعها في سبيل معرفة الله وطاعة الحق وانجذاب قوّة الحسّ الظاهر إلى فوق : ربّما يقع لحواسّه الظاهرة شبه دهش ونوم ؛ ولنفسه شبه الغشي ، ثمّ يرى ويسمع ، وبذلك يقع الإنباء.
    روى في التوحيد (3) بإسناده عن زرارة : أنّه سئل مولانا الصادق
    __________________
    (1) ـ مضى ما يقرب منه في الصفحة 433. راجع أيضا الاعتقادات للصدوق : باب الاعتقاد في الوحي. تفسير القمي : الآية : البروج / 21 ، 2 / 443. راجع أيضا ما جاء في معاني الأخبار : باب معنى الحروف المقطعة ، 23 ، ح 1.
    البحار : 18 / 248 ، ح 1. 18 / 258 ، ح 10. 57 / 368 ، ح 5.
    (2) ـ البخاري : كتب الصلاة ، الحديث الأول ، 1 / 98 : «... ثمّ عرج بي حتّى ظهرت لمستوىّ أسمع فيه صريف الأقلام ...».
    (3) ـ التوحيد : باب ما جاء في الرؤية ، 115 ، ح 15. عنه البحار : 18 / 256 ، ح 6.

    عليه‌السلام عن الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه الوحي؟ ـ قال : ـ
    فقال : «ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلّى الله له».
    ـ قال : ـ ثمّ قال : «تلك النبوّة ـ يا زرارة» ـ وأقبل يتخشّع ـ.
    وفي رواية اخرى رواها في إكمال الدين (1) بإسناده عنه عليه‌السلام : أنّه سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أكانت تكون عند هبوط جبرئيل عليه‌السلام»؟
    فقال : «لا ، إنّ جبرئيل كان إذا أتى النبيّ عليه‌السلام لم يدخل عليه حتّى يستأذنه ، فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد ـ وإنّما ذلك عند مخاطبة الله ـ عزوجل ـ إيّاه بغير ترجمان وواسطة».
    وروي (2) أنّه سأل الحارث بن هشام (3) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كيف يأتيك الوحي»؟
    __________________
    (1) ـ كمال الدين : مقدمة المصنف : 85. عنه البحار : 18 / 260 ، ح 12.
    (2) ـ البخاري : بدء الوحي ، 1 / 2 ـ 3. مسلم ، بلفظ يقرب منه : كتاب الفضائل ، باب عرق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في البرد وحين يأتيه الوحي ، 4 / 1816 ، ح 87. اسد الغابة : ترجمة الحارث بن هشام : 1 / 420 ـ 421 ، الترجمة 979.
    (3) ـ حارث بن هشام بن المغيرة المخزومي ، أخو أبي جهل. قال ابن سعد (الطبقات : 5 / 444) : «أسلم الحارث بن هشام يوم الفتح ، فلم يزل مقيما بمكة ، حتّى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...». وفي اسد الغابة (1 / 421) : «خرج إلى الشام مجاهدا أيام عمر بن الخطاب بأهله وماله ، فلم يزل يجاهد حتّى استشهد يوم اليرموك ، في رجب من سنة خمس عشرة. وقيل بل مات في طاعون عمواس سنة سبع عشرة ؛ وقيل سنة خمس عشرة». راجع سير أعلام النبلاء : 4 / 419. المستدرك للحاكم : 3 / 277. تهذيب التهذيب : 1 / 420. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال : 69.

    فقال : «أحيانا مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشدّه عليّ ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال ـ وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا ، فيكلّمني فأعي ما يقول».
    قيل : إنّما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس ـ وهو وقع بعض الحديد على بعض ، شبّه شدّة صوت الملك وقوّته بذلك ـ فيشتغل بالوحي عن امور الدنيا ؛ والمعنى أنّ الوحي كان إذا ورد عليه يتغشّاه كرب ـ وذلك لثقل ما يلقى إليه ـ قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [73 / 5] (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) [59 / 21].
    وقد اوحي إليه مرّة وهو على فخذ بعض الصحابة ؛ قال (1) : «فثقل عليّ فخذي نبيّ الله حتّى خشيت أن يرضّ فخذي». ولذلك كان يعتريه مثل حال المهموم ، كان جبينه يتفصّد عرقا ، وذلك لبيان صبره ولحسن تأدّبه ، فيرتاض لاحتمال ما كلّفه من أعباء الرسالة.
    قيل : نزل جبرئيل على عليه‌السلام آدم اثنتي عشرة مرّة ، وعلى إدريس أربع مرّات ، وعلى نوح خمسين مرّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرّة ـ مرّتين في صغره وأربعين في كبره ـ وعلى موسى أربعمائة مرّة ، وعلى عيسى عشر مرّات ـ ثلاث مرّات في صغره وسبع مرّات في كبره ـ وعلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعا وعشرين ألف مرّة ـ صلوات الله عليهم ـ
    __________________
    (1) ـ أخرج البخاري (كتاب الصلاة ، باب ما يذكر في الفخذ ، 1 / 103) عن زيد بن ثابت ، قال : «أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفخذه على فخذي ، فثقلت عليّ حتّى خشيت أن يرضّ فخذي». وأورده بلفظ ما يقرب منه فى كتاب التفسير ، سورة آل عمران ، 6 / 60. وكذا في الترمذي : كتاب التفسير ، سورة النساء ، ح 3033 ، 5 / 242.

    [4]
    باب
    الفرق بين الرسول والنبيّ
    والإمام والوليّ
    (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) وفي قراءة أهل البيت : «ولا محدّث» ـ الآية [22 / 52]
    فصل [1]
    النبيّ : من اوحي إليه بالعمل.
    والرسول : من اوحي إليه بالعمل والتبليغ.
    والوليّ : من حدّثه الملك ، أو الهم إلهاما بالعمل.
    والإمام : من حدّثه الملك بالعمل والتبليغ.
    فكلّ رسول نبيّ ولا عكس ، وكلّ رسول أو نبيّ أو إمام فهو وليّ ومحدّث ولا عكس ، وكلّ رسول إمام ولا عكس.
    ولا نبيّ إلّا وولايته أقدم على نبوّته ، ولا رسول إلّا ونبوّته أقدم على رسالته ، ولا إمام إلّا وولايته أقدم على إمامته.

    والولاية باطن النبوّة والإمامة ، والنبوّة باطن الرسالة ؛ وباطن كلّ شيء أشرف وأعظم من ظاهره ، لأنّ الظاهر محتاج إلى الباطن ، والباطن مستغن عن الظاهر ؛ ولأنّ الباطن أقرب إلى الحقّ ، فكلّ مرتبة من المراتب المذكورة أعظم من لاحقته وأشرف.
    وأيضا فإنّ كلّا من النبوّة والولاية صادرة عن الله ومتعلّقة بالله ، وكلّ من الرسالة والإمامة صادرة عن الله ومتعلّقة بعباد الله ؛ فيكون الاوليان أفضل.
    وأيضا كلّ من الرسالة والإمامة متعلّق بمصلحة الوقت ، والنبوّة والولاية لا تعلّق لهما بوقت دون وقت.
    وقيل : بل الأخيرتان أفضل ، لأنّ نفعهما متعدّ ، ونفع الاوليين مقصور على صاحبيهما ـ وله وجه ، إلّا أنّ التحقيق هو الأوّل.
    وكيف ما كان فليس يجب أن يكون الوليّ أعظم من النبيّ ، ولا من الرسول ، ولا من الإمام ؛ ولا النبيّ أعظم من الرسول ؛ بل الأمر في الكلّ بالعكس في وليّ يتّبع نبيّا أو رسولا أو إماما ؛ أو نبيّ يتّبع رسولا ؛ لأنّ لكلّ من النبيّ والإمام مرتبتان ، وللرسول ثلاث مراتب ، وللولي الواحدة.
    فمن قال : «إنّ الوليّ فوق النبيّ» فإنّما يعني بذلك في شخص واحد ، يعني أنّ النبيّ من حيث أنّه وليّ أشرف منه من حيث أنّه نبيّ ورسول ؛ وكذا الإمام من حيث أنّه وليّ أشرف منه من حيث أنّه إمام.
    كيف يكون الوليّ أفضل من النبيّ مطلقا ولا وليّ إلّا وهو تابع للنبيّ أو الإمام ، والتابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ؛ إذ

    لو أدركه لم يكن تابعا ؛ نعم ، قد يكون وليّ أفضل من نبيّ ، إذا لم يكن تابعا له ، كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء ـ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكذا أولاده المعصومون عليهم‌السلام (1).
    فصل [2]
    روي في الكافي والبصائر (2) بإسنادهما الصحيح ، عن مولانا الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن الرسول والنبيّ والمحدّث؟ ـ قال : ـ
    «الرسول : الذي يأتيه جبرئيل قبلا ، فيراه ويكلّمه ؛ فهذا الرسول.
    وأمّا النبيّ : فهو الذي يرى في منامه ، نحو رؤيا إبراهيم ، ونحو ما كان رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أسباب النبوّة قبل الوحي ، حتّى أتاه
    __________________
    (1) ـ كتب أولا ما يلي ثم شطب على قسم منه وبقي كما في المتن :
    وما يقوله أصحابنا رحمهم‌الله ـ : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أولاده المعصومين عليهم‌السلام» ـ يرجع عند التحقيق إلى هذا المعنى ؛ يعني أنّ مرتبتهم من حيث الولاية أعظم من مرتبة الأنبياء والرسل من حيث الولاية ـ لا غير ـ ولا شك أنه كذلك ، وإلا فمرتبة النبوة والولاية أعظم من أن يكون فوقها مرتبة ـ دنيا وآخرة ـ ولهذا كان الأولياء والأوصياء دائما محتاجين إلى الأنبياء والرسل ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ في القوانين الشرعية والأحكام الإلهية ؛ ومن عدم التفطن لهذا وسوء الفهم نشأ إلحاد الإسماعيلية وأمثالهم وشرك النصيرية وأضرابهم ـ فافهم ـ ولنذكر الأخبار الواردة في هذا المقام عن أهل البيت عليهم‌السلام تأكيدا لما قرّرناه وتشييدا لما أصّلناه.
    (2) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث ، 1 / 176 ، ح 3.
    عنه البحار : 18 / 266 ، ح 27. وجاء ما يقرب منه في بصائر الدرجات : الجزء الثامن ، باب (1) الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة ، 372 ، ح 13. عنه البحار : 11 / 54 ، ح 51. وعن الصادق عليه‌السلام في الاختصاص : 329. الوافي : 2 / 74.

    جبرئيل عليه‌السلام من عند الله بالرسالة ؛ وكان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين جمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها قبلا ؛ ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة.
    وأمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ، ولا يعاين ولا يرى في منامه».
    وبإسنادهما (1) الحسن عن الحسن بن العبّاس المعروفي (2) أنّه كتب إلى الرضاعليه‌السلام :
    «جعلت فداك ـ أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟».
    ـ قال : ـ فكتب أو قال ـ :
    «الفرق بين الرسول والنبيّ والإمام هو أنّ الرسول الذي نزل عليه جبرئيل ، فيراه ويسمع كلامه ، وينزل عليه الوحي ، وربّما نبّئ في منامه ـ نحو رؤيا إبراهيم ـ ؛ والنبيّ ربّما يسمع الكلام ، وربّما رأى الشخص ولم يسمع الكلام (3). والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».
    __________________
    (1) ـ الكافي : الباب السابق ، 1 / 176 ، ح 2. عنه البحار : 11 / 41 ، ح 42. الوافي : 2 / 74.
    بصائر الدرجات : 369 ، الجزء الثامن ، الباب 1 ، ح 4 ، مع فروق يسيرة. وأيضا الاختصاص : 328. عنهما البحار : 26 / 75 ، ح 28.
    (2) ـ لم يذكر عنه شيء غير روايته هذا. راجع معجم الرجال : 4 / 371. وفي البصائر : «حسن بن العباس بن معروف» ولكن المنقول عنه في البحار «حسن بن العباس المعروفي» كما في سائر المصادر.
    (3) ـ قال المؤلف بيانا للحديث في الوافي (2 / 74) : كأن المراد به أنه لم يجمع له بين الأمرين ، كما يجمع للرسول.

    وفى البصائر (1) بإسناده الصحيح عن مولانا الباقر عليه‌السلام ـ قال : ـ «الأنبياء على خمسة أنواع (2) : منهم من يسمع الصوت ـ مثل صوت السلسلة ـ فيعلم ما عني به ؛ ومنهم من ينبأ في منامه ـ مثل يوسف وإبراهيم ـ. ومنهم من يعاين. ومنهم من ينكت في قلبه ، ويوقر (3) في اذنه».
    وبإسنادهما (4) عنه وعن مولانا الصادق عليه‌السلام (5) : ـ قالا : ـ «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات :
    فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها ؛
    ونبيّ يرى في النوم ويسمع الصوت ، ولا يعاين في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام ـ مثل ما كان إبراهيم على لوط ـ ؛
    ونبيّ يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد ارسل إلى طائفة ـ قلّوا أو كثروا ـ كما قال الله ليونس : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [37 / 147] ـ قال : يزيدون ثلاثين ألفا ـ ؛
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 369 ، ح 6. البحار عنه وعن العياشي : 11 / 53 ، ح 50.
    (2) ـ كذا. والمذكور في الحديث أربعة. قال المجلسي ـ ره ـ : «لعله كان مكان خمسة أربعة ؛ أو النقر في الاذن هو الخامس».
    (3) ـ كذا ، ولعله مصحف «ينقر» كما لمح إليه توضيح المجلسي ـ ره ـ أيضا.
    (4) ـ الكافي : كتاب الحجة ، باب طبقات الأنبياء والرسل ، 1 / 174 ، ح 1. بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح 20 ، ص 373. عنه البحار : 11 / 55 ، ح 52.
    الاختصاص : 22. عنه البحار : 25 / 206 ، ح 18.
    (5) ـ في الكافي «قال أبو عبد الله عليه‌السلام» ، وفي البصائر : «عنهما عليهما‌السلام ، وفي الاختصاص «عنهمعليهم‌السلام».

    ونبيّ يرى في نومه ويسمع ويصوّت ويعاين في اليقظة ، وهو إمام ، مثل اولي العزم ، وقد كان إبراهيم عليه‌السلام نبيّا وليس بإمام (1) حتّى قال الله ـ تعالى ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (2) قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 / 124] أي من عبد صنما أو وثنا» (3).
    فصل [3]
    [المحدّث]
    روي في بصائر الدرجات (4) بإسناده عن الحكم بن عتيبة (5) ، قال : دخلت على عليّ بن الحسين عليه‌السلام يوما ، فقال لي : «يا حكم ـ هل تدري ما الآية التي كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يعرف بها صاحب قتله ويعلم بها الامور العظام الذي كان يحدّث بها الناس»؟
    __________________
    (1) ـ في هامش النسخة : «أي لم يكن مكلّفا بالتبليغ ـ منه ـ».
    (2) ـ اضيف في البصائر : «بأنه يكون في ولده كلهم».
    (3) ـ قال ابن الأثير (النهاية : وثن ، 5 / 151) : «الفرق بين الوثن والصنم : أنّ الوثن كل ما له جثّة معمولة من جواهر الأرض ، أو من الخشب والحجارة ، كصورة الآدميّ تعمل وتنصب فتعبد ؛ والصنم : الصورة بلا جثّة. ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين ، وقد يطلق الوثن على غير الصورة ...».
    (4) ـ بصائر الدرجات : الجزء السابع ، باب أنّهم محدّثون مفهمون ، ح 3 ، 319. عنه البحار : 26 / 67 ، ح 5. الكافي : باب أن الأئمة عليهم‌السلام محدثون مفهمون ، 1 / 270 ، ح 2 ، مع فروق يسيرة.
    (5) ـ كذا في النسخ. ولكن في المصدر والمنقول عنه في البحار والكافي «الحكم بن عيينة».
    قال صاحب قاموس الرجال : «إنه (الحكم بن عيينة ، وبن عتيبة) رجل واحد ، إلا أنه لا يعلم الأصل في اسم أبيه : هل هو من العتب ، أو من العين». والرجل منحرف عن الأئمة وقد ورد في ذمه عدة روايات. راجع الكشي : 142 ، 158 ، 178 ، 209 ، 233. معجم الرجال : 6 / 172.

    قال الحكم : «فقلت في نفسي : قد وقعت على علم من علم عليّ بن الحسين ، أعلم بذلك تلك الامور العظام ـ قال : ـ فقلت : لا والله ، لا أعلم الآية ، أخبرني بها يا ابن رسول الله».
    قال : «هو والله قول الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) ولا محدّث».
    فقلت : «وكان عليّ بن أبي طالب محدّثا»؟
    قال : «نعم ، وكلّ إمام منّا أهل البيت فهو محدّث».
    وبإسناده (1) عن حمران ، عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت له : «أليس حدّثتني أنّ عليّاعليه‌السلام كان محدّثا»؟
    قال : «بلى». قلت : «من يحدّثه»؟
    قال : «ملك يحدّثه»؟ قلت : «أقول : إنّه نبيّ أو رسول»؟
    قال : «لا ؛ ولكن قل : بل مثل صاحب سليمان ، ومثل صاحب موسى ، ومثله مثل ذي القرنين».
    وبإسناده (2) عن مولانا الصادق عليه‌السلام ـ قال : ـ «كان عليّ عليه‌السلام محدّثا ، وكان سلمان محدّثا» ـ قال : ـ قلت : «وما آية المحدّث»؟
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الجزء السابع ، باب أن المحدّث كيف صفته ، ح 11 ، 323. عنه البحار : 26 / 68 ، ح 8. الكافي : الباب السابق : 1 / 271 ، ح 5. مع فروق. راجع أيضا ما جاء في الكشي : 177.
    (2) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق : 322 ، ح 4. أمالي الطوسي : المجلس الرابع عشر ، ح 62 ، 407. عنه البحار : 22 / 327 ، ح 31. وعنهما : 26 / 67 ، ح 4.

    قال : «يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت».
    وفي رواية اخرى (1) : «يبعث الله ملكا ، يوقر (2) في اذنه كيت وكيت وكيت».
    وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام (3) «إنّ عليا عليه‌السلام كان يوم بني قريظة وبني النضير ، كان جبرئيل عليه‌السلام عن يمينه ، وميكائيل عن يساره يحدّثانه».
    وفي اخرى (4) صحيحة عن أبيه عليه‌السلام ـ قال : ـ «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يملي على عليّ عليه‌السلام ، فنام نومة ونعس نعسة ، فلمّا رجع نظر إلى الكتاب ، فمدّ يده ، قال : من أملى عليك هذا؟ قال : أنت. قال : لا ، بل جبرئيل».
    وبإسناده (5) عنه عليه‌السلام ـ قال : ـ قال رسول الله : «من أهل بيتي اثنا عشر محدّثا».
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح 8 ، 323. عنه البحار : 26 / 26 ، ح 15.
    (2) ـ كذا في النسخ والبحار. وفي المصدر المطبوع : ينقر. ويوقر ـ من الوقار ـ قال ابن الأثير (النهاية : وقر) أي سكن فيه وثبت.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 321 ، ح 7.
    الاختصاص : 286. عنه البحار : 26 / 71 ، ح 14. 40 / 141 ، ح 41.
    (4) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، 322 ، ح 5. عنه البحار : 26 / 71 ، ح 12. 18 / 270 ، ح 34. وما يقرب منه في الاختصاص : 275.
    (5) ـ بصائر الدرجات : باب أنهم عليهم‌السلام محدّثون ، 320 ، ح 4. عنه البحار : 26 / 67 ، ح 4.
    47 / 341 ، ح 27. الغيبة للنعماني : 66 ، ح 6. البحار : 36 / 272 ، ح 95.
    وفي الخصال (أبواب الاثنى عشر ، ح 45 ، 2 / 478) والعيون (باب النصوص على الرضا عليه‌السلام ، ح 23 ، 1 / 56) عن الصادق عليه‌السلام : «نحن اثنا عشر محدّثا». البحار : 366 / 393 ، ح 7. وفي الغيبة للنعماني ، عن الباقر عليه‌السلام : «منّا اثنا عشر محدّثا». وفيه مثله عن الصادق عليه‌السلام. البحار : 36 / 395 ، ح 11. 36 / 399 ، ح 6.

    وبإسناده (1) عن الحارث بن المغيرة النصري (2) : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «جعلت فداك ـ الذي يسأل عنه الإمام ليس عنده فيه شيء ، من أين يعلمه»؟
    قال : «ينكت في القلب نكتا ، أو ينقر في الاذن نقرا» (3).
    وسأله غيره (4) : «إنّا نسألك أحيانا فتسرع في الجواب ، وأحيانا تطرق ثمّ تجيبنا»؟
    قال : «نعم ـ إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا ، فإذا نكت نطقنا ، وإذا امسك عنّا أمسكنا».
    وفي رواية اخرى (5) : «يكون سماعا ويكون إلهاما ويكونان معا».
    وفي اخرى (6) : «وحي كوحي أمّ موسى».
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : باب ما يفعل بالإمام من النكت ... : 316 ، ح 1. عنه البحار : 26 / 57 ، ح 121. أمالي الطوسي : المجلس الرابع عشر ، ح 64 ، 408.
    عنه البحار : 26 / 19 ، ح 2.
    (2) ـ قال النجاشي (139 ، الترجمة : 361) : «حارث بن المغيرة النصري ، من نصر بن معاوية ، بصريّ ، روى عن أبي جعفر وجعفر وموسى بن جعفر وزيد بن عليّ عليهم‌السلام ، ثقة ثقة ...». راجع اختيار معرفة الرجال : 337. معجم الرجال : 4 / 204.
    وجاء في البصائر والمنقول عنه في البحار «النضري» بدلا من النصري.
    (3) ـ واضيف بعده في الأمالي : «وقيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا سئل الإمام ، كيف يجيب؟ قال : إلهام أو إسماع ؛ وربما جميعا».
    (4) ـ بصائر الدرجات : الصفحة السابقة ، ح 3. عنه البحار : 26 / 57 ، ح 123.
    (5) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح 8 ، 317.
    الاختصاص : 286. عنهما البحار : 26 / 58 ، 127.
    (6) ـ بصائر الدرجات : الصفحة السابقة ، ح 10.
    الاختصاص : 286. البحار : 26 / 58 ، ح 128.

    وفي اخرى (1) : «وأيّ شيء المحدّث»؟ فقال : «ينكت في اذنه ، فيسمع طنينا كطنين الطست ، او يقرع على قلبه ، فيسمع وقعا كوقع السلسلة على الطست».
    فقلت : «إنّه نبيّ»؟ قال : «لا ، مثل الخضر ، ومثل ذي القرنين».
    وبإسناده (2) عنه عليه‌السلام أنّه سئل عن مبلغ علمهم؟ فقال : «مبلغ علمنا ثلاثة وجوه : ماض ، وغابر ، وحادث. فأمّا الماضي فمفسّر ؛ وأمّا الغابر فمزبور ؛ وأمّا الحادث فقذف في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وهو أفضل علمنا ؛ ولا نبيّ بعد نبيّنا».
    وبإسناده (3) عن محمّد بن الفضيل (4) ـ قال : ـ قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ علمنا غابر ، ومزبور ، ونكت في القلب ، ونقر في الأسماع»؟
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : باب في أن المحدّث كيف صفته ... ، الرواية الأخيرة ، 324.
    عنه البحار : 26 / 70 و 78 ، ح 10 و 35. الاختصاص : 287.
    (2) ـ بصائر الدرجات : باب فيه تفسير الأئمة لوجود علومهم الثلاثة ، ح 1 عن الصادق عليه‌السلام وح 3 عن الكاظم عليه‌السلام : 318 ـ 319. عنه البحار : 26 / 59 ، ح 132.
    ورواية الكاظم عليه‌السلام قسم من كتاب له ورد تفصيله في الكافي : الروضة ، ح 95 ، 8 / 125. عنه البحار : 48 / 244 ، ح 51 و 78 / 331 ، ح 6.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح 2 ، 318. عنه البحار : 26 / 60 ، ح 123.
    (4) ـ قال النجاشي (367 ، رقم 996) : «محمد بن فضيل بن كثير الصيرفي ، الأزدي ، أبو جعفر الأزرق ، روى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما‌السلام ، له كتاب ومسائل ...».
    راجع معجم الرجال : 17 / 145 ـ 148.

    قال : «أمّا الغابر فما تقدّم من علمنا ؛ وأمّا المزبور فما يأتينا ؛ وأمّا النكت في القلوب فإلهام ؛ وأمّا النقر في الأسماع فإنّه من الملك».
    وروى زرارة (1) مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ قال : ـ قلت : «كيف يعلم أنّه من الملك ، ولا يخاف أن يكون من الشيطان ـ إذا كان لا يرى الشخص ـ»؟
    قال : «إنّه يلقى عليه السكينة ، فيعلم أنّه من الملك ؛ ولو كان من الشيطان اعتراه فزع ؛ وإن كان الشيطان ـ يا زرارة ـ لا يتعرّض لصاحب هذا الأمر».
    وبإسناده (2) عن مولانا الباقر عليه‌السلام ، أنّه سأله أبو بصير : «بما يعلم عالمكم ـ جعلت فداك»؟
    قال : «يا أبا محمّد ، إنّ عالمنا لا يعلم الغيب ، ولو وكّل الله عالمنا إلى نفسه ، كان كبعضكم ؛ ولكن يحدّث إليه ساعة بعد ساعة».
    وبإسناده (3) عن مولانا الصادق عليه‌السلام : «إنّ عندنا صحف إبراهيم ، وألواح موسى».
    __________________
    (1) ـ بصائر الدرجات : الصفحة السابقة. عنه البحار : 26 / 60 ، ح 134.
    (2) ـ بصائر الدرجات : باب ما يلقى شيء بعد شيء ... ، ح 2 ، 325.
    البحار : 26 / 60 ، ح 136.
    (3) ـ بصائر الدرجات : الباب السابق ، ح 4 و 6 ، 325.
    عنه البحار : 26 / 61 ، ح 138. و 26 / 183 ح 12. و 17 / 132 ، ح 8.
    مثله في الكافي : 1 / 225 ، ح 4. عنه البحار : 17 / 132 ، ح 8. 26 / 221 ، ح 46.

    فقال له أبو بصير (1) : «إنّ هذا لهو العلم».
    قال : «يا أبا محمّد ، ليس هذا هو العلم ؛ إنّما هو الاثرة (2) ؛ إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار ، يوم بيوم ، وساعة بساعة».
    وبإسناده (3) الصحيح أنّه عليه‌السلام سئل عن علم عالمهم : «أحكمة تقذف في صدره ، أو وراثة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو نكت ينكت في اذنه»؟
    فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ذاك وذاك» ثمّ قال : «وراثة من رسول الله ، ومن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام علم يستغنى به عن الناس ، ولا يستغنى الناس عنه».
    * * *
    __________________
    (1) ـ كما أشرت يوجد روايتان في المصدر والراوي فيهما «ضريس الكناسي» ولكن السائل في أحدهما ضريس نفسه ، وفي الاخرى أبو بصير ، ولعل هناك سهو في النسخ.
    (2) ـ في البحار (26 / 61) : «قال الفيروزآبادي : الأثر ـ محركة ـ : بقية الشيء ، ونقل الحديث وروايته ، كالاثارة. والاثرة ـ بالضم ـ : المكرمة المتوارثة ، والبقيّة من العلم يؤثر كالأثرة والأثارة».
    (3) ـ بصائر الدرجات : باب في الأئمة عليهم‌السلام ورثوا العلم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... ، ح 2 ، 326.
    عنه البحار : 26 / 62 ، ح 142.

    [5]
    باب
    الاضطرار إلى الإمام
    وذكر صفاته
    (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [13 / 7]
    فصل [1]
    [ضرورة وجود الإمام]
    إنّ ما ذكر في بيان الاضطرار إلى الرسل ، فهو بعينه جار في الاضطرار إلى أوصيائهم وخلفائهم ـ الأئمّة من بعدهم إلى ظهور نبيّ آخر ـ لأنّ الاحتياج إليهم غير مختصّ بوقت دون آخر ، وفي حالة دون اخرى ؛ ولا يكفي بقاء الكتب والشرائع من دون قيّم لها ، عالم بها ؛ ألا ترى إلى الفرق المختلفة كيف تستندون في مذاهبهم كلّها إلى كتاب الله ـ عزوجل ـ لجهلهم بمعانيه وزيغ قلوبهم وتشتّت أهوائهم.
    فظهر أنّه لا بدّ لكلّ نبيّ مرسل بكتاب من عند الله ـ عزوجل ـ أن ينصب وصيّا يودع فيه أسرار نبوّته ، وأسرار الكتاب المنزل عليه ، ويكشف له مبهمه ، ليكون ذلك الوصيّ هو حجّة ذلك النبيّ على قومه ، ولئلّا تتصرّف الامّة في ذلك الكتاب بآرائها وعقولها ، فتختلف وتزيغ

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    علم اليقين في اصول الدين ج1
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
     مواضيع مماثلة
    -
    » اصول بعض العشائر العراقيه
    » كتاب اللمراجعات للإمام شرف الدين (قدس سرّه)
    » نتنياهو يعلن تصفية مرشحين محتملين لنصر الله.. هل قُتل هاشم صفي الدين؟

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: -27- الكتب الاسلاميه-
    انتقل الى: