الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
اهل البيت
المواضيع الأخيرة
» نثر الدر المكنون
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyاليوم في 6:12 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:40 pm

    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    الحمد لله الذي لا زوال لملكه ، وصلّى الله على نبيّنا محمّد سيّد رسله ، وعلى أهل بيته الطاهرين وأصحابه المتأدّبين بآدابه وعلى التابعين والعلماء والصالحين الذين هم أمناؤه في أرضه.
    وبعد : فيقول العبد المذنب ذبيح الله بن محمّد علي المحلّاتي نزيل سامرّاء : هذا هو الجزء الثاني من «مآثر الكبراء في تاريخ سامرّاء» يتضمّن سائر طبقات العمارة لمشهد العسكريّين عليهما‌السلام وأخبار من دفن حول الحضرة المقدسة من العلماء وبيان تعيين مشهد مولانا أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي وفضائله وأخبار أخيه جعفر التواب وبيان المعاجز التي ظهرت من مشهد العسكريين عليهما‌السلام ونبذة ممّا ظهر من مشهد السيّد محمّد عليه‌السلام ومآثر الوكلاء في العمارة وغير ذلك ممّا يتعلّق بسامرّاء ، ومن الله تعالى نستمدّ المعونة والهداية والتوفيق والتسديد.


    وجه تسمية قصر المعشوق
    تقدّم في الجزء الأوّل إنّه من أبنية أبي العبّاس أحمد بن المتوكّل الذي بناه في الجانب الغربي من شطّ سامرّاء.
    جاء في كتاب المسامرات للإمام محي الدين العربي قال : إنّ أحمد بن المتوكّل المعتمد العبّاسي تزوّج بامرأه أعرابيّة بدويّة نجديّة وكان مشغوفا بها غير أنّها لم تزل كانت حزينة كئيبة باكية مهمومة غير متبسّمة ، فقال لها المعتمد : مالي أراك غير متبسّمة مع أنّ الله عزوجل أتمّ نعمه عليك وجعلك في بيت الشرف والعزّ والنعمة؟ فقالت : إنّي لم أكترث بما ذكرت ، أنا أتذكّر بيتي من الشعر وأصوات الغنم ورغا الإبل وساقية الماء وبادية وسيعة وحلب الشاة. فتعجّب المعتمد فأمر ببناء قصر في غربيّ دجلة سامرّاء وسمّاه معشوقا ، وأحكم بنائه ثمّ أمر أصحاب البادية أن يرسلوا أغنامهم وجمالهم حول القصر ، وأن يحلبوا أغنامهم بمحضر الأعرابيّة ، فلمّا فعلوا ذلك ونظرت إليها تذكّرت وطنها ورأت منظرة تشبه ما كانت في وطنها وأطراف بيتها ، فبكت وأنشأت تقول :
    وما ذنب أعرابيّة قذفت بها
    صروف النوى من حيث لم تك ظنّت

    تمنّت أحاليب الرعات وخيمة
    بنجد فلا يقضى لها ما تمنّت

    إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه
    وبرد حصاة آخر الليل أنّت

    لها أنّة عند العشاء وأنّة
    سحيرا ولوا أنّتاه لجنّت




    فسمع أبياتها المعتمد فرقّ لها فقال لها : لا تحزني إنّي أرسلك إلى أهلك ووطنك ولم ينقص من حظّك شيئا ، فأرسلها مع تجمّلها وكانت تحت نكاح المعتمد وكان إذا أراد الصيد يذهب إلى بادية فيها الأعرابيّة.
    أقول : اتفق مثل ذلك ليزيد بن معاوية فإنّه تزوّج بإمرأة بدويّة وأسكنها في قصره مع ثياب فاخرة ونعمة وافرة ، فأنشأت الأعرابيّة تقول :
    للبس عباءة وتقرّ عيني
    أحبّ إليّ من لبس الشفوف

    وبيت تخفق الأرياح فيه
    أحبّ إليّ من قصر منيف

    سامرّاء أحبّ البقاع عند الحجّة عليه‌السلام
    روى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله في الكافي بإسناده عن عليّ بن محمّد ، عن أبي محمّد الوجنائي أنّه أخبر عمّن رآه عليه‌السلام ، قال : خرج من الدار قبل الحادث بعشرة أيّام وهو يقول : اللهمّ إنّك تعلم أنّها أحبّ البقاع عندي لو لا الطرد ، أو كلام نحو هذا.
    قال المجلسي رحمه‌الله في شرح هذا الحديث : لعلّ المراد بالحادث وفاة أبي محمّد عليه‌السلام والضمير في أنّها راجع إلى سامرّاء ، انتهى.
    والذي يقوي في النظر أنّ المراد بالحادث قتل أكابر الأتراك في سامرّاء وشغب الجند وظهور صاحب الزنج حتّى آل الأمر إلى انحلال سامرّاء ـ كما عرفت في محلّه من المجلّد الأوّل ـ ولا غرو أن تكون سامرّاء أحبّ البقاع عند الحجّة عجّل الله فرجه ؛ لأنّ حبّ الوطن من الإيمان.

    إخبار الإمام جعفر الصادق ببناء سامرّاء
    روى العلّامة المجلسي فى البحار (1) في خلال رواية المفضّل بن عمر عن الصادق عليه‌السلام قال عليه‌السلام : أوّل ولادته ـ أي ولادة الحجّة ـ وقت الفجر من ليلة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة سبع وخمسين ومأتين ـ إلى أن قال : ـ بالمدينة التي بشاطئ دجلة يبنيها المتكبّر الجبّار المسمّى باسم جعفر الضالّ ، الملقّب بالمتوكّل ، وهو المتأكّل لعنه الله تعالى ، وهي مدينة تدعى بسرّ من رأى وهي ساء من رأى.
    أقول : تقدّم فضائل سامرّاء في الجزء الأوّل ، فقول الصادق عليه‌السلام «وهي ساء من رأى» يشير إلى مدينة بناها المتوكّل في شمال سامرّاء الحاليّة في أرض يقال لها الماحوزة ، فلمّا فرغ منها قال : الآن علمت أنّي ملك إذ بنيت لنفسي مدينة سكنتها ـ كما تقدّم تفصيله في بيان قصر الجعفري ـ فقوله عليه‌السلام من قبيل إطلاق الكلّ وإرادة الجزء. والماحوزة متّصلة بسامرّاء كما عرفت ذلك في الجزء الأوّل. أضف أنّ أوّل من مصّر سامرّاء هو المعتصم لا المتوكّل ، هذا كلّه بعد تسليم صحّة الرواية.
    وروى المحدّث الشهير السيّد هاشم البحراني في خلال معاجز الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام من كتابه مدينة المعاجز بالإسناد عن عليّ بن محمّد النوفلي قال : قال عليّ ابن محمّد عليهما‌السلام : لمّا بدا الوسم بالمتوكّل بسرّ من رأى والحضريّة ، قال : يا عليّ ، إنّ هذا الطاغية يبتلى ببناء مدينة لا تتمّ ويكون حتفه فيها قبل تمامها على يد فرعون من فراعنة الأتراك ، الحديث.
    وقال الطبري في حوادث سنة 245 من تاريخه : إنّ المتوكّل أمر ببناء الماحوزة وسمّاه الجعفري وأقطع القوّاد وأصحابه فيها وجدّ في بنائها وتحوّل إلى المحمديّة ليتمّ أمر الماحوزة وأمر بنقض القصر المختار والبديع وحمل ساجهما إلى الجعفري وأنفق
    __________________
    (1) بحار الأنوار 13 : 201.

    عليهما فيما قيل أكثر من ألفي ألف دينار ، وجمع فيه القرّاء فقرأوا وأحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم وكان يسمّيها هو وأصحابه الخاصّة المتوكليّة ، وبنى فيها قصرا سمّاه اللؤلؤ لم ير مثله في علوّه ، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال لها كرمي ، يكون شربا لما حولها من فوه النهر إليها ، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمي ، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأراضيهم ، وأجبروا على ذلك حتّى تكون الأراضي والمنازل في تلك القرى كلّها له ، ويخرجهم عنهما ، وقدّر للنهر من النفقة مأتي ألف دينار ، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني الكاتب.
    وبغا التركي في ذي الحجّة سنة 245 وألقي في حفر النهر اثنى عشر ألف رجل يعملون فيه ، فلم يزل دليل بن يعقوب يعتمل فيه ويحمل المال بعد المال ويقسّم عامّته في الكتّاب حتّى قتل المتوكّل فبطل النهر وأخربت الجعفريّة ونقضت ولم يتمّ أمر النهر ، فاستوحش الناظر إليها ولم ير فيها إلّا البوم والصدا ، وقد أشار بذلك العلّامة السماوي في وشائح السرّاء بقوله :
    وتركوا الرياض والقصورا
    يحكي صدى الوحش لديها الصورا

    لم تر إلّا آسفا ونادما
    وناقلا أثاثه وهادما

    تخوّفا من صولة الفراغنه
    والترك إذ كانوا بها فراعنه

    حيث إلى بغداد عاد المعتضد
    وعاف سامرّا وما بها انتضد

    تضجّرا ممّا جنى الأتراك
    ومن مع الترك له اشتراك

    إحراق قبور الخلفاء في سامرّاء
    سيأتي في محلّه أنّ المعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ والمهتدي والمعتمد قبورهم كانت بسرّ من رأى في قبلة سرداب الغيبة ، فأحرقها

    العلّامة المهذّب البارع الميرزا محمّد السلماسي كما جاء في كتاب دار السلام للعالم العليم البحر الخضم الميرزا حسين النوري (1) قال :
    وكان المولى الحاج ميرزا محمّد السلماسيّ رحمه‌الله عالما كاملا من تلامذة الوحيد البهبهاني وله نوادر وكرامات وقد وفّقه الله تعالى لأصل تأسيس بناء قبّة العسكريّين عليهما‌السلام ورواقها وقبّه السرداب وجعل صحنا مستقلّا له وسدّ باب السرداب ودرجه من داخل حرم العسكريّين عليهما‌السلام وفتح الباب الموجود له في المسجد من قبل الخوانين العظام أحمد خان الدنبلي وطائفته وأنفقوا على ذلك أموالا كثيرة ، وقد كان قبل ذلك صومعة في برية.
    ومن فضائل المولى المذكور وقوّة قلبه أنّه أحرق جميع قبور خلفاء العبّاسيّين في سامرّاء ليلا ، وكانت في الدار التي هي في قبلة السرداب الشريف وفيها شبّاك يدخل منه الضوء إليه ، ولكلّ صندوق وزينته. فماج الناس في بغداد وكتبوا مجلّة حكموا فيها بكفره ووجوب قتله ، فطلبه والي بغداد وخلّصه الله تعالى عن شرّهم بتوسّط بعض الولاة المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم ، ورشا كثيرة في الباطن من الخان المذكور ولم يبق والحمد لله من تلك القبور أثر.
    قال السيّد المحدّث الجزائري في رياض الأبرار : ومن معجزاته ـ أي الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ـ أنّ على قبور الخلفاء من بني العبّاس بسرّ من رأى من ذرق الخفافيش والطيور ما لا يحصى وتنقى منها كلّ يوم ومن الغد تكون القبور مملوّة ذرقا ، ولا يرى على رأس قبّه العسكريّين عليهما‌السلام ولا على قباب مشاهد آبائهما ذرق طير فضلا عن قبورهم ؛ إلهاما للحيوانات إجلالا لهم ، انتهى ، ومثله الراوندي في الخرايج.
    __________________
    (1) دار السلام : 266 طبع ايران.

    أقول : ومن عجيب أمر هؤلاء أنّهم يكفّرون من أحرق قبور الظالمين لآل محمّد الغاصبين حقوقهم المدفونين في دارهم بغير إذنهم المنهمكين في الملاهي والمناهي مدّة حياتهم كما ستعرف ذلك في الأجزاء الآتية بصورة تفصيليّة ولا يكفّرون من أحرق مشهد الجوادين صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرّب قبور أئمّه البقيع وسائر قبور عباد الله الصالحين ، وتقدّم في الجزء الأوّل أنّ الوالي سأل العلماء عن صفة دار العسكريّين عليهما‌السلام عند ظهور التابوتين لمّا حفروا الأساس وأجابوه أنّها ملك لهما ، فقال الوالي .. الخ.
    مساوي العصبيّة وتخريب مشهد الجوادين عليهما‌السلام وإحراقه
    وقال ابن الأثير الجزري في حوادث سنة 443 من كامله ص 199 : وفي هذه السنة في صفر تجدّدت الفتنة ببغداد بين السنّة والشيعة وعظمت أضعاف ما كان قديما ، وكان سبب هذه الفتنة أنّ أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السمّاكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففرغ أهل الكرخ وعملوا أبوابا كتبوا عليها بالذهب «محمّد وعليّ خير البشر» وأنكر السنّة ذلك وادّعوا أنّ المكتوب محمّد وعليّ خير البشر ؛ فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر ، وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا : ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا.
    فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العبّاسيّين ونقيب العلويّين وهو عدنان ابن رضي لكشف الحال ، فكتب بتصديق قول الكرخيّين ، فأمر حينئذ الخليفة نوّاب رحيم بكفّ القتال فلم يقبلوا ، وانتدب ابن المذهب القاضي والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد بحمل العامّة على الإغراق في الفتنة ، فأمسك النوّاب الملك رحيم من كفّهم غيضا من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ومنع هؤلاء السنّة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ، وكان نهر عيسى قد

    انفتح ثقبه فعظم الأمر عليهم وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبّوا عليه ماء الورد ونادوا الماء للسبيل ، فأغرقوا بهم السنّة ونشدوا رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا خير البشر وكتبوا عليه‌السلام.
    فقالت السنّة : لا نرضى إلّا أن يقلع الآجر الذي عليه محمّد وعليّ ، وأن لا يؤذّن حيّ على خير العمل ، وامتنع الشيعة من ذلك ودام القتال إلى ثالث ربيع الأوّل ، وقتل فيه رجل هاشميّ من السنّة فحمله اهله على نعش وطافوا به في الحريبة وباب البصرة وسائر محال السنّة فاستفزّوا الناس للأخذ بثأره ثمّ دفنوه عند أحمد بن حنبل وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدّم ، فلمّا رجعوا من دفنه قصدوا مشهد الجوادين عليهما‌السلام بباب التين فأغلق بابه فنقبوا في سورها وتهدّدوا البوّاب فخافهم ففتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضّة وستور وغير ذلك ، ونهبوا ما في الترب (يعني ما كان على القبور من الزينة) والدرر ، وأدركهم الليل فعادوا.
    فلمّا كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأزاج (نوع من البيت يبنى طولا) واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمّد بن عليّ والقبّتان الساج اللتان عليهما واحترق ما يقابلهما وبجوارهما من قبور ملوك بني بويه معزّ الدولة وجلال الدولة ، ومن قبور الوزراء والرؤساء ، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور وقبر الأمين محمّد بن رشيد وقبر أمّه زبيدة ، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.
    فلمّا كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمّد بن عليّ لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل ، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر ، فجاء الحفر إلى جانبه ، وسمع أبو تمام نقيب العبّاسيّين وغيره من الهاشميّين فجاؤا ومنعوا عن ذلك ، إلى آخر القصّة.

    وقال الجزري أيضا في سنة خمس وأربعين وأربعمائة : في المحرّم زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنّة ـ إلى أن قال : ـ وجرى بينهم قتال شديد وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض وانتقل كثير من أهل الكرخ إلى غيرها .. الخ.
    وقال في حوادث سنة 482 ص 60 : وفي جمادى الأولى كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال وقتل منهم عدد كثير واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج فنهبوها وأحرقوها فنزل شحنة بغداد على دجلة في خيل ورجله ليكفّ الناس عن الفتنة فلم ينتهوا.
    إلى أن قال : حتّى قبل أهل الكرخ بحضور الجماعة والجمعة والتديّن بمذهب أهل السنّة وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم : خير الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ عليّ .. الخ.
    ونظائرها خارج عن الحدّ والإحصاء ، ومنذ سطرت هذه العصبيّات الباردة على المسلمين ذهب بسيادتهم وأفنى كيانهم وجعلهم أذلّاء صاغرين تحت أيدي الأجانب تعركهم عرك الأديم وتدوسهم دوس الحصيد.
    الدعوة إلى الاتحاد
    نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم حيث قال : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) ، ويكفي في المقام ما جاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها للعلّامة الخبير المصلح الأعظم الشهير حجّة الإسلام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء متّع الله المسلمين بطول بقائه ، قال دام وجوده :
    __________________
    (1) آل عمران : 103.

    لم يبق ذو حسّ وشعور في شرق الأرض وغربها إلّا وقد أحسّ وشعر بضرورة الاتحاد والاتفاق ومضرّة الفرقة والاختلاف حتّى أصبح هذا الحسّ والشعور أمرا وجدانيّا محسوسا يحسّ به كلّ فرد من المسلمين كما يحسّ بعوارضها الشخصيّه من صحّته وسقمه وجوعه وعطشه وذلك بفضل الجهود التي قام بها جملة من أفذاذ ـ أي أفراد ـ الرجال المصلحين في هذه العصور الأخيرة الذين أهابوا بالمجتمع الإسلامي وصرخوا فيه صرخة المعلم الماهر وتمثّلوا للمسلمين بمثال الطبيب النطاسي ـ المدقّق في الأمور ـ الذي شخص الداء وحصر الدواء وأصاب الهدف بما عيّن ووصف وبعث النفوس بعثا حثيثا وشوقها إلى استعمال الدواء ما قطع مادة ذلك الداء الخبيث والعلل والأمراض المهلكة قبل أن تقضي على هذا الجسد الحي فيدخل في خبر كان ويعود كأمس الدابر.
    صرخ المصلحون فسمع المسلمون كلّهم عظيم صرخاتهم بأنّ داء المسلمين تفرّقهم وتضارب بعضهم ببعض ، ودواؤهم الذي لا يصلح آخرهم إلّا به كما لم يصلح إلّا عليه أوّلهم ألا وهو الاتفاق والوحدة ومؤازرة بعضهم لبعض ، ونبذ التشاحن وطرح بواعث البغضاء والإحن والأحقاد تحت أقدامهم ، ولم يزل السعي لهذا المقصد السامي والغرض الشريف إلى اليوم دأب رجالات أنار الله بصائرهم وشحذ عزائمهم وأشعل جذوة الإخلاص لصالح هذه الأمّة من وراء شغاف أفئدتهم فما انفكّوا يدعون إلى تلك الوحدة المقدّسة وحدة أبناء التوحيد وانضمام جميع المسلمين تحت راية «لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» من غير فرق بين عناصرهم ولا بين مذاهبهم ، يدعون إلى هذه الجامعة السامية والعروة الوثقى والسبب المتين الذي أمر الله بالاعتصام به والحبل القوي الذي أمر الله به أن يوصل ، يدعون إليها لأنّها هي الحياة وبها النجاة للأمّة الإسلاميّة وإلّا فالهلاك المؤبّد والموت المخلّد.
    أولئك دعاة الوحدة ، وحملة مشعل التوحيد. أولئك دعاة الحقّ وأنبياء الحقيقة

    ورسل الله إلى عباده في هذا العصر ، يجدّدون من معالم الإسلام ما درس ، ويرفعون من منار المحمّديّة ما طمس ، وكان بفضل تلك المساعي الدائبة والجهود المستمرّة من أولئك رجال ـ وقليل ما هم ـ قد بدت بشائر الخير وظهور طلائع النجاح ، ودبّت وتسرّبت في نفوس المسلمين تلك الروح الطاهرة وصار يتقارب بعضهم من بعض ، ويتعرّف فريق لفريق.
    وكان أوّل بزوغ لشمس تلك الحقيقة ونموّ لبذر تلك الفكرة ما حدث بين المسلمين قبل بضعة أعوام في المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف من اجتماع ثلّة من كبار المسلمين وتداولهم في الشؤون الإسلاميّة وتبادل الثقة والإخاء فيما بينهم على اختلافهم في المذاهب والقوميّة وتباعد أقطارهم وديارهم ، ذلك الاجتماع الذي هو الأوّل من نوعه والوحيد في بابه الذي علّق عليه سائر المسلمين الآمال الجسام ، فكان قرّة عين المسلمين كما كان قذى عيون المستعمرين ، والذي حسبوا له ألف حساب ، وأرصدوا دونه حسب إمكانهم كلّ باب.
    ولكن على رغم كلّ ما قام به أولئك الأعلام من التمهيدات لتلك الغاية وما بذلوه من التضحيات والمفاداة في غرس تلك البذرة وتعاهدها بالعناية والرعاية حتّى تثمر الثمر الجني وتأخذ حظّها من الرسوخ والقوّة لانزال نحن معاشر المسلمين بالنظر العام نتعلّق بحبال الآمال ونكتفي بالأقوال عن الأعمال ، وندور على دوائر الظواهر والمظاهر دون الحقائق والجواهر ، ندور على القشور ولا نعرف كيف نصل إلى اللبّ على العكس ممّا كان عليه أسلافنا أهل الجدّ والنشاط ، أهل الصدق في العمل قبل القول ، وفي العزائم قبل الحديث ، تلك السجايا الجبّارة التي أخذها عنهم الأغيار فسبقونا وكان السبق لنا وكانت لنا الدائرة عليهم فأصبحت علينا تلك سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
    نحن نحسب أنّنا إذا قلنا قد اتحدنا واتفقنا وملأنا بتلك الكلمات لهواتنا وأشداقنا

    وشحّنا بها صحفنا وأوراقنا نحسب بهذا ومثله يحصل الغرض المهم من الاتحاد ونكون كأمة من الأمم الحيّة التي نالت بوحدتها عزّها وشرفها ، وأخذ المستوى الذي يحقّ لها ولذلك تجدنا لا نزداد إلّا هبوطا ، ولا ننال متاعنا إلّا خفافا وحبوطا ، لا تجد لأقوالنا أثرا إلّا أنّنا نأنس بها ساعة سماعنا لها وما هي بعد ذلك إلّا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا.
    ويستحيل لو بقي المسلمون على هذه الحالة أن تقوم لهم قائمة أو تجتمع لهم كلمة أو تثبت لم في المجتمع البشري دعامة ، ولو ملأوا الصحف والطوامير وشحنوا أرجاء الأرض وآفاق السماء بألفاظ الاتحاد والوحدة ، وكلّ ما يشتقّ منها ويرادفها ، بل ولو صاغوا سبائك الخطب منها بأساليب البلاغة ونظموا فيها عقود جواهر الإبداع والبراعة ، كلّ ذلك لا يجدي إذا لم يندفعوا إلى العمل الجدّي والحركة الجوهريّة ، ويحوروا أخلاقهم وملكاتهم ، ويكبحوا جماع أهوائهم ونفوسهم بإرسال العقل والرؤية والحنكة والحكمة فيجد كلّ مسلم أنّ مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه فيسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته ذلك حيث ينزع الغلّ من صدره والحقد من قلبه ، وينظر كلّ من المسلمين إلى الآخر مهما كان نظر الإخاء لا نظر العداء ، وبعين الرضا لا بعين السخط ، وبلحاظ الرحمة لا الغضب والنقمة ، ذاك حيث يحسّ بوجدانه ويحدّ بضرورة حسّه أنّ عزّه بعزّ إوانه وقوّته بقوّة أعوانه ، وأنّ كلّ واحد منهم عون للآخر ، فهل يتقاعس عن تقوية عونه وتعزيز عزّه وصونه؟ كلّا.
    ثمّ إذا كان التخلّق بهذا الخلق الشريف عسيرا لا ينال وشأوا متعاليا لا يدرك ولا يستطيع المسلم أن يواسي أخاه المسلم وأن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه وأن يجد أنّ صلاحه بصلاح أمّته وعزّه بعزّ قومه فلا أقلّ من التناصف والتعادل والمشاطرة والتوازن فلا يجحد المسلم لأخيه حقّا ، ويبخسه كيلا ، ولا يطفّف له وزنا ، والأصل

    والملاك في كلّ ذلك اقتلاع رذيلة الحرص والجشع والغلبة والاستئثار والحسد والتنافس فإنّ هذه الرذائل سلسلة شقاء وحلقات بلاء يتصل بعضها ببعض ويجرّ بعضها إلى بعض حتّى تنتهي إلى هلاك الأمّة التي ستغلغل فيها ثمّ تهوي بها إلى أحطّ مهاوي الشقاء والتعاسة. والبذرة الأولى لكلّ تلك الثمار المونقة هو حبّ الإثرة وقد قيل : الاستئثار يوجب الحسد ، والحسد يوجب البغضاء ، والبغضاء يوجب الاختلاف ، والاختلاف يوجب الفرقة ، والفرقة توجب الضعف ، والضعف يوجب الذلّ ، والذلّ يوجب زوال النعمة وهلاك الأمّة.
    والتاريخ يحدّثنا والعيان والوجدان يشهدان لنا شهادة حقّ أنّه حيث تكون تلك السخائم والمآثم فهناك فناء الأمم وموت الهمم وفشل العزائم وتلاشى العناصر ، هناك الاستعباد والاستثمار والهلكة والبوار وتغلّب الأجانب وسيطرة العدوّ. أمّا حيث تكون الآراء مجتمعة والأهواء مؤتلفة والقلوب متآلفة والأيدي مترادفة والبصائر متناصرة والعزائم متوازرة فلا القلوب متضاغنة والصدور متشاحنة ، ولا النفوس متدابرة ، ولا الأيدي متخاذلة ، فهناك العزّ والبقاء والعافية والنعماء والقهر والقوّة والملك والثروة والكرامة والسطوة. هنالك يجعل الله لهم من مضائق الأمور فرجا ، وفي حلقات السوء مخرجا ، ويبدلهم العزّ مكان الذلّ ، والأمن مكان الخوف فيصبحوا ملوكا حكّاما وأئمّة أعلاما ، انتهى كلامه دام وجوده.
    حديث في الاتحاد
    في التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام روى عن آبائه عن زين العابدين عليهم‌السلام قال للزهري : يا زهري ، ما عليك إلّا أن تجعل المسلمين بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وصغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربك بمنزلة

    أخيك ، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم؟ وأيّ هؤلاء تحبّ أن تدعو عليه؟ وأيّ هؤلاء تحبّ أن تهتك ستره؟ وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأنّ لك فضلا على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك فقل : وقد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير منّي ، وإن كان أصغر منك فقل : قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير منّي ، وإن كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شكّ من أمره فمالي أدع يقيني بشكّي.
    وإن رأيت المسلمون يعظّمونك ويوقّرونك ويبجّلونك فقل : هذا فضل قد أخذوا به ، وإن رأيت منهم انقباضا عنك فقل : هذا لذنب أحدثته ، فإذا فعلت ذلك سهل عليك عيشك ، وكثر أصدقاؤك ، وقلّ أعداؤك ، وتفرح بما يكون من برّهم ، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم ، واعلم أنّ أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فائضا ، وكان عنهم مستغنيا متعفّفا ، وإن كان إليهم محتاجا فإنّما أهل الدنيا يعشقون الأموال فمن لم يزاحمهم فيما يعشقونه كرم عليهم.
    العمارة الثالثة عشرة
    للملك المفخّم السلطان الأعظم ناصر الدين شاه القاجاري عليه الرحمة في سنة 1282 بنظارة العلّامة الشهير شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الرازي الطهراني قدّس الله سرّه. قال العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء في شأن سامرّاء :
    ثمّ أتاها الناصر القاجاري
    وجاد بالدرهم والدينار

    وجدّد الشبّاك فيها المرتهب
    وألبس القبّة ثوبا من ذهب

    وعمّر الضريح والرواقا
    والقبّة التي سناها راقا




    والصحن والمآذن الرفيعة
    والدار ذات السدّة المنيعة

    ورمّم الروض مع الرواق
    والبهو والصحن على الإطلاق

    وشرّع الأبواب بانتظام
    لزائر المرقد والمقام

    ورمّم السور الذي قد اجتلي
    بناؤه من قبله للدنبلي

    على يدي عبد الحسين الرازي
    شيخ العراقين الفتى الممتاز

    وذا لخمس وثمانين سنه
    ومأتين بعد ألف بيّنه

    إذ حلّت القبّة فيما قد وهب
    وأرّخوا (الناصر عاقد الذهب)

    تقدّم في الجزء الأوّل اثنتي عشرة طبقة من طبقات عمارة الروضة البهيّة ، فبعد عمارة الدنابلة لم نظفر على ما يستحقّ الذكر إلى أن دخلت السنة المذكورة فأرسل السلطان ناصر الدين شاه المشار إليه مع مصارف العمارة فقام أوّلا بترميم الروضة المطهّرة وإصلاح ما غلب عليه الخراب فرصّف حول المرقد بالرخام البلوري الأخضر داخل الشباك وكذا الرواق والبهو والصحن ، وتذهيب القبّة المنوّرة وترميم بعض جوانب سور الصحن الشريف وترصيفه بالقاشاني الملوّن وغيره ، ولترصيف ما حول المرقد حكاية لطيفة بل كرامة شريفة.
    رأيت بخطّ العلّامة السيّد حسين القزويني الحائري آل صاحب الضوابط قال : حدّثني العالم الفاضل الشيخ أحمد نجل العلّامة حجّة الإسلام الشيخ عبد الحسين الطهراني المعروف ب «شيخ العراقين» قال : كنت في عنفوان شبابي مع والدي المرحوم بسرّ من رأى حين أرسله السلطان ناصر الدين شاه لتذهيب القبّة المطهّرة ، فبينما هو ناظر في هذا الأمر الخطير وكنّا في خدمته وطوع أوامره ونواهيه إذ أصبح يوما من الأيّام وقال لي : أدع فلانا وفلانا من العمّالين ، فأحضرتهما ، فقام وقمنا معه وقال للعمّالين : خذوا معكم المسحاة والمعول وسيروا معي.
    قال : فسرنا معه إلى مسجد الملوية ولا يجسر أحدنا أن يسأله عن سبب ذلك ،

    فلمّا وصل إلى المسجد توجّه نحو القبلة فأتى إلى محراب المسجد فأمر العمّالين بحفره ، فحفرا حتّى وصل المعول إلى الحجر فأمر برفع الأنقاض فخرج من تحت التراب والأنقاض رخام بلوري أخضر اللون كالمرايا ذوات الألوان في غاية اللطافة أكثرها مربع الشكل ، فأمر بقلعها وحملها إلى الحضرة المقدّسة ثمّ أمر بترصيفها حول الصناديق الثلاثة داخل الشباك فرصفوها على أحسن ما يكون كما نراها بالعيان اليوم.
    قال : قال الشيخ المذكور : كنت في ذلك الوقت حدث السن فاستحييت أن أسأل أبي أو يسأله أحد من المشاهدين بأنّك كيف علمت أنّ في هذا المكان هذه الأحجار البلورية؟ وبأيّ وجه حفرت المكان المذكور؟
    قال العلّامة السيّد حسين المذكور : قلت له : لعلّه أخبر بذلك في عالم الرؤيا أو الشهود.
    أقول : وهي إلى يومنا هذا على هيئتها الأولى مع كمال اللطافة والبهاء والزينة وهذه الأحجار البلورية الخضراء يقال لها في بلاد العجم (مرمرشيم) وهي من أحسن الأحجار وأغلاها.
    صفة بناء القبّة المطهّرة
    تقدّم في العمارة الثالثة أنّ أوّل من بنى القبّة المطهّرة معزّ الدولة أحمد بن بويه سنة 335 ، وتقدّم في العمارة الخامسة أيضا أنّ الأمير أرسلان البساسيري بناها بالجص والآجر وجعلها كبيرة شاهقة ، وتقدّم أيضا في العمارة الثانية عشرة أنّ السلطان حسين قلي خان الدنبلي كساها بالقاشاني والظاهر أنّ القاشاني كان رماديا كما ذكره العلّامة الخبير السيّد إسماعيل العقيلي الطبرسي في المجلّد الثاني من

    كتابه كفاية الموحّدين المطبوع (1) قال : ولونها كما رأيتها حين تشرّفي بسرّ من رأى قبل تذهيب القبّة كان من القاشاني الرمادي إلى أن وفّق الله تعالى السلطان ناصر الدين شاه قاجار فرصفها بصفايح الذهب وأرسل أعلم العلماء شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الطهراني قدس‌سره لإتمام هذه الخدمة العظيمة التي هي من أعظم شعائر الله وهي اليوم في علوّ شاهق واستحكام متين ، ونصّ عبارة الكفاية ما يلي :
    محمّد بن على خزاز روايت كرده است از حضرت امير المؤمنين عليه‌السلام كه آن حضرت بعد از ذكر جمله از علائم ظهور حضرت حجّت عجّل الله تعالى فرجه از بناهاى عاليه در بغداد وآمدن پادشاهان بنى شيصان كه سلاطين بنى عباسند فرمود كه : قبه خاكسترى رنگ در بيابان بنا نهاده مى شود سرخ رنگ ودر عقب اينها قائم بحق در ميان اقاليم نقاب غيبت را از روى خود برمى دارد مانند ماه درخشنده در ميان كواكب ، واحتمال قريب دارد كه مراد به اين قبه همان قبه مباركه عسكريين عليهما‌السلام باشد كه در بيابان واقع شده ؛ زيرا كه سرّ من رأى همه اطراف آن در چند فرسخى بيابانى است خالى از آبادى وآبادى خود سرّ من رأى نيز اندك است وفعلا قصبه است كه آبادى شهر بلد بلكه آبادى قراى معتبر هم ندارد.
    ورنگ آن قبّه چنانكه حقير در زمان مشرّف شدن بسرّ من رأى مشاهده كردم قبل از آنكه آن را طلا نمايند كاشى بود مانند رنگ خاكستر بنظر مى آمد آنكه شاهنشاه ايران سلطان السلاطين ناصر الدين شاه ادام الله شوكته وعدله موفّق به اين خدمت عظمى شدند از جانب خود اعلم العلماء شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الطهرانى طيّب الله روحه الزكيّه را ارسال فرمودند از براى اين
    __________________
    (1) كفاية الموحّدين 2 : 629.

    خدمت عظمى كه از اعظم شعائر الله بود وحال آن قبّه مباركه در كمال علو وارتفاع مى باشد ودر نهايت خوبى مبدل به حمرا شده است وتمام آن را از خشت طلا ساخته اند ، انتهى.
    ومكتوب على ظاهرها سورة الفتح والكتابة كالنطاق ، ومكتوب عليها اسم السلطان ناصر الدين شاه ، وكان استدارة القبّه المنوّرة ستّا وتسعين خطوة وهي أكبر قباب الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان باطن القبّة مرصّعا بالمرايا ذوات أشكال هندسيّه ونجارة بديعة مكتوب عليها أسماء الأئمّة كما تقدّم في الجزء الأوّل ، والكتابة كالنطاق غير أنّ كلّ اسم من أسمائهم في طرّة لوزيّة كرّرت مرّتين بهذه الصورة «اللهمّ صلّ على محمّد ، اللهمّ صلّ على فاطمة .. الخ» وتحت هذه الكتابة أبيات مليحة فارسيّة وتحت هذه الأبيات سورة هل أتى وإنّا أنزلنا وعمّ يتسائلون بقلم أصفر جلي عربي ، والكتابة كالنطاق ثلاث دورات ، وتاريخ ترصيع داخل القبّة سنة ستّين ومأتين وألف ، ثمّ احتاجت إلى بعض الترميمات في سنة 1361 فتصدّى لترميمها جماعة من أهل الخير والصلاح من أهل طهران فأنفقوا له ما لا يقلّ عن ثلاثمائة دينار عراقيّة فعادت كهيئتها الأولى جزاهم الله خير الجزاء.
    ولمّا فرغ من تذهيب القبّه أمر بترصيع جدران سرداب الغيبة بالمرايا ذوات الأشكال الهندسيّة وبالقاشاني الملوّن على حواشي أواوين الصحن الشريف ، فلمّا فرغ من ذلك زار السلطان ناصر الدين شاه الإمامين العسكريّين عليهما‌السلام ودرّ على العلماء والمجاورين وطلّاب العلم وعموم أهالي سامرّاء المستحقّين العطايا الجزيلة.
    وبمناسبة ذكر العلّامة الفقيد الشيخ عبد الحسين قدس‌سره وهذه الخدمة البارزة للروضة البهيّة نورد لك يسيرا من حياته الطيّبة.

    ترجمة شيخ العراقين
    ذكره تلميذه العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري في خاتمة مستدرك الوسائل (1) وقال : شيخي وأستاذي ومن إليه في العلوم الشرعيّة استنادي ، أفقه الفقهاء وأفضل العلماء ، العالم الربّاني الشيخ عبد الحسين بن علي الطهراني أسكنه الله تعالى بحبوحة جنّته ، كان نادرة الدهر وأعجوبة الزمان في الدقّة والتحقيق وجودة الفهم وسرعة الانتقال وحسن الضبط والاتقان وكثرة الحفظ في الفقه والحديث والرجال واللغة ، حامي الدين ودافع شبه الملحدين ، وجاهد في الله في محو صولة المبدعين ، أقام أعلام الشعائر في القبّات العاليات ، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات ، صاحبته زمانا طويلا إلى ان نعق بيني وبينه الغراب ، واتخذ المضجع تحت التراب في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة 1284 ، له كتاب في طبقات الرواة في جدول لطيف غير أنّه ناقص ، انتهى.
    وذكره شيخنا الأستاذ الشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة في كتابه نقباء البشر وقال : كان من أجلّ تلاميذ صاحب الجواهر ومجازا منه وله آثار خالدة في غرّة الدهر ، منها مدرسة الصدر بطهران ، ومنها مسجد أعاليا المعروف بمسجد شيخ العراقين إلى اليوم ، ومنها تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام بسامرّاء ، ومنها تعميرات في كربلاء بالروضة الحسينيّة ، ولمّا فرغ من تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام رجع إلى الكاظميّة وتوفّي فيها وحمل جثمانه الشريف إلى كربلاء ودفن في بعض حجرات الصحن الشريف قرب مدرسة الصدر في مقبرة بناها هناك من ثلث الميرزا تقي خان الملقّب بصدر أعظم.
    وله رسالة عمليّة طبعت في سنة 1285 ، وله ترجمة نجاة العباد مطبوع أيضا ،
    __________________
    (1) خاتمة مستدرك الوسائل : 397.

    وله حواش وتعليقات رسائل ، وكتب في علم الرجال طبقات الرواة.
    وخلّف من الأولاد الذكور خمسة : العلّامة الشيخ علي ، والعلّامة الشيخ أحمد ، والعلّامة الشيخ مهدي ، والشيخ شريف ، والشيخ عيسى ، ولولده الشيخ علي كتاب معراج المحبّة في رثاء الحسين مطبوع ، انتهى.
    وكان المترجم على ما في «مآثر الآثار والتكملة» جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، طيّب الأخلاق ، طويل الباع ، كثير الحفظ والاطّلاع ، نافذ الكلمة ، وكان رئيسا مطاعا يعارض السلطان ناصر الدين شاه ولا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يمسك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد ضاق المخرج على ناصر الدين شاه فأراد إجلاءه من إيران بصورة حسنة وكان يخضع له في الغاية فاستدعى منه أن يذهب إلى سامرّاء لتذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام وجعله من قبل نفسه وكيلا مطلقا في مصارف العمارة في سامرّاء وكربلا فأنعم بالقبول وعمل ما هو غرّة في جبهة الدهر.
    وحدّثني بعض الأجلّة من علماء طهران فقال : إنّ مصارف تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام كان من ثلث مال الأمير الكبير الميرزا تقي خان الملقّب بصدر أعظم ، والسبب في ذلك أنّه أوصى إلى العلّامة الحجّة الشيخ عبد الحسين شيخ العراقين بثلثه فلمّا توفّي مدّت إلى أموال المشار إليه يد عادية فأخبر بذلك الشيخ عبد الحسين فذهب إلى السلطان ناصر الدين شاه وأخبره بذلك ورغّبه بتذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام من ثلث الصدر فأنعم بالقبول وفرح بذلك فأرسله إلى سامرّاء مع مصارف التذهيب.
    نبذة من أخبار الأمير الكبير
    الميرزا تقي خان ولد في هراوة من قرى فراهان من أعمال سلطان آباد ، وكان

    أبوه طبّاخا يقال له كربلائي قربان ، فأظهر من أيّام صباه شهامة وإقداما فترقّت أحواله إلى أن تزوّج بأخت السلطان ناصر الدين شاه فصار من الطراز الأوّل من رجال الدنيا وهو أوّل من حاز السياسة والرياسة في قارّة آسيا ، وأوّل من لقّب بلقب أتابيك الأعظم ، وأوّل من بنى مدرسة دار الفنون في طهران ونشر فيها الجرائد وأنواع العلوم وأصلح ما أفسده المترفون من نظم الجنديّة والخراج والتجارة ، وفتح هرات ونواحيها وبنى في طهران وغيرها أبنية جليلة فعلا شأنه وعظم قدره وكثرت حسّاده واتهموه عند السلطان ناصر الدين شاه بأنّه يطلب الملك وكثر الواشون فعزله السلطان عن الصدارة بعد أن لقّبه بصدر أعظم ، وأرسله إلى كاشان حاكما في سنة 1268 ثمّ أدخلوه حمّاما وقتلوه بالفصد في الثاني عشر من ربيع الأوّل في السنة المذكورة.
    نبذة من أخبار ناصر الدين شاه
    ولد في شهر صفر سنة 1247 وجلس على عرش الملك في الثامن عشر من شوّال سنة 1264 وقتل يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة سنة 1313 في مشهد عبد العظيم ، قتله رجل يدعى بميرزا رضا الكرماني ، وكان عمره ستّا وستّين سنة ، وملك إحدى وأربعين سنة ، ودفن في جوار قبر الشاه عبد العظيم الحسني وعلى قبره رخام أصفر صقيل من أثمن الأحجار محفور عليه رسمه في غاية اللطافة ، وأرّخ عام قتله الشاعر المفلق السيّد مهدي البغدادي النجفي بقوله :
    إنّ دين الله أضحى باكيا
    مذ رأى ناصره في اللحد يقبر

    قال من بعدك من ينصرنا
    قال بعدي أرّخوا (نجلّي مظفّر)

    ورثاه الشعراء بمراث عديدة باللغتين العربيّة والفارسيّة منها القصيدة البليغة

    للسيّد مهدي البغدادي النجفي ، ومنها القصيدة الطويلة للخطيب البارع الشيخ كاظم ابن الحسن السبتي النجفي ، ومنها مرثية الميرزا عبد الكريم إمام جمعة تبريز على ما ذكره العلّامة البحّاثة الشيخ عبد الحسين الأميني التبريزي في كتاب شهداء الفضيلة في ترجمة إمام الجمعة المذكور التبريزي قال فيها :
    نصر الله ناصر الدين أنتم
    بيته المستقيم وهو العماد

    رفعت فيكم القواعد منه
    وحمته منه الصفاح الحداد

    حيّ ذاك اللواء يخفق نصرا
    من إله السما له أمداد

    طود عزّ الإسلام حامي حماه
    عصمة المسلمين وهو السناد

    هو رمح بكفّه وحسام
    وهو أمن لثغره وسداد

    وهو في الحرب ليث غاب
    وفي الجدب محياه كوكب وقّاد

    أيّد الله ملكه بمليك
    فيه يحمي الهدى وتحمى العباد

    وكفاه مظفّر الدين عضوا
    منه في الحرب إذ يقوم الجلاد

    وكان ناصر الدين شاه يحبّ المعارف ، وألّفت باسمه كتب كثيرة مثل مرآة البلدان ونامه دانشوران في مجلّدات ضخمة ، وناسخ التواريخ كذلك ، وسعادات ناصري ، وأسرار الحكم للسبزواري ، وخيرات حسان ، وألّف فرهاد ميرزا كتبا متعدّدة نحو زنبيل وجام وجم ، وقمقام ، وغيرها ، وألّفوا في مآثره كتبا مطوّلة ممتعة منها مجلّدان ضخمان من مجلّدات ناسخ التواريخ ، ومطلع الشمس ، وسفر نامه ناصري ، وكتاب منتظم ناصري ، وكتاب مآثر الآثار كلّها منتشرة بفضل المطابع.
    وقال العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : كان السلطان ناصر الدين شاه أديبا شاعرا له ديوان شعر بالفارسيّة ، وكان خطّه في غاية الجودة ، وفي مكتبة طهران نسخة من ديوانه مخطوطة في غاية الجودة مذهّبة مجدولة ، كتبها محمّد حسين الشيرازي في جمادى الأولى سنة 1272 ، وقد صعد مرّة مع شاعره

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:42 pm

    إلى سطح داره ليرى هلال شوّال فرأى امرأة بارعة الجمال ، فقال :
    * در شب عيد آن پرى رخ بى نقاب آمد برون*
    ثمّ طلب من شاعره إجازته فقال بلا تأمّل :
    * ماه مى جستند مردم آفتاب آمد برون*
    ومرّ يوما على صفّار فرأى غلاما بديع الجمال على وجهه غبار الفحم ، فقال :
    * بدور عارض ماهش ببين كه گرد ذغال است*
    ثمّ طلب من شاعره إجازته ، فقال بلا تأمّل :
    * صداى مس بفلك مى رود كه ماه گرفته است*
    وفيه من المناسبة ما لا يخفى لأنّ عادة الناس يضربون بالعود على النحاس حين انخساف القمر.
    وفي المنتظم الناصري (1) ما ترجمته : وفي سنة 1287 في شهر رمضان في الثالث منه ورد السلطان ناصر الدين شاه زائرا النجف وخرج يوم العشرين منه عائدا إلى كربلا وأنعم على المجاورين للروضة المطهّرة ، وقدّم لأعتاب تلك الحضرة المقدّسة فصّ ألماس مكتوب عليه سورة الملك على يد متولّي الحضرة الشريفة وارتجل بيتين عند دخوله بباب الروضة الحيدريّة فأنشأ :
    بر درگه تو اى شاهد معبود صفات
    اسكندر ومن صرف نموديم اوقات

    بر همّت من كجا رسد همّت او
    من خاك درت جستم واو آب حيات

    ومن شعر السلطان ناصر الدين شاه مرثيته في القاسم بن الحسن عليهما‌السلام على ما ذكره الخياباني في المجلّد الثاني من وقايع الأيّام الصفحة 528 التي مطلعها :
    چو اعدا ديد قاسم را كه در گردن كفن دارد
    همى گفت از ره تحسين عجب وجه حسن دارد

    __________________
    (1) المنتظم الناصري 3 : 315.

    وقال البحّاثة الخبير الشيخ جعفر آل محبوبة في ماضي النجف وحاضرها (1) : وفي سنة 1287 يوم الأربعاء ثالث عشر شهر رمضان تشرّف السلطان ناصر الدين القاجاري مع عياله وخدمه بالحرم العلوي واحتفلت الدولة العثمانيّة احتفالا عظيما وبقي في النجف سبعة أيّام وكان مقرّه خارج البلدة فقد ضرب أخبيته بالقرب من مقام المهدي عليه‌السلام وأنعم على كافّة الطبقات والمجاورين بالإنعامات الملوكيّة خصوصا العلماء ، وأهدى للعلّامة الفقيه السيّد علي آل بحر العلوم صاحب كتاب «البرهان القاطع» ألف أشرفي ذهبا وأتحفه بتحفة مرصّعة بالجواهر وأرسل إليه بعد عوده إلى مقرّ سلطنته عصا وعبا ، وقد مدح الشاعر الكبير السيّد صالح القزويني البغدادي العلّامة السيّد علي المذكور بأبيات تعرّض فيها للهديّة المذكورة يقول فيها :
    أيدي (عليّ) ناصر الدين لم له
    عصا وعبا لله أهدى تقرّبا

    رأى يده البيضا فأهدى له العصا
    ومذ كان من أهل العبا أرسل العبا

    فكل لعمري ناصر الدين منهما
    ففي علمه هذا وذلك بالظبا

    وقد أرّخ بعض الشعراء زيارته هذه ، منهم صاحب فصوص اليواقيت ، فقال :
    ملك الفرس ناصر الدين لمّا
    قد سعى محرما إلى العتبات

    برجال أعزّة وجنود
    خافقات الأعلام والرايات

    ونساء ما أبرزت قطّ يوما
    من خدور وخرد خفرات

    ليزوروا الأطهار من أهل بيت
    المصطفى بالعراق والطاهرات

    ويحوزوا سعادة الدين والد
    نيا ينالوا شرائف الدرجات

    مخلص الحبّ في الولاء مليك
    مثله ما أتى ولا هو آت

    __________________
    (1) ماضي النجف وحاضرها : 153.


    شكّر الله سعيه حين وافى
    مستجيرا من طارق الحادثات

    وأتاه النداء أهلا فأرّخ
    «بمليك سعى إلى العتبات»

    وقيل عن لسانه هذه الكلمة وهي تاريخ لعام زيارته هذه «تشرّفنا بالزيارة».
    وقال العلّامة الكبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : كان السلطان ناصر الدين شاه مكرما للعلماء والأشراف والأدباء ، ويحبّ المعارف ، وربّما كانت تقع بينه وبين بعض العلماء منازعات لمداخلتهم في أمور المملكة فيخرجه إلى خارجها بصورة جميلة بأن يقول له : صار لك مدّة لم تحجّ أو لم تزر المشاهد المشرّفة بالعراق فيعطيه نفقة السفر ، فإذا خرج لا يعود إلّا بإذنه. وله مع العلماء المخالفين لما ينبغي لهم نوادر وحكايات ظريفة :
    منها أنّه زار بعض العلماء فأجلسه العالم في المكتبة ودخل عليه وعلم الشاه أنّ ذلك لأجل أن لا يقوم للشاه ولينظر إلى مكتبته العظيمة ، فلمّا دخل قاله له الشاه : ما هذه الكتب؟ فجعل يعدّد له أصنافها ، فقال الشاه : أما فيها كتاب أدب؟ فخجل العالم.
    وزار بعضهم مرّة فرأى الدار البرّانيّة في حالة رثّة شعار الزهد وقد علم أنّ الدار الداخلانيّة بخلاف ذلك ، فقال له : لو وافق الظاهر الباطن لكان جيّدا.
    وأرسل مرّة في شهر رمضان إلى جماعة من العلماء ليرسل له كلّ واحد منهم من فطوره ليتبرّك بأكله وكلّ منهم لا يعلم أنّه أرسل إلى غيره وقد وضع جواسيس يخبرونه بطعام كلّ منهم الحقيقي ، فمنهم من أرسل له من طعامه الواقعي جيّدا أو رديئا ، ومنهم من ترك الجيّد وأرسل له طعاما رديّا إظهارا للزهد في الدنيا فعلم بذلك المخلص منهم من المرائي.
    وكان هو أوّل من أسّس في إيران إدارة الضرب وإدارة البرق والبريد ، ومعمل البنادق ، ومجمع الصنائع ، ومدرسة دار الفنون ، ونظم دوائر الجند ، ورتّب الوزارة ،

    وأذن بنشر الصحف لكن لم يمنحها الحرّيّة بنشريّاتها ، وأنشأ بيمارستانات أي مستشفيات لكن الجنديّة ، وإدارات الحكومة الداخليّة والخارجيّة كانت في حالة منحطّة جدّا وكانت الجنديّة اسما بلا مسمّى ، والاستبداد في الأحكام والجور ضارب أطنابه ، والصدر الأعظم هو المتصرّف في جميع أمور المملكة بلا معارض ولا مراقب ، والسلطان لم يكن متمكّنا من تنظيمها أكثر من ذلك ، وأعطى امتياز حصر التنباك إلى دولة انكلترة مقابل مبلغ من المال غير أنّه لم يتمكّن من إجراء هذه المعاملة كما سيأتي تفصيل ذلك في العمارة الرابعة عشرة.
    وتقدّم أنّ من آثاره الباقية تذهيب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام كما أنّ تذهيب أيوان المشهد الرضوي وتذهيب قبّه السيّد عبد العظيم الحسني المدفون في الري منها ، وكذا له آثار في صحن النجف وكربلا والكاظميين وقم وغيرها ، وكان كثير البذل والعطاء وينفق الألوف لمجالس التعزية التي تقام لذكرى سيّد الشهداء الإمام السبط الحسين بن علي عليه‌السلام في أيّام المحرّم.
    أهمّ ما وقع في عصره
    ذكر العلّامة السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة أنّه كانت عادة الملوك القاجاريّة أن يكون وليّ عهد السلطنة حاكما على تبريز مقيما بها ، فلمّا توفّي محمّد شاه كان ولده ناصر الدين في تبريز فجلس على سرير الملك في التاريخ المتقدّم ، وفي 22 ذي القعدة ورد طهران وكان قد صحبه ميرزا تقي خان وزير نظام فجعله الصدر الأعظم ولقّبه ب «أتابك أعظم أمير نظام» وكان الحاج ميرزا آغاسي الصدر الأعظم لوالده محمّد شاه قد تحصّن بعد وفاة محمّد شاه بمشهد السيّد عبد العظيم قرب طهران خوفا من أعدائه وتولّت إدارة المملكة «مهد عليا» والدة ناصر الدين شاه حتّى دخل طهران.

    وكان الاختلال قد ساد في داخليّة إيران ونار الفتن مستعرة في نواحيها وأعظمها فتنة «سالار بن اللهيار خان» في خراسان فإنّ اللهيار خان آصف الدولة كان الصدر الأعظم على عهد فتحعلي شاه وفي عهد محمّد شاه جعل حاكما لخراسان فجلبه ميرزا آغاسي وزير محمّد شاه إلى طهران سنة 1263 فحشد ولده سالار بن اللهيار القبائل واستولى على خراسان فوجّه محمّد شاه البرنس حمزة ميرزا لإخماد الثورة فلم يتقدّم واضطرّ إلى التحصّن في القلاع المتاخمة للبلد ثمّ توفّي محمّد شاه ففرّ حمزة ميرزا بمساعدة يار محمّد خان الأفغاني إلى هراة وعظم خطب سالار.
    فلمّا ملك ناصر الدين أنفذ إلى سالار سلطان مراد أخاه حمزة ميرزا بجيش كثيف وقاومه سالار مرارا وضجر الأهالي فاضطرّوا إلى التسليم فدخل سلطان مراد البلد وقبض على سالار وقتله وأخذ أمير نظام في توطين البلاد وتأمين السبل وبدت منه الكفاءة التامّة في تنظيم الجند وإصلاح ماليّة الدولة فزادت الواردات على الصادرات بعد أن كانت أقلّ منها أيّام آقاسي ، ونشر العلوم الجديدة وزاد في أبهّة الدولة وتقدّمت إيران في عهده خطوات إلى التمدّن الحديث ولكن الأعداء سعوا به عند الشاه بأنّه يطلب الملك لنفسه فعزله ونفاه إلى قاشان ثمّ قتله بالفصد سنة 1268 واستوزر اعتماد الدولة ميرزا آقا خان النوري وهو من بيت رفيع ، وكان وزير الحربيّة.
    وفي سنة 1273 أرسل ناصر الدين اعتماد الدولة إلى هراة فحاصرها وفتحها فغاظ ذلك انكلتره لأنّها كانت تتظاهر بمساعدة الأفغان جريا على سياستها المعروفة فأرسلت بوارجها الحربيّة على ساحل خليج فارس وملكت جزيرة خارك وبوشهر فقاومها مهر علي خان قائد الجنود في فارس وغلب عليها في السواحل ثمّ ملكت المحمّرة وعقد الصلح مع سفيرها في باريس سفير الدولة الإيرانيّة وتخلّت إيران عن هراة وسحبت انكلترا جنودها من بوشهر وخارك والمحمّرة.

    وفي سنة 1275 عزل الشاه اعتماد الدولة عن الصدارة وارتأى أن لا يمنح أحدا رتبة الصدارة بل يوزع إدارة الشؤون الملكيّة على ستّة وزراء : الداخليّة والخارجيّة والحربيّة والماليّة والعدليّة والوظائف.
    وفي سنة 1276 استولى التركمان على مرو وعاثوا في أطراف خراسان وضربوا الضرائب على البلاد فتجهّز لتدميرهم حشمة الدولة حاكم خراسان وحمى وطيس الحرب بينهم وحدث النفاق في قوّاده فانحلّ نظام جيشه وانتصر عليه التركمان وعاد بالفشل واليأس من النصرة عليهم بعد ذلك.
    وفي سنة 1281 ولي الصدارة محمّد خان القاجاري ولقّبه ب «سپه سالار أعظم» ثمّ عزله.
    وفي سنة 1287 زار مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام بالعراق فاحتلفت به الدولة العثمانيّة وعظّمته كثيرا وسمحت له بأن يستصحب معه عددا من الجنود والبنادق وبعض المدافع ، وكان الوالي على بغداد من قبلها مدحت باشا الشهير فاستقبله إلى الحدود وكان في صحبته دائما ، والتقى به ميرزا حسين خان مشير الدولة القزويني سفير الدولة الإيرانيّة في اسلامبول فكان في خدمته بالعراق فأتى به إلى طهران وفوّض إليه وزارة الوظائف والأوقاف ووزارة العدليّة ولقّبه أوّلا ب «سبه سالار» ثمّ ب «صدر أعظم» ولمّا ورد كربلا تلقّاه علماؤها وفيهم الشيخ زين العابدين المازندراني قدس‌سره المجتهد الشهير إلى المسيّب ووقفوا له في الطريق فسلّم عليهم وسار متوجّها إلى كربلاء ، ولمّا ورد النجف تلقّاه علماؤها بعضهم إلى خان الحمّاد منتصف الطريق ، وبعضهم إلى خان المصلّى فكان منه معهم ما كان مع علماء كربلا.
    فلمّا دخل النجف الأشرف زاره العلماء كلّهم إلّا الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره فإنّه لم يخرج للقائه ولا زاره في النجف وكان في ذلك الوقت أوائل شهرته فأرسل إليه مع حسين خان مشير الدولة يسأله عن سبب تأخّره ويطلب منه تدارك ما فات ،

    فأجابه : أنا رجل درويش مالي وللملوك ، فقال : لا يمكن إلّا أن يراك الشاه ، فقال : لا أذهب إليه ، فقال له الوزير : هل تريد أن يحضر الشاه لزيارتك؟ قال : هذا ممّا لا يمكن ، فلمّا ألحّ عليه قال : أجتمع به في الحضرة الشريفة فاجتمعا هناك وصافحه الشاه وقال : زر حتّى نزور بزيارتك ، ففعل وافترقا ، ثمّ أرسل الشاه جوائز للعلماء ومنهم الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره فكلّهم قبل جائزته إلّا هو فإنّه لم يقبلها فكان فعله هذا سببا لعظمته في عين الشاه وأعين الناس وكان السلطان ناصر الدين يقول : ما رأيت الميرزا محمّد حسن الشيرازي إلّا وهو مظهر الحقيقة ومثله ينبغي أن يكون إمام الأئمّة ونائب الأئمّة عليهم‌السلام.
    وطلب مدحت باشا رؤية الخزانة للمشهد الشريف الغروي ففتحت له ورأى ما فيها من الجواهر والنفائس.
    وفي سنة 1290 رحل الشاه إلى أروبا وبعد رجوعه عزل الصدر الأعظم وقلّده وزارة الخارجيّة.
    وفي سنة 1295 رحل ثانيا إلى أروبا وألّف رحلة بالفارسيّة مطوّلة ذكر جميع ما جرى له وهي مطبوعة.
    وفي سنة 1297 خرج الشيخ عبيد الله الكردي في حدود كردستان وتفاقم أمره فتوجّه إلى حسين خان مشير الدولة من طريق آذربيجان وحاربه حتّى رضخ لأوامر الشاه.
    وفي سنة 1301 فوّض الشاه رتبة الصدارة العظمى إلى شيخ الوزراء مستوفي الممالك الميرزا يوسف الاشتياني وكان غيورا على شؤون الملّة والدولة ودامت صدارته زهاء سنتين وكان ظلّ السلطان ابن ناصر الدين شاه حاكم أصبهان وقد نفذت كلمته وقويت شوكته وامتدّ حكمه على غالب أقطار المملكة وكان جبّارا.
    وفي سنة 1302 قصد الشاه زيارة مشهد الرضا عليه‌السلام في خراسان وكان في

    خدمته ميرزا إبراهيم خان أمين السلطان فتوفّي في الطريق فمنح الشاه وساماته الدوليّة وهي 43 وساما لولده ميرزا علي أصغر خان أمين الملك ولقّبه ب «أمين السلطان».
    وفي سنة 1303 توفّي ميرزا يوسف الصدر الأعظم وتمكّن أمين السلطان من خطير الأمور وحقيرها.
    وفي سنة 106 رحل ثالثا إلى أوربا.
    وفي سنة 1310 تقلّد أمين السلطان الصدارة العظمى.
    قتل ناصر الدين شاه
    وفي سنة 1313 يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة زار ناصر الدين شاه على عادته مشهد السيّد عبد العظيم الحسني فتقدّم اليه داخل المشهد رجل من البهائيّة عرف بميرزا رضا الكرماني وأطلق عليه مسدّسه فأصاب فؤاده ومات من فوره. لأنّ ظهور مذهب البابيّة كان في عصره فأمر الشاه بقتل مخترع مذهبهم علي محمّد الشيرازي الملقّب ب «الباب» بعد ما أفتى العلماء بقتله وأمر بقتل قرّة العين التي أتبعته على ذلك وكانت من مثيري تلك الفتنة وحنقوا على الشاه حتّى قتلوه وقبض على قاتله ثمّ قتل ، وأخفى وزيره موته خوفا من حدوث الفتنة لو عرف الناس وفاته فأخرجه من المشهد وأركبه في العرّبة بصورة الأحياء وأدخله منزله في البلاط وجعل يحضر له الأطبّاء ومنعهم من الخروج وأبرق لوقته إلى وليّ عهده مظفّر الدين في تبريز على سرير الملك في تبريز ثاني يوم قتل والده وأبرق بذلك إلى طهران ، فاجتمع الناس في مسجد الشاه وقرأ عليهم ميرزا علي أصغر خان صورة البرقيّة فعرفوا موته.

    ثمّ أخذ في تجهيز الشاه بعد ما ختم جميع بيت القصر واحتاط على ما فيها. ويقال : إنّه لمّا أرادوا تغسيله احتاجوا إلى ستّارة يضعونها على باب الغرفة التي غسل فيها فلم يجدوا لأنّ غرف القصر كانت كلّها مختومة فأخذوا ستّارة باب المطبخ ووضعوها على باب الغرفة ودفنه في غرفة خاصّة قرب مرقد السيّد عبد العظيم ووضعت على قبره صخرة كبيرة من الرخام منحوت عليها مثاله.
    وأعقب ناصر الدين سبعة عشر ولدا ذكرا وعشرين بنتا ، ومن مشاهير أولاده ظلّ السلطان مسعود ميرزا ومظفّر الدين شاه وليّ عهده ونائب السلطنة كامران ميرزا.
    وممّا وقع في عصره المسألة الدخانيّة التي ستقرأ قصّتها ،
    [السيّد جمال الدين الأفغاني]
    وكان ممّن عارض السلطان ناصر الدين شاه وشدّد النكير عليه في إعطائه امتياز التنباك لا نكلترا السيّد جمال الدين الأفغاني فأخرجه ناصر الدين شاه من ايران ، فلمّا وصل إلى البصرة في سنة 1308 كتب إلى سيّدنا الإمام الكبير الشيرازي قدس‌سره كتابا بليغا يستفزّه في ذلك ويستصرخه ويستنجد به بأنواع العبارات المهيّجة والمؤثّرة في النفوس ، وقد شاع هذا الكتاب في وقته ووصلت نسخته إلى النجف.
    قال العلّامة السيّد محسن العاملي : كنت في النجف وقرأناه وقرأه الناس وقد نشرت صورة الكتاب في بعض أعداد العرفان الصيداويّة ولكن الإمام الشيرازي لم يظهر منه شيء في هذا الباب من أجل هذا الكتاب ، وهذه صورته :
    كتاب السيّد جمال الدين الأفغاني لسيّدنا الإمام الكبير الشيرازي رحمه‌الله
    بسم الله الرحمن الرحيم ، حقّا أقول أنّ هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمّديّة أينما وجدت وحيثما حلّت ، وضراعة تعرضها الأمّة على نفوس زكيّة

    تحقّقت شؤونها كيفما نشأت ، وفي أيّ قطر نبعت ، ألا وهم العلماء ، فأحببت عرضه على الكلّ وإن كان عنوانه خاصّا.
    حبر الأمّة ، وبارقة أنوار الأئمّة ، دعامة عرش الدين ، واللسان الناطق عن الشرع المبين ، الحاج ميرزا محمّد حسن الشيرازي صان الله به حوزة الإسلام ، وردّ به كيد الزنادقة اللئام ، ولقد خصّك الله بالنيابة العظمى عن الحجّة الكبرى ، واختارك من العصابة الحقّة وجعل بيدك أزمّة سياسة الأمّة بالشريعة الغرّاء ، وحراسة حقوقها بها ، وصيانة قلوبها عن الزيغ والارتياب فيها ، وأحال إليك من بين الأنام وأنت وارث الأنبياء مهامّ أمور تسعد بها الملّة في دارها الدنيا ، وتحظى بها في العقبى ، ووضع لك أريكة الرياسة العامّة على الأفئدة والنهى ، إقامة لدعامة العدل ، وإنارة لحجّة الهدى ، وكتب عليك بما أولاك به من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من مضى ، وإنّ الأمّه من قاصيها ودانيها ، وحاضرها وباديها ، ووضيعها وعاليها ، قد أذعنت لك بهذه الرياسة السامية الربّانيّة جاثية على الركب ، خارة على الأذقان ، تطمح نفوسها إليك في كلّ حادثة تعروها ، وتطل بصائرها إليك في كلّ مصيبة تمسّها ، وهي ترى أنّ خيرها وسعدها منك ، وأنّ فوزها ونجاتها بك ، وإنّ أمنها وأمانيّها فيك ، فإذا لمح منك غضّ نظر ، أو نأيت بجانبك لحظة ، وأهملتها وشأنها لمحة ، ارتجفت أفئدتها ، وانتكثت عقائدها ، وزاغت أبصارها ، وانهدّت دعائم إيمانها.
    نعم ، لا برهان للامّه فيما دانوا إلّا الاستقامة الخاصّة فيما أمروا ، فإن وهن هؤلاء في فريضة أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر اعتور أولئك الظنون والأوهام ، ونكص كلّ على عقبه مارقا عن الدين القويم ، حائدا عن الصراط المستقيم.
    وبعد هذا وذاك وذلك أقول : إنّ الأمّة الإيرانيّة بما دهمها من عراقيل الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين وتطاول الأجانب على حقوق

    المسلمين ، ووجوم الحجّة الحقّ ـ إيّاك أعني ـ عن القيام بناصرها وهو حامل الأمانة ، والمسئول عنها يوم القيامة ، قد طارت نفوسها شعاعا ، وطاشت عقولها ، وتاهت أفكارها ، ووقفت موقف الحيرة ، وهي بين إنكار وإذعان ، وجحود وإيقان ، لا تهدي سبيلا ، وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس ضالّة عن رشدها لا تجد إليه دليلا ، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها ، وسدّ دونها أبواب رجائها ، وكادت تختار بأسا منها الضلالة على الهدى ، وتعرض عن محجّة الحقّ وتتبع الهوى.
    وإنّ آحاد الأمّة لا يزالون يتسائلون شاخصة أبصارهم عن أسباب قضت على حجّة الإسلام ـ إيّاك أعني ـ بالسبات والسكوت وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه واضطرّه إلى ترك الشريعة وأهلها إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيف ما يريدون ، ويحكمون فيها ما يشاؤون حتّى أنّ جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذّبوا وظنّوا في الحجّة ظنّ السوء وحسبها أنّ الأمر أحبولة الحذق وأسطورة المذق ، وذلك لأنّها ترى وهو الواقع أنّ لك الكلمة الجامعة والحجّة الساطعة وأنّ أمرك في الكلّ نافذ ، وليس لحكمك في الأمّة منابذ ، وإنّك لو أردت أن تجمع آحاد الأمّة بكلمة منك وهي كلمة تنبثق من كيان الحقّ إلى صدور أهله لترهب به عدوّ الله وعدوّهم وتكفّ عنهم شرّ الزنادقة وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء وتنشلهم من ضنك العيش إلى ما هو أرغد وأهنأ فيصير الدين بأهله منيعا حريزا ، والإسلام بحجّته رفيع المقام عزيزا.
    هذا هو الحقّ ، إنّك رأس العصابة الحقّة ، وإنّك الروح الساري في آحاد الأمّة فلا يقوم لهم قائم إلّا بك ، ولا تجتمع كلمتهم إلّا عليك ، لو قمت بالحقّ نهضوا جميعا ولهم الكلمة العليا ، ولو قعدت تثبّطوا وصارت كلمتهم هي السفلى ، ولربّما كان هذا السير والدوران حينما غضّ حبر الأمّة طرفه عن شؤونهم وتركهم هملا بلا راع وهمجا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرا فيما ارتابوا خصوصا لمّا رأوا أنّ حجّة

    الإسلام قد ألفى فيما أطبقت الأمّة خاصّتها وعامّتها على وجوبه ، وأجمعت على خطر الاتقاء فيه خشية لغوبه ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامّة ، ومن يكون أليق بهذه المزايا وأحرى بها ممّن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر وجعله برهانا لدينه وحجّة على البشر؟
    أيّها الحبر الأعظم ، إنّ الملك قد وهنت مريرته فساءت سريرته وضعفت مشاعره فقبحت سيرته فعجز عن سياسة البلاد وإدارة مصالح العباد فجعل زمام الأمور كلّيّها وجزئيّها بيد أثيم غشوم ثمّ بعد ذلك يسبّ الأنبياء في المحافل جهرا ولا يقيم لشريعة الله أمرا ، ولا يرى لرؤساء الدين وقرا ، يشتم العلماء ويقذف الأتقياء ويهين السادة الكرام ويعامل الوعّاظ معاملة اللئام ، وإنّه بعد رجوعه من البلاد الأفرنجيّة قد خلع العذار وتجاهر ... وموالاة الكفّار ومعاداة الأبرار ، هذه هي أفعاله الخاصّة في نفسه.
    ثمّ إنّه باع الجزء الأعظم من البلاد الإيرانيّة ومنافعها لأعداء الدين المعادن والسبل الموصلة إليها والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد والخانات التي تبنى على جوانب تلك المسالك الشاسعة التي تنشعب فروعها إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من البساتين والحقول نهر كارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما يستتبعها من الجنائن والمروج والجادة من الأهواز إلى طهران وما على أطرافها من العمران والفنادق والبساتين والحقول والتنباك وما يتبعه من المراكز ومحلّات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنّى وجد وحيث نبت ، وحكر العنب للخمور وما يستلزمه من الحوانيت والمعامل والمصانع في جميع أقطار البلاد والصابون والشمع والسكّر ولوازمها من المعامل والبنك وما أدراك ما البنك؟ وهو إعطاء الأهالي كليّة بيد عدوّ الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه إيّاهم وتسليمهم له بالرياسة والسلطان.

    ثمّ إنّ الخائن البليد أراد أن يرضي العامّة بواهي برهانه فحبق قائلا أنّ هذه معاهدات زمانيّة ومقاولات وقتيّة لا تطول مدّتها أزيد من مائة سنة! يا لله من هذا البرهان الذي سوّله خرق الخائنين ، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسيّة حقّا لسكوتها لو سكتت مرداب رشت وأنهر طبرستان والجادة من أنزلي إلى خراسان وما يتعلّق بها من الحدود والفنادق والحقول ولكن الدولة الروسيّة شمخت بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهديّة وهي عازمة على استملاك خراسان والاستيلاء على آذربيجان ومازندران إن لم تنحلّ هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه المقاولات القاضية بتسليم المملكة تماما بيد ذلك العدو ، هذه هي النتيجة الأولى لخيانة هذا الأخرق.
    وبالجملة إنّ هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانيّة على الدول ببيع المزاد وإنّه يبيع ممالك الإسلام ودور محمّد وآله عليهم‌السلام للأجانب ولكنّه لخسّة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلّا بقيمة زهيدة ودراهم بخسة معدودة. نعم هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه ، وإنّك ـ أيّها الحجّة ـ إن لم تقم بناصر هذه الأمّة ولم تجمع كلمتهم ولم تنزع السلطة بقوّة الشرع من يد هذا الأثيم لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب يحكمون يها ما يشاؤون ويفعلون فيها ما يريدون ، وإذا فاتتك هذه الفرصة ـ أيّها الحبر ـ ووقع الأمر وأنت حيّ لما أبقيت ذكرا جميلا بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ ، وأنت تعلم أنّ علماء إيران كافّة والعامّة بأجمعهم ينتظرون منك وقد حرجت صدورهم وضاقت قلوبهم كلمة واحدة ويرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ، ومن خصّه الله بقوّة كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى.
    ثمّ أقول للحجّة قول خبير بصير أنّ الدولة العثمانيّة تتبجّح بنهضتك على هذا الأمر وتساعدك عليه لأنّها تعلم مداخلة الأفرنج في الأقطار الإيرانيّة واستيلاءها

    عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة وأنّ وزراء إيران وأمراءها كلّهم يبتهجون لكلمة تنبض في هذا الشأن لأنّهم بأجمعهم يعافون هذه المستحدثات طبعا ، ويسخطون من هذه المقاولات جبلّة ، ويجدون بنهضتك مجالا لإبطالها وفرصة لكفّ شرّ الشره الذي رضي بها وقضى عليها.
    ثمّ إنّ العلماء وإن كان كلّ صدع بالحقّ وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء أعماله ولكن ردعهم للزور وزجرهم عن الخيانة ونهرهم المجرمين ما قرّت كسلسلة المعدّات قرارا ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد ، وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرياسة وتساويهم في الرتب غالبا عند العامّة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقا للآخر ولا يقع بينهم تأثير الانجذاب حتّى تتحقّق هيأة وحدانيّة وقوّة جمعة يمكن بها دفع الشرّ وصيانة الحوزة كلّ يدور على محوره وكلّ يردع الزور وهو في مركزه ، هذا هو سبب الضعف عن المقاومة ، وهذا هو سبب قوّة المنكر والبغي.
    وأنت وحدك ـ أيّها الحجّة ـ بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علّة فعّالة في نفوسهم وقوّة جامعة لقلوبهم ، وبك تنتظم القوى المتفرّقة الشاردة ، وتلتئم القدر المتشتّتة الشاذّة ، وإنّ كلمة تأتي منك بوحدانيّة تامّة يحقّ لها أن تدفع الشرّ المحدق بالبلاد وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام فالكلّ منك وبك وإليك وأنت المسئول عن الكلّ عند الله وعند الناس.
    ثمّ أقول : إنّ العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا من ذلك شدائد ما سبق لها منذ قرون ، وتحمّلوا لصيانة بلاد المسلمين عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كلّ هوان وكلّ صغار وكلّ فضيحة ، ولا شكّ أنّ حبر الأمّه قد سمع ما فعله أدلّاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم الفاضل الصالح الواعظ الحاج ملّا فيض الله الدربندي وستسمع قريبا ما فعله الطغاة الجفاة بالعالم المجتهد

    النقي البار الحاج السيّد علي أكبر الشيرازي ، وستحيط علما بما فعله بحماة الملّة والأمّة من قتل وكي وضرب وحبس ومن جملتهم الشاب الصالح الميرزا محمّد رضا الكرماني الذي قتله ذلك .. في الحبس والفاضل الكامل البار الحاج سيّاح ، والفاضل الأديب النجيب الميرزا محمّد علي خان ، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم.
    وأمّا قصّتي وما فعله ذلك الظلوم معي فممّا يفتّت أكباد أهل الإيمان ، ويقطع قلوب ذوي الإيقان ، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعبدة الأوثان ، إنّ ذلك .. أمر بسحبي وأنا متحصّن بحضرة عبد العظيم عليه‌السلام في شدّة المرض على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصوّر مثلها في الشناعة ، هذا كلّه بعد النهب والغارة ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثمّ حملني زبانيته الأوغاد ـ وأنا مريض ـ على برذون مسلسلا وفي فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريريّة وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين وصحبني جمع من الشرطة إلى بغداد ، ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعّدني إلى البصرة علما منه أنّه لو تركني ونفسي لأتيتك ـ أيّها الحبر ـ وبثثت لك شأنه وشأن الأمّة ، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شرّ هذا ... ودعوتك ـ أيّها الحجّة ـ إلى عون الدين وحملتك على إغاثة المسلمين ، وكان على يقين أنّي لو اجتمعت بك لا يمكنه أن يبقى على دست الوزارة المؤسّسة على خراب البلاد وإهلاك العباد ، وإعلاء كلمة الكفر.
    وممّا زاد لوما على لومه ودناءة على دناءته أنّه دفعا لثرثرة العامّة وتسكيتا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة الدين وحميّة الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام وحقوق الأهالي بقدر الطاقة والإمكان إلى الطائفة البابيّة كما أشاع بين الناس أوّلا بأنّي مجنون ، وا إسلاماه! ما هذا الضعف؟ ما هذا الوهن؟ كيف أمكن أنّ صعلوكا دنيّ النسب ووغدا خسيس الحسب قدر أن يبيع المسلمين

    وبلادهم بثمن بخس دراهم معدودة ويزدري العلماء ويهين السلالة المصطفويّة ويبهت السادة المرتضويّة بالبهتان العظيم ، ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث شفاء لقلوب المؤمنين ، وانتقاما لآل سيّد المرسلين عليه‌السلام.
    ثمّ لمّا رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة أمسكت عن بثّ الشكوى ، ولمّا قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السيّد علي أكبر إلى البصرة طلب منّي إلى الحبر الأعظم كتابا أبثّ فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث فبادرت إليه امتثالا وعلمت أنّ الله تعالى سيحدث بيدك أمرا ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
    يقول الأمير شكيب أرسلان في تعليقه على حاضر العالم الإسلامي : فكان هذا النداء من السيّد الحسيني من أعظم أسباب الفتوى التي أفتاها ذلك الإمام ببطلان هذا الامتياز واضطرّت الحكومة الفارسيّة خوف انتفاض العامّة إلى إلغائه ، انتهى.
    وقال العلّامة السيّد محسن العاملي : ولكن الحقيقة أنّ الإمام الشيرازي أفتى بتحريم تدخين التنباك حينما بلغه إعطاء الامتياز إلى الدولة البريطانيّة قبل أن يرسل له السيّد جمال الدين هذا الكتاب ولم يكن إفتاؤه بتأثير كتاب السيّد جمال الدين ، ولو لم يكن له مؤثر ديني من نفسه عظيم لم يؤثّر فيه كتاب جمال الدين ولكن الناس اعتادوا إذا مالوا إلى شخص أن يسندوا كلّ وقائع العالم إليه.
    نبذة من حياة السيّد جمال الدين الأفغاني
    وبمناسبة ذكر جمال الدين نورد لك يسيرا من حياته الطيّبة كي تعلم أنّه من أعيان الشيعة ، وقد اشتهر بالسيّد جمال الدين الأفغاني ويقال له أيضا محمّد جمال الدين ابن السيّد صفدر الحسيني الهمداني الأسد آبادي.
    ولد في شعبان سنة 1254 في أسد آباد من توابع همدان ، وتوفّي في شوّال سنة

    1314 وقيل 1315 في استانبول ، وصلّي عليه في جامع التشوبقيّة ودفن في مقبرة شيخار مزاد لغي أي مقبرة المشايخ التي تختصّ بقبور الأولياء والعلماء على مقربة من الجامع المذكور.
    والأسد آبادي نسبة إلى أسد آباد قرية على بعد سبعة فراسخ من مدينة همدان إلى جهة العراق بين همدان وكرمانشاه ، فيها نحو ثلاثمائة بيت وعدد سكّانها نحو أربعة آلاف نسمة.
    سبب وفاته :
    اختلف في سبب وفاته على أقوال لا يرجع أكثرها إلى مستند.
    قال السيّد صالح الشهرستاني في مجلّة العرفان نقلا عن تلميذ السيّد جمال وهو صادق خان البروجردي قال : لمّا وصلت إلى الآستانة علمت أنّه مات مسموما في فنجان قهوة.
    والشيخ مصطفى عبد الرزاق المصري يقول : إنّه لقّح في شفته بمادة سامّة سبّبت له حالة تشبه السرطان.
    ويقول الأمير شكيب أرسلان فيما علّقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي أنّه ظهر في ظهره حنكة مرض السرطان فأمر السلطان عبد الحميد كبير جرّاحي القصر أن يجري له عمليّة جراحيّة فلم تنجح ومات بعد أيّام قلائل.
    وقيل : إنّ العمليّة لم تعمل على الوجه اللازم لها عمدا.
    وقيل : مات حتف أنفه.
    هو إيرانيّ شيعيّ لا أفغانيّ سنّي :
    أمّا نسبته إلى الأفغان واشتهاره بالأفغاني فمن المشهورات التي لا أصل لها ،

    وربّ مشهور لا أصل له ، وسبب اشتهاره بذلك أنّه نسب نفسه إلى الأفغان في مصر وخلافها لا إلى إيران تعمية للأمر ، ولو لا ذلك لما سمّي بحكيم الإسلام وفيلسوف الشرق ، ولا كانت له هذه الشهرة الواسعة ، ولا أنزله الصدر الأعظم علي باشا في استانبول منزلة الكرامة ، ولا أقبل بما عليه لم يسبق لمثله ، ولا عظّمه الوزراء والأمراء ، ولا عيّن عضوا في مجلس المعارف ، ولا أجرت له حكومة مصر ألف قرش مصري مشاهرة ، ولا عكف عليه الطلبة للتدريس في مصر ، ولا تمكّن الشيخ محمّد عبده أن يصاحبه ويأخذ عنه ويتخذه مرشدا وصديقا حميما إلى غير ذلك.
    ومن هنا يلزم أن لا يعتمد على المشهورات دينيّة كانت أو عادية قبل البحث والتنقيب والتحقيق والتمحيص ، خصوصا ما يوافق الميول المذهبيّة والعقائد الخاصّة ، وما لفّقه تلميذه الشيخ محمّد عبده المشهور في صدر رسالة المترجم في الردّ على الدهريّة من أنّ السيّد جمال الدين أفغانيّ حنفيّ ومن بيت عظيم في بلاد أفغان لا نصيب له من الصحّة ؛ فإنّ الظاهر أنّ جمال الدين كان يملي هذه القصص على تلميذه الشيخ محمّد عبده مبالغة في تعمية الأمر عليه فإنّه إيرانيّ أسد آباديّ همدانيّ لا أفغانيّ ولا كابليّ ، بل لعلّه لم ير بلاد الأفغان ولا كابل في عمره ، وعشيرته في أسد آباد حتّى اليوم.
    وقال السيّد صالح الشهرستاني فيما كتبه في مجلّة العرفان المجلّد 4 : لا يزال يوجد في أسد آباد من أفراد بيته وأولاد وأعمام وعمّات وأخوان وأخوات السيّد جمال الدين ما ينيف على خمسين نسمة بين ذكر وأنثى ، ومنهم أحد أحفاد أخي السيّد جمال الدين وهو السيّد محمود ابن السيّد كمال ابن السيّد مسيح المتوفّى سنة ألف وثلاثمائة أخي السيّد جمال الدين ابن السيّد صفدر وهو مدرّس مدرسة القرية سنة 1301.

    قال : ولا تزال الغرفة التي ولد فيها السيّد جمال الدين في دار والده الواقعة في محلّة سيّدان (أي السادات) على حالها حتّى اليوم ، وتعرف أسد آباد عند أهل القرى المجاورة لها بقرية السيّد جمال الدين.
    وقال : إنّ السيّد محمود المذكور أهدى إليه نسخة من كتاب فارسيّ فيه تاريخ حياة السيّد جمال الدين منذ ولادته حتّى وفاته ، [ألّفه] ابن أخت السيّد جمال الدين الميرزا لطف الله الأسد آبادي ، وأمّه السيّدة طيّبة بيگم بنت السيّد صفدر أخت جمال الدين وهو صاحب المذكّرات عن خاله المذكور بالفارسيّة المطبوعة في برلين ، والسيّد جمال الدين مذهبه شيعيّ إمامي اثنا عشريّ كما هو مذهب آبائه وأجداده وعشيرته وأهل بلده.
    أقوال المترجمين فيه :
    أطنب العلّامة المعاصر السيّد محسن العاملي في ترجمته في أعيان الشيعة فقال ما خلاصته : إنّ السيّد جمال الدين كان ذكيّا متوقّد الذكاء فصيح الكلام بليغه ، عالي الهمّة ، قليل النوم ، كثير التفكير ، سريع البديهية ، حسن الأخلاق ، يتقن اللغات العربيّة والفارسيّة والانكليزيّة وآدابها ، وقليلا من التركيّة والفرنسيّة ، له جاذبيّة لكلّ من حادثه وجالسه ، ميّال بطبعه إلى الحركة ومعارضة الحكّام والدعوة إلى الإصلاح ، وكان يتلوّن في لباسه تارة بالعمامة الإيرانيّة السوداء الكبيرة والعباءة ، وأخرى باليشماغ والعقال اللفّ ، وثالثة بالعمامة البيضاء والطربوش والجبّة ، ورابعة بالطربوش بدون عمامة ، وهو مسلك جماعة من الناس في كلّ عصر وزمان ؛ فالناس مختلفون بطباعهم وميولهم وعقولهم ونفوسهم وأخلاقهم وسجاياهم كاختلافهم بألوانهم وألسنتهم وقبائلهم وشعوبهم ودياناتهم.

    وقال في مجلّة العرفان أنّ السيّد صفدر والد السيّد جمال الدين جاء إلى طهران مع ولده جمال الدين أوائل عام ألف ومأتين وستّة وستّين وبعد ما مكثا فيها ما يزيد على خمسة أشهر سافرا إلى العراق ودخلا النجف في عصر الشيخ مرتضى الأنصاري فاعتنى الأنصاري بجمال الدين وبقي السيّد صفدر في النجف مدّة شهرين ثمّ عاد إلى أسد آباد وبقي جمال الدين في النجف أربع سنوات درس في السنتين الأوليّين منها العلوم الأوليّه والمتوسّطة من دينيّة وعربيّة ، وفي السنتين الآخريين العلوم العالية من التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والمنطق والحكمة الالهيّة والرياضيّات والطبيعيّات ومقدّمات الطبّ والتشريح والهيأة والنجوم وغيرها ، فلمّا مضى اربع سنين سافر إلى بمبئي فجعلوه في صف نوابغ الحكماء ولم يتجاوز عمره خمسة عشر ، فصار أمير الخطباء وداهية من أعظم الدهاة ، دامغ الحجّة ، قاطع البرهان ، ثبت الجنان ، متوقّد العزم ، شديد المهابة ، كان في ناسوته أسرار المغناطيسيّة فلهذا كان المنهاج الذي نهجه عظيما ، وكانت سيرته كبيرة ، فبلغ من علوّ المنزلة في المسلمين ما قلّ أن يبلغ مثله سواه ، وكان سائحا جوّالا ، طاف العالم الإسلامي قطرا قطرا ، وجال غربي أروبا بلدا بلدا ، فاكتسب من هذه السياحات الكبرى ومن الاطّلاع العميق والتبحّر الواسع في سير العالم والأمم علما راسخا واكتنه أسرارا خفيّة ، واستبطن غوامض كثيرة فأعانه ذلك عونا كبيرا على القيام بجلائل الأعمال التي قام بها.
    وكان جمال الدين بعامل سجيّته وطبعه وخلقه داعيا مسلما كبيرا ، وكأنّه على وفور استعداده ومواهبه إنّما خلقه الله في المسلمين لنشر الدعوة فحسب ، فانقادت له نفوسهم وطافت متعاقدة من حوله قلوبهم ، فليس هناك في قطر من الأقطار الإسلاميّة وطأت أرضه قدما جمال الدين إلّا وكانت فيه ثورة فكريّة اجتماعيّة لا تخبو نارها ولا يبير أوارها.

    وفي كتاب حاضر العالم الإسلامي تأليف ستودارد الأمريكي قال : جمال الدين كان أوّل مسلم أيقن بخطر السيطرة الغربيّة المنتشرة في الشرق الإسلامي وتمثّل عواقبها فيما إذا طال عهدها وامتدّت حياتها ورسخت في تربة الشرق قدمها وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النائبة الكبرى ، فلمّا اشتهر شأن جمال الدين خشيت الحكومات الاستعماريّة أمره وحسبت له ألف حساب ، ونفته بحجّة أنّه يهيّج المسلمين ولم تخف دولة جمال الدين وتضطهده مثل ما خافته واضطهدته الدولة البريطانيّة فسجنته في الهند مدّة ثمّ أطلقت سراحه فجاء إلى مصر وكانت له يد في الثورة العربيّة التي أوقدت نارها في وجه الغربيّين ، فلمّا احتلّت انكلتره مصر نفت جمالا في الحال فزايل مصر وأنشأ يسيح في مختلف البلدان حتّى وصل إلى القسطنطينيّة فتلقّاه عبد الحميد بطل الجامعة الإسلاميّة بالمبرّة والكرامة وقرّبه منه ورفع منزلته فسحر جمال الدين السلطان الداهية بتوقّد ذكائه ونفسه الكبيرة فقلّده رياسة العمل في سبيل الدعوة للجامعة الإسلاميّة ، ويغلب أنّ ما ناله السلطان عبد الحميد من النجاح في سياسته في سبيل الجامعة الإسلاميّة إنّما كان على يد جمال الدين المتوقّد الهمّة ، المشتعل العزم ، وكان عاملا كبيرا في سبيل النهضة الإسلاميّة حتّى النفس الأخير من أنفاسه.
    وقال الأمير شكيب أرسلان فيما علّقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي : كان جمال الدين من أعاظم رجال الإسلام في القرن التاسع عشر الميلادي ، وكان فيلسوفا كاتبا خطيرا صحفيّا ، وقبل كلّ شيء كان رجلا سياسيّا يرى فيه مريدوه وطنيا كبيرا وأعداؤه مهيّجا خطيرا ، وقد كان له تأثير عظيم في حركات الحرّيّة والمنازع الشورويّة التي جدت في العشرات الأخيرة من هذه السنين في الحكومات الإسلاميّة ، وكانت حركته ترمي إلى تحرير هذه الممالك من السيطرة الغربيّة وإنفاذها من الاستغلال الأجنبي وإلى ترقية شؤونها الداخليّة بتأسيس إدارة حرّة ؛

    فجمال الدين بقلمه ولسانه كان أصدق ممثّل لفكر الجامعة الإسلاميّة.
    وقال تلميذه الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصريّة في ترجمته التي صدّر بها رسالة السيّد جمال الدين في الردّ على الدهريّة : إنّ السيّد جمال الدين كان حقيقة كلّيّة تجلّت في كلّ ذهن بما يلائمه أو قوّة روحيّة قامت لكلّ نظر بشكل يشاكله ، والرجل في صفاء جوهره وذكاء مخبره لم يصبه وهم الواهمين ، ولم يمسّه ضرر الخرّاصين ، في السنة الثامنة من عمره أجلس للتعليم وعنى والده بتربيته ، وأيّد العناية به قوّة في فطرته وإشراق في قريحته ، وذكاء في مدركته ؛ فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها ، تلقّى علوما جمّة برع في جميعها منها العلوم العربيّة من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عامّ وخاصّ ، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوّف ، ومنها علوم عقليّة من منطق وحكمة عمليّة سياسيّة ومنزليّة وتهذيبيّة وحكمة نظريّة طبيعيّة وإلهيّة ، ومنها علوم رياضيّة من حساب وهندسة وجبر وهيأة أفلاك ، ومنها نظريّات الطبّ والتشريح ، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين على الطريقة المعروفة في تلك البلاد ، وعلى ما في الكتب الإسلاميّة المشهورة ، واستكمل الغاية من دروسه في الثامن عشرة من سنّه ، ثمّ عرض له سفر إلى البلاد الهنديّة فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضيّة على الطريقة الأورپاويّة الجديدة.
    أمّا مقصده السياسي الذي وجّه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدّة حياته وكلّ ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله ، فهو إنهاض دولة إسلاميّة من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتّى تلحق الأمّة بالأمم العزيزة والدول بالدول القويّة فيعود للإسلام شأنه والدين الحنيفيّ مجده ، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقيّة وتقليص ظلّها عن رؤوس الطوائف الإسلاميّة ، وله في عداوة الانكليز شؤون يطول بيانها.

    أمّا منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدّها قلمي إلّا بنوع من الإشارة إليها ، لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأنّ كلّ معنى قد خلق له ، وله قوّة في حلّ ما يعضل منها كأنّه سلطان شديد البطش ، فنظرة منه تفكّك عقدها كلّ موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنّه صنع يديه فيأتي على أطرافه ويحيط بجميع أكنافه ، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه ، وإذا تكلّم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها. ثمّ له في باب الشعريّات قدرة على الاختراع كأنّ ذهنه عالم الصنع والإبداع ، وله لسان في الجدل وحذق في صناعة الحجّة لا يلحقه فيهما أحد إلّا أن يكون في الناس من لا نعرفه ، وكفاك شاهدا على ذلك أنّه ما خاصم أحدا إلّا خصمه ، ولا جادله عالم إلّا ألزمه ، وقد اعترف له الأوربيّون بذلك بعد ما أقرّ له الشرقيّون.
    أمّا أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفائه ، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه فينقلب الحلم إلى غضب فبينما هو حليم أوّاب إذا هو أسد وثّاب ، وهو كريم يبذل ما بيده ، قويّ الاعتماد على الله ، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر ، عظيم الأمانة ، سهل لمن لاينه ، صعب على من خاشنه ، طموح إلى مقصده السياسي.
    أمّا خلقه فهو يمثّل لناظره عربيّا محضا من أهالي الحرمين ، ربعة في طوله ، وسط في بنيته ، قمحيّ في لونه ، عصبيّ دمويّ في مزاجه ، عظيم الرأس في اعتدال ، عرض الجبهة في تناسب ، واسع العينين ، عظيم الأحداق ، ضخم الوجنات ، رحب الصدر ، جليل في النظر ، هشّ بشّ عند اللقاء ، قد وفّاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه.

    مؤلّفاته :
    منها تاريخ الأفغان ، ومنها انتقاد الفلاسفة الطبيعيّين ؛ طبعا بمصر غير مرّة ، ومنها رسالة الردّ على الدهريّين ألّفها في حيدرآباد دكن بالفارسيّة ونقلها من الفارسيّة إلى العربيّة تلميذه الشيخ محمّد عبده بمساعدة عارف أفندي وطبعت بمصر ، ومنها مجلّة العروة الوثقى مطبوعة في مجلّد ، ومنها حقائق جمال فارسي.
    أخباره :
    هاجر من أسد آباد إلى طهران ومن طهران إلى النجف ، بقي فيها أربع سنين ثمّ سافر إلى الهند وعمره 18 سنة فأقام بها سنة وبضعة أشهر ، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازيّة لأداء فريضة الحجّ وطالت مدّة سفره إليها نحو سنة وهو ينتقل من بلد إلى بلد ، ومن قطر إلى قطر ، فوقف على كثير من عادات الأمم وأصاب من ذلك فوائد غزيرة ، ثمّ رجع إلى بلاده وفي سنة 1285 سافر إلى الحجّ على طريق الهند ، فلمّا وصل إلى التخوم الهنديّة تلقّته حكومة الهند بحفاوة وإجلال إلّا أنّها لم تسمح له بطول الإقامة في بلدها ولم تأذن للعلماء في الاجتماع معه إلّا على عين من رجالها ، فلم يقم أكثر من شهر ثمّ سيّرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس.
    فجاء إلى مصر وأقام فيها أربعين يوما تردّد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريّين ومالوا إليه كلّ الميل وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار ، فقرأ لهم بعضا منه في بيته ثمّ سافر إلى الآستانة وأمكنته ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا ونزل منه منزلة الكرامة وعرف له الصدر فضله وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله ، وعلا ذكره بينهم ، وبعد ستّة أشهر عيّن عضوا في مجلس المعارف ،

    فأدّى حقّ الاستقامة في آرائه وصعد على منبر الخطابة وألقى ما كان أعدّه ، فحسده حسن فهمي أفندي فآل أمر السيّد جمال إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة فجاء إلى مصر في أوّل محرّم سنة 1288 واشتغل بالتدريس فيها في بيته ، فعظم أمره في نفوس طلّاب العلوم وأخذوا يتهافتون عليه وانطلقت الألسن بالثناء عليه وانتشر صيته في الديار المصريّة وما منهم إلّا وقد أخذ عنه ، فحسده أقوام فأخرجوه من القطر المصري.
    فجاء إلى حيدرآباد دكن وفيها كتب الردّ على مذهب الدهريّين ثمّ ذهب إلى كلكتّة وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها ، ثمّ ذهب إلى أوربا وباريس وأقام بها ثلاث سنوات وفي جمادى الآخرة سنة 1303 دخل إلى البلاد الإيرانيّة. وقيل أنّ ناصر الدين دعاه بالبرق إلى حاضرة ملكه طهران فأكرم مثواه وبالغ في الاحتفاء به ، ثمّ استأذن من الشاه وذهب إلى روسيا. وقيل : إنّ الشاه أمره بالذهاب إليها ، وفي سنة 1308 عاد إلى طهران من روسيّة ونزل في دار الحاج محمّد حسن كمباني أمين دار الضرب ، وكان في جميع مجالسه ينقد السلطان ناصر الدين فأخرجوه من إيران بصورة قبيحة ونفوه إلى البصرة ، وكتب فيها كتابه الذي تقدّم ذكره إلى الإمام الشيرازي الكبير قدس‌سره ، ثمّ ذهب إلى الآستانة وكان بها إلى أن توفّي مسموما كما تقدّم تفصيله ودفن هناك في سنة 1315.
    العمارة الرابعة عشرة
    كانت في عصر السيّد الكبير آية الله المجدّد الشيرازي قدّس الله تربته ، وهي ترصيع بعض الرواق بمرايا ذوات أشكال هندسيّة ونجارة بديعة ، وترصيف شطر من الصحن الشريف ، ونصب الساعة المبتاعة بسبعمائة تومان على عرش باب

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:44 pm

    القبلة ، وستائر ثمينة لأبواب الحرم والرواق ، وبناء المدرسة الكبيرة ، والحمام وغيرها ، أخبرنا بذلك كلّه شيخنا الحجّة الميرزا محمّد الطهراني أدام الله وجوده ، وكان جليس سيّدنا الإمام المجدّد وموضع أسراره.
    حالة سامرّاء قبل هجرة سيّدنا الإمام المجدّد إليها
    كان الزائر لسامرّاء في حرز أمين بعد أن حطّ رحله بها سيّدنا الإمام الشيرازي رحمه‌الله.
    قال العلّامة المحدّث الميرزا محمّد حسين النوري في كشف الأستار (1) : أمّا سامرّاء فكانت بعد خرابها وقبل استيلاء سلاطين آل عثمان على العراق كصومعة في برية والأعراب ساكنون فيها ، وفي أطرافها لم يكن لهم همّ إلّا القتل والنهب والفساد ، وكانوا الإماميّة يدخلون ويزورون ويخرجون خائفين مترقّبين لنزول الدواهي ، وبعد استيلاء العثمانيّين على العراق كان أهل سامرّاء وغيرها من أطراف العراق في جنّة حصينة من الأمن والأمان والدعة والاطمينان غير أنّ الزوّار كانوا وجلين خائفين مرعوبين لكثرة المصادمات التي ترد عليهم من أهلها ، ويشهد بذلك ما رواه الجزائري في الأنوار النعمانيّة عند مسافرته إلى سرّ من رأى ، قال :
    لمّا مضينا نحن مع جماعة قليلة إلى سرّ من رأى فلمّا عزلنا عن القافلة وسرنا فرسخا تقريبا لقينا رجلا فقال لنا : إنّكم تمضون واللصوص أمامكم في نهر الباشا ، فتردّدنا في الرجوع والمضي فصار العزم على المضي ، فلمّا وصلنا إلى ذلك النهر طلعت علينا خيولهم فعدوا علينا ، فقرأت آية الكرسي وأمرت أصحابي بقراءتها ، فلمّا وصلوا إلينا انفردوا عنّا ناحية وكانوا يتفكّرون ، فرأيناهم جاؤوا إلينا وقالوا
    __________________
    (1) كشف الأستار : 190.

    لنا : قد ضللتم عن الطريق وكان الحال كما قالوا ، فأرسلوا معنا رجلا منهم فسار معنا إلى قرب المنزل وهو القازاني ، فلمّا قربنا إلى القازاني استقبلنا جماعة من سادات سرّ من رأى لأجل أن يأخذونا ، وكان آخر اختيارنا من أرواحنا وأموالنا أوّل وقوعنا في أيديهم ، وكانت عندنا دوابّ ، فقالوا : ينبغي أن تركبوا دوابّنا لأجل الأجرة ، فركبنا دوابّهم فوصلنا إلى المشهد المبارك في الليل ونزلنا في بيت ذلك السيّد ، فأتت علينا امرأة بقبضة حطب قيمتها أقلّ من الفلس. فلمّا صلّينا الصبح قلنا : نروح إلى الزيارة ، قال : لا حتّى تأكلوا الضيافة من عندي ، فقلنا له : نحن معنا من اللحم والخبز ما يكفينا ، فقال : لا يكون هذا ، فبعد ساعة قدّم إلينا جفنة من الخشب كبيرة وفيها ماء أسود لا ندري ما يكون تحته ، وفيها ملاعق ، فقلنا : هذا أيّ شيء؟ فقال : مدّوا أيديكم فمددنا أيدينا فكان ذلك الماء حارّا ، فمددنا الملاعق فقصرت عن الوصول إلى قعر الجفنة ، فمددنا بعض أيدينا فتناولنا بالملاعق ما في قعر الجفنة فكانت حبّات من الأرز وكان قد غليت مع ذلك الماء ، فشربنا كلّ واحد ملعقة وقمنا للزيارة.
    فقال لنا ذلك السيّد المبارك : اعلموا يا ضيوفي أنّ سادة سامرّاء ليس لهم خوف من الله ولا حياء فإذا دخلتم قبّة الإمام عليه‌السلام أخذوا ثيابكم ولكنّكم أكلتم ملحي فأنا أنصحكم أن تجعلوا ما عندكم من الثياب الجدّد عندي في منزلي وخذوا خلقان ثيابكم حتّى لو أخذت منكم ترجعون إلى هذه الثياب ، فاستصوب كلامه أصحابنا ووضعوا ثيابهم عنده ، وأمّا أنا فقلت : قد أصابني البرد هذه البارحة فلبست ثيابي واحدا فوق آخر. فلمّا مضينا إلى الزيارة أخذوا منّا في الباب الأوّل من كلّ واحد أربع محمّديّات ، فلمّا وصلنا الباب الثاني أخذوا منّا أيضا ، فزرنا موالينا وأتينا إلى السرداب فلمّا نزلنا إليه أحاطوا بنا تحت الأرض فأخذوا ما أرادوا ، وكأنّي أرى طرف مئزر واحد من أصحابي في يده والطرف الآخر في يد رجل سيّد من السادة

    فأخذه السيّد فبقي صاحبي مكشوف الرأس.
    فأتينا إلى منزل صاحبنا فقلنا له : هات الثياب ، فقال : أوّلا حاسبوني على حقوقي وادفعوها إليّ ، فقلنا : هكذا يكون فاحسبها أنت ، فقال : الأوّل حقّ الاستقبال ، فقلنا له : هذا هو حقّ واضح ، فقال : لخاطركم عن كلّ واحد محمّديّان ، فأخذ منّا ، ثمّ قال : حقّ المنزل البارحة ، فأخذ حقّه ، ثمّ قال : حقّ الحطب فأخذ من كلّ واحد نصف محمّديّة ، ثمّ قال : حقّ المرأة التي أتت به فأخذ ما أراد ، ثمّ قال : والحقّ الأعظم حقّ الضيافة وهو عن كلّ واحد محمّديّة ، فأخذ ذلك الحقّ ثمّ قال : حقّ الحماية وهو أنّكم في منزلي ولو لا ذلك لكان السادة أخذوا ما معكم ، فأخذ ذلك الحقّ ، فقال : حقّ المشايعة فأخذه ، فلمّا قبض الحقوق كلّها قلنا : ردّ إلينا ثيابنا ، فقال لهم : إنّكم لو أخذتموها معكم حين دخلتم القبّة الشريفة والسرداب أما كان السادة يأخذونها منكم ، فها أنا من السادة فأخذتها منكم من غير إهانة بكم ، فقلنا : جزاك الله خيرا ، فرجعنا إلى بغداد ، انتهى.
    وفي يومنا هذا لا يوجد في سامرّاء هذه الأعمال الشنيعة غير أنّ الرعب بعد باق في قلوب الزائرين الضعفاء فلم يزل الأمر على ذلك حتّى هاجر إليها الإمام المجدّد الكبير قدس‌سره فأخذت سامرّاء أهمّيّتها فتلاحقت العمارات فصارت مركزا مهمّا علميّا ومحطّا لرجال كبار العلماء فلم تزل كلّ يوم في زيادة إلى أن توفّي فيها.
    نبذة يسيرة من حياة سيّدنا الإمام المجدّد الشيرازي
    وبمناسبة ذكر آية الله المجدّد الشيرازي رحمه‌الله وحياة سامرّاء بوجوده وازدهار أيّام حياته نورد لك يسيرا من حياته الطيّبة نقلا عن المصادر الوثيقة.
    ولد رحمه‌الله في شيراز في الخامس عشر من جمادى الأولى بعد مضي ساعتين من

    النهار سنة 1230 وتوفّي رضوان الله عليه في الساعة الأولى من ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة 1312 بسامرّاء وحمل جثمانه الشريف على الأكتاف إلى النجف الأشرف ودفن في المقبرة التي أنشأها ناصر علي خان الأفغاني المقيم في لاهور وهي معروفة اليوم بمقبرة الشيرازي على يمين الخارج من الباب الشمالي للصحن الشريف المعروف بباب الطوسي ، وقبره حتّى اليوم مزار مشهور ، وعلى قبره صندوق خشبي وشبّاك من الفولاذ الأصفر.
    وقد ألّفوا في مآثره كتبا ورسائل شريفة أوفاها ما ألّفه العلّامة الخبير الأستاذ الشيخ آقا بزرك الطهراني دام وجوده صاحب كتاب الذريعة سمّاه هدية الرازي في حياة المجدّد الشيرازي ، وذكره أيضا تلميذه العلّامة الكبير الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل ، والمحدّث القمّي في حرف الميم من كتاب الكنى والألقاب ، ونحن نذكر خلاصة ما ذكروه ونشير إلى مواضع النقل.
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي ما ملخّصه : الآية العظمى والحجّة الكبرى السيّد السند الإمام العلّامة أستاذ نقباء البشر ، المهاجر إلى دار ولادة الإمام الثاني عشر ، والمجدّد للدين والملّة في رأس القرن الثالث عشر ، ومربّي الفقهاء للقرن الرابع عشر ، حامي بيضة الإسلام ، حافظ شرع سيّد الأنام ، المطيع لأوامره الأمراء والملوك ، والمنقاد إليه العظماء والسلاطين ، السيّد المسدّد أبو محمّد ميرزا محمّد حسن ابن السيّد فخر السادة وبحر السعادة الميرزا محمود ، بن السيّد الجليل الميرزا إسماعيل ، ابن فتح الله بن السيّد العابد بن السيّد لطف الله بن محمّد مؤمن الحسينيّ النسب ، الشيرازيّ المولد ، الغرويّ المنشأ ، العسكريّ المسكن ، النجفيّ المدفن ، طيّب الله تربته ورمسه ، وقدس‌سره ونفسه ، وبرّد الله مضجعه وثراه ، وأعلى في الخلد مقامه ومثواه.
    وقال السيّد العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر الكاظمي في تكملة أمل الآمل :

    أستاذنا وسنادنا وعمادنا سيّدنا الإمام ، رئيس الإسلام ، نائب الإمام عليه‌السلام ، مجدّد الأحكام ، أستاذ حجج الإسلام ، آية الله على الأنام ، محيي شريعة سيّد الأنام ، مميت بدع الظلام ، قائد الملّة والمذهب والدين بأقوم نظام ، وأقوى زمام ، تعجز والله عن إحصاء مزاياه الأقلام ، ويضيق عن شرحها فم الكلام ، وما عسى أن أقول في معزّ الدين ، ومحيي آثار أجداده الأئمّة الراشدين ، وحجّتهم البالغة الدامغة على أعداء الدين ، ومربّي المجتهدين ، وناصر المؤمنين ، وقامع يد الكافرين عن دولة المسلمين ، وناشر الأحكام في العالمين ، وأبي الأرامل واليتامى والمساكين ، ومن كان الناس في ظلّه راقدين ، وأهل العلم في كنفه آمنين ، سيّد تهابه الملوك والسلاطين ، وأنّى لي بوصف آية الله من المجتهدين ، وخليفة خاتم الأئمّة المعصومين وحجّته في الأرضين ، وأفضل المتقدّمين والمتأخّرين ، من الفقهاء والمحدّثين والحكماء والمتكلّمين والمحقّقين من الأصوليّين ، وجميع المتفنّنين حتّى النحويّين والصرفيّين ، فضلا عن المفسّرين والمنطقيّين والمتطبّبين ؛ لا يضاهيه أحد في غوره وفكره ، وتحقيقه وتدقيقه ، وتأسيسه ، ولا في اعتدال السليقة ، إذا تكلّم في فقه الحديث رأيته على أعدل استقامة في العرفيّات وحفظ الوجدنيّات كأنّه لم يشمّ رائحة الدقّة ، وإذا تكلّم في غوامض المسائل وعوائص المطالب تراه الفيلسوف الدقيق يشقّ الشعرة ويدرك الذرّة.
    له الأفكار الأبكار التي لم يهتد إليها المضطلعون ، ولا حام حولها المحقّقون ، قد فتح الله سبحانه له باب فهم المسائل ، وهداه إلى كيفيّة الوصول إلى حقيقة الحقائق ، وإذا قسمت أنظاره وتحقيقاته وتنبيهاته في علم إلى أنظار كلّ محقّق في ذلك العلم تجدها كالقمر البازغ في النجوم ، لم تر عين الزمان مثل دقائق أفكاره ، وصفايا آثاره وأنظاره ، لم يسبقه أحد إليها ، ولا حام طائر فكر فقيه قبله عليها ، كان قدّس الله روحه إذا أراد تدريس كتاب من أبواب الفقه بحث عن مشكلات مسائله وترك

    التعرّض لسواها ، ولا ينتفع من بحثه إلّا من كان قد أحاط بأقوال المسألة وأدلّتها وبذل جهده في فهم المراد منها.
    مراتب سيره في التحصيل
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : شرع علم المعلم وعمره أربع سنين وخمسة عشر يوما ، واستغنى عن تعلّم القرآن والخطوط والكتب الفارسيّة في سنتين وأربعة أشهر ، واشتغل بالعلوم وله ست سنين وخمسة أشهر ونصف ، وإنّه كان يدرّس شرح اللمعة وله خمس عشرة سنة ، وورد أصفهان وله سبع عشرة سنة وتسعة أشهر ، وحضر أوائل وروده أشهرا قلائل على العلّامة الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم في بحث مخصوص له ، وكان يحضر عند السيّد مير محمّد حسين الخاتون آبادي إمام الجمعة في مبحث الوضع.
    وحصلت له الإجازة قبل بلوغ العشرين ، وتوفّي صاحب الحاشية على المعالم في سنة 1248 ، وكان يحضر أيضا على العلّامة الفقيه الحاج محمّد إبراهيم الكلباسي فحصلت له الرئاسة والتدريس بأصفهان إلى أن تشرّف بالعتبات حدود سنة 1259 وأدرك من الفقهاء من آل كاشف الغطاء الشيخ علي والشيخ حسن وصاحب الجواهر الشيخ محمّد حسن ، ولمّا توفّي صاحب الجواهر كان من أركان بحث العلّامة الشيخ مرتضى الأنصاري وسمع عن العلّامة الأنصاري وهو يقول : إنّ درسي يكون لثلاثة : الميرزا محمّد حسن الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي والآقا حسين الطهراني.

    توصية الشيخ صاحب الجواهر في حقّه إلى حاكم فارس
    كتب الشيخ الفقيه صاحب الجواهر تصديقا لاجتهاده بخطّ يده الشريفة توصية له إلى حاكم مملكة فارس وصاحب اختيارها ، ورأيت الخطّ الشريف بهذه الصورة :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله تعالى شأنه ، ثمّ السلام على ولدنا وقرّة أعيننا فخر الأقران وجوهرة الزمان ، إنسان عين الإنسان ، جناب الأعظم حسين خان سلّمه الله تعالى وأبقاه وزاد في عمره وعلاه. أمّا بعد ، فالمعلوم لدى جنابك أنّ ولدنا وقرّة عيننا الأمين المؤتمن ، جناب الميرزا محمّد حسن سلّمه الله وأبقاه ممّن يهمّنا أمره ومن أولادنا وتلاميذنا الفضلاء الذين وهبهم الله سبحانه ملكة الاجتهاد مقرونة بالرشاد والسداد ممّن اختاره الله علما للعباد ، وأمينا في البلاد ، ومروّجا لمذهب الشيعة ، وكفيلا لأبنائهم ، فالمرجوّ الاعتناء بأموره ، وملاحظة جميع متعلّقاته ، فإنّه أهل لذلك بل فوق ما هنالك ، مضافا إلى رجوع أموره إلينا ، ونحن أوقفناه في هذه الأماكن ليكون لك من الداعين ، ولينتفع به كافّة الطلبة والمشتغلين ، فاللازم كمال الاعتناء بأموره ، وإدخال السرور عليه وعلينا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإنّا لا ننساك من الدعاء عند مرقد سيّد الأوصياء عليه‌السلام.
    وختمه بخاتمين وأمضاه بقوله : الراجي عفو ربّه الغافر خادم الشريعة محمّد حسن ابن المرحوم الشيخ باقر.
    قال شيخنا العلّامة بعد نقل هذه الرقيمة : أنظر إلى كرامة صاحب الجواهر وإخباره عن المستقبل قبل سنين بقوله إنّه ممّن اختاره الله علما للعباد .. الخ ، ولا ريب فالمؤمن ينظر بنور الله.

    كثرة حافظته وسعة باله
    قال العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل : وأمّا سيرته في الاشتغال بالعلم فإنّه مات أبوه الميرزا محمود وهو طفل فكفله خاله مجد الأشراف واعتنى في تربيته لما رأى من فطانته ، فقد حدّثني هو قدس‌سره أنّه طلب معلّما جيّد الكتابة في داره وعيّن له في كلّ شهر عشرة توامين. قال : وهذا المبلغ في ذلك الزمان خطير ، ويعلم من خطّ خاله مجد الأشراف أنّ تاريخ ابتداء تعلّمه غرّة جمادى الثانية سنة 1234. ولمّا فرغ من تعلّم القراءة والكتابة وصار يكتب مثل أستاده ، عيّن له معلّما في النحور والصرف ، ولمّا بلغ عمره ثماني سنين فرغ من كلّ المقدّمات فاختار خاله أن يصير منبريّا واعظا فسلّمه إلى أكبر منبري واعظ الميرزا إبراهيم لتعلّم الوعظ ، وكان قد قرّر له أستاده المذكور أن يحفظ شيئا من أبواب الجنان للقزويني وكان يقرأ الصفحة مرّتين فيحفظها على ظهر القلب ويروح إلى مسجد الوكيل ويصعد المنبر ويقرأها ، يفعل ذلك كلّ يوم ، وإنّ عبارة أبواب الجنان من أصعب العبارات قراءة لاشتمالها على السجع الذي لا يهتدي إلى كلّ أحد فضلا عن حفظه على ظهر القلب. ولمّا كان ذلك من النوادر ولم يخل عن الغرابة منعته عمّته من صعود المنبر كلّ يوم مخافة أن تصيبه العين الناظرة وقالت له : اصعد في الأسبوع يومين فإنّ عيون الناس لا تتحمّل أن ترى طفلا عمره ثماني سنين كلّ يوم يصعد المنبر يقرأ صفحة من أبواب الجنان.
    وكان قدس‌سره يحفظ أكثر القرآن ويحفظ جميع أدعية شهر رمضان وجميع ما كان يقرأ من الأدعية في سائر الأوقات وكذلك الزيارات جميعا في جميع المشاهد ولم يتفق له أن يحمل معه كتابا في ذلك ، وكان يطيل في أدعيته وزياراته ، وكان كثير البكاء رقيق القلب ، غزير الدمعة ، وفي أثناء اشتغاله بالوعظ يشتغل بالعلم وقراءة الكتب

    المتعارفة في الأصول والفقه ، وكان يطالع الدرس قبل حضوره عند الأستاد ، ويكتب أنظاره ويشرح مشكلات العبارة ، فلمّا مضى زمان قليل جاء بكراريسه المكتوبة إلى أستاذه الشيخ محمّد تقي الذي كان بشيراز وكان معروفا بتدريس شرح اللمعة ويحضر درسها عنده ما يزيد على أربعين مشتغلا ، فلمّا نظر أستاذه قال له : ليس في شيراز من تنتفع منه فيجب أن تهاجر إلى أصبهان فإنّها اليوم دار العلم ، فرحل من شيراز وورد أصبهان سابع عشر صفر سنة 1248 ونزل في مدرسة الصدر واشتغل في الدرس والتدريس في علمي المعقول والمنقول ، وحضر أيّاما قلائل مجلس درس الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم.
    فلمّا توفّي صاحب الحاشية لازم مجلس درس السيّد المحقّق المدقّق الأمير السيّد حسن المعروف بالمدرّس إلى أن عزم على زيارة العتبات وورد كربلاء والنجف فصار يمرّ على محافل العلماء ويحضر مجالس تدريسهم كالشيخ صاحب الجواهر ، والشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة في النجف ، والسيّد إبراهيم صاحب الضوابط في كربلاء ، ولم يطل في الحضور عندهم حتّى اجتمع مع الشيخ المرتضى الأنصاري فرآه من أهل الأنظار العالية والتحقيقات الجيّدة فعزم على المقام في النجف لأجله وعدل عن الرجوع إلى أصبهان ، وأخذ بالخوض في مطالب الشيخ بغاية جهده وكدّه ، والغوص فيها بقاطع ضرسه ، حتّى اغتنم كنوزها وحقّ حقائقها وزاد عليها بكامل نفسه فأكبّ عليه الفضلاء في درسه ، وصار آية في التحقيق والتدقيق ، وتقدّم في الفضل على كلّ أبناء جنسه.
    فقد حدّثني السيّد الوالد قدّس الله روحه قال : كان الميرزا قليل التكلّم في بحث الشيخ ، لا يتكلّم إلّا نادرا ، وإذا تكلّم لا يجهر بصوته ، فينحني الشيخ لسماع كلامه ويشير إلى أهل الدرس بالسكوت ويقول لهم : إنّ جناب الميرزا يتكلّم ، وإذا فرغ من كلامه رفع الشيخ رأسه وتوجّه إلى أهل البحث وقرّر لهم كلام الميرزا ، وهذا

    من الشيخ تعظيم عظيم ، ورأيت عنده كراريس أخرجها إليّ قدس‌سره فيها مسائل تكلّم فيها فيما يتعلّق ببعض تحقيقات الشيخ وتحتها خطّ الشيخ جواب وتحقيق ، وتحته بخطّه قدس‌سره جواب عن تحقيق الشيخ ، كلّ الكراريس بخطّه على هذا النحو.
    وحدّثني في هذا المجلس الذي أراني فيها الكراريس أنّ الشيخ في آخر عمره التمس منّي أن أجدّد النظر في الرسائل وأن أنقّحها وأهذّبها وكرّر ذلك عليّ مرارا فلم أفعل احتراما للشيخ ، وكان في غاية التعظيم للشيخ ، إذا طرأ ذكره في مجلسه فصار واحد دهره في عصره ، وكان قدس‌سره لا ينسى من يراه ولو مرّة واحدة وغاب عنه عشرين سنة فإذا دخل عليه عرفه بمجرّد دخوله ، بل رأيت من دخل عليه ليلا وهو شابّ ليس في عارضيه نبات وغاب عنه أربع عشرة سنة فدخل عليه وهو ذو لحية كثيفة فبمجرّد أن سلّم عليه قال : عليكم السلام جناب الشيخ حسين ، هل يشترط في المهاجر إلى العلم في النجف الأشرف أن لا يزور سامرّاء أربع عشرة سنة؟ جنابك جئت إلى هنا لما جئت من جبل عامل والآن أظنّك تريد الرواح إلى جبل عامل؟ فقال له : نعم يا سيّدي أريد الرواح إلى بلدي إن شاء الله بتوجّهاتكم ، فلمّا خرجنا قال لي الشيخ حسين المذكور : هذا والله العجب العجاب! أنا كنت قد دخلت عليه قبل أربع عشرة سنة ولا شعر في وجهي في الليل فكيف الآن عرفني وحفظ اسمي مدّة مفارقتي له؟! ما هو إلّا كرامة من السيّد. فقلت له : ما هي الكرامة بل الكرامة ما منحه سبحانه وتعالى من سعة البال وقوّة الحافظة ، ومثل هذا لا يحصى كثرة
    وكان قدس‌سره ينظر إلى الحديث أو العبارة نظرة واحدة وأنا إلى جنبه فيرفع رأسه فيقرأها على ظهر قلبه للجماعة ، وسمعت منه إنّه قال : كنت أستنسخ رسالة أصل البراءة لشيخنا الشيخ المرتضى رحمه‌الله في الليل فأنظر في الرسالة وأحفظ السطر والسطرين وأكتبهما وأنا في خلال ذلك أباحث الميرزا إسماعيل الصرف وكان طفلا صغيرا وما كان يسعني ذلك إلّا أوّل الليل.

    إجماع العلماء على تقديمه في أمر التقليد
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : لمّا توفّي الشيخ الأنصاري قدس‌سره سنة 1281 صار الناس يسألون أفاضل تلامذة الشيخ رحمه‌الله عن تكليفهم في أمر التقليد ، فاجتمع الأفاضل منهم في دار الأستاذ الحجّة الميرزا حبيب الله الرشتي. فقد حدّثني الفاضل الميرزا الآشتياني قال : فاتفقنا على تقديم الآقا الميرزا الشيرازي فأرسلوا عليه وأحضروه عندهم وفيهم الآقا حسن النجم آبادي ، والميرزا عبد الرحيم النهاوندي والميرزا حبيب الله الرشتي والميرزا حسن الآشتياني فقالوا له : لا بدّ للناس من مرجع في التقليد والرئاسة الدينيّة وقد اتفقوا على جنابك. فقال : إنّي لم أستعدّ لذلك ولا أستحضر ما يحتاج إليه الناس ، وجناب الشيخ الآقا حسن فقيه العصر هو أولى بذلك منّي. فقال له الآقا حسن : والله إنّ ذلك حرام عليّ ولو دخلت فيه أفسدته وإنّما هو واجب عليك بالخصوص ، ومسألة استحضار المسائل أسهل ما يكون عليك ، والرئاسة الشرعيّة تحتاج إلى رجل جامع عاقل ذي حنكة عارف بمواقع الأمور كامل النفس وليس ذلك إلّا أنت ، وتكلّم كلّ واحد من الجماعة بنحو كلام الآقا حسن ، وحكموا عليه بوجوب التصدّي لذلك ، فقبل ودموعه تجري على خدّيه.
    وحدّثني السيّد الصدر إنّه لم يكن يخطر بباله قبل ذلك أنّه يصير مرجعا للناس في الدين ويبتلى بهذا الابتلاء ، فصار أصحاب الشيخ وتلامذته يرجعون الناس إليه وكلّ من يسألهم عن أمر التقليد لا يذكرون له سواه ، وينصّون عليه بالأعلميّة ومن لم يصرّح منهم بأعلميّته يصرّح بأولويّته للتقليد وأنّه أحوط في براءة الذمّه ، فرجع إليه الناس خصوصا الإيرانيّين والخواصّ من كلّ البلاد ، فأخذ في الترقّي يوما فيوما وعلّق الحواشي على نجاة العباد والنخبة وكلّ ما كان الشيخ علّق عليه من

    الرسائل العلميّة ، وكتب هو من أوّل الطهارة إلى الوضوء ورسالة في الرضاع ، ومن أوّل المكاسب إلى تمام المعاملات ، لكن لم يبرزه ، كما أنّه قد كتب ملخّص ما أفاد الشيخ أستاذه الأنصاري في الأصول.
    هجرته إلى سرّ من رأى
    قال العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل : في سنة ألف ومأتين وثمان وثمانين وقع غلاء عظيم بل قحط في في النجف الأشرف وسائر البلاد العراقيّة فقام هو قدس‌سره في أمر الفقراء وأهل العلم الذين هم في النجف الأشرف بأحسن قيام وأتمّ نظام فعيّن في كلّ محلّة أناسا ، ولأهل المدارس أناسا ، وللفقراء أناسا ، وكنت حينئذ في النجف الأشرف ولو أردت شرح ما بذله من الجهد في ذلك لطال المقام حتّى جاء الحاصل الجيد وحصل الرخاء وارتفع عن الناس الغلاء ، وكان ذلك من كراماته وبسبب ذلك صار عامّة الناس يرجونه في كلّ مهمّة ، ويقصدونه في كلّ ملمّة ، حتّى في فكاك أولادهم من الجنديّة ببذل المال الذي به يكون فكاكهم من ذلك ، وكان بدل الواحد منهم يومئذ مائة ليرة عثمانيّة ، فضاق به الأمر وعرف أنّ المحرّك لكثرة الرجاء منه بعض أعيان النجف ، ورأى أن لا علاج له إلّا الخروج من النجف الأشرف.
    فلمّا قربت أيّام زيارة أوّل رجب سنة 1291 زار كربلاء وبقي فيها إلى زيارة النصف وأرسل على عياله للزيارة ، فلمّا جاؤوا خرج من كربلاء بالعيال بقصد زيارة سامرّاء في النصف من شعبان وخرجت أنا من النجف لزيارة النصف من شعبان فزرت ثمّ جئت إلى بلد الكاظميّين عليهما‌السلام لأمكث في شهر رمضان عند أهلي على العادة ، فرأيت السيّد الأستاذ فيها وهو بعد لم يتوجّه إلى سامرّاء ، وبعد

    ورودي بأيّام توجّه إلى سامرّاء ودخلها في أوخر شعبان سنة 1291 ولا يعلم الناس منه إلّا الذهاب للزيارة وإذا به قد أقام هناك حتّى حلّ شعبان من السنة الثانية ، وجئت من النجف الأشرف وصمت في بلد الكاظميّين عليهما‌السلام.
    فلمّا انقضى شهر الصيام خرجت إلى سامرّاء وقد جاء بعض تلامذته من النجف لاستعلام حال سيّدنا الأستاذ فرأيته يدرّس درسين في النهار والليل ومعه جماعة من أصحابه ، فبقيت هناك وصرت أحضر درسه وهو لا يظهر العزم على المكث هناك ، ولا يذكر الرجوع إلى النجف حتّى جاء المرحوم الآخوند ملّا فتح علي قدس‌سره ، وثقة الإسلام الميرزا حسين النوري والمرحوم الشيخ فضل الله النوري الشهيد وكان في مقدّمتهم لاستعلام الحال أيضا ، فتكلّموا معه ، فقال : أمّا الذي في نفسي فهو أن لا أعود إلى النجف حتّى أزور المشهد الرضوي. فقالوا له : لا بدّ من تعيين الأمر ؛ فإن كان عزمك على البقاء هنا فإنّا معك وإن لم يكن عزمك على البقاء فلنا حينئذ تكليف آخر ، فقرّر على أن يستخير الله في الحرم المطهّر على الإقامة في سامرّاء أو الرجوع إلى النجف ، فلم تساعد الاستخارة إلّا على الإقامة بسامرّاء على كلّ حال ، فعزم على البقاء ، فأرسل على حمل أثاث بيته من النجف الأشرف ، ولمّا علم الناس أنّه عزم على البقاء انتقلت صفوة تلامذته إليه حتّى صارت سامرّاء مزدهرة بوجوده وزاهية بنور وجهه الوضّاء وأصبحت دار العلم وبيضة الإسلام والمرجع العامّ لأهل الدين والدنيا ؛ يقصدها العلماء من كلّ فجّ عميق إذ كانت كعبة آمالهم فصارت محطّ رحالهم وانحصرت رئاسة الإماميّة بل على الإطلاق فصار واحد دهره وإمام عصره.
    آثاره قدس‌سره في سامرّاء
    فلمّا استقرّت به الدار بنى مدرسة للطلّاب وهي إلى الآن تعرف بمدرسة الميرزا ،

    وكانت قبل ذلك خانا ينزل فيه الزوّار وقد اشتراه قدس‌سره من الحاج عبد الكريم كبّه البغدادي ولم يكن فيه أكثر من تسع عشرة حجرة ، فلمّا اشتراه قدس‌سره جعله مدرسة وشرع في عمارتها وتوسيعها سنة 1221 وأحدث فيها 75 حجرة وأضاف إليها مدرسة أخرى ملاصقة بها من جهة شرقها ، وبنى فيها خمس عشرة حجرة وكانت المدرسة أكبر مدارس الإماميّة في العراق متقوّمة بطبقتين ساحتها من طرف الشمال إلى الجنوب لا تقلّ عن خمسين خطوة ، ومن الشرق إلى الغرب أربع وأربعون خطوة ، ولا يقلّ ارتفاعها عن سبعة أمتار ، وفيها ثلاثة سراديب ، فلمّا كملت عمارتها أسكن فيها أكثر من مائتي طالب علم ، وعيّن لكلّ واحد منهم راتبا شهريّا بحسب حاله وما يكفيه في معاشه. ثمّ عمّر حمّاما للرجال وحمّاما للنساء ، وبنى دارا يقام فيها المآتم الحسينيّة ، ودرّ المعاش على كثير من فقراء السنّة وبنى دورا لنفسه ومتعلّقيه وعقد جسرا على شطّ سامرّاء أنفق عليه ألف ليرة ذهبيّة عثمانيّة ، وبنى سوقا كبيرا فأخذت سامرّاء أهمّيّتها العظمى في أنظار العالم الإسلامي وصارت مركزا مهمّا علميّا ومحطّا لرحال كبار العلماء.
    أخلاقه الجميلة
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : كان قدس‌سره في مدّة رئاسته لا يباري في أخلاقه وحسن ملاقاته للناس وحلاوة لسانه ، يعطي من لاقاه حقّ ملاقاته حسب ما يليقه بمقامه ولا يفارقه إلّا وهو في كمال السرور والرضا منه ، وكان يضرب به المثل في أخلاقه السامية ، وكان في رحابة الصدر بحيث تتكاثر عليه الزوّار والواردون وفيهم الصالح والطالح والخبيث والطيّب والمؤمن والمنافق ، وكلّ يتكلّم على شاكلته فلم يسمع منه كلمة سوء لأحد منهم ولا يعبس في وجه أحد قطّ ، ولا جازى

    مسيئا إلّا بالإحسان ، ولا خاطب إلّا بأحسن لسان مع تبسّم في وجهه واعتذار منه ، وهذا والله هو الخلق العظيم الذي ورثه من جدّه سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أحسن وأجاد الشاعر المفلق السيّد حيدر الحلّي رحمه‌الله حيث يقول في مدحه رحمه‌الله :
    كذا فلتكن عزّة المرسلين
    وإلّا فما الفخر يا فاخر

    وكان إذا نظر في وجه رجل عرف ما في نفسه وله في تفرّسه حكايات تجري مجرى الكرامات ، كأنّ الله سبحانه قد أعطاه فهما وفراسة لم يعطهما أحدا من أهل عصره ، ولو أردنا سرد كلّ ذلك لاحتجنا إلى مجلّد ضخم.
    وقال المحدّث القمّي في الكنى والألقاب : كان قدس‌سره في سعة الأخلاق وإصالة الرأي وقوّة الحافظة وسداد الذاكرة وإصابة الهدف وحدّة التفرّس وحذاقة في القول ووفور العطاء وقضاء الحوائج وتواصل العبادة والزهد البالغ مع إقبال الدنيا عليه مقامات وكرامات لم يدلّنا التاريخ على اجتماعها في رجل واحد غيره. نعم :
    ليس على الله بمستنكر
    أن يجمع العالم في واحد

    عقله السياسي وتدابيره الحسنة
    قال سيّدنا العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر في تكملة أمل الآمل : وأمّا عقله السياسي فقد حيّر السياسيّين من الملوك والسلاطين والوزراء الكاملين ، وأذعن لعقله وتدبيره أهل العلم بالتدبير ولم يبق لأحد من عقلاء الدنيا إلّا وصدّق أنّه أعقل منه ، ولا يجتمع معه أحد إلّا ويجد من نفسه أنّه صغير لديه ، وهذا لا يتفق لأحد من العلماء قبله بحيث يذعن لعقله السلاطين وأهل العلم بالأمور السياسيّة وناهيك بذلك المسألة الدخانيّة الآتي ذكرها.

    وأمّا هيبته ووقاره
    فناهيك بها إنّا كنّا أصحابه وخواصّه الذين في الدرس والبحث وكنّا ننازعه ونناظره فيه ولا نكاد نرفع أعيينا إليه لهيبته ، وإذا دخلنا عليه اضطربت قلوبنا ونجمع حواسّنا عند مكالمته ، ودخلت أعضاؤنا بعضها في بعض ، إذا جلسنا بين يديه مع كمال بشاشته وحسن محاضرته حتّى أنّ ولده الأكبر المرحوم الميرزا محمّد قال : والله يا فلان إنّي لأهاب الدخول على والدي كهيبتي على الأسد مع أنّه في غاية الإكرام والإعظام لي.
    وأمّا سيرته مع أصحابه وأهل بيته
    أمّا سيرته مع أصحابه وتلامذته فكما قال السيّد حيدر الحلّي الشاعر المفلق في مدحه من قصيدته :
    أمنتهم في حماك المنيع
    وطرفك خلفهم ساهر

    فإنّه كان أبا لهم رؤوفا وبرّا عطوفا لا تفوته دقيقة من أحوالهم فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه من كلّ الجهات وجميع الملاحظات ، ويدربه على طريق الاشتغال ، ويمرنه المسائل حسب استعداده ويتكلّم معه بما يحثّه على تمام بذل الجهد في الاشتغال ويشكره إذا ظهر منه أقلّ التفات في مقام من المقامات ، ويخاطبه بكمال الأدب والتعظيم ، ولو كان المخاطب من صغار المشتغلين ، ويحفظ مقام كلّ واحد على حسب ما هو عليه من الفضل.
    وإنّي دخلت عليه ليلة من الليالي فقال لي : إنّي سمعت إنّك كتبت مسألة تعارض الاستصحابين لمّا باحثنا مسألة تتميم الكرّ؟ فقلت له : نعم. فقال : إنّي أحبّ أن أرى ذلك. فقلت : ليس فيها إلّا ما قرّرتم وأفدتم. فقال : ومع ذلك والله يا فلان أنتم

    نور بصري وقوّة ظهري ونتيجة عمري ، وأمثال هذه المشوّقات. وكان قدس‌سره يربّي تلامذته في العرفيّات أيضا ويعلّمهم المعاشرة وأصول الصحبة وسائر ما يكون داخلا في المعاشرة ، فضلا عن العلم وكيفيّة تحصيله ، وحقوقه على تلامذته لا تعدّ وتحصى. وكان أعدّ منهم جماعة من الخواص الأجلّاء انتخبهم للمشورة في الأمور العامّة الدينيّة التي كان المرجع فيها من أطراف البلاد والأصقاع كالمسألة الدخانيّة وأمثال تلك من القضايا المهمّة ، ومن هؤلاء الأصحاب الخواصّ من كان عنده بابا في قضاء الحوائج يقبل واسطتهم ولا يرد منها شيئا ، ويجري الخير على يده للإخوان المؤمنين.
    وأمّا سيرته مع عياله وأولاده فعلى أتمّ نظام وأكمل تدبير وإتقان ، فقد عيّن لكلّ من أولاده وبناته وزوجاته دارا وخادما ، وعيّن لهم راتبا شهريّا لكلّ حسب ما يكفيه في معاشه ، ولا يقدر أحد أن يعمل بخلاف ما قرّره ، وكان كلّ ما يهدي إليه من التحف والهدايا والوجوه وغيرها يودعه بيده عند أمينه الخاص من خدّامه في الدار التي هو فيها ، وليس لأحد التصرّف بشيء غير ما قد عيّن له ، ولا يدخل عليه أحد منهم حتّى ابنه وزوجته إلّا بالاستيذان كسائر الواردين.
    سيرته في تقسيم الوجوه والحقوق
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : وأمّا سيرته في توزيع الحقوق الشرعيّة فشيء لا يمكن وصفه فإنّه إذا دفع شيئا منها بيده الشريفة فمع كمال الأدب والاحترام وغاية الانكسار والإخفاء بحيث يشكره المدفوع له غاية الشكر ويرضى بكلّ ما أعطاه ولا يستقلّه ، ولا يدفع النقد إلّا ملفوفا بكاغذ أو غيره ، وهذه حاله مع سائر الناس فضلا عن المحترمين.

    وربّما رأيته ينضمّ إلى الشخص وهو يمشي فيأخذ في التكلّم معه ويلقى في جيبه الدراهم المصرورة وهو لا يدري ولا يلتفت إلّا بعد مفارقته ، وإذا أرسل الحقّ مع خدّامه يقول له : عندي أمانة مرسلة إلى فلان تدفعها إلى من حيث يخفى على الناس ، وكان له في كلّ بلدة من البلاد وكيل من التجّار يكتب إليه فهرس أسماء فقراء تلك البلدة ويعيّن ما يعطونه ، هذا غير الذين عيّن لهم رواتب شهريّة أو سنويّة ، ولا يترك بلدا فيه مستحقّون إلّا ويوصلهم حسبما يرى حتّى بلاد إيران.
    وإذا كان في بلد رجل من أهل العلم رئيس يثق به يرسل إليه مقدارا ليقسمه على معاريفه في كلّ سنة ويخصّه بمقدار لنفسه ، وكان يقول : ليس من الانصاف أن نقبض حقوق أهل بلد ونترك فقراءها لا شيء لهم فإنّ أهل الثروة لا يسلمون الحقوق لفقراء بلدتهم بل كلّما عندهم منها يرسلونه إلينا. وأمّا أهل العلم والفقراء من سكّان المشاهد المشرّفة فكان له فيهم عناية خاصّة ، وكان لكلّ منهم راتب شهري كلّ على حسبه من غير استثناء حتّى المتعبّدين بالاستيجار فإنّه يرسل إليهم مقدارا من الوجوه ومقدارا من وجه العبادة بما ينتظم به أمر معاشهم.
    من أخذ منه من فحول العلماء
    أمّا من أخذ منه وتخرّج عليه من الأعلام فهم كثيرون ، ولقد استوفى أسماءهم شيخنا العلّامة في هدية الرازي مرتبة على الحروف منهم : العلّامة الميرزا إسماعيل ابن عمّه ، والعلّامة المحقّق السيّد محمّد الأصبهاني ، والميرزا محمّد تقي الشيرازي ، والآقا رضا الهمداني ، والشيخ فضل الله النوري ، والسيّد محمّد كاظم اليزدي ، وصاحب الكفاية المرحوم الآخوند المولى محمّد كاظم الخراساني ، والسيّد عبد المجيد الكروسي ، والشيخ حسن علي الطهراني ، والميرزا إبراهيم الشيرازي

    المحلّاتي ، والشيخ إسماعيل المحلّاتي صاحب كتاب نور العلم والإيمان المطبوع في النجف.
    والسيّد إبراهيم الدامغاني ، والسيّد أبو تراب الخونساري ، والمولى علي النهاوندي ، والشيخ إسماعيل الترشيزي ، والميرزا أبو الفضل الطهراني ، والميرزا حسين السبزواري ، والآقا حسين القمّي ، والمولى محمّد تقي القمّي ، والعلّامة الشيخ محمّد حسن كبّه ، والميرزا حسين النوري ، والسيّد إسماعيل الصدر ، والسيّد حسن الصدر ، وغيرهم الذين شهدت بعبقريّتهم آثارهم المخطوطة والمطبوعة أولئك الذين ربّاهم وهذّبهم فعادوا أئمّة يقتدى بهم وقد نشروا علمه الجمّ وفضله الباهر على صهوات المنابر وبين طيّات الكتب والدفاتر.
    أسرته الميمونة
    كانت له زوجتان إحداهما المعظّمة ابنة عمّه أمّ خلفه العلي حجّة الإسلام الميرزا علي آقا رحمه‌الله وأمّ بنت واحدة معظّمة تزوّجها ابن خالتها الميرزا علي محمّد ، توفّيت في حياته سنة 1303 ، وأخرى هي أمّ ولده الأكبر الحاج ميرزا محمّد الذي مات في حياته ، وأمّ بنت تزوّجها الميرزا آقا ابن أخيه.
    قال المحدّث القمّي في الكنى والألقاب ما ملخّصه : ومن أنجاله الكرام العلّامة الحاج ميرزا محمّد ولد في النجف الأشرف سنة 1270 وهاجر به والده إلى سامرّاء سنة 1291 وربّاه أوّلا البارع السيّد ميرزا آقا ابن أخي السيّد المجدّد ، ثمّ كان تلمّذه على المحقّق السيّد محمّد الفشاركي الأصبهاني علم العلم ، وكان في الرعيل الأوّل من تلمذة أبيه المحقّقين لكن مع الأسف إنّه توفّي في بلدة المسيّب سنة 1307 وحمل جثمانه إلى النجف الأشرف ودفن في إحدى الحجر الشرقيّة من الصحن المقدّس.

    ونجله الثاني العلّامة الورع السيّد ميرزا علي آقا ولد سنة 1287 وأخذه والده إلى سامرّاء سنة 1291 وفيها شبّ ونما واحتضنته حجور علميّة من تلمذة أبيه حتّى استأهله والده للحضور لديه والتلمذة عليه في درس خاصّ به لم تزل الحقائق تفاض عليه حتّى نصّ قدس‌سره باجتهاده وهو حديث عهد بتمام العقد الثاني من عشراته فلم يزل متربّعا على منصّة العلم والفضيلة بسامرّاء بعد وفاة والده سنة 1312 مفيدا ومدرّسا ومع ذلك لم يترك الحضور عند المحقّق الميرزا محمّد تقي الشيرازي في بحث خاصّ به لا يحضره غيره ، وبعد وفاة أستاذه المحقّق الشيرازي انتشر صيته فصار في الطراز الأوّل من الذين تدور عليهم الفتيا والتقليد ، توفّي في النجف الأشرف ليلة الأربعاء ثامن عشر ربيع الثاني سنة 1355 وخلّف نجلين فاضلين : الميرزا محمّد حسن والميرزا محمّد حسين وهما على وتيرة سلفهما الطاهر في سلوك سنن العلم والتقى حفظهما الله وبارك فيهما وجعلهما خير خلف لنعم السلف.
    ولآية الله المجدّد أخ ثالث هو الميرزا أسد الله ، كان وحيدا في فنّه ، مسلّم الفضيلة في الطبّ في عصره ، توفّي سنة 1310 وخلّف ولده البارع الحاج ميرزا علي المعاصر الذي له قسط وافر من فضيلة العلم والطبّ والتقى.
    وممّن نبغ من هذه الأسرة الميمونة العلّامة الحجّة والفقيه المحقّق السيّد عبد الهادي ، ولد دام ظلّه عام وفاة أبيه الميرزا إسماعيل سنة 1305 وأخذ عن العلّامة علي آقا ابن عمّته ، والميرزا محمّد تقي الشيرازي ، والمحقّق صاحب الكفاية الخراساني ، وهو اليوم أحد المراجع وأصحاب الفتيا المبرّزين في النجف الأشرف ، له تحقيقات علميّة وأنظار دقيقة وأخلاق كريمة مرضيّة عرقها فيه سلفه الطاهر ، ولا بدع فنفس أبيه بين جنبيه ، وخلائق أسلافه موروثة له ، أبقاه الله تعالى علما للدين وغوثا للمسلمين ، وله شعر رائق باللغتين العربيّة والفارسيّة الكثير منه في أهل البيت العلوي عليهم‌السلام.

    وفاته قدس‌سره وصفة حمل نعشه من سامرّاء إلى النجف
    قال شيخنا العلّامة في هدية الرازي : توفّي قدس‌سره بمرض السل بعد صلاة العشاء من ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة 1312 وعمره اثنتان وثمانون سنة ، وكان قد أوصى بدفنه في النجف في المكان الذي قد أعدّ له ، فغسل في شطّ سامرّاء وحمل نعشه آخر النهار من يوم الأربعاء.
    قال العلّامة السيّد حسن الصدر رحمه‌الله تلميذه : وكنت أنا الحامل له وجماعة من أهل العلم فوضعناه في صندوق مزّفت ووضعنا الصندوق في التخت وحمل على الرؤوس حتّى عبروا به الجسر ووضع على البغال ، فلمّا قاربنا قرية بلد خرج أهلها بالأعلام السود واللطم والعزاء والبكاء ، وحملوا التخت على الرؤوس حتّى نزلنا بلد فبتنا فيها وعند الصباح حملوا التخت حتّى إذا قاربنا الدجيل استقبلنا أهلها بالأعلام السود واللطم وأخذوا التخت من أهل بلد وحملوه ، ورجع أهل بلد إلّا جماعة منهم سافروا معنا إلى النجف. وكذلك لمّا قاربنا بلد الكاظمين عليهما‌السلام استقبلنا أهلها على بعد فرسخين وثلاثة وحملوا التخت على الرؤوس واجتمع خلق عظيم وكان يوما مشهودا بحيث خشينا على الصندوق من الكسر لما وضع في الحرم الشريف من كثرة ازدحام الخلق عليه ، وبتنا تلك الليلة وعند الصبح اجتمع الخلق وحملوا النعش الشريف وهم ألوف.
    فلمّا قربنا من بغداد خرج أهلها حتّى أهل الذمّة وأرسل المشير رجب باشا رحمه‌الله العسكر السلطاني للاستقبال على هيئة الحزن ، منكّسي البنادق ، واتصل الناس بعضهم ببعض حتّى إذا وصلنا جسر الخرّ وضعوا النعش الشريف وأحاطوا به باللطم ولمّا رفعوه أخذوا التراب الذي تحته للتربك ، وسافر معنا بعض أهالي بلد الكاظمين وبغداد إلى المحموديّة ، فلمّا وصلنا أوّل الليل المحموديّة رأينا السيّد

    الشريف السيّد جعفر عطيفة رحمه‌الله قد أخرج إليها المطابخ واستعدّ للطبخ وضيافة جميع الجمعيّه بأحسن المطابخ وكانت الليلة مشهودة للسيّد المذكور.
    وفي نصف الليل خرجنا متوجّهين إلى المسيّب ولمّا صرنا على فرسخين منه استقبلنا أهلها والعشائر التي حولها وحملوا التخت الشريف إلى كربلاء وكلّما مشينا فرسخا أو فرسخين أو أقلّ من فرسخ رأينا العشائر مقبلة بالأعلام والبنادق حتّى اتصلت العشائر بالعشائر وخرج أهل كربلاء وعشائرها واسودّ الفضاء من الخلق ما بين المسيّب وكربلاء.
    ولمّا وصلنا كربلاء أرسل إليّ السيّد علي والسيّد مرتضى خازني حرم الإمام الحسين والعبّاس عليهما‌السلام وكانا في الجمعيّة أن يتقدّما ويتهيّئا لدخول الحرم وقت إخراج النعش الشريف من التخت خوف ازدحام الناس عليه وأن يصنع به ما صنع في حرم الكاظمين عليهما‌السلام ، فلمّا وصلنا إلى حرم العبّاس عليه‌السلام وجدناه مغلقا كما نريد ، فتقدّم العلماء الكبار وأخرجوا النعش الشريف وطافوا به حول الضريح وأعادوه في التخت وحمل إلى حرم الحسين عليه‌السلام فأخرجوا العلماء النعش وطافوا به حول الضريح ولمّا فرغوا من الطواف والزيارة وضع في (الكشيك خانه) ثمّ فتح الحرم وبتنا في كربلاء تلك الليلة.
    ولمّا كان الصبح أخرجنا التخت وحمل على الرؤوس إلى النجف وجاء معنا من أهل كربلاء وغيرهم ألوف من الناس مشاة على أقدامهم خلف التخت الشريف واتصلت العشائر بعضها تلو بعض من أوّل ما خرجنا من كربلاء إلى أن دخلنا النجف فقبل العشيرة حاملة بنادقها ، فإذا وصلت إلى التخت رمت البنادق من أيديها ولطمت على رؤوسها وتقدّمت وأخذت التخت من العشيرة المتقدّمة عليها وهكذا حتّى أخذه أهل النجف. وكان يوما مشهودا عجيبا غريبا لم ير في الدنيا نظيره ، وكلّ هذه الألوف بين نوح وبكاء ولطم وعزاء حتّى فتح الحرم الشريف

    وأدخل التخت إلى الرواق وأغلق الحرم فأخرجنا النعش الشريف من التخت ودخلنا به الحرم ولمّا تمّ الطواف به والزيارة وضع في الرواق حتّى إذا كان نصف الليل أخرج إلى المدرسة المتصلة بباب الطوسي وكان قد تمّ حفر القبر وخسف السنّ فأنزلنا النعش الشريف وأخرجنا منه الجسد الشريف من التابوت بعد أن فرشنا أرض القبر بالتربة الحسينيّة التي كان قدس‌سره قد ادّخرها له في كيس محفوظ عند وكيله الحاج محمّد إبراهيم الكازروني ولففناه بالبردة اليمانيّة التي كانت معي وأخذنا في سائر السنن المستحبّة وتمّ دفنه آخر ليلة من شعبان وأقيمت له الفواتح في جميع بلاد الشيعة من شرق الأرض وغربها ، وتعطّلت الأسواق في أيّام إقامة الفواتح.
    وقال السيّد مهدي بن محمّد باقر بن مرتضى الطباطبائي اليزدي الحائري في مادّة تاريخ وفاته قدس‌سره :
    چون پايه مذهب از ميان رفت بگو
    قد مات محمّد حسن الشيرازى

    فإذا ذهب اثنان وهو عدد الباء التي هي آخر المذهب يبقى اثنا عشر وثلاثمائة وألف. وقد جمع العلّامة الكبير الميرزا محمّد علي الأوردبادي النجفي دام وجوده مجموعا من القصايد العربيّة التي قيلت في مدائحه ومراثيه فكان مجلّدا ضخما يوجد الآن عند أحفاده كما أنّه جمع بعض الأدباء مجموعا فيما قيل فيه باللغة الفارسيّة ، ولعلّه موجود عند آله.
    المسألة الدخانيّة التي طار صيتها في الآفاق
    قد ألّف بعض الفضلاء من المتأخّرين رسالة واسعة في المسألة الدخانيّة باللغة الفارسيّة ، ورأيت نسخة منها مخطوطة عند العلّامة الميرزا محمّد الطهراني بسامرّاء

    فأحببت إيراد بعض عبارتها المهمّة التي لها دخل في المقصود ، قال ما تعربيه :
    لمّا استولت دول الأجانب على بلاد إيران جعلوا يتربّصون الدوائر حتّى أخذوا امتيازات كثير من أجناسهم وأطعمتهم فعطّلت أسواق التجارات من جرّاء ذلك ، وكثر الحزن في مكاسبهم ، فآل أمرهم إلى الفقر والمسكنة وبطلت مصانع منسوجاتهم ومعامل سكّرهم ، ثمّ لم يقنع الأجانب بذلك فجعلوا يفسدون أخلاقهم ويعيّرون علماءهم ويزيّنون للجهّال معارفهم ، ولا ريب أنّ النفوس ميّالة إلى اللهو واللعب ، والناس إلى أمثالهم أميل ، والمجالسة مؤثّرة ، والمخالطة تورث المحبّة ، والمحبّة تورث الاتحاد في اللباس والمآل والمشارب والعلوم والمعارف وجميع الآداب والرسوم ، فيؤول حينئذ أمر المسلمين إلى الفناء والزوال.
    وكان الأجانب يرسلون في كلّ سنة عدّة من أبنائهم إلى إيران فيدخلون أنفسهم في مكاسبهم بكلّ حيلة ومكيدة حتّى مهنة التجارة والخياطة والعمارة والصياغة وغيرها ، وكان الأمر كذلك إلى أن سافر السلطان ناصر الدين شاه إلى لندن في سنة 1306 فاستقبلوه في موكب عظيم واحتفلوا به وبذلوا جهدهم في إكرامه واحترامه اللائق به وهو غافل عن مقاصدهم وما يريدون منه ، ثمّ احتفلوا به في محفل كبير وقالوا له : إنّ امتياز التتن والتنباك نستدعيه منكم مدّة خمسين سنة بشروط نقوم بها :
    الأوّل : نرسل في كلّ سنة خمسة عشر ألف ليرة إلى خزينتكم سواء ربحنا أو خسرنا ، وهذا المبلغ نؤدّيه كلّه في مدّة خمسة أشهر.
    الثاني : يجب على أولياء الحكم في جميع بلاد إيران إجبار الزارعين بإعطاء التعهّدات لنا وأنّ كلّ ما يزرعون من التتن والتنباك لا يجوز لهم بيعه وشراؤه وتضمينه إلّا بإذن صاحب الامتياز ، وليس لأحد إصدار الإجازة بذلك إلّا من صاحب الامتياز وليس للبايع والمشتري أن يعامل بغير دفتر الإجازة ومن فعل ذلك فعليه المجازاة.

    الثالث : يجب على صاحب التتن والتنباك أن يسلّم ربع المنافع إلى الخزانة وذلك بعد وضع جميع المخارج المتعلّقة بذلك وللمأمورين تفتيش الدفاتر في رأس كلّ سنة.
    الرابع : حرّيّة الآلات والمكائن المتعلّقة بإصلاح التتن والتنباك وخلوّها عن مصارف العشّارين حين دخولها في إيران.
    الخامس : عدم جواز الحمل والنقل من التتن التنباك مطلقا إلّا بإجازة صاحب الامتياز.
    السادس : يجب على أصحاب الإمتياز شراء جميع الدخان الموجود في ممالك إيران وليس للبايع الامتناع من ذلك.
    السابع : يجب على أولياء الحكم أن لا يزيدوا في الإعشار والكمارك المعمولة إلى مدّة خمسين سنة.
    الثامن : كلّ من باع او ابتاع خفية أو وجد عنده شيء منه بدون إجازة فيجب على المأمورين للدولة العلّيّة الإيرانيّة مجازاته الشديدة.
    التاسع : يجوز لأصحاب الامتياز انتقال حقوقهم مع شروطها إلى من يريدونه كائنا من كان.
    العاشر : يجوز لأصحاب الامتياز ابتياع الأراضي للمخازن الدخانية نعم لا يجوز ابتياع أزيد من ذلك.
    الحادي عشر : لو تجاوز حكم ما قرّر في دفتر الشروط عن مقدار السنة بمعنى أنّ الهيئة التي تعرف باسم الكمبانيّة لم يشتغلوا بالعمل حتّى ينقضي من تاريخ كتابة الشروط مقدار سنة بطلت الشروط وبطل الامتياز فيجب تشكيل ذلك بسرعة.
    ثمّ كتبوا وثيقة الامتياز صورتين وختمهما السلطان ناصر الدين شاه بخاتمه ، وقيل ذلك كلّه غفلة عن حقيقة الحال أو عدم علمه بالمآل.
    ثمّ رجع السلطان إلى عاصمة ملكه طهران وجاءت من لندن هيئة تعرف باسم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:46 pm

    الكمبانيّة واشتغلوا بشراء الأراضي وبناء المخازن وإحضار المكائن والآلات والأدوات وانتشر الخبر في الآفاق ونشر ذلك في الجرائد وهتفوا بخطأ هذه المعاملة وقالوا : إنّ دخانيّه اصبهان وحدها في سنة واحدة تبلغ عشرين ألف ليرة وطعنوا بالسلطان وكثر اللغط ، فبينماهم كذلك إذ جاء من لندن جماعة من الأجانب لا يقلّ عددهم عن مائة ألف نسمة بين رجال ونساء ودخلوا طهران وشرعوا في تنفيذ مقاصدهم وأرسلوا في كلّ بلد من بلاد إيران عدّة من هيئتهم وقويت بذلك كلّ ملّة في إيران سوى ملّة الإسلام ، وكثرت الفواحش وشرب الخمور.
    فلم تزل كلّ يوم تكثر هذه الدواهي وقد فتح الأجانب المدارس لدعوة الناس إلى مذهب المسيح وجعلوا المبشّرين (الپرتستانت) في جميع المستشفيات ينفقون أموالا جمّة على الفقراء والمساكين ويستخدمون بنات الإسلام وفتيانها ، وصار المسلمون مقهورين تحت أيديهم ، وفرّقوا أربعمائة ألف تومان بين الأمراء والحكّام ليوافقوهم في تنفيذ مقاصدهم.
    وابتاعوا قطعة أرض قرب حديقة الإيلخاني بخمسة وأربعين ألف أشرفي وأنفقوا لعمارتها مائة وخمسين ألف ليرة وجعلوها مسوّرة بسور رفيع حصين ونصبوا على أبراجها مدافع ، وكان قطر السور أربعة أذرع ، فلمّا فرغوا من استحكاماتهم في طهران أرسلوا هيئة إلى شيراز فلمّا قربوا من البلدة وانتشر خبر قدومهم فيها اجتمع الأشراف عند علمائهم وأنكروا هذا العمل فوافقهم العلماء في ذلك مصلحة لديهم وإصلاحا لمفاسد أمورهم فأخبر بذلك أصحاب الامتياز فخافوا أن يدخلوا البلدة إلى أن سيّرت الحكومة السيّد العلّامة الحاج السيّد علي أكبر الذي كان من قدوة العلماء في شيراز إلى أبو شهر خفية ، فلمّا علم بذلك أهل البلدة هاجوا وماجوا واضطربت الأمور وعطّلت الأسواق ولاذوا بالحضرة المقدّسة حضرة السيّد أحمد بن موسى بن جعفر عليهم‌السلام الذي يعرف ب «شاه چراغ»

    وكثر البكاء والضجيج بحيث خشيت الحكومة المحلّيّة فأمرت بإحضار جنود لتفريق الناس بالبنادق فقتل عدّة من المسلمين وانهزم الباقون مجروحين خائفين وجلين ، ولكن الاضطراب يشتدّ في كلّ يوم غير أنّ الحكومة المحلّيّة استقبلت أصحاب الامتياز وأدخلتهم البلدة مع كمال الاحترام. وسار الحاج السيّد علي أكبر الشيرازي مع جماعة من العلماء من بوشهر إلى سرّ من رأى واستغاثوا بآية الله المجدّد الشيرازي قدس‌سره ، فأمر رحمه‌الله بضيافة السيّد وتجليله وتعظيمه بما لا مزيد عليه.
    ثمّ إنّ أصحاب الامتياز أرسلوا هيئة إلى آذربيجان فأخبر بذلك العلّامة الحجّة الميرزا جواد آقا فأمر بمنع دخول الهيئة وأنكر ذلك أشدّ الإنكار فآل الأمر إلى تأخير ذلك الحكم عن آذربيجان وكثرت المراسلات بين السلطان وبين هذا العالم الغيور الإسلامي إلى أن قهر واضطهد ودخلت الهيئة آذربيجان بالقوّة القاهرة وأخذوا يبتاعون النقاط الرئيسيّة للبلدة والأمكنة المعمورة وابتنوا فيها قصورا شاهقة وأبنية فخمة ، فزاد ذلك وحشة الناس وخوفهم على اضمحلال بلاد إيران وسقوطها بيد الأجانب بلا كلفة ، فاستغاث الناس بعلمائهم واستدعوا منهم المكاتبة إلى سلطانهم والاحتجاج عليه وأن يبيّنوا له مفاسد هذه المعاملة ، ففعلوا غير أنّهم ما نالوا مرادهم ، فكتبوا إلى سرّ من رأى بالقصّة التفصيليّة واستغاثوا كلّهم بآية الله المجدّد ، وكان قدس‌سره من خطّته أن لا يتداخل فيما يتعلّق بأمور المملكة والسياسة.
    فلمّا كثرت الشكوى من جميع بلاد إيران وتواترت الكتب من العلماء والأشراف ومعاريف التجّار وتكلّموا في أطراف القضيّة وأوضحوا مفاسد هذا الامتياز أبرق آية الله المجدّد في التاسع عشر من ذي الحجّة سنة 1308 إلى السلطان ناصر الدين وكتب كتابا مفصّلا إلى نائب السلطنة أوضح فيه ما يجب إيضاحه وشرح فيه ما يجب شرحه ، فأرسل السلطان جواب المكتوب مع كمال التعظيم والتوقير وكان مفاده :

    أوّلا : إنّ إيران حالها في هذا اليوم ليس كحالها في الأمس فيجب على سلطانها أن يحفظ استقالها وهذا لا يتمّ إلّا بإظهار المودّة مع الدول القويّة.
    وثانيا : دفع الفاسد بالأفسد أمر راجح.
    وثالثا : خراج إيران الذي يعرف باسم الماليات لا يفي بمصالح الملك فليس لنا بدّ عن أمثال هذه المعاملات مع الأجانب ليتمّ به مصالح المملكة.
    ورابعا : لا يجوز للسلطان إذا ختم بخاتمه في دفتر المعاملة أن ينقضه.
    وخامسا : لا يمكن الفسخ والابطال فيها لأنّها تحوّلت إلى أيد قويّة من دول أروبا وكيف يمكن للسلطان مع ضعفه أن ينازع الأقوياء.
    وسادسا : على فرض إمكان السلطان من فسخ هذه المعاملة وإبطالها فإنّه يحتاج إلى مصارف كثرة لا يمكننا تحصيل عشرها.
    فأرسل السلطان الكتاب إلى قنصله في بغداد وكتب له بأن يسافر إلى سرّ من رأى حاملا معه الكتاب ويبذل جهده في إرضاء الإمام الشيرازي ، ففعل القنصل فلم يقبل قدس‌سره هذه المعاذير وأجاب عن كلّ واحد منها وأبرق للسلطان برقيّة ثانية وكتب كتابا ثانيا أدلى فيه ببراهين قاطعة أخطاء هذه المعاملة الفاسدة فكتب في آخر الكتاب : إن عجزت الدولة عن الجواب فلسنا بعاجزين ، وإن لم تقدر أن تجيب الخصم وتطالب بحقوق الملّة فخلّ بيننا وبينه ، ثمّ في خلال ذلك صدر الأمر من رئيس أصحاب الامتياز بجمع التنباك الموجود في جميع ممالك إيران وشرائه.
    فوقع التشاجر والتنازع في القيمة ومقدار الثمن وما ادّخره بعض لحجّة أو لغرض آخر حتّى أنّ أحد التجّار كان له اثنا عشر ألف كيس من التنباك فجاء إليه أصحاب الامتياز لابتياع ذلك فلم يرض البايع بما عيّنه صاحب الامتياز من الثمن فاستمهله لغد ، فلمّا خرج أصحاب الامتياز من عنده أخرج أكياس التنباك في فضاء وصبّ عليه النفط وأحرقه جميعه ، فلمّا أصبحوا جاؤوا إليه وطالبوه

    بالأكياس فقال : بعته بأغلى الثمن ، فاستشاطوا غضبا وقالوا له : كيف بعته من غير إذن منّا؟ فذهب بهم إلى تلّ رماد وقال : بعته غيرة للدين فافعلوا الآن ما شئتم.
    فكثر الاضطراب بين الناس واشتدّ الأمر على الزرّاع وضاق الأمر على الرعيّة لكثرة ما حمّلوهم من التكاليف الشاقّة الضارّة لدينهم ودنياهم واتصل بأصحاب الامتياز كثير من الدجّالين الذين يريدون التقرّب إليهم ويدّعون أنّهم من المسلمين فكانوا يدلّونهم على أعراض الناس ونواميسهم وما ادّخروا من التنباك ، وجعلوا يصرفون عوام الناس عن إطاعة العلماء فاضطهد أهل الدين وكانوا يجندون السفور لبنات المسلمين وينصبون الكراسي في المعامل الإسلاميّة ليجلسوا وينظروا إلى بنات المسلمين اللائي يشتغلن في المعامل وهنّ سافرات ووقع من أمثال ذلك ما لا يحيط بيانه القلم.
    فلمّا رأى العلماء في أصبهان أنّ البليّة قد عمّت البلاد امتنعوا عن استعمال التنباك وبيعه وشرائه فوافقهم أهل الدين وانتشر الخبر فهدّدوهم بإرسال المدافع إلى بيوتهم وتخريب مساكنهم غير أنّ العلماء لم يكترثوا بهذه التهديدات غيرة للدين فآل أمرهم إلى النفي والإخراج ، فخرج بعضهم خفية وبعضه جهرا إلى سرّ من رأى واستغاثوا برئيس الشيعة الإمام المجدّد رحمه‌الله ، فلمّا رأى أنّه قد تفاقم الأمر وانتهى الأمر إلى هذه النتيجة السيّئة التي لا يرضى الله ورسوله كتب مصدّرا فتواه التي رنّ صداها في العالم الإسلامي لا سيّما في إيران فكان نصّ تعريبها بعد البسملة : «اليوم استعمال التنباك والتتن حرام بأيّ نحو كان ومن استعمله كمن حارب الإمام عجّل الله فرجه» ، ونصّها بالفارسيّة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، امروز استعمال تنباكو وتتن در حكم محاربه با امام زمان عليه‌السلام است ، حرّره الأحقر محمّد حسن الحسيني» فأرسل صورة الفتوى إلى أكبر علماء طهران الحاج ميرزا محمّد حسن الآشتياني قدس‌سره.
    وفي أواخر شهر ربيع الثاني سنة 1309 أقام أصحاب الامتياز الأجانب في

    دائرة الكمباني حفلة عظيمة اجتمع فيها خلق عظيم من رجالهم ونسائهم وحضر القنصل الروسي والقنصل الألماني والقنصل الإيطالي والأمريكي والقنصل التركي وغيرهم من القناصل والمأمورين والأمراء والحكّام والتجّار الإيرانيّين وكانت هذه الحفلة حفلة سرور ونشاط لظفرهم بمرادهم ، وكانوا فرحين بانقضاء مدّة الاستمهال حسبوا أنّهم من الغد يسيطرون على المسلمين وينالون مرامهم.
    فلمّا أصبح الناس في غاية الحزن والانكسار سمع بعضهم من بعض أنّ الإمام الشيرازي حرّم استعمال التنباك والتتن وجعله في حكم المحاربة مع الإمام الحجّة بن الحسن عليه‌السلام ، فكادوا يطيرون فرحا وسرورا وجعلوا يسألون من أين جاء هذا النبأ العظيم الذي فيه حياة إيران والإيرانيّين ، فازدحموا على دار حجّة الإسلام الآشتياني لكي يعرفوا صحّة الخبر ، وكان الآشتياني مترقّبا هذه الفتوى غير أنّ البريد تأخّر أسبوعا فأخذ أولياء الأمر يعاقبون من تكلّم بحرمة الاستعمال ويقولون : هذا من حيلكم ولم يصدر من الإمام الشيرازي فتوى بالحرمة ، فإذا بالبريد قد دخل دار الآشتياني وأعطاه صورة الفتوى فقرأها الآشتياني على عموم الناس ، فلم تنقضي ساعات إلّا واستنسخوا عنها مائة الف نسخة وقرأوها على المنابر في المساجد والمحافل ، وما أمسى الناس إلّا وطبّق البلد الخبر وانتشر في البلدان والقرى التي كانت من أعمال طهران ، فأمرت الحكومة بجمع النسخ وأخذها من أيدي الناس غير أنّه ما نالت مرامها وجعلت تسأل عن نسخة الأصل فدلّت على الآشتياني وكان قدس‌سره يخشى من إظهار نسخة الأصل.
    فاستعملت الحكومة الأمر من سرّ من رأى فأبرقوا للعلّامة الميرزا حسين النوري والشيخ الحاج آقا النوري وأمثالهما فأجيبوا بصحّة صدور الفتوى من الإمام الشيرازي فأيقنوا بصدق صدور الحكم ، فأبرق التجّار والعلماء إلى جميع ممالك إيران بذلك وخضع الناس جميعا للحكم وانقادوا وامتثلوا مبتهجين

    مسرورين ، وكلّ من كان عنده شيء من التنباك أحرقه وكسر غليانه وشطبه.
    ومن عجيب نفوذ هذا الحكم أنّ الفسّاق المتجاهرين بالفسق الذين يفطرون شهر الصيام ويشربون الخمر امتنعوا عن استعمال الدخان ، فقيل لهم : ما بالكم تشربون الخمر ولا تشربون التنباك؟ قالوا : إنّ شرب الخمر له توبة وهذا ليس له توبة ، فمن استعمل التنباك فهو مثل من قتل الإمام علي عليه‌السلام وقاتل الإمام لا تقبل توبته.
    ومن عجيب نفوذ هذا الحكم بسرعة أنّ أصحاب المقاهي كسروا كلّ ما عندهم من الغليان وإن كان من أغلى الأثمان ، وأبطل أصحاب المعامل كلّ ما له تعلّق بالغليان سواء في ذلك التجّار والكوّاز والصبّاغ وغيرهم ، وكسروا ما عندهم في المعامل ، فبلغ الأمر إلى أنّ رجلا سأل بعض العلماء وقال : إنّي رششت التنباك بالشمس لييبس وأريد الآن جمعه فأجعله في كيس وأخرجه من داري فهل هذا استعمال أو لا ، وأرسل رجل رأس غليان إلى دكّان ليصلحه قبل وصول الحكم فبعد انتشار الحرمة ذهب ليأخذ رأس الغليان فرأى أنّ الأستاذ يصلح ثقبته ما هو معدّ لشرب الأفيون وردّ رأس الغليان كما كان ولم يصلحه ، فقال له الرجل : هل يجوز شرب الأفيون؟ قال : لا ولكن له توبة بخلاف شرب الغليان الذي ليس له توبة. ورأوا درويشا شرب الغليان فأنكروا عليه حلف إنّه ليس بالتنباك إنّما هو حشيشة فلم يقنعوا بذلك حتّى قلّبوا رأس الغليان فرأوا أنّه قد صدق فتركوه.
    ومن عجيب نفوذ هذا الحكم الشريف أنّ خواتين حرم السلطان وجواريها كسروا ما كان عندهم من الغليان واستعفى السلطان ناصر الدين شاه خدّامه عن هذا العمل فعفا عنهم وخلّى سبيلهم.
    ومن عجيب نفوذ هذا الحكم الشريف أنّ اليهود والمجوس وسائر الفرق الباطلة وافقوا جماعة المسلمين وقالوا : هذا حكم محترم يجب اتّباعه ولا يجوز التخلّف عنه

    فمن تخلّف عنه فبعيد عن الشرف ، ولا يدلّنا التاريخ منذ خلق الله الدنيا على أنّ حكما نفذ بسرعة في جميع طبقات الناس كبيرا كان أو صغيرا ، رجالا أو نساء ، مؤمنا أو منافقا ، مسلما أو كافرا ، عاليا كان أو دانيا مثل هذا الحكم ، فانتشر في العالم الإسلامي وامتنع المسلمون عن شربه بسرعة بالطوع والرغبة ، ويرون ذلك فخرا لأنفسهم ، وقد دلّنا التاريخ من أحوال الأنبياء عليهم‌السلام أنّهم بعد سنين متطاولة من تبليغهم أحكام الله وتحمّلهم المذلّة والأذى في ذلك يتبعهم شرذمة قليلة وعظمة نفوذ هذا الحكم الشريف بلغت درجة لا يمكن وصفها لأنّا نرى بالعيان ونسمع بالآذان أنّه قلّ ما يوجد اتفاق جميع العلماء في جميع البلدان في حكم يتعلّق بالمصلحة العامّة وهذا الحكم الشريف لمّا صدر عن مصدره خضع له جميع العلماء واستقبلوه بكلّ ارتياح وقبول ، وانقادوا إليه بكلّ ابتهاج وسرور. ولعمري أنّ هذا من النوادر الغريبة التي قلّ ما تتفق في عصر من العصور كما يدلّنا سير التواريخ لا سيّما تواريخ العظماء المصلحين.
    ثمّ إنّ أصحاب الامتياز أصبحوا حيارى مبهوتين كأنّ على رؤوسهم الطير ، فكتبوا إلى لندن بهذا المضمون : «إنّه قد وقعت داهية عظمى لا يدلّنا التاريخ على مثلها في إيران وهي أنّ شرب التنباك والأنفية التي كانت عادتهم استعمالها في الليل والنهار وأهمّ لوازمهم بل كانوا يعدّونه من الواجبات في بيوتهم تركوه ثباتا حين وصلت إليهم فتوى رئيسهم بالحرمة ، ومن حين صدور الحكم من رجل واحد تركوا أعظم ما كانوا متعوّدين به منذ سنين متطاولة من غير كره ولا إجبار ، وعامّة المسلمين خضعوا لفتوى رئيسهم حتّى دوائر الحكومة الإيرانيّة ، وصار استعمال التنباك عندهم من أنكر المنكرات ولم يزالوا يكسرون الشطب والغليان ويرمون بخزفه وأخشابه إلى دائرة الامتياز» ومثل ذلك كتب السفراء إلى ممالك أوربا.
    فاجتمع أصحاب الامتياز إلى السلطان واستغاثوا به فوعدهم بالعلاج وكان

    السلطان فرحا بهذا الحكم الشريف بالباطن غير أنّه لم يكن له بدّ من المماشاة مع أصحاب الامتياز فعقد حفلة عظيمة دعا فيها مشاهير علماء دار الخلافة منهم الميرزا الآشتياني والمولى السيّد علي أكبر التفرشي والشيخ فضل الله النوري وشريعت مدار إمام الجمعة وشريعت مدار السيّد محمّد رضا والآخوند ملّا محمّد تقي القاشاني ، ومن طرف الدولة أحضر السيّد عبد الله البهبهاني ونائب السلطنة وأمين السلطان وأمين الدولة ومشير الدولة وقوام الدولة ومخبر الدولة ، فلمّا اجتمعوا أحضر السلطان صورة ما قرّر بينه وبين أصحاب الامتياز وخاطب العلماء وقال : هذا ما قرّر بين الدولة وبين أصحاب الامتياز فانظروا فيه فما كان فيه مخالفا لحكم الشرع المطاع نأمر بتغييره ، وأمّا أصل المسألة فإبطاله محال ، فلمّا قرأوا فإذا في صدر الدفتر كلمة (مينويل) فسأل العلماء عن تفسير هذه الكلمة فقيل لهم أنّ هذه الكلمة معناها بالانكليزيّة الامتياز والانحصار يعني أنّ التنباك لا يجوز بيعه ولا شراؤه إلّا بإجازة أصحاب الامتياز ، وهذا حقّ يختصّ به فقط.
    فقال العلماء : هذا أوّل ما يجب تغييره أو إسقاطه لأنّه خلاف ما قرّر في شريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الأصول المقرّرة الثابتة قاعدة (الناس مسلّطون على أموالهم) فعلى هذا الأصل كلّ واحد من الناس مسلّط على ماله يفعل فيه ما يشاء فهو مختار على بيعه وإدّخاره بأيّ نحو كان ، وقاعدتكم هذه مخالفة لحكم الشرع المطاع حيث أنّكم أمرتم بأنّ الرعيّة لا تبيع إلّا لشخص معيّن بثمن معيّن في وقت معيّن في مكان معيّن وهو مجبور مسلوب الاختيار في جميع ذلك والشارع لا يرضى بذلك أبدا ، فبهتوا وأفحموا ، وكلّ واحد من أركان الدولة لم يحر جوابا.
    فقال الوزير للآشتياني أنّ السيّد ميرزا محمّد حسن الشيرازي مجتهد وجنابك أيضا مجتهد فيمكنك أن تفتي بالإباحة كما أنّه أفتى بالحرمة ، فأجابه الآشتياني بكلمات قارصة وقال : إنّ مولانا الميرزا الكبير سيّد الشريعة وإمام الشيعة ، ملاذ

    الأمّة نائب الأئمّة ، حكمه مطاع وأمره لازم الاتباع ، ونحن عبيده ومطيعوه في كلّ ما يقول ؛ لأنّ الرادّ عليه على حدّ الشرك ، فيئس الوزير الأعظم من إقناع العلماء ووعدهم برفع الامتياز. فلمّا مضى أسبوع على عقد المجلس المشار إليه عقدوا مجلسا آخر وأحضروا المذكورين وحضر السلطان ناصر الدين وقالوا : قد أبطلنا الامتياز عن داخل إيران فآحاد الرعيّة مختار في بيع التنباك بأيّ وجه يريد وبأيّ ثمن وفي أيّ وقت يشاء لا إجبار في البيع غير أنّ الامتياز باق بحاله في خارج المملكة والتنباك من إيران يحمل إلى المملكة العثمانيّة فقط ومعلوم عندكم أنّ اختيار الخارج ليس بأيدينا فنستدعى من العلماء أن يصعدوا المنابر ويعلنوا بالإباحة.
    فقالوا : ما أفتينا بتحريمه حتّى نفتي بإباحته ولا ربط لنا في المسألة ، إنّما القول قول السيّد الكبير الميرزا الشيرازي منه الأمر ومنّا الإطاعة والانقياد فراجعوه أنتم في المسألة حتّى يتبيّن لكم الأمر ، كتبوا صورة برقيّة وختموها بخواتيم العلماء وأرسلوها إلى سامرّاء وكانوا في انتظار الحكم بالإباحة فإذا بالجواب من سامرّاء مفادّه التشكّر من السلطان والرجاء بقطع أيدي الأجانب من إيران ، فلم يبق مجال للسلطان على علماء دار الخلافة فبقي حكم الحرمة بحاله.
    فلمّا مضى أسبوع رأى الناس في صبيحة يوم الاثنين إعلانا على حائط شمس العمارة مفادّه أنّ يوم الاثنين الآتي نحن مأمورون بالجهاد فمن كان مسلما فيجب عليه الجهاد بفتوى الإمام الشيرازي مدّ ظلّه ، فولول الناس فهاجوا وماجوا وانتشر الخبر إلى تمام دار الخلافة وخاف الأجانب على أنفسهم فجعلوا ينهزمون خفية حتّى أنّ كثيرا منهم خرجوا من إيران لا بسي ثياب النساء وكانت قلوبهم مملوءة رعبا من الحكم بحرمة الدخان وقالوا : إنّ المسلمين مستميتون ونرى أنّ رئيسهم الديني لو أمرهم بإحراق أنفسهم بالنار لا يتخلّفون عن أمره فالإقامة في إيران فيها خطر عظيم. وأمّا أصحاب الامتياز فلجئوا إلى شمس العمارة واستغاثوا

    بالسلطان ناصر الدين شاه فأرسل السلطان إلى الآشتياني واستخبر منه ، فحلفه أنّه لا علم له بذلك ، ووعد السلطان بتسكين الناس.
    وكان كثير من الناس يبتاعون الأسلحة ويجدّدون العهد والوصيّة وعلت أصوات البكاء من دورهم وكانوا يودّعون نساءهم وصبيانهم ، فلم تزل هذه الأمور تتضاعف ويشتدّ خوف الأجانب وأصحاب الامتياز ، فدعا الآشتياني أصحاب المنابر والمحاريب وأمرهم بتسكيت الناس وأنّ هذا الإعلان لا أصل له ، فهدأت فورة الناس غير أنّ سفراء أوربا خافوا عاقبة الأمر وزعموا أنّ هذه الهدنة من المسلمين سياسة وإغفال للخصم فاحتفلوا قبل مضي أسبوع وأحضروا أصحاب الامتياز والسلطان ناصر الدين شاه وكثيرا من الأكابر والأشراف وكان المتكلّم السفير الروسي وخاطب الحضّار وقال : «زنده باد اتفاق مسلمان ها» أي اتفاق كلمة الإسلام على السلامة. فتعجّب السفراء من هذه الكلمة ، فلمّا رأس السفير الروسي تعجّبهم قال : أحضرت هذه الحفلة حتّى أقول لكم الكلمة وإن شئتم أشرح لكم؟ قيل له : قل.
    قال : اليوم مقدار مائتي ألف من رؤوس الغليان وكيزان البلور للغليان وغيرهما ممّا يتعلّق بالدخان وقفت تجارتها عن روسيا ولا يدرى إلى ما يصير مآلها وكان السبب في ذلك أنّ «آرسن» رئيس أصحاب الامتياز وضع حكما في إيران يخالف قوانينهم الإسلاميّة فأفتى رئيسهم المطاع بحرمة استعمال الدخان فأطاعوه وتركوا عادة كانوا متعوّدين عليها منذ خمسمائة سنة ومنشأ هذه الخسائر ليس إلّا آرسن رئيس الامتياز ، أليس من الواجب عليه رفع يده عن هذه المعاملة قبل حدوث حادثة أكبر من هذه؟ قالوا بأجمعهم : نعم.
    ثمّ قال : هذا سهل يمكن تحمّله ، ولو فرضنا أنّ رئيس الامتياز لم يرفع يده عن هذه المعاملة ورئيس الإسلام يشدّد في الحكم لقطع يد الأجنبي ويفتي بحرمة شرب

    «الشاي» ومن المعلوم أنّ تأثيره في قلوب المسلمين ليس بأقلّ من تأثير حرمة الدخان فعنده هل يمكن إحصاء الخسائر التي ترد إلينا وإلى سائر دول أوربا لأنّ ذلك يعطّل تجارة السكّر بأنواعه وتجارة جميع الآلات التي يتوقّف عليها استعمال «الشاي» وقد يكون ذلك سهلا لو فرض ولكن لو أصدر سيّدهم المطاع فتوى بحرمة استعمال جميع ما يرد من البلاد الخارجيّة إلى إيران لعمّت الخسائر والأضرار جميع الدول ، ولو فرضنا مع ذلك سهولة هذه الخسائر العظيمة ولكن لو أصدر فتواه الحاسمة بوجوب قتل جميع المسيحين الذين هم منتشرون في بلاد إيران وتنزيهها عن الأجانب فما تفعلون؟ فقالوا بأجمعهم : لا شبهة أنّه لو أفتى بذلك لقتلونا لأنّهم يرون الجهاد واجبا عليهم ومن قتل منهم يكون شهيدا فعند ذلك نكون مسئولين تجاه صاحبنا لأنّ التبعة الخارجيّة كثيرة في بلاد إيران وتلك داهية عظيمة.
    فقال السفير الروسي لهم : فانظروا عندئذ عواقب المسألة. فقالوا بأجمعهم : الحقّ ما تقول ويجب على «آرسن» رئيس الامتياز فسخ المعاملة وإبطالها.
    فقال آرسن : كيف أفسخ هذه المعاملة وإنّي منذ دخلت إيران إلى يومي هذا أنفقت أربعة كرور من الليرات في الرسومات والعمارات والآلات والوظائف وغيرها؟!
    فقال السفير الروسي : هذا الخسائر التي وردت عليك كنت قد أقدمت عليها لعلمك بأنّ ذلك خلاف القوانين الإسلاميّة ورؤساؤهم الدينيّون لم يرضوا بذلك.
    فبهت آرسن ولم يحر جوابا ثمّ استمهل السفراء لينظروا في أمره ، فكان كلّما فكّر في الأمر لم تطب نفسه إلى ترك المعاملة ، فكتب إليه السفراء بأن لا تقم في إيران أو تأخذ الإجازة باستعمال الدخان من علماء الإسلام.
    ثمّ إنّ آرسن جعل يسأل عن أحوال علماء دار الخلافة ومراتب زهدهم

    وتقواهم إلى أن وجد فيهم من كان يطلبه ، فدخل داره خفية ورشاه بثلاثة آلاف تومان له وخمسمائة تومان لكاتبه ، فقبل تلك الرشوة ، فقال لرئيس الامتياز : أنا أفتيت بالحرمة لجهات اقتضت والساعة أفتي بالإباحة ، فشرب في الوقت الدخان ، فلمّا رأى ذلك آرسن فرح بذلك وزعم أنّه نال مرامه من هذا الفاسق المتهتّك ، فقال المرتشي : أنا متعهّد بإبقاء معاملة الامتياز على حالها واستعمال الشعب الدخان ولكن يجب عليك أن تواجه السلطان وتستدعي منه إخراج من هو معارض لنا من طهران.
    فقام آرسن وأتى إلى السلطان وقال : ما جئنا إلى إيران إلّا معتمدين عليك لتزيل عنّا كلّ غائلة حدثت ، واليوم أصابتنا خسائر فادحة وفيها مسئوليّة عند السفراء فنسدعي من حضرتكم إمّا أن تتحمّل خسائرنا لنرجع إلى بلادنا أو تأخذ لنا الإجازة من العلماء. ولمّا كان الأوّل غير ممكن للسلطان وعده بالثاني اضطرارا ، ثمّ حدّثه بالقصّة وما وقع الاتفاق عليه مع المرتشي المذكور ، فبقي السلطان متحيّرا فكتب إلى الآشتياني بما مضمونه أنّ جنابك مخيّر بين أن تعلن بإباحة استعمال الدخان أو تسافر مدّة قليلة من طهران فإنّ الأمر كذا وكذا ، فكتب إليه الآشتياني : أمّا نقض حكم الإمام الشيرازي فمحال ، وأمّا المسافرة فأسافر من الغد إن شاء الله.
    فانتشر نبأ المسافرة في تمام البلدة بسرعة هائلة فعظم ذلك الأمر عند العلماء فاجتمعوا من كلّ محلّة وقصدوا دار الآشتياني واجتمع من طبقات الناس خلق كثير فملئت الشوارع والأسواق ورفعوا أصواتهم بالبكاء والنحيب مستنكرين ذلك أشدّ الإستنكار ، وكان الأمر كذلك إلى قريب من الظهر ، فبينماهم كذلك إذا بأفواج النساء صارخات باكيات يهرعن إلى الأسواق ، فكلّما رأين دكّانا مفتوحا أمرن بسدّه ، فعطّلت الأسواق وملئت الشوارع والسكك من الرجال والنساء ، وجعلوا يسبّون أصحاب الامتياز وكلّ من ينصرهم ويعينهم ، وتارة يصرّحون

    بأسماء الوزراء الكبار بحيث خاف أركان الدولة على أنفسهم فسدّوا أبواب شمس العمارة ونصبوا المدافع على سطوحها وأمروا الجيش بإطلاق نيران بنادقهم ، فخالف الجيش أوامر الضبّاط وكانوا يبكون لبكاء النساء ، وعلت أصوات البكاء من حرم السلطان وجواريها وكنّ يشتمن بعض الوزراء الذي تعهّد ببقاء الامتياز وهتفن بالسبّ الشنيع والشتم الفظيع ، فأرسل السلطان نائب السلطنة ليسكّت الناس ، فلمّا صادف الناس صاحوا في وجهه وضربوه ضربا مبرحا فأطلق بعض حواشي السلطان بندقيّته فقتل نفرا من الرجال فكثر الضجيج ، فسكّتهم الآشتياني وقال : السلطان استدعى منّي أن لا أخرج منّي دار الخلافة فامضوا إلى مساكنكم.
    فهدأت فورة الناس فدخل عضد الدولة دار الآشتياني بعد تفرّق الناس مع جماعة من وجوه حواشي الدولة واعتذر منه بكلّ لسان وقال له : رفعنا الامتياز عن الخارجيّة فضلا عن الداخليّة وقطعنا أيدي الأجانب بالكلّيّة من إيران ، فنرجوا من فضلكم الآن أن تبرقوا إلى سامرّاء وتشرحوا للإمام الشيرازي حقيقة الأمر ليصدروا فتواه بجواز استعمال الدخان ، فأجابه الآشتياني لذلك فأبرق برقيّة مفادّها أنّ امتياز الدخانيّة رفع بيمن بركاتكم ومساعيكم الجميلة من داخل إيران وخارجها وبطلت المعاملة الجائرة وعاد الأمر كما كان وقطعت أيدي الأجانب من إيران ، فالناس منتظرون أمركم في جواز استعمال الدخان ، وبهذا المضمون أرسل سائر العلماء برقيّات إلى سامرّاء ، فجاء الجواب للآشتياني مفادّه أنّ برقيّات العلماء وصلت إليّ وأنا أشكر مساعيكم وأصدّق أقوالكم غير أنّي لا أعتمد على طريق الوصول وهي البرقيّة فإن كتبتم إليّ تفصيل ما في البرقيّات بقطع يد الأجنبي عن إيران بتاتا وعود أمر الدخانية إلى ما كان سابقا فالترخيص يجيئكم إن شاء الله.
    فكتبوا إليه قدس‌سره ، فجاء الجواب بالترخيص ، فخرج أصحاب الامتياز من إيران خاسرين راجعين إلى أوربا بخفيّ حنين ، وكان يوم وصول الترخيص يوما مشهودا

    وفرح السلطان ناصر الدين شاه فرحا شديدا ، وقال : إنّ الميرزا الشيرازي أحيا دولة القاجاريّة وكان قدره مجهولا عندنا ، اليوم عرفنا منزلة هذا الرجل الكبير أدام الله بقاءه ، واستنسخوا ألف صورة من كتاب الإمام الشيرازي وأرسلوها إلى سائر بلاد إيران ، فعاد الأمر كما كان ، وانتشر الخبر إلى سائر آسيا وبلاد أوربا وأفريقيا وأمريكا ونشر ذلك في الجرائد الخارجيّة ، وأرسل الأمريكان إلى سفيرهم في بغداد سائلين عن هذا الرجل الكبير المطاع الديني الذي قام في قبال أربع دول كبار ونال مرامه وغلب عليهم ، وأمر الروس سفيره في بغداد بمسافرته إلى سرّ من رأى ليظهر إخلاصه فامتثل ، وكان الأجانب من كلّ جانب يسألون حاله قدس‌سره حتّى خيف عليه من اليد العادية ولكن يد الله فوق أيديهم. وكتب السلطان ناصر الدين شاه عريضة مفصّلة بديعة أظهر فيها إخلاصه الصميم ، وكذا الوزراء والحكّام حتّى اشتهر قدس‌سره بآية الله المجدّد لأنّه جدّد الدولة والملّة.
    وقال سيّدنا العلّامة المهذّب البارع السيّد صادق آل بحر العلوم دام وجوده فيما كتبه إلينا من النجف الأشرف أنّه قد أورد الأستاذ الكاتب الشهير محمّد لطفي جمعة المصري صورة إجماليّة من المسألة الدخانيّة في كتابه «حياة الشرق» المطبوع بمصر.
    تلاميذه رحمه‌الله
    تتلمذ عليه من الأساتذة الأعلام جماهير كثيرة وجلّهم نالوا الدرجة العالية بفضل حضورهم مجلس درسه الشريف ، نورد لك فيما يلي أسماء بعضهم ، وهم : السيّد إبراهيم البهبهاني ، والشيخ إبراهيم النوري ، والميرزا إبراهيم السلماسي ، والشيخ إبراهيم الأصفهاني ، والميرزا إبراهيم المحلّاتي ، والسيّد إبراهيم الطهراني ، والسيّد أبو تراب الخونساري ، والشيخ أبو طالب السلطان آبادي ، والسيّد أبو

    طالب الشيرازي ، والميرزا أبو الفضل صاحب شفاء الصدور ، والميرزا أبو القاسم النوري ، والسيّد أحمد الكربلائي ، والمولى حسينقلي الهمداني ، والشيخ إسماعيل القراباغي ، والميرزا إسماعيل السلماسي ، والسيّد إسماعيل الصدر.
    والشيخ إسماعيل المحلّاتي ، والشيخ باقر الاصطهباناتي الشهيد ، والشيخ محمّد باقر البيرجندي ، والميرزا باقر السلماسي ، والسيّد محمّد باقر اليزدي ، والشيخ محمّد تقي القمي ، والإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي ، والشيخ جواد الطارمي صاحب الحاشية على الرسائل ، والميرزا حبيب المشهدي ، والسيّد حسن الصدر الكاظمي ، والميرزا محمّد حسين السبزواري ، والحاج الميرزا حسين النوري ، والشيخ محمّد حسين الكرهرودي ، والآقا رضا الهمداني الفقيه صاحب المصباح ، والشيخ زين العابدين المرندي والشيخ إسماعيل الترشيزي ، والسيّد إسماعيل ابن عمّه الشيرازي ، والشيخ شريف الجواهري ، والشيخ فضل الله النوري الشهيد ، والشيخ فضل الله الفيروزآبادي ، والميرزا محسن المحلّاتي ، والشيخ عبد المجيد الكروسي ، والشيخ عبد النبي الطهراني ، والسيّد محمّد الهندي وغيرهم ممّن لا يقلّ عددهم عن ثلاثمائة فقيه.
    وقد جمع شيخنا الأستاذ العلّامة الحجّة صاحب الذريعة أسماءهم في كتابه هدية الرازي وذكر تراجمهم في كتابه نقباء البشر ، وقد نال أكثرهم المرجعيّة العامّه بعد وفاته كالمولى محمّد كاظم الخراساني ، والفقيه الأعظم السيّد محمّد كاظم اليزدي ، والإمام الشيخ محمّد تقي الشيرازي ، والسيّد إسماعيل الصدر ، والسيّد حسن الصدر ، والسيّد أبو تراب الخونساري ، والآقا رضا الهمداني الفقيه ، والعلّامة الحجّة السيّد محمّد الأصفهاني وغيرهم.

    مشايخه
    أمّا أساتذته الذين تتلمذ عليهم وأخذ العلم منهم فهم كثيرون نورد لك أسماء بعضهم ، وهم : الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب الحاشية على المعالم ، والسيّد حسن البيد آبادي الشهير بالمدرّس ، والمولى محمّد إبراهيم الكلباسي ، والعلّامة الفقيه الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر ، والفقيه الشيخ حسن كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة ، والشيخ مشكور الحولاوي الكبير ، والسيّد علي التستري ، والسيّد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط ، وآخرهم الشيخ الإمام المرتضى الأنصاري صاحب الرسائل الذي كان عمدة تلمذته عليه وجلّ استفادته منه ، رحمهم‌الله جميعا وقدّس أسرارهم.
    نبذة من حكاياته قدس‌سره تجري مجرى الكرامات
    أورد شيخنا العلّامة الشيخ آقا بزرك في هدية الرازي جملة وافية من كراماته وقال : هي كثيرة وما لم يبلغني منها أكثر ، وأنا أنقل لك من كتابه المذكور يسيرا منها ليكون أنموذجا كافيا لعظمة هذه الشخصيّة الفذّة ، وبذلك تعرف ما أتيح لهذه النفس القدسيّة ما لم يتهيّأ لغيرها من عظماء العالم وفطاحل العلماء ، فما أحوجنا إلى أمثال هؤلاء المصلحين الأفذاذ في هذه الأوقات الحرجة لينيروا السبل ويدلّوا على واجبات الأمّة الإسلاميّة فهل يا ترى يقيّض الله لهم من يرتاحون به في هذا العصر المتكهرب بالعناصر الموبوءة والميكروبات القتّالة.
    منها ما حكاه تلميذه العلّامة المهذّب البارع المولى الحجّة السيّد إسماعيل الصدر الذي انتهت إليه رياسة الإماميّة في عصره ، قال : ورد رجل من أهل إصفهان إلى سامرّاء ومعه خطوط بعض علمائها في الشهادة بعدالة الرجل وثقته ، فأراني

    الخطوط وسألني أن أبيّن حاله عند السيّد الأستاذ ليوجره للصوم والصلاة ، فلقيت السيّد الأستاذ في الطريق ذاهبا إلى الصحن الشريف فذكرت له حالة الرجل وحاجته ، فقال : نعم أرني شخصه ، فاتفق أنّه لمّا وردنا الصحن الشريف كان الرجل جالسا في الصحن ، فلمّا رأى السيّد استقبله وقبّل يده ومضى ، فقلت له : هذا هو الرجل المعهود ، ثمّ طالبت الجواب فامتنع من استيجاره للعبادة ، فظننت أنّ له معرفة سابقة بحال الرجل ولذا يمتنع من قضاء حاجته ، فقلت له : فهل عرفته؟ قال : لا. فذكرت له توثيقات العلماء في حقّه ، فقال بعد الإصرار : لا أعطيه شيئا ، فيئس الرجل فرجع إلى أصفهان ، وكنت متحيّرا في أمره حتّى لقيت بعد مدّة جملة من الثقات العارفين بحاله فذكروا لي أنّ الرجل كان من البابيّة وكانوا يعرفونه بذلك فعلمت أنّ السيّد الأستاذ كان ينظر بنور الله.
    ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الخبير السيّد حسن الصدر الكاظمي ، قال : كان الشيخ ثامر النجفي من الثقات الأبرار وكان وكيل السيّد الأستاذ في النجف سنين ، فلمّا توفّي زار ولد الشيخ ثامر النجفي سامرّاء وكان معه رجل آخر في ضيافته واتفق أنّه نزل مع جمع من الزوّار من أهل جبل عامل في خان واحد وذكر لي أنّ مالية ابن الشيخ ثامر قد نفدت في السفر ويخاف أن يخجل عند ضيفه ، فذكرت حاله عند السيّد الأستاذ فلمّا كانت الليلة الأخيرة التي يريدون الرجوع في صبيحتها أعطاني السيّد الأستاذ مالا كثيرا لأفرّقه على الزوّار العامليين ثمّ أعطاني ثلاثة أنصاف (القران) وقال : إنّها لابن الشيخ ثامر. فقلت : سيّدنا هو وضيفه؟! فقال بالفارسيّة (همين بس است) يعنى يكفيه هذا ، فتحيّرت في جوابه وكنت أخجل من دفع المقدار إلى ابن الشيخ ثامر لما أعرف من حاله ولا أتمكّن من مخالفة أمر السيّد ، فرأيت أن أعطيه المبلغ وأذكر له كثرة إلحاحي بالزيادة وجواب السيّد لي ، فلمّا ذكرت القصّة له حلّفني على جواب السيّد ، فحلفت له ثانية وثالثة ، فقال :

    صدق والله السيّد فإنّ هذا يكفيني لعبور الشطّ فقط وإنّ لي مالا أودعته بالكاظميّة عند أحد معاريفي فلا أحتاج شيئا إذا وصلت إليها ، وإمّا كراء الطريق فكنّا قد سلّمناها إلى المكاري ذهابا وإيابا وعندنا من الطعام ما يكفينا إلى أن نصل إلى الكاظميّة.
    ومنها ما حدّثني به العلّامة المحقّق الشيخ حسن الأصفهاني الشهير بالحائري وكان من تلاميذه رحمه‌الله أيضا قال : حدّثني الشيخ الفاضل العالم الشيخ محمّد تقي القزويني قال : كنت كثير الاشتياق إلى زيارة العتبات المقدّسة وكنت مأيوسا بحسب العادة عن نيل المقصود لعدم تهيأة الأسباب ، فبينما أنا كذلك إذ رأيت في بعض الليالي فيما يرى النائم أنّي زرت العتبات المقدّسة وتشرّفت في سامرّاء بخدمة الإمام الأستاذ فقال لي : تريد الرواح أو الإقامة عندنا؟ فإن كنت تريد البقاء عندنا فأنا أعطيك كلّ شهر مبلغ كذا ، فانتبهت من النوم فما مضت الأيّام إلّا وهيّأ الله لي أسباب التشرّف إلى العتبات الشريفة ، فلمّا تشرّفت بزيارة العسكريّين عليهما‌السلام زرت آية الله المجدّد في داره فبعد أداء مراسيم التحيّة والسلام قال لي : تريد الرواح أو الإقامة؟ فإن كنت تريد الإقامة عندنا فقد قلت لك. فلمّا سمعت منه هذا تذكّرت الرؤيا وعلمت أنّ السيّد أشار إلى ما قاله وعيّنه في المنام ، فبقيت في سامرّاء فيأتي خادمه في أوّل كلّ شهر بالمبلغ الذي عيّنه في النوم.
    ومنها ما حدّثني به السيّد الجليل المعمّر الشهير السيّد جعفر آل ثابت الحائري قال : كنت حاضرا في بعض المجالس الأستاذ في سامرّاء إذ دخل عليه ثلاثة رجال من فقراء الزوّار وطلبوا منه زاد السفر ، فأعطى لواحد منهم عشرين قرانا ، ولواحد آخر خمسة قرانات ، ولم يعط الثالث منهم شيئا ، فألحّ الذي أخذ خمسة قرانات بالزيادة وكذا الثالث المحروم حتّى قالا له : كلّنا رفقة سواء فلما ذا تفرق بيننا مع أنّنا كلّنا نحتاج الأكل والشرب وما عندنا شيء؟ فقال الأستاذ : الذي فعلته هو

    التسوية التي تريدونها فأمسكوا عن الإلحاح قبل فضيحتكم ، وما انتفعا بلين الكلام وزادا في الإلحاح ، فأمر الأستاذ بعض الخدمة بأن يفتّشهم فلمّا فتّشوا أخرج من كيس من أعطاه العشرين خمس قرانات ، ومن كيس من أعطاه الخمسة عشرين قرانا ، ومن كيس الثالث خمسة وعشرين قرانا ، فتبيّن حقيقة التسوية بينهم.
    ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الحجّة الميرزا حسين النائيني النجفي أوان تشرّفه إلى زيارة العسكريّين عليهما‌السلام سنة 1338 قال : حدّثني العالم الورع التقي الشيخ إبراهيم التجريشي الطهراني سنة 1317 حين تشرّف إلى العتبات ، قال : وردت مع بعض الأفاضل يوما على العلّامة المحقّق المولى علي الكني ، فقال : ألا تحبّون أن أريكم اليوم ما هو عندي من المخزون؟ فأدخلنا في خزانة كتبه وأخرج لنا كتابا من سيّدنا الأستاذ بخطّه وخاتمه في غاية الاحترام فقبّله ودفعه إلينا وقال : إنّ له شأنا عظيما وهو عندي كأنّه صادر من الإمام أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ووصيّت ولدي أن يجعلوه في كفني عند دفني ، وفيه توصية لبعض السادة الأجلّاء لأهل قزوين ، وذلك أنّ بعض رجال الدولة غصب معظم أملاك السيّد المذكور فجاء السيّد إلى طهران مشتكيا منه عندي وأقام بها مدّة مديدة مستجيرا بي في رفع الظلم عنه ولعلمي بأنّه لا يمكنني رفع يد الغاصب عنه لعظمه في بيت السلطنة ما أقدمت على إغاثته حتّى يئس السيّد من مساعدتي فبينما هو كذلك توجّه ثلاثة من أصحابي إلى زيارة العتبات وتوجّه السيّد المتظلّم معهم وكثير ما يذكر لهم في الطريق أنّي إنّا أتشرّف بهذه الزيارة للشكوى من ظلامتي عند الإمام الشيرازي بسامرّاء.
    فقال العلّامة السيّد محمّد تقي الذي كان معهم بعد رجوعه من العتبات أنّه بعد وصولنا إلى سامرّاء ما تيسّر لنا زيارة الإمام الشيرازي إلّا في الليلة الأخيرة التي



    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:48 pm

    خرجنا في صبيحتها فتشرّفنا بخدمته أوّل الليل وكان معنا السيّد المتظلّم فحكى عند الإمام الشيرازي ظلامته وذكر طول مقامه بطهران وتوسّله وإلحاحه إليّ وعدم مساعدتي له ، قالوا : فسألنا الإمام الشيرازي عن ذلك ، فقلنا له : نعم ولكنّه معذور جدّا لأنّ الغاصب من حواشي السلطان ناصر الدين شاه وشرحنا له حقيقة الحال ، فقال : إذا لم يتمكّن المولى علي الكني من استرداد هذا المغصوب فأنا أعجز لأنّي لا أكتب إلّا إليه وهو غير متمكّن وآيس من رفع الظلامة فودّعناه وخرجنا من عنده وخرج السيّد آيسا متغيّر الحال كئيبا حزينا فتشرّفنا للزيارة فأخذ السيّد الشبّاك المطهّر متوسّلا بالإمامين العسكريّين عليهما‌السلام وبالغ في التوسّل وأكثر الجزع والبكاء.
    ثمّ خرجنا إلى المنزل فبات السيّد عندنا في أشدّ الكآبة والحزن ، فلمّا انتبهنا وقت السحر لتهيئة الارتحال انتبه السيّد من نومه فرحا مسرورا وقال : إنّي رأيت الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في المنام فقال لي بالفارسيّة : «آسوده باش ما سفارش تو را به ميرزا كرديم» ، ولمّا طلع الفجر أتى الشيخ عبد الكريم آل محي الدين خادم الإمام الشيرازي بهذا الكتاب وأعطاه للسيّد فعلمنا أنّ امتناعه الشديد أوّلا عن الكتابة ثمّ مسارعته إليها وبعثها مع خادمه بين الطلوعين ما كان ذلك إلّا بإشارة الإمام الهمام العسكري عليه‌السلام.
    قال العلّامة المولى الكني : فبعد ما وصل الكتاب إليّ كتبت كتابا إلى السلطان ناصر الدين شاه وجعلت كتاب الإمام الشيرازي طيّه وبعثتهما إليه ، فرّد السلطان ظلامة السيّد ببركة هذا الكتاب.
    ومنها ما حدّثني به الثقة الورع الجليل الشيخ راضي بن الشيخ علي الطريحي النجفي المتوفّى حدود سنة 1340 وهو أخو العلّامة حسين الطريحي وكان من خواصّ أصحاب شيخنا العلّامة الفقيه الشيخ محمّد طه نجف طاب ثراه ، قال :

    حدّثني الأستاذ الشيخ محمّد طه نجف وقال : حدث في ركبتي خراج عجز الأطبّاء عن معالجته فاضطررت إلى السفر لبغداد للمعالجة وكنت في غاية الفاقة والشدّة ، فلمّا دخلت بغداد بقيت سنتين فبرأ الخراج ، فلمّا أردت الرجوع إلى النجف عزمت على زيارة العسكريّين عليهما‌السلام فبعد تشرّفي إلى الروضة البهيّة خاطبتهما بقصيدة منها :
    يا أباة الضيم ما هذا السكوت
    عن عبيد كان من همّ يموت

    وذلك لشدّة ضيق صدري في تلك الأيّام من ملاحظة حالي وأنّه قد أفنيت عمري في القيل والقال وما حصلت شيئا يفيدني وضاقت عليّ الدنيا لعدم اليسار فكأنّي أرى نفسي قد خسرت الدنيا والآخرة. فبينما أنا كذلك رأيت في بعض الليالي وأنا بين النوم واليقظة هاتفا يهتف بصوت عال ، فانتبهت من النوم فإذا هو يقول : «ونريد» فظننت أنه يتلو الآية الشريفة ويخاطبني بها عظة وتسلية لنفسي ، ثمّ غلبني النوم إلى أن انتبهت للصلاة ، وفي صبيحة تلك الليلة شرّفنا سيّدنا الإمام الشيرازي قدس‌سره بقدومه في منزلنا فجلس مقدارا نتحادث ثمّ سكت هنيئة ما يقرب من خمس أو أربع دقائق فجعل ينظر في وجهي ثمّ تلا بعد البسملة الآية الشريفة : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً)(1) إلى آخر الآية ، فعند قراءته تذكّرت ما سمعته من الصوت عند النوم ، قال الشيخ الراضي : قلت : يا شيخنا ، ما ذكرت ذلك للمرحوم؟ قال : لا.
    أقول : وقد نال الفقيه الشيخ محمّد طه درجة سامية في الرياسة العلميّة وصار مرجعا عامّا في التقليد تصديقا للآية الشريفة ، هكذا فليكن ورثة الأئمّة عليهم‌السلام ودعاة الدين وناشروا ألوية شريعة سيّد المرسلين.
    ومنها ما حدّثني به العلّامة الورع الشيخ حسين بن الشيخ حسن الفرطوسي
    __________________
    (1) القصص : 5.

    النجفي قال : مكثت في سامرّاء زهاء خمس سنين آخذ العلم من أستاذي العلّامة الشيخ باقر بن الشيخ حيدر الذي هو من تلامذة الإمام الشيرازي الذي كان يلاطفني كثيرا وفي السنة الأخيرة طلبت الرخصة من الإمام الشيرازي للتزويج فأعطاني مقدارا وافيا للزواج وقال : إذهب إلى النجف وتزوّج ثمّ ارجع إلى سامرّاء ، فأخذت المقدار وذهبت إلى النجف الأشرف وتزوّجت فبقيت فيها أشهرا ثمّ رجعت إلى سامرّاء منفردا للزيارة وطالبا للإذن منه لجلب العيال إلى سامرّاء ، فلمّا تشرّفت عنده استبشر في أمر الزواج كثيرا ولكنّه منعني عن حمل العيال إلى سامرّاء ، فرجعت إلى النجف متحيّرا في سبب تغيير حاله بالنسبة إليّ حيث أنّه كان مصرّا قبل ذلك ببقائي بسامرّاء حتّى أنّه هيّأ لي أسباب الزواج مقدّمة للبقاء واليوم يمنعني عنه ، فلم تمض إلّا أشهر قليلة حتّى جاءنا نعيه طاب ثراه ، فزال تحيّري علمت أنّه يمنعه عن بقائي أخبار عن عاقبة أمره وأنا ما فهمت مرامه.
    ومنها ما حدّثني الشيخ المذكور عن شيخ الشيخ باقر بن الشيخ علي بن حيدر الشروقي المجاهد المتوفّي سنة 1333 قال : إنّ في آخر سنة توقّفي بسامرّاء تشرّف السيّد حبيب جيثوم النجفي التاجر المعتبر المعروف لزيارة العسكريّين عليهما‌السلام ومكث في سامرّاء مدّة. قال الشيخ باقر : فاستربنا من طول بقائه فاستعلمنا منه السبب فأبى أن يذكره لنا ، فأصرّ عليه كلّ واحد من أصدقائه حتّى اضطرّ فقال لنا : إنّ عليه ستمائة ليرة دينا لا يقدر على أدائها. فأخبرنا الإمام الشيرازي بذلك وكان يعرفه حقّ المعرفة وفي غاية العفّة والتستّر عن كلّ أحد حتّى عن خاصّته فكتب له الحوالة ستّمائة ليرة إلى بندر كنجه إلى السيّد محمّد شرف الدين وقال : قل للسيّد حبيب أن يعجّل في الرواح فإنّ الأمر لا يجوز تأخيره ، فأعطيناه الحوالة وقلنا له أنّ السيّد أمر بالتعجيل لكن السيّد حبيب كان يبطئ في الحركة وبعد أيّام سألنا السيّد عن حال السيّد حبيب ، فقلنا له : بعد ما رجع وهو بطيء الحركة ، فقال : الخير في

    عجلته فقل له أن يعجل في الرواح إلى بندر كنجة ، فذكرت للسيّد حبيب فذهب إلى الكاظميّة وتوقّف هناك مدّة إلى أن سألني السيّد رحمه‌الله عن حاله ، فقلت : هو بعد بالكاظميّة ، فقال السيّد : أكتب له في التعجيل ، فكتبت إليه ، فذهب السيّد حبيب إلى النجف وأتاني خبره بعد مدّة فسألني السيّد أيضا عن حاله فقلت : بعد بالنجف ، فقال السيّد : لا أظنّ أنّه ينال بعد هذا التأنّي من أمره شيئا ، وكان الأمر كما ظنّه لأنّه أخبر بذلك أواخر أيّامه فتوفّي السيّد طاب ثراه والسيّد حبيب بعد بالنجف فباع دكّانه وأدّى دينه.
    ومنها ما حدّثني به تلميذه العلّامة الحبر الخبير السيّد الأجل السيّد حسن الصدر الكاظمي قال : حدّثني الشيخ عبد الكريم آل محي الدين قال : قالت لي والدتي يوما من الأيّام : إنّي رأيت في المنام أنّ الإمام صاحب الزمان صلوات الله عليه أرسل إليك وأخذك معه إلى حجّ بيت الله الحرام.
    قال الشيخ عبد الكريم : فمضت مدّة وأنا نسيت المنام حتّى بعث إليّ السيّد طاب ثراه يوما فأتيته وهو واقف بباب داره وبعد السلام والتحيّة قال لي : يا شيخ ، إذا أنا تشرّفت للحجّ تصاحبني في السفر؟ قلت : نعم لا مانع لي ، فدفع إليّ قائمة كتب فيها حوائج المسافرة وأعطاني دراهم لشراء الحوائج فحججت معه فلمّا رجعت عن الحجّ ذكرت منام والدتي فعظم عندي مقام السيّد.
    ومنها ما حدّثني به أيضا العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر قال : حدّثني الشيخ عبد الكريم المذكور قال : قالت لي والدتي أنّي رأيت لك مناما حسنا. قلت : خيرا إن شاء الله. قالت : رأيت أنّ الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه أرسل إليك يطلب منك أن تعمر له دارا في الغري ، فذهبت واشتغلت بعمارتها حتّى فرغت منها.
    قال الشيخ عبد الكريم : فما مضت أيّام إلّا وقد أرسل إليّ السيّد طاب ثراه وقال

    لي : ألتمسك على مسألة مهمّة عندي وهي أن تعمر لنا هذه الدار التي في النجف فأجبته واشتغلت بذلك حتّى فرغت منها وهي الدار التي بقرب دار العلّامة الأنصاري في النجف ، فتذكّرت ما رأيت بالطيف فازداد إخلاصي وعظم في عيني.
    وقال العلّامة السيّد حسن الصدر : كان الشيخ عبد الكريم هذا من أفراد الدهر والوحيد في الأمانة والزهد والتقوى ولذا صارت أمور سيّدنا الأستاذ كلّها بيده وكان صاحب أسراره وأمينه على ماله وأهله وعياله وما عاش بعد سيّدنا الأستاذ إلّا شهرا واحدا وتوفّي بعده.
    ومنها ما حدّثني به الرجل الصالح الثقة الميرزا محمود الخراساني المعروف بالعطّار نزيل سامرّاء قال : إنّ رجلا صالحا من تجّار همدان نزل عندي في سامرّاء وكانت مدّة إقامته في سامرّاء عشرين يوما ، فلمّا أراد الرجوع رأيته كثير الابتهاج والسرور ، فقلت في نفسي : رجل صالح يشكر الله على التوفيق لزيارة الأئمّة عليهم‌السلام ، فقال لي : إنّي رأيت كرامة من سيّدنا ـ يعني به آية الله الشيرازي رحمه‌الله ـ. قلت : وما هي؟ قال : لمّا خرجت من همدان كان لي صديق من التجّار سألني والتمس منّي أن آخذ من آية الله السيّد له شيئا قليلا من المال للتبرّك ، فقبلت منه ، فلمّا دخلت سامرّاء وذهبنا لزيارة السيّد استحيت أن أطلب منه شيئا للبركة ومع ذلك تجلّدت وقلت له : يا سيّدي ، لو أكرمتني بشيء للبركة ، فأخرج من تحت سجّادته قرانا وأعطانيه فأخذته منه ورجعت حتّى وصلت باب الحجرة فناداني فرجعت فقال: لم لا تطلب لصديقك شيئا ، فلمّا سمعت منه أخذتني الرعدة فوقعت على رجله أقبّلها وأعطاني نصف قران وقال : أعطه لصديقك ، فخرجت من عنده غير مرتاب بأنّ هذا الإخبار لي كرامة منه رحمه‌الله.

    الفتنة بين أهالي سامرّاء والمجاورين
    في سنة 1311 ثارت فتنة بين أهالي سامرّاء والمجاورين ممّا أدّى إلى تهديد المجاورين بالقتل ، وقد أثارها بعض الدسّاسين الذين يريدون الوقيعة بالمسلمين وإثارة الفتنة بين الطائفتين وتفريق جمعهم وتشتيت شملهم ، فكان من جرّاء ذلك الحادث أن تعصّب لكلّ طائفة فرقة من العشائر المقيمين خارج البلدة وكادت الواقعة أن تقع وكادت الفتنة أن يندلع نارها فتحرق الحرث والنسل والأخضر واليابس ، لو لا أن يتلافاها الإمام المجدّد الشيرازي رحمه‌الله برأيه الصائب وحنكته المشهودة وسياسته القويّة وحكمته الباهرة.
    بلغ نبأ الحادثة عاصمة بغداد والبلدان العراقيّة فاستعظموا ذلك النبأ الفظيع وحسبوا له ألف حساب ، وسافر إلى سامرّاء جماعات كثيرة من العلماء والأشراف كما وأنّه سافر إليها القنصل الإيراني من بغداد وكلّهم يرى ضرورة مغادرة الإمام الشيرازي ومن تبعه من طلّاب العلم والمجاورين سامرّاء ، ولكن الإمام الشيرازي رحمه‌الله بما أوتيه من العقل الرزين والحكمة الباهرة يستمهلهم ولا يبثّ بشيء ، وقد اطّلع القنصل الإنكليزي ووالي بغداد العثماني على وقوع الحادثة فقصدا سامرّاء ، فأرسل إليهما الإمام الشيرازي من يبلغهما بأنّ الحادثة هيّنة وأنّه يصلح الأمور من غير حاجة إلى مداخلة السلطات الحكوميّة في الأمر ، فرجعوا ، وقد أطفئت النائرة وعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعيّة ، وقد أظهر أهالي سامرّاء الندم على ما وقع منهم وقدّموا يد الطاعة إلى الإمام الشيرازي معتذرين بأنّ ما صدر إنّما هو من بعض الجهّال الذين لا يفهمون مغبّه الأمر وسوء العاقبة راجين من الإمام الشيرازي العفو عنهم فعفا عنهم شأن الكرام ، وإلى هذه الحادثة أشار العلّامة الخبير السماوي في وشائح السرّاء بقوله :
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:49 pm

    وسادس الأحداث من جدال
    بين المجاورين والأهالي

    حتّى لقد ساءت به الظنون
    وكاد أن يكون ما يكون

    وجاءت الولاة والقناصل
    ليرفعوا ما هو فيهم نازل

    فأصلح الحال محمّد الحسن
    برايه الواري وخلقه الحسن

    وذاك لإحدى عشر سنينا
    بعد ثلاث عشرة مئينا

    العمارة الخامسة عشرة
    وقعت في أيّام الإمام المجاهد الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدس‌سره وهي المرايا الكبيرة المنصوبة فوق الرخام وتحت الكتيبة حول الحضرة المقدّسة ، وكان الباذل للمصاريف الشهم الهمام الحاج مخلف أحد زعماء الفرات والمعروف بالتقى والصلاح والجود والسماح ، وله مبرات كثيرة في العتبات المقدّسة ممّا تقدر له وتشكر رحمه‌الله رحمة واسعة ، وكان قد تشرّف بسامرّاء زائرا ولمّا زار الإمام الشيرازي أمره بعمارة ما ذكرناه ، وبنى ميضاة خارج الصحن الشريف للزائرين فلمّا غلب الخراب عليها أصلحها العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء إلى أن رفعتها البلديّة فأمرت بهدمها وجعلها دكّانا كما هو اليوم ، وبنى أيضا مغسلا للأموات للرجال ، ومغسلا للنساء.
    وبمناسبة ذكر الإمام الميرزا محمّد تقي وماله من المآثر والآثار الخالدة التي سجّلها له التأريخ نورد لك نبذة يسيرة من حياته وأخباره.
    حياة الإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي رحمه‌الله
    ولد بشيراز وتوفّي بكربلا ليلة الأربعاء الثالث من ذي الحجّة سنة 1338 ودفن

    في بعض الحجر الشرقيّة من الصحن الحسيني ، ترجمه العلّامة الحجّة الشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة في كتابه نقباء البشر ، فقال : شيخنا العلّامة الأجل الأورع الأتقى حجّة الإسلام آية الله في الأنام الميرزا محمّد تقي ابن السيّد الصالح العارف الكامل الصفي الميرزا محبّ عليّ بن أبي الحسن الميرزا محمّد علي المتخلّص ب «كلشن».
    ولد بشيراز ونشأ في الحائر الشريف حتّى كمل وبرع عند العلّامة محمّد حسين الشهير بالفاضل الأردكاني ، ثمّ اتصل بالإمام المجدّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي وهاجر في أوائل المهاجرين مع صديقه وشريك بحثه العلّامة السيّد محمّد الفشاركي الأصبهاني إلى سامرّاء حتّى صار من أعاظم تلامذة الإمام المجدّد وأركان بحثه ، وكان يومئذ مدرّسا لجمع من أفاضل تلاميذ أستاذه ، وبعد وفاته تعيّن للزعامة الروحيّة فجاور بلد العسكريّين عليهما‌السلام قائما بوظائف الإفتاء وتربية العلماء ، فتخرّج من مجلس بحثه الشريف جملة كثيرة من المجتهدين العظام لدقّة نظره وفكره الصائب وغوره في المطالب الغامضة والمسائل المشكلة ، وكتب كثيرا من مباحث الأصول ، وله حاشية على مكاسب الشيخ المرتضى الأنصاري مطبوعة ، ورسالة في الخلل ، ورسالة في صلاة الجمعة ، وله أيضا شرح على المنظومة الرضاعيّة للسيّد صدر الدين العاملي ، وله القصائد البديعة في مدائح العترة الطاهرة ومراثيهم ، طبع جملة منها ، وأخوه الميرزا محمّد علي سمّي جدّه كان من أعاظم العلماء بشيراز ، وعمّه الحكيم القاآني الشاعر المفلق المشهور ، أوحد شعراء العالم بيته بيت علم وفضل وورع وتقوى.
    قال العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر في التكملة : عاشرته منذ عشرين سنة فما رأيت منه زلّة ولا أنكرت منه خلّه وباحثته اثنتي عشرة سنة فما سمعت منه إلّا الأنظار الدقيقة والأفكار العميقة والتنبيهات الرشيقة.

    قال شيخنا في نقباء البشر : حضرت درسه ثمان سنين بسامرّاء وشاهدت حقيقة كلام سيّدنا بالسمع والعيان.
    أقول : وقد تشرّفت بخدمته فوجدته مظهرا للحقيقة ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، ومع ذكاه المفرط وفكره الصائب وغوره في الفروع الفقهيّة كان يتحرّج عن الإفتاء ولا يتجاوز طريق الاحتياط حتّى أشكل الأمر على المقلّدين وجوّز لهم الرجوع إلى الغير في احتياطاته ، وكان كثير العناية بشأن سامرّاء لم يخرج منها إلّا في سنة الاحتلال وتشرّف إلى النجف الأشرف ، وكان يوم وروده يوما مشهودا ، وكنت في المستقبلين له ثمّ رجع إلى كربلاء وانتهت إليه رياسة الإماميّة على الإطلاق نحو سنتين وهو الزعيم المطلق للنهضة العراقيّة المعروفة التي أنتجت استقلال العراق ، ولذا اشتهر بالإمام المجاهد.
    وقد جاء في كتاب «ماضي النجف وحاضرها» للفاضل البحّاثة الشيخ جعفر بن الشيخ باقر آل محبوبة النجفي بيان قصّة الاستقلال بصورة تفصيليّة ونحن نذكر ملخّص ما جاء فيه :
    حادثة الأتراك
    قال في ص 246 تحت عنوان (حادثة الأتراك بعد إعلان الحرب العامّة في سنة 1332 واشتراك الأتراك بها وندائهم بالنفير العام) اشترك العراقيّون مع الأتراك فيها ووقفوا معهم جنبا لجنب وصفّا لصفّ ونهض علماء الشيعة في النجف وأفتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الإسلام فهاجت الشيعة للدفاع وانتظمت الجبهات الحربيّة وأكثرها من عشائر العراق ولم يكتف العلماء بالفتيا فقط بل خاضوا جبهة الحرب بأنفسهم ووقفوا وقوف الأبطال وأبلوا بلاء حسنا.

    أقول : في السنة المذكورة كنت في مدرسة القزويني في النجف الأشرف وأشاهد كثيرا من القضايا أمّا العلماء الذين ساعدوا في الدفاع ومنهم من حضر جبهة الحرب فهم العلّامة الكبير السيّد محمّد سعيد الحبّوبي رأيته مسلّحا يقود جيشا جرّارا إلى جبهة الشعيبة ، والعلّامة الحجّة شيخ الشريعة الأصبهاني ، والسيّد الكبير حجّة الإسلام السيّد أبو الحسن الأصبهاني والعلّامة السيّد علي الداماد والعلّامة الفقيه السيّد محمّد بن السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي وجماعة أخرى من العرب والعجم وكانوا منصورين إلى أن وقع ما وقع من الويلات ما أدّى إلى احتلال بريطانيا بغداد وانسحاب الأتراك وتوفّي بعدها السيّد محمّد سعيد الحبّوبي والسيّد محمّد بن السيّد كاظم اليزدي الطباطبائي والسيّد علي الداماد حزنا وكمدا ، وأسر خلق كثير من الأكابر والأعيان والفضلاء ، وكان احتلال العراق سنة 1335.
    حادثة النجف
    وقال في ص 249 من كتابه المذكور : وبعد ذلك قرّب الإنكليز بعض الزعماء ودرّوا عليهم الأموال الوافرة والهدايا الثمينة ومنّوهم الأماني الكاذبة ، فأرسلوا (الكابتن مارشال) حاكما للنجف ومعه ترجمانه وحاشية تتألّف من عدّة حرسه من الأكراد فحكم في البلاد وأمضى معاملاته السيّئة ، فلمّا استقرّ حكمهم في البلاد ورسخت أقدامهم بما اندفع جمع من النجفيّين عن شمم عربيّ وحسّ دينيّ وطني إلى التفكير في دفعهم عن البلاد العراقيّة وفي مصير حكمها إلى العرب فألّفوا جمعيّة سرّيّة تسعى من وراء الستار أشهرا عديدة ، فدفع الحماس المتزايد فريقا من أفراد الجمعيّة إلى إضرام نار الثورة قبل أن يحصلوا آراء الجمعيّه وأجروا الأيمان بالقرآن

    الكريم على أن يهجموا مجتمعين على مركز الحكومة المحتلّة الواقع خارج المدينة وأن يقتلوا كلّ من فيه ، فنهضوا نهضتهم فجر يوم الثلاثاء في السادس من جمادى الثانية سنة 1336 وهجموا على مقرّ الحكومة وقتلوا الحاكم الإنكليز (الكابتن مارشال) والحارس الهندي فقامت الثورة على ساق وأقفلت أبواب البلدة.
    فلمّا بلغ الخبر إلى الحكومة الإنكليزيّة ببغداد أرسلت المهمّات الحربيّة والجيوش الجرّارة وكان عددهم خمسة وأربعين ألف جندي فحفروا الخنادق ومدّوا الأسلاك الشائكة ونصبوا الرشّاشات وقطعوا عنها الماء والمواصلة ودام حصار البلدة أكثر من أربعين يوما وضجّ الناس وشحّت الأرزاق وكظّهم الظمأ وكثر القتلى بين الفريقين ووقف رجال النجف مواقفهم الخطيرة مندفعين عن شمم عربي وحس دينيّ وطني وبذلوا نفوسهم الطاهرة دون كرامة البلدة ، فبعد المدّة المذكورة تمكّنت الحكومة من تفريق كلمة الأهلين والاستيلاء على التلّ الجنوبي وأصبحت تواصل طلقات مدافعها وترمي بقذائفها البلدة من جهة محلّة العمارة حتّى استولت عليها وأرسل قائدهم بيانا إلى الأهلين يحتوي على شروط خمسة :
    أوّلا : تسليم الثوّار ومؤسّسي الحركة.
    ثانيا : تسليم ألف بندقيّة للحكومة.
    ثالثا : تسليم خمسين ألف روبيّة.
    رابعا : نفي مائة شخص أو أكثر إلى الهند باعتبارهم أسراء الحرب.
    خامسا : محاصرة المدينة وقطع الأرزاق منها حتّى توفّي الشروط الأربعة السابقة ، وما رفع الحصار حتّى استوفاها ولكن بعد أن أضرّ الجوع والعطش بالأهلين والغرباء الزائرين وكان الماء معدوما في البلدة وكان الأهلون يستقون من مياه الآبار المالحة وقد عمّهم الخوف الشديد حيث أنّ الجند محيط بالبلدة ولم يعلم ما يؤول إليه الأمر من الهتك أو الأسر أو القتل ، وقد قتل من الأبرياء عشرة أنفس

    وجرح عشرون ، فلمّا استولى تم القبض على ما يقرب من مائة وخمسين رجلا حكم على أحد عشر منهم بالإعدام شنقا في شريعة الكوفة (الجسر) وعلى البقيّة بالنفي إلى الهند وقد جاء في مادّة تاريخ عام الواقعة «حصار وغلا» سنة 1336.
    وعود البريطانيين في استقلال العراق
    وقال ص 254 : ونستطيع أن نقول بلا مجازفة أنّ الثورة في النجف هذه هي الخطوة الأولى للقضيّة العراقيّة والبذرة الوحيدة لنتاج الفكرة الفراتيّة واتجاهها نحو استقلال العراق ، إذ النجف هو المركز الروحي والعاصمة الكبرى لعموم الشيعة وقد أعطت بموقفها هذا درسا شافيا ومنهجا واضحا نفعها في نيل مآربها وتحقيق رغائبها في فك شعبها من رقّ الاستعمار.
    وقال أيضا ص 255 تحت عنوان «القضيّة العراقيّة» يعني حادثة الفرات الكبرى» ما ملخّصه : وكان العراقيّون يرجون أن يتاح لهم بعد انتهاء الحرب العامّة ونزوح الأتراك عن العراق إنشاء حكومة عربيّة مستقلّة في بلادهم وفقا للوعود التي منحتها بريطانيا للعراقيّين أثناء الحرب العامّة فإنّها نشرت عدّة مناشير في ذلك مفادّها أنّ الجيش البريطاني جاءهم منقذا لا فاتحا ، وأنّ بريطانيا العظمى تحارب الألمان لأجل صيانة العهود التي لا يحلّ نقضها وتريد تأمين حرّيّة الشعوب الصغيرة التي تكون سعادتها متوقّفة على رعاية هذه العهود ، وما تريد إلّا تحرير القطر العربي ممّا قاساه من الأتراك في سياستهم وقد اتفقت كلّ من فرنسا وبريطانيا العظمى على تشجيع ومساعدة إنشاء حكومات وإدارات وطنيّة في كلّ من سوريّة والعراق ، وقد حرّرهما الحلفاء فعلا ، وفي الأقطار التي يسعى الحلفاء في تحريرها والاعتراف بهذه الأقطار بمجرّد تأسيس حكوماتها تأسيسا فعليّا وإنّ فرنسا

    وبريطانيا العظمى لا ترغبان في وضع نظامات خاصّة لحكومات هذه الأقطار بل لا همّ لهما إلّا أن تضمنا مساعدتهما ومعاونتهما الفعليّة سير أمور هذه الحكومات والإدارات التي يختار السكّان الوطنيّون سيرا معتدلا وأن تضمنا سير العدل الشامل الخالي من شوائب المحاباة وأن تساعدا التقدّم الاقتصادي بأنّها من همم الأهلين وتشجيع مشاريعهم وأن تساعدا على تعميم التعليم والتهذيب.
    وهذه التصريحات والمناشير أقامت العراقيّين وأقعدتهم وهيّجت فيهم الحماس الوطني وحرّكتهم على المطالبة بحقوقهم المغدورة فعقدت النوادي السرية في مبدأ الأمر ونظمت جمعيّات مختلفة في سبيل طلب الاستقلال ، وعيّنت رجال للنيابة عن الشعب في مواجهة الحاكم العام السياسي ، فلمّا اجتمعوا عنده أجابهم بالتسويفات والأماني ، إل أن قال الحاكم العام السياسي أنّ سياسة الإنكليز في العراق تبدّلت وإنّها لم تبرح من سلطتها واحتلالها وحكمها العسكري الاستعماري وقد حقّق هذه الإذاعة أنّهم عيّنوا لكلّ بلد من البلدان العراقيّة ضابطا عسكريّا بصفته حاكما سياسيّا وقد عاملوا الأهلين بكلّ ما لديهم من شدّة وسوء سيرة ، وأوصلوا لهم أنواع الاحتقار والأذى ، فقاسوا أصناف البلاء والاضطهاد وقد قضت أعمالهم القاسية على الأماني وخيّبت كلّ رجاء وأمل.
    ثمّ إنّ القائد البريطاني أرسل إلى الحكّام السياسيّين في الألوية العراقيّة بتاريخ الخامس والعشرين من صفر سنة 1337 أسئلة ثلاثة :
    الأوّل : هل ترغبون بتأليف حكومة عربيّة مستقلّة تحت الوصاية الإنكليزيّة فيمتدّ نفوذها من أعالي شمال الموصل إلى خليج البصرة؟
    الثاني : هل ترغبون يرأس هذه الحكومة أمير عربيّ؟
    الثالث : من هو الأمير الذي تختارونه لرئاسة هذه الحكومة؟
    فلمّا عرفوا مقاصد البريطانيّين وانكشف لهم المخبأ ، أصدر الإمام الشيرازي

    المرحوم الميرزا محمّد تقي قدس‌سره فتواه بعدم جواز انتخاب غير المسلم للقضيّة ، فكان لفتواه أثر عظيم في نفوس العراقيّين فلم يتجاوزوا عن فتواه ورأيه الصائب بما أنّ المجتهدين من علماء الشيعة الإماميّة مرجع أبناء هذه الطائفة قاطبة وهم يعتقدون أنّ علمائهم نوّاب الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فلا يخالفون لهم فتوى ولا أمرا من الأمور ، واهتمّ القائد البريطاني (الكولونيل ولسن) بمدينة النجف وقصدها بنفسه ليقف على آراء النجفيّين ومن جاورهم من زعماء القبائل فعرف أنّهم لا يروا إلّا بحكومة عربيّة وطنيّة مستقلّة استقلالا تامّا وليس للأجنبي أن يختار لهم حاكما ، واتفقت كلمتهم على أحد أنجال الشريف حسين الحجازي على أن يكون مقيّدا بمجلس تشريعي ، وكتبوا مضبطة موّقعة بتوقيعات العلماء والأشراف والزعماء أشهرهم الإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي والحجّة شيخ الشريعة الإصبهاني ، فغضب الحاكم البريطاني من هذا التفصيل وأحسّ بتفاقم الأمر وحراجة الموقف فأوعز إلى زعماء الشاميّة بالخروج عن النجف إلى الكوفة وطلب منهم الجواب عن الأسئلة المذكورة هناك خوفا من أن تستولي على أفكارهم الفكرة النجفيّة الوطنيّة ، فخرجوا إلى الكوفة وأجابوه بعين الجواب المذكور.
    فلمّا رأى بعض النابهين المتنوّرين من أهالي النجف أنّ الإنكليز لم يصغ إلى أيّ صوت ونداء سعوا في عقد جلسات سرّيّة في النجف وانتخبوا بعض علمائهم السياسيّين وكتبوا مضبطة موقّعة بتوقيعاتهم في الثامن عشر من شهر رمضان سنة 1338 نصّها :
    «نحن عموم أهالي النجف الأشرف ؛ علماؤها وأشرافها وأعيانها وممثّلي الرأي العام فيها قد انتدبنا علمائنا وأشرافنا ووجهائنا السياسيّين لأن يمثّلونا تمثيلا صحيحا قانونيّا أمام حكومة الاحتلال في العراق وأمام عدالة الدولة الحرّة الديموقراطيّة التي جعلت من مبادئها تحرير الشعوب وقد خوّلناهم أن يدافعوا عن

    حقوق الأمّة ويجهروا في طلب الاستقلال للبلاد العراقيّة بحدودها الطبيعيّة العارية عن كلّ تدخّل أجنبيّ في ظلّ دولة عربيّة وطنيّة يرأسها ملك عربيّ مسلم مقيد بمجلس تشريعيّ وطنيّ هذه هي رغباتنا لا نرضى بغيرها ولا نفتر عن طلبها ، ومنه نستمدّ الفوز وهو حسبنا ونعم الوكيل».
    وكتبوا إلى الإمام الشيرازي قدس‌سره في كربلا بما جرى بينهم وبين الحاكم البريطاني واستفتوه في إعلان الثورة لنيل مطالبهم المندورة وأن لا مناص لهم من النضال لاسترداد حقوقهم ، ثمّ وفد إليه بعض شيوخ العشائر وسادات القبائل وعدّة من العلماء والرؤساء ووجوه الفراتيين وأقنعوه بأنّ فيهم القوّة الكاملة للقيام بها ، فتردّد الإمام في إصدار الفتوى ولم يزد على قوله (إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهّداتكم فالله في عونكم) فعلى هذا تفرّق الإجتماع وحلفوا بالقرآن الكريم على أنّهم يبذلون أنفسهم في سبيل إنقاذ بلادهم من يد الإنكليز فقرّروا إعلان الثورة وقامت في النجف عدّة مظاهرات واحتجاجات ، فلمّا اتسع الخرق أمر الحاكم البريطاني بالقبض على الميرزا محمّد رضا نجل الإمام الشيرازي وعلى بعض رجال كربلا الذين أقاموا حفلات المظاهرات هناك واستنكر الإمام الشيرازي هذه الأعمال الشنيعة من الحكومة استنكارا عظيما واتّضح له خطر المسألة فاستفتاه جماعة من الزعماء والرؤساء في جواز القيام بالثورة ضدّ السلطة فكتب في الجواب ما صورته :
    «بسم الله الرحمن الرحيم ، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيّين ويجب عليهم في ضمن مطالباتهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسّل بالقوّة الدفاعيّة إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم ـ الأحقر محمّد تقي الحائري الشيرازي».
    فأصبحت هذه الفتوى الخطيرة من هذا الإمام الكبير لها الواقع العظيم في نفوس العراقيّين ووجدوا أنفسهم في قيد وثيق تجاه الحكم الشرعي ، فأعلنت الثورة في

    النجف الأشرف يوم الأحد في النصف من شوّال فقد تجمهر الناس في الصحن الشريف ورفعوا الأعلام العربيّة وقاد كلّ زعيم قومه إلى الجهاد فجلا الإنكليز عن النجف واحتشد الجند بالكوفة فتوالت الثورات في أكثر نقاط الفرات الأدنى وخرجت السكّة الحديديّة من عدّة أماكن واتسع الخرق وضاق المجال بالإنكليز فأسر الثوّار منهم مائة وستّين بين الإنكليزي والهندي وجاؤوا بهم إلى النجف وحبسوهم في «الشيلان» وهي عمارة ضخمة معروفة في الطرف الشرقي من البلدة بالقرب من السور عمرها الحاج معين الإيراني في عهد الأتراك بقصد جعلها دار ضيافة للزائرين ولكن لم يتوفّق لذلك فبقيت مهجورة.
    وكيف كان فقد اتسعت الثورة والتهب نارها في أكثر نقاط الفرات وتطوّرت بأطوار مختلفة من القوّة والضعف ، وتوفّي في أثناء الثورة الإمام الشيرازي رحمه‌الله وذلك في اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة سنة 1338 لمرض لازمه أيّاما قلائل فانتقلت الزعامة الدينيّة والرياسة العامّة إلى الإمام شيخ الشريعة الإصبهاني رحمه‌الله ولمّا طال أمد الثورة وبدت علائم الضعف على الثوّار واندحر بعضهم وتضعضت مراكز لهم وسلم بعض الزعماء وانقاد للسلطة البريطانيّة وتوفّرت جنود انكليزيّة في ساحات الحرب وخابت الآمال من عشائر دجلة لعدم اشتراكهم مع الفراتيين في القيام بالثورة استولى عليهم الإنكليز فدخل جيشه النجف يوم الثلاثاء الرابع من ربيع الأوّل سنة 1339 بعد أن أخمد نار الثورة في الشاميّة واستولى على مراكز الثوّار هناك وشتّت شملهم ثمّ حاصر النجف وكانت مملوّة بالرجال والنساء الذين فرّوا من الجيش البريطاني الذي دمّرهم وأحرق منازلهم بنيرانه المنفجرة من طيّاراته الملحقة فوق رؤوسهم ، ولكثرة النفوس في البلدة ومنع الحكومة من إدخال الأطعمة والأشربة شحّت لوازم الإعاشة وأضرّ بأهلها الجوع والعطش إلى أن فرّج الله يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الأوّل سنة 1339 وضربت

    الحكومة البريطانيّه على النجف الضرائب الباهظة منها ثلاثة آلاف بندقيّة أو بدلها ثمانية آلاف أو عشرة من الليرات الذهبيّة وقد سفّرت عدّة من الأشراف والعلماء وهدمت عدّة دور وقاسوا آلاما شديدة غير أنّ قبائل بني حجيم بقيت مرابطة في مراكزها تتبادل إطلاق الرصاص مع الجيش الإنكليزي ، ولم تزل على هذه الحالة إلى أن خمدت النائرة ودخلوا في المفاوضة فقرّر صلحهم مع الحكومة على الشروط التالية :
    الأوّل : أن تكون للعراق حكومة عربيّة مستقلّة.
    الثاني : أن لا تطالب قبائل بني حجيم بكلّ شيء خسرته الحكومة أثناء الثورة عدا ما تراه رجال الحكومة باقيا في أيديهم.
    الثالث : أن لا تؤدّي القبائل المذكورة شيئا من الضرائب الأميريّة لسنة الثورة لعدم استطاعتهم على أدائها بسبب ما لحقهم من الضرر من جرّاء القيام بالثورة.
    الرابع : أن يأخذوا على عهدتهم محافظة السكّة الحديديّة التي هي بحدودهم.
    الخامس : أن يتعهّدوا بتوطيد الأمن والسلام في جميع أراضيهم.
    السادس : أن يسلّموا إلى الحكومة ألفين وأربعمائة بندقيّة.
    وقد وقّعوا على هذه الشروط وبه تمّ الصلح بينهم وبين الحكمومة فكانوا هؤلاء الأبطال كلّهم من رجال الشيعة وهم مقيمون في لواء الديوانيّة وهم الذين أقاموا عرش العراق وبذلوا النفس والنفيس في سبيله ، وهم السبب الوحيد لتشكيل الحكومة العربيّة وهم أوّل من أعلن الثورة وآخر من خضع للسلطة.
    تلاميذ الإمام الشيرازي
    تخرّج من مجلس بحثه جمع من الأعلام المبرّزين منهم العلّامة الشيخ كاظم

    الشيرازي ، والميرزا هادي الخراساني ، والحاج محمّد حسن كبّة ، وحجّة الإسلام الميرزا علي آقا الشيرازي ، وحجّة الإسلام الحاج آقا حسين القمّي ، وحجّة الإسلام الشيخ عبد الكريم اليزدي ، والعلّامة الشيخ محمّد علي القمّي ، والشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة وغيرهم ذكرهم شيخنا في نقباء البشر.
    العمارة السادسة عشرة
    وقعت في أيّام المولى العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني العسكري نزيل سامرّاء أدام الله وجوده ونفع به وهي كثيرة على ما رأيناها بالعيان وكانت الإصلاحات والترميمات والتزيينات الواقعة في عصره للحضرة المقدّسة أكثر ممّا وقع في أيّام الحجّتين السابقين عليه والسبب في ذلك أنّه دام وجوده لم يزل يحرّض الناس كتبا وشفاها بعمارة المشاهد المشرّفة سيّما سامرّاء فبذل جهده وأتعب نفسه وتحمّل ما لا يتحمّله من العلماء حتّى وفّقه الله بإتيان ما يلي.
    منها : نصب ستّارات الكيشوانيّة يمنة ويسرة بأميال الحديد التي يعرف بالشيش على أحسن تركيب.
    ومنها : تبديل الباب الخشبي للسرداب المطهّر بالباب الفضّي وكان الباذل للباب الفضّي سهم الملك العراقي الإيراني.
    ومنها : ترصيف درج السرداب المطهّر بالرخام الصقيل وفرشه بالأفرشة الثمينة.
    ومنها : فرش الروضة البهيّة باثنتي عشرة قطعة من أثمن الأفرشة لا يقلّ ثمنها عن عشرين ألف تومان ، وكان الباذل لها الحاج أقلان التبريزي وقطعة أخرى كبيرة ثمينة ، وكان الباذل لها الحاج ميرزا علي أكبر المعروف ب «سلامت القمّي».

    ومنها : اثنتان وعشرون قطعة من الأفرشة القطنيّة للحرم والرواق والسرداب وقطعات أخرى لصلاة الجماعة ومجالس التعزية والفواتح سنة 1343.
    ومنها : تبديل باب الرواق من جهة القبلة الذي كان من الخشب بالباب الفضّي ، وكان الباذل الحاج محمّد حسين بن الشيخ موسى الرشتي أنفق له ثلاثة عشر ألف روبية ويوم إدخال الباب إلى سامرّاء خرج الأهلون إلى خارج البلدة واحتفلوا بالشخصيّات الذين جاءوا معه وحلّوا ضيوفا في دار الحجّة الميرزا محمّد المذكور.
    ومنها : تبديل الأبواب الخشبيّة للحرم الشريف بالأبواب الفضيّة أيضا من جهة القبلة ، وكان الباذل الحاج محمّد حسين المذكور ، أنفق لكلّ واحد منهما أربعة عشر ألف روبية مرصّعا في وسط كلّ منها بورق الذهب الخالص ومن الأسف أنّ اليد العادية سرقته في سنة 1356 في ليلة الثامن من المحرّم فرصّعوا مكانه بورق الفضّة.
    ومنها : عمارة الأبواب التي كانت حول الرواق تجاه الشبّاك الفولاذي والرواشن الفوقانيّة حول الرواق أيضا بأميال الحديد الذي يعرف باسم الشيش وكانت قبل ذلك من الأسلاك الدقيقة في غاية الاندراس والانكسار فعمّرها شيخنا المذكور بأحسن وجه.
    ومنها : عمل اثنى عشر بابا حول القبّة المطهّرة من الداخل واثنى عشر بابا من خارجها من الخشب الساج والزجاج الملوّن وقد عملها نجّار إيرانيّ في مدرسة آية الله الشيرازي رحمه‌الله.
    ومنها : عمل منجنيق لعمارة الحضرة المقدّسة وصندوق لحفظ كتب الأدعية ومجلّدات القرآن.
    ومنها : عمل رمانات ستّ ذهبيّة وهي المنصوبة كتيجان على أركان الضريح المقدّس.
    ومنها : عمل الثريّات الأربع البلوريّة المعلّقة على الجوانب الأربعة في الحرم

    الشريف وكان الباذل لها الحاج أسعد البختياري رحمه‌الله ، ونصب القناديل المطلية ممّا يلي الرأس.
    ومنها : شراء حوض من الحديد مغطّى بمأتي روبية لتكرير الماء في الحضرة المقدّسة ، وكان الباذل العلّامة السيّد حسين بن السيّد عبّاس البغدادي.
    ومنها : عمارة الحوض في وسط الصحن فكان يملأ من ماء البئر إلى أن جرّ الأنبوب إليه فكان في غاية الحسن واللطافة إلى أن صدر الأمر من بغداد بهدم الحياض فهدموه ورصفوا مكانه بالرخام وجعلوا بدل الحوض الحديدي المشار إليه ، نصبوه في بعض الأواوين الجنوبيّة وعلوا له حنفيّات ومدّوا إليه أنبوب ماء على أحسن وجه.
    ومنها : الباب الشرقي للحصن الشريف عمله نجّار إيراني.
    ومنها : تبديل الشبّاك الذي ممّا يلي رجلي الإمامين عليهما‌السلام بباب خشبي يفضي من الحضرة المقدّسة إلى الرواق المطهّر لتكون صلاة النساء في الرواق كسائر المشاهد المشرّفة.
    ومنها : مدّ أنبوب للماء من خارج الصحن إلى الحرم الشريف والسرداب المقدّس ، وقد بذل جهده إلى أن انتظم أمر الأنبوب.
    ومنها : نصب ما كنة كهربائيّة لتنوير الحضرة المقدّسة والصحن والسرداب فقط ، وكان الباذل لها التاجر المعروف الحاج محمّد رضا بن الحاج غلام علي الكازروني رحمه‌الله وكان الأمر كذلك إلى أن جيء بمضخة الماء والماكنة الكهربائيّة إلى سامرّاء فطلبت البلديّة من الأوقاف لتنوير الحضرة المقدّسة والصحن والسرداب فنقلت الماكنة المذكورة لتنوير المقدّس ضريح أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليهما‌السلام إلى غير ذلك ممّا هو كثير.
    وبمناسبة ذكر المولى الحجّة الميرزا محمّد المذكور وما له من المساعي المشكورة

    والآثار الجليلة التي هي غرّة في جبهة الدهر نورد لك نبذة يسيرة من حياته الشريفة :
    حياة المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني
    ولد في شهر شعبان بطهران سنة 1281 ونشأ بها إلى أن هاجر إلى العتبات المقدّسة واتصل بآية الله المجدّد الشيرازي وهاجر معه إلى سامرّاء وربّي في حجره وكان جليس ليله ونهاره إلى أن توفّي قدس‌سره فقرأ على العلّامة حجّة الإسلام الميرزا محمّد تقي إلى أن أجازه إجازة الاجتهاد ، وقد رأيت صورة الإجازة له ، فلم يزل معه إلى سنة الاحتلال وهي سنة 1335 فسار مع شيخه المذكور إلى كربلا فأخليت سامرّاء من الأعلام الجعفريّة وغيرهم حتّى وضعت الحرب أوزارها ورجعت المياه إلى مجاريها ورجع كلّ إلى مقرّه فأمر العلّامة حجّة الإسلام الميرزا محمّد تقي برجوع شيخنا المترجم إلى سامرّاء ، فرجع مع أهل بيته وصديقه الحميم العلّامة الخبير الشيخ آقا بزرك صاحب الذريعة ، فلمّا دخلوا البلدة شاهدها وقد أخنى عليها الذي أخنى على البلد.
    وحدّثني الشيخ المترجم وقال : دخلت الحرم الشريف فرأيت العناكب نسجت على الشبّاك المطهّر وكانت ساحة الحرم الشريف قد فرشت بالغبار. قال : فأخذتني الرقّه فبكيت. قال : فدخلنا مدرسة آية الله المجدّد الشيرازي رحمه‌الله فرأيناها كالمزبلة لا تقبل السكنى وكان السبب في ذلك أنّ الجيش العثاني لمّا انسحب من بغداد إلى سامرّاء دخلوا المدرسة المذكورة وكان ذلك في أيّام الشتاء فجعلوا يهدمون السقوف ليصطلي الجيش بنار أخشابها ، فبينما هم كذلك إذا بالجيش البريطاني في سامرّاء وجعلوا المدرسة بمنزلة المستشفى فأسكنوا في حجرها

    الجرحى والمرضى وامتلأت ساحة المدرسة من البغال والخيول ، وأمروا بتخلية بيوت العلماء للضبّاط الأمراء والجيوش وضيّقوا الطعام على الأهالي خوفا من أن يوصل شيء منه إلى الجيش العثماني فاضطرّ أبناء الجعفريّة طلّابها وعلماؤها وسوقتها إلى الهجرة من سامرّاء ، فرخصتهم الحكومة البريطانيّة في الهجرة فهاجروا ، فلمّا فرغ البريطاني من أمر الجيش العثاني ونقل جيشه من سامرّاء وبقيت المدرسة خالية نهبت أبواب حجرها وبقيّة أخشاب سقوفها وهدموا حوضها وأبطلوا ميضاتها وكذلك حال عدّة من دور أبناء الجعفريّه.
    فلمّا رجع إلى سامرّاء شيخنا المترجم شمّر عن ساعد الجدّ فعمر كثيرا من الدور والحياض وأنفق لعمارة المدرسة ما يقرب من ألفي روبية فقام بأمر المدرسة وكفالة الطلّاب بمساعدة الإمام الشيرازي قدس‌سره ، فلمّا توفّي الإمام الشيرازي قام بأمر المدرسة وكفالة الطلّاب سيّدنا الكبير المجتهد الأعظم السيّد أبو الحسن الأصفهاني رحمه‌الله فاكمل عمارة المدرسة وأدّى المعاش على كافّة طلّاب سامرّاء وفقرائها.
    ولشيخنا المترجم مصنّفات كثيرة منها مصنّفه الكبير الاستدراك على بحار المجلسي رحمه‌الله.
    ومن هممه العالية لتشييد الدين وترويج الشريعة المطهّرة أنّه دام وجوده أرسل عدّة من طلّاب العلم إلى نواحي الموصل مثل (داقوق) و (توزخورماتو) و (تسعين) و (زوه) و (كركوك) وغيرها على ما فصّلناه في كتابنا «السيوف البارقة في ردّ المتصوّفة المارقة» وأوصاهم بأن لا يأخذوا منهم شيئا من المال وتكفّل بمعاشهم وأنفق لهم دراهم كثيرة ليرشدوهم إلى الحقّ والطريق المستقيم ، وهم مائة وخمسون ألف بيت لا يعرفون من المذهب حرفا ، وكان شرب الخمر وسائر الفواحش بينهم من الأعمال المتعارفة وكانوا لا يعرفون الصلاة والصوم وسائر

    العبادات مع أنّهم يدّعون التشيّع ويرون أنفسهم من أتباع عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وشيخنا المترجم أتعب نفسه وبذل جهده في إرشادهم حتّى أرسل ابنه الفاضل الورع التقي الميرزا نجم الدين إلى هنالك ، قال : أمرهم إلى الهداية.
    لمّا بلغ هذا النبأ العظيم إلى حجج الإسلام الميرزا محمّد حسين النائيني والميرزا علي آقا الشيرازي وسيّدنا المجتهد الأعظم السيّد أبو الحسن الأصبهاني واستحسنوه فجعلوا يساعدونه في هذا العمل الشريف إلى أن بنيت المساجد في تلك البلاد والحسينيّات لإقامة العزاء ، وأرسلوا عدّة من أبنائهم لتحصيل العلم إلى النجف الأشرف وسامرّاء ويقصد الآن العتبات المقدّسة في أيّام الزيارة جماعات من الرجال والنساء ؛ كلّ ذلك من جهود شيخنا المترجم وإن اشترك معه غيره من العلماء غير أنّه كان هو الفائز بقصب السبق شكر الله سعيه وأجزل الله أجره ، ولشيخنا المترجم عمارات كثيرة لحضرة أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي كما سيأتي.
    تاريخ مضخّة الماء في سامرّاء
    وفي سنة 1343 جيء بمضخّة الماء إلى سامرّاء فأخذت أهمّيّتها فجرى الماء في جميع الدور والصحن والروضة البهيّة بعد أن كانوا يستقون من دجلة بتوسّط حمل القرب على الدوابّ ، وبفضل هذه المضخّة صارت سامرّاء بلدة زراعيّة. وقد أشار إلى ذلك العلّامة السماوي في وشايح السرّاء بقوله :
    وكان سقيا ماؤها من دجله
    وهي زها ميل من المحلّه

    وكانت الملوك قبل تصعده
    بلولب إلى قناة تورده

    فيدخل الصحن لأجل السقيا
    لوفده عطفا لهم وبقيا




    ووضعوا من شدّة التحنّي
    عليهم حوضا بوسط الصحن

    وربّما تنكسر اللوالب
    فيمسي ذاك الحوض وهو ناضب

    وكم وكم يمتح من ماء القني
    لأنّه من حوضه غير دني

    حتّى سقاها فيصل بما كنه
    جارية بالحركات ساكنه

    جاء بها من بعد ما قد جاءا
    بسنيتن وسقاها ماءا

    وفاض في الصحن وفي المسكن
    والطرق بل وسائر الأماكن

    وأرّخوا بالشطر فيما عمّه
    (سقى المياه روضة الأئمّه) (1)

    أقول : ولكن المحفوظ عندي من غير شكّ أنّ نصب المضخّة وجريان الماء في سامرّاء كان في سنة 1351 وكان هذا في عصر الملك المفخّم والسيّد المعظّم جلالة الملك الفيصل الأو آل ابن الشريف حسين الحسيني الحجازي.
    تاريخ تنوير الروضة والسرداب
    كانت تنويرهما بالشموع والنفط إلى أن جيء بمكينة الكهرباء من قرين الشرف الحاج محمّد بن الحاج غلام علي الكازروني ، وفي سنة 1343 وكان الأمر كذلك إلى أن جيء بما كنة الكهرباء ومضخّة الماء جاءت بهما الحكومة العربيّة فأضاءت الروضة البهيّة حتّى فوق القبّة والمأذنتين والصحن والسرداب المطهّر ومسجدها وجعلوا مصارفها من الأوقاف. وإلى ذلك أشار العلّامة السماوي دام بقاه في وشايح السرّاء بقوله :
    وكان ضوؤها من الشموع
    من مغرب الشمس إلى الطلوع

    توقد في الروضة في المسارج
    وفي ثريّات على معارج

    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1343.


    ثمّ رأى النفط لها المشاركه
    فيما عدا روضتها المباركه

    ففاض في الصحن وفي الرواق
    والدار والبهو الكبير الراقي

    لكنّما السرداب فيه يوقد
    شمع ولا يكاد عنه يفقد

    لأنّ شمس الأفق ليس تذهب
    إليه إذ حلّ به المحجّب

    حتّى أتاها فيصل بالكهربا
    فشعّ في روضتها ملتهبا

    وفي رواقها وفي الأبواب
    وفي أعاليها وفي السرداب

    وازدهر المشهد منها وأضا
    ما حوله من البيوت والفضا

    فأطرح النفط من الرواق
    والصحن والأمكنة الرواق

    وذاك بعد ما زها بالمملكه
    وحلّ من أوج السعود فلكه

    ورغّب الناس بفضل ضوئها
    زيادة على استقاء نوئها

    فهو بالأربعين والتسع انتشر
    بعد ثلاث من مئات وعشر

    وراح في أطرافها يفصل
    فأرّخوا (أفاض نورا فيصل) (1)

    فأخذت سامرّاء ببركة الماء والكهرباء أهمّيّتها ، فهدم السور وتوسّعت البلدة واتصلت العمارات من خلف السور إلى ضفة دجلة ، فبادر الناس إلى شراء الأراضي والعرصات الواقعة في باب القاطول من جنبي الجادة ومذ وقعت الحرب العامّة الثانية توقّف الأمر.
    تاريخ ترميم الصناديق وبعض الآثار التأريخية
    من الترميمات ترميم صندوق ضريح الإمام العسكري عليه‌السلام ممّا يلي الرأس فإنّه قد كتب فيه باللغة الفارسيّة ما هذا نصّه : «باني اين صندوقهاى مطهّر شاه سلطان
    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1349.

    حسين صفوي سنه 1109 مرمّت كارى بيد محمّد صنيع خاتم سنه 1367».
    وقد كتب على سقف الضريح : «اللهمّ إنّا نتقرّب إليك بحبّهم ونوالي وليّهم ونعادي عدوّهم ونقرّ بفضلهم ونؤمن بهم وبأوّلهم وآخرهم وباطنهم وظاهرهم ، لا أنكر فضلا لهم ولا أبتغي بهم بدلا ، ولا أتّخذ معهم وليجة ، وأعترف بأنّ فيهم الحقّ ولهم ومعهم وبهم فاجعلنا من أنصارهم يا ربّ العالمين وصلّ على شفيع الخلق أجمعين يوم الدين ورحمة الله للعالمين محمّد بن عبد الله خاتم النبيّين ، وصلّى على وليّك المرتضى وسيفك المنتضى وآيتك الكبرى وكلمتك العليا الشهاب الثاقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وصلّ على الصدّيقة الطاهرة الرضيّة المرضيّة الزكيّة الكريمة المحدّثة العليمة المغصوبة المقهورة المعصومة الشهيدة فاطمة الزهراء سيّدة النساء وعلى أمّها أمّ المؤمنين خديجة الكبرى ، وصلّ على إمامي الهدى وكهفي الورى وعلمي التقى قرّتي عين رسول الثقلين الإمامين المعصومين المظلومين الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة أجمعين ، وصلّى على أشرف الموحّدين عليّ بن الحسين زين العابدين ، وصلّ على أمين الله على وحيه وحجّته على جميع خلقه موضع سرّه وعيبة علمه إمام المتقين محمّد بن عليّ باقر علوم النبيّين ، وصلّ على نور الله في ظلمات الأرضين وشافع المذنبين ووارث علم المرسلين أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق الأمين ، وصلّ على الإمام العليم والسند الكريم والصراط المستقيم أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم الحليم ، وصلّ على حجّتك العظمى على جميع الورى وسبيل الهدى وربيب التقى أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا ، وصلّ على نور البلاد ومين العباد والشافع يوم التناد وسلالة الأئمّة الأمجاد أبي جعفر محمّد بن عليّ التقي الجواد ، وصلّ على جنب الله القوي ووجه الله المضي وباب الله العلي أبي الحسن عليّ بن محمّد التقي ، وصلّ على سيّد الأخيار وإمام الأبرار وحجّة الجبّار العالم بالسرّ والخفي ووارث علم النبي الحسن

    ابن عليّ العسكري ، وصلّ على وصيّ الأوصياء والأولياء المنصور من السماء المظفّر على الأعداء خليفة الرحمان وشريك القرآن وحليف الإيمان وكاشف الأحزان الحجّة ابن الحسن صاحب الزمان ، اللهمّ وال من والاهم وعاد من عاداهم وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم ، اللهمّ العن من ظلمهم واجعلنا ممّن يكرّ في رجعتهم ويمكّن في دولتهم وقرّ عيوننا برؤيتهم واحشرنا معهم في الدنيا والآخرة».
    وفوق ضريح الإمام الهادي عليه‌السلام قد كتب ما هذا نصّه : («إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) سنة 1109».
    وقد كتب على حواشيه أسماء الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام على ترتيب ما كتب على ضريح الإمام العسكري عليه‌السلام ، وكتبت أيضا بعض الآيات القرآنيّة بخطّ جليّ محفور.
    وكتب أيضا على حواشي ضريح العسكريّين عليهما‌السلام كالطرّة ما هذا نصّه : «قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في تفسير الطبري والكلبي والثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نزلت فيّ وفي عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، هكذا رواه في صحيح مسلم ، وابن حجر في الصواعق المحرقة ، قوّاه وأكّده وشيّده ، اللهمّ اجعلنا من المتمسّكين بحبّهم. روي في مسند أبي داود عن حذيفة ومسند أحمد وغيرهما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن تولّوا عليّا وتستخلفوه تجدوه هاديا يأخذ بكم الطريق المستقيم. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الأئمّة بعدي اثنا عشر ؛ تسعة من صلب الحسين أمناء معصومون ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة ، وفي صحيح البخاري عنه أيضا ، ومسند أحمد عن ابن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال الدين عزيزا منيعا وقائما
    __________________
    (1) الأحزاب : 33.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:51 pm

    ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ومنّا المهدي. قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ؛ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، رواه صحيح الترمذي ومستدرك صحيح البخاري ، ومسلم. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(1) في البخاري ومسلم والطبري والنسفي ومسند أحمد وحلية الأولياء ، قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء القربى؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هم عليّ وفاطمة وأولادهما».
    وكتب على ضريح العسكري عليه‌السلام :
    وفّق الباري لهذا عبده سلطان حسين
    ادم الدين القويم كلب باب المرتضى

    حبّذا مشكاة نور جاء في تاريخه
    (قد وعى صندوق سرّ الله نجل المصطفى)(2)

    تاريخ نصب الشبّاك الفضّي والجسر
    نصب الشبّاك الفضّي على المرقد الشريف للعسكريّين عليهما‌السلام في شهر صفر سنة 1360 وكان بادئ الأمر منصوبا على مرقد سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام فلمّا بدل بالجديد حمل العتيق إلى سامرّاء بعد إصلاحه ، وكان الحجّة الميرزا محمّد الطهراني يبذل جهده حتّى اليوم لتكميله وتزيينه كما أنّه كان يرغب عقد جسر على شطّ سامرّاء فلم يزل يراجع في شأنه الدوائر المختصّة الحكوميّة ببغداد ويرسل بعض أشراف بغداد لتلك الغاية حتّى أدخل ذلك في ميزانيّة الدولة ، فلمّا أنشئ جسر ثابت على دجلة ببغداد أمر بنقل الجسر العتيق إلى سامرّاء فعقد على الشطّ بعد ترميمه وإصلاحه فمشت عليه المارّة يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1359.
    __________________
    (1) الشورى : 23.
    (2) مطابقة لسنة 1109.

    سدانة الروضة البهيّة ووقوع السرقات فيها
    كنّا قد ذكرنا في المجلّد الأوّل أنّ معزّ الدين أحمد بن بويه رتّب القوام والسدنيّة للبقعة المطهّرة ومن عرف مذهب معزّ الدولة علم أنّ أيّ فريق عيّن ورتّب منهم. قال العلّامة السماوي دام وجوده :
    وصار ترميم البنا إذ انهدم
    لمن بتلك الدار من باقي الخدم

    وقد رأى الرضي شيخا قد أسن
    وكان خادما لمولانا الحسن

    كانت السدانة بيد من في الدار ومنهم قيّم يداري ويخدم إلى سنة 328 ، فلمّا دخل معزّ الدولة سامرّاء زائرا سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة رتّب القوام والسدنة لأنّ أهل الدار انتشروا في الأرض خوفا على أنفسهم كما سيأتي أخبار المعتضد والمعتمد.
    وحدّثني العلّامة الخبير الحجّة السيّد حسن الصدر قدس‌سره قال : كانت سدانة الحرم الشريف بيد جماعة من سادات (ماهي دشت) وهي من أعمال كرمانشاهان فوقع بينهم وبين أهالي سامرّاء مشاجرة أدّت إلى جلائهم من سامرّاء ، وتزوّج السيّد علي الذي كان من عشيرة «صالح الشيخ» امرأة منهم وكان السيّد علي يتشيّع فلمّا هاجروا من سامرّاء بقي السيّد علي مع زوجته في سامرّاء وأخذ السدانة ، فلمّا توفّي قام بهذا الخطير ابنه المرحوم السيّد حسن ، وكان حسن السيرة ليّن العريكة خدوما متواضعا وكان فيه تشيّع كأبيه ، ثمّ إنّه توفّي فجأة في ربيع الأوّل سنة 1354 ودفن في الرواق فقام بأمر السدانة ولده الأكبر السيّد بهاء الدين فحسده على هذا المنصب الشريف بعض عشائر سامرّاء وأرادوا إظهار عدم كفايته وضعف قابليّته لهذا الأمر الخطير فجاء بعض شرارهم في ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 1355 وصعد على سطح الروضة المنوّرة وقلع من صفايح ذهب القبّة المنوّرة خمسا وعشرين طابوقة.

    فلمّا علمت الحكومة المحلّيّة أخذت في البحث والتفتيش وقد اتّهموا بعض أبناء الشيعة بزعم أنّ مفتاح باب المأذنة كان عند مؤذّنهم فحسبوا جماعة من الأبرياء فطال حبسهم أربعين يوما. فلمّا علمت الحكومة براءتهم من ذلك أطلقتهم ، ثمّ إنّهم ليلة الثامن من المحرّم سنة 1356 نهبوا أربع صفحات من الذهب وهي التي كانت أبواب الحرم الشريف مرصّعة بها واثنين من «الشمع دانات» وهما اللتان أحدتهما أمّ السلطان عبد الحميد العثماني لحضرة العسكريّين عليهما‌السلام وكان طول كلّ واحد منهما خمسة أشبار ويتضمّن كلّ واحد منهما تسعين كيلوا من الفضّة مطرّزة بالذهب على بديع شكل وألطف صنعة ، فعلمت الحكومة أنّ المناسات والعداء الواقع بين العشائر أدّى إلى هذا الأمر. وقيل : كان السارق معلوما ولكن السياسة الحاضرة منعت من عقابه.
    وذكر العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة في آخر سيرة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، هذه السرقة كما أنّ العلّامة السماوي ذكرها في وشايح السرّاء (1) بقوله :
    وقد درى كلّ بني الزمان
    أن سرقت هناك لوحتان

    من ذهب القبّة ذات الشرف
    فذهب السارق منها وخفي

    وأتبعت بعد بصفحتين
    من بابها المصبوغ من لجين

    ومعهما من اللجين مسرجه
    توضع فيها لا شمعة المؤجّجه

    وكان ما بينهما نصف سنه
    وخفى السارق وهي بيّنه

    فاضطربت بالتهم الأوهام
    وظنّ أنّ السارق القوام

    إذ وقع الخلف لدى الإخوان
    من يخزن الجنان عن رضوان

    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 25.


    وفاز بعضهم ومن لم يفز
    ظنّ به يرى ظهور المعجز

    وظنّ أيضا أنّ بعض الشيعه
    أراد في قوامها الوقيعه

    فقال قوم أين عنها المعجز
    مسخرة منهم بذاك وهزو

    فلم يمرّ الشهر إلّا وجدا
    حمل ببغداد به ما فقدا

    مرّ به سارقه في الجسر
    فشعّ منه ضوء ذاك التبر

    وفتّشوا إذ اللجين والذهب
    ما زال منه صوغه وما ذهب

    وبرئ المتهمون أجمع
    ممّا بهم ظنّوا ومما شنّعوا

    وعرف اللصّ الذي كان انتشل
    بأنّه المشهور في ذاك العمل

    وكان ذا في السبع والخمسينا
    من رابع القرون في السنينا

    من بعد ألف الهجرة الذي اشتهر
    فأرّخوا (لصّ وحيد قد ظهر)

    وذكر أيضا هذه السرقة بقوله (1) :
    وسابع الأحداث ما قد كانا
    من سرقات بعض من قد خانا

    فإنّه أفقد لوحتين
    تبرا وأقطاعا من اللجين

    منهنّ قطعتين في الرتاج
    وطعه توضع للسراج

    في دفعتين أشهر بينهما
    فجال فكر من عنى توهّما

    أقول : حدّثني غير واحد من سكنة سامرّاء أنّ في عصر آية الله المجدّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه‌الله نهبوا ما في خزانة العسكريّين عليهما‌السلام من الستور الثمينة وكفّ من الذهب فوجدوها في المملحة تحت صبرة الحنطة.
    وسيأتي في ترجمة جعفر الذي يعرف باسم الكذّاب أنّ أوّل من نهب دار العسكريّين عليهما‌السلام وتصرّف في أمواله جعفر الكذّاب فإنّه أخذ تركته وسعى في
    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 40.

    حبس جواري أبي محمّد واعتقال حلائله وجرى على مخلفي أبي محمّد بسبب ذلك كلّ عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ ، وإلى ذلك أشار العلّامة السماوي بقوله :
    فأوّل الأحداث ما قد سجنوا
    من السراري ما يحوز الحسن

    بعلّة أن لا يكون حمل
    يحرم ميراثا فيستحل

    واقتسموا ما قد حوته الدار
    إذ لم تبن لوارث آثار

    فأصبحت نهبا بها الأثاث
    كأنّها ليس لها ورّاث

    ثواب عمارة المشاهد وزيارتها
    روى السيّد عبد الكريم بن طاوس في فرحة الغري (1) والمجلسي في مزار البحار بالإسناد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلّي بن أبي طالب عليه‌السلام : يا علي ، والله لتقتلنّ بأرض العراق وتدفن بها.
    قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟
    فقال لي : يا أبا الحسن ، إنّ الله تبارك وتعالى جعل قبرك وقبور ولدك بقاعا من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها ، وإنّ الله تعالى جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم وتتحمّل المذلّة والأذى فيعمرون قبوركم فيكثرون زيارتها تقرّبا منهم إلى الله ومودّة منهم لرسوله ، أولئك ـ يا علي ـ المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي وهم زوّاري غدا في الجنّة.
    يا علي ، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت
    __________________
    (1) فرحة الغري : 13.

    المقدس ، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمّه ، ابشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم كما تعيّر الزانية بزنائها ، أولئك شرار أمّتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ولا يردون حوضي.
    قال الله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(1) ولا شكّ أنّ العمارة على قبورهم وزيارتهم من أعظم شعائر الله ورعاية للحقّ وإبقاء لآثارهم وكسر لشوكة أعدائهم وإرغام لآناف المشركين ، وتبيّن من الحديث المشار إليه أنّ مرقد العسكريّين عليهما‌السلام بقعة من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها وأنّ زوّارهما من نجباء خلقه وصفوة عباده المختصّين بشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الزائرين له في الجنّة الواردين حوضه ، وتبيّن أنّ عمارة مشهدهما من أعظم شعائر الله ، وتبيّن أنّه من أنكر زيارتهما أو عيّر زوّارهما فهو من شرار خلق الله ومحروم من الشفاعة وورود الحوض وهو من أرذل الناس لأنّ التعيير بالحثالة يشهد بذلك وهو الرديء من كلّ شيء.
    وقد استدلّ بعض المحقّقين لوجوب العمارة على قبورهم بقوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)(2) قال : إنّ الآية فيها إشعار بأنّ التوجّه إلى هؤلاء الأئمّة والاقتداء بهم والاستنان بسنّتهم هو البرّ فيعبد الله تبارك وتعالى ويتقرّب إليه بالتأسّي بهم ومحبّتهم والتقرّب اليهم والايتمام بهم وإطاعة أوامرهم وتذكّر أحوالهم وحضور مشاهدهم ، فإنّ كلّ ذلك
    __________________
    (1) الحجّ : 32.
    (2) البقرة : 177.

    ممّا يقوّي العبد ويقرّبه إلى طاعة الله تعالى ؛ فإنّ الله عزوجل يحبّ العبادة بالاجتماع كما في صلاة الجمعة والجماعة والحجّ والجهاد والاعتكاف وحضور المساجد وصلاة الاستسقاء ، ولم يشرع الرهبانيّة والاعتزال وصوم الصمت فيكون البرّ منحصرا في التوجّه إلى محمّد وآل محمّد عليه وعليهم‌السلام بل لا يمكن المعرفة والإقرار بالله تعالى إلّا بالنظر والتأمّل في آياته وعلاماته لأنّه أجلّ وأقدس من أن تدركه بغير ذلك ، كما قال الله عزوجل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(1).
    ومعلوم أنّه كلّما كانت الآية أعظم كانت المعرفة به تعالى أكمل ، وأيّ آية أعظم من محمّد وعليّ وذرّيّتهما الطاهرين ، فوجب حفظ آثارهم ونقل أخبارهم وعمارة مشاهدهم وإعلاء كلمتهم لكونهم أعلام ربّانيّة وآيات الهيّة كما قالوا : «بنا عرف الله ، وبنا عبد الله ، ولولانا ما عبد الله وما عرف الله».
    ويشير إلى ما ذكرناه ما رواه الحفّاظ كالطبراني والحاكم عن ابن مسعود أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «النظر إلى عليّ عبادة» ، فإذا كان ذكر عليّ عليه‌السلام والنظر إليه عبادة فلا شكّ أنّ التوجّه به إلى الله عزوجل وتعظيم مرقده والوفود إلى مشهده للزيارة والاستشفاع به والتبرّك بضريحه من أنواع ذكره ، ولا يفرّق عاقل في النظر إلى وجهه وجسد بين كونه حيّا أو ميّتا ؛ لأنّ النظر لا يقع إلّا على الجسد ، وحيث علم المناط وهو التوجّه إليه برأفة ومودّة لم يفرّق بين النظر إلى جسده ميّتا ومرقده وقبّته ، وكلّما ينسب إليه. وكما أنّ حقوق محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين ثابتة في حال حياتهم على الأمّة فكذلك بعد موتهم ، ومن حقوقهم احترام مشاهدهم وعمارة مراقدهم وتعظيم قبابهم من غير فرق بين البقعة النبويّة وبين
    __________________
    (1) فصّلت : 53.

    بقاع العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين ، وأيّ أثر أعظم من جسد الولي ومشهده سيّما مع ظهور النور والكرامات والبركات مرّ الدهور ، وهذا من أنفس الآيات الآفاقيّة ، فلو لم تكن هذه هي الآيات الإلهيّة فأين الآيات المرئيّة المحسوسة؟!
    قال : وقد سمعت جملة من أبناء السنّة ليلة ظهور النور على قبّة العسكريّين عليهما‌السلام بسامرّاء وظهر كوكبان درّيّان على الرمّانة العالية يظهران نصف دقيقة ويغيبان نصف دقيقة بقيا كذلك ساعات ليلة الجمعة ، وشاهد ذلك جميع أهل سامرّاء من المجاورين والزائرين الشيعة والسنّة ، يقول بعضهم لبعض : «شوف شوف اشلون تظهر كرامات من قبور أئمّة الشيعة واحنه ما شفنه ولا سمعنه من قبور أئمّتنا شيء». فقال الآخر في جوابه ما حاصله : «احنه شنو هذو له أولاد رسول الله لا يقاس بهم أحد».
    وكنت سنين عديدة مشرّفا في الناحية المقدّسة وشاهدت كرامات عديدة ، ولا يشكّ أحد أنّ عمارة مشاهدهم هو التعاون على البرّ والتقوى بل من أهمّ إعانة على البرّ وأجلّ معاونة على التقوى ، ولعمري إنّ ظهور هذه المعاجز وتواترها في الأعصار ألجأ بعض الأعادي أن يقصدوا إلى فنائها ويسعوا إلى تخريبها إطفاء النور الله ، ويأبى الله إلّا أن يتمّه.
    وجاء في حديث أمّ أيمن قال عليه‌السلام : يبنون عليهم بنيانا لا يزول بمرور الأيّام ، ولو جهدت في إزالته ظلم الأنام.
    ولبقاء الآثار نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجرا على قبر عثمان بن مظعون لمّا دفنه كما ذكره السمهودي الشافعي في وفاء الوفاء (1) قال : لمّا دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عثان بن مظعون
    __________________
    (1) وفاء الوفاء : 85 طبع مصر.

    أمر بحجر فوضع عند رأسه. قال قدامة : فلمّا صفق البقيع وجدنا ذلك الحجر فعرفنا أنّه قبر عثمان بن مظعون ..
    قول الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : «قبري أمان»
    في مزار البحار بالإسناد عن أبي هاشم الجعفري قال : قال لي أبو محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام : قبري أمان لأهل الجانبين.
    روى شيخ الطائفة قدس‌سره في التهذيب عن محمّد بن همام ، عن الحسن بن محمّد بن جمهور ، عن الحسين بن روح ، عن محمّد بن زياد ، عن أبي هاشم الجعفري قال : قال أبو محمّد الحسن بن عليّ الهادي عليهما‌السلام : قبري بسرّ من رأى أمان للجانبين.
    أقول : اختلفت آراء العلماء في معنى هذا الخبر :
    فقيل : المراد أمان عن مثل الأمراض المهلكة كالوباء والطاعون والملاريا وأمثالها ، ولعلّ قلّة هذه الأمراض أو عدمها مستندة إلى طيب هوائها كما وصفه الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام حيث قال : دخلت سامرّاء كرها ولو خرجت لخرجت كرها لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلّة دائها .. الخ.
    وقيل : إنّ المراد بالجانبين الفريقين من الشيعة والسنّة.
    وقيل : جانبي الشط الشرقي والغربي.
    وقيل : البلاد الواقعة في جنبتي سامرّاء.
    وكلّ ذلك لا يخلو عن تكلّف ، وقد اعترض على هذه الشروح والاحتمالات بوقوع الحوادث في سامرّاء كسائر البلاد من الحروب والقتال والغلاء والفقر والمسكنة حتّى آل أمرهم إلى الجلاء والفناء وهذا ممّا لا ستر عليه.
    ويمكن أن يقال ـ والله أعلم بحقيقة الحال ـ أنّ المراد أنّه من دخلها كان آمنا كأنّه

    دخل في أمان الإمامين عليهما‌السلام وليس لأحد أن يتعرّض وإن كان مجرما نظير قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(1) يعني من دخل مكّة فلا ينبغي لأحد أن يقصده بسوء حتّى الحيوانات ، غير أنّ هذا التأويل لا يختصّ بسامرّاء بل هو جار في جميع العتبات العاليات وحكمها حكم حرم الله من دخلها دخل في أمان الله تعالى وحصن حصين.
    __________________
    (1) آل عمران : 97.

    حقوق روضة العسكريّين وآداب زيارتهما
    قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا إنّكم مسئولون يوم القيامة حتّى عن البقاع والبهائم». يدلّ هذا الخبر الشريف إلى أنّ للبقاع حقوقا يجب أداؤها وإعطاء حقّها لا سيّما مثل هذه البقعة الشريفة بقعة العسكريّين عليهما‌السلام التي هي بيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وإنّها مشهد للملائكة والأنبياء والروحانيّين ، ومزيد شرفها على سائر بقاع الأئمّة عليهم‌السلام أنّها كانت دارهم عبدوا الله فيها ثماني وعشرين سنة وكانت معبد ثلاثة من الأئمّة عليهم‌السلام ومبيتهم ومسكنهم ومحلّ ظهور معاجزهم ، وإنّها مولد الحجّة عليه‌السلام ، وتشترك مع مشهد آبائهما بأنّها عرصة من عرصات الجنّة وبقعة من بقاعها كما عرفت آنفا ، ناهيك بذلك شرفا وفضلا.
    وجاء في مزار البحار مرويّا أنّ حرمتهم بعد موتهم كحرمتهم في حياتهم.
    وقال المجلسي : ينبغي أن يراعى في روضاتهم ما كان ينبغي أن يراعى في حياتهم من الآداب والتعظيم والإكرام.
    قال الشهيد قدس‌سره في الدروس : للزيارة آداب :
    1 ـ الغسل قبل دخول المشهد وأن يكون على طهارة فلو أحدث أعاد الغسل.
    2 ـ قال المفيد رحمه‌الله : إتيانه بخضوع وخشوع.
    3 ـ إتيانه في ثياب طاهرة نظيفة جدّد.
    4 ـ الوقوف على بابه والدعاء والاستيذان بالمأثور فإن وجد خشوعا ورقّة

    دخل وإلّا فالأفضل له التحرّي زمان الرقّة لأنّ الغرض الأهم حضور القلب ليلقى الرحمة النازلة من الرب.
    5 ـ إذا دخل قدّم الرجل اليمن ، وإذا خرج فباليسرى.
    6 ـ الوقوف على الضريح ملاصقا له أو غير ملاصق ، وتوهّم أنّ البعد أدب وهم ، فقد نصّ على الاتكاء على الضريح.
    7 ـ تقبيله وهو منصوص مثل سابقه ونحو ما يلي.
    8 ـ استقبال وجه المزور واستدبار القبلة حال الزيارة.
    9 ـ يضع إليه خدّه الأيمن عند الفراغ من الزيارة ويدعو متضرّعا ثمّ يضع خدّه الأيسر ويدعو سائلا من الله تعالى بحقّه وحقّ صاحب القبر أن يجعله أهل شفاعته ويبالغ في الدعاء والإلحاح ثمّ ينصرف إلى ما يلي الرأس ثمّ يستقبل القبلة ويدعو.
    10 ـ الزيارة بالمأثور ، ويكفي السلام والحضور.
    11 ـ صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ ؛ فإن كان زائرا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ففي الروضة ، وإن كان لأحد الأئمّة عليهم‌السلام فعند رأسه ، ولو صلّاهما بمسجد المكان جاز.
    12 ـ الدعاء بعد الركعتين بما نقل وإلّا فيما سنح له في أمور دينه ودنياه ، والتعميم للدعاء فإنّه أقرب للإجابة.
    13 ـ تلاوة شيء من القرآن عند الضريح وإهدائه إلى المزور والمنتفع بذلك الزائر وفيه تعظيم للمزور.
    14 ـ إحضار القلب في جميع أحواله مهما استطاع والتوبة من الذنب والاستغفار.
    15 ـ التصدّق على السدنة والحفظة للمشهد وإكرامهم وإعظامهم فإنّ فيه إكرام صاحب المشهد عليه الصلاة والسلام ، ويجب أن يكون السدنة من أهل الخير والصلاة والورع والتقوى والدين والمروّة والاحتمال والصبر وكظم الغيظ خالين من الغلظة على الزائرين ، قائمين بحوائج المحتاجين ، مرشدين ضالّ الغرباء والواردين ،

    مفتخرين بالقيام على الخدمة ، لا يسألون إلحافا ، ولا يغرون المستضعفين احتيالا.
    16 ـ إنّه إذا انصرف من الزيارة إلى منزله استحبّ العود إليها ما دام مقيما فإذا أراد الخروج ودّع وداعا بالمأثور وسأل الله العود إليه.
    17 ـ أن يكون الزائر بعد الزيارة خيرا من قبلها ، فإنّها تحبط الأوزار إذا صادفت القبول.
    18 ـ تعجيل الخروج عند قضاء الوطر من الزيارة لتعظيم الحرمة وليشدّ الشوق. وروي أنّ الخارج يمشي القهقرى حتّى يتوارى.
    19 ـ الصدقة على المحاويج بتلك البقعة فإنّ الصدقة مضاعفة هنالك لا سيّما على العلماء والمتعلّمين المجاورين في تلك البلدة.
    روى ابن قولويه في كامل الزيارة عن بعضهم صلوات الله عليهم أنّه قال : إذا أردت زيارة قبر أبي الحسن الثالث عليّ الهادي عليه‌السلام وأبي محمّد عليه‌السلام تقول بعد الغسل إن وصلت إلى قبريهما وإلّا أومأت بالسلام من عند الباب الذي على شارع الشبّاك تقول : «السلام عليكما يا حجّتي الله ، السلام عليكما يا نوري الله» .. إلى آخر الزيارة المعروفة المشهورة.
    ثمّ اعلم أنّ الصدوق رحمه‌الله ذكر هذه الزيارة بعينها في الفقيه وليس فيها «السلام عليكما يا من بدأ الله في شأنكما» وسيأتي في ترجمة أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليه‌السلام معنى هذه الفقرة بصورة تفصيليّة.
    ثمّ قال ابن قولويه : وتجتهد في الدعاء لنفسك ولوالديك وتخير من الدعاء بما تريد فإن وصلت إليهما فصلّ عند قبرهما ركعتين وإذا دخلت المسجد وصلّيت دعوت الله بما أحببت إنّه قريب مجيب ، وهذا المسجد إلى جانب الدار وفيه كانا يصلّيان عليهما‌السلام.
    وقال المفيد في المزار الذي نسب إليه : إذا وردت مشهد العسكريّين عليهما‌السلام

    فاغتسل للزيارة ثمّ امض حتّى تقف على باب القبّة واستأذن وادخل مقدّما رجلك اليمنى وقف على قبريهما وقل ... ثمّ ذكر الزيارة المشار إليهما بعينها غير أنّه روى بدل قوله «السلام عليكما يا من بدأ الله في شأنكما» قوله «السلام عليكما يا أميني الله» ، ثمّ ذكر الوداع وهو أن تقول : «السلام عليكما يا وليّي الله ، أستودعكما الله وأقرأ عليكما السلام آمنا بالله وبالرسول وبما جئتما به ودللتما عليه ، اللهمّ اكتبنا مع الشاهدين» ثمّ اسأل الله العود إليهما وادع بما أحببت إن شاء الله.
    وأمّا ثواب زيارتهما
    فالأخبار بذلك متواترة لا يسعنا المقام استيفاؤها فمن أراد الاطّلاع فعليه أن يراجع كتب المزار غير أنّا نشير إلى نماذج منها زيادة على ما تقدّم.
    منها ما روي عن بشارة المصطفى في حديث طويل عن رسول الله أنّه قال : من زارني بعد وفاتي فكأنّما زار فاطمة ، ومن زار فاطمة فكأنّما زارني ، ومن زار عليّ بن أبي طالب فكأنّما زار فاطمة ، ومن زار الحسن والحسين فكأنّما زار عليّا ، ومن زار ذرّيّتهما فكأنّما زارهما.
    ومنها ما رواه الصدوق في العيون والعلل بالإسناد عن الوشّا قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : إنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ؛ فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة.
    ومنها ما رواه الصدوق فيهم أيضا بالإسناد عن زيد الشحّام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما لمن زار واحدا منكم؟ قال : كمن زار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    وقال السيّد الأجل عليّ بن طاوس رحمه‌الله في المصباح والمجلسي في مزار البحار : إذا

    وصلت إلى محلّة الشريف بسرّ من رأى فاغتسل عند وصولك غسل الزيارة والبس أطهر ثيابك وامش على سكينة ووقار إلى أن تصل الباب الشريف فإذا بلغته فاستأذن وقل : أأدخل يا الله ، أأدخل يا نبّي الله .. الخ.
    ثمّ تدخل مقدّما رجلك اليمنى وتقف على ضريحي الإمامين عليهما‌السلام مستقبل القبر ومستدبر القبلة وتكبّر الله مائة تكبيرة وتقول : السلام عليك يا أبا الحسن عليّ بن محمّد ، إلى آخر الزيارة.
    ثمّ قبّل ضريحه وضع خدّك الأيمن عليه ثمّ الأيسر وقل .. وذكر الدعاء ، ثمّ قال : فتصلّي صلاة الزيارة فإذا سلّمت فقل .. فذكر الدعاء ، وقال : وادع بما شئت وأكثر من قولك : يا عدّتي عند العدد .. إلى آخر الدعاء المشهور ، ثمّ قال رضى الله عنه : فإذا أردت زيارة أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام فلتكن بعد جميع ما قدّمناه في زيارة أبيه ثمّ قف على ضريحه وقل ... فذكر له زيارة وأدعية يدعى بها عند قبره ، ثمّ تزر أمّ القائم ثمّ الجهة العليا حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام ثمّ انصرف مرحوما إن شاء الله.
    أفضل الزرايات الزيارة الجامعة
    ذكرها الصدوق رحمه‌الله في كتابيه العيون والفقيه بالإسناد عن الأسدي وهو محمّد بن أبي عبد الله جعر بن محمّد بن عون الأسدي أبو الحسين الكوفي الثقة ، عن البرمكي وهو محمّد بن إسماعيل بن بشير البرمكي الثقة ، عن النخعي وهو موسى بن عبد الله ابن عبد الملك بن هشام النخعي المقبول الرواية ، قال : قلت لعليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام : علّمني يابن رسول الله قولا أقوله بليغا كاملا إذا زرت واحدا منكم. فقال عليه‌السلام : إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين وأنت على غسل فإذا دخلت ورأيت القبر فقف

    وقل الله أكبر ثلاثين مرّة ، ثمّ امش قليلا وعليك السكينة والوقار وقارب بين خطاك ثمّ قف وكبّر الله ثلاثين مرّة ، ثمّ ادن من القبر وكبّر الله أربعين مرّة تمام المائة ثمّ قل : «السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ..» الخ. ورواها أيضا إبراهيم بن محمّد الحموي الشافعي في الباب التاسع والثلاثين من الجزء الثاني من كتابه فرائد السمطين.
    شروح الزيارة الجامعة واعتبارها
    قال المجلسي قدس‌سره في مزار البحار بعد نقل الزيارة الجامعة وشرح مختصر لها : إنّما بسطت الكلام في شرح تلك الزيارة قليلا وإن لم أستوف حقّها حذرا من الإطالة لأنّها أصحّ الزيارات سندا وأعمّها موردا وأفصحها لفظا وأبلغها معنى وأعلاها شأنا.
    وقال المولى العلّامة محمّد تقي المجلسي الأوّل في شرحه على الفقيه ما مضمونه أنّ هذه الزيارة يزار بها كلّ واحد من الأئمّة منفردا ومجتمعا ، وإنّ الصدوق عليه الرحمة ذكرها في كتابيه العيون والفقيه وحكم بصحّتها واعتبار سندها على أنّ فصاحتها وبلاغتها وجامعيّتها وكونها موافقة لمضامين الأخبار كافية في اعتبارها ، ولا شكّ أنّها مرويّة عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ولي سند آخر لها وهو أنّي لمّا زرت مولاي أمير المؤمنين عليه‌السلام قبل هذا بثمان وعشرين سنة خطر ببالي أن أشتغل بالرياضة الشاقّة رجاء لحصول الحال والوصول والارتباط إلى الآل عليهم‌السلام ولكي تكون زيارتي أتمّ وأكمل وترتفع الحجب بحسن العمل ، فاشتغلت بذلك وكنت في أكثر الأيّام مشتغلا بالذكر والدعاء في المقام المعروف بمقام المهدي في خارج النجف مبتهلا متضرّعا إلى الله تعالى وكنت في الليالي تارة في مسجد عمران وأخرى في

    الروضة المقدّسة الحيدريّة حتّى انقضت عشرة أيّام فوجدت حبّا في قلبي واشتدّ شوقي فكنت جالسا في بعض الليالي في رواق مسجد عمران فاعترتني سنة فإذا أنا واقف كأنّي عند باب روضة العسكريّين عليهما‌السلام ورأيت القبر في نهاية الارتفاع والطول والعرض وعلى الصندوق بطانته من حرير خضراء وإنّ الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه متّكئ ظهره على الصندوق ، فلمّا نظرت إليه شرعت بالزيارة الجامعة فلمّا فرغت منها قال عجّل الله فرجه : نعمت الزيارة ، فقلت مشيرا إلى القبر : هذه زيارة جدّكم؟ قال : نعم ، ثمّ بعد التقرير قال : أدخل ، فدخلت ووقفت في الجهة اليمنى ، فقال عليه‌السلام : أدن ، فقلت : يابن رسول الله ، أخاف خلاف الأدب فأصير كافرا. قال : أدن لا تصير كافرا ، فدنوت منه ، فقال : اجلس ، فجلست مع ارتعاش واضطراب ، فتوجّه عليه‌السلام إليّ بعنايات وألطاف ، فلمّا استيقظت اشتدّ شوقي إلى سرّ من رأى وكنت قبل ذلك كأنّي أرى المفارقة من النجف الأشرف ممتنعا ، فلمّا دخلت سامرّاء وبقيت ليلة في الحرم الشريف رأيت ما رأيت في حال السنة ونلت بالفيوضات العظيمة .. انتهى.
    وقال شيخنا العلّامة الخبير ثقة الإسلام الشيخ آقا بزرك صاحب كتاب الذريعة أنّ الزيارة الجامعة شرحها جماعة من العلماء والمحدّثين مضافا إلى شرح المجلسي في مزار البحار :
    الأوّل : آمال العارفين منظورا في المعارف للأديب العارف الحاج أبو القاسم التاجر الطهراني المتخلّص ببروين ، مرتّب على سبع وثلاثين رشحة وبعض رشحاته في شرح الزيارة الجامعة ، طبع سنة 1378.
    الثاني : شرح الزيارة الجامعة للشيخ أحمد الإحسائي المتوفّى سنة 1241 مطبوع.

    الثالث : شرح الزيارة الجامعة للمولى محمّد تقي المجلسي المتوفّى سنة 1070 والظاهر أنّه شرح مستقل ويحتمل أنّه أراد شرحه المندرج في شرح الفقيه الفارسي ذكره الآقا محمّد الكرمانشاهاني في كتابه مرآة الأحوال.
    الرابع : شرح السيّد عبد الله الشبّر المتوفّى سنة 1242 اسمه اللامعة في شرح الجامعة ، مطبوع.
    الخامس : شرح فارسي للسيّد حسين بن محمّد تقي الهمداني نزيل طهران صهره العلّامة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمي رحمه‌الله على أخته وكان من تلاميذ آية الله المجدّد الشيرازي ، توفّي في حدود سنة 1330 ، والنسخة في طهران مع سائر كتبه.
    السادس : شرح فارسي لمولانا وشيخنا الميرزا محمّد علي بن المولى نصير الدين المدرّس الجهاردهى النجفي المتوفّى سنة 1334 والنسخة عند حفيده الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمّد بن الميرزا مدرّس.
    السابع : شرح السيّد بهاء الدين محمّد بن محمّد باقر الحسيني النائيني المختاري المعاصر للشيخ الحرّ العاملي ، ذكره في روضات الجنّات.
    الثامن : ترجمة بالفارسيّة للعلّامة المجلسي في مائتي بيت ، انتهى.
    [عودة إلى ثواب زيارة العسكريّين عليهما‌السلام]
    ومنها : ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال قال الصادق عليه‌السلام : من زار واحدا منّا كمن زار الحسين.
    ومنها : ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارة بالإسناد عن أبي علي الحرّاني قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما لمن زار قبر الحسين عليه‌السلام؟ قال : من أتاه وزاره وصلّى عنده ركعتين كتب له حجّة وعمرة. قال : قلت له : جعلت فداك ، وكذلك لكلّ من

    أتى قبر إمام مفترض طاعته؟ قال : وكذلك لكلّ إمام مفترض طاعته.
    ومنها : ما رواه فيه أيضا بإسناده عن عبد الرحمان بن مسلم قال : دخلت على الكاظم عليه‌السلام فقلت له : أيّما أفضل : الزيارة لأمير المؤمنين أو لأبي عبد الله أو لفلان أو لفلان ، وسمّيت الأئمّة واحدا واحدا؟ فقال لي : يا عبد الرحمان بن مسلم ، من زار أوّلنا زار آخرنا ، ومن زار آخرنا زار أوّلنا.
    ومنها : ما رواه فيه أيضا بالإسناد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من زارني أو زار أحدا من ذرّيّتي زرته يوم القيامة وأنقذته من أهوالها.
    ومنها : ما رواه الكفعمي رحمه‌الله روى أنّ من زار إماما مفترض الطاعة بعد وفاته وصلّى عنده أربع ركعات كتب له حجّة وعمرة.

    ظهور الكرامات في سامرّاء
    ظهرت من أئمّة سامرّاء عليهما‌السلام كرامات كثيرة تارة من الروضة البهيّة وأخرى من سرداب الغيبة المشرّف ، وثالثة من سائر بقاع سامرّاء غير أنّنا نكتفي بما أخذناه من المصادر الوثيقة. وأمّا الكرامات التي ظهرت من العسكريّين عليهما‌السلام في حياتهما فسيأتي ذكرها في الأجزاء التالية إن شاء الله بصورة تفصيليّة ، والحكايات الآتية التي تجري مجرى الكرامات والمعاجز وإن كرهتها أنفس قوم وقلوب آخرين بل تعدّها من المحال أو من أضغاث أحلام أو من غلبة خلط السوداء لا يضرّنا خلاف من خالفنا بعد ما دلّت البراهين العقليّة والنقليّة على إمكان صدور الكرامات ووقوعها من الأولياء بدون إنكار من العلماء المحقّقين ، فهذه الكتب المؤلّفة في كرامات الأولياء وصدور خوارق العادات منهم قد ملأت الآفاق بفضل المطابع مضافا إلى المخطوط منها وقد اعترف بصحّتها الموافق والمخالف ، والداني والقاصي ، فهلّا كانوا الأئمّة الهداة أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأولياء كغيرهم من سائر الناس؟
    فاحكم وانصف.
    الأولى : حكاية الزائر التركي وأخذ هميانه
    جاء في كتاب دار السلام للعلّامة المحدّث الميرزا حسين النوري قدس‌سره (1) قال :
    __________________
    (1) دار السلام : 264.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:52 pm

    حدّثني السيّد السند والحبر المعتمد العالم الزاهد والناسك العابد السيّد محمّد هادي العاملي المجاور لمشهد الكاظمين عليهما‌السلام ، عن الشيخ زين العابدين السلماسي قال : كنت أصلّي يوما في داخل الحضرة الشريفة للعسكريّين عليهما‌السلام ولم يكن فيها أحد غيري وإذا برجل من الأتراك دخل الحضرة الشريفة وخاطب الإمام بعد الزيارة وقال بلسان التركيّة ما معناه : إنّي أريد منك نفقتي التي ضاعت منّي وأنت تعلم أنّه ليس لي شيء أبلغ به وطني وكان زادي منحصرا فيها ، ولا أفارقك حتّى آخذها منك ، ثمّ خاطب الإمام عليه‌السلام بكلمات عامية فيها نوع من الجسارة التي ربّما تصدر من أمثال البسطاء السذج ضعفاء القول.
    قال رحمه‌الله : فلمّا سمعت مقالاته المنكرة وكان يظنّ أنّي لا أفهم لسانه فقمت إليه وقلت : ما هذه الإسائة في الأدب والتجرّي على الإمام عليه‌السلام؟ فنهرته ورددته عن مقالته. فقال : مالك والدخول بيني وبين إمامي ، اذهب إلى شغلك الذي كنت عليه فإنّي أعرف به وبحقّه منك ولا أفارقه حتّى أقضي منه مرادي ، فرجعت إلى مكاني في الزاوية التي تلي جهة الرأس والرجل عاد إلى كلامه ويطوف حول الشبّاك وكنت متفكّرا في أمره إذا بصوت كوقع السلسلة على الطست ، فنظرت فرأيت كيسا قد طرح على الأرض بجنب الشبّاك من سمت الرأس ، وكان الرجل حينئذ فيما يلي الرجلين ، فلمّا سمع الصوت رجع إلى جهته فرأى كيسه فتناوله مبتهجا مسرورا واستقبلني وقال : أرأيت كيف أخذت كيسي منهما عليهما‌السلام بمقالاتي التي أنكرتها واستوحشت منها ، ولولاها لم يلتفتوا إليّ.
    فقلت له : أين ضاع كيسك؟ قال : بين المسيّب وكربلا ، ولم أعلم به إلّا هنا ، فتعجّبت من يقينه وإخلاصه وشكرت الله تعالى بما أراني من آيات حججه عليهم‌السلام.

    مآثر السلماسي (1)
    وبما أنّ الشيخ زين العابدين السلماسي وأباه الميرزا محمّد وابنه الميرزا إسماعيل والميرزا باقر وابن ابنه الميرزا إبراهيم بذلوا جهدهم في عمارة العسكريّين عليهما‌السلام ينبغي لنا أن نشير إلى نبذة من مآثرهم الجميلة تقديرا لآثارهم الخالدة التي هي غرّة في وجه الدهر.
    أمّا المولى الميرزا محمّد السلماسي
    فهو أوّل من انتقل من هذه الأسرة الميمونة إلى العراق كما صرّح بذلك العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل بن الشيخ زين العابدين المولى الميرزا محمّد السلماسي ، وترجمه صاحب الذريعة في كتابه «الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة» وجعل من آثاره الخالدة عمارة قبّة العسكريّين ورواقها وقبّة السرداب المطهّر وصحنه وغير ذلك بنفقة العبد الصالح أحمد خان الدنبلي وابنه الحسين قلي خان. قال : وكان من تلامذة الوحيد البهبهاني وله نوادر وكرامات.
    وأمّا ولده الأجل
    العالم الروحاني مثال الزهد والصلاح الشيخ زين العابدين بن الميرزا محمّد السلماسي فإنّه من أخصّاء آية الله السيّد بحر العلوم رحمه‌الله ووكيلا من قبل السيّد صاحب الضوابط في عمارة سور سامرّاء ، وله كرامات ومكاشفات سنشير إلى قليل منها ، ذكره العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري في دار السلام وأثنى عليه
    __________________
    (1) سلماسي ـ بفتح السين المهملة واللام ـ نسبة إلى سلماس مدينة مشهورة بأذربيجان.

    وجعله من الذين يمزج العلم بالحلم ، والقول بالعمل ، فأذاقه الله لذّة العبادة وحلاوة الطاعة إلى أن توفّي في الكاظميّة ليلة الحادي عشر من ذي الحجّة سنة ست وستّين ومأتين بعد الألف ودفن في الصفة المحاذية لمقبرة الشيخ المفيد قدس‌سره.
    وأمّا ولده الأجل
    الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي فقد كان من المبرّزين ، جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، من أعلام تلاميذه آية الله المجدّد الشيرازي رحمه‌الله ، توفّي سنة 1318 ودفن عند والده الأجل الشيخ زين العابدين السلماسي.
    وأمّا العالم
    العلم المحقّق الميرزا إبراهيم بن الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي المتوفّى سنة 1342 المدفون بجنب جدّه وأبيه وعمّه ، فقد ذكره العلّامة الأمين المحسن العاملي في أعيان الشيعة ، قال : ولد في ثامن عشر ذي الحجّة سنة 1274 في الكاظميّة وتوفّي فيها سنة 1342 وشيّع تشييعا عظيما ، وصلّى عليه الشيخ راضي الخالصي الكاظمي ، وأرّخ وفاته الشيخ محمّد السماوي النجفي بقوله :
    يا لبحر من العلوم غزير
    ترتوي ورده العطاش الهيم

    رضي‌الله‌عنه فاستأثرته
    رحمات وجنّة ونعيم

    فهنيئا له رهينا وأرّخ
    ت (رضا الله حاز إبراهيم)

    قال : كان عالما فاضلا عارفا بالفروع والأصول ، والمعقول والمنقول ، جيّد التقرير ، صالحا ورعا حسن السريرة والخلق ، صريحا في الرأي ، ثابتا على المبدأ ، ناصرا للحقّ وأهله ، وكان يؤمّ الناس في صحن الكاظميّة ويصلّي خلفه خلق كثير ، قرأ في الكاظميّة عند علمائها ثمّ سافر إلى سامرّاء فحضر درس المجدّد الشيرازي رحمه‌الله ثمّ عاد إلى الكاظميّة بأمر والده قبل وفاة السيّد بعشر سنين وتصدّى

    التدريس والقيام بصلاة الجماعة بعد وفاة أبيه ، رأيته ورأيت أباه في الكاظميّة.
    ثمّ قال : وكان مشايخه في الكاظميّة فقرأ النحو على السيّد علي من أحفاد المحقّق السيّد محسن الكاظمي ، والمنطق على السيّد موسى بن السيّد محمود الجزائري ، والبيان عند عمّه الميرزا محمّد باقر ، والأصول عند الشيخ محمّد بن الحاج كاظم الكاظمي والشيخ عبّاس الجصاني والشيخ محمّد حسين بن آقا علي الهمداني ، والفقه عند السيّد مرتضى بن السيّد أحمد بن السيّد حيدر البغدادي الكاظمي ، وحضر في الفقه والأصول خارجا عند الفقيه الشيخ محمّد حسن آل ياسين الكاظمي ، وقرأ في سامرّاء على المجدّد الشهير السيّد الشيرازي رحمه‌الله ، ويروي بالإجازة عن الميرزا إبراهيم الخوئي صاحب الدرّة النجفيّة ، انتهى.
    وأمّا الشيخ باقر بن الشيخ زين العابدين السلماسي الكاظمي المتوفّى سنة 1301 ذكره شيخنا العلّامة صاحب كتاب الذريعة في كتابه نقباء البشر ، قال : كان من العلماء الأبرار الأخيار ومن تلاميذ العلّامة شيخ العراقين الشيخ عبد الحسين الطهراني ، والشيخ محمّد حسن آل ياسين الكاظمي ، وكان يتولّى عمارة العسكريّين عليهما‌السلام والكاظميّين عليهما‌السلام وتذهيبهما حسب أمر شيخه المذكور شيخ العراقين ، وله آثار باقية ، وقد تلمّذ عليه في المنطق العلّامة الفقيه السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله ، توفّي بالكاظميّة في سابع ربيع الثاني سنة 1301 ودفن بجنب أبيه.
    وأمّا أخوه الحاج الميرزا جواد بن الشيخ زين العابدين السلماسي فقد ذكره شيخنا في نقباء البشر وعدّه من الأفاضل ، توفّي سنة 1307 ، وهؤلاء الثلاثة يعني الميرزا إسماعيل والميرزا باقر والميرزا جواد كانوا لأمّ واحدة ، وقد توفّيت في الثاني من جمادى الثاني سنة 1282.

    منامان صادقان للشيخ زين العابدين السلماسي
    جاء في كتاب دار السلام (1) للعلّامة الخبير الميرزا حسين النوري رحمه‌الله قال : حدّثني العالم العامل وقدوة أرباب الفضائل وزين الأقران والأماثل ، الثقة الصالح الآغا ميرزا محمّد باقر بن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي قال : ومن المنامات الغريبة الصادقة المطابقة للواقع ما رآه والدي المرحوم وشهد جمّ غفير على صدقها ووقفوا على مطابقتها للواقع في ذلك الزمان وهو أنّه لمّا سافر من العتبات العاليات وزار الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام ورجع ونزل في طريق المراجعة بلد طهران اجتمع عنده جمع كثير من أهل تبريز وخوي وسلماس من المحبّين والأقرباء والمخلصين فالتمسوا منه الحركة إلى سمت آذربيجان لزيارة الأحبّاء وصلة الأرحام وأن يتوقّف في كلّ بلد من تلك البلاد أيّاما قليلة يستفيض منه أهله ثمّ يرجع إلى مقرّه المعظّم مشهد الكاظمين عليهما‌السلام ، فأجاب سؤلهم بعد الإلحاح والإصرار ، فمشى معهم إلى ما دعوه إليه.
    فلمّا نزل سلماس ومضى قليل من الزمان حدثت الفتنة بين الدولة العثمانيّة والدولة الإيرانيّة وكانت تأتي الأخبار في كلّ يوم بأنّ العثماني مشغول بجمع الأسلحة وآلات الحرب وتدبير الجيوش والتوجّه إلى إيران ، إلى أن تواترت الأخبار بحركة جيش جرّار يزيد على ثمانين ألف مقاتل ومعهم مدافع كثيرة ورئيسهم «چبان أوغلي» وإنّهم وصلوا قريبا من بلاد إيران وحدود آذربيجان ، فأمر والي تبريز وهو عبّاس ميرزا ابن السلطان فتحعلي شاه باجتماع كلّ الجيوش التي على الحدود والسير نحو العدوّ قبل دخولهم الحدود وإن كانوا قليلين غير متهيّئين ، فاجتمعوا فسار بهم وهم فئة قليلة نحو العدو ودخلوا بلاد آذربيجان
    __________________
    (1) دار السلام : 260.

    كتبريز وخوي وسلماس ، فنهض الأكراد الذين كانوا في أطراف تلك البلاد وانتهزوا الفرصة فغاروا على أطرافها وتوابعها حماية للعساكر الروميّة في الظاهر ظنّا منهم أنّهم يفتحون ممالك إيران ويستولون على أهلها فيكون ذلك تقرّبا منهم إليهم مع ملاحظة منفعتهم فيه وللعداوة التي كانت كامنة في صدورهم.
    وشاع هذا الخبر في البلد وكان الحاكم في ذلك الوقت محمّد عليخان من طائفة «قره كوزلو» ولمّا كان البلد خاليا من الجيش النظامي المحافظ ، جمع الحاكم أهل الحرف والصنايع ممّن لم يكن قابلا للخروج مع نائب السلطنة وأمرهم بأن يصطحب كلّ منهم ما عنده من السلاح ويحضر غدا خارج الباب وكان سور البلد من الطين في ارتفاع قليل لا يمنع العدوّ من الدخول ، فاضطرب أهل البلد في ذلك اليوم وليله اضطرابا عظيما واشتغل كلّ نفس بدفن ما كان له من الأموال وإخفائه واجتمع في تلك الليلة جماعة من أعيان البلد وأشرافها عند الوالد المرحوم مهمومين مغمومين فتذاكروا في ما ينزل عليهم العدوّ الذي يزيد عددهم على عشرة آلاف فارس وأهل البلد كلّهم الفقراء الضعفاء الذين لا خبرة لهم بالحروب.
    فتحيّروا وتفرّقوا بعد ذلك واشتغل كلّ أحد بإخفاء متاعه ورجع الوالد رحمه‌الله في البيت الذي كان ينام فيه وآوى إلى فراشه مهموما متفكّرا في عاقبة البليّة العظيمة ونام في تلك الحالة ، فرأى في المنام كأنّ الإمام سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام قد دخل البيت الذي كان فيه الوالد فلمّا وقع نظره إليه من بعد ناداه عليه‌السلام وقال : ما لي أراك مهموما مغموما متفكّرا منكسر القلب؟ فقام من حينه ومشى إليه عليه‌السلام فوافاه عند الباب فوقع على قدميه وقال : فديتك نفسي إنّك تعلم سبب همّي وغمّي وإنّ تشتّت خاطري لهذه البليّة العظمى والداهية الكبرى فإنّ جماعة الأكراد أجمعوا عزمهم على دخول البلد غدا وقتل أهلها وسبي نسائها ونهب أموالها وإنّك تعلم أنّهم أعداء للمذهب وقلوبهم محشوّة ببغض أهل هذه البلدة لما رأوا منهم الأذى

    وسمعوا عنهم ما تنفر عنه طباعهم ولا مقاومة لهم معهم ولا طاقة لهم في مقاتلتهم فإنّ جميعهم فقراء مشغولون بالكسب والتجارة.
    فقال عليه‌السلام : لا تستوحش ولا تضطرب وطب نفسا فإنّهم لا يتمكّنون من إيصال الأذى إليكم فإنّهم وإن يقصدوكم في جمّ غفير وعزم ثابت ويهجمون على البلد لكنّهم يرجعون القهقرى مغلوبين منكسرين ينقلبون خاسرين خائبين.
    فلمّا سمع تلك البشارة منه عليه‌السلام استبشر وانتبه فرحا مسرورا فرأى خدمه وأقرباءه وأهل بيته بعد مشغولين بجمع الأموال وإخفائها اضطراب ووحشة ، فصاح عليهم فاجتمعوا عنده فبشّرهم بما بشّره الإمام عليه‌السلام فاطمأنّت قلوبهم وطابت نفوسهم ورفعوا الأيدي عن شغلهم وبشّروا جيرانهم وانتشرت البشارة في تلك الليلة إلى جميع البلد من بيت إلى بيت إلى أن وصلت إلى مسامع الحاج محمّد عليخان الحاكم ، ولمّا فرغ الحاكم من صلاة الصبح جمع ما كان له من الخدم والأتباع ثمّ حضر عند دار الوالد وقعد في فنائها فأخبر بذلك ، فخرج إليه ، فقال الحاكم : إنّ أهل البلد يروون لك مناما غريبا فهل له حقيقة؟ فقال : نعم هو صدق ، ففرح وقال : إنّي أرجو من جنابك أن تخرج معنا إلى خارج السور فإنّه سبب لقوّة قلوبنا وقلوب أهل البلد.
    فقام الوالد وقام معه الحاكم ومن اجتمع عنده من الوجوه والسوقة وخرجوا من باب البلد واجتمعوا قبل طلوع الشمس في موضع يهجم منه العدوّ ، وأهل البلد يتطلّعون الجهة التي يهجم منها الأكراد ، فبيناهم كذلك وإذا بغمامة سوداء ظهرت مع طلوع الشمس وتوجّهت إلى البلدة ، فلمّا قربت منهم وإذا هم فرسان الأكراد وصفوف عساكرهم وقد ملئ منهم الفضاء الوسيع والصحراء العظيمة ، ولم يبق بينهم وبين البلد إلّا مقدار حضر الفرس ، فزاد اضطراب الجماعة واشتدّ خوفهم ، فصاحوا جميعا وارتفعت أصواتهم ورموا بعض البنادق إلى الهواء ، كلّ ذلك من

    جهة الخوف والاضطراب ، فإذا بجمعة الأشقياء وهم في تلك العدّة والقوّة والهيبة والكثرة وقد وصلوا قريبا من باب السور فعطفوا عنان خيولهم واختلفت صفوفهم ورجعوا مغلوبين متفرّقين متشتّتين بحيث ظهر لجميع أهل البلد أنّ هذا الرجوع لم يكن باختيار منهم ، وأنّهم كانوا مقهورين مجبورين في قبال خصم لم يكن لهم قوّة في مقاومته ، إلى أن غابوا عن الأنظار ، وظهر صدق منام الوالد ، فخرجوا جميعا ساجدين شاكرين لله تعالى.
    فلمّا رفع الحاكم رأسه عن سجدته وفرغ من البكاء لما عرض من الفرح ، أمر بدواة وقرطاس وسأل منه أن يكتب تلك الرؤيا بخطّه الشريف مع كيفيّة مطابقتها للواقع ومشاهدة صدقها في الخارج ليرسلها مع البريد إلى المعسكر عند نائب السلطنة لتتقوّى قلوبهم من تلك البشارة ، فإنّهم أيضا عدّة قليلة غير متهيّئة في مقابل عسكر عظيم مستعدّ للقتال.
    فأخذ الوالد القلم وكتب صورة المنام وكيفيّة صدقه في الخارج في يومه إجمالا ، وذكر في الكتاب : إنّه يظهر من هذه الواقعة أنّ له عليه‌السلام نظرة رحيمة إلى شيعته ومحبّيه ولم يقطعها عنهم ، ونرجو منه عليه‌السلام أن ينصركم على عدوّكم كما نصر في هذه الواقعة.
    وذكر أمثال ذلك ممّا يشرح به الصدر وناول الحاكم الكتاب فأرسله إلى معسكر نائب السلطنة ولمّا فرغت قلوب أهل سلماس من همّ الأكراد وفتكهم أخذوا يتذاكرون كلّ يوم ضعف عسكر إيران وقلّة استعدادهم وجمعهم وقوّة العساكر العثمانيّة وشوكتهم وكثرة عددهم وعدّتهم ، وكان كلّ يوم يأتي الخبر بضعف هؤلاء وقوّة هؤلاء إلى أن قطع الناس بغلبتهم وفتحهم بلاد إيران فعادوا مهمومين مغمومين إلى أن اجتمع جماعة من وجوه البلد ليلة أخرى عند الوالد رحمه‌الله وتحسّروا على عدم مقاومة الجيش الإيرانيّ للجيوش العثمانيّة وأنّهم لو تغلّبوا عليهم نالوا منهم الأمرين ، فقاموا مغتمّين وعمد الوالد إلى بيت منامه وهو مغمور بفكره ، فلمّا

    هجع رأى في المنام كأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا قد أقبل إلى المحلّ الذي كان فيه ولمّا وقع نظره عليه‌السلام إليه قال : مالك قد غممت أيضا في الفكرة والغصص؟ فقام الوالد رحمه‌الله أيضا وأتى إليه عند الباب ووقع على يديه ورجليه وقال : فديتك نفسي ، إنّ همّي وغمّي في أن يتسلّط أعداؤك على محبّيك وشيعتك فيقتلون بعضهم ويأسرون باقيهم ، فقال عليه‌السلام : ولم ذاك؟ قال : لأنّ عسكر المخالفين في غاية من الشوكة والقوّة والاستعداد ، وعسكر الإيرانيّين في غاية من الضعف والقلّة في العدد والعدّة.
    فقال له عليه‌السلام : هو كما تقول لكنّي بعثت أولادي لنصرتهم وإعانتهم. قال الوالد رحمه‌الله : فوقع في خاطري أنّه عليه‌السلام لو تعلّق رأيه بنصرة محبّيه وخذلان أعدائهم لاستغنى عن إرسال أولاده عليه‌السلام فكأنّه عليه‌السلام اطّلع على ما جرى في خاطره ، فقال له : أنا أيضا معهم في تلك الإعانة والحماية ، وإن شئت فانظر ، وأشار بإصبعه الشريف إلى سمت فرأيته صحراء عظيمة وفيها تلّ شامخ ممتدّ وخلفه فضاء في غاية الوسعة يجري فيه نهر عظيم والفضاء مملوّ من العسكر والخيم طولا وعرضا إلى مدّ البصر ، فقال عليه‌السلام : هذا معسكر العثمانيّين وجمعهم ، وأشار عليه‌السلام إلى سمت آخر وقال : ترى؟ قال : لا أرى شيئا إلّا عجاجا مرتفعا ، قال عليه‌السلام : هذا غبار عسكرنا وقد قدموا لمقاتلة العثمانيّين ، فلمّا قربوا امتازت الرجالة من الفرسان واشتغلوا بارتياد المنزل وإصلاحه على ما تقتضيه القواعد العسكريّة وقوانين المحاربة ، وصعد جماعة منهم على ذلك التلّ ، فلمّا وقع نظر عسكر العثمانيّين إلى عسكر الإيرانيّين شرعوا في رميهم بالمدافع وخرج من فرسانهم جماعة وحملوا على عسكر الإيرانيّين وقتلوا منهم أكثر من مائة نفس وقطعوا رؤوسهم ورجعوا إلى فئتهم ، فاضطرب عسكر الإيرانيّين وانضمّ بعضهم إلى بعض ورجع جماعة من الفرسان الذين كانوا على التلّ ونزلوا منه.
    قال الوالد : فلمّا نظرت إلى ذلك عرضني اضطراب وتشويش عظيم ، فقال عليه‌السلام :

    لا تضطرب ، وقال له كلاما حاصله تغلّب الجيش الإيرانيّ على العثمانيّ ، فكان ذلك في نتيجة المحاربة التي دارت بين الجيشين (1).
    قال العلّامة النوريّ رحمه‌الله : هذه المحاربة العظيمة كانت في سنة ألف ومأتين وسبع وثلاثين في قرب «نوبراق» قلعة من توابع آذربيجان ، وكان عدد الجيش العثمانيّ زهاء ثمانين ألف ورئيسهم محمّد أمين رؤوف پاشا وجلال الدين محمّد پاشا چبان أوغلي ، ولم يكن الجيش الإيرانيّ أكثر من سبعة آلاف ، وقد قتلوا من الأعداء قريبا من خمسين ألف ونهبوا جميع عدّتهم وأموالهم وانقلبوا خائبين ، والحكاية مذكورة في كتب التأريخ ، ولآميرزا فضل الله الشيرازيّ المتخلّص بخاور في تأريخ هذا الفتح العجيب رباعيّة :
    عبّاس شاه غازى شد سوى روم آمد
    از طالع شهنشه آن مرز وبوم مفتوح

    تاريخ فتح او را از پير عقل جشم
    گفتا ز شاه عباس ابواب روم مفتوح(2)

    [الثانية] استشفاء السلماسي بأئمّة سامرّاء
    جاء في كتاب دار السلام (3) نقلا عن الثقة العدل الأمين آغا محمّد المجاور لمشهد العسكريّين عليهما‌السلام قال : حدّثني المولى الشيخ زين العابدين السلماسيّ قال : لمّا رجعت من زيارة مولاي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قاصدا وطني مشهد الكاظم عليه‌السلام فمررت في رجوعي بطهران فتوقّفت فيه أيّاما وزارني من مكان لي فيه من الأخلّاء منهم السيّد المبجّل الحاج السيّد حسن الطهرانيّ فالتمس منّي التحوّل إلى بيته والسكنى معه مدّة إقامتي في البلد ، فامتنعت منه.
    __________________
    (1) والقصّة طويلة أنظرها في كتاب دار السلام : 260.
    (2) مطابقة لسنة 1237.
    (3) دار السلام : 265.

    وكنّا في بعض الأيّام في مذاكرة هذا المطلب إذ دخل عليّ العالم المؤيّد النبيل الربّاني الآميرزا خليل الطبيب الطهرانيّ ، فنظر إليّ شزرا وتفرّس في وجهي فقال لي : امدد إليّ يدك فمددتها إليه فجمعها ثمّ قال : ارى بك استعدادا قريبا للمرض الشديد ، وقال للسيّد : دعه لما به حتّى يحسن حاله ، فإنّه يمرض في اليوم أو الغد.
    قال : فتغيّرت حالي بعد الظهر فمرضت مرضا شديدا فلازمني جناب الميرزا المزبور ليلا ونهارا حتّى طلبه في بعض الأيّام السلطان فتحعلي شاه فامتنع ، فعاد الرسول ثانيا أجابه بأنّي مشغول بمعالجة نفس زكيّة قدسيّة محترمة ، آليت على نفسي أن لا أفارقها حتّى يفعل الله ما يشاء.
    قال : واشتدّ بي المرض ومضى على ذلك قريب من شهر حتّى بلغ اليأس منّي مبلغه ومضى عليّ يومان لم أعرف مواقيت الصلاة ولم أشعر بها ، ورتّب الآميرزا الطبيب في خياله أو كتب في موضوع دواء له سبعة أجزاء لأشربه في غد إن أخرّني الأجل إليه ، فحملوني في الليل إلى سطح الدار وكان الميرزا الطبيب يضع رأسه عند النوم على وسادتي ، فالتفتّ في تلك الحال إلى مرضي وغربتي وموتي بأرض الري فتوجّهت إلى مشهد العسكريّين عليهما‌السلام وقلت في نفسي : يا مولاي ، إنّي أتعبت بدني وصرفت عمري في عمارة قاعكم وإحكام بلدكم ، وكان الأمر كذلك ، وقد زرت أبا الحسن الرضا وقصدت العود إلى وطني في جواركم فكيف ترضون أن أموت بعد الخدمة والشيب في هذه الأرض المشومة ، وتضرّعت بأمثال هذه الكلمات ، فأخذني النوم فرأيت ثلاثة فوارس أقبلوا من ناحية المشرق وأحدهما على فرس أبلق مقدّم على الإثنين الآخرين ، وظهر لي أنّهم الحجّة وأبوه وجدّه عليهم‌السلام ، فدنوا منّي ولم ينزلوا من خيولهم ، فشكوت إليهم حالي وذكرت لهم مثل ما ذكرت في اليقظة ، فقالوا : لا تجزع ولا تضطرب فإنّ حالك حسن وليس فيك مرض وقل للميرزا خليل أن يخرج من نسخة دوائه جزئين أو ثلاثة أجزاء سمّاها ويدخل فيها جزءا آخر سمّاه أيضا واشربه.

    قال : فانتبهت فرأيت كأنّه لم يبق من مرضي شيء ، فناديت بعضهم وطلبت الماء وقلت : أنا ما صلّيت الليلة ، فانتبه جناب الميرزا خليل فلمّا رآني على هذه الحالة ظنّ أنّي ابتليت بمرض السرسام ، فقال لي : مالك؟ فحكيت له ما أريت ، فجسّ يدي فقال : ما أرى فيك مرضا ، وعاد النبض على ما كان في حال الصحّة ولا تحتاج إلى شرب دواء أبدا ، وأظنّ أنّ أمرهم بشرب هذا الدواء الذي رتّبته بعد تغييره بما أشاروا إليه لمجرّد الإحسان إليّ والتشكّر لي ، والحمد لله.
    رؤيا طريفة للشيخ زين العابدين السلماسي
    جاء في كتاب دار السلام (1) أنّ الشيخ زين العابدين السلماسي لا يذكر عنده السلطان الآغا محمّد خان القاجار إلّا ويسبّه ويلعنه ويقع فيه بما عرفه من أعماله الشنيعة من قتل وأسر ونهب ، فرأى ليلة في منامه كأنّه دخل الصحن الشريف العلويّ من الباب الطوسي فأراد خلع نعله ودخول الإيوان المقدّس فإذا برجل أطلس الوجه طويل الأسنان منعه من الدخول ، وأخذ بيده وأتى به إلى مقابل بعض الحجرات القريبة من باب مسجد الخضراء وإذا في الحجرة جماعة في زيّ السلاطين ، وفي آخر المجلس رجل قصير له لحية مدوّرة كثيفة ، فقال لي ذلك الرجل : يا فلان ، إنّ الله تعالى قد غفر لمن هو أشدّ منّي تكلّبا وأشار بيده إلى ذلك الرجل القصير وقال : هذا نادر شاه ، فلم تسبّني وتلعنني.
    قال : فأخرج السلطان نادر شاه رأسه من الحجرة وقال : يا آغا محمّد خان ، إلى متى لا تمسك نفسك عن المزاح ، خلّ الشيخ يمشي في شغله ، إنّه راى شقاوتنا وتكلّبنا وأعمالنا الشنيعة ولم ير سعة رحمة الله وفسحة ميدان عطوفة أمير المؤمنين عليه‌السلام.
    __________________
    (1) دار السلام : 265.

    قال : وكان بعد ذلك المولى السلماسيّ لا يبرح عن قبره إلّا ويقرأ له الفاتحة ويستغفر له.
    صعود التربة من ضريح العسكريّين إلى السلماسي
    وجاء في الكتاب المذكور أيضا قال : حدّثني منهم ولده الصالح العالم العامل الميرزا محمّد باقر بن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي والآغا علي رضا الاصفهاني ـ واللفظ للأوّل ـ قال : كنت مع الوالد في أيّام إقامته في سرّ من رأى للخدمة المذكورة ، وكان يتعاهد المشتغلين والعمّالة بالسور في طرف النهار ، ويشتغل بالعبادة ويستريح في وسطه ، فأقيم مقامه لاستخدام الجماعة.
    قال : واشتدّ الحرّ في بعض الأيّام فرجعت إلى المنزل لأستريح ساعة ، فرأيت الوالد وبيده خيط وإبرة وقطعة ثوب يخيطه ، فتعجّبت من ذلك وقلت : هذا شغل النسوان وهنّ موجودات مستعدّات لذلك ، فقال : أريد أن أجعله وعاء لشيء له شأن وأحبّ أن يكون من عمل يدي ، فسألته عنه ، فقال : دخلت الظهيرة في الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام ولم يكن فيها غيري ، فاشتغلت بالصلاة ، ولمّا رفعت رأسي عن الركوع أدخلت رأسي في شقاق عمّامتي لأخرج التربة الزكيّة الحسينيّة على مشرّفها آلاف السلام والتحيّة فافتقدتها فتحيّرت في تحصيل ما يصحّ عليه السجود إذ لم يكن معي غيرها ، فبينا أنا كذلك وإذا بتربة معمولة مثل ما يعمل في مشهد الحسين عليه‌السلام قد صعدت من داخل الضريح المقدّس إلى الهواء منحرفة إلى جانبي إلى أن وضعت قدّامي في محلّ السجود ، فسجدت حامدا شاكرا مسرورا بهذه النعمة العظيمة ، ثمّ أوصى بأن نجعلها في كفنه.
    قال الأخ التقي الآغا علي رضا ـ المتقدّم ذكره ـ : وزرت تلك التربة الزكيّة عند المولى المذكور ، وكانت مثمّنة الشكل.

    تشرف السلماسي بلقاء الحجّة عليه‌السلام
    وجاء أيضا في الكتاب المذكور (1) قال : حدّثني الثقة العدل الأمين آغا محمّد المجاور لمشهد العسكريّين عليهما‌السلام عن أمّه ـ وهي من الصالحات العابدات ـ قالت : كنت يوما في السرداب الشريف مع أهل بيت المولى المذكور في يوم الجمعة وهو يدعو دعاء الندبة ونتبعه في دعائه ، وكان يبكي بكاء الواله الحزين ، ويضجّ ضجيج المستصرخين ، وكنّا نبكي ببكائه ولم يكن معنا غيرنا ، فبينا نحن في هذه الحالة فإذا برائحة طيّبة انتشرت في السرداب وملأت فضاءه ورجعنا إلى ما عكفنا عليه من الدعاء. فلمّا رجعنا إلى البيت وسألت المولى السلماسي عن سبب ذاك الطيب ، فقال : مالك والسؤال عن هذا ، وأعرض عن جوابي.
    وحدّثني الأخ الصفي والعالم الوفي مصباح السالكين الآغا علي رضا الاصبهاني قال : سألت المولى المعظّم السلماسي عن لقائه الحجّة عجّل الله تعالى فرجه وكنت أظنّ في حقّه ذلك كشيخه الأعظم العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله ، فأجابني بتلك الواقعة حرفا بحرف ، والحمد لله أوّلا وآخرا.
    تشرّف السلماسي بلقاء الحجّة في الرؤيا
    وجاء أيضا في الكتاب المذكور (2) قال : حدّثني العالم العامل وقدوة أرباب الفضائل ، وزين الأقران والأماثل ، الثقة الصالح الآميرزا محمّد باقر ولد المولى السلماسي قال : كان المولى الصالح الوفي الميرزا محمّد علي القزويني رجلا زاهدا ناسكا وثقة عابدا ، وكان له ميل شديد وحبّ مفرط في تحصيل علم الجفر
    __________________
    (1) دار السلام : 264.
    (2) نفسه : 259.

    والحروف ، ويجول لتحصيله في البلاد والفيافي والقفار ، وكان بينه وبين الوالد صداقة تامّة ، فأتى إلى سرّ من رأى حين اشتغال الوالد في عمارة مشهد العسكريّين عليهما‌السلام فنزل في دارنا فبقي عندنا إلى أن رجعنا إلى مشهد الكاظميّين عليهما‌السلام ، ومضى من ذلك ثلاث سنين ، وكان في تلك المدّة ضيفا عندنا.
    فقال لي يوما : قد ضاق صدري وانقضى صبري ولي إليك حاجة ورسالة تؤدّيها إلى والدك المعظّم.
    فقلت : وما هي؟
    قال : رأيت في النوم في تلك الأيّام التي كنّا بسامرّا مولانا الحجّة عجّل الله فرجه ، فسألت عنه الكشف عن العلم الذي صرت له عمري وحبست في تحصيله نفسي ، فقال : هو عند صاحبك ، وأشار إلى والدك ، فقلت : هو يستر عليّ سرّه ولا يكشف حقيقته ، قال عليه‌السلام : ليس كذلك ، أطلب منه فإنّه لا يمنعك منه. فانتبهت فقمت إليه فوافيته مقبلا إليّ في بعض أطراف الصحن المقدّس ، فلمّا رآني ناداني قبل أن أتفوّه بالكلام ، فقال : لم شكوتني عند الحجّة عليه‌السلام؟ متى سألتني شيئا كان عندي فبخلت به؟ فطأطأت رأسي خجلا ولم أكن أعتقد أنّه نظر في هذا العلم شيئا ولم أسمع منه في مدّة مصاحبتي معه من هذا العلم حرفا ، ولم أقدر على الجواب بعد ما ونجني عليه ، وإلى الآن ثلاث سنين وقد وقفت نفسي على ملازمته ومصاحبته لا هو يسألني عن مقصدي ويعطيني ما أحاله الإمام عليه‌السلام عليه ، ولا أنا أقدر على السؤال منه ، وإلى الآن ما ذكرت ذلك لأحد ، فإن رأيت أن تكشف كربي ولو باليأس من المرام فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين.
    قال سلّمه الله : فبقيت متعجّبا من تلك القضيّة ومن جميل ما سمعت ، وقلت : من أين علمت أنّه شكا في النوم إلى الإمام عليه‌السلام؟ فقال هو عليه‌السلام : قال لي في النوم ، ولم يذكر تفصيل نومه. فقلت : ولم لا تقضي حاجته؟ قال : وأنا متعجّب من تلك

    الحوالة ، إذ ليس عندي ما أحاله عليه‌السلام عليّ. فزاد تعجّبي فرجعت وذكرت له الجواب ، فمضى في شغله وسيره إلى أن وقف في بهبهان على كتاب فيه كشف مهمّاته وطريق تبيين مجهولاته فرجع وكان ذلك بعد وفاة الوالد ، فقال : إنّ لأبيك عليّ حقوقا رأيت أن أوقفك على ما وقفت عليه أداء لحقوقه ، فإذا قدمت المشهد الغروي نكتب هذا الكتاب في نسختين مرموزا ونتلف الأصل ولك واحدة منهما نرجع إليك ونعلّمك مسائله إن شاء الله في مدّة قليلة.
    قال : فلمّا قدم المشهد توفّي رحمه‌الله ودخل بعض الطلّاب حجرته وأخذ تلك النسخة ولم يعرف لها خبر بعد ذلك.
    قال العلّامة النوري رحمه‌الله بعد نقله لهذه الحكاية : حدّثني الأخ الصفي الغريق في ولاء آل الله الآغا علي رضا بلّغه الله ما يتمنّاه قال : كان الرجل المذكور من أهل الصلاح والسداد والورع والتقوى. حدّثني بعض الثقات وقد طعن في السنّ ، قال : كنت مصاحبا له في بعض أسفارنا من كربلا إلى النجف ، فنفد زادنا ، فاشتدّ بي الجوع ، فشكوت إليه ، فنهرني ، فمشيت قليلا ثمّ أعدت عليه القول ، فقال مثل ذلك ، فضاق بي الأمر ، فكرّرت عليه المقال ، فلمّا رأى قلّة صبري قال : إذهب إلى هنا وأشار إلى بعض الأشجار التي كانت في ناحية الطريق ، فذهبت إليها فوجدت خلفها ظرفا فيه طعام مطبوخ من الأرز ، عليه دجاجة كأنّه صنع في هذه الساعة ، فأخذته وقضيت حاجتي منه.
    رؤيا له فيها موعظة
    وجاء في الكتاب المذكور أيضا قال : حدّثني الأخ الصفي الوفي المشفق الروحاني الآغا علي رضا الاصبهاني ، عن العالم الجليل المبرور المولى زين العابدين

    السلماسي قال : رأيت في المنام بيتا عاليا رفيعا منيعا ، له باب كبير واسع ، عليه وعلى حيطانه مسامير من ذهب تسرّ الناظرين ، فسألت عن صاحبه ، فقيل لي : إنّه للسيّد محسن الكاظمي ، وهو المحقّق المدقّق الجليل الزاهد الورع النبيل ، جمّ العلوم والفضائل ، صاحب المحصول والوافي والوسائل ، فتعجّبت من ذلك وقلت : كانت داره التي في مشهد الكاظمين عليهما‌السلام صغيرة حقيرة ضيّقة الباب والفناء ، فمن أين أوتي هذا البناء؟ فقالوا : لمّا دخل من ذاك الباب الحقير أعطاه الله تعالى هذا البيت العالي الكبير ، وكان بيته كما ذكره رحمه‌الله في النوم في غاية الحقارة ، وبلغ من زهده ما حدّثني به جماعة أنّه لم يكن له من المتاع ما يضع سراجه فيه وكان يوقد الشمعة على الطابوق والمدر ، شكر الله تعالى سعيه.
    نقل السلماسي نبذة من كرامات بحر العلوم
    منها : ما ذكره العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري قدس‌سره في دار السلام بإسناده عن المولى الشيخ زين العابدين السلماسي الذي هو من تلاميذ آية الله بحر العلوم وصاحب سرّه أنّه قال : كنت حاضرا في مجلسه في النجف إذ دخل عليه لزيارته المحقّق القمّي صاحب القوانين في السنة التي رجع من البلاد زائرا أئمّة العراق وحاجّا لبيت الله الحرام ، فتفرّق من كان في المجلس وحضر للاستفادة منه وكانوا أزيد من مائة ، وبقيت أنا وثلاثة من أصحابه أرباب الورع والسداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد ، فتوجّه المحقّق الأيّد إلى جناب السيّد رحمه‌الله وقال : إنّكم فزتم وحزتم مرتبة الولادة الروحانيّة والجسمانيّة وقرب المكان الظاهري والباطني فتصدّقوا علينا بذكر عائدة من موائد تلك الخوان ، وثمرة من الثمار التي جنيتم من هذه الجنان كي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب.

    فأجاب السيّد رحمه‌الله من غير تأمّل وقال : إنّي كنت في الليلة الماضية قبل ليلتين أو أقلّ ـ والترديد من الراوي ـ في المسجد الأعظم بالكوفة لأداء نافلة الليل عازما للرجوع إلى النجف في أوّل الصبح لئلّا يتعطّل أمر البحث والمذاكرة ـ وهكذا كان دأبه في سنين عديدة ـ فلمّا خرجت من المسجد ألقي في روعي شوق إلى مسجد السهلة فصرفت خيالي عنه خوفا من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح فيفوت البحث في اليوم ، ولكن الشوق يزيد في كلّ آن ويميل القلب إلى ذاك المكان ، فبينما أقدّم رجلا وأؤخّر أخرى وإذا بريح فيها غبار كثير فهاجت وأمالت بي عن الطريق ، فكأنّها التوفيق الذي هو خير رفيق إلى أن ألقتني إلى باب المسجد ، فدخلت فإذا به خاليا من العباد والزوّار إلّا شخصا جليلا مشغولا بالمناجاة مع الجبّار بكلمات ترقّ القلوب القاسية وتسحّ الدم من العيون الجامدة ، فتطيّر بالي وتغيّرت حالي ورجفت ركبتي وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها أذني ولم ترها عيني ممّا وصلت إليه من الأدعيه المأثورة ، وعرفت أنّ المناجي ينشئها في الحال لا أنّه ينشد بما أودعه في البال.
    فوقفت في مكاني مستمعا متلذّذا إلى أن فرغ من مناجاته ، فالتفت إليّ وصاح فيّ باللغة الإيرانيّة : (مهدي بيا) أي هلمّ يا مهدي ، فتقدّمت إليه بخطوات فوقفت فأمرني بالتقدّم فمشيت قليلا ثمّ وقفت ، فأمرني بالتقدّم وقال : إنّ الأدب في الامتثال ، فتقدّمت إليه بحيث تصل يدي إليه ويده الشريفة إليّ وتكلّم بكلمة.
    قال المولى السلماسي رحمه‌الله : ولمّا بلغ كلام السيّد السند إلى هنا أضرب عنه صفحا وطوى عنه كشحا وشرع في الجواب عمّا سأله المحقّق المذكور قبل ذلك عن سرّ قلّة تصانيفه مع طول باعه في العلوم ، فذكر له وجوها ، فعاد المحقّق القمّي فسأل عن هذا الكلام الخفي ، فأشار بيده شبه المنكر بأنّ هذا سرّ لا يذكر.
    قال : ومنها : ما حدّثني الأخ الصفي المذكور عن المولى السلماسي رحمه‌الله قال : كنت

    حاضرا في محفل إفادته فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرّاء في الغيبة الكبرى ، وكان بيده الآلة المعدّة لشرب الدخان المسمّاة عند الإيرانيّين بالغليان ، فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه وخاطب نفسه بكلام خفيّ أسمعه ، فقال ما معناه : ما أقول في جوابه وقد ضمّني صلوات الله عليه وآله إلى صدره ، وورد أيضا في الخبر تكذيب مدّعي الرؤية في أيّام الغيبة ، فكرّر هذا الكلام ثمّ قال في جواب السائل أنّه قد ورد في أخبار أهل بيت العصمة عليهم‌السلام تكذيب من ادّعى رؤية الحجّة عجّل الله فرجه ، واقتصر في جوابه عليه من غير إشارة إلى ما أشار إليه.
    قال : ومنها : بهذا السند عن المولى المذكور قال : صلّينا مع جنابه في داخل حرم العسكريّين عليهما‌السلام فلمّا أراد النهوض من التشهّد إلى الركعة الثالثة عرضته حالة فوقف هنيئة ثمّ قام ، ولمّا فرغنا تعجّبنا كلّنا ولم نفهم ما كان وجهه ولم يجترئ أحد منّا على السؤال منه إلى أن أتينا المنزل وأحضرت المائدة ، فأشار إليّ بعض السادة من أصحابنا أن أسأل منه ، فقلت : لا وأنت أقرب منّا ، فالتفت رحمه‌الله إليّ وقال : فيم تقاولون؟ قلت ـ وكنت أجسر الناس على مكالمته ـ : إنّهم يريدون الكشف عمّا عرض بكم في الصلاة؟ فقال : إنّ الحجّة عجّل الله تعالى فرجه دخل الروضة للسلام على أبيه عليه‌السلام فعرضني ما رأيتم من مشاهدة جماله الأنور إلى أن خرج منها.
    قال : ومنها : بهذا السند عن ناظر أموره في أيّام مجاورته بمكّة المعظّمة قال : كان رحمه‌الله مع كونه في بلد الغربة منقطعا عن الأهل والإخوة ، قويّ القلب في البذل والعطاء ، غير مكترث بكثرة المصارف ، فاتفق في بعض الأيّام أن لم نجد إلى درهم سبيلا ، فعرّفته الحال وكثرة المؤونة وانعدام المال ، فلم يقل شيئا ، وكان دأبه أن يطوف بالبيت بعد الصبح ويأتي إلى الدار فيجلس في القبّة المختصّة به ونأتي إليه بغليان فيشربه ثمّ يخرج إلى قبّة أخرى اجتمع فيه تلامذته من كلّ المذاهب فيدرس لكلّ على مذهب.

    فلمّا رجع عن الطواف في اليوم الذي شكوت في أمسه نفوذ النفقة وأحضرت الغليان على العادة فإذا بالباب يدقّه أحد ، فاضطرب رحمه‌الله أشدّ الأضطراب وقال لي : خذ الغليان وأخرجه من هذا المكان ، وقام مسرعا إلى الباب خارجا عن الوقار والسكينة والآداب ، ففتح الباب ودخل شخص جليل في هيئة الأعراب وجلس في تلك القبّة وقعد السيّد رحمه‌الله عند بابها في نهاية الذلّة والمسكنة ، وأشار إليّ أن لا أقرّب عليه الغليان ، فقعدا ساعة يتحدّثان ، ثمّ قام فقام السيّد رحمه‌الله مسرعا وفتح الباب وقبّل يده وأركبه على جمله الذي أناخه عنده ومضى لشأنه ورجع السيّد رحمه‌الله متغيّر اللون وناولني براءة وقال : هذه حوالة على رجل صرّاف قاعد في جبل الصفا فاذهب إليه وخذ منه ما أحيل عليه.
    قال : فأخذتها وأتيت بها إلى الرجل الموصوف ، فلمّا نظر إليها قبّلها وقال : عليّ بالحماميل ، فذهبت وأتيت بأربعة حماميل ، فجاء من الدراهم من الصنف الذي يقال له ريال فرانسة يزيد كلّ واحد على خمسة قرانات العجم ما كانوا يقدرون على حمله ، فحملوها على أكتافهم وأتينا بها إلى الدار ، ولمّا كان في بعض الأيّام ذهبت عند الصرّاف لأسأل منه حاله وممّن كانت تلك الحوالة ، فلم أر صرّافا ولا دكّانا ، فسألت من بعض من حضر في هذا المكان عن الصرّاف ، فقال : ما عهدنا في هذا المكان صرّافا أبدا وإنّما يقعد فيه فلان ، فعرفت أنّه من أسرار الملك المنّان ، وألطاف وليّ الرحمان.
    قال : وحدّثني بهذه الحكاية الشيخ العالم الفقيه والنحرير المحقّق الوجيه ، صاحب التصانيف الرائعة والمناقب الفائقة الشيخ محمّد حسين الكاظمي المجاور بالغري عمّن حدّثه من الثقات عن الشخص المذكور.
    قال : ومنها : ما حدّثني به العالم المحقّق النحرير ، أسوة العلماء وقدوة الفقهاء السند ، والحبر المعتمد ، السيّد علي حفيد السيّد المؤيّد بحر العلوم قدس‌سره عن المولى

    الأجلّ الأعظم الشيخ زين العابدين السلماسي ـ المتقدّم ـ قال : لمّا اشتدّ بالسيّد مرضه الذي توفّي فيه قال لنا ـ وكنّا جماعة ـ : أحبّ أن يصلّي عليّ الشيخ الجليل الشيخ حسين نجف الذي يضرب بكثرة زهده وعبادته وتقواه المثل ، ولكن لا يصلّي عليّ إلّا جناب العالم الربّاني الميرزا مهدي الشهرستاني وكان له صداقة تامّة مع السيّد رحمه‌الله.
    فتعجّبنا من هذه الإخبار ، لأنّ الميرزا الشهرستاني كان حينئذ في كربلا ، فتوفّي السيّد رحمه‌الله بعد هذه الإخبار بزمان قليل واشتغلنا بتجهيزه ، وليس عن الميرزا المزبور خبر ولا أثر ، وكنت متفكّرا لأنّي لم أسمع مدّة مصاحبتي معه قدس‌سره كلاما غير محقّق ، ولا خبرا غير مطابق ، فتحيّرت في وجه المخالفة إلى أن غسلناه وكفنّاه وحملناه وأتينا به إلى الصحن الشريف للصلاة والطواف ، ومعنا وجوه المشايخ وأجلّة الفقهاء كالبدر الأبرز الشيخ جعفر الكبير ، والشيخ حسين المذكور وغيرهما ، وحان وقت الصلاة ، فضاق صدري بما سمعت.
    فبينما نحن كذلك وإذا بالناس ينفرجون عن الباب الشرقي ، فنظرت فرأيت السيّد الأجل الشهرستاني قد دخل الصحن الشريف وعليه لباس المسافر وآثار تعب الطريق ، فلمّا وافى الجنازة قدّمه المشايخ لاجتماع أسباب التقدّم فيه ، فصلّى عليه وصلّينا معه مسرور الخاطر ، منشرح الصدر ، شاكرا لله تعالى بإزالة الريب عن قلوبنا ثمّ ذكر لنا أنّه صلّى الظهر في مشهد الحسين عليه‌السلام وفي رجوعه إلى بيته في وقت الظهيرة وصل إليه كتاب من النجف يخبره بيأس الناس عن حياة السيّد رحمه‌الله. قال : فدخلت البيت وركبت بغلة كانت لي من غير مكث فيه وفي الطريق إلى أن صادف دخولي في البلد حمل جنازته قدّس الله سرّه.
    قال : وحدّثني بهذه الحكاية الأخ الصالح المتقدّم عن المولى المذكور.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:54 pm

    نبذة من حياة بحر العلوم رحمه‌الله
    وبما أنّه قد تكرّر اسمه المقدّس في كتابنا هذا أحببت أن أتبرّك بذكر نبذة من حياته الطيّبة لتتّضح لبعض الغافلين شخصيّته الفذّة وآثاره الخالدة وخدماته الجليلة العلميّة ، وإن اشتهرت كالشمس في رابعة النهار.
    ولادته :
    ولد قدّس الله نفسه في كربلا ليلة الجمعة في شهر شوّال المكرّم سنة 1155 ه‍ وتوفّي في النجف الأشرف سنة 1212 ودفن بجنب باب المسجد الطوسي في مقبرة خاصّة به وبأولاده وأحفاده ، وهي مشهورة معروفة تزار ويتبرّك بها ، وجاء في مادّة تاريخ ولادته (لنصرة آي الحقّ قد ولد المهدي) وفي تاريخ وفاته من أبيات يخاطب به الأرض التي دفن بها:
    وقدّست أرضا قلت فيك مؤرّخا
    (يغيب بها مهدي آل محمّد)

    قال أبو علي الحائري في رجاله منتهى المقال : رأى والده الماجد قدس‌سره ليلة ولادته أنّ مولانا الرضا عليه‌السلام أرسل شمعة مع محمّد بن إسماعيل بن بزيع وأشعلها على سطح دارهم فعلا سناها ولم يدرك مداها ، يتحيّر عند رؤيته النظر ، ويقول لسان حاله ما هذا بشر.
    نسبه الشريف :
    السيّد محمّد المهدي بن السيّد مرتضى بن السيّد محمّد الطباطبائي الحسني الحسيني النجفي. ينتهي نسبه الشريف إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.
    قال ابن خلّكان : وكان إبراهيم بن إسماعيل يلتغ فيجعل القاف طاء ، وطلب

    يوما ثيابه ، فقال له غلامه : أجيء بدراعة؟ فقال : لا ، طباطبا ، يريد قباقبا ، فبقي عليه لقبا واشتهر به.
    ونقل أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة العلويّة أنّ أهل السواد لقّبوه بذلك (وطباطبا بلسان النبطيّة سيّد السادات) وهو جدّ السادات الطباطبائيّين. وإبراهيم طباطبا هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنّى.
    وقال ابن عنبة في عمدة الطالب : إنّ إبراهيم بن الحسن ملقّب بالغمر ، ولقّب بهذا لكثرة جوده ، ويكنى أبا إسماعيل ، وكان سيّدا شريفا ، روى الحديث ، قبض عليه أبو جعفر المنصور مع أخيه ، وتوفّي في حبسه سنة 145 وله تسع وستّون سنة ، وهو أوّل من مات في الحبس من بني الحسن ، وتوفّي في ربيع الأوّل ، وكانت أمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام.
    وذكره الخطيب في تاريخه وقال : إنّه كان أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    وقال العلّامة الخبير السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة : وإبراهيم الغمر هذا هو المدفون بين الكوفة والنجف على يسار الذاهب من النجف إلى الكوفة بعد الخندق في سمت مسجد السهلة وعليه قبّة.
    ويروى أنّ السفّاح كان كثيرا ما يسأل عبد الله المحض عن ابنيه محمّد وإبراهيم ، فشكا عبد الله ذلك إلى أخيه إبراهيم الغمر ، فقال له إبراهيم : إذا سألك عنهما فقل : عمّهما إبراهيم أعلم بهما. فقال له عبد الله : وترضى بذلك؟ قال : نعم. فسأله السفّاح عن ابنه ذات يوم ، فقال : لا علم لي بهما وعلمهما عند عمّهما إبراهيم ، فسكت عنه ثمّ خلا بإبراهيم فسأله عن ابني أخيه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أكلّمك كما يكلّم الرجل سلطانه أو كما يكلّم ابن عمّه؟ فقال : بل كما يكلّم الرجل ابن عمّه. فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت إن كان الله قد قدّر لمحمّد وإبراهيم أن يكون لهذا الأمر شيء أتقدر وجميع من في الأرض على دفع ذلك؟ قال : لا والله. قال : فما لك تنغّص على

    هذا الشيخ النعمة التي تنعمها عليه؟ فقال السفّاح : والله لا أذكرهما بعد هذا ، فلم يذكر شيئا من أمرهما حتّى مضى لسبيله.
    والعقب من إبراهيم الغمر في إسماعيل الديباج وحده ، وإسماعيل هذا يكنى أبا إبراهيم ، والشريف ، والخالص ، وشهد فخّا ، والعقب منه في رجلين : الحسن التجّ وإبراهيم طباطبا.
    ولأحد أحفاد المترجم العلّامة البارع السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم أرجوزة في نسب بيتهم الرفيع آثرنا ذكرها ، يقول أدامه الله وجوده ونفع به :
    قال الفتى الصادق أحقر الورى
    وإن زكا أصلا وطاب عنصرا

    نسل الأطايب الهداة النجبا
    نسل الكرام الغرّ من طباطبا

    أحمد بمن أبرزنا من العدم
    لطفا بنا شرّفنا على الأمم

    مصلّيا على النبيّ الأكمل
    وصهره الإمام بعده (علي)

    وأهل بيت الوحي والقرآن
    ومعدن الحكمة والتبيان

    أئمّة الدين لسان الحقّ
    خزائن العلم أمان الخلق

    أرجو بهم نجاة هو المحشر
    لي ولمن قفاهم في الأثر

    وبعد جاء في الصحيح المسند
    عن النبيّ المصطفى (محمّد)

    بأنّ كلّ سبب أو نسب
    ينبت إلّا سببي أو نسبي

    فاستمعن يا أهل الخلّ الوفي
    نظم الحقير الفاطميّ الأشرف

    أرجوزة سمت على الجوزاء
    إذ قد حوت لنسب الآباء

    أنهيت فيها لعليّ نسبي
    أربعة بعد ثلاثين أبي

    مبتدئا بوالدي المهذّب
    وفّقه الباري لنيل الإرب

    وهو سمّي المجتبى الزاكي الحسن
    ذا شبل إبراهيم صاحب المنن

    نسل الحسين بن الرضا بن المهدي
    حليف سؤدد ربيب المجد




    (بحر العلوم) صاحب المناقب
    سيّد أهل الفضل ذي التجارب

    محقّق المعقول والمنقول
    مدقّق الفروع والأصول

    برّ تقيّ ورع إمام
    بمثله لم تسمح الأيّام

    وفضله في سائر الأقطار
    كالشمس في رابعة النهار

    فكم كرامات له مشتهره
    وقد غدت في عصره مزدهره

    كآية الحجاز والغمامه
    فإنّها لفضله علامه

    وآية السهلة والأعرابي
    وآية التشييع والسرداب

    وآية الرؤية للإمام
    في حالة النهوض للقيام

    وآية الضمّ دليل مرتضى
    لشبل حجّة الأنام المرتضى

    نسل محمّد سمّي المصطفى
    وهو التقيّ المتعالي شرفا

    نسل الفتى عبد الكريم الفاضل
    نسل مراد نسل شاه الكامل

    ذا أسد الله حليف السؤدد
    نسل جلال الدين نسل الأوحدي

    وهو ربيب المكرمات الحسن
    قامت فروضها به والسنن

    نسل حليف المجد مجد الدين
    نسل فتى العليا قوام الدين

    سليل إسماعيل نسب الأنجب
    عباد نسل الفذّ عالي الرتب

    وهو المكنّى بأبي المكارم
    سليل عباد ابن خير عالم

    وهو أبو المجد بن عباد السنن
    نسل عليّ القدر صاحب المنن

    نسل الزكيّ حمزة بن طاهر
    نسل عليّ وهو ذو المفاخر

    نسل محمّد سليل أحمد
    نسل محمّد الهمام الأمجد

    نسل الرئيس أحمد النبيل
    فخر الورى ذي الشرف الأصيل

    سليل إبراهيم أزكى النجبا
    وهو الذي لقّب في (طباطبا)

    سليل إسماعيل الديباج
    من فضله كالكوكب الوهّاج




    سليل إبراهيم نسل الحسن
    وهو المثنّى ابن الإمام الحسن

    نسل الإمام صاحب الفضل الجلي
    أمير أهل الحقّ مولانا (علي)

    أبي الإمامين الحسين والحسن
    صلى عليه الله في مدى الزمن

    ما طلعت شمس وما ضاء قمر
    وغرّد القمريّ في أعلى الشجر

    أولئك الآباء والأعاظم
    آبائي الأماجد الأكارم

    فأحمد الله على النعماء
    إذ خصّنا بأشرف الآباء

    وأختم المقال بالصلاة
    على النبيّ سيّد الهداة

    وآله المنتخبين النجبا
    أئمّة الحقّ وهم أهل العبا

    فهذه خلاصة المنظومة
    فها كها لئآلئا منظومة

    وله دام وجوده أيضا ترجمة طويلة لسيّدنا المترجم بأسلوب بديع نشرها تباعا في أعداد مجلّة الهدى العمارية تحت عنوان (أكبر زعيم زهت به أوليات القرن الغابر) كما أنّ لأحد أحفاده العلّامة الجليل السيّد علي ابن السيّد هاي آل بحر العلوم أدام الله وجوده رسالة كبيرة في ترجمة جدّه سمّاها «اللؤلؤ المنظوم في حياة السيّد بحر العلوم) لا تزال مخطوطة.
    اتصال سيّدنا المترجم بالمجلسيّين :
    قال العلّامة المحدّث القمّي رحمه‌الله في الكنى والألقاب : ليعلم أنّ العلّامة بحر العلوم يتّصل بالمجلسيّين من بعض جدّاته ، فإنّ والده العالم الجليل السيّد مرتضى كانت أمّه بنت الأمير أبي طالب ابن أبي المعالي الكبير ، وأمّها بنت المولى محمّد نصير بن المولى عبد الله بن المولى محمّد تقي المجلسي ، وأمّ الأمير أبي طالب بنت المولى محمّد صالح المازندراني من آمنة بيكم بنت المولى محمّد تقي المجلسي الأوّل ، فنسب العلّامة بحر العلوم يتّصل إلى المجلسي الأوّل من طريقين ، فصار المجلسي الأوّل له جدّا والمجلسي الثاني خالا.

    وتوفّي السيّد مرتضى والد بحر العلوم في سنة 1204 ورثاه معاصروه منهم سيّد الشعراء والأدباء السيّد إبراهيم العطّار الحسني بقصيدة طويلة أرّخ فيها عام وفاته ، منها قوله :
    أرأيت هذا اليوم ما صنع الورى
    بدعائم التقوى وأعلام الهدى

    أنظر إلى شمل المكارم والعلى
    من بعد ذاك الجمع كيف بدّدا

    ميت له بكت المفاخر والعلى
    ونعته أندية السماحة والندى

    يا آل بيت المصطفى والمرتضى
    صبرا على ما نابكم وتجلّدا

    ورضا بحكم الواحد الأحد الذي
    هو بالدوام وبالبقاء تفرّدا

    وكفى النفوس تسلّيا من بعده
    بسليله مهدي أرباب الهدى

    صدر الأفاضل قدوة العلماء من
    بجدوده في القول والفعل اقتدى

    المفرد العلم الذي بوجوده
    أمسى بناء المكرمات موطّدا

    فهو الذي يحيي مآثر جدّه
    ويشيد من عليائه ما شيّدا

    إن رمت تاريخ الشريف المرتضى
    فهلمّ أرّخ (قد قضى علم الهدى)

    مشايخ بحر العلوم :
    قرأ عند والده الماجد والشيخ محمّد تقي الدورقي المقدّمات الأوليّة برهة من الزمان ، ثمّ انتقل إلى كربلا فحضر مجلس درس الأستاذ العلّامة الوحيد البهبهاني ، ثمّ رجع إلى النجف وأقام بها ، وكان من مشايخه الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق ، والعالم الجليل السيّد حسين القزويني ، والسيّد حسن الخوانساري ، والسيّد الأجل الميرزا عبد الباقي إمام الجمعة باصفهان ، والآغا محمّد باقر الهزار جريبي والشيخ مهدي الفتوني ، كلّ واحد منهم من الطراز الأوّل.

    تلاميذه :
    الأستاذ الأكبر الشيخ جعفر صاحب كاشف الغطاء ، والعلّامة العيلم السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة ، والفاضل المحقّق المولى أحمد النراقي ، والسيّد محمّد محسن الكاظمي ، والآغا السيّد محمّد الكربلائي ، والسيّد عبد الله الشبّري الحلّي ، والسيّد أبو القاسم الخونساري جدّ صاحب روضات الجنّات ، وغيرهم من جهابذة الفقهاء والمجتهدين كما ذكره في الروضات والمستدرك ، والشيخ محمّد علي الأعسم ، وحجّة الإسلام السيّد باقر الشفتي الاصبهاني.
    أقوال العلماء في حقّه :
    قال أبو علي في رجاله المطبوع : السيّد السند ، والركن المعتمد ، مولانا السيّد مهدي ابن السيّد مرتضى بن السيّد محمّد الحسني الحسيني الطباطبائي النجفي أطال الله بقاه ، وأدام علوّه ونعماه ، الإمام الذي لم تسمح بمثله الأيّام ، والهمام الذي عقمت عن إنتاج شكله الأعوام ، سيّد العلماء الأعلام ، ومولى فضلاء الإسلام ، علّامة دهره وزمانه ، ووحيد عصره وأوانه ، إن تكلّم في المعقول قلت هذا الشيخ الرئيس ، وبقراط وأفلاطون وأرسطاليس ، وإن باحث في المنقول قلت هذا العلّامة المحقّق لفنون الفروع والاصول ، وما رأيته يناظر في الكلام إلّا قلت : هذا والله علم الهدى ، وإذا فسّر الكتاب المجيد وأصغيت إليه ذهلت وخلت كأنّه الذي أنزله الله عليه ، وداره الميمونة الآن محطّ رجال العلماء ، ومفزع الجهابذة والفضلاء ، وهو بعد الأستاذ البهبهاني دام علاهما إمام أئمّة العراق ، وسيّد الفضلاء على الإطلاق ، إليه يفزع علماؤها ، ومنه يأخذ عظماؤها ، وهو كعبتها التي تطوي إليها المراحل ، وبحرها الموّاج الذي لا يوجد له ساحل ، مع كرامات باهرة ، ومآثر وآيات ظاهرة ، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع والأصقاع ، تشييعه الجمّ الغفير ، والجمع الكثير ، من

    اليهود لما رأوا منه البراهين والإعجاز ، وناهيك بما بان له من الآيات يوم كان بالحجاز ، انتهى.
    ومثله في روضات الجنّات إلى أن قال : هو العلم المفضال ، والعالم المسلّم إليه في أنواع فنون الكمال ، وحبّ الدلالة على تسلّم نبالته في جميع الأقطار والتخوم ، وتلقّيه من غير المشاركة مع غيره إلى الآن بلقب بحر العلوم ، تخرّج عليه جمع كثير من أجلّة علماء هذه الأمصار والأعصار ، وتلمّذ لديه جمّ غفير من أهلّة سماء المساماة على سائر فضلاء الأدوار. ثمّ ذكر تلاميذه الذين تقدّم الإشارة إليهم.
    وقال الشيخ الفاضل المحدّث الربّاني عبد العلي بن محمّد بن عبد الله الخطّي البحراني في الإجازة التي كتبها للمرحوم الحاج محمّد إبراهيم الكرباسي الخراساني : وأجزلت له دام ظلّه وزاد فضله ما أجازه لي شيخ أهل العراق بل لو شئت لقلت سيّد أهل الآفاق واحد العصر على الإطلاق ، المشتهر في الفضل كاشتهار الشمس عند الإشراق ، بحر العلم الدفّاق ، ومن لا يجازيه مجاز في مثار حلبة السباق ، وأزكى الأعراق السامي في رتبة العلم على السبع الطباق ، الأخ الصفي ، والخلّ الوفي ، والبرّ الخفي ، المظهر من علوم آبائه وأجداده ما كان يختفي ، والموقد لها بمصباح ذهنه الثاقب ولولاه لكادت تنطفي ، شيخنا ومولانا المشتهر بالسيّد المشار بالسيّد مهدي النجفي ، أفاض الله على قبره غيوث رحمته.
    إلى أن قال : وهذا السيّد المشار إليه كان فقيها محدّثا صرفيّا نحويّا بيانيّا منطقيّا متكلّما حكيما فيلسوفا فلكيّا رياضيّا ، وبالجملة كلّ فنّ من فنون العلم حاز قصبه وأحرزه ، ولم يدع مشكلا إلّا بيّنه وأبرزه. قال : فأقمت في منزله مدّة تزيد على شهر ، فاستفدت منه فوائد كثيرة لا يأتي عليها الحصر ، وأمّا ما هو عليه من السخاء والكرم وحسن الأخلاق فشيء تكلّ عنه الأقلام ، وتضيق عنه الأوراق.
    وقال تلميذه السيّد الفقيه الأستاذ السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة

    في بعض إجازاته : وأن يروي ما رويته عن بحر العلوم والحقايق ، وشمس سماء الغوامض والدقائق ، فخر الشيعة وبدر الشريعة ، الإمام الهمام السيّد الأكبر الأعظم السيّد مهدي حشره الله سبحانه مع أجداده الطاهرين عليهم وعليه صلوات الله ربّ العالمين ، وهذا السيّد المبرّز قد ضمّ إلى الإحاطة بالعلوم العقليّة والنقليّة نفسا زكيّة أبيّة ، وذوقا مستقيما ، وطبعا سليما ، وورعا صافيا ، وتتبّعا شافيا ، فلم يرض بالنقل عن العيان ، وبذلك ظهرت كتب القدماء في هذا الزمان ، وبان في التعويل على النقل ما بان ، وله من الكرامات والإعجاز ، بان منها لنا ما بان ، يوم تشيّع اليهود ويوم كان بالحجاز.
    وقال العلّامة النوري في مستدرك الوسائل (1) : آية الله في العالمين ، بحر العلوم ، صاحب المقامات العالية والكرامات الباهرة ، العلّامة الطباطبائي السيّد مهدي بن العالم السيّد مرتضى بن العالم الجليل السيّد محمّد البروجردي ابن السيّد عبد الكريم بن السيّد مراد بن شاه أسد الله بن السيّد جلال الدين بن الأمير بن الحسن بن مجد الدين ابن قوام الدين بن إسماعيل بن عباد بن أبي المكارم بن عباد بن أبي المجد بن عباد بن عليّ بن حمزة بن طاهر بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم الملقّب بطباطبا ابن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنّى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وقد أذعن له جميع علماء عصره ومن تأخّر عنه بعلوّ المقام والرياسة في العلوم النقليّة والعقليّة وساير الكمالات النفسانيّة حتّى أنّ الشيخ الفقيه الأكبر الشيخ جعفر النجفي مع ما هو عليه من الفقاهة والزهادة والرياسة كان يمسح تراب خفّه بحنك عمامته ، وهو من الذين تواترت عنه الكرامات ولقائه الحجّة عليه‌السلام ولم يسبقه في هذه الفضيلة أحد فيما أعلم إلّا السيّد رضي الدين عليّ بن
    __________________
    (1) مستدرك الوسائل 3 : 384.

    طاوس رحمه‌الله ، وقد ذكرنا جملة منها بالأسانيد الصحيحة في كتابنا دار السلام ، وجنّة المأوى ، والنجم الثاقب ، لو جمعت لكانت رسالة حسنة.
    وقال المامقاني في رجاله بعد العنوان : هو وحيد عصره بل الأعصار ، وفريد دهره بل الدهور ، صاحب المقامات العالية ، والكرامات السامية ، ووصفه ببحر العلوم بالحقّ والاستحقاق ، لأنّه في جميع العلوم بحر موّاج ولا ساحل له ، وفارس كرّار لا فرار له ، ثمّ ساق الكلام مثل ما مرّ ، وعدّ من مشايخه الشيخ محمّد تقي الدورقي قدّس الله نفسه.
    أخباره ونوادر كراماته :
    أوّل من انتقل من هذه الأسرة الميمونة إلى العتبات المقدّسة جدّ بحر العلوم السيّد محمّد الطباطبائي ، وكان قاطنا ببروجرد من بلاد إيران فانتقل منها بأهله وحشمه إلى العتبات العاليات ، وصرف في خدمة أجداده هنالك كثيرا من الأوقات ، ثمّ استقرّ رأيه الشريف على المعاودة إلى وطنه القديم ، فلمّا وصل إلى مدينة كرمانشاه عرض عليه أهلها الإقامة عندهم للاستنارة بأنوار علومه ، فأجابهم إلى ذلك وقطن هناك بقيّة أيّام حياته ، ثمّ حضرته المنيّة فيها عند استيفاء أجله المحتوم فانتقل أهله وولده إلى بلده القديم بروجرد فكانوا به إلى زمن طلوع كوكب صاحب الترجمة من كربلا ، ثمّ توفّي والده فيها فانتقل إلى النجف الأشرف وقضى فيها برهة من الزمان مجدّا في العلم والتدريس ثمّ عاد إلى كربلا وتلمّذ على الأستاذ المحقّق الوحيد البهبهاني. ثمّ لمّا ترك الوحيد البحث لكبر سنّه ونهاية عجزه انتقل إلى النجف الأشرف وأقام بها فصار محطّ رحال العلماء.
    ثمّ سافر إلى مكّة المعظّمة وجاورها مدّة طويلة ، وصار الناس يزدلفون إليه كما يزدلفون إلى عرفة والمزدلفة ، وكان يدرّس هناك في المذاهب الأربعة فقصده

    المقتبسون من علومه من كلّ فجّ عميق من كلّ مكان مسرعة وأيّ سرعة لتعرض عليه ما أشكل عليهم ، وكان قدس‌سره يجيب عن مطالبهم ، وتقدّم في صدر العنوان الكرامات التي ظهرت منه في مكّة المشرّفة.
    وكان سبب مقامه في مكّة هذه المدّة الطويلة أنّه قدس‌سره تأخّر عن موسم الحاجّ تلك السنة فبقي هناك إلى العام القابل لإدراك الحجّ فاشتغل بالتدريس في المذاهب الأربعة على سبيل الإلزام والإفحام حتّى أنّه قال في حقّه بعض أولئك الأقوام : لو كان حقّا ما يقوله الشيعة الإماميّة في مهدويّة ولد الإمام العسكري عليه‌السلام لكان هذا السيّد المهدي هو ذلك الإمام.
    ثمّ إنّه قدس‌سره مع كتمان إيمان عن المخالف بما لا مزيد عليه يتوقّع إن لم يظهروا على حاله اليوم سيظهرون عليه غدا ، فأوقع الله في روعه : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(1) فخرج إلى مسكنه بالعراق في المشهد الغروي.
    ومن طريف ما نقل عنه قدس‌سره أنّه سافر إلى المشهد الرضوي في جمع كثير من الإيرانيّين والعراقيّين ، فبينما هم سائرون فإذا بجماعة التركمان هجموا على الزوّار وأخذوا بالنهب والأسر ، فإذا برجل منهم نظر إلى بحر العلوم فصاح بأعلا صوته : يا جماعة ، أمسكوا عن النهب والأسر وردّوا أموالهم وكلّ ما أخذتم ، وأكرموا هذا الركب لأنّ فيهم أستاذي بحر العلوم الذي لا يجوّز سبّ السلف ، وجاء وقبّل رجل بحر العلوم وأمر أتباعه بإكرام الزائرين وإيصالهم إلى المأمون.
    فنظر بحر العلوم إليه فعرفه وكان من قصّته أنّ الرجل التركماني كان يتلمّذ برهة من الزمان عند بحر العلوم في النجف الأشرف واتفق أنّه ناظر واحدا من طلبة العلم
    __________________
    (1) الكهف : 20.

    في كون الصلاة على النبيّ أفضل أم البراءة من ظالمي آل محمّد ، فقال في جوابه : بل البراءة من ظالمي آل محمّد أفضل ، فجعل يقيم له البراهين والأدلّة ، والعالم التركماني يردّ عليه بما عنده من الأدلّة ، فكلّ واحد منهما يريد إفحام صاحبه ، فحكّما السيّد بحر العلوم في ذلك فأتياه إلى باب داره قدس‌سره فسألاه ما جرى بينهما ، فتغيّر بحر العلوم ونظر إليهما شزرا وتكلّم نحو كلام رجل مغضب وقال : من يجوّز لكم السبّ والبراءة؟ قالها ثلاثا ودخل الدار وسدّ الباب وطردهما.
    أقول : ولعمري هذه كرامة باهرة.
    وحدّث العلّامة النوري في مستدرك الوسائل (1) قال : حدّثني العالم الصالح الثقة السيّد محمّد بن العالم السيّد هاشم الهندي المجاور في المشهد الغروي ، عن العالم الصفي الشيخ باقر بن الشيخ هادي ، عن العالم التقي الورع الشيخ تقي ملّا كتاب تلميذ السيّد بحر العلوم ، قال : سافر السيّد إلى كربلا ومعه جماعة يتبعونه غالبا في أسفاره منهم الشيخ تقي حاكي القصّة ، قال : وكانت القافلة التي فيها السيّد تمشي في ناحية ورجل آخر يمشي لنفسه ، وكلّما نزل السيّد في موضع نزل ذلك الرجل في موضع منفردا ، وكلّما رحل السيّد رحل ذلك الرجل.
    فالتفت السيّد إليه ونحن سائرون ، فأومأ إليه ، فقدم الرجل وقبّل يدي السيّد ، وجعل السيّد يسأله عن رجال وصبية ونساء يسمّيهم كلّهم بأسمائهم من أهل بيت ذلك الرجل ومن جيرانه حتّى سأله عمّن يقرب من أربعين نفسا والرجل يجيبه عنهم مستبشرا وهو غريب ليس من شكل أهل العراق ولا من لهجتهم في اللسان ، فسألنا السيّد ، فقال : هو من أهل اليمن ، فقلنا : متى سكنت في اليمن حتّى عرفت هؤلاء؟ فأطرق رأسه فقال : سبحان الله! لو سألتني عن الأرض شبرا شبرا لأخبرتك بها.
    __________________
    (1) مستدرك الوسائل 3 : 384.

    وقال أيضا : وحدّثني العالم الصالح الثقة السيّد محمّد بن العالم السيّد هاشم الهندي ، عن العبد الصالح الزاهد الورع العابد الحاج محمّد الخزعلي وكان ممّن أدرك السيّد رحمه‌الله قال : كان العالم الجليل السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة يتعشّى ليلة فإذا بطارق طرق الباب عليه ، فعرف أنّه خادم السيّد بحر العلوم ، فقام إلى الباب عجلا ، فقال له : إنّ السيّد قد وضع بين يديه عشاؤه وهو ينتظرك ، فذهب إليه عجلا ، فلمّا وصل إليه قال له بحر العلوم : أما تخاف الله؟ أما تراقبه؟ أما تستحي منه؟
    فقال : ما الذي حدث؟ فقال : إنّ رجلا من إخوانك كان يأخذ من البقّال قرضا لعياله كلّ يوم وليلة قسبا (تمر يابس) ليس يجد غير ذلك ، وهم سبعة أيّام لم يذوقوا الحنطة والأرز ، ولا أكلوا غير القسب ، وفي هذا اليوم ذهب ليأخذ قسبا لعشائهم فقال له البقّال : بلغ دينك كذا وكذا ، فاستحى من البقّال ولم يأخذ منه شيئا وقد بات هو وعياله بغير عشاء ، وأنت تتنعّم وتأكل ، وهو ممّن يصل إلى دارك وتعرفه وهو فلان.
    فقال : والله مالي علم بحاله.
    فقال السيّد : لو علمت بحاله وتعشّيت ولم تلتفت إليه لكنت يهوديّا أو كافرا ، وإنّما أغضبني عليك عدم تجسّسك عن إخوانك وعدم علمك بأحوالهم ، فخذ هذه الصينيّة يحملها لك خادمي يسلّمها إليك عند باب داره وقل له : أحببت أن أتعشّى معك الليلة ، وضع هذه الصرّة تحت فراشه أو بوريائه أو حصيره وأبق له الصينيّة فلا ترجعها ، وكانت كبيرة فيها عشاء وعليها من اللحم والمطبوخ النفيس ما هو مأكل أهل التنعّم والرفاهيّة. وقال السيّد : اعلم أنّي لا أتعشّى حتّى ترجع إليّ فتخبرني إنّه قد تعشّى وشبع.
    فذهب السيّد جواد ومعه الخادم حتّى وصلوا إلى دار المؤمن ، فأخذ من يد

    الخادم ما حمله ورجع الخادم ، وطرق الباب فخرج الرجل ، فقال له السيّد : أحببت أن أتعشّى معك الليلة ، فلمّا أرادا الأكل قال له المؤمن : ليس هذا زادك لأنّه مطبوخ نفيس لا يصلحه العرب ولا نأكله حتّى تخبرني بأمره ، فأصرّ عليه السيّد جواد بالأكل ، وأصرّ هو بالامتناع ، فذكر له القصّة ، فقال : والله ما اطّلع عليه أحد من جيرتنا فضلا عمّن بعد ، وإنّ هذا السيّد لشيء عجيب.
    قال : وحدّث بهذه القضيّة ثقة أخرى غيره وزاد فيه اسم الرجل وهو الشيخ محمّد نجم العاملي ، وإنّ ما في الصرّة كان ستّين شوشيّا ، كلّ شوشيّ يزيد على قرانين بقليل.
    تشرّف بحر العلوم بلقاء الحجّة عليه‌السلام في السرداب :
    قال العلّامة المحدّث الميرزا محمّد حسين النوري في دار السلام : حدّثني السيّد السند والعالم المعتمد المحقّق الخبير والمضطلع البصير السيّد علي حفيد بحر العلوم أعلى الله مقامه وكان عالما مبرّزا له شرح النافع حسن نافع جدّا وغيره ، عن الورع التقي النقي الوفي الصفي السيّد مرتضى صهر السيّد بحر العلوم على بنت أخته وكان مصاحبا له في السفر والحضر مواظبا لخدماته في السرّ والعلانية ، قال : كنت معه في سرّ من راى في بعض أسفار زيارته ، وكان السيّد ينام في حجرة وحده ، وكان لي حجرة بجنب حجرته ، وكنت في نهايه المواظبة في أوقات خدماته ، بالليل والنهار ، وكان يجتمع إليه الناس في أوّل الليل إلى أن يذهب شطر منه في أكثر الليالي.
    فاتفق أنّه في بعض الليالي قعد على عادته والناس يجتمعون فرأيته كأنّه يكره الاجتماع ويحبّ الخلوة ويتكلّم مع كلّ واحد بكلام فيه إشارة إلى تعجيله بالخروج من عنده ، فتفرّق الناس ولم يبق غيري ، فأمرني بالخروج ، فخرجت إلى حجرتي متفكّرا في حالته في تلك الليلة ، فمنعني الرقاد ، فصبرت زمانا فخرجت متخفّيا

    لأتفقّد حاله ، فرأيت باب الحجرة مغلقا ، فنظرت من شقّ الباب وإذا السراج بحاله وليس فيه أحد ، فدخلت الحجرة فعرفت من وضعها أنّه ما نام في تلك الليلة.
    فخرجت حافيا متخفّيا أطلب خبره وأقفوا أثره ، فدخلت الصحن الشريف فرأيت أبواب قبّة العسكريّين عليهما‌السلام مغلقة ، فتفقّدت أطراف خارجها فلم أجد منه أثرا ، فدخلت الصحن الأخير الذي فيه السرداب فرأيته مفتّح الأبواب ، فنزلت من الدرج حافيا متخفّيا متأنّيا بحيث لا يسمع منّي حسّ ولا حركة ، فسمعت همهمة من صفة السرداب كأنّ أحدا يتكلّم مع الآخر ، ولم أميّز الكلمات إلى أن بقيت مقدار أن سمعت أربع كلمات ، وكان دبيبي كدبيب النملة على الصخرة ، فإذا بالسيّد قد نادى من مكانه : ما تصنع هناك يا سيّد مرتضى؟ ولم خرجت من المنزل؟ فبقيت متحيّرا ساكنا كالخشب المسندة ، فعزمت على الرجوع قبل الجواب ، ثمّ قلت في نفسي : كيف يخفى حالك على من عرفك من غير طريق الحواس؟ فأجبته معتذرا نادما ، ونزلت في خلال الاعتذار إلى حيث شاهدت الصفة فرأيته وحده واقفا تجاه القبلة ليس لغيره هناك أثر ، فعرفت أنّه يناجي الغائب عن الأبصار ، سلام الله عليه ، فرجعت حريّا لكلّ ملامة ، غريقا في بحار الندامة.
    احتجاجه مع اليهود في ذي الكفل (1) :
    رأيت بخطّ العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني في الجزء الرابع من مستدركه على البحار ما هذا لفظه :
    __________________
    (1) جمع هذه الرسالة بعض تلامذة السيّد بحر العلوم رحمه‌الله العلّامة السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة ، كان معه في ذي الكفل حين وقوع الاحتجاج ، ورأيت عند حفيده العلّامة السيّد محمّد صادق آل بحر العلوم نسخة من هذه الرسالة بخطّه أدرجها في ضمن مجموعته (السلاسل الذهبيّة) وكانت مصحّحة بقلم العلّامة الحجّة الشيخ محمّد جواد البلاغي رحمه‌الله. (المؤلّف)

    بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، الذي بعث محمّدا سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتما لرسله أجمعين ، بأوضح الدلائل وأقوى البراهين ، وأيّده بابن عمّه عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجعل في ذرّيّته الخلافة إلى يوم الدين ، وصلّى الله على محمّد وأهل بيته الطيّبين الطاهرين.
    أمّا بعد ؛ فممّا اتفق في أيّام علّامة العلماء العاملين وفهّامة الفضلاء المتبحّرين خاتمة المجتهدين وفذلكة المؤيّدين المسدّدين ، أعلم العلماء من أرباب المعقول والمنقول ، وأفضل الفضلاء من أهل الفروع والأصول ، حامي الإسلام ، كهف المسلمين ، مؤيّد الإيمان وظهر المؤمنين ، شمس الملّة والدين ، مبيد بدع المبتدعين الضالّين ، العالم الربّاني ، والهيكل الصمداني ، فريد الأوان ، وحيد الزمان ، نادرة الدوران ، في العلم والعمل وحلّ المشكل وكشف كلّ معضل ، من لا تعدّ فضائله على تمادي الأيّام والدهور ، ولا تحصى مزاياه على تتابع الأزمنة والشهور ، السيّد السند والركن المعتمد ، الحبيب النسيب ، السيّد محمّد المهدي نجل السيّد المرتضى بن السيّد محمّد الحسني الحسيني الطباطبائي.
    نسب كأنّ عليه من شمس الضحى نورا
    ومن فلق الصباح عمودا

    متّع الله تعالى بوجوده الوجود ، ورفع الله بدوام سعوده ألوية السعود ، ولا زال كاسمه مهديّا ، وأبقاه الله تعالى حتّى يلقى له من الأئمّة سميّا ، وذلك حين سفره من المشهد الغروي إلى زيارة أبي عبد الله على آبائه وأبنائه سلام الله ، في شهر ذي الحجّة الحرام من السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف من الهجرة النبويّة على مشرّفها ألف ألف صلاة وألف ألف تحيّة.
    وكان معه يومئذ جماعة من تلامذته من الطلبة المحصّلين ، فعبر بهم الطريق على محمل ذي الكفل ، وكان يومئذ به جماعة من اليهود زهاء ثلاثة آلاف نفس ، فبلغهم مروره أيّده الله تعالى عليهم ، وقد سمعوا ما سمعوا من شايع فضله ، وبلغهم ما بلغهم

    من ساطع شرفه ونبله ، وفيهم من يدّعي العرفان ، ويظنّ أنّه على بيّنه ممّا هو عليه وبرهان ، فلحقه جماعة من عرفائهم للسير مجدّين ، ولأثره للمناظرة تابعين ، حتّى وصل إلى الرباط الذي أمر سلّمه الله ببنائه للزائرين والمتردّدين ، فوردوا ثمّة ساحة جلاله ، وجلسوا متأدّبين بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، وكانوا كالخفافيش في الشمس إذ لا قرار لهم إلّا في ظلمة الدمس ، فرحّب بهم كما هو من عاداته وأخلاقه المرضيّة المستقيمة ، وقال لهم قولا ليّنا عسى أن يتذكّر أحد منهم أو يخشى ، وكان فيهم رجلان يدّعيان المعرفة : أحدهما داود والآخر عزير.
    فابتدأ داود بالكلام وقال : نحن ومعاشر الإسلام من دون سائر الملل موحّدون ، وعن الشرك مبرّؤون ، وباقي الفرق كالمجوس والنصارى بربّهم مشركون ، وللأصنام والأوثان عابدون ، ولم يبق على التوحيد سوى هاتين الطائفتين.
    فقال له السيّد الأيّد أدامه الله تعالى : كيف ذلك وقد اتخذ اليهود العجل وعبدوه ولم يبرحوا عليه عاكفين إلى أن رجع موسى من مقيات ربّه ، وأمرهم في ذلك أشهر من أن يذكر وأعرف من أن ينكر ، ثمّ إنّهم عبدوا الأصنام في زمن (يربعام بن نباط) وهو أحد غلمان سليمان بن داود ، ومن قصّته أنّ سليمان بن داود وقد كان تفرّس منه طلب الملك ، وتوسّم فيه علامات الرياسة والسلطنة ، وقد كان (أخبالشيلوني) قد أخبر يربعام بذلك وشقّ عليه ثوبا جديدا كان عليه وقطعه اثنتي عشرة قطعة وأعطاه منها عشر قطع وقال له : إنّ لك بعدد هذه القطع من بني إسرائيل عشرة أسباط تملّكهم ولا يبقى منها بعد سليمان مع ابنه (رحبعام) غير سبطين وهما يهوذا وبنيامين ، فهمّ سليمان بقتل يربعام فهرب يربعام بن نباط من سليمان واتصل ب (شيشقاق) عزيز مصر وبقي عنده حتّى توفّي سليمان عليه‌السلام فرجع إلى الشام وأجمع رأيه ورأي بني إسرائيل جميعا على نصب رحبعام بن سليمان ملكا فملّكوه عليهم ، واستعطفوه في وضع الآصار والمثاق التي كانت عليهم في أيّام سليمان عليه‌السلام فقال لهم

    رحبعام : إنّ خنصرني أمتن من خنصر أبي ، لئن كان أبي وضع عليكم أمورا صعبة وحمّلكم التكاليف الشاقّة فأنا أحمّلكم وأضع عليكم ما هو أشقّ وأصعب.
    فتفرّقوا عنه ونصبوا يربعام بن نباط وملّكوه عليهم ، فاجتمعت عليه عشرة أسباط من بني إسرائيل ، وانفرد رحبعام بن سليمان عليهما‌السلام بسبطين منهم في بيت المقدس ، ولمّا كان بنو إسرائيل يحجّون في كلّ سنة إلى بيت المقدس خاف يربعام على ملكه إن أذن لهم في الحجّ إليه من رحبعام وأتباعه أن يصرفوهم عنه أو أن يميلوا إليه ، فصنع لهم عجلين من ذهب ووضعهما في «دان» وبيت إيل ، وقال : هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر وأمر الناس بعبادتهما والحجّ إليهما ، فأطاعوه وصاروا بذلك مشركين شركا آخر بعد عبادة العجل ، فكيف يا أخا اليهود تقول إنّ اليهود لم يشركوا بالله وما اتخذوا إلها غير الله تعالى وإنّهم كانا موحّدين وعن غير الله معرضين؟!
    فأقرّوا حينئذ بما ذكر من عبادتهم الأصنام بنحو ما ذكر لهم وعجبوا من اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه أحد من أمرهم.
    ثمّ قال أيّده الله : كيف جاز لسليمان أن يهمّ بقتل يربعام قبل جنايته وليس ذلك جائزا في شريعة موسى عليه‌السلام ولا في شريعة غيره من الأنبياء؟ وكان سليمان عليه‌السلام على شريعة موسى عليه‌السلام ولو جاز له ما لم يكن جائزا في شريعة موسى عليه‌السلام كان النسخ جائزا وأنتم تنكرون النسخ؟
    فسكتوا ، وقال كبيرهم داود : كلامكم يا سيّدنا على العين وفوق الرأس!
    فقال لهم أيّده الله تعالى : أخبروني يا معاشر اليهود ، هل كان بينكم خلاف أو في كتبكم تباين واختلاف؟
    فقالوا : لا.
    فقال لهم : كيف ذلك وقد افترقتم على ثلاث فرق تشعب منها إحدى وسبعون

    فرقة ، وهذه السامرة طائفة عظيمة من اليهود تخالف اليهود في أشياء كثيرة ، والتوراة التي في أيديهم مغايرة لما في أيدي باقي اليهود؟
    فقالوا : لا ندري لم وقع هذا الاختلاف ولكن نعلم بمخالفة كتاب السامرة لكتابنا ، وكذلك مخالفتهم لنا في أمور كثيرة.
    فقال لهم أيّده الله : فكيف تنكرون الاختلاف وتدّعون اتفاقكم على شيء واحد؟ ثمّ قال لهم سلّمه الله تعالى : هل زيد في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى عليه‌السلام شيء أم نقص منه شيء؟
    فقالا : هي على حالها إلى الآن لا زيادة فيها ولا نقصان لها.
    فقال لهم أيّده الله تعالى : كيف يكون ذلك وفي هذه التوراة التي في أيديكم أشياء منكرة ظاهرة القبح والشناعة ، منها ما وقع في قصّة العجل من نسبة اتخاذه إلها لبني إسرائيل إلى هارون النبيّ عليه‌السلام وهذه ترجمة التوراة في فصل نزول الألواح واتخاذ العجل وهو الفصل العشرون من السفر الثاني : ولمّا رأى القوم أنّ موسى قد أبطأ عن النزول عن الجبل تحرّفوا إلى هارون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة يسيرون قدّامنا ، فإنّ ذلك الرجل موسى الذي أصعدنا من بلد مصر لا نعلم ما كان منه. فقال لهم هارون : فكّوا شنوف الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها ، ففعل ذلك جميع القوم ونزعوا الأقراط التي كانت في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ، فأخذها منهم وصوّرها بقالب وجعلها عجلا مسبوكا فاتخذوه آلها وعبدوه ، فلمّا جاء موسى من ميقات ربّه ورأى ما صنع هارون وقومه أنكر ذلك ووبّخ هارون ، فاعتذر إليه فقال : لا تلمني على ذلك فما فعلته إلّا خشية تفرّق بني إسرائيل ، فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ التوراة التي عندكم محرّفة وإنّ فيها زيادة على التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام ؛ لأنّ مثل هذا العمل لا يصدر من جاهل غبيّ فكيف يصدر من مثل هارون النبيّ! وكيف تأتي له ذلك الاعتذار

    عند موسى عليه‌السلام وتفرّق بني إسرائيل على تقديره أهون من تصوير هارون لهذه الصورة واتّخاذها آلها يعبد؟ فكيف خشي على بني إسرائيل من التفرّق ولم يخش عليهم من الكفر والشرك وقد قال له موسى : يا هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين؟
    فقال داود ومن معه من اليهود : وأيّ مانع من ذلك وقد أعان على ذلك جبرائيل عليه‌السلام وقصّته مذكورة في التوراة كقصّة هارون؟
    فقال لهم أيّده الله تعالى : إنّ جبرائيل لم يعن على ذلك ولا في التوراة شيء ممّا هنالك ، وإنّما السامري وجد أثرا لحياته من أثر فرس جبرئيل فأغوى القوم بهذه الوسيلة وما على جبرئيل من ذلك شيء ، ولا على الله سبحانه وتعالى حيث خلق السبب الذي به وقعت الفتنة كما خلق أسباب الزنا والقتل وغيرهما من المعاصي فإنّها لا تقع إلّا بأسباب وآلات مخلوقة ، وليس ذلك من باب الإعانة على الكفر والمعصية ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
    وفي الفصل الرابع من السفر الخامس في ذكر العجل وتوبيخ بني إسرائيل على عبادته ، قال : وعلى هارون عليه‌السلام توجّد الله وجدا وكاد يتفدّه فاستغفر له أيضا في ذلك ، وهذا صريح في شناعة هذا العمل وفظاعته ، وأنّ الله قد توجّد به على هارون فكيف تقول أنّه لا مانع منه.
    ويقرب من هذه القصّة في الشناعة والفظاعة ما وقع في التوراة من قصّة لوط عليه‌السلام مع ابنتيه ، فإنّ في الفصل الثالث والعشرين من السفر الأوّل من التوراة : إنّ لوطا لمّا صعد من (صوغر) وأقام في الجبل وابنتاه معه وقد هلك قومه ، قالت الكبرى منهما للصغرى : أبونا شيخ كبير وليس في الأرض رجل يدخل علينا كسبيل أهل الأرض ، تعالي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه ونستبقي منه نسلا ، فسقتاه خمرا في تلك الليلة ، وجاءت الكبرى فاضطجعت مع أبيها ولم يعلم بنومها وقيامها ،

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:55 pm

    فلمّا كان من الغد قالت الكبرى للصغرى : هو ذا قد ضاجعت البارحة أبي فنسقيه خمرا الليلة وادخلي واضطجعي معه ، فسقتاه خمرا في هذه الليلة أيضا وقامت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا قيامها فحملتا ابنتا لوط من أبيهما وولدت الكبرى ابنا سمّته «مواب» هو أبو بني مواب إلى هذا اليوم ، وولدت الصغرى ابنا سمّته «عمون» وهو أبو بني عمون إلى هذا اليوم ، هذا نصّ التوراة التي بيد اليهود وترجمتها حرفا بحرف ، وهذا كذب صريح وبهتان قبيح.
    ومن الممتنع في المقول وقوع مثل هذا العار والشنار من رسل الله وأنبيائه ، وابتلاء بناتهم وأبنائهم بما تبقى شناعته مدى الدهر ، وما بقي من هذا النسل ، ومواب وعمون أمّتان عظيمتان بين البلقاء وجبال الشراة ، وقد كانت جدّة داود وسليمان من بني مواب فيكون هذا النسل كلّه عند اليهود زنيمين لعدم حصوله من نكاح صحيح ، فإنّ تحريم البنت على الأب ممّا اتفقت عليه جميع الشرايع والأديان ، وقد كانت الأخت أيضا محرّمة في الملل السابقة ولذا قال إبراهيم عليه‌السلام لمّا سأله المصريّون عن سارة : إنّها أختي حتّى لا يظنّ أنّها زوجته فيقتلوه ، ولا ريب أنّ البنت أولى بالتحريم من الأخت ، ومن المستعبد في العادة إيلاد شيخ الطاعن في السنّ في ليلتين متعاقبتين مع البكر المفرط الذي ادّعوه ، وقد كان لوط عليه‌السلام من بعد قضيّة سدوم قد قارب المائة كما قيل.
    ثمّ كيف ظنّت البنتان خلوّ العالم عن الرجال مع علمهما بأنّ الهالك هم قوم لوط عليه‌السلام خاصّة ، وقد علمتا أنّ إبراهيم عليه‌السلام وقومه في قرية حيرون ولم يكن بينه وبينهما إلّا مقدار فرسخ واحد ، وإنّ البليّة لم تصبهم ، وإنّ جميع العالم سوى قوم لوط منها سالمون ، فهذا كذب ممزوج بحماقة مفرطة ، ولو لم يكن إلّا علمهما باطّلاع أبيهما على هذا الفعل الشنيع ـ إذا صحّ ـ وكذا علم إبراهيم عليه‌السلام عمّ أبيهما على جلالة شأنه وقرب مكانه لكفى ذلك حاجزا عن ارتكابهما لهذا الأمر الفظيع على تقدير إمكانه.

    فهذا ومثله ممّا وقع في توراتكم يا معشر اليهود ، وهو دليل على وقوع التحريف والزيادة فيها ، ولو أردنا تفصيل ما وقع في هذه التوراة من التناقض والاختلاف وما لا يليق بالباري جلّ شأنه من الجسم والصورة والندم والأسف والعجز والتعب لطال الكلام ولم يسعه المقام ، ولكن أخبروني يا معشر اليهود هل تخلو شريعة من الشرايع عن الصلاة؟
    فقالوا : لا ، إنّ الصلاة ثابتة في جميع الشرايع وما خلت شريعة منها.
    فقال أيّدها الله تعالى : أخبروني عن صلاتكم هذه ما أصلها؟ ومن أين مأخذها؟ وهذه التوراة وهي خمسة أسفار قد سبرناها وعرفنا ما فيها سفرا سفرا فلم نجد للصلاة في شيء منها اسما ولا ذكرا.
    فقال بعضهم : قد علم أمرها من فحوى الكلام لا من صريحه فإنّ التوراة قد اشتملت على الأمر بالذكر والدعاء.
    فقال لهم أيّده الله تعالى : ليس الكلام في الذكر والدعاء بل في خصوص هذه الصلاة المعهودة عندكم في ثلاثة أوقات : الصبح والعصر والعشاء ، وهي التي تسمّونها «تفلاه شحريت» و «تفلاه منحا» و «تفلاه عرب». وأمّا الذكر والدعاء فكلاهما أمر عامّ لا يختصّ بوقت دون وقت ، ولا جهة دون أخرى ، وأنتم تتوجّهون في هذه الصلاة إلى بيت المقدس وليس ذلك شرطا في مطلق الذكر والدعاء.
    ويلزمكم في اشتراط التوجّه إلى بيت المقدس محذور آخر لا أراكم تخلصون منه وهو أنّ بيت المقدس كان خطّه داود عليه‌السلام وبناه ابنه سليمان عليه‌السلام وكان بين موسى وبين سليمان أكثر من خمسمائة عام فكيف كانت صلاة موسى عليه‌السلام ومن بعده من الأنبياء إلى زمان سليمان وبنائه لبيت المقدس ، ومثل ذلك يلزم عليكم في أمر الحجّ فإنّ الحجّ عندكم إلى بيت المقدس ولم يكن له وجود في زمن موسى عليه‌السلام ومن بعده من

    الأنبياء ثمّ إلى زمن سليمان ، فهل ذلك شيء اخترعتموه أنتم من قبل أنفسكم أم لكم على ذلك بيّنة وبرهان؟ فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
    فقالوا : قد علمنا ذلك من كلام الأنبياء من بعد موسى عليه‌السلام وكتبهم وتفسير علمائنا للتوراة.
    فقال لهم أيّده الله : إنّ الأنبياء من بعد موسى عليه‌السلام كلّهم على شريعته متّبعون له في أحكامه ، يحكمون بما في التوراة ، لا يزيدون عليها شيئا ولا ينقصون ، وأيضا فإنّكم معاشر اليهود لا تجيزون النسخ في الشرايع فكيف جاز لكم إحداث هذه الأشياء التي لم تكن في زمن موسى عليه‌السلام؟ وكيف جاز لعلمائكم تفسير التوراة بما هو خارج عن شريعة موسى عليه‌السلام؟ وكيف ادّعيتم على الأنبياء أنّهم وضعوا هذه الشرايع الخارجة عن التوراة؟
    فبهتوا من هذا الكلام وانقطعوا وعجبوا من غزارة علمه واطّلاعه على حالهم ووقوفه على مذهبهم ومقالهم ، ثمّ جسر واحد منهم فقال : نحن نقول : ما كان في زمن موسى صلاة فما الذي يلزمنا إن قلنا بذلك؟
    فقال لهم أيّده الله تعالى : أنتم الآن أقررتم أنّ الصلاة ثابتة في جميع الشرايع فكيف تخلو منها شريعة موسى عليه‌السلام التي هي عندكم من أعظم الشرايع وأتمّها؟ ومع ذلك فما الذي دعاكم إلى تجشّم فعل هذه الصلاة التي لم تكن في زمن نبيّكم ولا أتى بها كتابكم؟
    فانقطعوا عن الجواب وخجلوا ، وضحك كبيرهم ممّا اتفق من معارضاتهم ومناقضاتهم في مجلس واحد ، ثمّ قال : ليس في القرآن تفصيل الصلاة التي تصلّونها أنتم يا معشر المسلمين فكيف عرفتم ذلك مع خلوّه منه؟
    فأجاب أيّده الله تعالى وقال : إنّ الصلاة مذكورة في عدّة مواضع من القرآن وعلمنا سائر أحكامها وشرائطها من البيّنات النبويّة والأخبار المتواترة ، فلسنا

    نحن وأنتم في هذا الأمر سواء إن كنتم تفقهون.
    ثمّ قال أيّده الله تعالى : إنّ التوراة قد اشتملت على أحكام كثيرة لا تعملون بها الآن كأحكام التنجيس والتخلّي والتطهير بمغيب الشمس وغيره عند مسيس الذائب والحائض والمنزل والأبرص وجملة من الحيوانات وسراية الحيض من النساء إلى الرجال فيحيض الرجل بمسّهنّ سبعة أيّام كحيضهنّ ، وقد اشتمل على هذه الأحكام الفصل التاسع والعاشر والحادي عشر من السفر الثالث ، وفي مواضع أخر من التوراة فارجعوا إليها إن كنتم لا تعلمون.
    فقالوا : نعم ، كلّ ذلك حقّ وكلامكم على العين وفوق الرأس.
    فقال لهم أيّده الله تعالى : فلم لا تعملون بذلك وهو مذكور في نصّ التوراة التي تدّعون أنّها هي التي أنزلت على موسى عليه‌السلام من غير تحريف ولا تبديل ، والحكم فيها عامّ لجميع الناس ، شامل لجميع الأزمنة ، ولم يقع فيها نسخ ، ولا أتى من بعد موسى عليه‌السلام نبيّ ناسخ لشريعته غير عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وأنتم لا تقولون لا بنبوّتهما ولا بنسخ شريعة موسى عليه‌السلام في حال من الأحوال؟
    فقالوا : إنّ هذا كلّه من باب الأوامر والأمر يجوز تغييره بحسب الأزمنة بخلاف النهي ، والأمر لجلب الثواب والنهي لدفع العقاب ، فاختلفا.
    فقال أيّده الله تعالى : لا فرق بين الأمر والنهي في وجوب الطاعة والاتّباع ، وامتناع النسخ بغير ناسخ ولا داع ، والأمر إذا كان للإيجاب فهو كالنهي لدفع العقاب مع جلب الثواب ، وما ادّعيتم أنّ جميع هذه الأحكام من باب الأوامر فليس كذلك فإنّ عبارات التوراة في تلك المقامات قد جاءت بلفظ الأمر وغيره كالنهي والتحريم والنجاسة والطهارة ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين.
    فانتقلوا من هذا البحث إلى غيره ، وقال كبيرهم : كيف لا تحكمون يا معاشر

    المسلمين بحكم التوراة وفي القرآن : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(1)؟
    فقال أيّده الله تعالى : إنّه لمّا ثبت عندنا نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسخه للشرايع السابقة كان الواجب علينا اتّباع هذه الشريعة الناسخة دون الشرايع المنسوخة ، فهذا مثل ما وجب عليكم من اتّباع شريعة موسى على نبيّنا وعليه‌السلام والعمل بما في التوراة دون ما تقدّمها من الأديان والشرايع والكتب ، وقد بقي جملة من أحكام التوراة لم تنسخ كأحكام القصاص والجراح وغيرها ، فنحن نحكم بها لوجودها في القرآن ، لا لوجودها في التوراة.
    فقال : ما معنى قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(2)؟ وأيّ فرق بين النسخ والإنساء؟ وما الفائدة في نسخ الشيء والإتيان بمثله؟
    فقال أيّده الله : الفرق بين النسخ والإنساء أنّ النسخ رفع الحكم وإن بقي لفظه ، والإنساء رفعه برفع لفظه الدالّ عليه وإنساؤه محوه من الخاطر بالكلّيّة ، والمراد بالمثل هو الحكم المماثل للأوّل بحسب المصلحة بحيث يساوي مصلحته في زمانه مصلحة الأوّل في زمانه لا أن تتساوى المصلحتان في زمن واحد حتّى يلزم خلوّ النسخ عن الفائدة.
    فضحكوا وتعجّبوا من جودة جوابه وحسن محاوراته في خطابه.
    ثمّ قال أيّده الله تعالى لهم : يا معشر اليهود ، لو علمنا لكم ميلا واعتناءا بطلب الحقّ لأتيناكم بالحجج الباهرة والبراهين القاهرة لكنّي أنصحكم لإتمام الحجّة وأوصيكم بالإنصاف وترك التقليد واتّباع الآباء والأجداد وترك العصبيّة والحميّة
    __________________
    (1) المائدة : 44.
    (2) البقرة : 106.

    والعناد ، فإنّ الدنيا فانية منقطعة ، وكلّ نفس ذائقة الموت ، ولا بدّ للعباد من لقاء الله تعالى وهو يوم عظيم ليس بعده إلّا نعيم مقيم أو عذاب أليم ، والعاقل من استعدّ لذلك اليوم واهتمّ به ، وشمّر في هذه الدار لتصحيح العقائد والقيام بما كلّف به من الأعمال ، وتأمّل في هذه الملل المختلفة والمذاهب المتشعّبة ، وإنّ الحقّ لا يكون في جهتين متناقضتين ، وأن لا عذر لأحد في تقليد أب أو جدّ ، ولا الأخذ بملّة أو مذهب بغير حجّة ولا دليل ؛ فالناس من جهة الآباء والأجداد شرع سواء ، فلو كان ذلك منجيّا لنجا الكلّ وسلم الجميع ، ويلزم من ذلك بطلان الشرايع والأديان وتساوي الكفر والإيمان ، فإنّ الكفّار وعبّاد الأوثان يقتفون آثار آبائهم ولا عذر لهم في ذلك ، ولا ينجيهم التقليد من العطب والمهلك ؛ فانقذوا أنفسكم من عذاب النار وغضب الجبّار يوم تبلى السرائر وتهتك الأستار ، ولا ينفع هنالك شفيع ولا حميم ولا ناصر ولا مجير.
    فعليكم بالتخلية عن الأغراض المانعة من التوجّه إلى الحقّ والعلل الصارفة عن الرشد ونزع النزوع إلى مذهب الآباء والأجداد ، والتوجّه إلى ربّ العباد والاجتهاد في طلب ما ينجي من عذاب يوم المعاد ، وذلك يحتاج إلى رياضة للنفس نافعة ، ومجاهدة لها ناجعة ، وقد قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(1) وذلك نطق كلّ كتاب منزل ، وجاء به كلّ نبيّ مرسل ، ودلّ عليه كلّ عقل سليم ، وهدى إليه كلّ نظر ثاقب مستقيم. فالله الله في عقائدكم فاصلحوها ، وفي أعمالكم فصحّحوها ، وفي أنفسكم فانقذوها ولا تهلكوها ، فما لأحد غير نفسه ، عند فراق روحه وحلوله في رمسه ، وما أريد بكلامي هذا إلّا النصح لكم ما استطعت ، وإن كنتم لا تحبّون الناصحين.
    __________________
    (1) العنكبوت : 69.

    فقالوا : كلامكم على أعيننا وفوق رؤوسنا ، ونحن طالبون الحقّ ، راغبون في الصواب والصدق.
    فقال لهم أيّده الله : فما الباعث لكم على اختيار الملّة اليهوديّة وترجيحها على الملّة الإسلاميّة؟
    فقالوا : قد اتفق أصحاب الملل وهم اليهود والنصارى والمسلمون على نبوّة موسى عليه‌السلام وثبوت شريعته ونزول التوراة عليه واختلفوا في نبوّة عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الإنجيل والقرآن ، فنحن أخذنا بالذي اتفق عليه الجميع وتركنا ما اختلفوا فيه.
    فقال أيّده الله : إنّ المسلمين ما اعتقدوا نبوّة موسى وصدقه في دعواه إلّا بإخبار نبيّهم الصادق الأمين وذكره في كتابهم القرآن المبين ، ولو لا ذلك ما اعترفوا بنبوّة موسى وعيسى عليهما‌السلام ولا بالتوراة والإنجيل.
    وأيضا أنتم لا تقبلون شهادة النصارى ولا المسلمين في شيء من الأشياء فكيف تقبلون شهادتهم وهم يشهدون عليكم بالكفر والزيغ عن الحقّ؟ فلم يبق إلّا شهادتكم لأنفسكم وهي غير مجدية لكم نفعا.
    فتحيّروا من كلامه المبين وتحقيقه البليغ المتين ، ونظر بعضهم إلى بعض وأمسكوا طويلا ، فقال عزير وهو الشابّ الذي بينهم : يا سيّدي ، أنا أقول لك كلاما مختصرا نافعا من باب النصح والمحبّة فاستمع وتأمّل فيه وأنصف وهو حجّة عليك.
    فقال أيّده الله تعالى : ما هذا المقال؟
    فقال : إنّ في كتابنا ـ وهو التوراة ـ : يجيء نبيّ بعد موسى إلّا أنّه من بني إخواننا لا من بني إسماعيل.
    فقال أيّده الله : هذه البشارة قد جاءت بها التوراة في الفصل الثاني عشر من السفر الخامس ، وترجمتها : إنّه تعالى قال لموسى : إنّي أقيم لهم ـ أي لبني إسرائيل ـ نبيّا من بني إخوانهم مثلك فليؤمنوا به وليسمعوا له ، وإخوان بني إسرائيل هم بنو

    إسماعيل ، فإنّ إسرائيل هو يعقوب ابن إسحاق أخ إسماعيل ؛ فالنبيّ الموعود به من ولد إسماعيل ، وهذا حجّة لنا لا علينا.
    فخجل عزير وتلوّن ألوانا وعضّ على أنامله وما تكلّم بشيء بعد ذلك.
    ثمّ أعاد عليهم النصح ، فقال لهم : قد علمتم اطّلاعي على كتبكم ومذاهبكم وعلمي بطريقة سلفكم وخلفكم ، وإنّي أريد قطع معاذيركم بإزالة شبهكم ، فإن كان فيكم من هو أعلم منكم فارجعوا إليه واحصوا ما عنده وأتوني به ولكم المهلة في ذلك إلى سنة كاملة ، فارجعوا إلى الحقّ ولا تتمادوا في الغيّ.
    فقالا : نحن نعتقد نبوّة موسى عليه‌السلام بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات.
    فقال لهم أيّده الله تعالى : هل كنتم في زمن موسى عليه‌السلام ورأيتم بأعينكم تلك المعجزات والآيات؟
    فقالوا : قد سمعنا ذلك.
    فقال لهم أيّده الله تعالى : أما سمعتم أيضا بمعجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبراهينه وآياته وبيّناته ، فكيف صدّقتم تلك وكذّبتم هذه مع بعد زمان موسى عليه‌السلام وقرب زمانه؟ ومن المعلوم أنّ السماع يختلف قوّة وضعفا بحسب الزمان قربا وبعدا ، فكلّما طال المدى كان التصديق أبعد ، وكلّما قصر كان أقرب ، وأمّا نحن معاشر المسلمين فقد أخذنا بالسماعين وجمعنا بين الحجّتين وقلنا بنبوّة النبيّين ولم نفرّق بين أحد من رسله وكتبه ، ولم نقل كما قلتم : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.
    ثمّ قال لهم : لو سألكم إبراهيم وقال لكم : لم تركتم ديني وملّتي وصرتم إلى دين موسى عليه‌السلام وملّته ، فما كنتم تقولون في جوابه؟
    قالوا : كنّا نقول له : أنت السابق وموسى اللاحق ، ولا حكم للسابق بعد اللاحق.
    فقال لهم أيّده الله : فلو أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لكم : لم لم تتّبعوا ديني وأنا اللاحق

    وموسى السابق وقد قلتم لا حكم للسابق بعد اللاحق وقد أتيتكم بالآيات الظاهرات والمعجزات الباهرات والقرآن الباقي مدى الزمان فما كان جوابكم عن ذلك؟
    فانقطع كلّ منهم وتحيّروا ولم يأتوا بشيء يذكر ، وبهت الذي كفر.
    ثمّ عطف أيّده الله تعالى على كبيرهم وقال : إنّي سائلك عن شيء فأصدقني ولا تقل إلّا حقّا ، هل سعيت في طلب الدين وتحصيل العلم واليقين من أوّل تكليفك إلى هذا الحين؟
    فقال : الانصاف أنّي إلى الآن ما كنت بهذا الوادي ، ولا خطر ذلك بضميري وفؤادي غير أنّي اخترت دين موسى لأنّه كان نبيّا ولم يظهر لنا دليل على نسخ نبوّته ، ولم نفحص عن دين محمّد حقّ الفحص ، ولم نبحث عمّا جاء به حقّ البحث ، ونحن نتأمّل في ذلك وتأتيك أخبارنا فيما يحصل لدينا ممّا هنالك.
    وعلى ذلك انطوى المجلس وانقطع الكلام ، والحمد لله أهل الفضل والإنعام ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الأئمّة البررة الكرام ، انتهى بألفاظه.
    ويقال : إنّ اليهود أسلموا بعد هذه المحاججة وأحسنوا إسلامهم ، والله العالم.
    تصانيفه قدس‌سره :
    منها : الدرّة النجفيّة في متن الفقه وهي مطبوعة مشهورة.
    قال السيّد في الروضات : هذه الدرّة المنظومة لم يكتب إلى الآن مثلها في جميع متون فقهائنا المتكثّرة المرسومة ، ولذا ضمنها صاحب كتاب جواهر الكلام في كتابه عقيب استدلاله التامّ ونزل أبياتها الفاخرة منزلة النصوص في مقام التحقيق.
    ومنها : كتاب المصابيح في الفقه المستنبط على الوجه الصحيح ، وفيه غاية الرعاية لما يخاله الإنسان من التهذيب والتنقيح ، وهو مخطوط في ثلاث مجلّدات ضخام يوجد بخطّه عند أحد أحفاده.

    ومنها : كتاب الفوائد الأصوليّة التي تشبه فوائد أستاذه البهبهاني قدس‌سرهما.
    ومنها : كتاب فوائده الرجاليّة التي لم يكتب مثله حتّى الآن في التحقيق.
    ومنها : كتاب شرحه على وافية مولانا العلّامة عبد الله التوني ، ولم يبرز منه غير مباحث الألفاظ.
    إلى غير ذلك من الحواشي والرسائل وأجوبة المسائل ، وكان كثير التدقيق في أمر التصنيف ، وشديد الملاحظة لدقائق التأليف.
    أشعاره :
    قال في الروضات : وله أيضا أشعار كثيرة في معان شتّى ، منها عقودها الإثني عشر في مرثية أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.
    ومنها أرجوزته السنيّة التي صنعها في فضيلة الرمّان على سائر الفواكه وهي تتوف على ستّة وأربعين بيتا مطلعها :
    يا طالبا فضائل الرمّان
    أتل لذاك سورة الرحمن

    تجد بها الرحمن فيه فضله
    أجمله طورا وطورا فصله

    إلى أن قال :
    كأنّه في لونه الياقوت
    فكله فهو للقلوب قوت

    وحسبه فضلا وفخرا وكفى
    إذ خير ياقوت به قد عرفا

    هذا ثنائي حين جاش جيشي
    وإنّ وصف العيش نصف العيش

    ومن جمله عقودها الإثنى عشر في مراثي الحسين عليه‌السلام ما يلي :
    الله أكبر ما ذا الحادث الجلل
    وقد تزلزل سهل الأرض والجبل

    ما هذه الزفرات الصاعدات أسى
    كأنّها من لهيب القلب تشتعل

    ما للعيون عيون الدمع جارية
    منها تخدّ خدودا وهي تنهمل




    كأنّ نفخة صور الحشر قد فجأت
    فالناس سكرى ولا سكر ولا ثمل

    قد هلّ عاشور لم غمّ الهلال به
    كأنّما هو من شوم به زحل

    قامت قيامة أهل البيت وانكسرت
    سفن النجاة وفيه العلم والعمل

    وارتجّت الأرض والسبع الشداد وقد
    أصاب أهل السماوات العلى الوجل

    واهتزّ من دهش عرش الجليل فلو
    لا الله ماسكه أهوى به الميل

    جلّ الإله فليس الحزن بالغه
    لكنّ قلبا حواه حزنه جلل

    وقد جمع شعره بعض أحفاده في ديوان موجود عنده ، وفيه من الشعر الكثير الطيّب ، عسى الله أن يوفّقه لطبعه.
    الثالثة : من ظهور المعاجز في سامرّاء
    قال العلّامة النوري في دار السلام (1) : حدّثني الثقة الأمين آقا محمّد الذي بيده شموع حضرة العسكريّين عليهما‌السلام قال : كان رجل من أهل سامرّاء من أهل الشقاق والعناد ، يسمّى مصطفى الحمّود ، وكان من الخدّام الذين شغلهم أذيّة الزوّار والانتفاع منهم بطرق فيها غضب الجبّار ، وكان أغلب أوقاته في السرداب المقدّس على الصفّة الصغيرة التي فيها موضع الحوض الصغير الذي كان الإمامان الهمامان العسكريّان عليهما‌السلام يتوضّئان منه ، وكان أغلب الزيارات المأثورة في حفظه ، وكلّ من كان يدخل من الزوّار فيه ويشتغل بالزيارة يحول المشار إليه بينه وبين مولاه فينبّهه على أغلاطه المتعارفة التي لا يخلو أغلب العوام منها بحيث لم يبق لهم حالة حضور وتوجّه أصلا.
    فرأى ليلة في المنام حجّة الله الملك العلّامة ، فقال له : إلى متى تؤذي زوّاري ولا
    __________________
    (1) دار السلام : 284.

    تدعهم أن يزوروني؟ مالك والدخول في ذلك؟ خلّ بينهم وبين ما يقولون. فانتبه وقد أصمّ الله تعالى أذنيه ، فكان لا يسمع بعده شيئا ، واستراح منه الزوّار ، وكان على ذلك إلى أن مات.
    وقد نظم هذه الحكاية العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي دام وجوده في وشايح السرّاء (1) ، فقال :
    وقد روى عنه بأنّ مصطفى
    ابن حمّود كان من ذوي الجفا

    وكان يؤذي الزائرين في المحل
    ويكثر الردّ عليهم في الزلل

    لا سيّما إن دخلوا السردابا
    وحضروا يدعون من قد غابا

    وكان يوما جالسا في الروض
    من ذلك السرداب عند الحوض

    فاستشعر النوم فنام وأتى
    له الإمام وهو في زيّ فتى

    وصاح فيه قائلا يا لكع
    كم تؤذي زوّاري ولا ترتدع

    وما عليك منهم لو غلطوا
    حتّى تقول إنّ هذا شططا

    أهم يزورونك حتّى تأبى
    أم أنت ناظر عليهم تربا

    لا تسمعنّ بعد هذا كلما
    وكن بكلّ حالة أصمّا

    فانتبه البازي من منام
    وهو شبيه الخلد في الصمام

    تنظر عيناه إلى الشفاه
    في كلم وليس يدري ما هي

    ولم يفرّق مدحه من ذمّه
    ويلمه ما ذا جنى ويلمه

    ولم يزل كذاك حتّى أن مضى
    مخترما لمن له فصل القضا

    وانفكّت الزوّار في الحياة
    منه قبيل حالة المماة

    وما انثنى بذا عن اعتقاده
    حتّى تلاقى مع ذوي وداده

    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 20.

    الرابع : حكاية إسماعيل الهرقلي
    روى عليّ بن عيسى الأربلي في كشف الغمّة قال : حدّثني جماعة من الثقات من إخواني : كان في بلد الحلّة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل ، مات في زماني وما رأيته ، حكى لي ولده شمس الدين قال : حكى لي والدي أنّه خرج على فخذه الأيسر خراج مقدار قبضة الإنسان وهو شابّ ، وكانت في كلّ ربيع تنشقّ ويخرج منها دم وقيح ، ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله ، وكان مقيما بهرقل ، فحضر إلى الحلّة يوما ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدين عليّ بن طاوس قدس‌سره وشكا إليه ما يجده وقال : أريد أن أداويها. فأحضر له أطبّاء الحلّة يوما وأراهم الموضع ، فقالوا : هذه فوق العرق الأكحل وعلاجها القطع ، ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق ، وإذا قطع العرق يموت.
    فقال له السعيد رضي الدين قدّس الله روحه : أنا متوجّه إلى بغداد وربّما كان أطبّاؤها أعرف وأحذق من هؤلاء ، فأصحبني معه وأحضر الأطبّاء ، فقالوا كما قال أولئك ، فضاق صدره ، فقال له السعيد : إنّ الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس ولا تضرر بنفسك فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله. فقال له والدي : إذا كان الأمر هكذا وقد وصلت إلى بغداد فأتوجّه إلى زيارة المشهد الشريف بسرّ من رأى على مشرّفه السلام ، ثمّ أنحدر إلى أهلي ، فحسّن له ذلك ، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجّه.
    قال : دخلت المشهد وزرت الأئمّة عليهما‌السلام ونزلت السرداب واستغثت بالله تعالى وبالإمام عليه‌السلام وقضيت بعض الليالي في السرداب وبقيت في المشهد إلى الخميس ، ثمّ مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي وصعدت أريد المشهد ، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور وكان حول المشهد

    قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم ، فالتقينا فرأيت شابّين كلّ واحد منهما متقلّد بسيف وشيخا بيده رمح والآخر متقلّد بسيف وعليه فرجيّة ملوّنة ، فوقف الشيخ صاحب الرمح بيمين الطريق ووضع كعب رمحه في الأرض ، ووقف الشابّان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجيّة على الطريق مقابل والدي ، ثمّ سلّموا عليه ، فرّد عليهم‌السلام ، فقال له صاحب الفرجيّة : أنت غدا تروح إلى أهلك؟ فقال له : نعم ، فقال له : تقدّم حتّى أبصر ما يوجعك.
    قال : فكرهت ملامستهم وقلت في نفسي : أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول ، ثمّ إنّي مع ذلك تقدّمت إليه ، فلزمني بيده ومدّني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده «التوثة» فعصرها بيده فأوجعني ثمّ استوى في سرج فرسه كما كان ، فقال لي الشيخ : أفلحت يا إسماعيل ، فتعجّبت من معرفته باسمي ، فقلت : أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله. قال : فقال الشيخ : هذا هو الإمام عليه‌السلام. قال : فتقدّمت إليه فاحتضنته وقبّلت فخذه ثمّ إنّه ساق وأنا أمشي معه محتضنه ، فقال : ارجع ، فقلت : لا أفارقك أبدا ، فقال : المصلحة رجوعك ، فأعدت عليه مثل القول الأوّل ، فقال الشيخ : يا إسماعيل ، ما تستحي؟ يقول لك الإمام مرّتين ارجع وتخالفه ، فجبهني بهذا القول فوقفت ، فتقدّم خطوات والتفت إليّ وقال : إذا وصلت بغداد فلا بدّ أن يطلبك أبو جعفر ـ يعني الخليفة المستنصر ـ فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى عليّ بن عوض فإنّني أوصيه أن يعطيك الذي تريد ، ثمّ صار وأصحابه معه ، فلم أزل قائما أبصرهم حتّى بعدوا وحصل عندي أسفا لمفارقته ، فقعدت إلى الأرض ساعة ثمّ مشيت إلى المشهد.
    فاجتمع القوام حولي وقالوا : نرى وجهك متغيّرا ، هل أوجعك شيء؟ قلت : لا ، قالوا : خاصمك أحد؟ قلت : لا ، ليس عندي ممّا تقولون خبر ، ولكن أسألكم

    هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم؟ قالوا : هم من الشرفاء أرباب الغنم؟ فقلت : بل هو الإمام ، فقالوا : الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجيّة؟ فقلت : هو صاحب الفرجيّة ، فقالوا : أريته المرض الذي فيك؟ فقلت : هو قبضه بيده وأوجعني ، ثمّ كشفت رجلي فلم أر لذلك المرض أثرا ، فتداخلني الشكّ من الدهش فأخرجت رجلي الأخرى فلم أر شيئا ، فانطبق الناس عليّ ومزّقوا قميصي.
    فأدخلني القوام خزانة ومنعوا الناس عنّي ، وكان الناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجّة وسأل عن الخبر ، فعرّفوه ، فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي وسألني منذكم خرجت من بغداد ، فعرّفته أنّي خرجت في أوّل الأسبوع ، فمشى عنّي وبتّ في المشهد وصلّيت الصبح وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عنّي ، ووصلت إلى أوانا فبتّ بها وبكّرت منها أريد بغداد ، فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون كلّ من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان ، فسألوني عن اسمي ومن أين جئت ، فعرّفتهم ، فاجتمعوا عليّ ومزّقوا ثيابي ولم يبق في روحي حكم. وكان الناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرّفهم الحال ، ثمّ حملوني إلى بغداد وازدحم الناس عليّ وكادوا يقتلونني من كثرة الزحام ، وكان الوزير العلقمي قد طلب السعيد رضي الدين ليعرف صحّة الخبر.
    قال : فخرج رضي الدين عليّ بن طاوس ومعه جماعة فوافينا باب النوبي فردّ أصحابه الناس عنّي ، فلمّا رآني قال : أعنك يقولون؟ قلت : نعم ، فنزل عن دابّته وكشف فخذي فلم ير شيئا ، فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول : يا مولاي ، هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي ، فسألني الوزير عن القصّة فحكيت له ، فأحضر الأطبّاء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها ، فقالوا : ما دواؤها إلّا القطع بالحديد ومتى قطعناها يموت. فقال لهم الوزير : فعلى تقدير أن يقطع ولا يموت في كم تبرأ؟ فقالوا : في شهرين ، ويبقى في مكانها حفيرة

    بيضاء لا ينبت فيها شعر. فسألهم الوزير : متى رأيتموه؟ قالوا : منذ عشرة أيّام ، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الجرح وهي مثل أختها ليس فيها أثر أصلا ، فصاح أحد الحكماء هذا عمل المسيح ، فقال الوزير : حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها.
    ثمّ إنّه أحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصّة فعرّفه بها كما جرى ، فتقدّم له بألف دينار ، فلمّا حضره قال : خذ هذه وأنفقها في نفقتك ، فقال : ما أجسر أخذ منه حبّة واحدة ، فقال الخليفة : ممّن تخاف؟ فقال : من الذي فعل معي هذا ، قال لي لا تأخذ من أبي جعفر شيئا ، فبكى الخليفة وتكدّر ، فخرج من عنده ولم يأخذ شيئا.
    قال عليّ بن عيسى الأربلي : كنت في بعض الأيّام أحكي هذه القصّة لجماعة عندي وكان ولده شمس الدين فيهم وأنا لا أعرفه ، فلمّا انقضت الحكاية قال : أنا ولده لصلبه ، فتعجّبت من هذا الاتفاق وقلت له : هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال : لا لأنّي أصبو عن ذلك ولكنّي رأيتها بعد ما صلحت ولا أثر فيها ، وقد نبت في موضعها شعر. وسألت السيّد صفي الدين محمّد بن محمّد بن بشير العلوي الموسوي ونجم الدين حيدر بن الأسير رحمهما‌الله تعالى وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحّة القصّة وأنّهما رأياها في حال مرضها وحال صحّتها.
    وحكى لي ولده هذا أنّه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه حتّى أنّه جاء إلى بغداد وأقام بها في فصل الشتاء وكان مرارا يزور سامرّاء ويعود إلى بغداد ، فزارها في تلك السنة أربعين مرّة طمعا أن يعود له الوقت الذي مضى أو يقضي له الحظّ بما قضى ، ومن الذي أعطاه الدهر الرضا ، أو ساعده بمطالبه صرف القضا ، فمات رحمه‌الله بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصّته ، والله يتولّاه وإيّانا برحمته.

    أقول : هذه الحكاية أشهر من أن تذكر ، نقلها المجلسي في الثالث عشر من البحار ، وفي كتابه حقّ اليقين ، والعلّامة السيّد إسماعيل العقلي في كفاية الموحّدين ، والعلّامة النوري في النجم الثاقب ، وغيره في غيره ، ونظمها العلّامة السماوي في أربعين بيتا من الشعر في منظومته وشايح السرّاء.
    الخامسة : برء محمّد مهدي من الخرس والصمم في السرداب
    حدّث العلّامة الميرزا حسين النوري رحمه‌الله في الحكاية الثانية والثلاثين من كتاب جنّة المأوى قال : وفي شهر جمادى الأولى من سنة ألف ومأتين وتسعة وتسعين ورد الكاظمين رجل اسمه آغا محمّد مهدي وكان من قاطبي بندر ملومين من بنادر ماجين وممالك برمة وهو الآن من مستعمرات انكلترا ومن بلدة كلكتة قاعدة سلطنة ممالك الهند ، وإليه مسافة سنة من البحر مع البواخر ، وكان أبوه من أهل شيراز ولكنّه ولد ونشأ في الهند في البندر المذكور ، وابتلي قبل التاريخ المذكور بثلاث سنين بمرض شديد فلمّا عوفي منه بقي أصمّ وأخرس ؛ لا يسمع ولا يقدر أن يتكلّم أبدا.
    فتوسّل لشفاء مرضه بزيارة أئمّة العراق عليهم‌السلام ، وكان له أقارب في بلدة الكاظمين عليهما‌السلام من التجّار المعروفين فنزل عليهم وبقي عندهم عشرين يوما ، فصادف وقت حركة السفينة البخاريّة إلى سرّ من رأى لطغيان الماء فأتوا به إلى السفينة وسلّموه إلى جماعة كانوا من أهل بغداد وكربلا وسألوهم مراقبة أمره والنظر في حوائجه لعدم قدرته إلى إبرازها ، وكتبوا إلى بعض المجاورين من أهل سامرّاء في مراعاة أموره.
    فلمّا ورد تلك الأرض المشرّفة والناحية المقدّسة أتى إلى السرداب المقدّس بعد

    الظهر من يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان فيه جماعة من الثقات والمقدّسين ، قصد الصفّه المباركة فبكى وتضرّع فيها زمانا طويلا ، وكان يكتب حاله على الجدار ويسأل من الناظرين الدعاء والشفاعة ، فما تمّ بكاءه وتضرّعه إلّا وقد فتح الله لسانه وخرج بإعجاز الحجّة عليه‌السلام من ذلك المقام المنيف مع لسان ذلق وكلام فصيح ، وأحضر في يوم السبت في محفل تدريس سيّد الفقهاء وشيخ العلماء ، رأس الشيعة وتاج الشريعة ، المنتهى إليه رياسة الإماميّة سيّدنا الأعظم الميرزا محمّد حسن الشيرازي متّع الله المسلمين بطول بقائه وقرأ عنده سورة الفاتحة بنحو أذعن الحاضرون بصحّته وحسن قرائته ، وصار يوما مشهودا ومقاما محمودا.
    وفي ليلة الأحد والاثنين اجتمع العلماء والفضلاء في الصحن الشريف فرحين مسرورين وأضاؤوا فضائه بالمصابيح والقناديل ونظموا القصّة ونشروها في البلاد ، وكان معه في السفينة البخاريّة مادح أهل البيت عليهم‌السلام الفاضل اللبيب الحاج عبّاس الصفّار الزيوري البغدادي وكان قد رآه مريضا وصحيحا في الحالتين ، فقال من قصيدة طويلة :
    وفي عامها جئت والزائرين
    إلى بلدة سرّ من قد رآها

    رأيت من الصين منها فتى
    وكان سميّ إمام هداها

    بشير إذا ما أراد الكلام
    وأطلق من مقلتيه دماها

    وقد قيّد السقم منه الكلا
    م وللنفس منه براها

    فوافى إلى باب سرداب من
    به الناس طرّا تنال مناها

    يروم بغير لسان يزور
    وللنفس منه دعت بعناها

    وقد صار يكتب فوق الجدار
    ما فيه للروح منه شفاها

    أروم الزيارة بعد الدعاء
    فمن رأى أسطري وتلاها




    لعلّ لساني يعود الفصيح
    وعليّ أزور وأدعو الإلها

    إذا هو في رجل مقبل
    تراه ورأى البعض من أنقياها

    تأبّط خير كتاب له
    وقد جاء حيث غاب ابن طاها

    فأومى إليه ادع ما قد كتبت
    وجاء فلمّا تلاه دعاها

    وأوصى به سيّدا جالسا
    أن ادع له بالشفاء شفاها

    فقام وأدخله غيبة الإما
    م المغيب من أوصياها

    وجاء إلى حضرة الصفّة
    التي هي للعين نور ضياها

    وأسرج آخر فيه السراج
    وأدناه من فمه ليراها

    هناك دعا الله مستغفرا
    وعيناه قد سالتا في بكاها

    ومذ عاد منه يريد الصلاة
    قد عاود النفس منه شفاها

    وقد أطلق الله منه اللسان
    وتلك الصلاة أتمّ أداها

    قال : فلمّا بلغ الخبر إلى خرّيت صناعة الشعر السيّد المؤيّد الأديب اللبيب فخر الطالبين وناموس العلويّين السيّد حيدر بن سليمان الحلّي أيّده الله تعالى ، بعث كتابا صورته:
    بسم الله الرحمن الرحيم ، لمّا هبّت من الناحية المقدّسة نسمات كرم الإمامة ، فنشرت نفحات عبير هاتيك الكرامة ، فأطلقت لسان زائرها من اعتقاله ، عند ما قام عندها في تضرّعه وابتهاله ، أحببت أن أنتظم في سلك من خدم تلك الحضرة في نظم قصيدة تتضمّن بيان هذا المعجز العظيم ونشره ، وأن أهنّئ علّامة الزمن وغرّة وجه الحسن ، فرع الأراكة المحمّديّة ، ومنار الملّة الأحمديّة ، علم الشريعة وإمام الشيعة ، لأجمع بين العبادتين في خدمة هاتين الحضرتين ، فنظمت هذه القصيدة الغرّاء ، وأهديتها إلى دار إقامته وهي سامرّاء ، راجيا أن تقع موقع القبول ، فقلت ومن الله بلوغ المأمول :


    كذا يظهر المعجز الباهر
    ويشهده البرّ والفاجر

    وتروى الكرامة مأثورة
    يبلّغها الغائب الحاضر

    يقرّ لقوم بها ناظر
    ويقذى لقوم بها ناظر

    فقلب لها ترحا واقع
    وقلب بها فرحا طائر

    أجل طرف فكرك يا مستدل
    وأنجد بطرفك يا غائر

    تصفّح مآثر آل الرسول
    وحسبك ما نشر الناشر

    ودونكه نبا صادقا
    لقلب العدوّ هو الباقر

    فمن صاحب الأمر أمس اس
    تبان لنا معجز أمره باهر

    بموضع غيبته مذ ألم
    أخو علّة رائها ظاهر

    ومن فمه باعتقال اللسان
    ورام هو الزمن الغادر

    فأقبل ملتمسا للشفاء
    لدى من هو الغائب الحاضر

    ولقّنه القول مستأجر
    عن القصد في أمره جائر

    وبمناه في تعب ناصب
    ومن ضجر فكره حائر

    إذا انحلّ من ذلك الاعتقال
    وبارحه ذلك الضائر

    فراح لمولاه في الحامدين
    وهو لآلائه ذاكر

    لعمري لقد مسحت داءه
    يد كلّ خلق لها شاكر

    يد لم تزل رحمة للعباد
    لذلك أنشأها الفاطر

    تحدّث إن كرهت أنفس
    يضيق شجى صدرها واغر

    وقل إنّ قائم آل النبي
    له النهي وهو هو الآمر

    أيمنع زائره الاعتقال
    وممّا به ينطق الزائر

    ويدعوه صدقا إلى خلّة
    ويقضي على أنّه القادر

    ويكبو مرجيه دون الغيا
    شا وهو يقال به العاشر




    فحاشاه بل هو نعم المغيث
    إذا فضض الحارث الفاغر

    فهذي الكرامة لا ما غدا
    يلفّقه الفاسق الفاجر

    أدم ذكرها يا لسان الزمان
    وفي نشرها فمك العاطر

    وهنّ بها سرّ من رأى ومن
    به ربّها آمل غامر

    هو السيّد الحسن المجتبى
    خضم الندى غيثه الهامر

    وقل يا تقدّست من بقعة
    بها يهب الزلّة الغافر

    كلا اسميك في الناس بادلة
    بأوجههم أثر ظاهر

    فأنت لبعضهم سرّ من
    رأى وهو نعت لهم ظاهر

    وأنت لبعضهم ساء من
    رأى وبه يوصف الحاسر

    لقد أطلق الحسن المكرمات
    محيّاك فهو بها سافر

    فأنت حديقة زهر به
    وأخلاقه روضك الناظر

    عليكم تربّى بحجر الهدى
    ونسج التقى برده الظاهر

    إلى أن قال رحمه‌الله تعالى :
    كذا فلتكن عترة المرسلين
    وإلّا فما الفخر يا فاخر

    وممّن أشار إلى هذه المعجزة الباهرة الشاعر المفلّق الأديب البارع السيّد عبّاس رحمه‌الله على ما في المجلّد الثاني من كتاب منن الرحمان (1) للعلّامة الخبير الشيخ جعفر النقدي ، قال : نظم هذه المعجزة في قصيدة غرّاء ، منها ما يلي :
    ولست أنسى مجلس السرداب
    إذ صخت شوقا بحشى مذاب

    إلى م إغضائك يابن المرتضى
    فحقّكم قد ضاع والدين قضى

    وجدّك السبط قضى ظمئآنا
    ولم تقم بثاره غضبانا

    __________________
    (1) منن الرحمان 2 : 236.


    فليت عينيك ترى العليلا
    مكبّلا مقيّدا نحيلا

    عجّل فقد طال المدى يابن الأولى
    هم عماد الكون بل شمس الهدى

    فقم أغثنا معدن العلوم
    كما أغثت أعجم الملومي

    من قد سقي داء فعاد أخرسا
    وضيّق الأعداء منه النفسا

    ولم يجد من منجد سواكم
    لعلمه ما خاب من أتاكم

    فقوّض الرحال وانصاع إلى
    زيارة الصفوة من كلّ الملا

    حتّى أتى سرداب سامرّاء
    مختنقا بالوجد والبكاء

    يطلب منكم نظرة رحيمه
    ورأفة شاملة كريمه

    وقد غدا يكتب في الجدار
    أرجو الدعا من سائر الزوّار

    فقام حالا طلق اللسان
    بجودكم يا صاحب الزمان

    وليس هذا بعجيب منكم
    إذ جمعت كلّ المزايا فيكم

    فكبّرت كلّ الورى تكبيرة
    ماجت لها أمّ القرى الكبيرة

    فيالها من فرحة زهراء
    أبانها الله بسامرّاء

    قد عاد فيها ليلنا نهارا
    وكان ضوء يخطف الأبصارا

    ونظمها أيضا العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء في ضمن سبعة عشر بيتا.
    السادس : هلاك حسّان المزوّر
    وفي جنّة المأوى أيضا قال : الحكاية الثامنة والأربعون : حدّثني العالم الجليل والمولى النبيل العدل الثقة الرضي المرضي الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي وهو من أوثق أهل الفضل وأئمّة الجماعة في مشهد الكاظم عليه‌السلام ، عن

    والده العالم العليم المولى زين العابدين أو عن أخيه الثقة الصالح الميرزا محمّد باقر سلّمه الله ـ والترديد لتطاول الزمان لأنّ سماعي لهذه الحكاية يقرب من خمسين سنة ـ قال : قال والدي : ممّا ذكر من الكرامات للأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام في سرّ من رأى في أواخر المائة الثانية بعد الألف من الهجرة أنّه جاء رجل من الأعاجم إلى زيارة العسكريّين عليهما‌السلام وذلك في زمن الصيف وشدّة الحرّ ، وقد قصد الزيارة في وقت كان الكليدار في الرواق ومغلّقا أبواب الروضة البهيّة ، متهيّئا للنوم عند الشبّاك الغربي.
    فلمّا أحسّ بمجيء الزوّار فتح الباب وأراد أن يزوّره ، فقال له الزائر : خذ هذا الدينار واتركني حتّى أزور بتوجّه وحضور ، فامتنع المزوّر وقال : لا أخرم القاعدة ، فدفع إليه الدينار الثاني والثالث ، فلمّا رأى المزوّر كثرة الدنانير ازداد امتناعا ومنع الزائر من الدخول إلى الروضة البهيّة وردّ إليه الدنانير.
    فتوجّه الزائر إلى الحضرة الشريفة وقال بانكسار : بأبي أنتما وأمّي ، أردت زيارتكما بخضوع وخشوع وقد اطّلعتما على منعه إيّاي ، فأخرجه المزور وغلّق الأبواب ظنّا منه أنّه يرجع إليه ويعطيه بكلّ ما يقدر عليه ، وتوجّه إلى الطرف الشرقي. فلمّا وصل إلى الركن وأراد الانحراف رأى ثلاثة أشخاص مقبلين صافّين إلّا أنّ أحدهم متقدّم على الذي في جنبيه بيسير ، وكذا الثاني ممّن يليه ، وكان الثالث هو أصغرهم وفي يده قطعة رمح وفي رأسه سنان ، فبهت المزور عند رؤيتهم ، فتوجّه صاحب الرمح إليه وقد امتلأ غيظا واحمرّت عيناه من الغضب وحرّك الرمح يريد طعنه قائلا : يا ملعون ابن ملعون ، كأنّه جاء إلى دارك أو إلى زيارتك فمنعته ، فعند ذلك توجّه إليه أكبرهم مشيرا بكفّه مانعا له قائلا : جارك ارفق بجارك ، فأمسك صاحب الرمح ثمّ هاج غضبه ثانيا محرّكا للرمح قائلا ما قاله أوّلا ، فأشار إليه الأكبر أيضا كما فعل ، فأمسك صاحب الرمح ، وفي المرّة الثالثة لم يشعر المزور إلّا أن سقط

    مغشيّا عليه ولم يفق إلّا في اليوم الثاني والثالث وهو في داره أتوا به أقاربه بعد أن فتحوا الباب عند المساء لمّا رأوه مغلّقا فوجدوه كذلك وهم حوله باكون ، فقصّ عليهم ما جرى بينه وبين الزائر والأشخاص ، وصاح : ادركوني بالماء فقد احترقت وهلكت.
    فأخذوا يصبّون عليه الماء وهو يستغيث إلى أن كشفوا عن جنبه فرأوا مقدار درهم منه قد اسودّ وهو يقول : قد طعنني صاحب القطعة ، فعند ذلك أشخصوه إلى بغداد وعرضوه على الأطبّاء فعجز الأطبّاء من علاجه ، فذهبوا به إلى البصرة وعرضوه على الطبيب الإفرنجي فتحيّر في علاجه لأنّه جسّ يده فما أحسّ بما يدلّ على سوء المزاج ، وما رأى ورما ولا مادّة ، فقال مبتدئا : إنّي أظنّ أنّ هذا الشخص قد أساء الأدب على بعض الأولياء فابتلاه الله بهذا البلاء. فلمّا يئسوا من العلاج رجعوا به إلى بغداد فمات في الطريق ، والظاهر أنّ اسمه كان حسّان.
    أقول : أشرنا سابقا إلى مآثر آل السلماسي أنّهم من أعيان العلماء الثقات بحيث كادت أن تكون حكاياتهم بمنزلة الروايات ، أضف إلى أنّ العالم العليم والطود الأشم البحر الخضم المولى أحمد النراقي صاحب المستند ذكرها في كتابه خزائن العلوم (1) فأحببت ذكر عبارته بألفاظها ، قال :
    فائدة : شيخ جليل شيخ محمّد جعفر نجفى قدس‌سره الزكى كه از مشايخ اجازه اين حقير است در سفرى كه بجهت زيارت عسكريّين عليهما‌السلام وسرداب مقدّس سرّ من رأى مشرّف مى شديم با جناب ايشان همسفر بوديم ، روزى حكايت كرد كه مرا در سرّ من رأى آشنائى بود از اهل آنجا كه هرگاه بزيارت آمدمى به خانه او رفتمى ، وقتى آمدم آن شخص را رنجور ونحيف وزار ومريض ديدم كه مشرف
    __________________
    (1) خزائن العلوم : 325 طبع ايران.

    به موت بود ، از سبب ناخوشى استفسار كردم ، گفت : چندى قبل از اين قافله از تبريز بجهت زيارت به اينجا مشرّف شدند ومن چنانچه عادت خدّام اين قباب واهل سرّ من رأى هست من به استقبال قافله رفتم كه مشترى بجهت خود گرفته واستادى آن را در زيارت كرده از او منتفع شوم.
    جوانى را ديدم در زىّ ارباب صلاح ونيكان ، در نهايت صفا وطراوت ، به كنار دجله رفت وغسلى بجا آورد وجامه هاى تازه پوشيد در نهايت خضوع وخشوع روانه روضه متبرّكه شد. با خود گفتم : از اين مى توان بسيار منتفع شد ، پس دنباله او را گرفتم ديدم داخل صحن مقدّس عسكريّين عليهما‌السلام شد ودر رواق ايستاده كتابى در دست دارد ، مشغول خواندن اذن دخول شد ودر غايت آنچه از خضوع كه متصور مى شد اشك مى ريخت ، من بنزد او آمدم ، گوشه رداى او را گرفتم ، گفتم : مى خواهم بجهت تو زيارت نامه بخوانم ، او دست به كيسه كرد يك دانه اشرفى به كف من گذارده اشاره كرد كه برو وتو را با من رجوعى نباشد.
    من كه چند روز استادى مى كردم به ده يك اين شاكر بودم آن را گرفته قدرى راه رفتم طمع مرا بر آن داشت كه باز از آن اخذ كنم ، برگشتم ديدم در غايت خضوع وگريه مشغول دعاى اذن دخول است ، باز مزاحم او شده گفتم : بايد من تو را تعليم زيارت دهم ، اين دفعه نيم اشرفى به من داده واشاره كرد به من كه رجوع نداشته باش وبرو.
    من رفتم با خود گفتم : نيكوشكارى بدست آمده ، باز مراجعت كردم در عين خضوع او را گفتم : كتاب را بگذار والبته من بايد بجهت تو زيارت نامه بخوانم ورداى او را كشيدم ، اين دفعه نيز يك عدد ريال به من داده ومشغول دعا شد ، من رفتم باز طمع مرا بر معاودت داشته مراجعت كردم وهمان مطلب را تكرار كردم ، اين دفعه كتاب را در بغل گذارده وحضور قلب او تمام شده بيرون آمد.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:57 pm

    به موت بود ، از سبب ناخوشى استفسار كردم ، گفت : چندى قبل از اين قافله از تبريز بجهت زيارت به اينجا مشرّف شدند ومن چنانچه عادت خدّام اين قباب واهل سرّ من رأى هست من به استقبال قافله رفتم كه مشترى بجهت خود گرفته واستادى آن را در زيارت كرده از او منتفع شوم.
    جوانى را ديدم در زىّ ارباب صلاح ونيكان ، در نهايت صفا وطراوت ، به كنار دجله رفت وغسلى بجا آورد وجامه هاى تازه پوشيد در نهايت خضوع وخشوع روانه روضه متبرّكه شد. با خود گفتم : از اين مى توان بسيار منتفع شد ، پس دنباله او را گرفتم ديدم داخل صحن مقدّس عسكريّين عليهما‌السلام شد ودر رواق ايستاده كتابى در دست دارد ، مشغول خواندن اذن دخول شد ودر غايت آنچه از خضوع كه متصور مى شد اشك مى ريخت ، من بنزد او آمدم ، گوشه رداى او را گرفتم ، گفتم : مى خواهم بجهت تو زيارت نامه بخوانم ، او دست به كيسه كرد يك دانه اشرفى به كف من گذارده اشاره كرد كه برو وتو را با من رجوعى نباشد.
    من كه چند روز استادى مى كردم به ده يك اين شاكر بودم آن را گرفته قدرى راه رفتم طمع مرا بر آن داشت كه باز از آن اخذ كنم ، برگشتم ديدم در غايت خضوع وگريه مشغول دعاى اذن دخول است ، باز مزاحم او شده گفتم : بايد من تو را تعليم زيارت دهم ، اين دفعه نيم اشرفى به من داده واشاره كرد به من كه رجوع نداشته باش وبرو.
    من رفتم با خود گفتم : نيكوشكارى بدست آمده ، باز مراجعت كردم در عين خضوع او را گفتم : كتاب را بگذار والبته من بايد بجهت تو زيارت نامه بخوانم ورداى او را كشيدم ، اين دفعه نيز يك عدد ريال به من داده ومشغول دعا شد ، من رفتم باز طمع مرا بر معاودت داشته مراجعت كردم وهمان مطلب را تكرار كردم ، اين دفعه كتاب را در بغل گذارده وحضور قلب او تمام شده بيرون آمد.

    من از كرده خود پشيمان شدم وبنزد او آمدم ، گفتم : برگرد وزيارت كن به هر نوع كه مى خواهى ومرا با تو كارى نيست. گريه كنان گفت : مرا حال زيارتى نماند ورفت. من بسيار خود را ملامت كردم ، مراجعت نمودم ، از در خانه داخل فضا شدم ، سه نفر بر لب بام خانه من محاذى در خانه رو به من ايستادند وآنكه در ميان اشيان بود جوانتر بود وكمانى در دست داشت ، تير در كمان نهاده وبه من گفت : چرا زائر ما را از ما بازداشتى؟ وكمان را زه كشيده ناگاه سينه من سوخت وآن سه نفر غائب شدند ، وسوزش سينه من بتدريج اشتداد كرده بعد از دو روز مجروح شد وبتدريج جراحت اين پهن شده اكنون تمام سينه مرا فرو گرفته ، وسينه خود را گشود ديدم مجموع سينه او پوسيده بود ، ودر سه روزى نگذشت كه آن شخص بمرد ، انتهى.
    وهذه الحكاية مع ما ذكرها العلّامة النوري المتقدّم بينهما تفاوت يسير ، ويحتمل تعدّد الحكاية لأنّ نظائرها في سامرّاء غير عزيز. ونظمها العلّامة الخبير السماوي في وشايح السرّاء بقوله :
    وذكر الشيخ النراقيّ الورع
    أحمد في الخزائن الذي طبع

    عن شيخه الأستاذ كاشف الغطا
    جعفر وهو من علمت نمطا

    قال أتينا الدار زائرين
    في سنة العشر مع المأتين

    فحدّث الأستاذ أن قد كان له
    من قبل صاحب يضيف منزله

    وهو من القوام في ذاك المحل
    يقري الذي حلّ ويحبي من رحل

    فجاءت الزوّار يوما فأتى
    ذو هيئة من بينهم وهو فتى

    فقال هذا لي وسوف ألزمه
    فجاء معه وهو لا يكلّمه

    وعاج نحو دجلة فاغتسلا
    وعاد في سكينة فوصلا

    وقام يستأذن في كتاب
    قد كان في يديه عند الباب




    قال فقلت إنّ لي وظيفه
    فادع بقولي ودع الصحيفه

    إنّي أتيت دجلة مستقبلا
    وجئت معك تابعا مؤمّلا

    فمدّ كفّه إلى دينار
    وقال خذ هذا وزر مزاري

    فصرت أثني غاية الثناء
    عليه إذ زاد على العطاء

    ثمّ طمعت فمنعت ثانيا
    فناول النصف وعاد تاليا

    ثمّ طمعت فمنعت ثالثا
    فمدّ درهما وراح نافثا

    ثمّ طمعت فمنعت رابعا
    فقال ما أتيت إلّا مانعا

    فقد حرمتني من الإقبال
    ومن توجّهي إلى الموالي

    وسال دمعه فقلت زر فلا
    أمنع قال قد كفى ما حصلا

    وعاد في حزن وفي استعبار
    وعدت إذ جنّ الدجى لداري

    فصرت في عتبتها وإذ نفر
    ثلاثة في السطح والبادي نفر

    وكان أصغر الرجال سنّا
    وفي اليسار منه قوس تحنى

    فقال لم منعت عنّا الزائر
    وقد أفادك العطاء الوافرا

    وسدّد السهم فما أخطاني
    فالتهب الصدر مع الجنان

    ولم أجدهم بعد هذي الكلمه
    وبعد أن رمى بسهمي سهمه

    قال وعدته بتلك الليله
    وهو يقاسي بالحريق ويله

    فحدّث الحديث ثمّ كشفا
    عن صدره فلم أجد به شفا

    وما انجلى الصباح إلّا صاح
    ناعيه بين قومه أن ماتا

    وذاك من معجز أهل الدار
    إذ منع القصد من الزوّار

    وحسبك الكاشف في العراق
    عن ثقة وأحمد النراقي

    إذ شاهد الأوّل هذي المنقبه
    ونقل الثاني النبأ وكتبه



    السابعة : تشوّه الذي يختم أرجل الزائرين
    جاء في الخزائن (1) ما حاصل تعريبه ، قال : وفي سنة عشر ومأتين بعد الألف تشرّفت بزيارة بيت الله الحرام ، فلمّا رجعت تشرّفت بزيارة العسكريّين عليهما‌السلام في سرّ من رأى ، وكان في تلك الأيّام افتخار الحجّاج والمعتمرين الحاج جواد الثقة الأمين مشغولا بعمارة الروضة البهيّة من طرف جعفر قلي خان الخوئي الدنبلي (2) فحدّثني هو :
    إنّ رجلا يقال له السيّد علي الذي رأيته في سنة ألف وخمس ومأتين حين تشرّفي بسامرّاء وهو حاكم فيها من قبل وزير بغداد. وقال الثقة الحاج جواد المذكور المعروف بالصبّاغ أنّ السيّد علي المشار إليه كان يقف على باب الحضرة المقدّسة للعسكريّين عليهما‌السلام ويختم ساق كلّ زائر يريد الدخول بخاتم ويأخذ درهما منه ، وكان الختم علامة لمن أدّى الرسم.
    فجاء رجل من خيار العجم ومعه زوجته ، فختم ساقه فأعطاه درهمين : درهما لنفسه ودرهما لزوجته ، فقال السيّد علي : جئني بزوجتك لأختم ساقها ، فقال الرجل : لا حاجة إلى الختم فإنّها تعطيك درهما مهما تريد الزيارة ولو خمسين مرّة. فغضب السيّد علي واستشاط غيظا وقال : يا رافضي ، تغير على زوجتك فلا مناص لها إلّا أن نختم ساقها.
    قال الزائر : لا يعاب من يغير على ناموسه بأن يحفظها من أعين النظّار. فقال السيّد علي : يا رافضي ، لا آذن لكم للدخول إلّا أن نختم ساق المرأة. فقال الرجل :
    __________________
    (1) الخزائن : 326.
    (2) تقدّم في الجزء الأوّل أنّ نوّاب جعفر قلي خان بن أحمد خان الدنبلي توفّي سنة 1213 وحمل نعشه إلى سامرّاء ودفن عند أبيه في الرواق.

    لا حاجة لنا إلى هذه الزيارة ، فرجع ورجعت زوجته ، واشتدّ غضب السيّد علي وكان بيده عصى فطعن به على بطن المرأة بحيث ألقاها على وجه الأرض ، فانكشف خمارها وبدت معاصمها ، وقال : يا رافضي ، قد أنكرت قولي وتريد أن تخرم قاعدتي لأجل زوجتك.
    فلمّا رأى الرجل هذه الفضيحة والتهتّك اظلمّت الدنيا في عينيه وتراكمت العبرة على خدّيه ورنا إلى الروضة البهيّة بطرفه وقال مع شدّة الحزن واحتراق القلب : يا ساداتي ، إن كنتم ترضون بأن هتكت حرمتي بمرأى ومسمع منكم على باب داركم فأنا راضي أيضا ، فأخذ بيد زوجته ورجع إلى منزله مع بكاء وأنين.
    قال الحاج جواد الصبّاغ : فلم تنقضي إلّا ثلاث أو أربع ساعات فإذا برسول من قبل أمّ السيّد علي جاء إليّ وأنا في البيت ، وقال : أمّ السيّد علي تدعوك أن تعجّل في المسير إليها ، قال : فخرجت فإذا برسول ثاني وثالث صادفتهما في الطريق فلمّا دخلت الدار رأيت السيّد علي يتململ كتململ السليم ، ويصرخ من شدّة وجع البطن ، فقالت لي أمّ السيّد علي مع بكاء وصراخ : يا مولانا ، أغثنا وارحمنا ، اذهب مع كمال العجلة إلى الزائر الذي فعل به السيّد علي كذا وكذا واستدع منه أن يجعل السيّد عليّ في حلّ ممّا أساء إليه.
    قال الجواد : فجئت إلى الزائر وأخبرته بمقالة أمّ السيّد علي وأستدعيت منه أن يجعله في حلّ. قال الزائر : جعلته في حلّ ولكنّ أين ذلك القلب المحترق وحالة الانقطاع إلى الله والاتصال والقرب المعنوي.
    قال : فرجعت إلى الروضة لأداء فريضة المغرب والعشاء فرأيت أمّ السيّد علي ونسائه وإخوانه وبناته حول شبّاك العسكريّين عليهما‌السلام يبكين ويصرخن مكشّفات الرؤوس وقد شددن ضفايرهنّ بالشبّاك ، وكنت في الروضة نسمع صياح السيّد علي وهو يقول : أسأت وظلمت ، وجعل يشتم نفسه.

    قال : فقمت إلى الصلاة فما تممتها إلّا وهلك السيّد علي وعلا الصراخ من داره ، فغسّلوه وجاؤوا به إلى الرواق ووضعوا التابوت فيه وأخّروا دفنه إلى الصبح ، وكانت المفاتيح بيدي لاشتغالي بالعمارة ، وكان السدنة يغلقون الأبواب ويسلّموني المفاتيح بعد انقطاع الزوّار وبعد الفحص والتفتيش لئلّا يكمن خائن أو سارق.
    فلمّا وضعوا التابوت وخرجوا فتّشوا الروضة والرواق على عادتهم وسلّموني المفاتيح ورجعت إلى داري ، فلمّا آن وقت الأذان جئت إلى الروضة وفتحت باب الرواق فإذا بكلب أسود مهيب خرج من الرواق وسار إلى البرّ ، فأغتظت على بعض السدنة وقلت : ما بالكم لا تلاحظون الحضرة المقدّسة حتّى يدخل الكلب الرواق ، فقالوا : هذا أمر غير ممكن لأنّا فتشناه بما لا مزيد عليه وأغلقنا الأبواب وأعطيناك المفاتيح.
    قال : أنا رأيت الآن خرج كلب أسود من الرواق ، فبهتوا فلمّا جاؤوا إلى تابوت السيّد علي ليدفنوه فإذا بالكفن خال من الجنازة ، فأيقنوا أنّ الكلب الأسود هو صاحب التابوت.
    وقد نظم العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي هذه القصّه في وشايح السرّاء (1) وقال:
    وذكر السابق أن قد أخبره
    في المأتين مع اثنتي عشره

    التاجر المعروف بالجواد
    ونسبة الصبّاغ في النوادي

    وكان من صلاحه أن قد ولي
    عمارة المشهد لابن الدنبلي

    قال أتانا حاكم من والي
    بغداد عند خامس الأحوال

    والمأتين بعد ألف الهجرة
    أنهى سليمان الوزير أمره

    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 15.


    يدعى عليّا في الورى وهو دني
    بالوصف بل بالذات بل بالمعدن

    فكان كلّ من يزور الحرما
    يعطيه من قبل الدخول درهما

    ويخشم الساق له بالختم
    علامة على أداء الرسم

    قال وكنت ذات يوم حاضرا
    وهو بباب الصحن يرعى الزائرا

    فجاء في وقت حضوري فوج
    فيهم فتى شهم ومعه الزوج

    فسلّموا وسلّموا الدرهما
    ووسموا في سوقهم خواتما

    ودافع الفتى من الشهامه
    عن زوجه وبذل الغرامه

    فامتنع الحاكم من إعفائها
    وقال لا أقبل باستثنائها

    قال الفتى وغيرتي لا تقبل
    إذّا نعود والثواب يحصل

    فعاد والزوج وراه تتبع
    فأغضب الحاكم ممّا يصنع

    وقضّب الزوج برأس المحجن
    من غضب على الفتى وضغن

    فوقعت بروعة بالعتبة
    وانكشف الخمار عمّا حجبه

    فالتفت الفتى لمن لهم أتى
    وقال قد فاض الونى حتّى متى

    إن كنتم ترضون هذا العملا
    بضيفكم رضيته محتملا

    وراح وهو يستشيط غضبا
    ممّا رأى من الذي قد قضبا

    قال وقام بعد ذاك الحاكم
    فأقعدته علّة تلاكم

    واغبرّ وجهه وخانه الجلد
    واعتاق فهو كلّما قام قعد

    فحملته صحبه لداره
    فلم يكن يقوى على اقتداره

    وأنفذت لي داعيا فداعيا
    أمّ له جئتها مراعيا

    فقال لي وهو يساوق النفس
    أرض الفتى عنّي بكلّ ملتمس

    قال رضيت عنه ذا كفاه
    وما أظنّه يرى شفاه

    قد كان غيظي حالة الإقبال
    ولم يك الرضا بتلك الحال




    فقمت واستطلعت للأئمّه
    فصادف الطرف هناك أمّه

    رابطة القناع بالشباك
    مذهولة والطرف منها باك

    ثمّ توفّي أبنها اجتباها
    فجهّزوا وانتظروا الصباحا

    وأدخلوا التابوت في الرواق
    وأوصدوا الباب بقفل واق

    وأودع المفتاح عندي إذ أنا
    أفتحه صبحا لأشغال البنا

    فجئت صبحا وفتحت الباب
    ففرّ كلب يستصرّ النابا

    فقلت للقيّم لم لم تفحص
    على الرواق ساعة الترخّص

    قال فحصته إذ الباب يسد
    فلم أجد شيئا ولم أنظر أحد

    وأخرجوا التابوت منه فإذا
    ما فيه إلّا كفن قد نبذا

    فستروا الحال على كلّ البشر
    والستر لا يحسن إلّا جنب شر

    وهذه معجزة غريبه
    شاهدها الجواد دون ريبه

    ونقل الفاضل عنه الخبرا
    وهو الذي تعنو له كلّ الورى

    الثامنة : شفاء عين السيّد محمّد بن الميرزا سيّد باقر خان
    رأيت بخطّ الحاج الميرزا سيّد باقر خان الطهراني المشتهر بالحاج ساعد السلطان ما حاصل تعريبه ، قال : تشرّفت في سنة ثلاثمائة وسبع عشرة بعد الألف بزيارة الإمامين الهمامين العسكريّين عليهما‌السلام وبقيت في سامرّاء ثلاثة أيّام ، فلمّا دخلت الروضة البهيّة لزيارة الوداع عاهدت الله إن رزقني ثانيا زيارة العسكريّين عليهما‌السلام أقيم في سامرّاء عشرة أيّام ، فسهّل لي ذلك ورزقني الله الزيارة في سنة 1323 ، فلمّا وصلت الكاظمين عليهما‌السلام ابتلي بالرمد الشديد قرّة عيني السيّد محمّد وكان عمره أربع سنين ولم يكن لي ولد سواه.

    فاشتغلت بالمعالجة أيّاما فلم يفد ، فارتحلنا إلى سرّ من رأى قاصدا أن أقيم فيها عشرة أيّام وفاء لعهدي السابق ، فاكتريت العربيّة وهي خير مركوب للمسافر في تلك الأيّام فبينما نحن سائرون اشتدّ الرمد أضعاف ما يكون لحركة العربيّة والغبار وحرارة الهواء ، فلمّا وصلنا سامرّاء أخذت الصبي على الفور وجئت به إلى قدس الحكماء المعروف بحافظ الصحّة وكان أفلاطون عصره ، انتخبه الميرزا الكبير قدس‌سره وأسكنه في سامرّاء لرفاهيّة المراجعين إلى الطبيب. فاشتغل بالمعالجة فما أفاد ، فقال لي : يجب عليك أن ترجع إلى الكاظميّة وتذهب إلى بغداد عند الدكتور الفلاني فإنّه متخصّص في معالجة الرمد ، فعجّل بالمسير فإنّ المرض خطر.
    قال : فلمّا سمعت هذه المقالة اظلمّت الدنيا عليّ ودارت عيناي وكاد أن ينصدع قلبي لأنّه لا ولد لي غيره ومع ذلك كلّه كنت مشتغلا بالدعاء والزيارة في الروضة البهيّة والسرداب المطهّر وفاء لعهدي السابق.
    فلمّا مضت من مدّة إقامتي سبعة أيّام اشتدّ وجع عين الصبي بحيث أنّه ما هدأ من صراخه وبكائه ، وما ذاق أهل الدار طعم الرقاد بل ولا جيراننا في تلك الليلة ، فلمّا أصبحنا راجعنا حافظ الصحّة أوّلا والتمسنا حضوره ، فلمّا حضر وفتح عين الصبي تغيّر وجهه وضرب كفّه على كفّه وجعل يتأوّه ثمّ عاتبنا بكلّ لسان وقال : أنتم أعميتم عين هذا الصبي لأنّي وصّيتكم أن تعجّلوا في الرواح إلى بغداد فنبذتم وصيّتي وراء ظهوركم ، ثمّ وصّيتكم ثانيا وثالثا ، وبيّنت لكم أنّ المرض خطر فلم تكترثوا بقولي ، فأمّا الآن فرواحكم إلى بغداد أيضا لا يفيد لأنّ الصبي عمي ، وكان اضطرابه ووجعه لأجل الغدّتين اللتين حدثنا في عينيه وهما أفسدتا إنسان العين.
    قال : فلمّا سمعت هذه المقالة اضطربت اضطرابا شديدا وبقيت كالجسد الذي لا روح فيه ، فالغدّتان برزتا من عيني الصبي مثل اللوزة قأعادهما قدس الحكماء بصعوبة في العين فغشي على الطفل من كثرة الوجع.

    فاشتهر أمر الصبي عند سماحة الإمام العلّامة حجّة الإسلام الميرزا محمّد تقي الشيرازي طاب رمسه وعند سائر الهيئة العلميّة بسامرّاء ، وكانوا يتأسّفون ترحّما عليّ ، فلمّا انتهت مدّة إقامتي بسامرّاء اكتريت عربيّة وعزمت على الحركة وتشرّفت لزيارة الوداع في الروضة البهيّة وجلست بعد الزيارة عند رأس الإمامين عليهما‌السلام مشغولا بقرائة زيارة عاشوراء ففي خلال ذلك دخل خادمنا الحاج فرهاد إلى الروضة البهيّة ومعه الصبيّ فانكبّ لتقبيل العتبة وجعل يمسح وجه الصبي وعينيه بالعتبة المقدّسة وكانتا معصّبتين بعصابة ، فأدخل الصبي في الروضة واشتغل بزيارة الوداع وجعل يمسح وجه الصبي بالشبّاك المطهّر ثمّ خرج.
    وكنت أنظر هذه الحالات ، وأنا مشتغل بزيارة عاشوراء ، فتذكّرت حال الصبي وما جرى عليه وإنّه دخل سامرّاء بصيرا ويخرج وهو أعمى فتغيّر حالي وجرت دمعتي وعلت صرختي من غير اختيار وارتعدت فرائصي وتهيّجت أحزاني ، فنسيت ما أنا فيه من زيارة عاشوراء فنهضت مسرعا إلى الشبّاك في نهاية الجزع والانكسار وتكلّمت بما هو خلاف الأدب وقلت : يا سيّدي ، أمّا أنا فقد وفيت بعهدي وأمّا أنتما أفترضيان أن أجيء إليكما بولدي بصيرا وأرجع من عندكما وهو أعمى؟ فلم أزل أخاطبهما بأمثال هذه الكلمات مع الأنين والصراخ إلى أن قلّت عبرتي وهدأت زفرتي ، فرجعت إلى مكاني لأتمّم زيارة عاشوراء ، فإذا بالصبي قد دخل الروضة البهيّة وخاله من ورائه ، فجاء الصبيّ حتّى جلس على ركبتي وقال : يا أبتاه ، عيّني برئت وصحّت ولا يوجد بهما رمد ، فنظرت متعجّبا مندهشا فرأيتهما صحيحين لا يوجد بهما آثار الرمد ولا الحمرة مع أنّهما مشدودتان منذ عشرة أيّام ، والغدّتان البارزتان منهما مثل اللوزتين والصبي لا يرقد ليلا ولا نهارا ، فسألت عن خاله : ما الخبر ، وما مضى من خروجك من الروضة إلّا أقلّ من ربع ساعة والصبيّ كان على ما به من الرمد مشدود العينين؟

    قال : نعم ، الأمر كما تقول ، لكن لمّا خرجنا من الروضة ورأس الصبي كان على كتفي وهو لم يبصر شيئا وأمشي في الصحن ننتظرك لكي تخرج من الروضة ونذهب إلى العربيّة فإذا بالصبي رفع رأسه وأخذ العصابة من عينيه وقال : (ببين آقا دائى چشمم خوب شده است) يعني : أنظر يا خال إلى عيني وقد برئتا من الرمد ، فجئنا إليك مسرعا لنبشّرك بذلك.
    قال : فلمّا سمعت هذه المقالة سجدت سجدة الشكر وعلمت علما يقينيّا بأنّ ذلك من كرامة الإمامين الهمامين العسكريّين عليهما‌السلام ، فنهضت إلى الشبّاك معتذرا متشكّرا ، فودّعت الإمامين عليهما‌السلام وخرجت من الروضة البهيّة فرحا مسرورا وجئت إلى دار قدس الحكماء وأوقفت الصبي في خارج الدار عند خاله ودخلت منفردا وقلت له : يا مولاي ، اليوم نترخّص من خدمتكم فأحببت أن تصفوا لنا دواء ينتفع به الصبي ، فلم يكترث بقولي ولم يلتفت إليّ ، ثمّ رفع رأسه إليّ مغضبا وقال : لا ينبغي لمثلي أن يستهزء به ، فهل دواء بعد العمى؟! أنتم أعميتم الصبي حيث خالفتموني منذ أصررت عليكم بالتعجيل على الرواح إلى بغداد عند الدكتور الفلاني ليعالجه ، فبعد العمى أيّ دواء أصف لكم؟!
    فعند ذلك ناديت خال الصبي من خارج الدار ، فدخل مع الصبي فتمثّل بين يديه ، فلمّا نظر قدس الحكماء إليه بهتت هيئته وجعل ينظر إليه كالمندهش ثمّ انكبّ على الصبي فجعل يقبّل عينه ويطوف حوله وهو يبكي بكاء شديدا ويقول : أين ذهبت الغدّتان البارزتان؟ أين الرمد الذي لا يقدر على معالجته إلّا المسيح عليه‌السلام روحي وأرواح العالمين لكم الفدا يا آل بيت المصطفى.
    قال : وخرجنا من دار قدس الحكماء إلى دار سماحة الإمام العلّامة حجّة الإسلام الميرزا محمّد تقي أعلى الله مقامه ، وكان مطّلعا على حال الصبي ، فلمّا نظر إليه جعل يقبّل عيني الصبي ويبكي ، ثمّ قال لي : ينبغي لكم أن تؤخّروا الرواح إلى

    الغد حتّى نأمر بإضائة البلدة. فقلت له : يا مولاي ، لا يمكنني لأنّي أخذت العربيّة والمكاري ينتظرنا ، فودّعته ، فسرت إلى الكاظمين عليهما‌السلام.
    قال : وكان الصبي من بركة العسكريّين عليهما‌السلام اليوم من الأفاضل وقد مضى من عمره اليوم ثلاثون سنة وله حظّ وافر من العلوم الشرعيّة والعلوم العصريّة.
    التاسعة : قضاء حاجة ورّام بن أبي فراس
    جاء في الثالث عشر من البحار (1) نقلا عن كتاب النجوم للسيّد الأجل عليّ بن طاوس رضى الله عنه : ومن ذلك ما حدّثني به الرشيد أبو العبّاس بن ميمون الواسطي ونحن مصعدون إلى سامرّاء قال : لمّا توجّه الشيخ ورّام بن أبي فراس قدّس الله روحه من الحلّة متألّما من المغازي وأقام بالمشهد المقدّس الكاظمي شهرين إلّا سبعة أيّام ، قال : فتوجّهت من واسط إلى سرّ من رأى وكان البرد شديدا ، فاجتمعت مع الشيخ بالمشهد الكاظمي وعرّفته عزمي على الزيارة ، فقال لي : أريد أن أناولك رقعة تشدّها في تكّة لباسك وإذا وصلت إلى القبّة الشريفة ويكون دخولك في أوّل الليل ولم يبق عندك أحد ، وكنت آخر من يخرج فاجعل الرقعة عند القبّة فإذا جئت بكرة ولم تجد الرقعة فلا تقل لأحد شيئا.
    قال : ففعلت ما أمرني وجئت بكرة فلم أجد الرقعة وانحدرت إلى أهلي وكان الشيخ قد سبقني إلى أهله على اختياره ، فلمّا جئت في أوان الزيارة ولقيته في منزله بالحلّة قال لي : تلك الحاجة انقضت.
    وكان ورّام بن أبي فراس من مشاهير العلماء ، ذكره في روضات الجنّات وقال ما ملخّصه : الأمير الزاهد أبو الحسين ورّام بن أبي فراس ، ينتهي نسبه إلى إبراهيم بن
    __________________
    (1) بحار الأنوار 13 : 118 الطبعة القديمة.

    مالك الأشتر النخعي صاحب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان ورّام هذا عالما فاضلا جليلا وهو جدّ السيّد ابن طاوس لأمّه ، وكان في الحلّة ، وله كتاب تنبيه الخاطر المشهور بمجموعة ورّام ، في الحكم والمواعظ ، طبع في ايران. يروي عن الشيخ محمود الحمّص ، ويروي عنه الشيخ منتجب الدين ومحمّد بن جعفر المشهدي صاحب المزار الكبير.
    وقال في ترجمة عليّ بن طاوس : ورّام بن أبي فراس هو ممّن يقتدى بفعاله ، وإنّه أوصى أن يجعل في فمه بعد وفاته فصّ عقيق عليه أسماء الأئمّة عليهم‌السلام ، فنقشت أنا أيضا فصّا عقيقا عليه : الله ربّي ، ومحمّد نبيّ ، وعليّ إمامي ، وسمّيت الأئمّة ثمّ كتبت أنّهم وسيلتي وأئمّتي ، وأوصيت أن يجعل في فمي بعد الموت ليكون جواب الملكين عند المسائلة في القبر.
    العاشرة : حكاية المولى علي الطهراني
    ذكر العلّامة النوري قدس‌سره في كتابه جنّة المأوى ، قال : حدّثني مشافهة العالم العامل فخر الأواخر وذخر الأوائل ، شمس فلك الزهد والتقى ، وحاوي درجات السداد والهدى ، الفقيه المؤيّد النبيل ، شيخنا الأجل المولى عليّ بن الميرزا خليل الطهراني المتوطّن في الغري حيّا وميّتا ، وكان يزور أئمّة سامرّاء في أغلب السنين ويأنس بالسرداب المغيب ، ويستمدّ فيه الفيوضات ويعتقد فيه رجاء نيل المكرمات ، وكان يقول : إنّي ما زرت مرّة إلّا ورأيت كرامة ونلت مكرمة ، وكان يستر ما رآه غير أنّه ذكر لي وسمع عنه غيري ، فقال :
    إنّي كثيرا ما وصلت إلى باب السرداب الشريف في جوف الليل المظلم وحين هدأ الناس فأرى عند الباب قبل النزول من الدرج نورا يشرق من سرداب الغيبة

    على جدران الدهليز الأوّل ويتحرّك من موضع إلى موضع آخر كان بيد أحد هناك شمعة مضيئة وهو ينتقل من مكان إلى آخر فيتحرّك النور هنا بحركته ثمّ أنزل وأدخل في السرداب الشريف فما أجد أحدا ولا أرى سراجا.
    وعن العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر الكاظمي قدس‌سره قال : دخل في سامرّاء العلّامة المهذّب البارع النقي المولى عليّ بن الميرزا خليل الطهراني فنزل عندي باستدعاء منّي عنه ، فشرطت معه إذا قام لصلاة الليل فلا يوقظني عند النوم لأنّي كنت مشغولا بالمطالعة طول الليل فلا بدّ لي أن أستريح مقدارا منها. فقال : أرضيك. فنام في الليل وأنا كنت مشغولا بالمطالعة ، فلمّا نمت وقد مضى أكثر الليل فبينما أنا كذلك قام هو للتهجّد ، فأقبل يوقظني فاستعفيت عنه فلم يفد ، فامتثلت أمره فقمت فأمرني بالتهجّد ، فلمّا فرغنا أمرني بالخروج إلى صحن العسكريّين عليهما‌السلام فكنت أقفو أثره إلى السرداب المطهّر فإذا بنور يتلألأ كالشمس الضاحية ، فقال لي : ترى ما أرى؟ قلت : نعم يا مولاي ، قال : هذا نور سيّدنا الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه ، فحمدت الله حمد الشاكرين.
    أقول : وأمثال هذه الحكايات كثيرة جدّا ذكرها جماعة من العلماء والأتقياء حين تشرّفهم بزيارة السرداب المطهّر.
    منهم : العلّامة الحجّة الشيخ إسماعيل المحلّاتي صاحب كتاب نور العلم والإيمان.
    ومنهم : العلّامة المحقّق البارع السيّد محمّد تقي.
    ومنهم : العالم الجليل الشيخ عبّاس علي الاصفهاني.
    ومنهم : الثقة الجليل السيّد جواد بن السيّد محمّد رضا الخراساني.
    ومنهم : الشيخ محمّد علي بن الشيخ محمّد باقر بن الشيخ محمّد تقي الاصفهاني. وسنشير إلى بعضها في الأجزاء الآتية إن شاء الله. وسيأتي في أدعية الحجّة أنّ السيّد

    ابن طاوس قال : كنت بسرّ من رأى وسمعت سحرا في السرداب المطهّر دعاء القائم عجّل الله تعالى فرجه فحفظت منه الدعاء.
    الحادية عشرة : حكاية السيّد محمّد تقي الشهرستاني
    رأيت بخطّ العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء دام وجوده وقد نقل هذه الحكاية وأدرجها في مستدركه على البحار ، قال : حدّثني السيّد الثقة الجليل والعالم العيلم النبيل السيّد علي أصغر الشهرستاني قدس‌سره قال : زار والدي السيّد محمّد تقي في سامرّاء ومعه السيّدة الجليلة العلويّة والدتي طاب ثراها راكبين على بغل عليه محمل وكانت والدتي في أحد شقّي المحمل مع طفل رضيع لها ، وفي الشقّ الآخر أخي المرحوم السيّد آغا علي واثنان من إخوتي الصغار ، والوالد راكب على دابّة أخرى ، كانوا يمشون متفرّقين في الجادّة مع القافلة ، ولمّا بلغوا إلى ثلاثة فراسخ من سامرّاء أعيت الدابّة التي كان عليها المحمل والولد مع القافلة والمحمل تأخّر عنها حتّى غابت القافلة ، فوقفت الدابّة حتّى لا تتقدّم خطوة والمكاري كان يمشي ورائها ، فلمّا رأى هذه الحالة غلب عليه الخوف فجاء إلى العلويّة فتمثّل بين يديها وقال : أيّتها العلويّة ، إنّ الدابّة أعيت عن المشي كما تريها ، والطريق مخوف ، فتوسّلي بأجدادك الطاهرين وإلّا فما أظنّ أن ننجو من هذه الهلكة لأنّ الطريق لا يخلو من اللصوص والفتّاكين.
    فاضطربت العلويّة وجزعت وبكت وتوسّلت بصاحب السرداب المطهّر ، وبينما هي كذلك فإذا بسيّد كأنّ وجهه يلمع من النور ، عليه آثار الأبّهة والجلالة ، وقد ظهر من بين تلك التلال والأودية ، عليه ثياب بيض فاخرة ، فنظر إلى تلك الدابّة التي عليها المحمل نظرا حادّا وتبسّم وغاب ، وإذا بالدابّة التي كانت قد أعيت حتّى

    وقفت عن المشي كأنّها صار لها جناحان فجعلت تمشي بأسرع مشي وأحسنه حتّى وردوا إلى سامرّاء قبل نزول القافلة بزمان ، ولم يمرّوا بالقافلة في طريقهم ولم يروا أحدا منهم ، نزلوا في الدار التي كان نزل بها ابن عمّنا العلّامة الحاجّ الميرزا محمّد حسين الشهرستاني ، وكان قد زار قبلهم ، ولمّا رآهم وردوا قبل الزوّار تعجّب من ذلك وقال : كيف وردتم قبل نزول القافلة منفردين مع هذا الطريق المخوف؟ ثمّ ورد السيّد مع القافلة بعدهم بزمان وكانوا في غاية التشويش والاضطراب لفقدهم ذلك المحمل ، فلمّا رأوهم فرحوا وعلموا أنّه من بركات الإمام المنتظر عليه‌السلام ، فحمدوا الله حمد الشاكرين.
    الثانية عشرة : عروض العمى على السيّد شاهر وزواله
    حدّث العلّامة النوري قدس‌سره في دار السلام (1) عن الثقة الأمين آقا محمّد الشمّاع ، قال : إنّ السيّد شاهر كان أخا للسيّد حسين الكليدار والد السيّد علي الكليدار ـ الذي تشيّع بسبب شيخنا الأستاذ العلّامة الشيخ عبد الحسين الطهراني أعلى الله مقامه ـ وكان نائب أخيه في فتح أبواب الروضة المقدّسة للعسكريّين عليهما‌السلام وإغلاقها ، قال : كنت ليلة في الحرم الشريف إلى أن خرج من كان فيه ولم يبق أحد ، فأردت إغلاق الباب فأغلقت أحد البابين ، ولمّا أردت إغلاق الآخر رأيت سيّدا جليلا نبيلا دخل الحضرة في غاية من السكينة والوقار بتمام الخشوع ، فقلت : لعلّه يخفّف في زيارته ، فما منعته عن الدخول ، وكان بيده كتابا ، فلمّا استقرّ تجاه القبر المطهّر شرع في الزيارة الجامعة الكبيرة بترتيل واطمينان ويبكي في خلالها بكاء شديدا ، فدنوت منه وسألت منه التخفيف فيها والتعجيل في الخروج ، فلم يلتفت
    __________________
    (1) دار السلام : 284.

    إليّ أصلا ، فجلست هنيئة فضاق خلقي فقمت إليه ثانيا وذكرت له بعض ما يسوءه ، فلم يشعر بي وظنّي أنّه ذكر المرّة الثالثة قال : فأخذت الكتاب من يده وأغلظت القول معه فلم يلتفت إليّ كأنّه لم يسمع كلامي وهو على ما عليه من التأنّي والبكاء والخشوع.
    قال : فلمّا أخذت الكتاب منه وجدت عيني لا تبصر شيئا أصلا ، فاجتهدت في ذلك فوجدتها عمياء ، فقرّبت نفسي إلى الباب وأخذت بطرفيه منتظرا لخروجه ، فلمّا فرغ من الزيارة مشى إلى خلف الضريح وزار السيّدة نرجس والسيّدة حكيمة وأنا أسمع كلامه ، فلمّا وصل إلى الباب قاصدا للخروج أخذت ثوبه وتضرّعت إليه وأقسمت عليه أن يتجاوز عنّي ويردّ بصري إلى ما كان ، فأخذ منّي الكتاب وأشار إلى عيني فصارت كالأولى كأنّها لم تكن عميا ، فسرحت طرفي فلم أجد أحدا في الرواق ولا في خارجه.
    وقد نظم هذه القصّة العلّامة السماوي دام وجوده في وشايح السرّاء (1) ، فقال :
    وقد روي عن خادم الشعاع
    محمّد المعروف بالشمّاع

    عن شاهر أخي الحسين الخازن
    وكان في المقام كالمعاون

    قال رأيت ذات ليلة فتى
    في وقت سدّ الباب مسرعا أتى

    فقلت في نفسي هذا عجل
    وخير ما أعمل أنّي أمهل

    فظلت واقفا وظلّ يدعو
    فضاق منّي بدعاه الذرع

    وقلت قم واخرج فزار الجامعه
    مرتّلا في الكلمات الناصعه

    مردّدا في عبرة مقاله
    كأنّي لم أطلب استعجاله

    وزدته فلم يكن يرتاب
    وكان في يمينه كتاب

    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 19.


    فجئت واستسلبته منه فما
    أدار لي لحظا ولا أجرى فما

    فلم أمل حتّى وجدت عيني
    عمياء لم تبصر لذات البين

    ورحت أمشي مشية الذليل
    رجليّ حيرى ويدي دليلي

    وصرت بالباب على تربّص
    أن سيعود بالرضا مخلصي

    وجاء فاقتنصته مستعطفا
    فأخذ الكتاب منّي وعفا

    من بعد ما استشفعت بالأئمّه
    ورمت منه لعيوني الرحمه

    فعاد في عيني ذاك النور
    كأنّما في يده الأمور

    وما عرفت أين عنّي قد خرج
    في الأرض غار أو إلى السما عرج

    فصرت لا أمنع من قد زارا
    ولا أصدّ الليل والنهارا

    الثالثة عشرة : رؤيا العلّامة الآغا علي رضا الاصبهاني
    جاء في دار السلام (1) ما هذا لفظه ، قال : حدّثني العالم العيلم الآقا علي رضا الاصفهاني قدس‌سره قال : دخل في اصفهان فتى من أعيان بلد كردستان لحاجة عرضت له ، فلمّا طال زمان مكثه دعته الضرورة أن طلب منّي أربعين تومانا فوفيته له ثمّ رجع إلى بلده وأرسل إليّ المبلغ المذكور وزاد عليه أربعة توامين من جهة ربحه ولم أكن أطلبه منه شرعا ، فأخذته وصرفته في حوائجي.
    فرأيت ليلة في المنام كأنّ قائلا يقول لي : كيف بك إذا حميت تلك الدراهم فتكوى بها جسدك ولم أعرف القائل ، فانتبهت فزعا مذعورا ولم يكن عهدي التكسّب من مثله غير تلك الواقعة. ثمّ مضى على ذلك قريب من سبع سنين وأخذ منّي رجل سبعين تومانا ورجع إلى بلده فطال الزمان ، فلمّا ردّه بعد تعب ومطالبة
    __________________
    (1) دار السلام : 293.


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 10:59 pm


    أكيدة زاد عليها قريبا من خمسة عشر تومانا ونسيت أن أجعل لها حيلة شرعيّة ، فوفّقت للزيارة.
    فلمّا دخلت سامرّاء رأيت فيها العالم الزاهد الجليل المولى زين العابدين السلماسيّ مشغولا بعمارة الروضة البهيّة وكانت بيننا صداقة تامّة وبقيت أيّاما وكنت أبيت الليل في الحضرة المقدّسة وأشتغل بالزيارة والعبادة ، ولمّا كانت ليلة الجمعة أخذت معي كتاب الكافي للكليني رحمه‌الله فبقيت فيه وأغلق الكليدار أبواب الحضرة الشريفة وكنت مشغولا بعملي من الزيارة والصلاة والمطالعة في زمان الكلالة ، فلمّا كان آخر الليل غلبني النوم فدافعته فلم يندفع ، فقمت وأتيت إلى الزاوية التي تلي الرجلين وقعدت متّكئا على الحائط وهجعت فرأيت من حينه أنّ الإمام أبا محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام قد خرج من الضريح المقدّس ووضع كرسيّ هناك وجلس عليه والنور يتلألأ من بين عينيه بحيث لم أقدر على النظر إليه وقال لي : ما هذا الكتاب؟ فقلت : أصول الكافي ، فقال عليه‌السلام : عدّ منه أوراقا ثمّ انظر في الصفحة اليسرى واقرأه لتنظر ما يقول جدّي في حقّ جدّنا إبراهيم عليه‌السلام ، قال : وذكر كلاما آخر نسيته ، ثمّ قال : ألم أعهد إليك قبل ذلك بسبع سنين أنّه لا يحلّ التصرّف في مثل هذه الدراهم فكيف حالك إن حميت جميعها ووضعت على بدنك ، ثمّ قال : قم فإنّ الكليدار جاء واشتغل بفتح الأبواب.
    قال : فانتبهت فزعا ووثبت من مكاني دفعة من رعب دخل عليّ بحيث سقطت عمامتي عن رأسي فلم ألتفت إليها وذهبت إلى قريب الباب فسمعت حركة المفتاح واشتغال الكليدار بفتح الباب ، فوقفت هنيئة فالتفتّ أنّ رأسي مكشوف ، فقلت : لو يروني على هذه الحالة لقالوا إنّه لمجنون ، فرجعت ووضعت العمامة على رأسي وخرجت من الروضة المقدّسة خائفا خجلا ، وتائبا متبصّرا ، والحمد لله.

    قال : وفي هذه الحكاية من الألطاف الخفيّة والمواعظ البليغة والأسرار الغيبيّه ما لا يخفى. وقد نظم هذه الحكاية العلّامة السماوي في وشايح السرّاء (1) بقوله : «وذكر النوريّ عمّن قرّضا» إلى آخر ما قال.
    الرابعة عشرة : نجاة السيّد محمّد خزانة من حادثة القطار
    رأيت بخطّ المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء ما حاصل تعريبه ، قال : حدّثني العلّامة المحقّق الفقيه البارع الميرزا هادي الخراساني قال : حدّثني السيّد الورع الجليل السيّد محمّد خزانة قال : خرجت من بغداد يوم الأربعاء سنة 1334 متوجّها إلى زيارة أئمّة سامرّاء عليهم‌السلام فلمّا وصلت المحطّة كنت أنتظر مجيء القطار وكان لا يقف فيها إلّا دقايق ليركب الزوّار ، فعزمت على نفسي أنّه إذا طلع من بعيد أسبق الزائرين في الركوب قبل وقوف القطار ، ففعلت فإذا القطار طرحني تحته حين تعلّقت به فلم أشعر بذلك غير أنّي رأيت القطار يمرّ من فوقي وإنّي وقعت إلى يمين السكّة وخرجت من طرف يسارها والقطار يسير ويمشي على رسله ، فلمّا علم السائق وكان رجلا نصرانيّا أوقف القطار وجاء إليّ ولطمني وجاء الناس يوبّخوني ويعاتبوني على ما فعلته ، فلمّا تأمّلوا كيفيّة القضيّة وما جرى عليّ أيقنوا بأنّها معجزة باهرة لأنّهم رأوا أنّ زادي وغراضي صارت مثل الطحين تحت القطار ، وأنا خرجت سالما ما أصابني ألم أصلا ، فاعتذر الناس عنّي ، وقال لي السائق : هذه كرامة وإلّا لم يعهد منذ سنين أنا في هذا العمل أن أرى أحدا وقع تحت القطار وخرج سالما ، والحمد لله ربّ العالمين.
    __________________
    (1) وشايح السرّاء : 18.

    أقول : سيأتي جملة أخرى في ذيل معجزات العسكريّين في الأجزاء الآتية إن شاء الله ، ونكتفي هنا بهذا القليل لأنّ كرامات قبور الأئمّة عليهم‌السلام غير محصورة لا يمكن إحصاؤها ، ولقد أجاد العلّامة السماوي بعد عدّه شرذمة قليلة منها كما أشار إليها ، قال دام وجوده :
    وهي كنجمة من الدراري
    أو وردة من يانع الأزهار

    أو نقرة الطائر من بحر خضم
    أو ذرّة الرضراض من طود أشم

    ولا أقول درّة من عقد
    لأنّه يحصر عند العدّ

    فقد أرى مناقب المحجّب
    لم تتّسع لها بطون الكتب

    فكيف لو ضممت ما لجدّه
    ولأبيه المجتبى من بعده

    مناقب بمثلها معاضده
    بين رواية إلى مشاهده

    ينقلهنّ متق عن متّق
    وما يعبح لبنات الطرق

    من كلّ غرّاء المحيّا معجزه
    لم يجد الشانئ فيها مغمزه

    إذ لم يجد ذو مطلب بني الرضا
    إلّا انقضى وعاد منه بالرضا



    المدفونون في سامرّاء القديمة ونواحيها من العلماء والأعيان
    منهم : إبراهيم بن العبّاس الصولي.
    ومنهم : يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمان الحماني. تقدّم تحت عنوان المدفونين حول الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام.
    ومنهم : يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكّيت ـ بكسر السين المهملة والكاف المشدّدة معا وسكون الباء المثنّاة من تحت والتاء المثنّاة من فوق ـ قتله المتوكّل لأجل تشيّعه في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة 244.
    وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي إنّه مات وقد بلغ 58 سنة.
    قال السيوطي في تاريخ الخلفا (1) : وفي سنة أربع وأربعين ومأتين قتل المتوكّل يعقوب بن السكّيت الإمام في العربيّة فإنّه ندبه إلى تعليم أولاده ، فنظر المتوكّل يوما إلى ولديه المعتزّ والمؤيّد ، فقال لابن السكّيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين؟ فقال : قنبر مولى عليّ بن أبي طالب خير منهما. فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتّى مات. وقيل : أمر بسلّ لسانه فمات.
    وقال الدميري في ترجمة القبّرة من حياة الحيوان : فأمر الأتراك بسلّ لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات في التأريخ المذكور.
    __________________
    (1) تاريخ الخلفا : 139.

    أقوال العلماء فيه :
    قال النجاشي : يعقوب بن إسحاق السكّيت ، كنيته أبو يوسف ، كان مقدّما عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث عليهما‌السلام وكانا يخصّانه ، وله عن أبي جعفر رواية ومسائل ، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه وأمره مشهور ، وكان وجيها في علم العربيّة واللغة ، ثقة ، مصدّقا ، لا يطعن عليه ، وله كتب ، ثمّ عدّ كتبه الآتي ذكرها.
    ومثله في القسم الأوّل من خلاصة العلّامة أعلى الله مقامه ، والباب الأوّل من رجال ابن داود ، ووثّقه في الوجيزة والبلغة والمشتركاتين وغيرها ، وعدّه في الحاوي في فصل الثقات.
    وعن الخليل : إنّه من أفاضل الإماميّة وثقاتهم.
    وعن المولى صالح : إنّه ثقت ثبت عالم بالعربيّة واللغة ، مصدّق لا يطعن عليه.
    وفي مجمع البحرين : إنّه ثقة عند أهل الرجال.
    وذكره التفريشي في النقد وأثنى عليه ، وعبّر عنه السيوطي بالإمام في العربيّة.
    وقال المحدّث القمّي في الكنى والألقاب : إنّه دورقيّ (ودورق على وزن جعفر بليدة من أعمال خوزستان من كور الأهواز) وهو الإمامي النحوي اللغوي الأديب ، ذكره كثير من المؤرّخين وأثنوا عليه ، وكان ثقة جليلا من عظماء الشيعة ، ويعدّ من خواصّ الإمامين التقيّين عليهما‌السلام ، وكان حامل لواء علم العربيّة والأدب والشعر واللغة والنحو ، وله تصانيف كثيرة.
    وقال الخطيب في تاريخ بغداد : ابن السكّيت كان من أهل الفضل والدين ، موثوقا بروايته ، وكان يؤدّب ولد جعفر المتوكّل ، روى عن أبي عمر والشيباني ، حدّث عنه أبو عكرمة الضبي وأبو سعيد السكري وميمون بن هارون الكاتب وعبد الله بن محمّد ابن رستم وأحمد بن فرج المقري.

    وقال في جامع الروات : إنّه يروي عن ابن السكّيت سهل بن الحسن وسهل بن زياد وعليّ بن أبي القاسم.
    أخباره :
    قال الخطيب في تاريخ بغداد : حكي أنّ الفرّاء سأل السكّيت عن نسبه ، فقال : خوزيّ أصلحك الله من قرى دورق من كور الأهواز.
    وكان يعقوب بن السكّيت يؤدّب مع أبيه بمدينة السلام في درب القنطرة صبيان العامّة حتّى احتاج إلى الكسب فجعل يتعلّم النحو.
    وحكى عن أبيه أنّه حجّ فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وسأل الله أن يعلّم ابنه النحو ، قال : فتعلّم النحو واللغة ، وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة فأجروا له كلّ دفعة عشرة وأكثر حتّى اختلف إلى بشر وإبراهيم ابني هارون أخوين كانا يكتبان لمحمّد بن عبد الله بن طاهر ، فما زال يختلف إليهما وإلى أولادهما دهرا فاحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلّم ولده وجعل ولده في حجر إبراهيم ثمّ قطع ليعقوب رزقا خمسمائة درهم ثمّ جعلها ألف درهم. وكان يعقوب قد خرج قبل ذلك إلى سرّ من رأى وذلك في أيّام المتوكّل فصيّره عبد الله بن يحيى بن خاقان عند المتوكّل فضمّ إليه ولده وأسنى له الرزق.
    وقال محمّد بن العبّاس الخزّاز : سمعت أبا عمر اللغوي يقول : سمعت ثعلبا وقد ذكر يعقوب بن السكّيت ، فقال : ما عرفنا له خزية قطّ.
    قال أبو الحسن الطوسي : كنّا في مجلس علي اللحياني وكان عازما على أن يملي نوادره ضعف ما أملى ، فقال يوما : تقول العرب : مثل استعان بذقنه ، فقام إليه ابن السكّيت وهو حدث فقال : يا أبا الحسن ، إنّما هو تقول العرب : مثقل استعان

    بدفّيه ، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه ، فقطع الإملاء.
    فلمّا كان في المجلس الثاني أملى فقال : تقول العرب : هو جاري مكاشري ، فقام إليه يعقوب بن السكّيت فقال : أعزّك الله ، وما معنى مكاشري؟ إنّما هو مكاسري ، كسر بيتي إلى كسر بيته. قال : فقطع اللحياني الإملاء ، فما أملى بعد ذلك شيئا.
    وقال الحسين بن عبد المجيب الموصلي : سمعت يعقوب بن السكّيت في مجلس أبي بكر بن شيبة يقول :
    ومن الناس من يجبّك حبّا
    ظاهر الحبّ ليس بالتقصير

    فإذا ما سألته عشر فلس
    ألحق الحبّ باللطيف الخبير

    وقال ثعلب : عدي العبادي أمير المؤمنين في اللغة ، وكان يقول في ابن السكّيت قريبا من هذا.
    قال أبو سهل : سمعت المبرّد يقول : ما رأيت للبغداديّين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق.
    مؤلّفاته :
    قال النجاشي : له كتب منها : إصلاح المنطق ، كتاب الألفاظ ، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه ، كتاب الأضداد ، كتاب المذكّر والمؤنّث ، كتاب المقصور والممدود ، كتاب الطير ، كتاب النبات ، كتاب الوحش ، كتاب الأرضين والجبال والأودية ، كتاب الأصوات ، كتاب ما فيه صنعة من شعر الشعراء ، شعر امرئ القيس ، شعر زهير ، شعر النابغة ، شعر الأعشى ، شعر أبي داود ، شعر بشر بن أبي حازم ، أوس بن حجر ، شعر علقمة الفحل ، شعر طرفة ، شعر عنترة ، شعر عمرو ابن كلثوم ، شعر الحرث بن حلزة اليشكري ، شعر الفرزدق ، شعر الأخطل ، شعر

    جرير ، شعر عامر بن الطفيل ، شعر السليك بن السلكة ، شعر جامع بن مرحبة ، شعر عمرو بن أحمر ، شعر حسان ابن ثابت.
    أخبرنا أحمد بن عبد السلام بن الحسين بن محمّد بن عبد الله البصري قال : أخبرنا أبو القاسم عمرو بن محمّد الخلال قال : حدّثنا أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة قال : حدّثنا تغلب عن يعقوب ، انتهى.
    وقال ابن خلّكان : قال بعض العلماء : ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة بمثل إصلاح المنطق ، ولا شكّ أنّه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه ، وقد عنى به جماعة ، واختصره الوزير المغربي ، وهذّبه الخطيب التبريزي.
    وقال أبو العبّاس المبرّد : ما رأيت للبغداديّين كتابا أحسن من كتاب ابن السكّيت في المنطق.
    وقال تغلب : أجمع أصحابنا أنّه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكّيت.
    وقال العلّامة السيّد محمّد باقر الخوانساري في ترجمة يعقوب في روضاته بعد الثناء عليه : وقد اختصر كتابه إصلاح المنطق الشيخ أبو المكارم مجد الدين عليّ بن محمّد المطلّب الكاتب المغربي ، وسمّاه بكتاب الإيضاح في اختصار كتاب الإصلاح ، ورتّبه على حروف المعجم ، وهو الذي اختصر كتاب الغريبين للهروي.
    قال : ومن جملة تلاميذ ابن السكّيت أبو بشر النحوي الشاعر المسمّى باليمان بن اليمان ، وهو الذي نقل في حقّه عن ابن النجّار أنّه من البنديحين ، ولد بها وأصله من الأعاجم من الدهاقين ، ولد أكمه سنة مأتين ونشأ بالبنديحين وحفظ بها أدبا كثيرا وعلما وأشعارا كثيرة ، ثمّ خرج إلى بغداد ولقي العلماء وقرأ على محمّد بن زياد الأعرابي وأبي نصر صاحب الأصمعي وابن السكّيت ودخل البصرة فلقي الزيادي والرياشي.

    قيل : وكان عارفا باللغة ، وله من الكتب كتاب التعفية ، كتاب معاني الشعر ، كتاب العروض.
    شعره :
    في شرح الصحيفة للسيّد عليخان عليه الرحمة قال : ومن غريب ما وقع لأبي يوسف يعقوب المعروف بابن السكّيت ، وكان من أكابر علماء العربيّة وعظماء الشيعة ، وهو من أصحاب الجواد والهادي عليهما‌السلام أنّه قال في التحذير من عثرات اللسان :
    يصاحب الفتى من عشرة بلسانه
    وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

    فعثرته في القول تذهب رأسه
    وعثرته في الرجل تبرء عن السهل

    فاتفق أنّ المتوكّل العبّاسي ألزمه تأديب ولديه المعتزّ والمؤيّد ، فقال له يوما : أيّما أحبّ إليك : ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال : والله إنّ قنبرا خادم عليّ عليه‌السلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكّل للأتراك : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ، فمات رحمه‌الله ، وذلك لخمس خلون من رجب سنة 244.
    وقال الدميري في ترجمة القبّرة من كتابه حياة الحيوان : ومن محاسن شعر ابن السكّيت:
    إذا اشتملت على اليأس القلوب
    وضاق لما به الصدر الرحيب

    وأوطنت المكاره واستقرّت
    وأرست في أماكنها الخطوب

    ولم تر لانكشاف الضرّ وجها
    ولا أغنى بحيلته الأريب

    أتاك على قنوط منك عفو
    يمنّ به اللطيف المستجيب

    وكلّ الحادثات إذا تناهت
    فموصول بها فرج قريب



    الوجه في تركه التقيّة :
    قال المحدّث القمّي في ترجمة ابن السكّيت من كتابه الكنى والألقاب : نقل عن المجلسي الأوّل أنّه قال : اعلم أنّ أمثال هؤلاء الأعلام كانوا يعلمون وجوب التقيّة ولكنّهم كانوا لا يصبرون غضبا لله تعالى بحيث لا يبقى لهم الاختيار عند سماع هذه الأباطيل كما هو الظاهر لمن كان له قوّة في الدين.
    قلت : وقريب من ذلك ما جرى بين أبي بكر ابن عيّاش وموسى بن عيسى العبّاسي الذي أمر بكرب قبر الحسين (في الحكاية التي تقدّم ذكرها).
    وذكر في روضات الجنّات عن الشهيد الثاني أنّه رحمه‌الله كتب في بعض مصنّفاته أنّ في الإلقاءات الجائرة المستحسنة للأنفس إلى الهلكة فعل من يعرض نفسه للقتل في سبيل الله إذ رأى أنّ في قتله عزّة للإسلام ولكن الصبر والتقيّة أحسن كما ورد في قصّة عمّار ووالديه وخباب وبلال في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(1).
    وروى صاحب المحاسن عن ابن مسكان قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّي لأحسبك إذا شتم عليّ بين يديك لو تستطيع أن تقطع أنف شاتمه لفعلت ، فقلت : إي والله جعلت فداك إنّي لهكذا وأهل بيتي ، فقال لي : فلا تفعل ، فو الله لربّما سمعت من يشتم عليّا وما بيني وبينه إلّا أسطوانة فأستتر بها فإذا فرغت من صلاتي فأمرّ به فأسلم عليه وأصافحه.
    ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا في مقام التقيّة ولو لم يكن محلّ التقيّة يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك المداهنة ، فقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر.
    __________________
    (1) النحل : 106.

    وروى الشيخ الكليني عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه‌السلام : إنّي معذّب من قومك مائة ألف ؛ أربعين ألفا من شرارهم وستّين ألفا من خيارهم. فقال : يا ربّ ، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟! فأوحى الله عزوجل إليه : داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي.
    وروى شيخ الطائفة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله تعالى أهبط ملكين إلى قرية ليهلكهم ، فإذا هما برجل تحت الليل قائم يتضرّع إلى الله تعالى ويتعبّد. قال : فقال أحد الملكين للآخر : إنّي أعاود ربّي في هذا الرجل ، فقال الآخر : بل تمضي لما أمرت ، ولا تعاود ربّي فيما قد أمر به. قال : فعاود الآخر ربّه في ذلك ، فأوحى الله إلى الذي لم يعاود ربّه أن أهلكه معهم فقد حلّ به معهم سخطي ، إنّ هذا لم يتمعّر وجهه قطّ غضبا لي ، والملك الذي عاود ربّه فيما أمر سخط الله عليه فأهبطه في جزيرة فهو حيّ الساعة فيها ساخط عليه ربّه.
    وذكر العلّامة الفقيه المامقاني في ترجمة ابن السكّيت من رجاله : إنّ في كتاب الإيمان أنّ اثنين كلّفا بالبراءة من أمير المؤمنين فتبرّأ أحدهما دون الآخر إلى قوله عليه‌السلام : أمّا الأوّل فهو رجل فقيه ، وأمّا الثاني فقد تعجّل بروحه الجنّة ، فإنّه نصّ في عدم ارتكاب الرجل المحرّم ، فتدبّر جيّدا.
    جريان الأحكام الخمسة في التقيّة :
    قال الشهيد رفع الله درجته في القواعد : إنّ التقيّة قد دلّ عليها الكتاب والسنّة. قال الله تعالى في سورة آل عمران : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(1) وقال في سورة
    __________________
    (1) آل عمران : 28.

    النحل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(1) ثمّ ذكر الأخبار في ذلك ، ثمّ قال : التقيّة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة :
    فالواجب : إذا علم أو ظنّ نزول الضرر بتركها به أو ببعض المؤمنين.
    والمستحب : إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا أو يخاف ضررا سهلا ، أو التقيّة في المستحبّ كالترتيب في تسبيح الزهراء عليها‌السلام ، وترك البعض فصول الأذان.
    والمكروه : التقيّة في المستحبّ حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.
    والحرام : التقيّة حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا أو في قتل مسلم.
    والمباح : التقيّة في بعض المباحات التي ترجّحها العامّة ولا يصل بتركها ضرر.
    انتهى.
    أخبار التقيّة :
    وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : قيل لعليّ بن محمّد الهادي عليهما‌السلام : من أكمل الناس في خصال الخير؟ قال : أعملهم بالتقيّة وأقضاهم لحقوق إخوانه.
    وعنه عليه‌السلام : ليس منّا من لم يلزم التقيّة ويصوننا عن سفلة الرعيّة.
    وقد عقد المجلسي قدس‌سره في السادس عشر من البحار بابا وسمّاه باب التقيّة والمداراة ، وأورد فيه أخبارا كثيرة.
    منها : عن الصادق عليه‌السلام : لا دين لمن لا تقيّة له.
    وعنه عليه‌السلام : تسعة أشعار الدين التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء إلّا في شرب النبيذ والمسح على الخفّين.
    __________________
    (1) النحل : 106.

    وعنه عليه‌السلام : عليكم بالتقيّة فإنّه ليس منّا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّة مع من يحذره.
    وعنه عليه‌السلام : عليكم بالتقيّة فإنّه ليس منّا من لم يجعله شعاره.
    وقال عليه‌السلام في تفسير قول الله عزوجل : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)(1) قال : الحسن التقيّة ، والسيّئة الإذاعة.
    وعنه عليه‌السلام : ما من شيء أحبّ إليّ من التقيّة.
    وقال عليه‌السلام : لا والله ما على وجه الأرض شيء أحبّ إليّ من التقيّة ، من كانت له تقيّة رفعه الله ، ومن لم يكن له تقيّة وضعه الله.
    وعنه عليه‌السلام ما تقدّم آنفا من رواية ابن مسكان.
    وعنه عليه‌السلام : من ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منّا.
    وعنه عليه‌السلام : التقيّة ديني ودين آبائي.
    وعنه عليه‌السلام : من أذاع علينا شيئا من أمرنا فهو كمن قتلنا عمدا ولم يقتل خطأ.
    وعنه عليه‌السلام : ليس من شيعة عليّ عليه‌السلام من لا يتّقي.
    وعنه عليه‌السلام : لا دين لمن لا تقيّة له ، وإنّ التقيّة لأوسع ممّا بين السماء والأرض.
    وعنه عليه‌السلام : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلّم في دولة الباطل إلّا بالتقيّة.
    وعنه عليه‌السلام قال : كان أبي يقول : ما شيء أقرّ لعيني من التقيّة ، إنّ التقيّة جنّة المؤمن.
    وعنه عليه‌السلام : كلّما تقارب هذا الأمر كان أشدّ للتقيّة. (أي ظهور الحجّة عليه‌السلام)
    وعن الرضا عليه‌السلام : التقيّة في دار التقيّة واجبة ، ولا حنث على من حلف تقيّة يدفع بها ظلما عن نفسه.
    __________________
    (1) فصّلت : 34.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:01 pm

    وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تمتدحوا بنا عند عدوّنا معلنين بإظهار حبّنا فتذلّلوا أنفسكم عند سلطانكم.
    وعن الباقر عليه‌السلام : إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء فإذا بلغ الدم فلا تقيّة.
    وعن النبيّ : مثل المؤمن الذي لا تقيّة له كمثل جسد لا رأس له.
    وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : والله لو ناديت في عسكري هذا بالحقّ الذي أنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسّرته على ما سمعت من نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ما بقي من عسكري إلّا أقلّه وأذلّة وأرذلة ، ولا ستوحشوا منه ، ولتفرّقوا عنّي ، ولو لا ما عهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ وسمعته منه لفعلت ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال : كلّما اضطرّ إليه العبد فقد أحلّه الله له وأباحه إيّاه.
    وسمعته يقول : إنّ التقيّة من دين الله ولا دين لمن لا تقيّة له.
    وعن الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام : لو قلت إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقا ، والتقيّة في كلّ شيء حتّى يبلغ الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة.
    وروى الكليني في الكافي بسنده عن هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله يقول : إيّاكم أن تعملوا عملا تعيّروا به فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا علينا شينا ، صلوا عشائرهم وعودوا مرضاهم وأشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبأ.
    فقلت : وما الخبأ؟
    قال : التقيّة ، وإنّ تسعة أعشار الدين التقيّة.
    وعن الإمام العسكري عليه‌السلام ـ على ما في الاحتجاج ـ عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّه قال لليوناني الذي أراه المعجزات الباهرة بعد ما أسلم : وآمرك أن تصون دينك وعلمنا الذي أودعناك ، وأسرارنا الذي حمّلناك ، فلا تبد علومنا

    لمن يقابلها بالفساد ويقابلك من أجلها بالشتم واللعن والتناول من العرض والبدن ، ولا تفش سرّنا إلى من يشنّع علينا عند الجاهلين بأحوالنا ، ويعرض أوليائنا لبوادر الجهّال.
    وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك فإنّ الله يقول : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(1) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف ، وفي إظهار البرائة منّا إن حملك الوجل ، وفي ترك الصلوات المكتوبات إذا خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات ، فإنّ تفضيلك أعدائنا علينا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرّنا ، وإنّ إظهارك البرائة منّا عند تقيّتك لا تقدح فينا ولا تنقصنا ، وإن أنت تبرأ منّا بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ، وجاهها الذي به تماسكها ، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك ، وتنقطع به عن العمل في الدين وإصلاح إخوانك المؤمنين.
    وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها ، فإنّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على نفسك وإخوانك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا ، انتهى ما أوردنا ذكره من البحار بحذف الإسناد.
    وذكر المحدّث القمّي في ترجمة أبي القاسم الروحي : إنّ الحسين بن روح النوبختي أحد النواب الأربعة رضوان الله تعالى عليه ، كان من أعقل الناس عند المخالف والموافق ، ويستعمل التقيّة ، وكانت العامّة تعظّمه ، وقد تناظر اثنان فزعم واحد أنّ أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ عمر ثمّ عليّ عليه‌السلام ، وقال الآخر : بل عليّ عليه‌السلام أفضل من عمر ، فدار الكلام بينهما ، فقال أبو القاسم رضى الله عنه : الذي اجتمعت
    __________________
    (1) آل عمران : 28.

    عليه الصحابة هو تقديم الصدّيق ثمّ بعده الفاروق بعده عثان ذو النورين ثمّ عليّ الوصيّ ، وأصحاب الحديث على ذلك ، وهو الصحيح عندنا ، فبقي من حضر المجلس متعجّبا من هذا القول ، وكانت العامّة الحضور يرفعونه على رؤوسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض.
    وبلغ الشيخ أبا القاسم أنّ بوّابا على الباب الأوّل قد لعن معاوية وشتمه ، فأمر بطرده وصرفه عن خدمته ، فبقي مدّة طويلة يسال في أمره فلا والله ما ردّه إلى خدمته ، كلّ ذلك للتقيّة.
    أقول : وسيأتي في ترجمة الحسين بن روح هذه الحكاية بوجه أبسط من ذلك.
    فقال : التقيّة فريضة واجبة علينا في دولة الظالمين ، فمن تركها فقد خالف دين الإماميّة وفارقه ، والروايات في التقيّة أكثر من أن تذكر ، فروي أنّ التقيّة ترس المؤمن ، والإيمان لا تقيّة له ، وإنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له.
    وقال الصادق عليه‌السلام لنعمان بن سعيد : من استعمل التقيّة في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من العزّ ، وإنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه ، ومن لم يملك لسانه ندم.
    حكم العقل بوجوب التقيّة وأنّها لا تختصّ بالشيعة :
    جاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها للعلّامة الحجّة سماحة الإمام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء دام وجوده (1) : إنّ من الأمور التي يشنّع بها بعض الناس على الشيعة ويزدري عليهم بها قولهم بالتقيّة جهلا منهم أيضا بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها ، ولو تثبّتوا في الأمر وتريّثوا في الحكم وصبروا لعرفوا أنّ التقيّة التي تقوم
    __________________
    (1) أصل الشيعة وأصولها : 188 الطبعة الرابعة ، النجف ـ المطبعة الحيدرية.

    بها الشيعة لا تختصّ بهم ولم ينفردوا بها بل هو أمر من ضرورة العقول وعليه جبلّة الطباع وغرايز البشر وشريعة الإسلام في أسس أحكامها وجوهريّات مشروعيّاتها تماشي العقل والعلم جنبا إلى جنب ، وكتفا إلى كتف ، رائدها العلم ، وقائدها العقل ، ولا تنفكّ عنهما قيد شعرة.
    ومن ضروريّات العقول وغرائز النفوس أنّ كلّ إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه المحافظة على حياته وهي أعزّ الأشياء عليه وأحبّها إليه ، نعم قد يهون بذلها في سبيل الشرف وحفظ الكرامة وصيانة الحقّ ومهانة الباطل ، أمّا في غير أمثال هذه المقاصد الشريفة والغايات المقدّسة فالتغرير بها وإلقاؤها في مظانّ الهلكة ومواطن الخطر سفه وحماقة لا يرتضيه عقل ولا شرع ، وقد أجازت شريعة الإسلام المقدّسة للمسلم في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحقّ والعمل به سرّا ريثما تنصر دولة الحقّ وتغلب على الباطل كما أشار إليه جلّ شأنه بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(1) وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(2) ، وقصّة عمّار وأبويه وتعذيب المشركين لهم ولجماعة من الصحابة وحملهم لهم على الشرك وإظهارهم الكفر مشهورة.
    والعمل بالتقيّة له أحكام ثلاثة : فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحقّ نوع تقوية له فله أن يضحّ بنفسه وله أن يحافظ عليها ، وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل وإضلال الحقّ وإحياء الظلم والجور.
    ومن هنا تنصاع لك شمس الحقيقة ضاحية ، وتعرف أنّ اللوم والتعيير بالتقيّة إن
    __________________
    (1) آل عمران : 28.
    (2) النحل : 106.

    كانت تستحقّ اللوم والتعيير ليس على الشيعة بل على من سلبهم موهبة الحرّيّة وألجأهم إلى العمل بالتقيّة.
    تغلّب معاوية على الأمّة وابتزّها الإمرة عليها بغير رضا منها وصار يتلاعب بالشريعة الإسلاميّة حسب أهوائه ، وجعل يتتبّع شيعة عليّ عليه‌السلام ويقتلهم تحت كلّ حجر ، ويأخذ على الظنّ والتهمة ، وسارت على طريقته العوجاء وسياسته الخرقاء الدولة المروانيّة ، ثمّ جاءت العبّاسيّة فزادت على ذلك بنغمات فاضطرّت الشيعة إلى كتمان أمرها تارة ، والتظاهر به أخرى ، زنة ما تقتضيه مناصرة الحقّ ومكافحة الضلال ، وما يحصل به إتمام الحجّة ، وكي لا تعمى سبل الحقّ بتاتا عن الخلق ، ولذا تجد الكثير من رجالات الشيعة وعظمائهم سحقوا التقيّة تحت أقدامهم وقدّموا هياكلهم المقدّسة قرابين للحقّ على مشاقّ البغي وأضاحي في مجازر الجور والبغي.
    أهل استحضرت ذاكرتك شهداء مرج عذراء (قرية من قرى الشام) وهم أربعة عشر من رجال الشيعة ورئيسهم ذلك الصحابي الذي أنهكه الورع والعبادة حجر بن عدي الكندي الذي كان من القادة في فتح الشام ، قتلهم معاوية صبرا ثمّ صار يقول : ما قتلت أحدا إلّا وأنا أعرف فيما قتلته خلا حجر فإنّي لا أعرف بأيّ ذنب قتلته؟ نعم أعرف معاوية بذنب حجر ذنبه ترك العمل بالتقيّة وغرضه إعلان ضلال بني أميّة ومقدار علاقتهم من الدين.
    وهل تذكّرت الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي وعبد الرحمان بن حسان العنزي الذي دفنه زياد في قسّ الناطف حيّا.
    أتراك تذكّرت ميثم التّمار ورشيد الهجري وعبد الله بن يقطر الذي شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة.
    هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ ونطحوا صخرة الباطل وما تهشّمت رؤوسهم حتّى هشّموها ، وما عرفوا أين زرع التقيّة

    وأين واديها ، بل وجدوا العمل بها حراما عليهم ، ولو سكتوا وعملوا بالتقيّة لضاعت البقيّة من الحقّ ، وأصبح دين الإسلام دين معاوية ويزيد وابن زياد دين المكر ، دين الغدر ، دين النفاق ، دين الخداع ، دين كلّ رذيلة ، وأين هذا من الإسلام الذي هو دين كلّ فضيلة.
    أولئك ضحايا الإسلام وقرابين الحقّ ، ولا يغبن عنك ذكر الحسين وأصحابه سلام الله عليهم الذين هم سادة الشهداء وقادة أهل الإباء ، نعم هؤلاء وجدوا العمل بالتقيّة حراما عليهم ، وقد يجد غيرهم العمل بها واجبا ، ويجد الآخرون العمل بها رخصة وجوازا حسب اختلاف المقامات وخصوصيّات الموارد ، ونسأل الله أن يجمع كلمتنا على الحقّ والهدى.
    ومنهم : إبراهيم بن مالك
    وقد تقدّم أنّ إبراهيم بن مالك الأشتر قتل عند دير الجاثليق الذي كان من طسوج مسكن من نواحي الدجيل ، ذكره سيّدنا في أعيان الشيعة وقال : إبراهيم بن مالك بن حارث الأشتر النخعي ، قتل سنة 71.
    وفي مرآة الجنان لليافعي : إنّه قتل سنة 72 مع مصعب بن الزبير وهو يحارب عبد الملك بن مروان ، وقبره قرب سامرّاء ، مزور معظّم وعليه قبّة.
    والنخعي ـ بفتحتين ـ نسبة إلى النخع قبيلة باليمن وهم من مذحج.
    وكان إبراهيم فارسا شجاعا شهما مقداما رئيسا ، عالي النفس ، بعيد الهمّة ، وفيّا شاعرا فصيحا ، مواليا لأهل البيت عليهم‌السلام كما كان أبوه متميّزا بهذه الصفات ، ومن يشابه أبه فما ظلم.
    وفي مرآة الجنان : إنّه كان سيّد النخع وفارسها ، وكان مع أبيه يوم صفّين مع

    أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو غلام ، وأبلى فيه بلاء حسنا ، وبه استعان المختار حين ظهر بالكوفة طالبا بثار الحسين عليه‌السلام ، وبه قامت إمارة المختار وثبتت أركانها ، وكان مع مصعب بن الزبير وهو يحارب عبد الملك ، فوفى له حين خذله أهل العراق ، وقاتل معه حتّى قتل. وقال مصعب بعد قتله حين رأى خذلان أهل العراق له : يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم.
    حربه يوم صفّين :
    روى نصر بن مزاحم المنقري في كتاب وقعة صفّين : إنّ معاوية أخرج عمرو بن العاص يوم صفّين في خيل من حمير كلاع ويحصب إلى الأشتر ، فلقيه الأشتر أمام الخيل ، فلمّا عرف عمرو أنّه الأشتر جبن واستحى أن يرجع ، فلمّا غشيه الأشتر بالرمح راغ عنه عمرو ورجع راكضا إلى العسكر ونادى غلام شابّ من يحصب : يا عمرو ، عليك العفا ما هبّت الصبا ، يا لحمير أبلغوني اللواء ، فأخذه وهو يقول :
    إن يك عمرو قد علاه الأشتر
    بأسمر فيه سنان أزهر

    فذاك والله لعمري مفخر
    يا عمرو يكفيك الطعان حمير

    واليحصبيّ بالطعان أمهر
    دون اللواء اليوم موت أحمر

    فنادى الأشتر إبراهيم ابنه : خذ اللواء ، فغلام لغلام ، فتقدّم إبراهيم وهو يقول :
    يا أيّها السائل عنّي لا ترع
    أقدم فإنّي من عرانين النخع

    كيف ترى طعن العراقيّ الجدع
    أطير في يوم الوغى ولا أقع

    ما ساءكم سرّ وما ضرّ نفع
    أعددت ذا اليوم لهول المطّلع

    وحمل على الحميري فاتّقاه الحميري بلوائه ورمحه ، ولم يبرحا يطعن كلّ واحد منهما صاحبه حتّى سقط الحميريّ قتيلا.

    خبرة مع المختار :
    كان أصحاب المختار قالوا له : إن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوّة على عدوّنا فإنّه فتى رئيس وابن رجل شريف ، له عشيرة ذات عزّ وعدد ، فخرجوا إلى إبراهيم ومعهم الشعبي ، وسألوه مساعدتهم ، وذكروا له ما كان أبوه عليه من ولاء عليّ وأهل بيته ، فأجابهم إلى الطلب بدم الحسين عليه‌السلام على أن يولّوهم الأمر ، فقالوا له : أنت أهل لذلك ولكن المختار قد جائنا من قبل محمّد بن الحنفيّة ، فسكت.
    ثمّ جائه المختار في جماعة فيهم الشعبي وأبوه ، فقال له المختار : هذا كتاب من المهدي محمّد بن عليّ أمير المؤمنين وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهلها بعد الأنبياء والرسل ، وكان الكتاب مع الشعبي ، فدفعه إليه ، فإذا فيه : من محمّد المهدي إلى إبراهيم ابن مالك الأشتر : إنّي قد بعثت إليكم وزيري وأميني وأمرته بالطلب بدماء أهل بيتي فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ولك أعنّة الخيل وكلّ مصر ومنبر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى الشام. فقال إبراهيم : قد كتب إليّ ابن الحنفيّة قبل هذا فلم يكتب إلّا باسمه واسم أبيه؟ قال المختار : إنّ ذلك زمان وهذا زمان. قال : فمن يعلم أنّ هذا كتابه؟ فشهد جماعة إلّا الشعبي ، فتأخّر إبراهيم عن صدر الفراش وأجلس المختار عليه وبايعه ، فلمّا خرجوا قال إبراهيم للشعبي : رأيتك لم تشهد أنت ولا أبوك؟ فقال : هؤلاء سادة القرّاء ومشيخة مصر ولا يقول مثلهم إلّا حقّا.
    وبلغ عبد الله بن مطيع أمير الكوفة من قبل ابن الزبير أنّ المختار يريد الخروج عليه في تينك الليلتين ، فبعث العساكر ليلا سنة 66 إلى الجبّانات الكبار بالكوفة وبعث صاحب شرطته أياس بن مضارب في الشرط فأحاط بالسوق والقصر وخرج إبراهيم تلك الليلة بعد ما صلّى بأصحابه المغرب في مائة دارع قد لبسوا

    الأقبية فوق الدرع يريد المختار ، فقال له أصحابه : تجنّب الطريق ، فقال : والله لأمرّنّ وسط السوق بجنب القصر ولأرعبنّ عدوّنا ولأرينّهم هوانهم علينا. فسار على باب الفيل وهو من أبواب المسجد الأعظم وقصر الإمارة بجانب المسجد ، فلقيهم أياس في الشرط ، فقال : من أنتم؟ قال : أنا إبراهيم بن الأشتر ، قال : ما هذا الجمع الذي معك ولست بتاركك حتّى آتي بك الأمير. قال إبراهيم : خلّ سبيلنا ، فامتنع ، ومع أياس رجل من همدان اسمه أبو قطن ، وكان أياس يكرمه وهو صديق إبراهيم ، فقال له إبراهيم : أدن منّي ، فدنا منه ظنّا أنّه يريد أن يستشفع به عند أياس ، فأخذ إبراهيم منه الرمح وطعن به أياسا في ثغر نحره فصرعه وأمر رجلا فقطع رأسه وانهزم أصحابه.
    وأقبل إبراهيم إلى المختار فأخبره ، ففرح بذلك ، وقال : هذا أوّل الفتح ، وخرج إبراهيم وأصحابه فلقيهم جماعة فحمل عليهم إبراهيم فكشفهم وهو يقول : اللهمّ إنّك تعلم أنّا غضبنا لأهل بيت نبيّك ، ونطلب بثارهم ، فانصرنا على هؤلاء القوم. ثمّ حمل على جماعة آخرين فهزمهم حتّى أخرجهم إلى الصحراء ثمّ رجع إلى المختار فوجد القتال قد نشب بينه وبين أصحاب ابن مطيع ، فلمّا علم أصحاب ابن مطيع بمجيء إبراهيم تفرّقوا.
    وخرج المختار بأصحابه ليلا إلى دير هند حتّى اجتمع عنده ثلاثة آلاف وجمع ابن مطيع أصحابه من الجبانات ووجّههم إلى المختار فبعث المختار إبراهيم في سبعمائة فارس وستّمائة راجل ، وبعث نعيم بن هبيرة أخا معقلة في تسعمائة وذلك بعد صلاة الصبح ، فقتل نعيم وأسر جماعة من أصحابه ، ومضى إبراهيم فلقيه راشد بن أياس في أربعة آلاف فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل راشد وانهزم أصحابه ، وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث ابن ربعي محيط به ، فحمل عليهم إبراهيم فانهزموا وبعث المختار إبراهيم أمامه وخرج ابن مطيع فوقف بالكناسة وأرسل العساكر ليمنعوا المختار من

    دخول الكوفة. ودنا إبراهيم من ابن مطيع فأمر أصحابه بالنزول وقال : لا يهولنّكم أن يقال جاء آل فلان وآل فلان فإنّ هؤلاء لو وجدوا حرّ السيوف لانهزموا انهزام المعزى من الذئب ، ثمّ حمل عليهم فانهزموا ودخل ابن مطيع القصر ، فحاصره إبراهيم ثلاثا فخرج منه ليلا ونزله إبراهيم ودخله المختار فبات فيه ، وأرسل إلى ابن مطيع مائة ألف درهم وقال : تجهّز بها وبايعه أهل الكوفة على كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والطلب بدماء أهل البيت ، وفرّق العمّال.
    وكان عبيد الله بن زياد قد هرب بعد موت يزيد إلى الشام وجاء بجيش إلى الموصل ، فأرسل إليه المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف فلقي مقدّمة أهل الشام فهزمهم وأخذ عسكرهم ومات من مرض به ، فعاد أصحابه إلى الكوفة لما علموا أنّه لا طاقة لهم بعسكر ابن زياد ، فأرسل المختار إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف وأمره أن يردّ جيش يزيد بن أنس معه.
    فلمّا خرج إبراهيم بن الأشتر طمع أشراف أهل الكوفة في المختار وأجمع رأيهم على قتاله ، فجعل يخادعهم ويعدهم بكلّ ما يطلبون فلم يقبلوا ووثبوا به فأرسل قاصدا مجدّا إلى إبراهيم يأمره بالرجوع ، وأمر أصحابه بالكفّ عنهم واجتهدوا في مخادعتهم ، فوصل الرسول إلى إبراهيم بساباط المدائن عشيّة ، فسار ليلة كلّها ثمّ استراح حتّى أمسى وسار ليلته كلّها ويومه إلى العصر فبات في المسجد واشتدّ القتال ، ومضى ابن الأشتر إلى مضر فهزمهم واستقام أمر الكوفة للمختار وتجرّد لقتل قتلة الحسين عليه‌السلام.
    ثمّ سار إبراهيم بعد يومين لقتال ابن زياد وكان قد سار في عسكر عظيم من الشام ، فبلغ الموصل وملكها ، فنزل إبراهيم قريبا منه على نهر الخازر ، ولم يدخل عينه الغمض حتّى إذا كان السحر الأوّل عبّأ أصحابه وكتّب كتائبه وأمّر أمراءه ، فلمّا انفجر الفجر صلّى الصبح بغلس ثمّ خرج فصفّ أصحابه ونزل يمشي ويحرّض

    الناس حتّى أشرف على أهل الشام فإذا هم لم يتحرّك منهم أحد ، وسار على الرايات يحثّهم ويذكّرهم فعل ابن زياد بالحسين عليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته من القتل والسبي ومنع الماء ، وتقدّم إليه وحملت ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم ، فثبتت لهم وقتل أميرها ، فأخذ الراية آخر فقتل وقتل معه جماعة ، وانهزمت الميسرة ، فأخذ الراية ثالث وردّ المنهزمين ، فإذا بإبراهيم كاشف رأسه ينادي : إليّ شرطة الله ، أنا ابن الأشتر ، إنّ خير فرّاركم كرّاركم ، ليس مسيئا من أعتب.
    وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد رجاء أن ينهزموا لأنّ أميرها كان وعد إبراهيم ذلك لأنّه وقومه كانوا حاقدين على بني مروان من وقعة مرج راهط فلم ينهزموا أنقه من الهزيمة. فقال إبراهيم لأصحابه : اقصدوا هذا السواد الأعظم فو الله لئن هزمناه لا نجفل من ترون يمنة ويسرة انجفال طير ذعرت ، فمشى أصحابه إليهم فتطاعنوا ثمّ صاروا إلى السيوف والعمد ، وكان صوت ضرب الحديد كصوت القصّارين ، وكان إبراهيم يقول لصاحب رايته : انغمس فيهم ، فيقول : ليس لي متقدّم ، فيقول بلى ، فإذا تقدّم شدّ إبراهيم بسيفه فلا يضرب رجلا إلّا صرعه وحمل أصحابه حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد.
    فقال إبراهيم : إنّي ضربت رجلا تحت راية منفردة على شاطئ نهر الخازر فقدته نصفين فشرّقت يداه وغرّبت رجلاه فالتمسوه ، وفاح منه المسك ، وأظنّه ابن مرجانة ، فالتمسوه ، فإذا هو ابن زياد ، فوجدوه كما ذكر ، فقطع رأسه وأحرقت جثّته ، وقتل في هذه الوقعة من أصحاب ابن زياد الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري.
    ولمّا انهزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب إبراهيم فكان من غرق أكثر ممّن قتل ، وأنفذ إبراهيم عمّاله إلى نصيبين وسنبحار ودارا وقرقيسيا وحرّان والرها وسميساط وكفرتوتا وغيرها ، وأقام هو بالموصل ، وقام سراقة البارقي يمدح إبراهيم ابن الأشتر :


    أتاكم غلام من عرانين مذحج
    جريّ على الأعداء غير نكول

    جزى الله خيرا شرطة الله إنّهم
    شفوا من عبيد الله حرّ غليلي

    وقال عبد الله بن زبير الأسدي ـ بفتح الزاي ـ وقيل عبد الله بن عمرو الساعدي يمدح إبراهيم ويذكر الوقعة :
    الله أعطاك المهابة والتقى
    وأحلّ بيتك في العديد الأكثر

    وأقرّ عينك يوم وقعة خازر
    والخيل تعثر بالقنا المتكسّر

    من ظالمين كفتهم آثامهم
    تركوا لعافية وطير حسّر

    ما كان أجرأهم جزاهم ربّهم
    شرآ الجزاء على ارتكاب المنكر

    وفي الأغاني بسنده عن الهيثم بن عدي : إنّ عبد الله بن الزبير الأسدي أتى إبراهيم ابن الأشتر فقال : إنّي قد مدحتك بأبيات فاسمعهنّ ، قال : إنّي لست أعطي الشعراء ، قال : اسمعها منّي وترى رأيك ، فقال : هات إذا ، فأنشده البيتين الأوّلين وبعدهما :
    إنّي مدحتك إذ نبا بي منزلي
    وذممت إخوان الغنى من معشري

    وعرفت أنّك لا تخيّب مدحتي
    ومتى أكن بسبيل خير أشكر

    فهلمّ نحوي من يمينك نفحة
    إنّ الزمان ألحّ يابن الأشتر

    فقال : كم ترجو أن أعطيك؟ قال : ألف درهم ، فأعطاه عشرين ألفا.
    وقال يزيد بن المفرغ الحميري يهجو ابن زياد ويذكر مقتله :
    إنّ الذي عاش ختّارا بذمّته
    وعاش عبدا قتيل الله بالزاب

    العبد للعبد لا أصل ولا طرف
    ألوت به ذات أظفار وأنياب

    إنّ المنايا إذا ما زرن طاغية
    هتكن عنه ستورا بين أبواب

    هلّا جموع نزار إذ لقيتهم
    كنت امرئ من نزار غير مرتاب

    لا أنت زاحمت عن ملك فتمنعه
    ولا مددت إلى قوم بأسباب




    ما شقّ جيب ولا ناحتك نائحة
    ولا بكتك جياد عند أسلاب

    لا يترك الله أنفا تعطسون بها
    بين العبيد شهودا غير غيّاب

    أقول بعدا وسحقا عند مصرعه
    لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي

    خبره مع مصعب بن الزبير :
    ثمّ إنّ مصعب بن الزبير خرج من البصرة إلى المختار فقتله بعد حرب شديد وأقرّ إبراهيم بن الأشتر على ولاية الموصل والجزيرة. ثمّ إنّ عبد الملك بن مروان سار إلى العراق بجيش لحرب مصعب فأحضر مصعب إبراهيم من الموصل وجعله على مقدّمته والتقى العسكران بمسكن من أرض العراق ، وكان أشراف العراق قد كاتبوا عبد الملك فكتب إلى من كاتبه ومن لم يكاتبه ، وكتب إلى إبراهيم فكلّهم أخفى كتابه إلّا إبراهيم فجاء به مختوما إلى مصعب ففتحه فإذا فيه إنّه يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق. فقال له إبراهيم : إنّه كتب إلى اصحابك كلّهم مثل ما كتب إليّ فأطعني واضرب أعناقهم ، فأبى ، فقال : احبسهم ، فأبى ، فقال : رحم الله الأحنف إن كان ليحذر في غدر أهل العراق ويقول هم كالمومسة تريد كلّ يوم بعلا.
    وقدم عبد الملك أخاه محمّدا وقدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر فقتل صاحب لواء محمّد ، وجعل مصعب يمدّ إبراهيم فأزال محمّدا عن موقفه وأمدّ إبراهيم بعتاب بن ورقاء ، فساء ذلك إبراهيم وقال : قد قلت له : لا تمدّني بأمثال هؤلاء ، فانهزم عتاب وكان قد كاتب عبد الملك وصبر إبراهيم فقاتل حتّى قتل ، وحمل رأسه إلى عبد الملك وانهزم أهل العراق عن مصعب حتّى قتل.
    وقيل : إنّه سأله عن الحسين عليه‌السلام كيف امتنع عن النزول على حكم ابن زياد ، فأخبر ، فقال متمثّلا بقول سليمان بن قتة :


    فإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم
    تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا

    وفي الأغاني : إنّ إبراهيم بن الأشتر بعث إلى أبي العطاء السندي ببيتين من شعره وسأله أن يضيف إليهما ببيتين وهما :
    وبلدة يزدهي الجنان طارقها
    قطعتها بكناز اللحم معتاطه

    وهنّا وقد حلق النسران أو كربا
    وكانت الدلو بالجوزاء منتاطه

    فقال أبو عطاء :
    فانجاب عنها قميص الليل فابتكرت
    تسير كالفحل تحت الكور لطّاطه

    في أينق كلّما حثّ الحداة لها
    بدت مناسمها هوجاء حطّاطه

    وعرف لإبراهيم من الأولاد ولدان : النعمان ومالك ابنا إبراهيم بن الأشتر النخعي.
    والنخعي نسبة إلى النخع بنون وخاء معجمة مفتوحتين وعين مهملة. قال ابن خلّكان : هي قبيلة كبيرة من مذحج باليمن.
    وفي أنساب السمعاني : هي قبيلة من العرب نزلت الكوفة ومنها انتشر ذكرهم. والنخع هو جسر ـ بالفتح ـ بن عمرو بن وغلة بن خالد بن مالك بن أدد ، سمّي النخعي لأنّه انتخع من قومه أي بعد عنهم.
    قال ابن خلّكان : خرج منهم خلق كثير ، وقيل في نسبته غير هذا ، وهذا هو الصحيح ، نقلته من جمهرة النسب لابن الكلبي.
    ومنهم : عليّ بن محمّد بن أحمد المصري
    عنونه المامقاني في رجاله نقلا عن فهرست ابن النديم ، قال : عليّ بن محمّد بن أحمد أبو الحسن المصري ، أصله من سرّ من رأى ، انتقل إلى مصر ثمّ عاد إلى بغداد ،

    ومولده بسرّ من رأى سنة سبع وخمسين ومأتين وبها منشأه ، وكان ورعا زاهدا فقيها عارفا بالحديث ، توفّي سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ثمّ عدّ له نيّفا وعشرين كتابا ، (وما لم يثبت وفاته في سرّ من رأى ليس من أفراد هذا العنوان وإنّما ذكرناه لكونه ولد فيها).
    فائدة : قال : المصري ـ بسكون الميم وسكون الصاد المهملة وكسر الراء المهملة والياء ـ نسبته إلى مصر صقع معروف ، والكلمة تنصرف ولا تنصرف ، وتؤنّث وتذكّر ، وظاهر القاموس أنّ الشايع فيها المنع من الصرف والتأنيث ، لأنّه قال : وقد تصرف وقد تذكّر ، انتهى.
    ولم تستعمل في الكتاب المجيد إلّا غير منصرف ، فقال سبحانه في سورة يونس : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً)(1) الآية ، وفي سورة يوسف : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ)(2) الآية ، وفي سورة الزخرف : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)(3) الآية ، وأمّا قوله تعالى في سورة البقرة : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ)(4) الآية ، فليست الكلمة مستعملة في الصقع المخصوص حتّى توجب العلميّة والتأنيث منعها من الصرف ، وإنّما استعملت في المعنى الوصفي فلا تكون إلّا منصرفة فلذا نصبت في هذه الآية فلا تذهب.
    __________________
    (1) يونس : 87.
    (2) يوسف : 21.
    (3) الزخرف : 51.
    (4) البقرة : 61.

    ومنهم : إبراهيم بن المهدي
    قال المسعودي في مروج الذهب : وفي سنة أربع وعشرين ومأتين مات إبراهيم بن المهدي وصلّى عليه المعتصم. وفي ذلك التاريخ كان المعتصم بسامرّاء ، فلزم أنّ إبراهيم توفّي فيها. صرّح ابن عساكر في تاريخ الشام أنّه توفّي بسرّ من رأى.
    أخباره :
    وقد طعن عليه أبو فراس الحمداني في قصيدته على بني العبّاس حيث قال :
    تنشا التلاوة في أبياتهم أبدا
    وفي بيوتكم الأوتار والنغم

    منكم علية أم منهم وكان لكم
    شيخ المغنّين إبراهيم أم لهم

    قال في شرح القصيدة لأبي فراس الحمداني : تنشأ أي تحدث ، والتلاوة ككتابة القرائة ، والضمير في أبياتهم لأهل البيت عليهم‌السلام ، والضمير في بيوتكم للخلفاء العبّاسيّين ، والأوتار جمع الوتر عنى الملاهي كالعود والطنبور من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان مجاورا له كما يقال : عفيف الإزار أي عفيف الفرج. وعلية مصغّرة كانت مغنية ، وإبراهيم أخو علية وأبوهما المهدي العبّاسي ثالث الخلفاء منهم ، ولهم الضمير لآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    والمعنى : منكم علية شيخة المغنّيات ـ يا بني العبّاس ـ أم من أولاد عليّ عليه‌السلام الذين هم خيرة الله من الناس. وإبراهيمكم شيخ المغنّين كان لكم يغنّي أم لآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وهذا نوع من البديع يسمّى تجاهل العارف ، وهو نمط عجيب من الكلام عند ذوي الأفهام ، وهو أن يستفهم الشاعر وهو عارف.
    وقال ابن الأثير : علية بنت الخليفة المهدي كان مولدها سنة ستّين ومائة ، وكان زوجها موسى بن عيسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس ، وولدت منه وماتت سنة عشرة ومائة.

    وفي تاريخ الذهبي : إبراهيم بن المهدي العبّاسي كان لسواده وسمنه يقال له التنّين ، وكان شاعرا بديع الغناء ، مولعا بضرب العود ، ولي نيابة دمشق لأخيه هارون الرشيد ، وبويع بالخلافة ببغداد سنة اثنتين ومأتين ، وفيه يقول دعبل بن عليّ الخزاعيّ :
    يا معشر الأجناد لا تقنطوا
    خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

    فسوف يعطيكم حنينيّه
    يلذّها الأمرد والأشمط

    والمعبديّات لقوّاكم
    لا تدخل الكيس ولا تربط

    وهكذا يرزق أصحابه
    خليفة مصحفة البربط

    وكانت ولايته في بغداد نحو سنة أو عشرة أشهر ، ثمّ خرب دسته واضمحلّ سنة 203 واختفى سبع سنين.
    ومن أخبار شيخ المغنّين إبراهيم التنّين ، قيل : إنّ المأمون لمّا وصل إلى بغداد قال : كلّ من يأتيني بإبراهيم أمنحه مأة ألف دينار ، فلمّا طرق الخبر سمع إبراهيم وخاف خوفا شديدا ، فكان كلّ ليلة ينتقل إلى منزل يستخفي.
    فحكى إبراهيم قال : غيّرت هيئتي ذات يوم وخرجت لتحصيل منزل آوي إليه ، فحمى عليّ الحرس وقد وصلت إلى زقاق غير نافذ ، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون إن عدت إلى أثري يرتاب فيّ ، فرأيت في صدر الزقاق عبدا أسود قائما على باب دار ، فتقدّمت إليه وقلت : هل عندك موضع أقيم فيه ساعة؟ قال : نعم ، فدخلت إلى بيت لطيف فيه حصر وبسط ومخدّات جلود إلّا أنّها نظيفة ، فخرج وغلق عليّ الباب وغاب ، وقلت في نفسي : قد وقعت في الذي كنت أخافه ، والظاهر أنّ هذا الشخص عرفني ومضى لينبّه المأمون.
    ولكن بعد ساعة رجع الرجل وفي يده قطعة لحم وخبز ومعه قدر ومشربة وأواني جديدة وفرش ، ثمّ أطلق لسان الاعتذار ، قال : إنّي رجل حجّام وأظنّ أنّك

    تنفر من الأواني المعمولة ولهذا تخلّفت عن خدمتك ساعة حتّى حصلت أشياء غير معمولة.
    قال إبراهيم : تعجّبت من كياسته فطبخت لنفسي قدرا ما أذكر أنّي أكلت مثلها باللذاذة ، فلمّا قضيت إربي من الطعام قال : هل لك في شراب فإنّه يسلي الهمّ ويطيّب الفم ونقضي اليوم في خدمتك باللهو والطرب.
    فقلت : ما أكره ذلك رغبة في مؤانستك ، فأحضر الحجّام صراحة من الخمر العتيق ، وأحضر لي قدحا جديدا وفاكهة وأبقالا مختلفة في طسوت جدّد ، ثمّ قال : أتأذن لي جعلت فداك أن أقعد ناحية وأشربه سرورا بك ، فقلت له : افعل ، فشرب وشربت ثمّ دخل إلى خزانته فأخرج عودا ثمّ قال : يا سيّدي ، ليس من قدري أن أسألك في الغناء ولكن أريد أن تسرّ عبدك بشيء من سماعه. فقلت : ومن أين لك أنّي أحسن الغناء؟ فقال : يا سبحان الله ، مولانا أشهر من أن يعرفه أحد ، أنت إبراهيم المهدي خليفتنا الذي جعل المأمون لمن دلّ عليه مائة ألف دينار.
    فلمّا قال ذلك عظم في عيني وثبتت مروّته عندي ، فتناولت العود وأصلحته وقد مرّ بخاطري فراق أهلي وولدي ، فأنشأت :
    وعسى الذي أهدى ليوسف أهله
    وأعزّه في السجن وهو أسير

    أن يستجيب لنا فيجمع شملنا
    والله ربّ العالمين قدير

    فاستولى عليه الطرب المفرط وطاب عيشه ، فقال لي : يا سيّدي ، أتأذن لي أن أغنّي بما سنح بخاطري وإن كنت من غير هذه الصناعة ، فأخذ العود وغنّى :
    شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا
    فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

    وذاك لأنّ النوم يغشي عيونهم
    سريعا ولا يغشي لنا النوم أعينا

    إذا ما دنا الليل المضرّ بذي اللوى
    جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا

    فلو أنّهم كانوا يلاقون مثل ما
    نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا



    فو الله لقد خيّلت أنّ حيطان البيت قد سار بي وذهب عنّي كلّ ما كان عليّ وبي من الهلع ، وقد أتى بأعمال وأشغال وألحان ما سمعتها ، فقلت له : من أين تعلّمت هذا الفنّ؟ قال : كنت ملازما لإسحاق بن إبراهيم الموصلي فتعلّمت منه ، فسألته أن يغنّيني ، فغنّى :
    وما ضرّنا إلّا القليل وجارنا
    عزيز وجار الأكثرين ذليل

    وإنّا لقوم لا نرى القتل سبّة
    إذا ما رأته عامر وسلول

    يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا
    وتكرهه آجالنا وتطول

    فلمّا أردت الخروج من منزله إلى منزل آخر أعطيته صرّة من الدنانير وقلت له : اصرفها في مصالحك ، فقال : إنّ هذه الحالة لعجيبة ، إنّي أريد أن أفديك بكلّ ما عندي وأنت تريد أن تنعم عليّ! كلّا وحاشا ، لا أقبل منك ذلك وما آخذ شيئا ، وأخذني من ذلك إلى منزل آخر وضعني فيه إلى أن فرّج لي الله.
    وقال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة عشر ومأتين : في ربيع الأوّل أخذ إبراهيم المهدي وهو منقّب مع امرأتين وهو في زيّ امرأة ، أخذه حارس أسود ليلا ، فقال : من أنتنّ وأين تردن هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في يده وكان له قدر عظيم ليخلّيهنّ ولا يسألهنّ ، فلمّا نظر الحارس الخاتم استراب بهنّ ، وقال : خاتم رجل له شأن ، فرفعهنّ إلى صاحب المسلحة فأمرهنّ أن يسفرن ، فامتنع إبراهيم ، فجذبه فبدت لحيته ، فدفعه إلى صاحب الجسر فرفعه فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به ، فأمره بالاحتفاظ به إلى بكرة. فلمّا كان الغد أقعد إبراهيم في دار المأمون والمقنعة التي تقنّع بها في عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم والناس ويعلمون كيف أخذ.
    وقال ابن عساكر في تاريخ الشام في ترجمة إبراهيم هذا : إنّه كان معروفا بابن شكله الهاشمي (وشكله اسم أمّه) ولّاه أخوه الرشيد إمرة دمشق فقدمها ثمّ عزله

    عنها. ولمّا استقرّت للمأمون الخلافة دعا إبراهيم بن شكلة فوقف بين يديه ، فقال : يا إبراهيم ، أنت المتوثّب علينا تدّعي الخلافة؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، أنت وليّ الثار والمحكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب كما جعل كلّ ذي ذنب دونك ، فإن أخذت أخذت بحقّ ، وإن عفوت عفوت بفضل. فقال المأمون : وقد عفوت عنك يا عمّ.
    سبب عزله عن الشام :
    قال ابن عساكر : وكان سبب عزل إبراهيم عن الشام أنّه قال : كان سبب ولايتي دمشق أنّ الهادي زوّجني بنت صالح بن المنصور وأمّها أمّ عبد الله بنت عيسى بن عليّ ابن عبد الله بن العبّاس ، وكان لي سبع سنين ، ثمّ إنّي قبل انسلاخ اثنتي عشرة سنة من ولايتي أدركت فأستحثتني أمّ عبد الله بن عيسى بن عليّ على الابتناء بأمّ محمّد ابنة صالح ، فاستأذنت الرشيد في ذلك ، فأعلمني أنّ العبّاسة أخته قد شهدت عليك أنّك حلفت يمينا بطلاقها لحقك فيها الحنث.
    قال إبراهيم : وكانت البليّة في هذا الباب أنّ الرشيد رغب في تزويج أمّ محمّد وأراد منّي أن أطلقها فامتنعت عليه من طلاقها فتغيّر عليّ في الخاصّة ولم يقصر بي في العامّة ، فلم أزل في جفوة منه في الخاصّة وسوء رأي ، ويتأدّى إليّ عنه أشياء وأشاهد بما يظهر منه إلى أن استتممت ستّة عشرة سنة ، وصحّ عندي رغبة أمّ محمّد في الرشيد وعلمت أنّها لا تصلح لي فطلّقتها ، فلم يكن بين تطليقي إيّاها وبين ابتناء الرشيد بها إلّا مقدار العدّة ، ثمّ رجع الرشيد إلى ما كنت أعهده من برّه ولطفه قبل ذلك إلى آخر ما أطال فيه ممّا لا فائدة في نقله.
    إلى أن قال : فوصل الكتاب من الرشيد بالأنصراف عن دمشق ، فخرجت عن

    دمشق إلى الرقّة وبها الرشيد ، فحبسني مائة يوم لم يطلق لي دخول داره ، وحلف على جعفر بن يحيى بن برمك أن لا يجري له عنده ذكر إلى سنة كاملة ثمّ إنّه رضي بعد السنة ، وما زلت أدخل عليه وأنا عنده بالمنزلة التي أريد.
    قال ابن عساكر : كان إبراهيم بن المهدي أسود حالك اللون ، عظيم الجثّة ، ولم ير في أولاد الخلفاء قبله أفصح منه لسانا ولا أجود شعرا ، وكان وافر الفضل ، غزير الأدب ، واسع النفس ، سخيّ الكفّ ، وكان معروفا بصنعة الغناء حاذقا بها ، كان من أحسن الناس غناء وأعلمهم به ، وهو شاعر مطبوع مكثر ، ولد سنة اثنتين وستّين ومائة ، وتوفّي بسرّ من رأى سنة أربع وعشرين ومأتين ، وكان اسم أمّه شكله ، وكانت سوداء فنسب إليها ، ويقال له التنّين ، وقد قال فيه دعبل بن عليّ الخزاعي :
    لعب ابن شكلة بالعراق وأهلها
    فهفا إليه كلّ أطلس مائق

    إن كان إبراهيم مضطلعا بها
    فلتصلحن من بعده لمخارق

    قال ابن عساكر والخطيب في تاريخ بغداد : إنّ المأمون لمّا بعث إلى عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام فحمله وبايع له بولاية العهد ، غضب بنو العبّاس وقالوا : لا يخرج الأمر من أيدينا ، فبايعوا إبراهيم بن المهدي وسمّوه المبارك ، فخرج إلى الحسن بن سهل فهزمه وألحقه بواسط ، وأقام إبراهيم بالمداين.
    ثمّ إنّ الحسن وجّه جيشا واقتتلوا وانهزم إبراهيم ثمّ إنّه استخفى فلم يعرف خبره حتّى قدم المأمون فظفر به كما تقدّم ، وكانت مدّته منذ بويع له بمدينة السلام إلى يوم استتاره سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيّام ، وأقام في استتاره ستّ سنين وأربعة أشهر وعشرة أيّام ، وقيل : حبسه المأمون ستّة أشهر ثمّ أخرجه وعفا عنه.

    نقل حكاية إبراهيم الطفيلي :
    قال ابن عساكر في تاريخ الشام وابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد : إنّ المأمون أمر بأن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له من أهل البصرة ، فأبصرهم طفيلي ، فقال في نفسه : ما اجتمع هؤلاء إلّا لصنيع فانسلّ فدخل وسطهم ومضى بهم الموكّلون حتّى انتهوا بهم إلى زورق قد أعدّ لهم ، فدخلوا الزورق ، فقال الطفيلي : هي نزهة ، فدخل معهم الزورق فلم يك بأسرع من أن قيّد القوم وقيّد معهم الطفيلي ، فقال : بلغ تطفيلي إلى القيود ، ثمّ سيّر بهم إلى بغداد فدخلوا على المأمون فجعل يدعوا بأسمائهم رجلا رجلا فيأمر بضرب رقابهم حتّى وصلوا إلى الطفيلي وقد استوفوا عدّة القوم ، فقال للموكّلين بهم : ما هذا؟ فقالوا : والله ما ندري غير أنّا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال المأمون : ويلك ما قصّتك؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، امرأتي طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئا ولا أعرف إلّا الله ومحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما أنا رجل رأيتهم مجتمعين فقلت : صنيعا يفدون إليه. فضحك المأمون فقال : يؤدّب.
    وكان إبراهيم بن المهدي قائما على رأس المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي تأديبه أحدّثك بحديث عجيب من نفسي ، فقال له : قل ، فقال : خرجت من عندك يوما في سكك بغداد متطرّبا حتّى انتهيت إلى كذا سمّاه ، فشممت يا أمير المؤمنين من جناح أباذير قدور قد فاح طيبها فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها ، فوقفت على خيّاط وقلت له : لمن هذه الدار؟ فقال : لرجل من التجّار من البزّازين ، فقلت : ما اسمه؟ قال : فلان بن فلان ، فرميت بطرفي إلى الجناح فإذا في بعضه شباك ، فنظرت إلى كفّ قد خرج من الشبّاك قابضا على بعضه ، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور فبقيت هناك ساعة ثمّ

    أدركني ذهني ، فقلت للخيّاط : هل هو ممّن يشرب النبيذ؟ فقال : نعم وأحسب عنده اليوم دعوة وليس ينادم إلّا تجّارا مثله مستورين.
    فبينما أنا كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رائس الدرب ، فقال الخيّاط : هؤلاء منادموه ، فقلت : ما اسمائهما وما كناهما؟ فقال : فلان وفلان وأخبرني بكناهما ، فحرّكت دابّتي وداخلتهما وقلت : جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان وسايرتهما حتّى أتينا إلى الباب ، فأجّلاني وقدّماني فدخلت ودخلا ، فلمّا رآني معهما صاحب المنزل لم يشكّ أنّي منهما بسبيل أو قادم قدّمت عليهما من موضع فرحّب بي وأجلسني في أفضل المواضع ، فجيء يا أمير المؤمنين بالمائدة وعليها خبز نظيف ، وأتينا بتلك الألوان وكان طعمها أطيب من ريحها ، فقلت في نفسي : هذه الألوان قد أكلتها بقيت الكفّ أصل إلى صاحبتها ، ثمّ رفع الطعام وجيء بالوضوء ثمّ صرنا إلى منزل المنادمة فإذا هو أشكل منزل وجعل صاحب المنزل يلاطفني ويقبل عليّ بالحديث ، وجعلوا لا يشكّون أنّ ذلك منه عن معرفة مستقدمة ، وإنّما ذلك الفعل كان منه لما ظنّ أنّي منهما بسبيل حتّى إذا شربنا أقداحا خرجت علينا جارية كأنّها غصن بان تنثني ، فأقبلت تمشي ، فسلّمت غير خجلة وثنيت لها وسادة فجلست وأتي بعود فوضع في حجرها فجئته فعرفت من جسّها حذقها ثمّ اندفعت تغنّي وتقول :
    توهّمها طرفي وأصبح خدّها
    وفيه مكان الوهم من نظري أثر

    وصافحها قلبي فألمّ كفّها
    فمن مسّ قلبي في أناملها عقر

    فهيّجت يا أمير المؤمنين بلا بلي وطربت بحسن شعرها وحذقها ثمّ اندفعت تغنّي :
    أشرت إليها هل عرفت مودّتي
    فردّت بطرف العين إنّي على العهد

    فحادت عن الإظهار غمد لسرّها
    وحادت عن الإظهار أيضا على عمد

    فصحت السلاح يا أمير المؤمنين وجائني من الطرب ما لم أملك نفسي ثمّ اندفعت تغنّي الصوت الثالث :


    أليس عجيبا أنّ بيتا يضمنا
    وإيّاك لا تخلو ولا نتكلّم

    سوى أعين تشكو الهوى بجفونها
    وتقطيع أنفاس على النأي تضرم

    إشارة أفواه وغمز حواجب
    وتكسير أجفان وكفّ تسلم

    فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها وإصابتها معنى الشعر وإنّها لم تخرج عن الفنّ الذي ابتدأت فيه ، فقلت : بقي عليك يا جارية ، فضربت بعودها الأرض وقالت : متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء ، فندمت على ما كان منّي ، ورأيت القوم كأنّهم تغيّروا بي ، فقلت : أليس ثمّ عود؟ فقالوا : بلى والله يا سيّدنا ، فأتوني بعود فأصلحت من شأني ما أردت ثمّ اندفعت أغنّي :
    ما للمنازل لا يجبن حزينا
    أصممن أم قدم المدى فبلينا

    روحوا العشيّة روحة مذكورة
    إن متن متنا وان حيين حيينا

    فما استممته يا أمير المؤمنين حتّى خرجت الجارية فأكبّت على رجلي فقبّلتها وهي تقول : معذرة يا سيّدي ، والله ما سمعت من يغنّي هذا الصوت قبلك أحد ، وقام مولاها وجميع من كان حاضرا فصنعوا كصنيعها وطرب القوم واستحثّوا الشراب فشربوا بالكاسات والطاسات ، ثمّ اندفعت أغنّي :
    أفي الله أن تمشين لا تذكرينني
    وقد سفحت عيناي من ذكرك الدما

    إلى الله أشكو بخلها وسماحتي
    لها عسل منّي وتبذل علقما

    فردى مصاب القلب أنت قتلته
    ولا تتركيه ذاهب العقل مضرما

    إلى الله أشكو إنّها أجنبيّة
    وإنّي بها ما عشت بالودّ مغرما

    فجائنا من طرب القوم يا أمير المؤمنين شيء حسبت أن يخرجوا من عقولهم ، فأمسكت ساعة حتّى هدؤوا ممّا كانوا فيه من الطرب ثمّ اندفعت أتغنّى بالصوت الثالث :
    هذا محبّك مطوى على كمده
    خرت مدامعه تجري على جسده



    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:03 pm



    له يد تسأل الرحمن راحته
    ممّا به ويد أخرى على كبده

    يا من راى أسفا مستهترا دنفا
    كانت منيّته في عينه ويده

    فجعلت الجارية تصيح : هذا والله هو الغنا يا سيّدي.
    وذكر الحكاية إلى أن قال : وخلوت معه ثمّ قال لي : يا سيّدي ، ذهب ما كان من أيّامي ضياعا إذ كنت لا أعرفك فمن أنت يا مولاي؟ فلم يزل يلحّ عليّ حتّى أخبرته ، فقام وقبّل رأسي ، فقال : يا سيّدي ، وأنا أعجب أن يكون هذا الأدب إلّا لمثلك وإنّي لأجالس الخلفاء وأنا لا أشعر ثمّ سألني عن قصّتي وكيف حملت نفسي على ما فعلت ، فاخبرته خبر الطعام وخبر الكفّ والمعصم ، ثمّ قال : يا فلانة ـ لجارية له ـ قولي لفلانة تنزل ، فجعل ينزل واحدة واحدة فأنظر إلى كفّها ومعصمها فأقول : ليس هي ، فقال : والله ما بقي غير أختي وأمّي ، والله لأنزلتهما إليك ، فعجبت من كرمه وسعة صدره ، فقلت : جعلت فداك ، ابدأ بأختك قبل الأمّ ، فعسى أن تكون هي ، فقال : صدقت ، فنزلت ، فلمّا رأيت كفّها ومعصمها قلت : هي ذه ، فأمر غلمانه فصاروا إلى عشرة مشايخ من أجلّة مشايخ جيرانه في ذلك الوقت فأحضروا ، ثمّ أمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم وقال للمشايخ : هذه أختي فلانة أشهدكم أنّي قد زوّجتها من سيّدي إبراهيم بن المهدي وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم ، فرضيت وقبلت النكاح ، ودفع إليها البدرة وفرّق البدرة الأخرى على المشايخ ، ثمّ قال لهم : اعذروا وهذا ما حضر على الحال ، فقبضوها ونهضوا.
    ثمّ قال لي : يا سيّدي ، أمهّد لك بعض البيوت تنام مع أهلك؟ فاحتشمني والله ما رأيت من سعة صدره وكرمه ، فقلت : بل أحضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال : ما شئت ، فأحضرت عمارية فحملتها وسرت بها إلى منزلي ، فوحقّك يا أمير المؤمنين لقد حمل إليّ من الجهاز ما ضاقت به بعض بيوتنا فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين.

    فعجب المأمون من كرم ذلك الرجل وسعة صدره ، وقال : لله أبوه ما سمعت مثله قطّ ، ثمّ أطلق الرجل الطفيلي وأجازه بجائزة سنيّة ، وأمر إبراهيم بإحضار الرجل فكان من خواصّ المأمون وأهل محبّته.
    أخبار حرمة الغناء والتغنّي
    قال في المجمع : الغناء ـ ككساء ـ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، وما يسمّى في العرف غناء وإن لم يطرب سواء كان في شعر أو قرآن أو غيرها ، واستثني منه الحدي للإبل. قيل : وفعلة المرأة في الأعراس مع عدم الباطل ، انتهى.
    وعن تفسير عليّ بن إبراهيم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه سيكون قوم يبيتون وهم على اللهو وشرب الخمر والغناء فبيناهم كذلك إذ مسخوا من ليلتهم وأصبحوا قردة وخنازير.
    وفيه : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(1) يعني عن الغناء والملاهي.
    (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(2) يعني الغناء ومجالس اللغو.
    وفيه : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)(3) قال عليه‌السلام : اللغو الكذب ، واللهو الغناء.
    وفيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(4) قال : الغناء والخمر وجميع الملاهي.
    وقال الصادق عليه‌السلام ـ كما في معاني الأخبار ـ ما حاصله : النرد والشطرنج والغناء لا خير فيه فلا تفعلوا ، الخ.
    __________________
    (1) المؤمنون : 3.
    (2) الفرقان : 72.
    (3) القصص : 55.
    (4) لقمان : 6.

    وقال عليه‌السلام ـ كما في الخصال ـ : المنجّم ملعون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون ، والمغنية ملعونة ، ومن آواها وأكل كسبها ملعون.
    وقال عليه‌السلام : ثمن الكلب والمغنية سحت.
    وعن الرضا عليه‌السلام ـ ما حاصله ـ إذا جمع الله بين الحقّ والباطل فكان الغناء مع الباطل.
    وفي الأمالي : قوله تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)(1) هو الغناء.
    وقال : الغناء عشّ النفاق.
    وعن الأمالي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون في أمّتي الخسف والمسخ والقذف. قيل : يا رسول الله ، بم؟ قال : باتخاذم القينات وشربهم الخمور.
    وعن الصادق عليه‌السلام : أما يستحي أحدكم أن يغنّي على دابّته وهو تسبّح؟!
    وعن فقه الرضا عليه‌السلام : كسب المغنية حرام.
    وقد يروى عن أبي عبد الله أنّه سأله بعض أصحابه فقال : جعلت فداك ، لي جيران ولهم جوار مغنّيات يتغنّين ويضربن بالعود ، فربّما دخلت الخلاء فأطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تفعل ، فقال الرجل : والله ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو أسمع بأذني ، فقال أبو عبد الله : أو سمعت قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(2). وروي في تفسير هذه الآية : إنّه يسئل السمع عمّا سمع ، والبصر عمّا نظر ، والقلب عمّا عقد عليه. فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية في كتاب الله عزوجل من عجمي وعربيّ ، لا جرم إنّي تركتها وإنّي أستغفر الله. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اذهب فاغتسل وصلّ ما بدا لك
    __________________
    (1) الحجّ : 30.
    (2) الإسراء : 36.

    فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوء حالك لو كنت متّ على هذا ، استغفر الله واسأل الله التوبة من كلّ ما يكره فإنّه لا يكره إلّا القبيح والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ قبيح أهلا.
    وعن تفسير العيّاشي : إنّ أوّل من تغنّى كان إبليس.
    وعن جامع الأخبار : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الغناء رقية الزنا.
    وروى أبو أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما رفع أحد صوته بالغناء إلّا بعث الله شيطانين على منكبه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك.
    هذه نبذة من الأخبار ، وسنشير إلى بعضها الآخر في ترجمة يحيى بن أكثم في أخبار حرمة الخمر إن شاء الله.
    أخبار حرمة المعازف والملاهي
    في الأمالي : في مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه نهى عن الكوبة والعرطبة يعني الطبل والطنبور والعود.
    وروى الصدوق في الخصال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله بعثني رحمة للعالمين ولأمحق المعازف والمزامير وأمور الجاهليّة.
    وقال الرضا عليه‌السلام : استماع الأوتار من الكبائر. هكذا في روضات الجنّات في ترجمة الأمير غياث الدين منصور بن محمّد بن إبراهيم الدشتكي الشيرازي.
    وفيه أيضا : إنّه سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلا يضرب بالطنبور فمنعه وكسر طنبوره ثمّ استتابه فتاب. ثمّ قال عليه‌السلام : أتعرف ما يقول الطنبور حين يضرب؟ فقال : وصيّ رسول الله أعلم. فقال : إنّه يقول : ستذم ستذم أيا صاحبي ستدخل جهنّم أيا ضاربي.

    وفيه : وفي جامع الأخبار وغيرهما : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة وهو أسود الوجه وبيده طنبور من النار وفوق رأسه سبعون ألف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه ووجهه ، ويحشر صاحب الدفّ أعمى وأخرس وأبكم ، ويحشر صاحب الغناء مثل ذلك ، ويحشر الزاني مثل ذلك ، ويحشر صاحب المزمار مثل ذلك.
    وعن فقه الرضا : من أبقى في بيته طنبورا أو عودا أو شيئا من الملاهي من المعزفة والشطرنج وأشباهه أربعين يوما فقد باء بغصب من الله ، فإن مات في أربعين مات فاجرا فاسقا ومأواه النار وبئس المصير.
    وعن الخصال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ستّة لا ينبغي أن يسلّم عليهم : اليهود والنصارى وأصحاب النرد والشطرنج وأصحاب الخمر والبربط والطنبور والمتفكّهون بسبّ الأمّهات.
    وروى الصدوق في علل الشرايع : سأل الشامي أمير المؤمنين عن معنى هدير الحمام الراعبيّة ، فقال : تدعو على أهل المعازف والقيان والمزامير والعيدان.
    قتل محمود فرج
    قال أبو الوليد في روض المناظر : وفي سنة خمس وثلاثين ومأتين ظهر رجل بسامرّاء يقال له محمود فرج ، وادّعى النبوّة ، وتبعه سبعة وعشرون رجلا وأتي به إلى المتوكّل فأمر أصحابه أن يصفعون ، فصفعه كلّ واحد منهم عشر صفعات وضربه حتّى مات ، وحبس أصحابه.

    وممّن توفّي في سامرّاء : أبو الهذيل العلّاف
    وقد أتينا بأخباره في ذكر قضاة سامرّاء وعلمائها.
    ومنهم : محمّد بن عبد الملك الزيّات
    وزير المعتصم الواثق ، توفّي في سامرّاء سنة 233 وكان كاتبا بليغا ذا فضل وافر ، وله أشعار رائقة وديوان رسائل ، وكان قد هجا القاضي أحمد بن أبي داود بتسعين بيتا فعمل فيها القاضي بيتين على ما يأتي في ترجمة أحمد بن أبي داود.
    وكان ابن الزيّات قد اتّخذ في أيّام وزارته تنّورا من حديد وبأطرافه مسامير محدودة إلى داخل التنّور وهي قائمة وكان يعذّب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيف ما انقلب واحد منهم أو تحرّك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجدون لذلك أشدّ الألم ، ولم يسبقه أحد لهذه المعاقبة.
    فلمّا تولّى المتوكّل الخلافة اعتقل ابن الزيّات وأمر بإدخاله التنّور وقيّده بخمسة عشر رطلا من الحديد ، فأقام في التنّور أربعين يوما ثمّ مات.
    وقال المسعودي : إنّه قال للمتوكّل بأن يأذن له في دواة وبطاقة يكتب فيها ما يريد ، فاستأذن المتوكّل في ذلك ، فأذن له ، فكتب :
    هي السبيل فمن يوم إلى يوم
    كأنّه ما تريك العين في نوم

    لا تجزعنّ رويدا إنّها دول
    دنيا تنقّل من قوم إلى قوم

    قال : وتشاغل المتوكّل في ذلك اليوم فلم تصل الرقعة إليه ، فلمّا كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميّتا.
    قال ابن خلّكان : قال أحمد الأحول : لمّا قبض على ابن الزيّات تلطّفت إلى أن وصلت إليه ، فرأيته في حديد ثقيل ، فقلت له : يعزّ عليّ ما أرى ، فقال :


    سل ديار الحمّى من غيّرها
    وعفاها ومحى منظرها

    وهي الدنيا إذا ما أقبلت
    صيّرت معروفها منكرها

    إنّما الدنيا كظلّ زائل
    نحمد الله الذي قدّرها

    ولمّا جعل في التنّور قال له خادمه : يا سيدي ، قد صرت إلى ما صرت إليه وليس لك حامد.
    وقال ابن الأثير في الكامل : فلمّا مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله وكانا محبوسين ، وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه ، فقالا : الحمد لله الذي أراحه من هذا الفاسق وغسّلاه على الباب ودفناه. وقيل : إنّ الكلاب نبشته وأكلت لحمه.
    ومنهم : عليّ بن جعفر المدني
    قال المسعودي في مروج الذهب : ومات في خلافة المتوكّل جماعة من أهل العلم ونقلة الآثار وحفّاظ الحديث منهم عليّ بن جعفر المدني بسامرّاء يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثين ومأتين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وأشهر.
    أقول : إن كان مراده عليّ بن جعفر الصادق عليه‌السلام فهو مدفون بالعريض قرب المدينة ، وإن كان غيره فلا نعرفه لأنّ عليّ بن جعفر الوكيل الذي هو من أصحاب أبي الحسن العسكري الثقة الجليل القدر ليس بمدنيّ ، وعليّ بن جعفر الهرمزانيّ القمّي وعليّ بن جعفر الهمداني البرمكيّ أيضا ليسا بمدنيّين.
    وأمّا عليّ بن جعفر الصادق عليه‌السلام لمّا توفّي لم يكن عمره أقلّ من مائة سنة لأنّه أدرك الإمام عليّا الهادي عليه‌السلام وكان يروي عن أبيه جعفر الصادق عليه‌السلام وكانت وفاة

    الصادق عليه‌السلام سنة 148 ، ومقتضى روايته عن الإمام عليّ الهادي حين توفّي ابنه أبو جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام سنة 252 أن لا يكون عمره أقلّ من مائة وعشرين سنة ، والله العالم.
    أقوال العلماء في حقّه
    قال المامقاني رحمه‌الله في رجاله : إنّه عليه‌السلام جليل القدر ، عظيم المنزلة. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق تارة ، وأخرى من أصحاب أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام وثالثة من أصحاب الرضا عليه‌السلام.
    وقال في الفهرست : عليّ بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، جليل القدر ثقة ، وله كتاب المناسك ، ومسائل لأخيه موسى الكاظم عليه‌السلام سأله عنها.
    وقال النجاشي : أبو الحسن عليّ بن جعفر سكن العريض من نواحي المدينة فنسب ولده إليها ، له كتاب في الحلال والحرام.
    وقال العلّامة في القسم الأوّل من الخلاصة أنّه ثقة. روى الكشّي عنه ما يشهد بصحّة عقيدته وتأدّبه مع أبي جعفر الثاني ، وحاله أجلّ من ذلك ، سكن العريض ـ بضمّ العين المهملة ـ من نواحي المدينة فنسب ولده إليها ، وكونه من أصحاب الأئمّة الثلاثة الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ممّا لا ريب فيه ولا شبهة.
    وقال المفيد في الإرشاد : وكان عليّ بن جعفر راويا للحديث ، سديد الطريق ، شديد الورع ، كثير الفضل ، ولزم أخاه موسى وروى عنه شيئا كثيرا.
    وروى الكشّي في رجاله بإسناده عن عليّ بن أسباط وغيره عن عليّ بن جعفر بن محمّد عليهم‌السلام : قال رجل أحسبه من الواقفة : ما فعل أخوك أبو الحسن؟ قلت : قد

    مات. قال : وما يدريك بذاك؟ قال : قلت : اقتسمت أمواله ونكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال : ومن الناطق بعده؟ قلت : ابنه عليّ. قال : فما فعل؟ قلت له : مات. قال : وما يدريك إنّه مات؟ قلت : قسمت أمواله ونكحت نساؤه ونطق الناطق من بعده. قال : ومن الناطق من بعده؟ قلت : ابنه أبو جعفر. قال : فقال لي : أنت في سنك وقدرك وابن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام تقول هذا القول في هذا الغلام ، قلت : ما أراك إلّا شيطانا. قال : ثمّ أخذ بلحيته فرفعها إلى السماء ، ثمّ قال : فما حيلتي إن كان الله رآه أهلا لهذا ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلا.
    وفيه أيضا بالإسناد عن أبي عبد الله الحسين بن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام بالمدينة وعنده عليّ بن جعفر عليه‌السلام وأعرابيّ من أهل المدينة جالس ، فقال الأعرابي : من هذا الفتى ـ وأشار إلى أبي جعفر عليه‌السلام ـ؟ قلت : هذا وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال : يا سبحان الله ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات منذ مأتي سنة وكذا وكذا سنة وهذا حدث كيف يكون هذا؟ قال : قلت : هذا وصيّ عليّ بن موسى بن جعفر ، وموسى وصيّ جعفر بن محمّد ، وجعفر وصيّ محمّد بن عليّ ، ومحمّد وصيّ عليّ ابن الحسين ، والحسين وصيّ الحسن ، والحسن وصيّ عليّ بن أبي طالب ، وعليّ وصيّ رسول الله.
    قال : ودنا الطبيب ليقطع له العرق ، فقام عليّ بن جعفر فقال : يا سيّدي ، يبدأ بي ليكون حدّة الحديد في قبلك. قال : فقطع له العرق.
    تأدّبه مع الإمام الجواد عليه‌السلام
    قال في الخبر السابق : ثمّ أراد أبو جعفر عليه‌السلام النهوض ، فقام عليّ بن جعفر عليه‌السلام فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما.

    وروى الكليني في باب النصّ على الجواد عليه‌السلام من أصول الكافي بإسناده عن محمّد ابن الحسن بن عمّار قال : كنت عند عليّ بن جعفر بن محمّد جالسا بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يستمع من أخيه يعني أبا الحسن موسى عليه‌السلام إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه‌السلام المسجد مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا عم ، اجلس رحمك الله. فقال : يا سيّدي ، كيف أجلس وأنت قائم؟!
    فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال : اسكتوا ، إذا كان الله عزوجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ، بل أنا عبد له.
    هذا يدلّ على حسن عقيدته ونهاية أدبه.
    تعيين مشهده
    قال المسعودي : توفّي في سامرّاء ـ كما عرفت آنفا ـ ولم أستبعد ذلك لو صحّت روايته عن أبي الحسن الهادي عليه‌السلام في سامرّاء.
    قال العلّامة النوري في المجلّد الثالث من المستدرك (1) : روى الكليني في باب النصّ على العسكري عليه‌السلام : عليّ بن محمّد ، عن موسى بن جعفر بن وهب ، عن عليّ بن جعفر قال : كنت حاضرا أبا الحسن لمّا توفّي ابنه محمّد ، فقال للحسن عليه‌السلام ابنه : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا ، انتهى.
    وحضوره في ذلك الوقت في سامرّاء وقد طعن في السنّ لعلّه يقرب أنّه توفّي
    __________________
    (1) المستدرك للوسائل 3 : 627.

    فيها ، غير أنّ المسعودي صرّح بأنّ وفاته كانت في سنة 234 ، وكانت وفاة أبي جعفر محمّد ابن عليّ الهادي في حدود سنة 252 كما ستعرف في محلّه.
    وتوفّي الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام سنة 254 ، فعلى هذا التاريخ إسناد الرواية إليه غير صحيح ، والله الأعلم.
    أضف أنّ الرواية مرويّة في بصائر الدرجات بالإسناد عن عليّ بن عبد الله بن مروان الأنباري قال : كنت حاضرا عند مضي أبي جعفر بن أبي الحسن العسكري ، إلى آخرها.
    ورواه المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بالإسناد عن سعد بن عبد الله ، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس أنّهم حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ بن محمّد عليه‌السلام ، إلى آخرها.
    ورواه الشيخ في غيبته بالإسناد عن ابن أبي الصهبان قال : لمّا مات أبو جعفر ، إلى آخرها.
    وفي جميع هذه الروايات ليس فيها ذكر عن عليّ بن جعفر ، ويحتمل قويّا حضور بعض ولده في الرواية المشار إليها ، والله العالم.
    والاحتمال الثاني أنّه مدفون بقم ، جزم بذلك المولى محمّد تقي المجلسي قدس‌سره في شرحه للفقيه ، قال بعد ترجمته وذكر فضائله : وبالجملة فجلالة قدره أجلّ من أن يذكر ، وقبره بقم مشهور ، وسمعت أنّ أهل الكوفة التمسوا منه مجيئه من المدينة إليهم وكان في الكوفة مدّة وأخذ أهل الكوفة الأخبار عنه وأخذ منهم أيضا ، ثمّ استدعى القميّون نزوله إليهم ، فنزلها وكان بها حتّى مات رضي‌الله‌عنه وأرضاه ، وانتشر أولاده في العالم ؛ ففي اصبهان قبر بعض أولاده منهم السيّد كمال الدين في قرية «سين برخوار» من قرى اصفهان ، وقبره يزار ، وسادات نطنز أكثرهم من أولاده ، منهم السيّد أبو المعالي ، والسيّد أبو علي ، وأولادهما باصبهان من الأعاظم في الدين والدنيا ، انتهى.

    وقال ولده العلّامة المجلسى قدس‌سره في البحار : ثمّ اعلم أنّ المشاهد المنسوبة إلى أولاد الأئمّة الهادية والعترة الطاهرة وأقاربهم صلوات الله عليهم يستحبّ زيارتها والإلمام بها ـ إلى أن قال : ـ وعليّ بن جعفر المدفون بقم جلالته أشهر من أن يحتاج إلى البيان ، وأمّا كونه مدفونا بقم فغير مذكور في الكتب المعتبرة ، لكن أثر قبره الشريف موجود وعليه اسمه مكتوب ، انتهى.
    مشهده بالعريض
    قال العلّامة النوري قدس‌سره في المجلّد الثالث من المستدرك (1) بعد نقل كلام المجلسيّين رحمهما‌الله : وإنّي لأتعجّب من هذين الجليلين الماهرين الخبيرين واحتمالهما كون عليّ بن جعفر مدفونا بقم فضلا عن الظنّ أو الجزم به ، لما سمعه الأوّل ممّا لا أصل له ، وذكر الثاني من كتابة الاسم على القبر ، بل القرائن الكثيرة المعتبرة تشهد بعدم كونه فيه. ثمّ أخذ في ذكر القرائن بأنّه مدفون بالعريض وهي قرية على أربعة أميال من المدينة. وحاصل ما ذكره أنّه قال:
    منها : عدم ذكر ذلك في الكتب مع أنّ عليّ بن جعفر جمع بين السيادة والفضل والجلالة وكثرة الرواية والاشتهار ، ولو كان ممّن هاجر إلى قم ومات فيه لتعرّض له أهل الرجال كتعرّضهم كثيرا في التراجم أنّ فلانا كوفيّ مثلا انتقل إلى البصرة أو هاجر أو سكن بلد كذا ، وكذا أهل الأنساب مع أنّهم ذكروا مقامه وجلالته ، وكتبه والطريق إليه ، وما ورد فيه ولم يذكر أحد أنّه هاجر إلى العجم.
    ومنها : إنّه لو كان في قم لأخذوا الأخبار عنه فكيف تركوا الأخذ عنه ، والرواية عنه ، وهم الذين كانوا يشدّون الرحال إلى أقاصي البلاد لأخذ الحديث من حملته ،
    __________________
    (1) المستدرك 3 : 626.

    وهم الذين سافروا من قم إلى اصبهان وهو أبعد البلاد من الشيعة لأخذ الحديث عن إبراهيم الثقفي الذي هاجر من الكوفة إليه ، ومع ذلك يتركون أخذ الحديث ممّن نزل فيهم ، وهو الشيخ الكبير العالم الجليل ابن الإمام وأخوه وعمّه ، وعنده ما تشتهيه الأنفس وتلذّ القلوب.
    ومنها : أنّ الفاضل الماهر الخيّر الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي المعاصر للصدوق رحمه‌الله ذكر السادات وذكر أوّل من نزل منهم بقم ، وذكر السادات العريضيّة وقال : أوّل من نزل منهم بقم الحسن بن عيسى بن محمّد بن عليّ بن جعفر الصادق عليهم‌السلام ، ثمّ شرع في شرح حال ذرّيّته ولم يذكر من عليّ بن جعفر شيئا أبدا ، وأنت خبير بأنّه لو كان جدّ هؤلاء السادة عليّ بن جعفر ممّن نزل بقم ودفن فيها لكان أولى بالذكر من جميعهم ، وما كان ليخفى عليه كما يظهر لمن نظر إلى هذا الكتاب يعني تاريخ قم واطّلاعه على جميع ما يتعلّق بهذه البلدة الطيّبة وقراها ، وهذا ممّا يورث القطع بالعدم.
    والحقّ أنّ قبره بالعريض كا هو معروف عند أهل المدينة. قال : وقد نزلنا عنده في بعض أسفارنا ، وعليه قبّة عالية ، وأمّا الموجود في قم فيمكن أن يكون من أحفاده ، وأمّه أمّ ولد ، يقال لولده العريضيّون. ثمّ إنّ الذي ادّعى أنّ اسمه مكتوب عليه فقد نقش عليه فلان بن فلان بن عليّ بن جعفر فمحي بعض الأسماء وبقي اسمه فظنّوا أنّه قبره.
    ومنهم : جعفر المعروف بالكذّاب
    تقدّم في الجزء الأوّل أنّه توفّي في سامرّاء ودفن في الدار بجنب أبيه الإمام عليّ الهادي وأخيه الحسن العسكري عليهما‌السلام. كانت ولادته في سنة إحدى وسبعين ومأتين.

    وجاء في هامش الفرق والمذاهب للنوبختي المطبوع بالنجف الأشرف : كان عمره خمسا وأربعين سنة وقبره في دار أبيه بسامرّاء.
    وقال ابن عنبة في عمدة الطالب : وكنيته أبو البنين ، ويدعى أبا كرين لأنّه أولد مائة وعشرين ولدا (إذ الكرّ ستّون قفيزا) ولقّب بالكذّاب لادّعائه الإمامة بعد أخيه الحسن عليه‌السلام.
    ختم أمره بالغفران
    إنّ جعفرا فعل ما فعل وقال ما قال وادّعى ما ادّعى ثمّ تاب وأتاب ورجع إلى الحقّ والصواب إن شاء الله.
    لما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل إليه عليه‌السلام ما سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك من أمر المنكرين من أهل بيتنا وبني عمّنا ، فاعلم أنّه ليس بين الله عزوجل وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس منّي وسبيله سبيل ابن نوح ، وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف.
    فقوله : «فسبيل إخوة يوسف» ظاهره العفو والإغماض عمّا ارتكبه جعفر ، وأنّه تاب وأناب كما أنّ إخوة يوسف تابوا عمّا فعلوا بأخيهم يوسف فلا نقول فيه إلّا خيرا غير أنّا ننقل ما ورد فيه من الأخبار الدالّة على ذمّ عظيم من المصادر الوثيقة والله غفور رحيم(1).
    __________________
    (1) القول في ختام أولاد الأئمّة عليهم‌السلام بالخير :
    روى الصدوق في الأمالي بإسناده عن أبي سعيد المكاري قال : ذكر في مجلس أبي عبد الله عليه‌السلام خروج ـ

    عدم سرور الإمام عليه‌السلام بولادته
    روى الصدوق رحمه‌الله في الإكمال ، وعليّ بن عيسى الأربلي في كشف الغمّة ، والعلّامة المجلسي في البحار بالأسانيد عن فاطمة ابنة الهيثم المعروف بابن سبانة قالت : كنت في دار أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليهما‌السلام في الوقت الذي ولد فيه جعفر ، فرأيت أهل الدار قد سرّوا به ، فصرت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فلم أره مسرورا بذلك ، فقلت له : يا سيّدي ، ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال عليه‌السلام : هوّني عليك فإنّه سيضلّ خلقا كثيرا.
    __________________
    ـ زيد وأصحابه ، فأراد رجل من أهل المجلس أن يتكلّم في زيد ، فقال عليه‌السلام : مهلا ، ليس لكم أن تدخلوا بيننا إلّا بسبيل خير ، إنّه لم تمت نفس منّا إلّا تدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق ناقة. قال : قلت : وما فواق ناقة ، قال حلابها.
    وروى المجلسي في المجلّد الثاني عشر من البحار عن تاريخ قم للحسن بن محمّد القمّي ، قال : رويت عن مشايخ قم أنّ الحسين بن الحسن بن جعفر بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام كان بقم يشرب الخمر علانية ، فقصد يوما لحاجة باب أحمد بن إسحاق الأشعري ، وكان وكيلا في الأوقاف بقم ، فلم يأذن له ورجع إلى بيته مهموما ، فتوجّه أحمد بن إسحاق إلى الحجّ فلمّا بلغ سرّ من رأى استأذن على أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام فلم يأذن له ، فبكى أحمد لذلك طويلا وتضرّع حتّى أذن له ، فلمّا دخل قال : يابن رسول الله ، لم منعتني الدخول عليك وأنا من شيعتك ومواليك؟ قال : لأنّك طردت ابن عمّنا عن بابك ، فبكى أحمد وحلف بالله أنّه لا يمنعه من الدخول إليه إلّا أن يتوب من شرب الخمر ، قال : صدقت ولكن لا بدّ من إكرامهم واحترامهم على كلّ حال ، وأن لا تحقّرهم ولا تستهين بهم لانتسابهم إلينا فتكون من الخاسرين.
    فلمّا رجع أحمد إلى قم أتاه أشرافهم وكان الحسين معهم ، فلمّا رآه أحمد وثب إليه واستقبله وأكرمه وأجلسه في صدر المجلس ، فاستغرب الحسين ذلك منه واستبعده وسأله عن سببه ، فذكر له ما جرى بينه وبين العسكري عليه‌السلام في ذلك ، فلمّا سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة وتاب منها ورجع إلى بيته وأهرق الخمور وكسر آلاتها وصار من الأتقياء المتورّعين والصلحاء المتعبّدين ، وكان ملازما للمساجد معتكفا فيها حتّى أدركه الموت ودفن قريبا من مزار فاطمة بنت موسى بن جعفر عليه‌السلام.

    أمر الإمام عليه‌السلام بالتجنّب عن جعفر
    روى السيّد هاشم البحراني في الحادي والسبعين من معاجز الحجّة عجّل الله تعالى فرجه عن كتاب الهداية للحسين بن حمدان الخصيبي أنّه روى عن محمّد بن عبد الحميد البزّاز وأبي الحسين محمّد بن يحيى ومحمّد بن ميمون الخراساني والحسين ابن مسعود الفزاري قالوا جميعا : قال وقد سألتهم في مشهد سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام بكربلا عن جعفر وما جرى من أمره قبل وفاة سيّدنا أبي الحسن وأبي محمّد عليهما‌السلام صاحبي العسكر وبعد غيبة سيّدنا أبي محمّد عليه‌السلام وما ادّعاه جعفر وما ادّعي له ، فحدّثوني من جملة أخباره أنّ سيّدنا أبا الحسن كان يقول لهم : تجنّبوا ابني جعفرا فإنّه منّي بمنزلة نمرود من نوح الذي قال الله عزوجل فيه : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(1) قال الله : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)(2).
    وإنّ أبا محمّد كان يقول بعد أبي الحسن عليه‌السلام : الله الله أن يظهروا سرّا لأخي جعفر ، ما مثلي ومثله إلّا مثل هابيل وقابيل ابني آدم حيث حسد قابيل هابيل على ما أعطاه من الحشمة ولو تهيّأ لجعفر قتلي لفعل ولكن الله غالب على أمره ، ولقد كان عهدنا لجعفر وكلّ من في البلدة من العسكر والحاشية والرجال والنساء والخدم يشكون إلينا إذا وردنا الدار أمر جعفر فيقولون : إنّه يلبس المصنعات مثل النساء ، ويضرب له بالعيدان ، ويشرب الخمر ، ويبذل الدراهم والخلع لمن في داره على كتمان ذلك عليه ، فيأخذون منه ولا يكتمون.
    وإنّ الشيعة بعد أبي محمّد هجروه وتركوا السلام عليه ، وإنّ جعفرا لمّا كان في ليلة وفاة أبي محمّد عليه‌السلام ختم على الخزائن وكلّما في الدار فلمّا أصبح رأى أنّه لم يبق في
    __________________
    (1) هود : 45.
    (2) هود : 46.

    الخزائن ولا في الدار إلّا شيء يسير ، فضرب جماعة الخدم والإماء ، فقالوا : لا تضربنا فو الله لقد رأينا الأمتعة والذخائر تحمل على جمال في الشارع ونحن لا نستطيع الكلام ولا الحركة إلى أن سارت الجمال وأغلقت الأبواب كما كانت ، فولّى جعفر يضرب على رأسه أسفا على ما أخرج من الدار وإنّه بقي يأكل ما كان له ويبيع حتّى لم يبق له قوت يوم ، وكان له من الأولاد أربعة وعشرون ـ وفي خبر مائة وعشرون ـ بين ذكور وإناث ، وكان له من أمّهات الأولاد والخدم والحشم والغلمان فبلغ به الفقر إلى أن أمرت جدّة أمّ أبي محمّد عليه‌السلام أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابّه والكسوة لأولاده وأمّهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم ، ولقد ظهرت منه أشياء أكثر ممّا وصفناه ، ونسأل الله العصمة والعافية من البلاء في الدنيا والآخرة.
    بيع جعفر حرّة هاشميّة
    روى الكليني رحمه‌الله بسنده عن عليّ بن محمّد قال : باع جعفر فيمن باع من مماليك أبي جعفر صبية جعفريّة ـ أي من أولاد جعفر الطيّار ـ كانت في الدار ، فبعث بعض العلويّين وأعلم المشتري خبرها ، فقال المشتري : قد طابت نفسي بردّها وأن لا أزرا ـ أي لا أنقص ـ من ثمنها شيئا ، فذهب العلوي وأعلم أهل الناحية الخبر ، فبعثوا إلى المشتري بأحد وأربعين دينارا وأمروه بدفعها إلى صاحبها ـ أي إلى وليّها من آل جعفر الطيّار ـ.
    إخبار زين العابدين عليه‌السلام عن مآثم جعفر
    روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج وغيره في غيره عن أبي حمزة الثمالي عن أبي

    خالد الكابلي قال : سألت عليّ بن الحسين من الحجّة والإمام من بعده؟ فقال : ابني محمّد ، واسمه في التوراة الباقر ؛ يبقر العلم بقرا ، هو الحجّة والإمام بعدي ، ومن بعد محمّد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق.
    فقلت له : يا سيّدي ، كيف صار اسمه الصادق وكلّكم صادقون؟
    فقال : حدّثني أبي عن أبيه عليهما‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا ولد ابني جعفر بن محمّد ابن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق ، فإنّ الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه ، فهو عند الله جعفر الكذّاب المفتري على الله المدّعي لما ليس له بأهل ، المخالف على أبيه ، والحاسد لأخيه ، وذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله.
    ثمّ بكى عليّ بن الحسين بكاء شديدا ثمّ قال : كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله والمغيب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته وحرصا على قتله إن ظفر به طمعا في ميراث أبيه حتّى يأخذه بغير حقّه ، الحديث.
    توقيع الحجّة عليه‌السلام إلى أحمد بن إسحاق في حقّ جعفر
    وروى أيضا في الاحتجاج عن سعد بن عبد الله الأشعري عن الصدوق ، عن أحمد ابن إسحاق القمّي قال : إنّه جاء إليه بعض أصحابنا يعلمه بأنّ جعفر بن عليّ الهادي كتب إليه كتابا يعرّفه نفسه ويعلمه أنّه القيّم بعد أخيه ، وأنّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلّها.
    قال أحمد بن إسحاق : فلمّا قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان وصيّرت كتاب جعفر في درجه ، فخرج إليّ الجواب في ذلك : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أتاني
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:04 pm

    كتابك أبقاك الله ، والكتاب الذي في درجه وأحاطت معرفتي بما تضمّنه على اختلاف ألفاظه وتكرّر الخطأ فيه ، ولو تدبّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه ، والحمد لله ربّ العالمين حمدا لا شريك له على إحسانه إلينا وفضله علينا ، أبى الله عزوجل للحقّ إلّا إتماما ، وللباطل إلّا زهوقا ، وهو شاهد عليّ بما أذكره ولي عليكم كفيل بما أقوله إذا اجتمعنا بيوم لا ريب فيه ، وسألنا عمّا نحن فيه مختلفون ، وإنّه لم يجعل لصاحب الكتاب على من كتب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعا إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمّة ، وسأبيّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله.
    يا هذا ، يرحمك الله ، إنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثا ، ولا أمهلهم سدى ، بل خلقهم بقدرته وجعل لهم أبصارا وأسماعا ، وقلوبا وألبابا ، ثمّ بعث إليهم النبيّين عليهم‌السلام مبشّرين ومنذرين يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفوهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتابا بعث إليهم ملائكته ، وبيّن فضلهم عليهم بما آتاهم من الدلائل الظاهرة ، والبراهين الباهرة ، والآيات الغالبة ، فمنهم من جعل عليه النار بردا وسلاما ، واتّخذه خليلا ، ومنهم من كلّمه تكليما ، وجعل عصاه ثعبانا مبينا ، ومنهم من أحيا الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، ومنهم من علّمه منطق الطير وأوتي من كلّ شيء.
    ثمّ بعث محمّدا رحمة للعالمين ، وتمّم به نعمته ، وختم به أنبيائه ورسله إلى الناس كافّة ، وأظهر من صدقه ما ظهر ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن ، ثمّ قبضه حميدا ، فقيدا سعيدا ، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحدا بعد واحد ، أحيا بهم دينه ، وأتمّ بهم نوره ، وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمّهم والأدنين من ذوي أرحامهم فرقا بيّنا تعرف به الحجّة من المحجوج ، والإمام من المأموم ، بأن عصمهم من الذنوب ، وبرأهم من العيوب ، وطهّرهم من الدنس ، ونزّههم من اللبس ، وجعلهم خزّان

    علمه ، ومستودع حكمته ، وموضع سرّه ، وأيّدهم بالدلايل ، ولو لا ذلك لكان الناس على سواء ، ولادّعى أمر الله عزوجل كلّ واحد ، ولما عرف الحقّ من الباطل ، ولا العلم من الجهل.
    وقد ادّعى هذا المبطل المدّعي على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدري بأيّة حالة هي له رجاء أن يتمّ دعواه؟ أبفقه في دين الله؟ فو الله ما يعرف حلالا من حرام ، ولا يفرّق بين خطأ وصواب ، أم بعلم؟ فما يعلم حقّا من باطل ، ولا محكما من متشابه ، ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها ، أم بورع؟ فالله شهيد على تركه لصلاة الفرض أربعين يوما ، يزعم ذلك لطلب الشعبذة ، ولعلّ خبره تأدّى إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهورة قائمة ، أم بآية؟ فليأت بها ، أم بحجّة؟ فليلقها ، أم بدلالة الكتاب من الله العزيز الحكيم؟ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(1) الآيات.
    فالتمس وفّقك الله من هذا الظالم ما ذكرت له وامتحنه واسأله آية من كتاب الله يفسّرها ، أو صلاة يبيّن حدودها وما يجب فيها ، لتعلم حاله ومقداره ، ويظهر لك عوراه ونقصانه ، والله حسيبه ، حفظ الله الحقّ على أهله ، وأقرّه في مستقرّه ، وقد أبى الله عزوجل أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين ، وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقّ واضمحلّ الباطل وانحسر عنكم ، وإلى الله أرغب في الكفاية وجميل الصنع والولاية ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
    __________________
    (1) الأحقاف : 3 و 4.

    حبس جعفر مع الإمام أبي محمّد عليه‌السلام
    روى الشيخ الطوسي رحمه‌الله في الغيبة عن سعد بن عبد الله قال : حدّثني جماعة منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري والقاسم بن محمّد العبّاسيّ ومحمّد بن عبد الله ومحمّد بن إبراهيم العمري وغيرهم ممّن كان حبس بسبب قتل عبد الله بن محمّد العبّاسي أنّ أبا محمّد وأخاه جعفر أدخلا عليهم ليلا ، قالوا : كنّا ليلة من الليالي جلوسا نتحدّث إذ سمعنا حركة باب السجن فراعنا ذلك ، وكان أبو هاشم عليلا ، فقال لبعضنا : اطّلع وانظر ما ترى ، فطلع إلى موضع الباب فإذا الباب فتح فإذا هو برجلين قد أدخلا إلى السجن وردّ الباب وأقفل.
    قال : فدنا منهما وقال : من أنتما؟ فقال أحدهما : أنا الحسن بن عليّ ، وهذا جعفر ابن عليّ ، فقال لهما : جعلني الله فداكما إن رأيتما أن تدخلا البيت ، فدخلا فسلّمنا عليهما ، فلمّا نظر إليهما أبو هاشم قام من مضربة كانت تحته فقبّل وجه أبي محمّد وأجلسه عليها ، فجلس جعفر قريبا منه ، فقال جعفر : وا شيطناه! بأعلى صوته يعني جارية له ، فزجره أبو محمّد وقال له : أسكت فإنّهم رأوا فيه آثار السكر وإنّ النوم غلبه وهو جالس معهم ، فنام على تلك الحال.
    مقالة الخاقاني في حقّ جعفر
    روى العلّامة المجلسي في المجلّد الثاني عشر من البحار في خبر طويل يأتي في محلّه ، قال أهل المجلس من الأشعريّين لأحمد بن عبيد الله بن خاقان : يا أبا بكر ، فما حال أخيه جعفر؟ فقال : ومن جعفر فيسئل عن خبره ويقرن به؟ إنّ جعفرا معلن بالفسق ماجن شرّيب للخمور ، أقلّ من رأيت من الرجال وأهتكهم لستر نفسه ، فدم عن الكلام (أي عيّ) في ثقل ورخاوة وقلّة فهم ، خمّار جبّار غليظ في نفسه خفيف.

    إلى أن قال : فلمّا توفّي أبو محمّد عليه‌السلام جاء جعفر إلى أبي بعد قسمة الميراث وقال له : اجعل لي مرتبة أبي وأخي أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار ، فزبره أبي وأسمعه وقال له : يا أحمق ، إنّ السلطان أعزّه الله جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمّة ليردّهم عن ذلك فلم يقدر عليه ولم يتهيّأ له ، صرفهم عن هذا القول فيهما وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيّأ له ذلك فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماما فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّب لك مراتبهم ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بسعي سلطان ، واستقلّه عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب له ، فلم يأذن له بالدخول عليه حتّى مات أبي ، الخبر.
    إطلاق جعفر عن الحبس
    روى الشيخ الطوسي في الغيبة في ذيل رواية الحميري : وكان المعتمد يسأل من أخبار أبي محمّد حين حبسه وحبس جعفرا أخاه معه فيخبروه أنّه يصوم النهار ويصلّي الليل ، فسأل عنه يوما من الأيّام عن خبره ، فأخبره بمثل ذلك ، فقال له : امض الساعة إليه واقرأه منّي السلام وقل له : أنصرف إلى منزلك مصاحبا.
    قال عليّ بن جرير ـ أو جرين ـ : فجئت إلى باب الحبس فوجدت حمارا مسرجا ، فدخلت عليه فوجدته جالسا وقد لبس خفّه وطيلسانه ، فلمّا رآني نهض فأدّيت الرسالة ، فركب ، فلمّا استوى على الحمار وقف ، فقلت له : ما وقوفك يا سيّدي؟ فقال لي : حتّى يجيء جعفر ، فقلت : إنّما أمرني بإطلاقك دونه ، فقال له : ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دار واحدة جميعا فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لاخفاء به عليك ، فمضى وعاد فقال له : يقول لك : قد أطلقت جعفرا لك لأنّي حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلّم به ، فخلّى سبيله فصار معه إلى داره.

    منع الحجّة عليه‌السلام جعفرا عن الصلاة على أبيه
    روى الصدوق في الإكمال بإسناده عن أبي الحسن عليّ بن محمّد بن حباب ، حدّثنا أبو الأديان قال : كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الرضا عليهم‌السلام وأحمل كتبه إلى الأمصار ، فدخلت إليه في علّته التي توفّي فيها صلوات الله عليه ، فكتب معي كتبا وقال : تمضي بها إلى المدائن فإنّك ستغيب خمسة عشر يوما فتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.
    قال أبو الأديان : فقلت : يا سيّدي ، إذا كان ذلك فمن؟
    قال : من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي.
    فقلت : زدني.
    فقال : من يصلّي عليّ فهو القائم بعدي.
    فقلت : زدني.
    فقال : من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
    ثمّ منعتني هيبته أن أسأله ما الهميان ، وخرجت بالكتب إلى المداين وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي عليه‌السلام ، فإذا أنا بالواعية في داره ، وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزّونه ويهنّونه ، فقلت في نفسي : إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة لأنّي كنت أعرفه بشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور ، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء ، ثمّ خرج عقيد فقال : يا سيّدي ، قد كفّن أخوك فقم للصلاة عليه ، فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله.
    فلمّا صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن عليّ عليهما‌السلام على نعشه مكفّنا ، فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه ، فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة ، بشعره قطط ،

    بأسنانه تفليج ، فجذب رداء جعفر بن عليّ وقال : تأخّر يا عمّ فأنا أحقّ بالصلاة على أبي ، فتأخّر جعفر وقد تغيّر وجهه ، فتقدّم الصبي فصلّى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه ، ثمّ قال : يا بصري ، هات جوابات الكتب التي معك ، فدفعتها إليه وقلت في نفسي : هذه اثنتان ، بقي الهميان.
    ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر ، فقال له حاجز الوشّا : يا سيّدي ، من الصبي ليقيم عليه الحجّة؟ فقال : والله ما رأيته ولا عرفته ، فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن عليّ فعرفوا موته ، فقالوا : فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر ابن عليّ ، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه ، وقالوا : معنا كتب ومال ، فتقول ممّن الكتب وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول : يريدون منّا أن نعلم الغيب.
    قال : فخرج الخادم فقال : معكم كتب فلان بن فلان ، هميان فيه ألف دينار ؛ عشرة دنانير منها مطلية ، فدفعوا الكتب والمال وقالوا : الذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام ، فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك ، فوجّه المعتمد خدمه فقبضوا على صيقل الجارية وطالبوها بالصبي فأنكرته وادّعت حملا بها لتغطّي على حال الصبي ، فسلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ، فوقع موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة وخرج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت عن أيديهم ، والحمد لله ربّ العالمين لا شريك له.
    ما ذكره المفيد رحمه‌الله في حقّ جعفر
    قال المفيد في الإرشاد : وتولّى أخوه جعفر أخذ تركة أبي محمّد عليه‌السلام ، وسعى في حبس جواري أبي محمّد عليه‌السلام ، واعتقال حلائله ، وشنّع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته ، وأغرى بالقول حتّى أخافهم وشدّدهم

    وجرى على مخلّفي أبي محمّد الحسن بسبب ذلك كلّ عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل ، وحاز جعفر تركة أبي محمّد واجتهد في القيام على الشيعة مقامه فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقدوه فيه ، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس رتبة أخيه ، وبذل مالا جليلا ، وتقرّب بكلّ ما ظنّ أنّه يتقرّب به فلم ينتفع بشيء من ذلك.
    منع الحجّة عليه‌السلام عن الرجوع إلى جعفر
    روى القطب الراوندي في الخرايج عن أحمد بن أبي روح قال : وجّهت إليّ امرأة من أهل دينور فأتيتها ، فقالت : يابن أبي روح ، أنت أوثق من في ناحيتنا دينا وورعا ، وإنّي أريد أن أودعك أمانة أجعلها في رقبتك تؤدّيها وتقوم بها.
    فقلت لها : أفعل إن شاء الله تعالى.
    فقالت : هذه دراهم في هذا الكيس المختوم لا تحلّه ولا تنظر فيه حتّى تؤدّيه إلى من يخبرك بما فيه ، وهذا قرطي يساوي عشرة دنانير وفيه ثلاث حبّات لؤلؤ تساوي عشرة دنانير ، ولي عند صاحب الزمان حاجة أريد أن يخبرني بها قبل أن أسأله عنها.
    فقلت : وما الحاجة؟
    قالت : عشرة دنانير استقرضتها أمّي في عرسي لا أدري ممّن استقرضتها ولا أدري إلى من أدعها ، فإن أخبرك بها فادفعها إلى من يأمرك بها.
    قال : وكيف أقول لجعفر بن عليّ ـ يعني إذا طلب منّي جعفر الكذّاب المال كيف أقوله له؟ ـ.
    قالت الأمرأة : امتحنه.

    فقلت : هذه المحنة بيني وبين جعفر بن عليّ. فحملت المال فخرجت حتّى دخلت بغداد فأتيت حاجز بن يزيد الوشّا وسلّمت عليه وجلست ، قال : ألك حاجة؟ قلت : هذا مال دفع إليّ لا أدفعه إليك حتّى تخبرني كم هو ومن دفعه إليّ فإن أخبرتني دفعته إليك. قال : لم أؤمر بأخذه وهذه رقعة جائتني في أمرك وإذا فيها : لا تقبل من أحمد بن أبي روح ، فوجّه به إلى سرّ من رأى. فقلت : لا إله إلّا الله ، هذا الذي أردت.
    فخرجت ووافيت سرّ من رأى ، فقلت : أبدا بجعفر ، ثمّ تفكّرت وقلت : أبدأ بهم فإن كانت المحنة من عندهم وإلّا مضيت إلى جعفر ، فدنوت من دار أبي محمّد عليه‌السلام فخرج إليّ خادم ، فقال : أنت أحمد بن أبي روح؟ قلت : نعم ، قال : هذه الرقعة اقرأها ، فقرأتها ، فإذا فيها :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، يابن أبي روح ، أودعتك عاتكة بنت الديراني كيسا فيه ألف درهم بزعمك وهو خلاف ما تظنّ ، وقد أدّيت فيه الأمانة ولم تفتح الكيس ، ولم تدر فيه ما فيه ، وفيه ألف درهم وخمسون دينارا صحاحا ، ومعك قرط زعمت المرأة أنّه يساوي عشرة دنانير ، صدقت ، مع الفصّين اللذين فيه ، وفيه ثلاث حبّات لؤلؤ شرائها عشرة دنانير وهي تساوي أكثر ، فادفع ذلك إلى خادمتنا فلانة فإنّا قد وهبناه لها ، وصر إلى بغداد وادفع المال إلى حاجز وخذ منه ما يعطيك لنفقتك إلى منزلك. وأمّا العشرة دنانير التي زعمت أنّ أمّها استقرضتها في عرسها وهي لا تدري من صاحبها ، بل هي تعلم لمن هي ، هي لكلثم بنت أحمد وهي ناصبيّة فتحرّجت أن تعطيها وأحبّت أن تقسمها في إخوانها المؤمنين فاستأذنتها في ذلك فلتفرّقها في ضعفاء أخواتها ولا تعودنّ يابن أبي روح إلى القول بجعفر والمحنة له ، وارجع إلى منزلك فإنّ عدوّك قد مات ، وقد رزقك الله أهله وماله.

    قال : فرجعت إلى بغداد وناولت الكيس حاجزا فوزنه فإذا فيه ألف درهم وخمسون دينارا ، فناولني ثلاثين دينارا وقال : أمرت بدفعها إليك لنفقتك ، فأخذتها وانصرفت إلى الموضع الذي نزلت فيه ، وقد جائني من يخبرني أنّ عمّي قد مات وأهلي يأمرونني بالانصراف إليهم ، فرجعت فإذا هو قد مات وورثت منه ثلاثة آلاف دينار ومائة ألف درهم.
    رواية ابن قولويه في جعفر
    روى المفيد في الإرشاد عن ابن قولويه عن عليّ بن محمّد ، عن الحسن بن عيسى العريضي قال : لمّا مضى أبو محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام ورد رجل من مصر بمال إلى مكّة لصاحب الأمر فاختلف عليه ، وقال بعض الناس : إنّ أبا محمّد مضى عن غير خلف ، وقال آخرون : الخلف من بعده جعفر ، وقال آخرون : الخلف من بعده ولده ، فبعث رجلا يكنى أبا طالب إلى العسكر يبحث عن الأمر وصحّته ومعه كتاب ، فصار الرجل إلى جعفر وسأله عن برهان ، فقال له جعفر : لا يتهيّأ لي في الوقت ، فصار الرجل إلى الباب وأنفذ الكتاب إلى أصحابنا الموسومين بالسفارة ، فخرج إليه : آجرك الله في صاحبك فقد مات وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة يعمل فيه بما يحبّ ، وأجيب عن كتابه ، وكان الأمر كما قيل له.
    رواية الشيخ في كتاب الغيبة
    روى فيه بالإسناد عن بعض جلاوزة السواد قال : شهدت نسيما آنفا بسرّ من رأى وقد كسر باب الدار فخرج إليه وبيده طبرزين ، فقال : ما تصنع في داري؟ قال نسيم : إنّ جعفرا زعم أنّ أباك مضى ولا ولد له ، فإن كانت دارك فقد انصرفت عنك ، فخرج عن الدار.

    قال عليّ بن قيس : فقدم علينا غلام من خدّام الدار فسألته عن هذا الخبر ، فقال : من حدّثك بهذا؟ قلت : حدّثني بعض جلاوزة السواد ، فقال لي : لا يكاد يخفي على الناس شيء.
    ما جرى بين وفد القمّيّين وبين جعفر
    روى العلّامة المجلسي قدس‌سره في المجلّد الثالث عشر من البحار (1) عن أحمد بن الحسين ابن عبد الله ، عن زيد بن عبد الله البغدادي ، عن عليّ بن سنان الموصلي ، عن أبيه قال : لمّا قبض سيّدنا أبو محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام وفد من قم والجبال وفود بالأموال التي كانت تحمل على الرسم ولم يكن عندهم خبر وفاته عليه‌السلام ، فلمّا أن وصلوا إلى سرّ من رأى سألوا عن سيّدنا أبي محمّد الحسن عليه‌السلام فقيل لهم : إنّه قد توفّي ، قالوا : فمن وارثه؟ قالوا : أخوه جعفر بن عليّ ، فسألوا عنه ، فقيل لهم : قد خرج متنزّها وركب زورقا في دجلة يشرب ومعه المغنّون.
    قال : فتشاور القوم وقالوا : ليست هذه صفات الإمام ، وقال بعضهم لبعض : امضوا بنا نردّ هذه الأموال إلى أصحابنا. فقال أبو العبّاس أحمد بن جعفر الحميري القمّي : قفوا بنا حتّى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره على الصحّة.
    قال : فلمّا انصرف دخلوا عليه فسلّموا عليه وقالوا : يا سيّدنا ، نحن قوم من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها ، كنّا نحمل إلى سيّدنا أبي محمّد الحسن بن عليّ الأموال. فقال : أين هي؟ قالوا : معنا. قال : احملوها إليّ. قالوا : إلّا أنّ لهذه الأموال خبرا طريفا. فقال : وما هو؟
    قالوا : إنّ هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامّة الشيعة الدينار والديناران ،
    __________________
    (1) بحار الأنوار 13 : 117 الطبعة القديمة.

    ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليها ، وكنّا إذا وردنا بالمال قال سيّدنا أبو محمّد عليه‌السلام : جملة المال كذا ، وكذا دينارا من فلان كذا ، ومن فلان كذا حتّى يأتي على أسماء الناس كلّهم ، ويقول ما على الخواتيم من نقش.
    فقال جعفر : كذبتم ، تقولون على أخي ما لم يفعله ، هذا علم الغيب.
    قال : فلمّا سمع القوم كلام جعفر جعل ينظر بعضهم إلى بعض ، فقال لهم : احملوا هذا المال إليّ.
    فقالوا : إنّا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلّم المال إلّا بالعلامات التي كنّا نعرفها من سيّدنا أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلّا رددناها إلى أصحابها يرون فيها رأيهم.
    قال : فدخل جعفر على الخليفة وكان بسرّ من رأى فاستعدى عليهم ، فلمّا حضروا قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر ، قالوا : أصلح الله أمير المؤمنين إنّا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال وهي لجماعة أمرونا أن لا نسلّمها إلّا بعلامة ودلالة ، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمّد الحسن بن عليّ. فقال الخليفة : وما الدلالة التي كانت لأبي محمّد؟ قال القوم : كان يصف الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي ، فإذا فعل ذلك سلّمناها إليه ، وقد وفدنا عليه مرارا وكانت هذه علامتنا منه ودلالتنا ، وقد مات ، فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيم لنا أخوه وإلّا رددناها إلى أصحابها.
    فقال جعفر : يا أمير المؤمنين ، إنّ هؤلاء قوم كذّابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب.
    فقال الخليفة : القوم رسل وما على الرسل إلّا البلاغ.
    قال : فبهت جعفر ولم يحر جوابا ، فقال القوم : يتطوّل أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى من يبدرقنا حتّى نخرج من هذه البلدة.

    قال : فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها ، فلمّا أن خرجوا من البلد خرج عليهم غلام أحسن الناس وجها كأنّه خادم فنادى : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم. فقال : فقالوا : أنت مولانا؟ قال : معاذ الله ، أنا عبد مولاكم ، فسيروا إليه.
    قالوا : فسرنا معه حتّى دخلنا دار مولانا الحسن بن عليّ عليه‌السلام فإذا ولده القائم قاعد على سرير كأنّه فلقة القمر ، عليه ثياب خضر ، فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام ، ثمّ قال : جملة المال كذا وكذا دينارا ، حمل فلان كذا ، وفلان كذا ، ولم يزل يصف حتّى وصف الجميع ، ثمّ وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدوابّ ، فخررنا ساجدين لله عزوجل شكرا لما عرّفنا ، وقبّلنا الأرض بين يديه ، ثمّ سألناه عمّا أردناه فأجاب ، فحملنا إليه الأموال ، وأمرنا القائم أن لا نحمل إلى سرّ من رأى بعدها شيئا فإنّه ينصب لنا ببغداد رجلا نحمل إليه الأموال ، ويخرج من عنده التوقيعات.
    قال : فانصرفنا من عنده ، ودفع إلى أبي العبّاس محمّد بن جعفر القمّي الحميري شيئا من الحنوط والكفن ، فقال له : أعظم الله أجرك في نفسك. قال : فما بلغ أبو العبّاس عقبة همدان حتّى توفّي ، وكان بعد ذلك تحمل الأموال إلى بغداد إلى البوّاب المنصوبين ويخرج من عندهم التوقيعات.
    قال الصدوق رحمه‌الله : هذا الخبر يدلّ على أنّ الخليفة كان يعرف هذا الأمر كيف هو وأين موضعه فلهذا كفّ عن القوم وعمّا معهم من الأموال ، ودفع جعفر الكذّاب عنهم ، ولم يأمرهم بتسليمها إليه إلّا أنّه كان يحبّ أن يخفي هذا الأمر ولا يظهر لئلّا يهتدي إليه الناس فيعرفونه ، وقد كان جعفر حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لمّا توفّي أبو محمّد الحسن عليه‌السلام ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، تجعلني في مرتبة أخي ومنزلته؟ فقال الخليفة : اعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنّما كانت بالله عزوجل ،

    يأبى إلّا أن يزيده كلّ يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة ، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما في أخيك لم تغن عنك في ذلك شيئا.
    رواية القنبري في جعفر
    روى الشيخ الطوسي في غيبته بالإسناد عن القنبري من ولد قنبر الكبير مولى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : جرى حديث جعفر فشتمه ، فقلت : فليس غيره فهل رأيته؟ قال : لم أره ولكن رآه غيري. قلت : ومن رآه؟ قال : رآه جعفر مرّتين.
    ومثله رواه المفيد في الإرشاد.
    وإنّ مراد القنبري بهذا القول أنّ جعفرا مع أنّه رأى الحجّة مرّتين أنكر وجوده وادّعى الإمامة وزعم أنّ هو الوارث ، بل رآه ثلاث مرّات ، مرّة عند الصلاة على أبي محمّد عليه‌السلام ، ومرّة عند ما نازع في الميراث كما تقدّم ذكره في المجلّد الأوّل ، وأيضا عند دفن أمّ أبي محمّد عليه‌السلام في الدار ، رواه الصدوق في الإكمال بإسناده عن محمّد بن قنبر الكبير.
    أعقاب جعفر
    قال العلّامة عمدة النسّابين السيّد جمال الملّة والدين أحمد بن عليّ الحسيني في كتابه عمدة الطالب : إنّ جعفرا الملقّب بالكذّاب أعقب من جماعة انتشر منهم عقب ستّة ما بين مقلّ ومكثر ، وهم : إسماعيل حريفا وطاهر ويحيى الصوفي وهارون وعليّ وإدريس.
    فمن ولد إسماعيل بن جعفر الكذّاب ، ناصر بن إسماعيل المذكور ، وأخوه أبو البقا محمّد.

    ومن ولد طاهر بن جعفر أبو الغنايم بن محمّد الدقّاق بن طاهر بن محمّد بن طاهر ابن جعفر الكذّاب ، وأبو يعلى محمّد الدلّال ابن أبي طالب حمزة بن محمّد.
    ومن ولد يحيى الصوفي بن جعفر أبو الفتح أحمد بن محمّد بن المحسن بن يحيى الصوفي وهو النسّابة المعروف بابن المحسن الرضوي ، وله أخ اسمه علي ويكنى أبا القاسم ، كان فاضلا ديّنا ويحفظ القرآن ويرمى بالنصب ، أعقب بمصر.
    ومن ولد هارون بن جعفر عليّ بن هارون ، وابناه الحسن والحسين ، أعقبا بصيدا من بلاد الشام.
    ومن ولد عليّ بن جعفر الكذّاب محمّد نازوك بن عبد الله بن عليّ بن جعفر الكذّاب وبه يعرف ولده ، أعقب من جماعة منهم أبو القاسم عبد الله ويحيى وعليّ وعيسى ومحمّد ، يقال لأعقابهم : بنو نازوك بمقابر قريش.
    ومن ولد إدريس بن جعفر الكذّاب القاسم ، وفي ولده العدد ، ويقال لهم : القواسم ، نسبتا إلى جدّهم القاسم بن إدريس بن جعفر ، وأعقب القاسم من جماعة : منهم : أبو العسّاف الحسين بن القاسم ، فمن ولده الجواشنة ولد جوشن بن أبي الماجد محمّد بن القاسم بن أبي العسّاف الحسين بن القاسم.
    ومنهم : عليّ بن القاسم ، ومن ولده الفليتات ولد فليتة بن عليّ بن الحسين المذكور.
    ومنهم : البدور ولد بدر بن قائد أخ فليتة بن عليّ بن الحسين.
    ومنهم : عبد الرحمان بن القاسم ، من ولده ماجد بن عبد الرحمان ، يقال لولده المواجد وهم بطون كثيرة.
    ومنهم : السيّد عزّ الدين يحيى بن شريف بن بشير بن ماجد بن عطيّة بن يعلى بن دويد بن ماجد المذكور وأولاده بالحلّة.
    ومنهم : فخذ يقال لهم بنو كعيب ، بالمشهد الشريف الغروي ، هم ولد محمّد

    كعيب ابن عليّ بن الحسين بن راشد بن المفضّل بن دويد بن ماجد المذكور.
    ومنهم : عيّاش بن القاسم ، وأبو الماجد محمود بن القاسم بن أبي العسّاف الحسين المذكور أعقبا.
    وفي هامش عمدة الطالب : إنّ من أولاد هارون بن جعفر الكذّاب سادات أمروهه وهي قرية من مضافات دهلي ، وردها أولاد السيّد شرف الدين شاه ولايت ، وهو ابن السيّد علي بزرك وهو ابن السيّد مرتضى ، وهو ابن السيّد أبي المعالي ، وهو ابن السيّد أبو الفرج الصيداوي الواسطي ، وهو ابن السيّد داود ، وهو ابن السيّد حسين ، وهو ابن السيّد علي ، وهو ابن السيّد هارون بن جعفر الكذّاب.
    وأيضا من أولاد السيّد هارون سادات كرديز المشهورون في الهند ، انتهى.
    جملة من سادات النقويّة
    الذين ينتهي نسبهم إلى جعفر الكذّاب
    قال ملك الكتّاب في كتاب بحر الأنساب ما مضمونه : ومن جملة السادات النقويّة الذين ينتهي نسبهم إلى جعفر الكذّاب سادات بخارى وبعض بلاد الهند مثل ملتان ولاهور ودهلي ، وبعضهم قاطنون في بلوجستان ، ينتهي نسبهم إلى السيّد جلال الماضي بن الحسن بن السيّد عليّ بن جعفر بن السيّد محمّد ابن السيّد محمود بن السيّد أحمد بن السيّد عبد الله ابن السيّد علي الأشقر ابن جعفر الكذّاب.
    وكان السيّد جلال الدين في العراق ثمّ ذهب إلى بخارى وأقام فيها مدّة ، وكان يصعب عليه الإقامة فيها لشدّة التقيّة وكثرة المحنة ، فلمّا ضاق عليه الأمر وخاف على نفسه رحل من بخارى إلى كابل ، فلمّا وصل إليها رأى أهلها مثل أهل بخارى ، وأظهر أنّه في مذهبهم ولأجل ذلك عظم شأنه فيهم وعلا قدره بينهم ، وكان ملك

    الهند يرى له قدرا ، وكان يرسل إليه الهدايا والتحف ، فلمّا طال الزمان وكثر الاختلاط والمصاحبة مع أبناء السنّة والهنود مال بعض أولاده إلى مذهب التسنّن ، ومن الذين بقي على تشيّع مذهب آبائه الطاهرين رجل يقال له السيّد راجو ابن السيّد حامد الحسيني البخاري الهندي ، وكان سيّدا فاضلا شجاعا حسن السيرة ، لين العريكة ، وكان صاحب كرامات ، وساعيا في إرشاد العباد ، وكان يلازم ملك همايون ملك الهند ، وذهب معه إلى بلدة دهلي ، وكان في أكثر الأحيان لا يعمل بالتقيّة حتّى قيل له : مالك لا تعمل بالتقيّة مع أنّها واجبة على مذهبك ويحقن بها دمك ولا ترى هذه المذلّة والأذى؟ قال : أخاف أن تكون تقيّتي سببا لخروج أولادي عن مذهب آبائي.
    ومن جملة السادات النقويّة سادات مراد آباد الهند ، وهم أولاد السيّد شرف الدين شاه بن السيّد علي بن السيّد مرتضى بن أبي المعالي بن أبي الفرج الصيداوي الواسطي ابن داود بن الحسين بن عليّ بن هارون بن جعفر الكذّاب ابن الإمام عليّ النقي عليه‌السلام.
    ومن جملة السادات النقويّة القاطنون في ملتان من بلاد الهند ، ينتهي نسبهم إلى هارون بن جعفر الكذّاب ، ويقال لهم سادات كرديز.
    ومن جملة السادات النقويّة أيضا سادات بحرايج الذين ينتهي نسبهم إلى السيّد جلال الماضي الذي تقدّم ذكره آنفا ، ينتهي نسبه إلى عليّ الأشقر بن جعفر الكذّاب ، وهم قاطنون في دهلي من بلاد الهند.
    ومنهم راجه سيّد من أولاد الحسين خان بن السيّد سردار علي بن السيّد سردار بهادر محمّد شاه بن أمير الدين بن قمر الدين بن شه سوار بن السيّد برهان ابن السيّد محمي الدين بن السيّد عبد الوهّاب بن السيّد محمّد شاه بن السيّد غلام حسين شاه بن السيّد أحمد بن السيّد دولت خان بن السيّد أحمد سجّاده نشين ،

    يعني كان يجلس على السجّادة ، ابن السيّد محمود بن السيّد نعمة الله بن إسحاق بن حيدر بن أحمد بن السيّد جلال البخاري بن السيّد المؤيّد بن جعفر بن محمّد أبي الفتح بن محمود بن أحمد ابن عبد النجاري بن علي الأشقر بن جعفر الكذّاب. وكان السيّد قمر الدين المذكور من رؤساء جند نادر شاه أفشار ، وسار معه إلى بلاد الهند وأقام بها إلى أن قضى بها نحبه.
    ومن جملة السادات النقويّة أيضا سادات ديوكام ، ينتهي نسبهم إلى السيّد محمّد البغدادي ، وهو ينتهي إلى جعفر الكذّاب.
    ومن جملة السادات النقويّة أيضا سادات بهنكر من بلاد الهند ، ينتهي نسبهم إلى السيّد بدر الدين محمّد بن السيّد صدر الدين محمّد الخطيب بن السيّد جلال الدين البخاري المذكور آنفا الذي ينتهي نسبه إلى عليّ الأشقر بن جعفر الكذّاب.
    أقول : ويدّعي جمع كثير من أبناء سامرّاء أنّ نسبهم ينتهي إلى جعفر الكذّاب ، والله أعلم بالصواب.
    ومنهم : مولانا أبو جعفر بن الإمام عليّ الهادي عليهما‌السلام
    تقدّم في الجزء الأوّل أنّ أبا جعفر بن عليّ الهادي عليهما‌السلام المعروف بالسيّد محمّد ، مشهده يقع في شرق سامرّاء ، بينها وبين سامرّاء ثمانية فراسخ ، وهو بقرب قرية بلد يبعد عنها خمسة كيلو مترات ، وكانت وفاته في حدود الاثنين والخمسين بعد المأتين ؛ لأنّه عليه‌السلام توفّي قبل أبيه بسنة أو سنتين ، وكانت وفاة أبيه الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام في سنة 254 ، وكان السيّد محمّد أكبر أولاد الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام ، وإنّ الإمام أبا محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام شقّ جيبه حزنا عليه حين توفّي.

    تعيين مشهده
    ذكر المولى المحدّث القمّي في المفاتيح ما مضمونه : إنّ السيّد محمّد بن الإمام علي الهادي عليه‌السلام مدفون على تسعة فراسخ من سامرّاء بقرب بلد ومزاره مشهور هناك ومطاف للفريقين ، ويجبى إليه من النذور والهدايا ما لا يحصى كثرة لكثرة ظهور الكرامات وخوارق العادات منه ، وحسبك في جلالة شأنه صلاحيّته لمنصب الإمامة ، وكان أكبر أولاد الإمام عليّ الهادي ، انتهى.
    وكتب العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري قدس‌سره حول شبّاكه : هذا مرقد السيّد الجليل أبي جعفر محمّد بن الإمام عليّ الهادي عليهما‌السلام ، فلمّا توفّي نصّ أبوه على أخيه أبي محمّد الزكي عليه‌السلام وقال له : أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا ، خلّفه أبوه في المدينة طفلا وقدم إليه في سامرّاء مشتدّا ، ونهض إلى الرجوع ، ولمّا بلغ بلد على تسعة فراسخ من سامرّاء مرض وتوفّي ومشهده هناك ، فلمّا توفّي شقّ أبو محمّد عليه‌السلام جيبه وقال في جواب من عاتبه عليه : قد شقّ موسى على أخيه هارون عليه‌السلام. وكانت وفاته في حدود سنة 252.
    اشتباه بيّن والجواب عنه
    قال أبو الحسن العمري النسّابة في المجدي : إنّ أبا جعفر السيّد محمّد أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أبيه حتّى بلغ بلدا وهي قرية فوق الموصل بسبعة فراسخ فمات بالسواد فقبره هناك وعليه مشهد وقد زرته ، انتهى.
    وهذا مردود بوجوه :
    الأوّل : إنّ المشهد الذي في بلد الموصل هو مشهد عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام كما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان في ترجمة بلد ،

    قال : بلد هي مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل ، بينهما سبعة فراسخ ، وبينها وبين نصيبين ثلاثة وعشرون فرسخا ، وربّما قيل بلط بالطاء ، وإنّما سمّيت بلد لأنّ الحوت ابتلعت يونس عليه‌السلام في نينوى مقابل الموصل وبلطته هناك ، وبها مشهد عمر بن عليّ بن حسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقد اشتبه المشهد المشار إليه بمشهد أبي جعفر محمّد ابن عليّ الهادي عليهما‌السلام وبلد موصل ببلد سامرّاء ، وكثيرا ما توجد أمثال هذه الاشتباهات في الأنساب والمقابر والتواريخ.
    الثاني : إنّ النوبختي صرّح في كتاب الفرق والمذاهب (1) أنّ أبا جعفر السيّد محمّد ابن عليّ الهادي عليهما‌السلام توفّي في سامرّاء وحيث أنّ سامرّاء كانت عاصمة كبيرة كما عرفت في الجزء الأوّل ، فمن توفّي في أرجائها يقال إنّه توفّي فيها فلا يذهب عليك أنّه ينافي كونه مدفونا في بلد ، وقد عرفت أنّ سامرّاء طولها كان أزيد من ثمانية فراسخ.
    الثالث : إنّ المتتبّع الخبير إذا أمعن النظر في المجدي علم أنّ الرجل كان كثير العثار والاشتباه وقد تعرّض لاشتباهاته العلّامة الأديب الميرزا محمّد بن علي الأردوبادي في بعض تأليفاته ، وقد قرأ عليّ جملة منها فعلى هذا يرتفع الوثوق عن متفرّداته البتّة.
    وإن قلت : لم يكن متفرّدا في رأيه بل الحموي في معجم البلدان في ترجمة بلد قال : إنّ السيّد عبد الكريم بن طاوس قال : إنّ السيّد محمّد بن عليّ الهادي قبره هناك باتفاق.
    قلت : هذا غلط فاحش لأنّ ياقوت الحموي باتفاق توفّي سنة 626 كما صرّح بذلك في وفيات الأعيان وفي ترجمته في مقدّمة كتابه معجم البلدان ومعجم الأدباء ،
    __________________
    (1) الفرق والمذاهب : 94.

    والسيّد الأجل عبد الكريم بن طاوس توفّي سنة 693 ، وكان بين التاريخين سبع وستّون سنة ، وكانت ولادة السيّد عبد الكريم بن طاوس 648 ، فعلى هذا توفّي الحموي قبل ولادة السيّد عبد الكريم بن طاوس باثنتين وعشرين سنة ، فأين كان الحموي حتّى يروي عنه؟ ولم نعرف من آل طاوس من يسمّى بهذا الاسم سواه ، وليست هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام ، فقد قال ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة لمّا نسبوا خطبة الشقشقيّة إلى السيّد الرضي رحمه‌الله : إنّي ظفرت على هذه الخطبة من قبل أن يولد والد السيّد الرضي رحمه‌الله.
    الرابع : تصريح حبر الأمّة ونائب الأئمّة السيّد الكبير آية الله الشهير السيّد مهدي القزويني الذي هو صاحب الكرامات الباهرات ، وقد تشرّف بلقاء الحجّة مرّات وهو الذي أظهر مشهد الحمزة عليه‌السلام بقرب الحلّة وستسمع في محلّه نبذة من جلائل فضائله. وكيف كان إنّه صرّح في كتابه فلك النجاة الذي طبع مرّتين أنّ السيّد محمّد مدفون بقرب بلد في طريق سامرّاء.
    الخامس : عناية الشيخ زين العابدين السلماسي المتقدّم ذكره بعمارة هذا المشهد الشريف كما صرّح بذلك العلّامة السيّد محسن العاملي في أعيان الشيعة في ترجمة ولده الأجل الميرزا إسماعيل ابن الشيخ زين العابدين السلماسي رحمه‌الله قال : وكان والده الشيخ زين العابدين السلماسي يجلب إلى مشهد السيّد محمّد الذي بطريق سامرّاء أعيان الزائرين من العجم والترك ويوفّر النعمة بسببهم مجاوري هذه البقعة ، وكان هو الآمر بإشادة العمارة حول هذا المرقد الشريف ، انتهى.
    ولقد سمعت فيما تقدّم نبذة من جلائل فضائل السلماسي وتشرّفه بلقاء الحجّة عليه‌السلام وإنّه من أخصّاء السيّد الكبير بحر العلوم قدس‌سره الذي هو بحر العلوم كما لقّب بذلك ، فعمل الشيخ زين العابدين من عمارة مشهده وجلب الزائرين إلى زيارته

    ينبئ عن أنّ مشهده هناك لا غير ، لأنّ عمله بمحضر السيّد بحر العلوم وإمضائه كاف في إثبات الحقيقة.
    السادس : ظهور المعاجز والكرامات من هذا المرقد المنيف بقرب بلد ، وقد ذكر السيّد الأجل السيّد عبد الكريم بن طاوس رحمه‌الله في كتابه فرحة الغري أنّ ظهور الكرامات والمعاجز من الروضة العلويّة بالغري دليل على أنّ مرقده الشريف هناك.
    السابع : عناية جهابذة المجتهدين أساتذة الفقهاء والمحدّثين بزيارته وعمارة مشهده والفحص عن أحواله ، وكانوا قديما وحديثا يبحثون عن هذا المشهد ويزورونه من غير شكّ وارتياب ، ويحرّضون الناس على عمارة مقامه ، وقد زاره ماشيا من سامرّاء حبر الأمّة ونائب الأئمّة آية الله المجدّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي طاب ثراه مع جمع من تلاميذه ولا شكّ أنّه قدس‌سره لو علم أنّ هذا المشهد لا أصل له لما زاره أبدا ولا من تأخّر عنه من العلماء مثل الإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي ، وخاتمة المحدّثين الميرزا حسين النوري وأمثالهم الذين يقتدي الناس بفعالهم ويقلّدونهم في دينهم.
    ألا ترى إنّ في قرية دري على ستّة فراسخ من سامرّاء قبرا يزعم أهلها أنّه من أولاد موسى بن جعفر المعروف بمحمّد الدرّي ، ولا يزوروه أحد من أبناء الشيعة فضلا عن علمائها لكونه مجهول الحال حتّى أنّ بعض أبناء سامرّاء جعل يحرّض العلماء القاطنين بسامرّاء على زيارته ، وقال بعضهم : نحن نتكفّل مصارف الطريق ، ولم يكترث بقوله أحد ، وقد حقّقنا في الجزء الأوّل أنّه محمّد فروخان بن روزبه أبو طيب الدرّي ، وهو من أولاد العجم ليس بينه وبين موسى بن جعفر قرابة.
    فثبت ممّا ذكرناه أنّ مقالة المجدي لا يجدي ، وليس له دليل تاريخيّ يرشدنا إلى صدق ما ادّعاه ونستطيع أن نقول إنّ بلد هذه بلد موصل أيضا فيندفع الإشكال

    بحذافيره ، وذلك لأنّ القاصد إذا خرج من بلد هذه وذهب إلى جهة الغرب وقطع سبعة فراسخ دخل في الجزيرة ، ويقال للجزيرة موصل أيضا كما صرّح بذلك الحموي في المعجم في ترجمة موصل ، قال : الموصلان الموصل والجزيرة.
    وقال الزبيدي في تاج العروس : قال الشاعر :
    وبصرة الأزد منّا والعراق لنا
    والموصلان ومنّا المصر والحرم

    قال : يريد الموصل والجزيرة ، فعلى هذا يوافق قول نسّابة العمري في المجدي ما ادّعيناه.
    وممّا يؤيّد ما ذكرناه أنّ أبا جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام لا يحتاج أن يدخل بلد الموصل إذا أراد الرواح من سامرّاء إلى المدينة ، أو منها إلى سامرّاء ، لأنّه منحرف عن طريق المدينة بخلاف بلد سامرّاء لأنّه عليه‌السلام كان يحتاج أن يدخلها مرارا ، والسبب في ذلك أنّ له هناك ضيعة كما أشار إلى ذلك الحموي في المعجم في ترجمة علث ، قال : علث ـ بفتح أوّله وسكون ثانيه وآخره ثاء مثلّثة ـ كانت قرية بين عكبرى وسامرّاء موقوفة على العلويّين كما تقدّم في الجزء الأوّل ، وتقدّم أيضا أنّ عكبرى من ناحية دجيل ، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ ، فصاحب المزرعة يحتاج طبعا أن يدخل في القرى المجاورة لها لشراء حوائجها.
    وكيف كان ، لا يبقى شكّ بأنّ مولانا السيّد محمّد كان ذهابه وإيابه يحتاج إلى المرور بهذه دون بلد الموصل فمرض فيها وتوفّي ودفن في المكان الذي مشهده الآن.
    ما روي في شأنه عليه‌السلام
    منها : ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات بالإسناد عن عليّ بن عبد الله بن مروان الأنباري قال : كنت حاضرا عند مضي أبي جعفر بن أبي الحسن العسكري عليه‌السلام فوضع له كرسيّ فجلس عليه وأبو محمّد الحسن قائم في ناحية ، فلمّا فرغ من أمر

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:06 pm

    أبي جعفر التفت أبو الحسن إلى أبي محمّد فقال : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا.
    ومثله في الكافي والإرشاد وإعلام الورى وغيبة الطوسي وغيرها.
    ومنها : ما رواه المفيد في الإرشاد والطبرسي في إعلام الورى بالإسناد عن سعد بن عبد الله ، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس إنّهم حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ بن محمّد دار أبي الحسن عليه‌السلام وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله ، فقالوا : قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العبّاس وقريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وساير الناس إذ نظر إلى الحسن بن عليّ عليهما‌السلام وقد جاء مشقوق الجيب حتّى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه ، فنظر إليه أبو الحسن عليه‌السلام بعد ساعة من قيامه ثمّ قال : يا بني ، أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا.
    فبكى الحسن عليه‌السلام واسترجع وقال : الحمد لله ربّ العالمين وإيّاه أشكر تمام نعمه علينا ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
    فسألنا عنه ، فقيل لنا : هذا الحسن بن عليّ ابنه ، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة ونحوها فيومئذ عرفناه وعلمنا أنّه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه.
    وإن قلت : ظاهر هذين الحديثين أنّه عليه‌السلام توفّي في سامرّاء لأنّ في الخبر الثاني قال : حضروا يوم توفّي محمّد بن عليّ دار أبي الحسن عليه‌السلام.
    قلنا : تقدّم أنّ من توفّي في أرجاء بلدة يقال له إنّه توفّي فيها سيّما مع كبر البلدة ، أضف إلى ذلك أنّ في الخبر الأوّل ليس فيه ذكر الدار ، فمن الممكن أنّ الإمام عليّا الهادي عليه‌السلام لمّا بلغه الخبر ركب جواده وحضر تجهيز ولده أبي جعفر فوضع له كرسيّ هناك فجرى ما جرى.

    وأمّا ذكر الدار في الخبر الثاني لم يذكر أنّها في سامرّاء ولا يمتنع أنّ له عليه‌السلام دارا هناك ، ومن الممكن أنّه لمّا فرغ عليه‌السلام من تجهيزه رجع عاجلا إلى داره لأنّ سبعة فراسخ ليست بشيء ، فوضع له كرسيّ وحضر الناس للتعزية ، فقال عليه‌السلام ما قال ، وجرى ما جرى ، فلا منافاة بين هذين الحديثين وبين ما ذكرناه.
    وسيأتي في معاجز عليّ الهادي عليه‌السلام أنّ أبا هاشم الجعفري كان يصلّي الفجر ببغداد ويسير على البرذون فيدرك الزوال بسرّ من رأى ، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون ، فالمسافة بين بلد وسامرّاء يقطعه المسافر في يوم واحد عادة فضلا عن الإعجاز.
    ومنها : ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإنّي لأفكّر في نفسي وأريد أن أقول كأنّهما أعني أبا جعفر وأبا محمّد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، وإنّ قصّتهما كقصّتهما إذ كان أبو محمّد المرجى بعد أبي جعفر السيّد محمّد.
    فأقبل عليّ أبو الحسن عليه‌السلام قبل أن أنطق ، فقال : نعم يا أبا هاشم ، بد الله في أبي محمّد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له كما بدا في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله ، وهو كما حدّثتك نفسك ، وإن كره المبطلون ، أبو محمّد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج الناس إليه ومعه آية الإمامة.
    ومنها : ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن عليّ بن عمر النوفلي قال : كنت مع أبي الحسن العسكري عليه‌السلام في داره فمرّ علينا أبو جعفر ، فقلت له : هذا صاحبنا؟ فقال : لا ، صاحبكم الحسن عليه‌السلام.
    ومنها : ما رواه فيه أيضا بسنده عن أحمد بن عيسى العلوي قال : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام بصرّيا فسلّمنا عليه ، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمّد وقد دخلا ، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلّم عليه ، فقال أبو الحسن : ليس هذا صاحبكم ، عليكم

    بصاحبكم ، وأشار إلى أبي محمّد عليه‌السلام.
    ومنها : ما رواه فيه أيضا بإسناده عن الجلّابي قال : كنت رويت عن أبي الحسن العسكري في أبي جعفر ابنه روايات تدلّ عليه ، فلمّا مضى أبو جعفر قلقت لذلك وبقيت متحيّرا لا أتقدّم ولا أتأخّر ، وخفت أن أكتب له في ذلك ، فلا أدري ما يكون ، فكتبت إليه أسأله الدعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قبل السلطان كنّا نغتمّ بها في غلماننا ، فرجع الجواب بالدعاء ورد الغلمان علينا ، وكتب في آخر الكتاب : أردت أن تسأل عن الخلف بعد مضي أبي جعفر ، وقلقت لذلك ، فلا تغتمّ بها فإنّ الله لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ، صاحبكم بعدي أبو محمّد ابني وعنده ما تحتاجون إليه ، يقدّم الله ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(1).
    وروى السيّد هاشم البحراني في مدينة المعاجز عن ثاقب المناقب عن شاهويه بن عبد الله بن سليمان الخلّال وساق الحديث بمثل ما مرّ إلى أن قال : كتبت ما فيه إقناع وبيان لذي عقل يقظان ، ومثله رواه المفيد في الإرشاد.
    ثمّ اعلم أنّ قوله عليه‌السلام لولده أبي محمّد عليه‌السلام : «أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا» أو قوله عليه‌السلام : «بدا لله في أبي محمّد بعد أبي جعفر» ليس معناه البداء الحقيقي الذي هو ظهور بعد خفاء لأنّه محال بالنسبة إلى الله تعالى ، بل إظهار بعد الخفاء لأنّه تبارك وتعالى لمّا جعل الإمامة في أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام في الأزل وخفي ذلك على الناس لحسبانهم أنّ أبا جعفر السيّد محمّد لمّا كان أكبر أولاد الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام وتكامل فيه خصال الإمامة وشرائف الأخلاق والعبادة ، كان هو الأولى بمنصب الإمامة لو مات أبوه ، فلمّا توفّي نصّ أبوه الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام على ولده
    __________________
    (1) البقرة : 106.

    أبي محمّد وأظهر الله تعالى ما كان مخفيا ، وإنّما نسبت إليه البداء مع أنّه في الحقيقة الإبداء لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء ، والبداء بهذا المعنى ممّا دلّت عليه الروايات المتواترة من الفريقين ، ولا يختصّ بالشيعة ، وقد عقد الكليني في الكافي بابا له وروى بالأسانيد عدّة روايات فيه.
    أخبار البداء
    منها : ما رواه عن زرارة بن أعين عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ما عبد الله بشيء مثل البداء.
    ومنها : ما رواه بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما عظّم الله بمثل البداء.
    ومنها : ما رواه بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال في هذه الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)(1) قال : فقال عليه‌السلام : وهل يمحو إلّا ما كان ثابتا؟ وهل يثبت إلّا ما لم يكن؟
    ومنها : ما رواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما بعث الله نبيّا حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء.
    ومنها : ما رواه بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في جواب من سأله عن قول الله عزوجل : (قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)(2) قال : هما أجلان : أجل محتوم وأجل موقوف.
    ومنها : ما رواه بسنده عن مالك الجهني قال : سألت أبا عبد الله عن قول الله :
    __________________
    (1) الرعد : 39.
    (2) الأنعام : 2.

    (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)(1) قال : فقال : لا مقدّرا ولا مكوّنا. قال : وسألته عن قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(2) فقال : كان مقدّرا غير مذكور.
    ومنها : ما رواه بسنده عن الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفر يقول : العلم علمان ؛ فعلم عند الله مخزون لم يطّلع عليه أحد من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.
    ومنها : ما رواه بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو ، ومن ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبيائه فنحن نعلمه.
    ومنها : ما رواه بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له.
    ومنها : ما رواه بسنده عن مالك الجهني قال : سمعت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : لو علم الناس ما في القول في البداء من الأجر ما افتروا عن الكلام فيه.
    ومنها : ما رواه بسنده عن الريّان بن الصلت قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : ما بعث الله عزوجل نبيّا قطّ إلّا بتحريم الخمر وأن يقرّ لله بالبداء.
    ومنها : ما رواه بسنده عن الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد قال : سئل العالم عليه‌السلام : كيف علم الله؟ قال : علم وشاء ، وأراد وقدّر ، وقضى وأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ، فبفعله كانت المشيّة ، وبمشيّته كانت الإرادة ،
    __________________
    (1) مريم : 67.
    (2) الإنسان : 1.

    وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء ، والعلم متقدّم على المشيّة ، والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ؛ فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد ، لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
    شرح المجلسي للبداء :
    ذكر قدس‌سره في المجلّد من كتابه مرآة العقول شرحا وافيا ، فقال : اعلم أنّ البداء ممّا ظنّ أنّ الإماميّة قد تفرّدت به وقد شنّع عليهم بذلك كثير من المخالفين ، والأخبار في ثبوتها كثيرة مستفيضة من الجانبين ، ولنشر إلى بعض ما قيل في تحقيق ذلك ، ثمّ إلى ما ظهر لي من الأخبار ممّا هو الحقّ في المقام.
    اعلم أنّه لمّا كان البداء ممدودا في اللغة بمعنى ظهور رأي مثل أن يقال : بداء لأمر بدأ أي ظهر ، وبدا له الأمر بدأ أي فشأ له فيه رأي ، كما ذكره الجوهري وغيره. فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحقّ تعالى لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله ، وهذا محال ، ولذا شنّع كثير من المخالفين على الإماميّة في ذلك نظرا إلى ظاهر اللفظ من غير تحقيق لمرامهم ، حتّى أنّ الفخر الرازي ذكر في خاتمة كتاب المحصّل حاكيا عن سليمان بن جرير أنّ أئمّة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم فإذا قالوا إنّه سيكون لهم ثمّ لا يكون الأمر على ما خبروه قالوا : بدا لله فيه.
    أقول : إنّ الله عزوجل سلّط على الفخر الرازي مولانا المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسي قدس‌سره فرّد عليه مقالاته في كتابه نقد المحصّل فجعله كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.
    ثمّ إنّ المجلسيّ أكثر الوقيعة في الرازي ، ثمّ قال : إنّ الرازي لم يعلم أنّ مثل هذه

    الألفاظ المجازيّة الموهمة لبعض المعاني الباطلة قد وردت في القرآن الكريم وأخبار الطرفين ، كقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(1) و (مَكَرَ اللهُ)(2) و (لِيَبْلُوَكُمْ)(3) و (لِنَعْلَمَ)(4) و (يَدُ اللهِ)(5) و (وَجْهُ اللهِ)(6) و (جَنْبِ اللهِ)(7) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، وقد ورد في أخبارهم ما يدلّ على البداء بالمعنى الذي قالت به الشيعة أكثر ممّا ورد في أخبارنا كخبر دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهودي ، وإخبار عيسى ، وإنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء وغير ذلك.
    وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الأقرع والأبرص والأعمى : بدا لله عزوجل أن يبتليهم أي قضى بذلك ، وهو معنى بدا هاهنا ، لأنّ القضاء سابق والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز ، انتهى.
    ثمّ نقل المجلسي رحمه‌الله عبارة تفسير الرازي في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(Cool فأخذ في ردّه وإبطال مقالاته إلى أن قال بعد نقل كلمات العلماء : اعلم أنّ الأئمّة عليهم‌السلام إنّما بالغوا في البداء ردّا على اليهود الذين يقولون إنّ الله عزوجل قد فرغ من الأمر ، ويقولون إنّ الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن من معادن ونبات وحيوان وإنسان ولم يتقدّم خلق آدم على خلق ، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، وإنّما أخذوا هذه المقالة من الفلاسفة
    __________________
    (1) البقرة : 15.
    (2) آل عمران : 54.
    (3) المائدة : 48.
    (4) البقرة : 143 و....
    (5) الفتح : 10.
    (6) البقرة : 115.
    (7) الزمر : 56.
    (Cool الرعد : 39.

    القائلين بالعقول والنفوس الفلكيّة ، وبأن الله تعالى لم يؤثّر حقيقة إلّا في العقل الأوّل ، فهم يعرونه تعالى عن ملكه وينسبون الحوادث إلى هؤلاء.
    وعلى آخرين منهم قالوا إنّ الله سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهريّة لا ترتّب فيها باعتبار الصدور بل إنّما ترتّبها في الأزمان فقط كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زمانا وإنّما ترتّبها في المكان فقط ، فنفوا عليهم‌السلام كلّ ذلك وأثبتوا أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخر ، وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك ، لئلّا يترك العباد التضرّع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح أمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليه من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.
    ثمّ اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلا وهو مطالب لعلمه تعالى ، والآخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئا ثمّ يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولي الألباب ، مثلا يكتب فيه أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه إنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون ، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل عمره ستّين كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سما ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك ، أو استعمل دواء قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب ، والتغيّر الواقع في هذا اللوح مسمّى بالبداء ؛ إمّا لأنّه مشبّه به كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخريّة وأمثالها ، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبروا بالأوّل خلاف ما علموا أوّلا ، أي استعاد في

    تحقّق هذين اللوحين وأيّة استحالة في هذا المحو والإثبات حتّى يحتاج إلى التأويل والتكلّف وإن لم تظهر الحكمة فيه لعجز عقولنا عن الإحاطة بها ، مع أنّ الحكم فيه ظاهرة.
    منها : أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللوح والمطّلعين عليه لطفه تعالى بعباده وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقّونه فيزدادوا به معرفة.
    ومنها : أن يعلم العباد بأخبار الرسل والحجج عليهم‌السلام أنّ لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح أمورهم ولأعمالهم السيّئة تأثيرات في فسادها فيكون داعيا لهم إلى الخيرات صارفا لهم عن السيّئات ، فظهر أنّ لهذا اللوح تقدّما على اللوح المحفوظ من جهة لصيرورته سببا لحصول بعض الأعمال ، فبذلك انتقش في اللوح المحفوظ حصوله ، فلا يتوهّم أنّه بعد ما كتب في هذا اللوح حصوله فلا فائدة في المحو والإثبات.
    ومنها : إنّه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء أحيانا من كتاب المحو والإثبات ثمّ أخبروا بخلافه يلزمهم الإذعان به ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم تسبيبا لمزيد الأجر لهم كما في ساير ما يبتلي الله عباده به من التكاليف الشاقّة وإيرادا لأمور تعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها ، وبها يمتاز المسلمون الذين فازوا بدرجات اليقين من الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.
    ومنها : أن تكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحقّ وأهله كما روي في قصّة نوح حين أخبر بهلاك القوم ثمّ أخّر ذلك مرارا ، وكما روي في فرج أهل البيت وغلبتهم عليهم‌السلام لأنّهم لو كانوا أخبروا الشيعة في أوّل ابتلائهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم إنّه ليس فرجهم إلّا بعد ألف سنة أو ألفي سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين ولكنّهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج وربّما

    أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظارهم الفرج.
    إلى أن قال : فمعنى قولهم عليهم‌السلام : «ما عبد الله بمثل البداء» أنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة لصعوبته ومعارضته الوساوس الشيطانيّة فيه ، ولكونه إقرارا بأنّ له الخلق والأمر ، وهذا كمال التوحيد ، أو المعنى أنّه من أعظم الأسباب والدواعي لعبادة الربّ تعالى ، وكذا قولهم : «ما عظّم الله بمثل البداء» يحتمل الوجهين ، وإن كان الأوّل فيه أظهر.
    وأمّا قول الصادق عليه‌السلام : «لو علم الناس ما في القلوب في البداء من الأجر ما افتروا من الكلام فيه» فلما مرّ أيضا من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قدّر في الأزل فلا بدّ من وقوعه حتما لما دعوا الله في شيء من مطالبهم وما تضرّعوا إليه وما استكانوا لديه ولا خافوا منه ولا رجعوا إليه. إلى غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه.
    وأمّا إنّ هذه الأمور من جملة الأسباب المقدّرة في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها فممّا لا تصل إليه عقول أكثر الخلق ، فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شيء.
    بقي هاهنا إشكال آخر وهو أنّه يظهر من كثير من الأخبار أنّ البداء لا يقع فيما يصل علمه إلى الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، ويظهر من كثير منها وقوع البداء فيما وصل إليهم أيضا ، ويمكن الجمع بينهما بوجوه :
    الأوّل : أن يكون المراد الأخبار الأوّلة وقوع البداء فيما وصل إليهم على سبيل التبليغ بأن يؤمروا بتبليغه فيكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ.
    الثاني : أن يكون المراد بالأوّلة الوحي ويكون ما يخبرون به من جهة الإلهام واطّلاع نفوسهم على الصحف السماويّة ، وهذا قريب من الأوّل.

    الثالث : أن تكون الأوّلة محمولة على الغالب فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة.
    الرابع : ما أشار إليه الشيخ قدس‌سره أنّ المراد بالأخبار الأوّلة عدم وصول الخبر إليهم وإخبارهم على الحتم فيكون إخبارهم على قسمين :
    أحدهما : ما أوحي إليهم أنّه من الأمور المحتومة فهم يخبرون كذلك ولا بداء فيه.
    وثانيهما : ما يوحى إليهم لا على هذا الوجه فهم يخبرون كذلك وربّما أشعروا أيضا باحتمال وقوع البداء فيه ما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الإخبار بالسبعين : ويحموا الله ما يشاء ، وهذا وجه قريب.
    الخامس : أن يكون المراد بالأخبار الأوّلة أنّهم لا يخبرون بشيء لا يظهر وجه الحكمة فيه على الخلق لئلّا يوجب تكذيبهم بل لو أخبروا بشيء من ذلك يظهر وجه الصدق فيما أخبروا به كخبر عيسى والنبيّ عليهما‌السلام حيث ظهرت الحيّة دالّة على صدق مقالهما.
    بيان الصدوق رحمه‌الله للبداء :
    قال قدس‌سره في كتاب التوحيد : ليس البداء كما تقوله جهّال الناس بأنّه بداء ندامة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، ولكن يجب علينا أن نقرّ لله عزوجل بأنّ له البداء أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثمّ يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره ، أو يأمر بأمر ثمّ ينهى عن مثله ، أو ينهى عن شيء ثمّ يأمر بمثل ما نهى عنه ، وذلك مثل نسخ الشرايع وتحويل القبلة ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت مّا إلّا ويعلم أنّ الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك ، ويعلم في وقت آخر أنّ الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به فإذا كان ذاك الوقت

    أمرهم بما يصلحهم ؛ فمن أقرّ لله عزوجل بأنّ له أن يفعل ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويخلق مكانه ما يشاء ويقدّر ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويأمر بما يشاء كيف يشاء فقد أقرّ بالبداء ، وما عظّم الله بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر والتقديم والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان.
    والبداء هو ردّ على اليهود لأنّهم قالوا إنّ الله قد فرغ من الأمر ، فقلنا : إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، يحيي ويميت ، ويرزق ويفعل ما يشاء ، والبداء ليس من ندامة وإنّما ظهور أمر تقول العرب بدا لي شخص في طريقي أي ظهر ، وقال الله عزوجل : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(1) أي ظهر لهم ، ومتى ظهر لله تعالى من بعد صلة رحم زاد في عمره ، ومتى ظهر له قطيعة رحم نقص من عمره ، ومتى ظهر له من عبد إتيان الزنا نقص من رزقه وعمره ، ومتى ظهر له منه التعفّف من الزنا زاد في رزقه وعمره ، ومن ذلك قول الصادق عليه‌السلام : «ما بدا لله كما بدا في إسماعيل ابني» أي ما ظهر له كما ظهر في إسماعيل إذا اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي.
    بيان السيّد علم الهدى للبداء :
    قال السيّد المرتضى علم الهدى قدس‌سره في جواب مسائل أهل الري : المراد بالبداء النسخ ، وادّعى أنّه ليس بخارج عن معناه اللغويّ.
    بيان الشيخ الطوسي للبداء :
    قال قدس‌سره في كتاب الغيبة بعد إيراد الأخبار المشتملة على البداء في قيام القائم عليه‌السلام : الوجه في هذه الأخبار ـ إن صحّت ـ أنّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا
    __________________
    (1) الزمر : 47.

    الأمر في الأوقات التي ذكرت فلمّا تجدّد ما تجدّد تغيّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ، وكذلك فيما بعد ، ويكون الوقت الأوّل وكلّ وقت يجوز أن يؤخّر مشروطا بأن لا يتجدّد ، وتغيّر ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيّره شيء فيكون محتوما.
    وعلى هذا يتأوّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالما بالأمرين فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوما بشرط والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل.
    وعلى هذا يتأوّل أيضا ما روي من أخبارنا المتضمّنة للفظ البداء ، ويبيّن أنّ معناه النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ أو تغيّر شروطها إنّ طريقها الخبر عن الكائنات ، لأنّ البداء في اللغة هو الظهور فلا يمتنع أن يظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنّا نظنّ خلافه ، أو نعلم ولا نعلم شرطه.
    فمن ذلك ما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال عليّ بن الحسين وعليّ بن أبي طالب قبله ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(1) فأمّا من قال بأنّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلّا بعد كونه فقد كفر ، انتهى.
    قال المجلسي في مرآة العقول : وقد قيل في البداء وجوه أخر :
    الأوّل : ما ذكره السيّد الداماد قدّس الله روحه في نبراس الضياء حيث قال :
    __________________
    (1) الرعد : 39.

    البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفيّة نسخ فهو في الأمر التكويني ، والمكوّنات الزمانيّة بداء ، فالنسخ كأنّه بداء تشريعيّ ، والبداء كأنّه نسخ تكوينيّ ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة إلى الجناب المقدّس الحقّ ، فالمفارقات المحضة من ملائكته القدسيّة وفي متن الدهر الذي هو ظرف مطلق الحصول ال قارّ والثبات الباتّ ووعاء عالم الوجود كلّه.
    وإنّما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي موافق التقضّي والتجدّد ، وظرف التجريد والتعاقب ، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانيّة ، ومن في عالم الزمان والمكان وإقليم المادّة والطبيعة وكما أنّ حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره لا رفعه ، وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذا حقيقة البداء عند الفحص البالغ انبتات استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة لأنّه ارتفاع معلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حدّ حصوله.
    الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل في شرحه على الكافي وتبعه غيره من معاصرينا وهو أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور بل إنّما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمرّ ونظام مستقرّ ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد فإنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله ونتايج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم. وربّما تأخّر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب ، ولم يحصل له العلم بتصدّقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطّلاعها على سبب ذلك

    السبب ، ثمّ لمّا جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل فيمحي عنها نقش الحكم السابق ويثبت الحكم الآخر ، مثلا لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا والأسباب تقتضي ذلك ولم يحصل لها العلم بتصدّقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطّلاعها على أسباب التصدّق بعد ثمّ علمت به وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق فنحكم أوّلا بالموت وثانيا بالبراء.
    وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، أفينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع أخرى ، فهذا هو السبب في البدء والمحو ، والاثبات والتردّد ، وأمثال ذلك في أمور العالم ، فإذا اتّصلت بتلك القوى نفس النبيّ أو الإمام عليه‌السلام وقرأ بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصيرته أو سمع بأذن قلبه.
    وأمّا نسبة ذلك كلّه إلى الله تعالى فلأنّ كلّما يجري في العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة الله تعالى بل قبلهم بعينه فعل الله سبحانه حيث أنّهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة الله تعالى لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى ، ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحواسّ لما همّ به ، فكلّ كتابة تكون في هذه الأرواح والصحف فهو أيضا مكتوب لله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل ، فيصحّ أن يوصف الله عزوجل نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الأمور يشعر بالتغيّر والنسوخ ، وهو سبحانه منزّه عنه ، فإنّه كلّما وجد أو سيوجد فهو غير خارج من عالم ربوبيّة.
    الثالث : ما ذكره بعض المحقّقين حيث قال : تحقيق القول في البداء أنّ الأمور كلّها : عامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومنسوخها وناسخها ، ومفرداتها

    ومركّباتها ، وإخباراتها وإنشائاتها بحيث لا يشذّ عنها شيء منتقشة في اللوح ، والفايض منه على الملائكة والنفوس العلويّة والنفوس السفليّة قد يكون الأمر العامّ المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ، ويتأخّر البيان إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلويّة وما يشبهها يعبّر عنها بكتاب المحو والإثبات ، والبداء عبارة عن هذا التغيير في هذا الكتاب.
    ثمّ قال المجلسي رحمه‌الله بعد ذكره هذه الأقوال : هذا ما قيل في هذا الباب ، وقد قيل فيه وجوه أخر لا طايل في إيرادها ، والوجوه التي أوردناها بعضها بمعزل عن معنى البداء ، وبينهما كما بين الأرض والسماء ، وبعضها مبنيّة على مقدّمات لم تثبت في الدين بل ادّعي على خلافها إجماع المسلمين ، وكلّها يشمل على تأويل نصوص كثيرة بلا ضرورة تدعو إليه ، وتفصيل القول في كلّ منها يفضي إلى الإطناب ، ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدلّ عليه النصوص الصريحة ولا تأبى عنه العقول الصحيحة ، ثمّ ساق الكلام الذي تقدّم بطوله.
    ولقد أجاد العلّامة الحجّة الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه (أصل الشيعة وأصولها» ، قال دام وجوده : وممّا يشنّع به الناس على الشيعة ويزدري به عليهم قولهم بالبداء تخيّلا من المشنّعين أنّ البداء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عزّ شأنه أمر لم يكن عالما به ، وهل هذا إلّا الجهل الشنيع والكفر الفظيع لاستلزامه الجهل على الله تعالى وأنّه محلّ للحوادث والتغيّرات فيخرج من حظيرة الوجوب إلى مكانة الإمكان ، وحاشا (الإماميّة) بل وسائر فرق الإسلام من هذه المقالة التي هي عين الجهالة بل الضلالة ، اللهمّ إلّا ما ينسب إلى بعض المجسّمة من المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات ، حتّى قال بعضهم فيما نسب إليه : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا شئتم.

    أمّا البداء الذي تقول به الشيعة والذي هو من أسرار آل محمّد وغامض علومهم حتّى ورد في أخبارهم الشريفة أنّه «ما عبد الله بشيء مثل القول بالبداء» وأنّه «ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء» إلى كثير من أمثال ذلك ، فهو عبارة عن إظهار الله جلّ شأنه أمرا يرسم في ألواح المحو والإثبات ، وربّما يطّلع عليه بعض الملائكة المقرّبين أو أحد الأنبياء والمرسلين فيخبر الملك به النبيّ والنبيّ يخبر به أمّته ثمّ لم يقع بعد ذلك خلافه لأنّه جلّ شأنه محاه وأوجد في الخارج غيره ، وكلّ ذلك كان جلّت عظمته يعلمه حقّ العلم ، ولكن في علمه المخزون المصون الذي لم يطّلع عليه ؛ لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ولا وليّ ممتحن ، وهذا المقام من العلم هو المعبّر عنه في القرآن الكريم بأمّ الكتاب المشار إليه ، وإلى المقام الأوّل بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(1). ولا يتوهّم الضعيف أنّ هذا الإخفاء والإبداء يكون من قبيل الإغراء بالجهل وبيان خلاف الواقع ، فإنّ في ذلك حكما ومصالحا تقصر عنها العقول ، وتقف عندها الألباب.
    وبالجملة فالبداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع ، فكما أنّ النسخ وتبديله بحكم آخر مصالح وأسرار بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الإخفاء والإبداء في عالم التكوين على أنّ قسما من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على شيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه ، مثلا اطّلع عيسى عليه‌السلام أنّ العريس يموت ليلة زفافه ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله فاتفق أنّ أمّه تصدّقت عنه ، وكان عيسى عليه‌السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت ، وسئل عن ذلك فقال : لعلّكم تصدّقتم عنه ، والصدقة قد تدفع البلاء المبرم ، وهكذا نظائرها.
    __________________
    (1) الرعد : 39.

    وقد تكون الفائدة الامتحان وتوطين النفس كما في قضيّة أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، ولو لا البداء لم يكن وجه للصدقة ولا للدعاء ولا للشفاعة ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله ، مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين ، وإنّما خوّفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد ، ومنه يكون البداء ، وقد بسطنا بعض الكلام في البداء وأضرابه من القضاء والقدر ولوح المحو والإثبات في الجزء الأوّل من كتابنا (الدين والإسلام) فراجع إذا شئت ، انتهى كلامه دام وجوده.
    أعقاب أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليهما‌السلام
    وجدت في كتاب تحفة الأزهار للسيّد العلّامة النسّابة ضامن بن السيّد شدقم الحسيني رحمه‌الله أنّه قال : إنّ محمّد بن عليّ الهادي كنيته أبو علي ، خلّف عليّا ، وعليّ خلّف محمّدا ، ومحمّد خلّف حسينا ، وحسين خلّفا محمّدا ، ومحمّد خلّف عليّا ، وعليّ خلّف شمس الدين الشهير بمير سلطان البخاري.
    قال صاحب الشقايق : مولده ومنشأه ببخارى ، ولهذا لقّب بالبخاري ، ويقال لولده البخاريّون ، وكان شمس الدين ورعا عابدا صالحا زاهدا في الدنيا ، صحب العلماء العظام فاقتبس من فضائلهم ، وتصدّر بأعلى مجالسهم وباحث معهم في أعلى مراتبهم ، ثمّ توجّه إلى بلاد الروم واستوطن مدينة بروسا. ونقل من المولى شمس الدين محمّد الفتوني فاستعقد فيه أهل البلاد ، ومال إليه الأعيان والرؤساء الأمجاد ، فلم يزل عندهم معزّزا معظّما مكرّما محترما ، لما رأوا من كراماته ، فأوصلوا خبره إلى السلطان بايزيد بن أيلدرم بن مراد خان العثماني ، فطلبه وزوّجه بابنته فأولدها ، فلهذا اشتهر بمير سلطان.

    فمن بعض كراماته أنّه لمّا دخل تيمور مدينة بروسا مالت التتار معه فلم يجد أهل البلاد لهم معه حيلة فاستغاثوا بالأمير شمس الدين محمّد ، فقال لهم : امضوا إلى معسكرهم تجدوا فيه رجلا صانعا شبيها بي يصنع نعل الخيل فأبلغوه منّي السلام وقولوا له : الأمير شمس الدين يسألك أن ترحل عنّا بسرعة ، فمضوا إليه فوجدوا الرجل كما وصفه لهم فأخبروه بذلك ، فقال : سمعا وطاعة لله وله إن شاء الله ترحل غدا ، فلمّا كان الغداة رحل الأمير تيمور بعسكره.
    وفي تحفة الأزهار أيضا قال : قال صاحب الشقايق : ومن كرامات الأمير شمس الدين محمّد ما روي عن الشيخ سناء الدين يوسف الأبهري قال : كان والدي مدار كسبه الفلاحة ، فأخذ ذات يوم بذر بطّيخ ومضى إلى البستان وأنا معه وعمري يومئذ خمس سنين ، فلمّا انتهينا إلى البستان قال لي : يا ولدي ، إنّ هذا البذر قليل فاجلس هاهنا لعلّي أمضي وآتيك بأخر ، فمضى عنّي فإذا أنا برجل فارس لابس ثياب خضر لا أعرفه ، فدنا منّي وسلّم عليّ ، فأجبته ، ثمّ نزل عن فرسه فتمثّلت بين يديه قائما ، فقال : يا ولدي ، أعطني ما أبقاه والدك عندك من البذر ، فأعطيته إيّاه ، فأخذه وقام ينثره في الأرض وهو يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، الله أنزل البركة لصاحبه» ثمّ جلس قليلا ، فرأيت البذر اخضرّ وأينع بطّيخا من حينه ، ثمّ قال لي : يا ولدي ، قم وأتنا بتلك البطّيخة ، فقمت وأتيت بها ووضعتها بين يديه ، فقطعها نصفين ثمّ دفع إليّ أحدهما وقال : هذا نصيبك منها كلّه وحدك ، وهذا نصفها الثاني نصيب والدك ادفعه إليه يأكله وحده ، ثمّ ركب فرسه وانصرف عنّي.
    فأتى والدي فعرّفته القصّة ثمّ غدونا إلى مدينة بروسا فلمّا انتهينا إلى أحد أبواب الدور برز إلينا رجل وأمرنا بالدخول ، فدخلنا فإذا أنا بذلك الفارس الذي بذر البطّيخ فأخذني من والدي فقال لي : أنت ولدي ، فلم أزل في خدمته إلى أن توفّي بمدينة بروسا في سنة 832 وقيل 833 ، وقبره مشهور بها يزار ويأتونه الناس

    بالنذور ، ثمّ منحني الله منه الخلافة ، انتهى.
    وذكر السيّد حسّون بن السيّد أحمد البراقي النجفي في حاشية «تحفة الأزهار» أنّ عقب السيّد محمّد ابن الإمام علي الهادي عليه‌السلام هو من شمس الدين وله سلالة منتشرة في أطراف العراق ، ومن أولاده علاء الدين إبراهيم ، وإبراهيم خلّف عليّا ، وعليّ خلّف يوسف ، ويوسف خلّف حمزة ، وحمزة خلّف السيّد محمّد البعّاج الثاني وهو خلّف المؤيّد بالله يحيى ، وكان من أكابر سادات العراق وأعيانهم في القرن الحادي عشر ، ويحيى خلّف محمّدا ، ومحمّد خلّف إبراهيم وعيسى ، وإبراهيم هو جدّ السادات البعّاجيّين المشهورين في العراق وغيره.
    وقال ملك الكتّاب خان صاحب في كتابه بحر الأنساب ما ملخّص مضمونه أنّه كان للسيّد محمّد بن الإمام عليّ الهادي تسعة من الأولاد الذكور ، وهم : لطف الله وأبو طالب ورحمة الله وعناية الله وهداية الله وإسحاق واسكندر ومحمود وجعفر.
    ثمّ قال : إنّ إسحاق ومحمود وجعفر واسكندر هاجروا من سامرّاء خوفا من الأعداء وكانوا مشرّدين في البلاد إلى أن وصلوا إلى نهاوند وخوي وسلماس فقتلوا في تلك البلاد ، وسائر إخوتهم رحمة الله ولطف الله وهداية الله ونعمة الله لمّا بلغوا كرمان قتلوا فيها ، انتهى. والظاهر أنّه متفرّد فيما ذكره والعلم عند الله تعالى.
    ووجدت في ظهر كتاب مستند الشيعة للفقيه الأعظم العلّامة النراقي قدس‌سره أنّ كاتبه ساق نسبه بهذه الصورة :
    وأنا العبد محمّد رضا بن عبد الرسول ابن السيّد جعفر بن السيّد عبد الكريم بن السيّد معين الدين بن مير حسين بن السيّد محمّد بن السيّد حسين بن السيّد علي أكبر ابن السيّد مقصود بن السيّد أمير حسين بن السيّد زين العابدين بن السيّد أمير علي أكبر بن السيّد مهدي بن السيّد أمير حسن بن السيّد جلال الدين بن السيّد أمير أحمد ابن السيّد طاهر بن السيّد يحيى بن السيّد محسن ابن السيّد عزّ

    الدين بن السيّد فخر الدين بن السيّد أمير محمّد بن السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن الإمام الهمام أبي الحسن عليّ الهادي بن الإمام محمّد الجواد بن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهم‌السلام.
    نبذة من الكرامات التي ظهرت من مشهد أبي جعفر السيّد محمّد عليهم‌السلام
    رأيت بخطّ العلّامة الحجّة مولانا الميرزا محمّد الطهراني العسكري نزيل سامرّاء مجموعة كبيرة بلغة فارسيّة تتضمّن الكرامات التي ظهرت من قبور الأئمّة وأبنائهم وكرامات بعض العلماء ، ومن جملة ما ذكر فيها نيّف وأربعون كرامة لأبي جعفر السيّد محمّد سلام الله عليه بين ما رآها بعينه ، وبين ما سمعها من أهل الوثوق والإتقان ، ونحن نكتفي بذكر ستّة منها بعد تعريبها وتلخيصها من المجموعة المشار إليها.
    الأوّل : تبرئة امرأة من التهمة
    قال : أخبرني الشيخ الأستاذ الشيخ إسماعيل الغرباغي قال : أخبرني العلّامة الكبير السيّد إسماعيل البهبهاني أنّه قال : كنت مع جماعة من أصدقائي عند مرقد السيّد محمّد عليه‌السلام جالسين قبال بعض الحجرات المقابلة للروضة البهيّة فإذا بامرأة من الأعراب صارخة باكية تركض بشدّة ومن ورائها إخوتها ومعهم الخناجر يريدون قتلها ، فسألنا عن الخبر ، قيل لنا : إنّ هذه المرأة الصارخة تهّمتها زوجة أخيها بأنّها تراود فتى من فتيان العرب وقالت : والشاهد لذلك أنّي غسلت منديل أخيها وكان من الأبريسم له قيمة وعلّقته على خشية لا يمرّ عليها أحد إلّا هذه المرأة فهي أخذته وأعطته لمن تراوده ومن عادة العرب أنّه إذا علم بفساد أخته وابنته يقتلها لا محالة.

    فدخلت المرأة الصارخة وأخذت الشبّاك بأنين وبكاء يصدع القلوب وتقول : يا سيّدي ، يا سبع الدجيل ، أنت أعلم بحالي وبرائتي من هذه التهمة.
    قال : فبينما نحن متألّمون من حال المرأة فإذا بثور يعدو بشدّة ودخل الصحن الشريف فجاء قبال البهو وراث فسقط في خلال روثه المنديل ، فلمّا رأوا ذلك إخوة المرأة فرحوا بذلك وعلموا أنّ أختهم مصونة من هذه التهمة ، وكانت المكيدة من زوجة الأخ والمنديل ابتلعه الثور فسقط منه ببركة مولانا السيّد محمّد عليه‌السلام.
    الثانية : شفاء امرأة مفلوجة خرساء
    قال : أخبرني العلّامة الميرزا هادي قال : أخبرني عبد الصاحب وكان من أوثق سدنة روضة السيّد محمّد عليه‌السلام قال : كانت في بلد امرأة شابّة معقود عليها فعرضها فلج فصارت مفلوجة خرساء ، وشاع خبرها في تمام بلد ، فجاؤوا بها إلى الروضة البهيّة وأدخلوها داخلها وأغلقوا الأبواب عليها ، فلمّا مضى من الليل نصفه فإذا بالامرأة تصرخ في وسط الصحن المطهّر سالمة ناطقة ، فهجموا عليها الناس من كلّ جانب وسألوها عن القصّة ، وقال لها بعض السدنة : أنا أغلقت الأبواب ومفاتيحها عندي ، فكيف خرجت من الحرم؟
    قالت : رأيت شخصا جليلا ضرب برجله عليّ وقال : قومي ليس عليك شيء ، فخرجت من الروضة سالمة.
    وشاع الخبر في بلد ، وعرفها كلّ برّ وفاجر.
    الثالثة : شفاء زوجة الأستاذ محمود البنّاء
    قال : رأيت بعيني أنّ الأستاذ محمود المعمار الكاظمي كانت له زوجة صالحة

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:07 pm

    ابتلت بمرض الاستسقاء ، وعجز الأطبّاء عن معالجتها في الكاظمين ويئسوا عن العلاج ، وأشرفت المرأة على الهلاك ، ولم تتمكّن على القعود أصلا ، وصارت كالقربة المنفوخة ، فوضعوها في المحمل وجيء بها إلى الروضة البهيّة للسيّد محمّد سلام الله عليه ، فلم تنقضي الأيّام والليالي إلّا وبرئت من ذلك المرض المزمن بغير دواء.
    الرابعة : شفاء بنت من أهل كربلاء
    قال دام وجوده : رأيت بعيني حين كنت عند روضة السيّد محمّد عليه‌السلام وكنت مشتغلا بعمارة الصحن الشريف أنّ بنتا من أهل كربلا دخلت الصحن الشريف ومعها أقربائها وأمّها وأبوها ، وكانت البنت في صرع شديد تشقّق ثيابها وأمّها من ورائها تصرخ صرخة الوالهة الثكلى ، وكان أبوها لازما خمارها لئلّا تبدو معاصمها. قال : فلمّا رأيت ذلك تغيّر حالي وجرت دمعتي ، فخاطبت السيّد محمّد وقلت : يا سيّدي ، بعيد عن كرمك وإفضالك الجمّ وإنعامك العام أن تردّ هذه المرأة المسكينة خائبة ، فأدخلوها الروضة البهيّة فلمّا أصبحنا رأينا البنت سالمة ليس لها أثر أصلا.
    الخامسة : قضاء حاجة مهمّة
    قال دام وجوده : أخبرني السيّد الجليل العابد المتهجّد الحاج ساعد السلطان الطهراني قال : كانت لي بنت زوّجتها لبعض أقاربها فبقيت منذ عشر سنين عاقرا لم تلد ، فحزنت أمّها حزنا شديدا بعد أن يئست عن المعالجة ، فجئنا بها إلى السيّد محمّد عليه‌السلام ونذرت لله إن حملت وولدت أبعث أربعين روبية إلى السيّد محمّد لتصرف في العمارة ، فقضى الله حاجتها سريعا ببركة مولانا أبي جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام فحملت وولدت. قال : فبعثت بالمبلغ فجعلناه في مصارف العمارة.

    السادسة : شفاء امرأة من أهل سنقر
    قال : أخبرني العلّامة الخبير الشيخ محمّد علي الحائري السنقري صاحب التصانيف الجيّدة ، في الثاني عشر من شهر جمادى الثانية من سنة 1361 في منزلي بسامرّاء قال : إنّي لمّا كنت في بلدة سنقر مشتغلا بالوظائف الشرعيّة رأيت في مدّة إقامتي بها أنّ ولد إمام الجمعة اشتغل بالتجارة وكان اسمه حاجي سيّد آقا ولأجل معاملته مع الأجانب والفجّار انحرف عن دين الإسلام والمجالسة مؤثّرة ، وصار لا يعتني بالشرع ولا بأهله ، وكنت منقطعا عنه لأجل هذا ، فاتفق أنّي سافرت إلى زيارة العتبات المقدّسة فرأيته في الكاظمين عليهما‌السلام فقلت له : ما أنت وذاك؟ جنابك لا تعتقد الزيارة ولا تعتني بأمثال ذلك؟!
    فقال لي : كان الأمر على ما وصفت وما جئت للزيارة ، إنّما جئت لأمر دهمني وهو أنّ زوجتي حدث في رحمها ما عجز الأطبّاء عن معالجتها وما تركت طبيبا لا في همدان ولا في كرمانشاهان إلّا وعالجتها عنده فعقمدت المعالجة ، واتفقت كلمتهم على مباشرتها عند أطبّاء سوريا ، وإنّي عازم إلى سوريا وما أدري ما يصير إليه مآل أمري هذا.
    قال : فاختلج في صدري كأنّي ألهمت بذلك فقلت له : اسمع منّي ما أقول لك ، إنّ سفرك هذا فيه نصب وتعب شديد ، وما تدري هل تنال مقصدك أم لا ، فأرى أنّك تسافر إلى مرقد السيّد محمّد عليه‌السلام وتوسّل به فأرجو أن لا ترجع إلّا مقضيّ المرام.
    فقال : السيّد محمّد من هو؟ فعرّفته مقامه وفضله ، فوقع في قلبه ما قلت له ، وكنت مضطربا ممّا ذكرت له ، وقلت في نفسي : لعلّ المصلحة الإلهيّة تقتضي خلاف ما ذكرت له ، فسافر إلى مرقد السيّد محمّد وأنا رجعت إلى سنقر ، فلم تنقضي الأيّام والليالي إلّا ورجع مع عياله إلى سنقر فرحا مسرورا ، فسألته عن القصّة ، فقال :

    بحمد الله رجعنا عن مرقد السيّد محمّد بعد ما توسّلنا به وقد شفى الله زوجتي بعد أن كنت آيسا عن المعالجة.
    قال : فحملت المرأة وولدت ذكرا سويّا ، وجاء بالطفل وأنا رأيته ، وقال : هذا من كرامة سيّدنا أبي جعفر السيّد محمّد ، فهداه الله فصار من المؤمنين المخلصين لولاء أهل بيت العصمة سلام الله عليهم.
    هذه نبذة من كراماته عليه‌السلام وقد شوهد منه أمثالها ممّا يبهر العقول ، وكلّها مدوّنة في المؤلّفات ومسطورة في الكتب.
    ولنعم ما قال الشيخ راضي آل ياسين من قصيدة في مدحه عليه‌السلام :
    يا مرقد الطهر أبي جعفر
    ثوبت في هذا الضريح الضراح

    تهوي إلى من فيه أرواحنا
    لأنّه للروح روح وراح

    هذا الشذا من شذره فائح
    وذا السنا من نوره فيك فاح

    غصّت بك الحاجات معروضة
    تنتظر العطف وترجو النجاح

    ضاقت بها الدنيا وقد يمّمت
    واديك فازت بالأماني الفصاح

    قد شفعت جاه أبي جعفر
    جلّلها الفوز وفاض السماح

    كم منحة أولى وكم محنة
    جلى وكم ذي كربة قد أراح

    هذي كرامات أبي جعفر
    عندك تجلوها مساء صباح

    شاعت وضاءت بسناها الدنا
    نورا وضائت بشذاها البطاح

    وقد رواها معشر صالح
    فهي الأحاديث الحسان الصحاح

    وشاهد الآلاف من جيلنا
    آلافها في غدوة أو رواح

    لا غرو فالمدفون فيك الذي
    لو لا البدا كان الإمام الصراح

    وللعلّامة الأجل رئيس المجلس التميز الشرعي سيّدنا السيّد محمّد صادق الصدر ابن السيّد محمّد حسين أخ العلّامة الحجّة السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله تشطير لبيتين في مدحه عليه‌السلام :


    (إنّ الإمامة إن عدتك فلم تكن)
    تعدو الفضائل شخصك المقداما

    ولئن عدت نحو الزكيّ فلن ترى
    (تعدوك كلّا رفعة ومقاما)

    (يكفي مقامك إنّه في رتبة)
    فقت الأنام وكنت ثمّ غلاما

    قد كنت صدرا للعلوم ومصدرا
    (لو لا البدا لأخيك كنت إماما)

    وللشيخ حسن آل شيخ أسد المحقّق التستري قدّس الله نفسه في مدحه عليه‌السلام مشطّرا لهما :
    (إنّ الإمامة إن عدتك فلم تكن)
    سيمائها إلّا عليك لزاما

    حزت الفضائل والمناقب فهي لا
    (تعدوك كلّا رفعة ومقاما)

    (يكفي مقامك أنّه في رتبة)
    تبدي الملائك نحوه الإعظاما

    ظنّ الأنام بأن تكون إمامهم
    (لو لا البدا لأخيك كنت إماما)

    ولقد أجاد العالم الأديب الشيخ جابر بن الشيخ مهدي بن عبد الغفّار الكاظمي رحمه‌الله في مدحه عليه‌السلام حيث يقول :
    قف بجنب الدار من هذا الحمى
    واترك اللهو بأوطان الدمى

    وأرح نضوك أن تجهده
    منجدا طورا وطورا متهما

    فلكم سامك إدلاج السرى
    أن ترى طول العنا والنّسما

    واحبس العيس على مغنى أبي
    جعفر تلق الغنا والمغنما

    واخلع النعل بواديه ففي
    نشر مغناه طوى بل والسما

    واحظ يا سعد به إنّ به
    منزل السعد الأعزّ الأعظما

    فهو بيت من أتى حوزته
    كعبة البيت أتى والحرما

    ومزار قد تعالى شأنه
    بمزور جلّ قدرا وسما

    إن عدته عصمة عدّ لها
    فلقد عدّ لنا معتصما

    ومنار واضح الحقّ به
    يزهق الباطل بين الخصما

    ومطاف وفد أملاك السما
    اتخذت ترب ثراها ملثما



    ولنعم ما قال الشاعر المفلق الخطيب الشيخ محمّد علي ابن الشيخ يعقوب النجفي في مدحه عليه‌السلام :
    ما بين سامرّاء والزوراء
    مثوى بساحته أطلت ثوائي


    قد شاقني ذاك المقام فساقني
    فرط الغرام لربعه المتنائي

    متيقّنا أنّ النجاح ببابه
    فأنخت آمالي به ورجائي

    وضريح قدس هيبة لجلاله
    يعنو الضراح له مع الجوزاء

    تأتي ملوك الأرض خاضعة له
    وتأمّه أملاك كلّ سماء

    ألممت فيه مسلّما فقد اكتفى
    غيري من التسليم بالإيماء

    نجل الإمام أخ الإمام محمّد
    عمّ الإمام بقيّة الأمناء

    لو لا البدا حاز الإمامة بالهدى
    لكنّها منصوصة بقضاء

    كم من كرامات له ومناقب
    جلّت عن التعداد والإحصاء

    شهدت به الأعداء ما بين الورى
    ومن العجيب شهادة الأعداء

    ما خصّ نائله القريب وإنّما
    عمّ البعيد به مع القرباء

    إن يبكه الهادي أبوه فعاذر
    جزعا عليه إن أطلت بكائي

    ويشقّ جيب العسكريّ ولم يكن
    قلبي يشقّ ولم تذب أحشائي

    يا خير فرع ينتمي لأرومة
    محدودة الأفنان والأفياء

    حيّ الحيا بلدا بقربك إنّه
    ما زال في أمن من الأسواء

    أنّى يحلّ الجدب مربع أهله
    وبفضلك استغنت عن الأنواء

    وقد جمع العلّامة الكبير الميرزا محمّد علي الأردوبادي جملة وافية من القصائد الفاخرة في مدح مولانا أبي جعفر السيّد محمّد عليه‌السلام مع نبذة من أخباره وفضاله وكراماته على ما سمعت منه دام وجوده ، وهو كتاب ثمين في بابه ولم يزل مخطوطا.

    عمارة مشهده عليه‌السلام
    منذ عرف هذا المقام الشريف والمرقد المنيف كان مهجورا ، والسبب في ذلك وقوعه في برية موحشة منحرفا عن طريق الزائرين ، لأنّ القاصد إلى سامرّاء يخرج مع القوافل من الكاظمين عليهما‌السلام ويبيت في الدجيل ، وفي الليلة الثانية يبيت في بلد ، وفي الثالثة في سامرّاء ، هكذا كان دأب الزائرين في مئات من السنين ، ولا يمرّ أحد بهذا المشهد خوفا من القتل والسلب ، وأكثر الزائرين لم يعرفوا هذا المشهد الشريف فضلا عن ذهابهم إلى زيارته وكان الأمر كذلك إلى أن وفّق الله الملك المؤيّد أحمد خان الدنبلي إلى تجديد عمارة مشهد العسكريّين عليهما‌السلام بسامرّاء بنظارة العلّامة المهذّب البارع الشيخ زين العابدين السلماسي قدّس الله نفسه فكان في خلال اشتغاله قد مرّ بهذا المشهد الشريف ورأى أنّ الخراب غلب عليه فشمّر عن ساعد الجدّ وبذل جهده لعمارته وجعل يستنهض أرباب الثروة من أبناء الترك والعجم لتشييد عمارته فبنى عليه قبّة من الجصّ والآجر وأحدث خانا لنزول الزائرين كما صرّح بذلك العلّامة الخبير السيّد محسن عاملي في أعيان الشيعة في ترجمة الميرزا إسماعيل بن الشيخ زين العابدين السلماسي طاب ثراهما وكان ذلك في حدود سنة 1208 فظهر هذا المشهد الشريف لبعض الخواصّ فكانوا يزورونه مع القافلة.
    ويظهر من كتاب تحفة العالم للمير عبد اللطيف التستري أنّ المولى الميرزا محمّد رفيع بن محمّد شفيع الخراساني الأصل التبريزي المسكن كانت له اليد في عمارة مشهد السيّد محمّد لأنّه كان وكيلا أيضا من قبل أحمد خان الدنبلي ، واسمه مكتوب بلون أبيض جليّ على جبهة يسار الأيوان للعسكريّين عليهما‌السلام لمن يريد الدخول في الرواق وإن لم يصرّح بذلك في تحفة العالم لأنّه كان مقدّما على الشيخ زين العابدين

    السلماسي ، فلمّا توفّي انتقلت النظارة والوكالة إلى السلماسي ، ذكر ذلك شيخنا الأستاذ الشيخ آقا بزرك الطهراني صاحب الذريعة في كتابه «الكرام البررة» في ذكر علماء القرن الثالث بعد العشرة ، وقال : لقب أبيه مستوفي الممالك كما في كتاب تحفة العالم الذي فرغ منه سنة 1216 وكان من الأفاضل الأعلام في الفنون العلميّة سيّما العلوم العقليّة ، وكان من أزهد الناس في عصره ، بل لا نظير له في الزهد والعرفان مع ما له من الجاه الخطير.
    وفي مقدّمة طبع إيضاح الأنباء تأليف حفيده أنّه كانت وفاته في أوائل شوّال 1222 ، وكان من أجلّاء تلاميذ الوحيد البهبهاني ، وكانت مباشرته لعمارة مشهد سامرّاء من سنة 1198 ، وذكر في تحفة العالم أنّه لقّبه أوان مباشرته بعمارة مشهد سامرّاء ، وذكره أيضا الشيخ عبد النبي القزويني في تتميم أمل الآمل ، وعدّ من مشايخه الوحيد البهبهاني والشيخ مهدي الفتوني ، وقال : الآن مشتهر بالفضل ، وما رأيته ، ومراده بالآن سنة 1198.
    ثمّ وفّق الله تعالى جماعة من تجّار دولة آباد فأكملوا بناء الخان الذي بناه السلماسي فصار طريقا لبعض القوافل فكان الأمر كذلك إلى أن هاجر إلى سامرّاء آية الله المجدّد محمّد حسن الشيرازي طيّب الله رمسه فكثر أولوا الفضل والنباهة في سامرّاء فخرج قدس‌سره في بعض السنين مع جماعة من أفاضل تلاميذه من سامرّاء ماشيا على قدميه إلى السيّد محمّد عليه‌السلام وأمر بإنشاء حجرتين على ما حدّثني به العلّامة الحجّة مولانا الميرزا محمّد الطهراني ، وأخبرني أيضا أنّ الآقا خان المحلّاتي بنى الرواقين خلف الروضة البهيّة وقدّامها.
    ثمّ أمر المولى الحاج مولى فتحعلي السلطان آبادي بإنشاء حوض عند البئر التي كانت على يمين الصحن الشريف.
    ثمّ بنى العلّامة الخبير الميرزا حسين النوري ثماني حجر في جنوب الصحن

    الشريف وأربعة في طرف الغرب وكانت قبل ذلك أواوين لا يزيد عرضها على أربعة أشبار وطول الصحن الشريف لا يزيد على خمسين مترا ، وعرضه على ثمانية وعشرين مترا ، وعلوّ حاطئه على مقدار قامة وشبرين تقريبا ، فشمّر عن ساعد الجدّ العلّامة النوري قدس‌سره فألبس القبّة بالقاشاني الملوّن ، ونصب شبّاكا من الفولاذ الأصفر على المرقد المطهّر ووصف ساحة الروضة بالرخام الصيقل ، وجعل حيطانها مكسوّة بالرخام بمقدار دون القامة ، والبقيّة بالمرايا ذات الألوان ومولانا الأعظم العلّامة الخبير السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه‌الله يعتقد بهذا المشهد اعتقادا عظيما ويكثر من زيارته وبنى فيه الكيشوانيّة الغربيّة الجنوبيّة.
    ثمّ قام بعمارة هذا المشهد الشريف مولانا الحجّة العلّامة الخبير الميرزا محمّد الطهراني العسكري نزيل سامرّاء دام وجوده ، فوسّع الصحن الشريف وأنشأ الحجرات الشماليّة ، وبنى عدّة دكاكين ومقهى وحياضا ، وجاء بمضخّة الماء فاستراح الزائرون بعد أن كانوا في مشقّة شديدة من أجل تحصيل الماء ، فبذل جهده دام وجوده في عمارة المشهد المقدّس حتّى صار بمساعيه الجميلة محطّا لرحال عامّة الزائرين ، يقصده الحاضر والبادي من كلّ فجّ عميق ، ويؤمّه الرجال والنساء زرافات ووحدانا ، وكثيرا ما يتفق أنّ الزائر يبيت في سامرّاء ليلة أو ليلتين ويبيت في جوار السيّد محمّد عليه‌السلام عشرة أيّام أو أكثر ذلك لتهيئة أسباب الراحة له في هذا المشهد أكثر من غيره وصار هذا المشهد الشريف مشهورا ، ومن المشاهد المهمّة ، وتجبى إليه النذور والهدايا الثمينة من كلّ حدب وصوب ويتبرّك به كلّ من عرف قدره من المسلمين.
    ثمّ قام بعمارته جمعيّة خيريّة من أهالي طهران وغيرها بنظارة السيّد الأجل العالم المؤيّد الحاج آقا محمّد نجل العلّامة الحجّة الحاج آقا حسين القمّي رحمه‌الله فنهضوا

    لتشييد هذه العمارة بإرسال الأموال الطائلة إلى السيّد الأجل الحاج آقا محمّد وهو ينفقها على البنّائين والعمّالين.
    والسيّد محمّد هذا تقيّ ورع خفيف الروح ، أبيّ النفس ، معروف لدى الخاصّة والعامّة ، ومن حسنات الدهر ، وإنّ نفس أبيه بين جنبيه ، وقد رأيته في بعض الأيّام بالمشهد المقدّس وعليه ثياب العمّالين ويشتغل معهم ، وكأنّه يعد نفسه منهم ، وكان يأكل معهم ويستأنس بهم ، ويستنهضهم على العمل ، وربّما تنفذ المصارف للعمارة فيسافر إلى إيران ويستنهض أولي الهمم العالية ويحرّضهم على المساعدة والمعاونة في البرّ والتقوى ، فأنشأ دام وجوده بالمشهد المقدّس حمّاما بديعا ، يؤمّه الزائرون وغيرهم.
    وزاد في توسيع الصحن الشريف فجعل طوله من طرف الشرق ثمانية وسبعين مترا ونصف متر ، ومن طرف الشمال مائة متر ، وأنشأ حجرات كثيرة بلغ عددها في يومنا هذا سنة 1366 ثماني وتسعين حجرة ، وهدم الحائط الشرقي الذي كان بين الخان وبين الصحن الشريف ، وأنشأ ثماني عشرة حجرة مع خلوتين وسراديب وميضاة للرجال والنساء ، ورصف الصحن الشريف بالسمند على أحسن تركيب بعد أن كان فيه كالجبل من التراب ، وأنشأ رواقا من جهة شرق الروضة البهيّة ، ثمّ هدم الحجرات الجنوبيّة ، وفتح بابا كبيرا للصحن الشريف والعمّالة اليوم يشتغلون بتوسيع الصحن من الجهة الجنوبيّة وجلب ثلاث مضخّات للماء ، وبنى حصنا لينصبها فيه ، ونصب بعضها في خارج المشهد للزراعة والطحين وجلب ماكينة الكهرباء وحياض الحديد والأنابيب وما يحتاج إليه.
    فبلغ الأمر في يومنا هذا وهو سنة 1366 إلى أنّ أهالي بلد يبتاعون الأراضي حول الحضرة المقدّسة لإنشاء الدور والدكاكين فنأمل أملا قويّا بأن تصير بلدة مهمّة لأنّ موادّ العمارة فيها مبذولة وهو التراب الجيّد. وكان باستطاعة بنّائي الدور

    أن لا يتباعدوا عن مقتضيات البداعة وأن يستعملوا الموادّ المبذولة في محيطهم وتساعدهم على صنع اللبن الجيّد وفيها أتربة كليسة تصلح لتحضير الجصّ القوي ولتحضير الطابوق الجيّد ، أضف أنّها واقعة بين بلتدين كبيرتين بغداد والموصل ، والقطار يمرّ عليه ، ودجلة جار على جنبه.
    وسيّدنا المشار إليه لكثرة شوقه إلى عمارة هذا المشهد الشريف يجلب الجصّ من سامرّاء والآجر من بغداد ، والسمند وأبواب الحجر من إيران ، والرخام من الموصل ، ولم يزل جادّا في العمارة وهو دام وجوده في كلّ سنة يزور بيت الله الحرام من غير أن ينوب عن أحد ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، فأجزل الله أجره ، وأعلى في أفق الشرف بدره.
    ومنهم : السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام
    وقد تقدّم ذكر أخبارها وجلائل فضائلها في الجزء الأوّل ولم أذكر هناك أنّها ذات بعل وولد ، وفي الأخريات ظفرت على نسخة خطّيّة في ممكتبة النسّابة شهاب الدين التبريزي في بلدة قم من نسخ عمدة الطالب فرأيت في بعض حواشيها تعليقا للعلّامة المير محمّد قاسم الحسيني السبزواري من علماء عصر الصفويّة ، قال : ولمولانا الجواد بنات منهنّ حكيمة ، تزوّجها أبو علي الحسن المحدّث بن أبي الحسن عليّ المرعش بن عبيد الله بن أبي الحسن محمّد الأكبر بن أبي محمّد الحسن المحدّث بن الحسين الأصغر ابن الإمام السجّاد ، وولدت منه أبا عبد الله الحسين وزيدا وحمزة ، وكانت حكيمة هي صاحبة القصّة في ميلاد القائم ، نقل من شجرة ابن خداع المصري.
    وقال أيضا : إنّ الحسين بن عليّ الهادي عليهما‌السلام مدفون عند رجلي الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام.

    ومن المدفونين في سامرّاء القديمة يحيى بن عبد الحميد الحماني
    ذكره المحدّث القمّي في الكنى والألقاب ، قال : يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمان ابن ميمون أبو زكريّا الحماني الكوفي ، توفّي في سامرّاء القديمة سنة 228 ، قال : قدم بغداد وحدّث بها عن جماعة منهم سفيان بن عيينة وأبو بكر بن عيّاش ووكيع.
    وذكره الخطيب في تاريخ بغداد ، وأورد روايات عن يحيى بن معين أنّه قال : يحيى ابن عبد الحميد الحماني صدوق ثقة ، وروى عنه أنّه قال : مات معاوية على غير ملّة الإسلام.
    قال الخطيب : مات الحماني سنة مأتين وثمانية وعشرين بسرّ من رأى في شهر رمضان ، وكان هو أوّل من مات بسامرّاء من المحدّثين الذين أقدموا ، وكان لا يخضب وهو الذي كان مع أبي بكر بن عيّاش في مجلس إنكاره على موسى بن عيسى الهاشمي في كرب قبر الحسين عليه‌السلام ، وقصّته مذكورة في أواخر العاشر من البحار.
    أقول : وكان مولانا عليّ الهادي عليه‌السلام يفضّله على الشعراء كما ذكره الشيخ في الأمالي بسنده عن خير الكاتب ، قال : دخل عليّ الهادي عليه‌السلام يوما على المتوكّل ، فقال له : يا أبا الحسن ، من أشعر الشعراء؟ وقد كان سأل قبله عليّ بن الجهم فذكر له شعراء الجاهليّة وشعراء الإسلام ، فلمّا سئل الإمام عليه‌السلام ، قال : الحماني حيث يقول :
    لقد فاخرتنا من قريش عصابة
    بمطّ خدود وامتداد الأصابع

    فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا
    عليهم بما يهوى نداء الصوامع

    فإنّ رسول الله أحمد جدّنا
    ونحن بنوه كالنجوم الطوالع



    قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله جدّي أم جدّك؟ فضحك المتوكّل ثمّ قال : هو جدّك لا ندفعك عنه.
    وأبو بكر بن عيّاش الذي أشار إليه هو من مشاهير علماء القرن الثاني ، ولد سنة 98 ـ على قول ـ وفي تشيّعه اختلاف.
    وقد أطنب في أعيان الشيعة في ترجمته وذكر ما ملخّصه : أبو بكر بن عيّاش بن سالم الأسدي بالولاء ، الكوفي الحنّاط المقري ، مولى واصل بن حبّان الأسدي الأحدب ، وقيل اسمه شعبة ، وقيل مطرف اسمه كنية ، وقيل لأبي بكر بن عيّاش : ما اسمك؟ قال : ولدت وقد قسمت الأسماء.
    وعدّه ابن سعد في الطبقات من الطبقة الثانية ولكنّه بقي وعمّر حتّى كتب عنه الأحداث ، وكان من العباد.
    وقال وكيع ونظر إليه يصلّي يوم الجمعة حين يسلّم الإمام إلى العصر ، فقال : أعرف هذا الشيخ بهذه الصلاة منذ أربعين سنة.
    وكان أبو بكر ثقة صدوقا عارفا بالحديث والعلم.
    وفي خلاصة تهذيب الكمال : أحد الأعلام.
    وقال ابن عدي : لم أجد له حديثا منكرا إذا روى عنه ثقة.
    وقال يزيد بن هارون : لم يضع جنبه إلى الأرض أربعين سنة.
    وفي تذكرة الحفّاظ : أبو بكر بن عيّاش الإمام القدوة ، شيخ الإسلام ، الكوفيّ المقري.
    وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن أبي بكر بن عيّاش وأبي الأحوص ، فقال : ما أقربهما لا أبالي بأيّهما بدأت.
    قال : وسئل أبي عن شريك وأبي بكر بن عيّاش أيّهما أحفظ ، قال : هما في

    الحفظ سواء غير أنّ أبا بكر أصحّ كتابا.
    قلت لأبي : أبو بكر أو عبد الله بن بشر الرقّي؟ قال : أبو بكر أحفظ منه وأوثق.
    وذكره ابن حبّان في الثقات ، وهو من مشهوري مشايخ الكوفة وقرّائهم.
    قال إبراهيم بن أبي بكر بن عيّاش : لمّا نزل بأبي الموت قال : يا بني ، إنّ أباك لم يأت فاحشة قطّ وإنّه يختم القرآن من ثلاثين سنة كلّ يوم مرّة ، وكان يقول : أنا نصف الإسلام ، وكان جليلا ، مات هو وهارون الرشيد في شهر واحد.
    أقول : وعلى هذا توفّي في أربع ليال خلون من جمادى الآخرة سنة 163 لأنّ هارون الرشيد توفّي في هذا التاريخ على ما ذكره المسعودي في مروج الذهب.
    أخباره :
    نقل في أعيان الشيعة عن تهذيب التهذيب ، عن يحيى الحماني وبشر بن الوليد الكندي قالا : سمعنا أبا بكر بن عيّاش يقول : جئت ليلة إلى زمزم فاستقيت منه دلوا لبنا وعسلا ، ثمّ ذكر أخبارا تشهد بتسنّنه ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّه ذكرها تقيّة.
    قال يحيى بن آدم : لمّا قدم الرشيد الكوفة نزل الحيرة ثمّ بعث إلى أبي بكر بن عيّاش فحملناه إليه وكنت أنا أقوده بعد ذهاب بصره ، فلمّا انتهينا إلى باب الخليفة ذهب الحجّاب يأخذون أبا بكر منّي ، فأمسك أبو بكر بيدي وقال : هذا قائدي لا يفارقني ، فقالوا : أدخل أنت وقائدك يا أبا بكر.
    قال : فدخلت به وإذا هارون جالسا وحده ، فلمّا دنا منه أنذرته ، فسلّم عليه بالخلافة فأحسن هارون الردّ ، فأجلسته حيث أمرت ، ثمّ حرجت فقعدت في مكان أراهما وأسمع كلامهما ، فجعلت أنظر إلى هارون يتلمّح أبا بكر ، وكان أبو بكر رجلا قد كبر وضعفت رقبته ، فإنّما ذقنه على صدره ، فسكت هارون عنه ساعة ثمّ

    قال له : يا أبا بكر ، قال : لبّيك يا أمير المؤمنين ، قال : إنّي سائلك عن أمر فأسألك بالله لمّا صدّقتني عنه ، قال : إن كان علمه عندي ، قال : إنّك قد أدركت أمر بني أميّة وأمرنا ، فأسألك بالله أيّهما كان أقرب إلى الحقّ؟
    قال يحيى : فقلت في نفسي : اللهمّ وفّقه وثبّته.
    فأطال أبو بكر التفكّر في الجواب ، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين ، أمّا بنو أميّة فكانوا أنفع للناس منكم وأنتم أقوم بالصلاة منهم.
    فجعل هارون يشير بيده ويقول : إنّ في الصلاة ، ثمّ خرج فتبعه الفضل بن ربيع فقال : يا أبا بكر ، إنّ أمير المؤمنين قد أمر لك بثلاثين ألفا ، فقال أبو بكر ، فما لقائدي؟ فضحك الفضل وقال : لقائدك خمسة آلاف.
    قال يحيى : فأخذت الخمسة آلاف قبل أن يأخذ أبو بكر الثلاثين.
    قال أبو بكر بن عيّاش : دخلت على هارون فسلّمت وجلست ، فدخل فتى من أحسن الناس وجها فسلّم وجلس ، فقال لي هارون : يا أبا بكر ، أتعرف هذا؟ قلت : لا ، قال : هذا ابني محمّد ، أدع الله تعالى له. فقلت : يا أمير المؤمنين ، جعله الله أهلا لما جعلته له أهلا.
    فسكت ، ثمّ قال : يا أبا بكر ، ألا تحدّثني ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، حدّثنا هشام بن حسان عن الحسين ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله فاتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإنّ عمّال ذلك الزمان في النار إلّا من اتّقى الله وأدّى الأمانة.
    فانتفض هارون وتغيّر وقال : يا مسرور ، اكتب ، ثمّ سكت ساعة ، وقال : يا أبا بكر ، ألا تحدّثني ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، حدّثنا هشام بن حسّان ، عن الحسن قال : أتدري ما قال عمر بن الخطّاب للهروان؟ قال : وما قال له؟ قلت : قال له : ما يمنعك من حبّ المال وأنت كافر القلب ، طويل الأمل؟ قال : لأنّي قد علمت أنّ الذي لي سوف يأتيني ، والذي أخلّفه بعدي يكون وباله عليّ.

    ثمّ قال : يا مسرور ، أكبت ويحك ، ثمّ قال : ألك حاجة يا أبا بكر؟ قلت : تردّني كما جئت بي. قال : ليست هذه حاجة ، سل غيرها ، قلت : يا أمير المؤمنين ، لي بنات أخت ضعاف فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهنّ بشيء. قال : قدّر لهنّ ، قلت : يقول غيري ، قال : لا يقول غيرك ، قلت : عشرة آلاف ، قال : لهنّ عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف ، يا فضل ، اكتب بها إلى الكوفة ، والآن تحسب إليه ، ثمّ قال : انصرف ولا تنسنا من دعائك. قال : فأخذت خمسين ألف دينار وانصرفت.
    قال وكيع : دخل أبو بكر بن عيّاش على موسى بن عيسى وهو على الكوفة وعنده عبد الله بن مصعب الزبيري ، وأدناه موسى ، ودعا له بتكاء فاتّكأ وبسط رجليه ، فقال الزبيري : من هذا الذي دخل ولم يستأذن ثمّ اتّكأته وبسطته؟ قال : هذا فقيه الفقهاء والرائس عند أهل المصر أبو بكر بن عيّاش.
    قال الزبيري : فلا كثير ولا طيّب ولا مستحقّ لكلّ ما فعلته به.
    فقال أبو بكر : يا أيّها الأمير ، من هذا الذي سأل عنّي بجهل ثمّ تتابع في جهله بسوء قول وفعل فنسبه له؟
    فقال : أسكت مسكتا ؛ فبأبيك غدر ببيعتنا ، ويقول الزور خرجت آمنّا ، وبابنه هدمت كعبتنا ، وبك أحرى أن يخرج الدجّال فينا.
    فضحك موسى حتّى فحص برجليه وقال للزبيري : أنا والله أعلم أنّه يحرط أهلك وأباك ويتولّاه ولكنّك مشؤوم على آبائك.
    ومن شعره :
    إنّ الكريم الذي تبقى مودّته
    ويكتم السرّ إن صافى وإن حرما

    ليس الكريم الذي إن ذلّ صاحبه
    أفشى وقال عليه كلّ ما علما

    وله أيضا :


    بلغت الثمانين أو جزتها
    فماذا أؤمّل أو أنتظر

    علتني الستون فأبليتني
    ودقّت عظامي وكلّ البصر

    أما في الثمانين من مولدي
    ودون الثمانين ما يعتبر؟

    وممّا يدلّ على تشيّعه كونه من أهل الكوفة والغالب عليهم التشيّع ، وروايته عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وكون أكثر مشايخه وتلاميذه شيعة ، وربّما يرشد إليه ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج ، قال : قال أبو بكر بن عيّاش : لقد ضرب عليّ بن أبي طالب ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ؛ ضربته عمرا يوم الخندق ، ولقد ضرب عليّ عليه‌السلام ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها ؛ يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله.
    وقال الميرزا محمّد في رجاله الكبير : أبو بكر بن عيّاش ، جاء في بعض رواياتنا ، الظاهر أنّه عاميّ كوفيّ له محبّة وميل إلى أهل البيت عليهم‌السلام ونوع تديّن.
    والرواية المشار إليها هو ما رواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بإسنادهما عن عبد الرحمان بن الحجّاج من أصحاب الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، قال : اشتريت محملا فأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه ثمّ احتبست أيّاما ثمّ جئت إلى بايع المحمل لآخذه ، فقال : قد بعته ، فضحكت ثمّ قلت : لا والله لا أدعك أو أقاضيك ، فقال لي : أترضى بأبي بكر بن عيّاش؟ قلت : نعم ، فأتيته فقصصنا عليه قصّتنا ، فقال أبو بكر بقول من تحبّ أن أقضي بينكما : أبقول صاحبك أو غيره؟ قلت : بقول صاحبي ، قال : سمعته يقول : من اشترى شيئا فجاء بالثمن فيما بينه وبين ثلاثة أيّام وإلّا فلا بيع له ، وأراد بصاحبه الصادق أو الكاظم عليهما‌السلام.
    وربّما استفاد السيّد صدر الدين العاملي فيما حكي عنه في حواشي رجال أبي علي تشيّعه ممّا رواه في التهذيب بإسناده عن هاشم الصيداني قال : كنت عند العبّاس بن موسى بن عيسى وعنده أبو بكر بن عيّاش وإسماعيل بن حمّاد بن أبي

    حنيفة وعليّ بن الظبيان ، ونوح بن درّاج تلك الأيّام على القضاء ، فقال العبّاس : يا أبا بكر ، أما ترى ما أحدث نوح في القضاء؟ إنّه ورّث الخال وطرح العصبة وأبطل الشفعة.
    فقال أبو بكر بن عيّاش : وما عسى أن أقول للرجل قضى بالكتاب والسنّة؟ فاستوى العبّاس جالسا ، فقال : وكيف قضى بالكتاب والسنّة؟
    فقال أبو بكر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قتل حمزة بن عبد المطّلب بعث عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأتاه بابنة حمزة فسوّغها الميراث كلّه ، فقال له العبّاس : فظلم رسول الله جدّي ، فقال : مه أصلحك الله ، شرع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صنع فما صنع رسول الله إلّا الحقّ.
    ووجه استفادة تشيّعه من ذلك أنّه حكم بأنّ إبطال التعصيب مطابق للكتاب والسنّة وهو مذهب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وعلمائهم ، وكيف كان فتشيّعه غير محقّق ، وإن كان محتملا أو مظنونا ، انتهى.
    أقول : تشيّعه محقّق لما ذكره العلّامة المجلسي في المجلّد العاشر من البحار نقلا عن أمالي الشيخ بإسناده عن صاحب الترجمة يحيى بن عبد الحميد الحماني قال : خرجت أيّام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي الكوفة من منزلي فلقيني أبو بكر بن عيّاش فقال لي : امض بنا يا يحيى إلى هذا؟ فلم أدر من يعني ، وكنت أجلّ أبا بكر عن مراجعته وكان راكبا حمارا له ، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلمّا صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم ، التفت إليّ وقال : يابن الحماني ، إنّما جررتك معي وجشمتك أن تمشي خلفي لأسمعك ما أقول لهذه الطاغية.
    قال : فقلت : من هو يا أبا بكر؟ قال : هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى.
    فسكتّ عنه ، ومضى وأنا أتبعه حتّى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وبينه ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة فلم ينزل أبو بكر هناك وكان

    عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الإزار.
    قال : فدخل وهو على حماره وناداني : تعال يابن الحماني ، فمنعني الحاجب ، فزجره أبو بكر وقال له : أتمنعه ـ يا فاعل ـ وهو معي؟! فتركني ، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الأيوان ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الأيوان على سريره وبجنبي السرير رجال متسلحون وكذلك كانوا يصنعون ، فلمّا أن رآه موسى رحّب به وقرّبه وأقعده على سريره ومنعت أنا حين وصلت إلى الأيوان أتجاوزه.
    فلمّا استقرّ أبو بكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف ، فناداني فقال : ويحك ، فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليّ قميص وإزار ، فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تكلّمنا فيه؟ قال : لا ولكنّي جئت به شاهدا عليك ، قال : فيما ذا؟ قال : إنّي رأيتك وما صنعت بهذا القبر. قال : أيّ قبر؟ قال : قبر الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكان موسى قد وجّه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع فيها الزرع ـ.
    فانتفخ موسى حتّى كاد أن ينقدّ ، ثمّ قال : وما أنت وذا؟
    قال : اسمع حتّى أخبرك ؛ اعلم أنّي رأيت في منامي كأنّي خرجت إلى قومي من بني غاضرة فلمّا صرت بقنطرة الكوفة اعترضتني خنازير عشرة تربدني ، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عنّي ، فمضيت لوجهي ، فلمّا صرت إلى شاهي ضللت الطريق فرأيت هناك عجوزا فقالت لي : أين تريد أيّها الشيخ؟ قلت : أريد الغاضريّة ، قالت لي : تنظر هذا الوادي فإنّك إذا أتيت إلى آخره اتّضح لك الطريق ، فمضيت وفعلت ذلك ، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيّها الشيخ؟ فقال لي : أنا من أهل هذه القرية ، فقلت : كم تعدّ من السنين؟ فقال : ما أحفظ ما مرّ من سنّي وعمري ولكن في ذكري أنّي رأيت الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ومن كان معه من أهل بيته ومن تبعه

    يمنعون الماء الذي تراه ولا تمنع الكلاب والوحوش شربه ، فاستفظعت ذلك وقلت له : ويحك ، أنت رأيت هذا؟ قال : والذي سمك السماء لقد رأيت هذا أيّها الشيخ وعاينته ، وإنّك وأصحابك الذين يقنون على ما قد رأيناها أقرح عيون المسلمين إن كان في الدنيا مسلم. فقلت : ويحك ، وما هو؟ قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت : وما جرى؟ قال : أيكرب قبر ابن النبيّ ويحرث أرضه؟ قلت : وأين القبر؟ قال : ها هو ذا أنت واقف في أرضه ، وأمّا القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه.
    قال أبو بكر بن عيّاش : وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قطّ ولا أتيته في طول عمري ، فقلت : من لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتّى وقف بي على حيّر له باب وآذن وإذا جماعة كثيرة على الباب ، فقلت للآذن : أريد الدخول على ابن رسول الله ، فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت ، قلت : ولم؟ قال : هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمّد رسول الله ومعهما جبرئيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير.
    قال أبو بكر بن عيّاش : فانتبهت وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة ، ومضت بي الأيّام حتّى كدت أن أنسى المنام ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدين كان لي على رجل منهم ، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتّى صرت بقنطرة الكوفة فإذا لقيني عشرة لصوص فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم ، فقالوا لي : ألق ما معك وانج بنفسك ، وكانت معي نفيقة ، فقلت : ويحكم ، أنا أبو بكر بن عيّاش وإنّما خرجت في طلب دين لي ، الله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتصرّفا في نفقتي فإنّي شديد الإضاقة ، فنادى رجل منهم : مولاي وربّ الكعبة لا تعرض له أحد ، ثمّ قال لبعض فتيانهم : كن معه حتّى تصير به إلى الطريق الأيمن.
    قال أبو بكر : فجعلت أتذكّر ما رأيته في المنام وأ تعجّب من تأويل الخنازير حتّى

    صرت إلى نينوى فرأيت والله الذي لا إله إلّا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء ، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا ، فقلت : لا إله إلّا الله ما كان هذا إلّا وحيا ، ثمّ سألته كمسألتي إيّاه في المنام ، فأجابني بما كان أجابني ، ثمّ قال لي : امض بنا ، فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب ، فلم يفتني شيء من منامي إلّا الإذن والحائر فإنّي لم أر حائرا ولم أر آذنا.
    فاتّق الله أيّها الرجل فإنّي قد آليت على نفسي أن لا أدع إذاعة هذا الحديث ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه ، فإنّ موضعا يؤمّه إبراهيم ومحمّد وجبرئيل وميكائيل لحقيق بأن يرغب في إتيانه وزيارته ، فإنّ أبا حصين حدّثني أنّ رسول الله قال : من رآني في المنام فإيّاي رأى فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي.
    فقال له موسى : إنّما أمسكت عن إجابة كلامك ليستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك ، وتالله إن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تحدّث بهذا لأضربنّ عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهدا عليّ.
    فقال له أبو بكر : إذا يمعني الله وإيّاه منك فإنّي إنّما أردت الله بما كلّمتك به.
    فقال : أتراجعني يا ماصّ ، وشتمته.
    فقال له : أسكت أخزاك الله وقطع لسانك.
    فأزعجه موسى من على سريره ثمّ قال : خذوه ، فأخذ الشيخ عن السرير وأخذت أنا ، فو الله لقد مرّ بنا من السحب والجرّ والضرب ما ظننت نبقى حيّا أبدا ، وكان أشدّ أمر بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخر وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول : أقتلوهما ابني كذا وكذا بالزاني لا يكنى ، وأبو بكر يقول له : امسك قطع الله لسانك وأنتقم منك ، اللهمّ إيّاك أردنا ولولد نبيّك غضبنا ، وعليك توكّلنا ، فصيّر بنا جميعا إلى الحبس ، فما لبثنا في الحبس إلّا قليلا ، فالتفت

    إليّ أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي ، فقال : يا حماني ، قد قضينا لله حقّا واكتسبنا في يومنا هذا أجرا ، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله ، فما لبثنا إلّا قدر غدائة ونومة حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه ، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد ، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب يشبه الدور سعة وكبرا فتعبنا في المشي إليه تعبا شديدا ، وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيرا ثمّ يقول : اللهمّ إنّ هذا فيك فلا تنسه.
    فلمّا دخلنا على موسى وإذا هو على سرير له فحين بصر بنا قال : لا حيّا الله ولا قرب من جاهل أحمق متعرّض لما يكره ، ويلك يا دعيّ ، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم.
    فقال له أبو بكر : قد سمعت كلامك والله حسيبك ، فقال له : أخرج قبّحك الله ، والله إن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذكر عنك لأضربنّ عنقك ، ثمّ التفت إليّ وقال : يا كلب ، وشتمني وقال : إيّاك ثمّ إيّاك أن تظهر هذا ، فإنّه إنّما خيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطان يلعب به في منامه ، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه ، فخرجنا وقد آيسنا من الحياة ، فلمّا وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ وقال : احفظ هذا الحديث وأثبته عندك ولا تحدّثنّ هؤلاء الرعاع ولكن حدّث به أهل العقول والدين ، انتهى.
    وهذه الحكاية كما ترى تدلّ على تشيّعه سيّما قوله : «لا أدع إذاعة هذا الحديث ولا زيارة ذلك الموضع .. الخ» فإنّها من خصائص الشيعة ، والله أعلم بالسرائر.
    * * *
    وقال المحدّث القمّي في الكنى والألقاب : كان أبو بكر بن عيّاش من الزهّاد الورعين والأخيار المتعبّدين ، ومن أرباب الحديث والعلماء المشاهير ، حكي أنّه ختم القرآن المجيد اثني عشر ألف ختمة ، وقيل أكثر من ذلك ، وهو أحد الراوىّ عن عاصم أحد القرّاء السبع المشهورين.

    ومن كلامه : مسكين محبّ الدنيا يقسط منه درهم فيظلّ نهاره يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وينقص عمره ودينه ولا يحزن عليهما.
    قلت : قد أخذ هذا من كلام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام من قوله : مسكين ابن آدم ، له في كلّ يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهنّ ولو اعتبرها لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا : فأمّا المصيبة الأولى فاليوم الذي ينقص من عمره ، قال : وإن ناله نقصان في ماله اغمّ به ، والدرهم يخلف عنه ، والعمر لا يردّة شيء.
    والثانية : إنّه يستوفي رزقه فإن كان حلالا حوسب عليه ، وإن كان حراما عوقب.
    قال عليه‌السلام : والثالثة : أعظم من ذلك. قيل : وما هي؟ قال : ما من يوم يمسي إلّا وقد دنا من الآخرة مرحلة لا يدري على الجنّة أم على النار.
    وقال أبو بكر بن عيّاش أيضا : أدنى ضرر المنطق الشهرة وكفى به بليّة.
    وحكي عنه قال : لمّا كنت شابّا أصابتني مصيبة تجلّدت لها ودفعت البكاء بالصبر ، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني حتّى رأيت أعرابيّا بالكناسة وهو واقف على نجيب له ينشد :
    خليليّ عوجا من صدور الرواحل
    بمهجور حزوى فابكيا في المنازل

    لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة
    من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

    فسألت عنه ، فقيل لي : ذو الرمّة ، فأصابتني بعد ذلك مصائب فكنت أبكي فأجد لذلك راحة ، فقلت : قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره ، انتهى.
    فلنرجع إلى أخبار صاحب العنوان الحماني :
    قال الخطيب في تاريخ بغداد ما ملخّصه : كان يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمان الحماني أحد المحدّثين ، كان يسرد سنده أربعة آلاف سردا ، وكان يحيى

    ابن معين يقول : ابن الحماني صدوق مشهور ، ما بالكوفة مثل ابن الحماني ، ما يقال فيه إلّا من حسد.
    وقال أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين يقول : يحيى بن عبد الحميد الحماني ثقة ، وما كان بالكوفة في أيّامه رجل يحفظ معه ، وهؤلاء يحسدونه ، وكان أبوه عبد الحميد ابن عبد الرحمان الحماني ثقة.
    وذكره المامقاني وقال : له كتاب في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام.
    الثاني عشر منهم : إبراهيم بن العبّاس الصولي
    ابن محمّد بن صول الكاتب مولى يزيد بن المهلّب ، ولد سنة 176 ومات للنصف من شعبان سنة 243 بسامرّاء ، وذكره الخطيب وابن خلّكان وياقوت الحموي في معجم الأدباء وأبو الفرج في الأغاني ، وابن النديم في الفهرست ، والعلّامة العاملي في أعيان الشيعة ، والقمّي في الكنى والألقاب ، وابن شهرآشوب في معالم العلماء ، وغيرهم ، وبعضهم أطنبوا في أخباره ومآثره غير أنّا نأخذ صفو ما سردوا في ترجمته ، وبعد ملاحظة عبارات المترجمين علم انّ الرجل كان أعجوبة عصره.
    قال في أعيان الشيعة : أصله من خراسان ، والصولي نسبة إلى جدّه صول ـ بضمّ الصاد المهملة ـ أو صول تكين وهو رجل تركي ، وقيل : إنّه منسوب إلى صور بعض ضياع جرجان ، وجدّه صول كان من ملوك جرجان ثمّ رأّس أولاده بعده في الكتبة وتقلّد الأعمال السلطانيّة.
    وقال غير واحد من المؤرّخين : كان صول وأخوه فيروز ملكي جرجان وتمجّسا وتشبها بالفرس ، فلمّا حصر يزيد بن المهلّب جرجان وفتحها أمنهما فأسلم صول على يده فهو من موالي يزيد بن المهلّب ولم يزل معه حتّى قتل يزيد بن المهلّب

    وقتل معه صول ، وولده محمّد بن صول صار من رجال الدولة العبّاسيّة ودعاتها ، ويكنى أبا عمارة ، قتله عبد الله بن عليّ عمّ أبي جعفر المنصور.
    وكان إبراهيم بن العبّاس الصولي كاتبا حاذقا بليغا فصيحا منشئا مفلقا من فحول الشعراء ، وكان من أبلغ الناس في الكتابة حتّى صار كلامه مثلا.
    قال ابن النديم : أبو إسحاق إبراهيم بن العبّاس بن محمّد الصولي الكاتب ، أحد البلغاء والشعراء الفصحاء ، وكان إليه ديوان الرسائل في مدّة جماعة من الخلفاء ، وكان ظريفا نبيلا.
    قال أبو تمام : لو لا أنّ همّة إبراهيم سمت به إلى خدمة السلاطين لما ترك لشاعر خبزا يعني لجودة شعره.
    قال أبو الفرج في الأغاني : كان إبراهيم وأخوه عبد الله من صنايع ذي الرياستين الفضل بن سهل ، اتصلا به فرفع منهما وتنقّل إبراهيم في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن مات وهو يتقلّد ديوان الضياع والنفقات بسرّ من رأى.
    وقال دعبل : لو تكسّب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء ، ثمّ أنشد له وكان يستحسن ذلك من قوله :
    إنّ امرئ أضنّ بمعروفه
    عنى لمبذول له عذري

    ما أنا بالراغب في عرفه
    إن كان لا يرغب في شكري

    اجتمع الكتّاب عند احمد بن إسرائيل فتذاكروا الماضين من الكتّاب ، فأجمعوا أنّ أكتب من كان في دولة بني العبّاس أحمد بن يوسف وإبراهيم بن العبّاس ، وإنّ أشعر كتّاب دولتهم إبراهيم بن العبّاس ومحمّد بن عبد الملك بن الزيّات ؛ فإبراهيم أجودهما شعرا ومحمّد أكثرهما شعرا.
    وقال الخطيب في تاريخ بغداد : كان الصولي من أشعر الكتّاب وأرقّهم لسانا وأسبرهم قولا ، وله ديوان شعر مشهور.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2985
    نقاط : 4638
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2   ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2 Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 11:09 pm

    قال ابن خلّكان : كلّه نخب وهو صغير ، وهو أنعت الناس للزمان وأهله غير مدافع.
    تشيّعه :
    عدّه ابن شهرآشوب في معالم العلماء من شعراء الشيعة ومادحي أهل البيت عليهم‌السلام.
    وذكره صاحب نسمة السحر فيمن تشيّع وشعر.
    وكان كاتبا في أيّام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكّل ، وكان شيعيّا يستعمل التقيّة في أيّام المتوكّل ، ويعدّ من شعراء أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، وله فيه مدائح أشهرها حين عهد له المأمون بالخلافة ، وله قصيدة رثى بها أبا عبد الله الحسين عليه‌السلام وأنشدها بين يدي الرضا عليه‌السلام ، ولم يذكر الاصبهاني إلّا مطلعها ، وهو :
    أزالت عزاء القلب بعد التجلّد
    مصارع أبناء النبيّ محمّد

    فأجازه عنه الرضا عليه‌السلام بعشرة آلاف درهم ممّا ضرب باسمه.
    وفي الأغاني أنّ الصولي دخل على الرضا عليه‌السلام لمّا عقد له المأمون وولّاه على العهد فأنشده : «أزالت عزاء القلب الخ» فهوهب له عشرة آلاف درهم من الدراهم التي ضربت باسمه فلم تزل عند إبراهيم ، وجعل منها مهور نسائه وخلّف بعضها لكفنه وجهازه إلى قبره.
    وقال الصدوق رحمه‌الله في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : كان لإبراهيم الصولي مدائح كثيرة في الرضا عليه‌السلام أظهرها ثمّ اضطرّ إلى سترها وتتبعها وأخذها من كلّ مكان.
    وقال : إنّ إبراهيم بن عبّاس ودعبل لمّا وصلا إلى الرضا وقد بويع له بولاية العهد ، أنشده دعبل :
    مدارس آيات خلت من تلاوة
    ومنزل وحي مقفر العرصات



    وأنشده إبراهيم بن العبّاس :
    أزالت عزاء القلب بعد التجلّد
    مصارع أولاد النبيّ محمّد

    فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه ؛ فأمّا دعبل فسار بالعشرة آلاف حصّته إلى قم فباع كلّ درهم بعشرة دراهم. وأمّا إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرّق بعضها على أهله إلى أن توفّي رحمه‌الله فكان كفنه وجهازه منها.
    وقال الحسين بن إبراهيم الباقطاني : كان الصولي صديقا لإسحاق بن إبراهيم أخي زيدان الكاتب المعروف بالزمن ، فنسخ له شعره في الرضا عليه‌السلام وكانت النسخة عنده إلى أن ولي الصولي ديوان الضياع للمتوكّل وكان قد تباعد ما بينه وبين أخي زيدان ، فعزله عن ضياع كانت في يده وطالبه بمال وشدّد عليه فدعا إسحاق بعض من يثق به وقال : امض إلى إبراهيم فأعلمه أنّ شعره في الرضا عليه‌السلام عندي بخطّه وغير خطّه ولئن لم يزل المطالبة عنّي لأوصلته إلى المتوكّل ، فصار إبراهيم برسالته فضاقت به الدنيا حتّى أسقط المطالبة وأخذ جميع ما عنده من شعره فأحرقه.
    وكان لإبراهيم ابنان : الحسن والحسين ، ويكنيان بأبي محمّد وأبي عبد الله ، فلمّا ولي المتوكّل سمّى الأكبر إسحاق وكنّاه بأبي محمّد ، والآخر عبّاسا وكنّاه بأبي الفضل فزعا ، وله أخبار كثيرة في توقّيه ليس هذا موضع ذكرها.
    قال الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : حدّثنا أحمد بن إسماعيل بن الخصيب قال : لمّا ولي الرضا عليه‌السلام العهد خرج إليه إبراهيم بن العبّاس ودعبل وأخوه رزين وكانوا لا يفترقون ، فقطعت عليهم الطريق فالتجأوا إلى أن يركبوا إلى بعض المنازل حميرا كانت تحمل الشوك ، فقال إبراهيم :
    أعيضت بعد حمل الشو
    ك أحمالا من الحرف

    نشاوي لا من الخمر
    ة بل من شدّة الضعف



    ثمّ قال لرزين : أجز ، فقال :
    فلو كنتم على ذاكم
    تصيرون إلى القصف

    تساوت حالكم فيه
    ولم تبقوا على الخسف

    ثمّ قال لدعبل : أجز ، فقال :
    إذا فات الذي فاتا
    فكونوا من بني الظرف

    وخفّوا نقصف اليوم
    فإنّي بائع خفّي

    ومن قصيدته في الرضا عليه‌السلام :
    كفى بفعال امرئ عالم
    على أهله عادلا شاهدا

    أرى مالهم طارفا مونقا
    ولا يشبه الطارف التالدا

    يمنّ عليكم بأموالكم
    وتعطون من مائة واحدا

    فلا حمد الله مستبصر
    يكون لأعدائكم حامدا

    فضّلت قسيمك في قعدد
    كما فضّل الولد الوالدا

    قال الصولي : فنظرت في قوله : «فضّلت قسيمك» فوجدت الرضا عليه‌السلام والمأمون متساويين في تعدّد النسب وهاشم التاسع من آبائهما.
    ولإبراهيم أقاصيص مع المتوكّل وأمرائه وكتّابه سنشير إليها في محلّه.
    قال البحتري حين يذاكر جماعة من شعراء الشام بمعان من الشعر فمرّ عليها قلّه نوم العاشق وما قيل في ذلك ، فأنشدوا إنشادات ، فقال لهم : فرغ من هذا كاتب العراق إبراهيم بن العبّاس ، فقال :
    أحسب النوم حكاكا
    إذ رأى منك جفاكا

    منّي الصبر ومنك ال
    هجر فأبلغ بي مداكا

    كذبت همّة عين
    طمعت في أن تراكا

    أوما حظّ لعين
    أن ترى ما قد رآكا




    ليت حظّي منك أن
    تعلم ما بي من هواكا

    قيل له : إنّ فلانا يحبّ أن يكون لك وليّا ، فقال : أنا والله أحبّ أن يكون الناس جميعا إخواني ولكنّي لا آخذ منهم إلّا من أطيق قضاء حقّه وإلّا استحالوا أعداءا ، وما مثلهم إلّا كمثل النار قليلها مقنع وكثيرها محرق.
    وكتب إبراهيم بن العبّاس كتاب فتح عجيبا أثنى على الله وحمده ثمّ قال : وقسّم الله الفاسق أقساما ثلاثة : روحا معجّلة إلى نار الله ، وجثّة منصوبة بفناء معقلة ، وهامة منقولة إلى دار خلافته.
    ومن كلامه : ووجد أعداء الله زخرف باطلهم وتمويه كلبهم سرايا بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا ، وكوميض برق عرض فأسرع ولمع فأطمع حتّى انحسرت مغاربه ، وتشعّبت مولّية مذاهبه ، وأيقن راجيه وطالبه أن لا ملاذ ولا وزر ، ولا مورد ولا صدر ، ولا من الحرب مفرّ ، هنالك ظهرت عواقب الحقّ منجية ، وخواتم الباطل مردية ، سنّة الله فيما أزاله وأداله ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا ، ولا عن قضائه تحويلا.
    ومن شعره :
    حتّى متى أنا في حزن وفي غصص
    إذا تجدّد حزن هوّن الماضي

    وقد غضبت فما باليتم غضبي
    حتّى رجعت بقلب ساخط راضي

    وله :
    دنت بأناس عن تناء زيارة
    وشط بليلي عن دنوّ مزارها

    وإنّ مقيمات بمنعرج اللوا
    لا قرب من ليلى وهاتيك دارها

    ومنه :
    ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة
    إليّ فهلّا نفس ليلى شفيعها

    أأكرم من ليلى عليّ فتبتغي
    به ألجاه أم كنت امرءا لا أطيعها



    وله :
    يا من حنيني إليه
    ومن فؤادي لديه

    من غاب غيرك منهم
    فآذنه في يديه

    وله :
    خلّ النفاق لأهله
    وعليك فالتمس الطريقا

    وارغب بنفسك أن ترى
    إلّا عدوّا أو صديقا

    وله :
    سحور محاجر الحدقة
    مليح والذي خلقه

    سواء في رعايته
    مجانبه ومن عشقه

    يعني في محياته
    رياض محاسن أنقه

    فيا قمرا أضاء لنا
    بلئالئ نوره أفقه

    وله :
    وعلّمتني كيف الهوى وجهلته
    وعلّمكم صبري على ظلمكم ظلمي

    وأعلم مالي عندكم فيردّني
    هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي

    وله في قصر الليل :
    وليلة من الليالي الزهر
    قابلت فيها بدرها ببدر

    لم تك غير شفق وفجر
    حتّى تولّت وهي بكر الدهر

    أقول : يعلم من هذا البيت إنّه كان للمتوكّل قصر في سامرّاء سمّاه قصر الليل فاتنا ذكره في الجزء الأوّل في عداد القصور.
    وله :
    ابتدأ بالتجنّي
    وقضاؤه بالتظنّي

    واشتفاء بتجني
    ك لأعدائك منّي




    بأبي قل لي كي
    أعلم لم أعرضت عنّي

    قد تمنّى ذاك أعدائي
    فقد نالوا التمنّي

    وله أيضا :
    إذا المرء أثرى ثمّ ضنّ برفده
    فدعه صريع اللوم تحت القوائم

    وبعض انتقام المرء يزري بعرضه
    وإن لم يقع إلّا بأهل الجرائم

    وما كلّ أهل الوزر يجزى بوزره
    ألا إنّما تجزي فروض المكارم

    وذكر ذنوب الوغد يرفع قدره
    وإن عبثت أطرافه بالمظالم

    وله :
    لا خير في صحبة خوّان
    يأتي من الغدر بألوان

    ولعنة الله على صاحب
    له لسانان ووجهان

    وله :
    لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
    إلّا التي كان قبل الموت يبنيها

    فإن بناها بخير فاز ساكنها
    وإن بناها بشرّ خاب بانيها

    ثمّ اعلم أنّ الصولي قد يطلق على أبي بكر محمّد بن يحيى بن عبد الله بن عبّاس بن محمّد بن صول تكين الكاتب المعروف وهو المعروف بالصولي الشطرنجي ، كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير ، ذكره القمّي رحمه‌الله في الكنى والألقاب ، روى عن أبي داود السجستاني وثعلب والمبرّد وأبي العيناء ، وروى عنه الدارقطني والمرزباني. والصولي المطلق ينصرف إلى هذا ، وإبراهيم بن العبّاس عمّ والد أبي بكر المذكور.
    وكان لأبي بكر الصولي تصانيف منها : كتاب الوزراء ، وأخبار ابن هرمة ، وأخبار السيّد الحميري ، وأخبار جماعة من الشعراء ، وأدب الكتّاب.
    وكان ينادم الخلفاء ، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج ، لم يكن في عصره مثله في معرفته حتّى يضرب به المثل في ذلك.

    قال الخطيب البغدادي في حقّه : كان واسع الرواية ، حسن الحفظ للآداب ، حاذقا بتصنيف الكتب ، ووضع الأشياء منها ، ونادم عدّة الخلفاء وصنّف أخبارهم وسيرهم ، وجمع أشعارهم ، ودوّن أخبار من تقدّم من الشعراء والوزراء والكتّاب والرؤساء ، وكان حسن الاعتقاد ، جميل الطريقة ، مقبول القول. وقال : وله شعر كثير في المدح والغزل ، وذكر من شعره قوله :
    جبت من أجله من كان يشبهه
    وكلّ شيء من المعشوق معشوق

    حتّى حكيت بجسمي ما بمقلته
    كأنّ سقي من جفنيه مسروق

    وحكي عن الصولي أنّه قال : إنّ رجلا من الكتّاب ادّعى هذين البيتين فعاتبته ، فقال : هبهما لي ، فقلت له : أخاف أن تمتحن بقولك مثلهما فلا تحسن ، فقال : قلت أنت ، فعملت بحضرته :
    إذا شكوت هواه قال ما صدقا
    وشاهد الدمع في خدّي قد نطقا

    ونار قلبي في الأحشاء ملهبة
    لو لا تشاغلها بالجسم لاحترقا

    يا رافد العين لا تدري بما لقيت
    عين تكابد فيك الدمع والأرقا

    يكاد شخصي يخفي من ضنى جسدي
    كأنّ سقمي من عينيك قد سرقا

    فحلف أن لا يدّعي البيتين أبدا.
    ثمّ روى الخطيب عن محمّد بن العبّاس الخزّاز قال : حضرت الصولي وقد روى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من صام رمضان وأتبعه ستّا من شوّال» فقال : فأتبعه شيئا من شوّال ، فقلت : أيّها الشيخ ، اجعل النقطتين تحت الياء فوقها فلم يعلم ما قصدت ، فقلت : إنّما هو ستّا من شوّال ، فرواه على الصواب.
    وقال الأزهري : سمعت أبا بكر بن شاذان يقول : رأيت للصولي بيتا عظيما مملوء بالكتب وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان ، كلّ صفّ من الكتب لون ؛ فصفّ أحمر وصفّ آخر أخضر وآخر أصفر وغير ذلك ، وكان يقول : هذه الكتب كلّها

    سماعي ، ثمّ روى أنّه أشند أبو سعيد العقلي لنفسه في الصولي :
    إنّما الصوليّ شيخ
    أعلم الناس خزانه

    فإذا تسأله مشكلة
    طالبا منه أبانه

    قال يا غلمان هاتوا
    رزمة العلم فلانه

    مات بالبصرة سنة 335 أو ستّ وثلاثين وثلاثمائة.
    واضع الشطرنج :
    قال في الروضات في ترجمة الصولي الشطرنجي : إنّ أوّل من وضع الشطرنج هو صصته ـ على وزن قصّة ـ ابن داهر الهندي ، وضعه واسم الملك الذي وضعه له هو شهرام ـ بكسر الشين ـ كما أنّ أردشير بن بابك أوّل ملوك الساسانيّة وضع النرد ، ولذا قيل له النردشير ، وجعله مثالا لدار الدنيا وأهلها ، فرتّب ارقعة اثني عشر بيتا بعدد شهور السنة وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيّام كلّ شهر ، وجعل الفصوص مثل القدر ونقلته بأهل الدنيا ، فافتخرت الفرس بوضع النرد فوضع صصة المذكور لملك الهند شهرام الشطرنج فقضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد لأمور يطول شرحها.
    فلمّا عرضه على الملك شهران أعجبه وفرح به كثيرا فقال لصصة : اقترح عليّ ما تشتهي ، فقال : اقترحت أن تضع حبّة قمح في البيت الأوّل ولا تزال تضعفها حتّى تنتهي إلى آخرها ، فمهما بلغت تعطيني ، فاستصغر الملك ذلك وأنكر عليه لكونه قابله بالنزر اليسير وقد كان أضمر له شيئا كثيرا ، فقال : ما أريد إلّا هذا ، فراوده فيه وهو مصرّ عليه ، فأجابه إلى مطلوبه وتقدّم له به ، فلمّا قيل لأرباب الديوان حسبوه فقالوا : ما عندنا قمح يفي بهذا ولا بما يقاربه ، فلمّا قيل للملك استنكر هذه

    المقالة وأحضر أرباب الديوان وسألهم ، فقالوا : لو جمع كلّ قمح في الدنيا ما بلغ هذا المقدار ، فطالبهم بإقامة البرهان على ذلك فقعدوا وحسبوه ، فظهر لهم صدق ذلك ، فقال الملك لصصة : أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالا من وضعك الشطرنج.
    أقول : وسائر من توفّي في سامرّاء القديمة من العلماء والأدباء وغيرهما سيأتي ذكرهم في الأجزاء الآتية إن شاء الله.

    المدفونون حول الحضرة المقدّسة من العلماء
    وهم الذين كانت وفاتهم في القرن الرابع عشر ، وأمّا الذين دفنوا حول الحضرة المقدّسة قديما نحو الحسين بن عليّ الهادي عليهما‌السلام وأخوه جعفر وأبو هاشم الجعفري والسيّدة الجليلة حكيمة بنت الجواد والجهة العليا نرجس أمّ القائم عجّل الله فرجه وعدّة من أمراء الدنابلة فقد تقدّم ذكرهم في الجزء الأوّل من الكتاب ؛ فارجع إليه.
    الأوّل منهم : العلّامة الفقيه الآقا رضا الهمداني قدس‌سره
    رأيت ترجمته على ظهر كتاب مصباح الفقيه بهذه الصورة : هو الشيخ الفقيه النبيه العالم العليم والبحر الخضم ، قدوة الأعلام وحسنة الأيّام ، آية الله في العالمين ، والثقة الأمين على الدنيا والدين ، ذو الفكرة السليمة والطريقة المستقيمة ، إمام عصره وغرّة جبين دهره ، التقيّ النقيّ الورع الزاهد الأبي شيخنا ومولانا ومقتدانا العالم الربّاني الحاج آقا رضا الهمداني ، نجل الشيخ العالم الفقيه المولى آقا هادي طيّب الله تربته.
    مولده وموطنه :
    ولد قدّس الله سرّه في همدان ويوشك أن تكون ولادته سنة 1250 أو بعده بنيّف من السنين ، وذلك بمقتضى ما ذكره بعض أهل العم من أنّه قد انتقل إلى دار

    الرضوان ولم يبلغ السبعين من العمر ، وقد هاجر من همذان إلى النجف الأشرف ، وكان من ذوي الفضل والتحصيل ، فحضر على شيخ العلماء المتأخّرين العلّامة الشيخ المرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه وعلى غيره ممّن عاصره وحضر بعده على الأستاذ الاعظم السيّد العلّامة الحسن الشيرازي في النجف الأشرف وهاجر إليه لمّا انتقل إلى سامرّاء فحضر عنده مدّة من الزمان وكان من أفاضل تلامذته وقد استقلّ في زمانه بالتدريس والتصنيف واجتمع حوله من التلامذة المبرّزين والعلماء البارعين الكثير ، وكان جلّهم من فضلاء العرب كسيّدنا الشريف المجاهد ، شهير العراق ونابغة عصره السيّد محمّد سعيد الحبّوبي والعلّامة الشيخ مشكور الحولاوي والعلّامة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء وابن عمّه العلّامة الشيخ مرتضى ، والعلّامة الزاهد التقي الحاج الشيخ علي القمّي النجفي وغيرهم من الجهابذة الأعلام ، وكان بحثه لا يشتمل إلّا على أمثالهم من أهل العلم والتحصيل الذين أصبحوا بعده وفي زمانه من أكابر الفقهاء الإماميّة ومراجعها وجملة منهم من أعاظم عصرنا دامت بركاتهم.
    زهده وعلمه وأخلاقه :
    هو بغير شكّ في هذه الخلال الثلاث عذيقها المرجّب وجذيلها المحكّك ، لا يلحق شأوه ولا يشق غباره ، أستاذ ماهر ، وجهبذ باهر ، حسن السمت ، كثير الصمت ، مع زهد وورع وتقوى وصلاح.
    حكى بعض أكابر الفقهاء الأتقياء قال : إنّي عاشرته زمنا طويلا ما رأيت منه زلّة ولا هفوة ، وما سمعته يوما يتكلّم في أمر من أمور الدنيا حتّى العاديات من القصص والحكايات والتواريخ والنوادر ، ولا يتكلّم إلّا بما يعنيه ، وكان دائم الاشتغال بالتدريس أو التصنيف ، مواظبا على التدريس والتأليف.

    كيفيّة تعيّشه :
    إنّ من الغريب المدهش أن يستطيع مثله أن يبلغ هذا المبلغ وينال ما ناله من علوّ الدرجة في العلوم والمعارف وهو في تلك الحاجة والفاقة ، وربّما تمرّ عليه جملة أيّام وهو صابر مرتاض يحتسب في جنب الله كلّ عناء راجيا منه تعالى أن يناله رضوانه الأكبر ، فهو يعاني مشقّتين ويكافح عنائين ، وهذا مفخر ماجد ، وشرف عال صاعد يمتاز به نوع المشتغلين في العلوم الدينيّة من الفرق الإماميّة فإنّهم يعيشون بلا رواتب تكفل معيشتهم ولا مخصّصات تقوم بواجباتهم ، وقد أستمرّت هذه الأحوال الصعبة على شيخنا وأستاذ أساتيدنا المترجم رضوان الله عليه حتّى أواخر أيّامه ، وقد استحكمت في أعماق نفسه المقدّسة ملكات التقوى والورع والعفاف وغرائز الزهد والخشية والإباء ، ولمّا ألقت إليه الأمور بأزمّتها وانقادت بنواصيها أبى مشبهاتها ، واحتاط من مشكلاتها ، وقنع بما آتاه الله من فضله ، والله ذو فضل عظيم.
    مرجعيّته في التقليد :
    نبغ رحمه‌الله في زمانه جملة من فطاحل علماء الإماميّة ، وكان من بينهم قدوة الصالحين ومتبوع المتبصّرين ، وكان يحرج من الفتيا ويتجافى عن التقليد ، ومع ذلك فقد قلّده كثير من الخواصّ العارفين معتقدين أعلميّته إلّا أنّه لم تطل أيّامه حتّى فاز إلى رحمة الله تعالى.
    حلف الزمان ليأتينّ بمثله
    حنثت يمينك يا زمان فكفّر

    مؤلّفاته برز منه شرح الشرايع الذي سمّاه مصباح الفقيه اسما طابق المسمّى ، وقد تمّ منه كتاب الصلاة طبع في النجف الأشرف سنة 1347.

    وكتاب الطهارة طبع في بلدة طهران من ايران.
    وكتاب الصوم.
    وكتاب الخمس ، وبرز منه أكثر.
    كتاب الزكاة.
    وكتاب الرهن وهو كتاب جليل مشحون بالتحقيقات والتدقيقات التي لم يسبقه إليها سابق ، ولم يزل ممّا يتنافس في اقتنائه واستنساخه المتنافسون ، ولا يستغني عنه المدرّسون المحقّقون.
    وله حاشية على رسائل الشيخ العلّامة الأنصاري قد طبعت في ايران سنة 1318.
    وله كتاب البيع من تقريرات سيّدنا العلّامة الشيرازي.
    وحاشية على الرياض غير تامّة.
    ورسالة مستقلّة في اللباس المشكوك فيه.
    وله تقريرات ما حضره على الأستاذ السيّد الشيرازي.
    وله أجوبة مسائل مختلفة لم تخرج إلى البياض.
    وله رسالة عمليّة مسمّاة بوجيزة الأحكام.
    وحواشي على نجاة العباد.
    مرضه ووفاته :
    ابتلي رحمه‌الله في آخر أيّام حياته بمرض السل ولم يجده العلاج فذهب إلى سامرّاء لتجديد العهد بزيارة الأئمّة الأمناء صلوات الله عليهم أجمعين ، وبقي في سامرّاء عدّة أشهر ، وهناك جرى عليه محتوم قضاء الله تعالى وذلك في صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر صفر سنة 1322 ودفن في الرواق المطهّر بسامرّاء في الجهة

    الشرقيّة في الصفّة المحاذية للباب الشرقي للصحن الشريف تجاه قبر الطاهرة حكيمة خاتون في الصفة الأخير التي لها شبّاك على زاوية الصحن الشريف العسكري عليه‌السلام.
    وقد تصدّى لترجمته قدّس الله نفسه جماعة من أكابر المتأخّرين كالعلّامة الفقيه الأوحد السيّد حسن الصدر في كتاب تكملة أمل الآمل ، والشيخ العلّامة الأوحد الشيخ علي آل كاشف الغطاء في الحصون المنيعة ، والفاضل الكامل النحرير الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتاب الذريعة في تصانيف الشيعة ، والشيخ عبد العزيز الجواهري في آثار الشيعة.
    أقول : وذكرت ترجمته في كتاب مآثر الآثار ، وترجمه شيخنا الأستاذ الشيخ آقا بزرك في كتاب نقباء البشر في القرن الرابع عشر ، وعدّه من أعلم علماء عصره وأفقه فقهاء زمانه وأشهر المحقّقين من بين أقرانه وأعرفهم بدقائق الأحكام ومبانيه المخالف لهواه في جميع أفعاله وأقواله.
    وقال دام وجوده : خرج من مجلس بحثه عدّة من الأعلام ثمّ عدّ منهم صهره الشيخ علي الهمداني ، والشيخ علي من آل الجواهر والعلّامة السيّد محسن العاملي صاحب أعيان الشيعة ، والشيخ عبد الحسين ابن الشيخ محمّد تقي آل الشيخ أسد الله ، والعلّامة الشيخ جعفر آل الشيخ راضي ، والعلّامة الشيخ أبو القاسم القمّي ابن المولى محمّد تقي ، والعلّامة الشيخ محمّد تقي الطهراني ، والعلّامة الشيخ محمّد حسن كبّه ، وسيّدنا أبا محمّد السيّد حسن الصدر وغيرهم ، وكان قدس‌سره يكتب كلّ ليلة مقدارا من كتابه مصباح الفقيه ثمّ يمليه على تلاميذه الفضلاء في مجلس البحث فإذا انتقدوه وإلّا يبقيه على حاله ، فأخذ بذلك أهمّيّة تامّة مطبوعا عند الفقهاء يتنافسون في اقتنائه.
    وذكره العلّامة السماوي في وشايح السرّاء حين تعداده المدفونين بسامرّاء بقوله :


    وكالرضا المحقّق ابن الهادي
    الهمداني الفقيه البادي

    رافع مصباح الفقيه المائل
    وذي التعاليق على الرسائل

    فإنّه جاورها بعد النجف
    ونال أرّخوه (أبهج الغرف) (1)

    عقبه :
    خلّف سبع بنات ، وولده العلّامة الشيخ محمّد ، واليوم سبطه الشيخ محمّد تقي في همدان يقوم بالوظائف الشرعيّة ، وفيه من العلم والعمل والأخلاق بقيّة من جدّه الأجل قدّس الله نفسه ، ومن جلائل فضائل صاحب العنوان تجافيه عن الرياسة مع أنّه كان لها أهلا ومحلّا ، وكلّما أرادوا منه قبولها كان يتحرّج عنها ، حدّثني العلّامة الحجّة الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء حكايات عنه تجري مجرى الكرامات.
    الثاني منهم : العلّامة المهذّب البارع الشيخ محمّد إبراهيم النوري الكبير ،
    المتوفّى في حدود سنة 1322 ، المدفون في رواق العسكريّين عليهما‌السلام ، ذكره في نقباء البشر وقال : كان عالما فقيها مجتهدا ، في غاية الورع والتقوى ، ومن أجلّة تلاميذ آية الله المجدّد الشيرازي ، وبعد وفات شيخه لازم جوار العسكريّين عليهما‌السلام مشتغلا بالتدريس إلى أن دعاه الله إلى مستقرّ رحمته فلبّاه ، وكان يعرف بالكبير تمييزا له من سميّه الشيخ إبراهيم النوري الصغير الذي كان هو أيضا من تلاميذ الميرزا الكبير قدس‌سره.
    الثالث منهم : العلّامة الورع التقي الشيخ حسين البهبهاني الحائري ،
    المتوفّى في سامرّاء في الخامس عشر من المحرّم سنة 1310.
    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1322.

    الرابع منهم : العالم الفاضل الربّاني الشيخ محمّد حسين الزرقاني الشيرازي ،
    تشرّف إلى العتبات المقدّسة مع العلّامة الميرزا أبي القاسم النوري قبل انقضاء القرن الثالث عشر ثمّ هاجر إلى سامرّاء مستفيدا من بحث سيّدنا الميرزا الكبير والعلّامة المحقّق السيّد محمّد الاصفهاني.
    وكان المترجم شديدا في دين الله ، لا تأخذه فيه لومة لائم ، وكان حبّه في الله وبغضه في الله ، وهو نهاية الفضل والشرف والنبالة ، فلم يزل كذلك إلى أوائل سنة 1300 ففي بعض الأيّام افتقده أصحابه ، فلمّا أخذوا بالبحث والتفتيش وجدوه ميّتا في بئر الحسينيّة ودفن المترجم الشيخ حسين في زاوية الصحن الشريف قرب شبّاك السرداب المطهّر.
    الخامس منهم :
    السيّد العلّامة الورع التقي الزكي حسين بن محمّد رضا بن عليّ بن محمّد الحسيني الاصبهاني النجفي ، وإليه أشار العلّامة السماوي في وشايح السرّاء بقوله :
    وكالحسين بن محمّد الرضا
    ابن عليّ الحسنيّ مضا

    من أهل اصبهان سكّان النجف
    ومن ذوي العلوم فيها والزلف

    جاهد في الولا وزار واعتصم
    فأرّخوا (في العمل الجهد ختم)

    (1) وذكره شيخنا في نقباء البشر وقال : ولد في النجف في الحادي عشر من ذي الحجّة سنة 1287 واشتغل من صغره بتحصيل العلم حتّى كمل وبرع فمزج العلم بالعمل وتنزّه عن الهوى والزلل فحصلت له الكمالات النفسانيّة إلى أن صارت
    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1344.

    ذات نفس قدسيّة فبلغ مرتبة اليقين ، وكان من العلماء الربّانيّين.
    قال : وحدّثني أنّه رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام بالطيف وسأل منه عن حال نفسه ومكان دفنه ، فبشّره بالخير ، وقال له : إنّك تدفن عند ولدي الغريبين بسرّ من رأى ، وكان كما أخبره به ، فمرض في النجف مدّة فتشرّف إلى سامرّاء لتغيير الهواء فاشتدّ مرضه وكنت أمرّضه فلمّا حضره الموت أمرني بتوجيهه إلى القبلة وتبديل رجليه ويديه ، فلمّا اطمئأنّ من تعديل استقباله أمرني بقرائة يس والصافّات فقرأتهما ثمّ شرعت في دعاء العديلة ففاضت روحه إلى رضوان الله ، ودفن بوصيّة منه في الصحن الشريف ممّا يلي رجلي الإمامين تحت الميزاب الجاري من سطح الروضة البهيّة ، وكانت وفاته يوم الخميس الثاني من شهر جمادى الأولى سنة 1344.
    أقول : تشرّفت بخدمته كرارا ورأيته كما وصفه ، وكنت حاضرا حين احتضاره في دار شيخنا صاحب الذريعة فرأيته مبتسما ، وكانت نيابة تولية مدرسة الصدر في النجف بيده.
    السادس منهم :
    الفاضل الآقا رضا الحائري المعروف ب «كتابفروش» ، كان من الفضلاء الأعلام ، تشرّف إلى سامرّاء سنين مستفيدا من بحث سيّدنا الميرزا الكبير إلى أن توفّي في سامرّاء في سنة نيّف وثلاثمائة بعد الألف ودفن في زاوية الصحن الشريف قرب الشبّاك الذي كان للسرداب المقدّس ، وابنه السيّد عبد المجيد توفّي في كربلاء وهو صاحب كتاب «ذخيرة الدارين في ترجمة أصحاب الحسين» طبع في النجف ، فيه من الأغلاط والاشتباهات شيء كثير.

    السابع منهم :
    العالم الفاضل السيّد محمّد مهدي بن السيّد محمّد شفيع بن محمّد تقي الموسوي الكازروني ، المدفون في الرواق ، وأبوه السيّد محمّد شفيع كان من أعاظم تلاميذ سيّدنا الميرزا الكبير ، توفّي بسامرّاء سنة 1329. ذكره صاحب الذريعة في كتابه نقباء البشر.
    الثامن منهم :
    السيّد محمّد شريف بن السيّد محمّد طاهر الحسيني التويسركاني العالم العيلم والبحر الخضم ، درّة أكليل الفقهاء ، وغرّة جبهة العلماء ، أفضل المحقّقين ، وأشرف المدقّقين ، السيّد محمّد شريف بن السيّد محمّد طاهر الحسيني التويسركاني ، المتوفّى يوم عرفة سنة 1322 ، والمدفون عند رجلي الإمامين العسكريّين عليهما‌السلام في الرواق ، وكان عمره في حدود ثمانين سنة.
    قال شيخنا في نقباء البشر : رأيت إجازات مشايخه له بخطوطهم ، منها إجازة العلّامة المحقّق المولى علي الخليلي ، والعلّامة الفقيه السيّد علي آل بحر العلوم صاحب البرهان ، كتبها له على ظهر برهانه الذي أهداه إليه ، والعلّامة الحجّة الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، والفقيه الأعلم الشيخ زين العابدين المازندراني ، والعلّامة الحجّة السيّد حسين الكوهكمري ، مصرّحين في إجازاتهم له ببلوغه رتبة الاجتهاد.
    مؤلّفاته :
    كتاب الطهارة ، كتاب الصلاة ، كتاب الصوم ، كتاب الزكاة ، كتاب الحجّ ، كتاب المتاجر ، كتاب النكاح والرضاع ، كتاب الميراث ، وكلّ واحد من هذه المجلّدات الثمانية كبير ، وله أيضا حاشية على تمام الرسائل ، ورسالة فيما يضمن بصحيحه

    يضمن بفاسده ، وله رسائل أخرى كلّها غير مطبوعة ، وذكره العلّامة الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء بقوله :
    وكالشريف السيّد ابن الطاهر
    ذي المجد والفضل المبين الظاهر

    أعني الحسينيّ أخا الإحسان
    والمنتمي سكنا بتوسركاني

    آثر جنّات على تريف
    فأرّخوه (آثر الشريف)

    التاسع منهم :
    الشيخ محمود الطهراني ، توفّي بسامرّاء سنة 1304 ، وكان هناك سنين مستفيدا من بحث آية الله السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره ، وكتب في الفقه والأصول أشياء كثيرة ، منها كتاب الحجّ الاستدلالي المبسوط الكبير ، ذكره شيخنا في نقباء البشر.
    العاشر :
    الفاضل الكامل الجليل الشيخ عبد الحميد اللاري.
    قال شيخنا في نقباء البشر : كان في سنين كثيرة مستفيدا من بحث آية الله السيّد الشيرازي إلى أن توفّي هناك في حياته ، وخلّف ولديه الجليلين الشيخ فاضل والشيخ محمّد كاظم ، ذكره الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء أيضا.
    الحادي عشر :
    الميرزا مهدي بن المولى عبد الكريم الشيرازي.
    قال شيخنا في نقباء البشر : توفّي في سامرّاء سنة 1308 ودفن في الرواق بين بابي الحرم في المحلّ الذي يقف الزائر للاستيذان من جهة القبلة ، وكان من أجلّاء

    العلماء ، جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، يعدّ من الطراز الأوّل ، ومن خواصّ تلاميذ آية الله سيّدنا الشيرازي.
    قال : وهو ابن أخت شيخنا العلّامة الميرزا محمّد تقي الشيرازي ، وصهر العالم الجليل الميرزا فضل الله الفيروزآبادي الشيرازي ، وله تصانيف رائقة ؛ فقها وأصولا ، منها تقريرات بحث أستاذه في الطهارة والصلاة والمتاجر وغيرها ، وجلّها بخطّه الشريف موجودة في خزانة كتب ولده الفاضل الميرزا محمّد حسين ، وولده الآخر الأصغر الميرزا عبّاس أيضا من الفضلاء المشتغلين بشيراز ، وقد أشار إليه الشيخ العلّامة السماوي بقوله :
    وكالفتى المهديّ في المغازي
    ابن الكريم العلم الشيرازي

    فتى قد ارتدى الكمال واتّزر
    بالعلم والتّقى وفيهما اشتهر

    أراد فضل الأمن واستزادا
    أخراه أرّخ (بلغ المرادا) (1)

    وتوفّي بعده بزمان قليل أبوه المولى عبد الكريم الشيرازي ، ودفن عند ولده المذكور في الرواق.
    الثاني عشر :
    الميرزا محسن الزنجاني ، ذكره في نقباء البشر أيضا ، قال : الشيخ العالم الفقيه الورع التقي الميرزا محسن الزنجاني القزويني الأصل ، المتوفّى بسامرّاء غريقا في الحمّام سنة 1321 ، ودفن في بعض أواوين صحن العسكريّين عليهما‌السلام ، وكان فقيها ورعا تقيّا أديبا كاملا ، يحضر بحث آية الله سيّدنا المجدّد الشيرازي ، والعلّامة السيّد محمّد الاصفهاني ، والإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي ، وقد أشار إليه العلّامة السماوي في وشايح السرّاء بقوله :
    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1308.


    وكالهمام المحسن الزنجاني
    ذي الفضل والمعروف والإحسان

    جاور في الدنيا أئمّة الهدى
    وكان في الأخرى لديهم مسعدا

    رام النعيم وهو فيه أدرى
    أرّخ (بقبره نعيم الأخرى) (1)

    الثالث عشر :
    الميرزا أسد الله الميرزا أسد الله أخ آية الله المجدّد سيّدنا الشيرازي وصهر العلّامة المهذّب البارع الشيخ محمّد صادق بن أبي الحسن بن محمّد الطهراني المتوفّى سنة 1314 ، وكانت بنت الميرزا أسد الله تزوّجت بالشيخ محمود بن الشيخ محمّد صادق المذكور ، وكان الميرزا أسد الله أفلاطون عصره ، وقد أشار إليه العلّامة السماوي بقوله :
    وكالطبيب الأسد الشيرازي
    ومن غدا بطبّه كالرازي

    أخ الشريف السيّد الحبر الحسن
    سليل محمود الحسينيّ الحسن

    جاء الإمام لائذا حتّى قضى
    فأرّخوا (فوجئ نيل الرضا) (2)

    وله من النوادر والحكايات المتعلّقة بمعالجاته العجيبة أمور تنبئ عن طول باعه وكثرة إحاطته بعلم الطبّ ، وكان مؤيّدا من عند الله في نظراته الصائبة.
    الرابع عشر :
    السيّد الفقيه العالم النبيه السيّد محمّد الفيروزآبادي اليزدي النجفي ، توفّي في سامرّاء سنة 1345 ليلة الجمعة سلخ ربيع الأوّل غير أنّ جثمانه الشريف حمل من سامرّاء إلى النجف اقتداء بآية الله المجدّد حيث أنّه توفّي في سامرّاء وحملت جنازته إلى النجف كما سمعت تفصيله ، وكان الفيروزآبادي جمّ العلم متوقّد الذكاء من
    __________________
    (1) مطابقة لسنة 1321.
    (2) مطابقة لسنة 1311.

    أعظم تلاميذ الفقيه الأجل السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب العروة الوثقى ، وممّن انتقلت إليه المرجعيّة بعد وفاة أستاذه المذكور وطبعت رسائله العمليّة وكنت ممّن يحضر بحثه في أصول الفقه إلّا أنّه لم تطل أيّامه ، وتوفّي بمرض السلّ ، وكان قدس‌سره في أيّام شهر رمضان يصعد المنبر في مسجد الهندي لإرشاد العوام وكان يقرأ نهج البلاغة عن الكتاب ويفسّره على أحسن وجه.
    الخامس عشر :
    السيّد العلّامة الأجل السيّد عزيز الله الطهراني ، كان من أجلّاء تلاميذ آية الله المجدّد الشيرازي جمّ العلم ، متوقّد الذكاء ، متعبّدا ، توفّي في سامرّاء وحملت جنازته إلى النجف.
    السادس عشر :
    العالم الجليل الفقيه النبيل الشيخ علي أكبر الترشيزي ، تشرّف بسامرّاء في أوائل سنة 1300 وكان مستفيد من بحث آية الله سيّدنا المجدّد الشيرازي وكان شريك بحثه العلّامة الشيخ إسماعيل الترشيزي فلم يزل مقيما بها إلى أن توفّي فيها ، ذكره شيخنا في نقباء البشر.
    السابع عشر :
    الشيخ محمّد حسين بن الميرزا خليل الله الشيرازي ، كان عالما فاضلا ، دخل سامرّاء في سنة 1337 وتوفّي فيها في سنة 1339 ودفن في الرواق.
    الثامن عشر :
    الإمام الهندي السيّد حسين. كان أعجوبة عصره ومجمعا للكمالات والفضائل ،

    وكان قدس‌سره قاريا شاعرا طبيبا أصوليّا فقيها. دخل سامرّاء فلزمه سيّدنا الميرزا الكبير وأمره بأن يقيم في سامرّاء ، فأقام بها واستفاد من علومه الجمّة ثلّة من أهل الفضل ، فلمّا توفّي سيّدنا الميرزا الكبير رحمه‌الله ذهب إلى بلد الكاظمين عليهما‌السلام ورجع في أيّام الإمام الشيرازي فتوفّي في سامرّاء ودفن في الرواق.
    ولعلّنا نذكر طائفة أخرى ممّن توفّي في سامرّاء في الأجزاء الآتية التي تبحث فيمن دخل في سامرّاء من العلماء والمحدّثين. ولقد أجاد العلّامة السماوي حيث قال بعد ذكر جملة ممّن توفّي في سامرّاء :
    فهذه القطرة من سحاب
    والنقطة الفذّة من عباب

    ممّن أتى من ذلك المنهاج
    ولاذ بالأعتاب والملاجي

    من الملوك ومن الجهابذه
    ولم أطق عدّ الفئات اللائذه

    لأنّهم أكثر ممّا يخطر
    على الذي يذكره من يذكر

    فهم فئات سالفات قد زكت
    وخلّفت أمثالها وتركت

    لا سيّما من قبل هذا الزمن
    ففيهم كلّ تقيّ مؤمن

    ولم يكونوا يتركون القاعة
    إذ قد كفاهم من بها شفاعة


    * * *
    تمّ الجزء الثاني من مآثر الكبراء في تاريخ سامرّاء ويليه إن شاء الله الجزء الثالث الذي يبحث في حياة الإمام أبي الحسن الثالث عليّ الهادي النقي عليه‌السلام بصورة تفصيليّة وعلى وجه أتمّ وأكمل.
    وهذا وفي الختام نحمد الله تعالى على الإتمام ونصلّي ونسلّم على نبيّنا الأعظم المنقذ محمّد المصطفى وعلى آله الهداة وأصحابه الذين اتّبعوه بإحسان رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

    فهرس المطالب
    وجه تسمية قصر المعشوق 4
    سامرّاء أحبّ البقاع عند الحجّة عليه‌السلام 5
    إخبار الإمام جعفر الصادق ببناء سامرّاء 6
    إحراق قبور الخلفاء في سامرّاء 7
    مساوي العصبيّة وتخريب مشهد الجوادين عليهما‌السلاموإحراقه 9
    الدعوة إلى الاتحاد 11
    حديث في الاتحاد 15
    صفة بناء القبّة المطهّرة 18
    ترجمة شيخ العراقين 21
    نبذة من أخبار الأمير الكبير 22
    نبذة من أخبار ناصر الدين شاه 23
    نبذة من حياة السيّد جمال الدين الأفغاني 40
    حالة سامرّاء قبل هجرة سيّدنا الإمام المجدّد إليها 50
    نبذة يسيرة من حياة سيّدنا الإمام المجدّد الشيرازي 52
    الفتنة بين أهالي سامرّاء والمجاورين 99
    حياة الإمام الشيرازي الميرزا محمّد تقي رحمه‌الله 100
    حادثة الأتراك 102

    حادثة النجف 103
    وعود البريطانيين في استقلال العراق 105
    حياة المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني 114
    تاريخ مضخّة الماء في سامرّاء 116
    تاريخ تنوير الروضة والسرداب 117
    تاريخ ترميم الصناديق وبعض الآثار التأريخية 118
    تاريخ نصب الشبّاك الفضّي والجسر 121
    سدانة الروضة البهيّة ووقوع السرقات فيها 122
    ثواب عمارة المشاهد وزيارتها 125
    قول الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : «قبري أمان» 129
    حقوق روضة العسكريّين وآداب زيارتهما 131
    شروح الزيارة الجامعة واعتبارها 136
    ظهور الكرامات في سامرّاء 140
    مآثر السلماسي 142
    منامان صادقان للشيخ زين العابدين السلماسي 145
    رؤيا طريفة للشيخ زين العابدين السلماسي 152
    صعود التربة من ضريح العسكريّين إلى السلماسي 153
    تشرف السلماسي بلقاء الحجّة عليه‌السلام 154
    تشرّف السلماسي بلقاء الحجّة في الرؤيا 154
    نبذة من حياة بحر العلوم رحمه‌الله 162
    المدفونون في سامرّاء القديمة ونواحيها من العلماء والأعيان 227
    بيع جعفر حرّة هاشميّة 277

    إخبار زين العابدين عليه‌السلام عن مآثم جعفر 277
    توقيع الحجّة عليه‌السلام إلى أحمد بن إسحاق في حقّ جعفر 278
    حبس جعفر مع الإمام أبي محمّد عليه‌السلام 281
    مقالة الخاقاني في حقّ جعفر 281
    منع الحجّة عليه‌السلام جعفرا عن الصلاة على أبيه 283
    ما ذكره المفيد رحمه‌الله في حقّ جعفر 284
    منع الحجّة عليه‌السلام عن الرجوع إلى جعفر 285
    رواية ابن قولويه في جعفر 287
    رواية الشيخ في كتاب الغيبة 287
    ما جرى بين وفد القمّيّين وبين جعفر 288
    رواية القنبري في جعفر 291
    جملة من سادات النقويّة الذين ينتهي نسبهم إلى جعفر الكذّاب 293
    ما روي في شأنه عليه‌السلام 300
    أخبار البداء 304
    أعقاب أبي جعفر السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليهما‌السلام 318
    نبذة من الكرامات التي ظهرت من مشهد أبي جعفر السيّد محمّد 321
    عمارة مشهده عليه‌السلام 328
    المدفونون حول الحضرة المقدّسة من العلماء 356
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج2
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج1
    » ماثر الكبرى في تاريخ سامراء ج1
    »  تاريخ بلاد الرافدين
    » تاريخ الفقه الجعفري
    » / تاريخ العراق القديم

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 38-منتدى كتب تاريخ سامراء والكوفه-
    انتقل الى: