وتألم المأمون كثيرا لمّا أقدم عليه أخوه الأمين ، فدعا الفضل بن سهل وأخاه الحسن بن سهل ، والخاصّة من الرؤساء والأعلام ، وشاورهم في الأمر ، فأشاروا عليه بالرفض ، ودعوة الناس إلى مبايعته بالخلافة في خراسان ، وخلع أخيه الأمين.
ثمّ جرت بعد ذلك بين الأخوين مكاتبات ، أعقبتها تهيأة الجيوش والاستعداد للحرب ، ثمّ دارت معارك ضارية بين أنصار الأخوين ، واستمرّت سنين عديدة (1).
وقيل : عند ما أرسل الأمين جيشه لمحاربة أخيه المأمون بقيادة عليّ بن عيسى بن ماهان ، قالت الست (زبيدة) لعلي بن عيسى : (إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي ، واليه تناهت شفتي ، وعليه تكامل جذري ، فإنّي على عبد الله مشفقة لمّا يحدث عليه من مكروه وأذى ، وإنّما إبني ملك نافس أخاه في سلطانه ، وغاراه على ما في يده ، والكريم يؤكل لحمه ، ويميته غيره ، فأعرف لعبد الله حق والده وأخوته ، ولا تجببه بالكلام ، فإنك لست نظيره ، ولا تقتسره اقتسار العبيد ، ولا ترهقه بقيد ، ولا غل ، ولا تمنع منه جارية ولا خادما وتعنف عليه في السير ، ولا تساوره في المسير ، ولا تركب قبله ، ولا تستقل دابتك حتّى تأخذ بركابه ، وإن شتمك ، فاحتمل منه ، وإن سفه عليك فلا تراده) (2). ثمّ أعطته قيدا من فضة وقالت له : (إن صار في يدك فقيده بهذا القيد).
وفي سنة (197) (3) للهجرة ، حوصر الأمين ببغداد من قبل قادة المأمون ، ونصبت المجانيق ، وحفرت الخنادق والمتاريس ، وأخذ (زهير بن
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 428.
(2) أحمد زكي ـ جمهرة الخطب. ج 3 / 104.
(3) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 36.
المسيب الضبي) يلقي النيران على بغداد ، بلا رحمة وهوادة ، ويقتل الناس دون تمييز ، كما وكان أصحاب الأمين ، يقتلون الرائح والغادي بالنيران والمجانيق ، وفي ذلك قال عمرو بن عبد الملك العتري الوراق (1) :
لا تقرب المنجنيق والحجرا
فقد رأيت القتيل إذ قبرا
ما ذا به من نشاط ومن
صحة جسم به إذا ابتكرا
أراد ألّا يقال كان له
أمر فلم يدر من به أمرا
يا صاحب المنجنيق ما فعلت
كفّاك ، لم تبق ولم تذرا
كان هواه سوى الّذي قدرا
هيهات ، لن يغلب الهوى القدرا
فكثر الخراب والدمار في بغداد ، وتغيرت محاسنها ، فقال العتري أيضا :
يا رماة المنجنيق
كلّكم غير شفيق
ما تبالون صديقا
كان أو غير صديق
ويلكم تدرون ما تر
مون مرّار الطريق
ربّ خود ذات دل
وهي كالغصن الوريق
أخرجت من جوف دنيا
ها ومن عيش أنيق
لم تجد من ذاك بدا
أبرزت يوم الحريق
ثمّ اشتدّ القتال ضراوة بين الطرفين ، وخرّجت الديار ، وغلت الأسعار ، وقاتل الأخ أخاه ، والابن أباه ، فقال الأعمى في ذلك (2) :
تقطعت الأرحام بين العشائر
وأسلمهم أهل التقى والبصائر
فذاك انتقام الله من خلقه بهم
لم اجترموه من ركوب الكبائر
فلا نحن أظهرنا من الذنب توبة
ولا نحن أصلحنا فساد السرائر
إلى آخر القصيدة.
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 445.
(2) المسعودي ـ مروج الذهب. ج 3 / 401.
وقيل : كان عند الأمين خادما أسمه (كوثر) يحبّه كثيرا ، فخرج كوثر هذا أثناء حصار الأمين ليرى المعارك ، فأصابته رجمة في وجهه ، فأخذ يبكي ، من شدّة الألم ، فأخذ الأمين يمسح الدم عن وجهه وقال (1) :
ضربوا قرة عيني
ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي
من أناس أحرقوه
وعجز الأمين عن إتمام شعره ، لكثرة حزنه وألمه على خادمه (كوثر) فطلب من عبد الله بن أيّوب التيمي الشاعر ، أن يكمل فقال (2) :
ما لمن أهوى شبيه
فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن
هجره مر كريه
من رأى الناس له الفض
ل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا
ئم بالملك أخوه
ثمّ اشتدّ الحصار على الأمين ، وقتل أكثر أصحابه ، وانهزم بالباقون ، فقرّر الهروب ، وعند هروبه إلى معسكر هرثمة بن أعين ليلا ، ألقي القبض عليه ، فقتلوه ، وذبحوه كما تذبح الشاة ، وبعثوا برأسه إلى أخيه المأمون في خراسان ، وذلك سنة (198) (3) للهجرة.
وقال طاهر بن الحسين حين قتل الأمين (4) :
ملكت الناس قسرا واقتدارا
وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مرو (5)
إلى المأمون تبدر ابتدارا
__________________
(1) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 160.
(2) المصدر السابق. ج 2 / 161.
(3) تاريخ الطبري. ج 2 / 488.
(4) المصدر السابق. ج 2 / 499. المصدر السابق المصدر السابق المصدر السابق المصدر السابق
(5) مرو : عاصمة خراسان.
وقال الحسين بن الضحاك يرثي الأمين ويهجو المأمون (1) :
أطل حزنا وابك الإمام محمّدا
بحزن وإن خفت الحسام المهندا
فلا تمّت الأشياء بعد محمّد
ولا زال شمل الملك منها مبددا
ولا فرح المأمون بالملك بعده
ولا زال في الدنيا طريدا مشردا
وقالت لبانة ابنة عليّ بن المهدي (2) :
أبكيك لا للنعيم والأنس
بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على سيّد فجعت به
أرملني قبل ليلة العرس
وقال خزيمة بن الحسن على لسان الستّ (زبيدة) أمّ الأمين يرثيه (3) :
أتى طاهر لا طهّر الله طاهرا
فما طاهر فيما أتى بمطهّر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا
وأنهب أموالي وأضرب أدؤري
يعز على هارون ما قد لقيته
وما مرّ بي من ناقص الخلق أعور
وقيل : عند ما قتل الأمين جرت جثته بحبل ، وسحل في الشوارع ، فلّما رآه إبراهيم بن المهدي بكى طويلا وقال (4) :
عوجا بمغنى طلل دائرا
بالخلد ذات الصخر والآجر
وأبلغا عني مقالا إلى ال
مولى عن المأمور والآمر
قولا له : يا ابن ولي الهدى
طهّر بلاد الله من طاهر
لم يكفه إن جزّ أوداجه
ذبح الهدايا بمدى الجازر
حتّى أتى تسحب أوصاله
في شطن يغني به السائر
وذهب المأمون إلى الستّ (زبيدة) يعزيها بولدها (الأمين) فبكيا
__________________
(1) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج 7 / 150.
(2) المسعودي ـ مروج الذهب. ج 3 / 401.
(3) السيوطي ـ تاريخ الخلفاء. ص 405.
(4) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 63.
طويلا ، وتبرأ من قتله ، وقيل إنّه قال لها : (يا ستّاه ، لا تأسفي عليه ، فإنّي عوضه لك). فقالت زبيدة : يا أمير المؤمنين ، كيف لا آسف على ولد خلّف أخا مثلك) (1).
ولمّا أراد الانصراف ، أقسمت عليه (زبيدة) بتناول الغداء سويّة ، ولمّا فرغا من الغداء ، جاءت جارية من جواري الأمين ، فغنت له من شعر الوليد ابن عقبة (2) :
هم قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فألا يكونوا قاتليه فإنّه
سواء علينا ممسكاه وضاربه
قتل الأمين في شهر ربيع الأول من سنة (198) (3) للهجرة ، وعمره (28) سنة ، وقيل في شهر محرم من سنة (198) وكان عمره (27) (4) سنة.
وقيل كان عمره (29) سنة وثلاثة أشهر وبضعة أيّام ، ومدّة حكمه أربع سنوات وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما (5).
34 ـ العبّاس بن موسى الهادي :
هو العبّاس بن الخليفة موسى (الهادي) بن محمّد (المهدي) بن أبو جعفر المنصور بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب.
كان على إمارة الكوفة سنة (195) (6) للهجرة ، من قبل (الأمين) بن هارون الرشيد.
__________________
(1) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 214.
(2) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 3 / 368.
(3) حسن إبراهيم حسن ـ تاريخ الأعلام. ج 2 / 65.
(4) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج 9 / 339.
(5) محمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج 1 / 229.
(6) تاريخ الطبري. ج 8 / 417 و435 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 250.
وعند ما أخذت جيوش طاهر بن الحسين تتقدّم ، وتتوالى انتصاراتها حتّى وصلت إلى الأهواز ، ومنها إلى واسط ، فهرب السندي بن يحيى الحرشي (الأمير عليها آنذاك) وقال كلمته المشهورة : (فإنّه طاهر ولا عار علينا إذا هربنا منه). ثمّ أرسل طاهر بن الحسين أحد قادته وهو (أحمد بن المهلّب) إلى الكوفة ، وكان عليها حينذاك (العبّاس بن موسى الهادي) وقيل (الفضل بن العبّاس بن موسى بن عيسى). فلمّا سمع العبّاس بمجيء أحمد بن المهلّب ، خلع (الأمين) وأعلن بيعته (للمأمون) (1) ، كان ذلك في شهر رجب من سنة (196) (2) للهجرة ، وعندها أقرّه طاهر بن الحسين على إمارة الكوفة (3).
وفي سنة (183) (4) للهجرة ، حجّ بالناس العبّاس بن موسى الهادي ، وكذلك حجّ بالناس سنة (189) (5) للهجرة.
وفي سنة (202) للهجرة ، تمّت البيعة لإبراهيم بن المهدي ، وتمّت سيطرته على الكوفة والسواد بأكمله ، ثمّ عسكر بالمدائن ، فولّى الجانب الشرقيّ من بغداد إلى العبّاس بن موسى الهادي والجانب الغربيّ منها إلى أخيه إسحاق بن موسى الهادي.
وقال إبراهيم بن المهدي (6) :
ألم تعلموا يا آل فهر بأنّني
شريت بنفسي دونكم في المهالك
وكتب طاهر بن الحسين إلى العبّاس بن موسى الهادي ، عند ما تأخر
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 417 و435 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 250.
(2) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 42.
(3) المصدر السابق. ج 13 / 43.
(4) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 9 / 84 وصالح خريسات ـ تهذيب تاريخ الطبري. ص 489.
(5) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 193.
(6) الذهبى ـ تاريخ الاسلام. ج 13 / 42.
العبّاس عن إرسال الخراج إليه فقال (1) :
وليس أخو الحاجات من بات نائما
ولكن أخوها من يبيت على رحل
35 ـ الفضل بن العبّاس بن موسى بن عيسى :
وعند ما سمع الأمين بأن العبّاس بن موسى الهادي (أمير الكوفة) قد بايع للمأمون ، عزله وأرسل مكانه (الفضل بن موسى بن عيسى) وأرسل معه جيشا كبيرا ، ولمّا سمع طاهر بن الحسين بذلك أرسل محمّد (2) بن العلاء لملاقاة (الفضل) فتلاقيا بقرية الأعراب ، فأرسل إليه (الفضل) يخبره بأنّه سامع ومطيع ، وأنّ خروجه كان كيدا للأمين. فقال محمّد بن العلاء : (لست أعرف ما تقول ، فإن أردت طاهرا فارجع وراءك فهو أسهل الطريق).
فرجع (الفضل) فقال ابن العلاء لأصحابه : كونوا على حذر ، فإنّي لا آمن مكره وخداعه ، وفعلا رجع الفضل بن موسى إلى ابن العلاء ، وهو يظنّ أنه غير مستعد للقتال ، فرآه متيقظا ، حذرا ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، انهزم خلال القتال الفضل بن موسى ومن معه ، كان ذلك سنة (196) (3) للهجرة. وقد قتل في تلك المعركة الكثير من أصحاب الفضل ، كما وأسّر الكثير منهم أيضا ، وكان من جملة الأسرى إسماعيل بن محمّد القرشي وجمهور النجاري (4).
وذكر الطبري في تاريخه : بأن الفضل بن العبّاس بن موسى قد بايع للمأمون سنة (196) للهجرة ، وذلك عند دخول طاهر بن الحسين إلى الكوفة (5).
__________________
(1) ابن عبد ربه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج 4 / 222.
(2) محمّد بن العلا : أحد قادة طاهر بن الحسين.
(3) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 265.
(4) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 43.
(5) تاريخ الطبري. ج 8 / 437.
ثمّ ذهب الفضل بن العبّاس مع داود بن عيسى إلى مكّة ، حيث أنّ المأمون قد جعل داود بن عيسى أميرا على موسم الحجّ ، ودعا داود في مكّة بالخلافة للمأمون ، وكان هذا أوّل موسم دعي فيه للمأمون بالخلافة في مكة والمدينة (1).
وعند ما كان الفضل بن العبّاس أميرا على المدينة سنة (269) (2) للهجرة ، أعطى قلنسوة لشاعر فقال الشاعر :
كساك فضل بن عبّاس قلنسوة
هذا السخاء الّذي قد شاع في الناس
لو كان ضمّ اليها الجوربين معا
كفى إذا كسوة الرجلين والرأس
36 ـ طاهر بن الحسين :
هو : طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق الخزاعي ، وكنيته : أبو طلحة وأبو الطيّب.
وطاهر بن الحسين ، هو من كبار الوزراء والقادة ، أدبا ، وحكمة ، وشجاعة ، وهو الّذي وطّد الحكم للمأمون ، وقضى على أخيه الأمين (3).
ولد طاهر بن الحسين في (بوسنج) في خراسان ، ثمّ سكن بغداد ، فاتصل بالمأمون في صباه ، وكانت لأبيه منزلة جيدة عند هارون الرشيد ، وقد لقبه المأمون (بذي اليمينين) (4) لأنّه تولّى إمارة العراق وإمارة خراسان.
وقيل لأنه ضرب رجلا فقطعه إلى نصفين ، وكان طاهر أعورا ، فقال فيه
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 444.
(2) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 4 / 16.
(3) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج 5 / 41.
(4) الزركلي ـ الأعلام. ج 3 / 221.
عمرو بن بانه : (1)
يا ذا اليمينين وعين واحدة
نقصان عين ويمين زائدة
وعند ما كان طاهر بن الحسين صغيرا ، رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في منامه ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : (يا طاهر ، إنّك ستبلغ من الدنيا أمرا عظيما ، فاتّق الله واحفظني في ولدي ، فإنك لا تزال محفوظا ما حفظتني في ولدي) (2). فكان طاهر لا يتعرض لعلوي طيلة حياته.
وفي سنة (196) عاد طاهر بن الحسين من خراسان إلى واسط ، فأرسل أحمد بن المهلّب إلى الكوفة ، وكان أميرها آنذاك (العبّاس بن موسى الهادي) من قبل الخليفة (الأمين) ، فلما سمع العبّاس بن موسى بمجيء أحمد ابن المهلب خلع الأمين وبايع المأمون ، عندها أقرّه طاهر بن الحسين على إمارة الكوفة (3). فتمّ لطاهر ما بين واسط إلى الكوفة.
ولمّا مات الرشيد ، وجاء من بعده ابنه (الأمين) فخلع الأمين أخاه المأمون من ولاية العهد (وكان المأمون حينذاك في خراسان) فانتدب المأمون إليه طاهر بن الحسين ، للزحف إلى بغداد ، فحاصرها حوالي السنة ، فضجر الأهالي ، وملوا من طول الحصار ، ومن شراسة الحرب بين الطرفين ، وأخيرا انهزم الأمين فألقوا القبض عليه ، ثمّ قتلوه ، وجيء برأسه و (الخاتم والقضيب والبردة) إلى المأمون في خراسان ، وقيل أرسل رأس الأمين بيد محمّد بن الحسين بن مصعب (أخو طاهر) وقال له : (أذهب إلى أمير
__________________
(1) الترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج 2 / 1192.
(2) القاضي التنوخي ـ نشوار المحاضرة. ج 2 / 241.
(3) الذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 42 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 264 ومحمّد الخضري بك ـ محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية. ج 1 / 167.
ـ الخاتم والقضيب والبرده : هي من مقومات الخلافة.
المؤمنين بهذا الرأس والبرده وقل له : وجهت إليك الدنيا والآخرة) (1). ثمّ بعث كتابا إلى المأمون جاء فيه : (أما بعد ، فإنّ المخلوع ، وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللّحمة ، لقد فرق الله بينهما في الولاية والحرمة ، لمفارقته عصمة الدين ، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين قال الله عزوجل : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)(2) ، ولا حيلة لأحد في معصية الله ، ولا قطيعة في ذات الله ، وقتل المخلوع ، ورده الله رداء نكبه ، وأحمد لأمير المؤمنين بنعمته ، والراجع إليه بمعلوم حقّه ، والكائد له ممّن ختر عهده ، ونكث وعده ، حتّى ردّ الألفة بعد تفريقها ، وأحيا الأحلام بعد درس أثرها ومكّن له الأرض بعد شتات الأهل) (3).
وبعد ما قتل الأمين ، وتمّت البيعة للمأمون في العراق ، تولى طاهر بن الحسين رئاسة شرطة بغداد ، ثمّ ولّاه المأمون : الجزيرة والشام والمغرب ثمّ الموصل ، وذلك سنة (198) للهجرة (4).
وفي شهر محرم من سنة (205) للهجرة ، تولّى طاهر بن الحسين من مدينة بغداد إلى أقصى عمل المشرق (ومعنى هذا أنّ بضمنها مدينة الكوفة) ولّاه إيّاها المأمون ثمّ أعطاه عشرة آلاف ألف درهم (5).
وعند ما كان طاهر بن الحسين في (الرّقة) وكان راكبا جواده ، ومعه
__________________
(1) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 2 / 250.
(2) سورة هود : الآية 46.
(3) النويري ـ نهاية الأرب. ج 5 / 147.
(4) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 141 والزركلي ـ الأعلام. ج 3 / 221.
(5) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 141 وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 178 ومحمّد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج 1 / 237.
بعض قادته فقال (1) :
عليكم بداري ، فاهدموها ، فإنّها
تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه
وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
سأدحض عني العار بالسيف جانبا
على قضاء الله ما كان جالبا
ثمّ رجع إلى مجلسه ، فوجد أوراقا ، يطلب فيها أصحابه (المساعدة) فوقع عليها ، فكان مجموع مبالغها : ألف ألف وسبعمائة درهم. ثمّ نظر إلى أحد أصدقائه وقال له : (ما ذا تقول في هذا المجلس)؟ فقال القائد : (ما رأيت أنبل من هذا المجلس ، ولا أحسن منه ، ولكنه ، أصلح الله الأمير ، إنّه سرف). فقال طاهر :السرف من الشرف.
وقيل إنّ بعض الشعراء ، وقف على باب طاهر بن الحسين ثلاث سنين ، ولم يتمكن من الوصول إليه ، فقيل له : إنّ يوم غد سيكون الأمير في الميدان للّعب بالصولجان ، فذهب الشاعر إلى الميدان ، وكان محاطا بالحرس ، فألقى بنفسه أمام طاهر ، فقال له طاهر : من أنت؟ قال : لي بيتين من الشعر.
قال طاهر : هاتهما ، فقال الشاعر (2) :
أصبحت بين خصاصة وتجمّل
والحرّ بينهما يموت تجمّلا
فامدد اليّ يدا تعوّد بطنها
بذل النوال وظهرها التقبيلا
فأعطاه عشرين ألف درهم.
وكتب الشاعر إسماعيل بن جرير البجلي إلى طاهر بن الحسين
__________________
(1) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج 9 / 353.
(2) المصدر السابق 2. ج 9 / 354.
الأبيات التاليّة (1) :
رأيتك لا ترى إلّا بعين
وعينك لا ترى إلّا قليلا
فأما إذا أصبت بفرد عين
فخذ من عينك الأخرى كفيلا
فقد أيقنت أنّك من قليل
بظهر الكفّ تلتمس السبيلا
فلمّا قرأ طاهر الأبيات مزّقها ، ثمّ أمر بإكرامه.
ومن شعر طاهر بن الحسين أنّه قال (2) :
إعمل صوابا تنل بالحزم مأثرة
فلن يذّم لأهل الحزم تدبير
فإن هلكت مصيبا أو ظفرت به
فأنت عند ذوي الألباب معذور
وإن ظهرت على جهل وفزت به
قالوا : جهول أعانته المقادير
أنكد بدنيا ينال المخطئون به
حظّ المصيبين والمقدور مقدور
ومن شعره أيضا (3) :
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة
فليس يذهبها التبذير والسرف
فإن تولّت فأحرى أن تجود بها
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقد مدحه مقدّس بن صيفي الخلوقي الشاعر بثلاث أبيات هي (4) :
عجبت لحرّاقة ابن الحسين
لا غرقت كيف لا تغرق
وبحران من فوقها واحد
وآخر من تحتها مطبق
وأعجب من ذاك أعوادها
وقد مسّها كيف لا تورق؟!
فأعطاه ألف دينار ، وقال له : زد حتّى نزيدك.
__________________
(1) يحيى شامي ـ موسوعة شعراء العرب. ص 121.
(2) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 3 / 147.
(3) حسن سعيد الكرمي ـ قول على قول. ج 5 / 80.
(4) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج 10 / 108.
وقال محمّد بن عليّ الصيني يمدح طاهر بن الحسين (1) :
كأنّك مطلع في القلوب
إذا ما تناجت أسرارها
فكسرات طرفك ممتدّة
إليك بغامض أخبارها
ودخل طاهر بن الحسين على المأمون ذات يوم ، فلما رآه المأمون ، ترقرقت عيناه بالدموع ، فقال طاهر : (يا أمير المؤمنين ، لم تبك ، لا أبكى الله عينيك ، والله لقد دانت لك البلاد ، وأذعن لك العباد ، وصرت إلى المحبة في كلّ أمرك)؟ (2).
فقال المأمون : (أبكي لأمر ، ذكره ، ذلّ ، وستره حزن ، ولن يخلو أحد من شجن) (3). فلما خرج طاهر من عند المأمون ، أعطى لكاتب المأمون مائة ألف درهم وأعطى لخادمه (حسين) مائتي ألف درهم ، وطلب منه أن يسأل المأمون عن سبب بكائه (4).
وبعد ما تغدّى المأمون ، طلب من خادمه (حسين) أن يسقيه ، فقال الخادم : لا والله لا أسقيك حتّى تقول لي : لم بكيت حينما دخل عليك طاهر؟
فقال له المأمون : وما ذا يعنيك من أمر ذلك؟
فقال الخادم : لغمّي عليك وتأثري.
فقال المأمون : (إنّي ذكرت محمّدا (أخي) وما أصابه من الذلّ ، فخنقتني العبرة ، فاسترحت إلى الإفاضة ، ولن يفوت طاهرا منّي ما يكره) (5).
ثمّ تمكّن طاهر بن الحسين ، وبذكائه الحاد ، أن يأخذ موافقة المأمون
__________________
(1) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 2 / 806.
(2) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 360 و361.
(3) المصدر السابق.
(4) نفس المصدر السابق.
(5) نفس المصدر اعلاه.
على توليته إمارة خراسان ، هربا منه ، فوافق المأمون على ذلك.
ولمّا استقرّ طاهر في خراسان ، خلع المأمون من الخلافة (يوم الجمعة) وقطع له الدعاء ، وقال في خطبته : (اللهم أصلح أمّة محمّد بما أصلحت به أوليائك ، واكفها مؤونة من بغى عليها) (1). ولم يزد على ذلك شيئا ، مما تعارف عليه بالخطبة من الثناء على الخليفة ، والدعاء له بطول البقاء. ثمّ خلع طاهر (السواد) وهو شعار العباسيين ، فعرض له عارض فمات في ليلته ، وقيل قتله أحد غلمانه في تلك الليلة ، وقيل مات مسموما.
وعند ما سمع المأمون بموت طاهر قال : (لليدين وللفم ، الحمد لله الّذي قدّمه وأخرنا). وقيل إنّه قال : (وكفى الله المأمون مؤونته) (2).
مات طاهر بن الحسين في شهر جمادي الأولى من سنة (207) (3) للهجرة.
وقال بعضهم يرثي طاهر بن الحسين (4) :
فلئن كان للمنيّة رهن
إنّ أفعاله لرهن الحياة
ولقد أوجب الزكاة على قو
م وقد كان عيشهم بالزكاة
37 ـ الحسن بن سهل :
هو : الحسن بن سهل بن عبد الله السرخسي ، وكنيته : أبو محمّد.
والحسن بن سهل من بيت حشمة من المجوس ، أسلم أبوه في زمن البرامكة
__________________
(1) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 382 وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 183.
(2) أبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 183.
(3) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج 9 / 355 وابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 160 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 381 والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج 10 / 109 وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 183 ومحمد مختار باشا ـ التوفيقات الإلهامية. ج 1 / 239 والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج 2 / 1190 وتاريخ الطبري. ج 8 / 593.
(4) الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج 9 / 355.
وكان قهرمانا ليحيى البرمكي.
ونشأ الفضل (1) بن سهل مع المأمون ، وأصبح وزيرا له ، ثمّ قتل الفضل فأستوزر المأمون أخاه الحسن بن سهل من بعده.
ولّاه المأمون في سنة (198) للهجرة ، على المشرق كلّه وعلى الجزيرة والشام والحجاز واليمن ، وعلى جميع البلاد الّتي افتتحها طاهر بن الحسين من كور الجبال ، والكوفة والبصرة ، والأهواز (2) ، فأرسل الحسن بن سهل نوابا عنه إلى تلك الأقاليم. وقد تزوج المأمون من ابنته (بوران) (3) في (فم الصلح) (4) وأعطى المأمون للحسن على زواج ابنته (بوران) ثمانية وثلاثين ألف ألف درهم (5).
وقال الشاعر محمّد بن حازم الباهلي في زواج المأمون من بوران (6) :
بارك الله للحسن
ولبوران في الختن
يابن هارون قد ظفر
ت ولكن ببنت من؟
ولمّا سمع المأمون بذلك قال : (والله ما ندري : هل هجانا أم مدحنا)؟!.
وقال إبراهيم (7) بن العبّاس مهنئا للحسن بن سهل بزواج ابنته بوران من المأمون (
:
__________________
(1) محمّد شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ. ص 242.
(2) تاريخ الطبري. ج 8 / 527 وابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 52 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 297 والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 67 والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج 2 / 1134.
(3) بوران : أسمها : خديجة.
(4) فم الصلح : المنطقة الّتي سكنها الحسن بن سهل ، وفيها نهر يسمى بنفس الإسم ، وهي مقاطعة كبيرة في ميسان.
(5) الحميري ـ الروض المعطار. ص 359.
(6) المسعودي ـ مروج الذهب. ج 3 / 444.
(7) إبراهيم بن العبّاس بن صول : أصله تركي ، تسلم عدة وظائف ، من جملتها ديوان الضياع والثقات.
(
أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج 10 / 60.
ليهنئك أصهار أذلّت بعزّها
خدودا وجدعت الأنوف الرواغما
جمعت بها الشملين من آل هاشم
وحزت بها للأكرمين الأكارما
وقال محمّد (1) بن وهيب يمدح المأمون والحسن بن سهل (2) :
اليوم جددت النعماء والمنن
فالحمد لله حلّ العقدة الزمن
اليوم أظهرت الدنيا محاسنها
للناس لمّا التقى المأمون والحسن
وفي سنة (199) (3) للهجرة ، جاء الحسن بن سهل إلى بغداد (ومعه حميد بن عبد الحميد وكثير من القادة) نائبا عن المأمون ، وأسند إليه الخراج والحرب ، فعيّن عماله في البلاد.
وعند ما ثار محمّد بن إسماعيل بن طباطبا بالكوفة في هذه السنة أي سنة (199) وانظم إليه أبو السرايا ، واستوليا على الكوفة ، أرسل طاهر بن الحسين إلى الكوفة زهير بن المسيب الضبي ، فانهزم زهير ورجع إلى بغداد ، ثمّ أرسل الحسن بن سهل إلى الكوفة عبدوس بن محمّد بن أبي خالد لمحاربة أبي السرايا ، فوقعت معركة بين الطرفين أسفرت عن مقتل (عبدوس) وأكثر أصحابه ، ثمّ ذهب أهل الكوفة إلى نهر (صرصر) واستولوا على واسط والبصرة ، عندها أرسل الحسن بن سهل إلى السندي بن شاهك ، ليخبر هرثمة بن أعين لمواجهته ، ولمّا جاء هرثمة ، أمره الحسن بن سهل أن يذهب إلى أهل الكوفة لمحاربتهم ، ولمّا وصل هرثمة إلى نهر (صرصر) فلحق بأهل الكوفة عند قصر ابن هبيرة ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، فانهزموا إلى الكوفة (4).
__________________
(1) محمّد بن وهيب : الحميري ، أصله من البصرة وسكن بغداد ، وهو من شعراء الدولة العباسيّة.
(2) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ص 436.
(3) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 73 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 297 والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج 13 / 69 وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج 10 / 244 والترمانيني ـ أحداث التاريخ الإسلامي. ج 2 / 1146.
(4) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 302.
وتبعهم هرثمة إلى هناك ، فكاتبه أهل الكوفة ، عندها هرب أبو السرايا ومحمّد بن محمّد من الكوفة ، فدخلها هرثمة بن أعين ، وأقام بها أيّاما (1) ، ثمّ استخلف عليها (غسان بن أبو الفرج) ثمّ رجع إلى بغداد ، ومنها ذهب إلى خراسان (2).
وحارب أهل بغداد الحسن بن سهل ، ورئيسهم محمّد بن أبي خالد المروزي وأولاده (عيسى ، وهارون ، وأبو زنبيل). وكان الحسن بن سهل آنذاك في المدائن ، فأصبحت بغداد فوضى لا أمير لها ، ثمّ بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي ، عندها ذهب إبراهيم إلى محاربة الحسن بن سهل في المدائن ، إلّا أنّ الحسن قد غادرها ، وذهب إلى واسط ، عند ذلك أقام إبراهيم ابن المهدي في المدائن (3).
وفي سنة (201) (4) للهجرة ، عهد المأمون بالخلافة من بعده إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهالسلام) وسماّه (الرضيّ من آل محمّد) وأمر جنده بخلع السواد ، ولبس الخضرة ، وكتب إلى الحسن بن سهل يعلمه بذلك.
ولمّا سمع أهل بغداد ، وآل بني العبّاس ، غضبوا على المأمون فخلعوه ، وبايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.
ثمّ إنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهالسلام) أخبر المأمون وقال له : (بأنّ الناس في فتنة وقتال منذ قتل أخوه (الأمين) ، وأنّ أهل بغداد قد طردوا الحسن بن سهل منها ، وولّوا عليهم خليفة ، وما عليك إلّا أن تتدبّر الأمر.
__________________
(1) الكامل. ج 6 / 306.
(2) المصدر السابق. ج 6 / 309.
(3) المصدر اعلاه. ج 6 / 341.
(4) تاريخ الطبري. ج 8 / 554.
عندها قرر المأمون الذهاب إلى بغداد ، ولمّا خرج من (مرو) (1) هجم جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام ، ولمّا علم المأمون بذلك ، أمر بقتل قاتليه ، وإرسال رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل في واسط ، وأخبره بأنّه قد أصبح في مكان أخيه (2).
وكان الحسن بن سهل كثير العطايا للشعراء وغيرهم ، وقد قال فيه الشاعر (3) :
وكأنّ آدم كان قبل وفاته
أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم
وكفيت آدم عيلة الأمناء
وقال فيه أحد الشعراء أيضا (4) :
تقول خليلتي لمّا رأتني
أشدّ مطيتي من بعد حل
أبعد الفضل ترتحل المطايا
فقلت : نعم إلى الحسن بن سهل؟
وذهب عليّ بن عبيدة إلى الحسن بن سهل في (فم الصلح) فبقي ثلاثة أشهر على بابه ، ولم يسمح له بالدخول عليه ، فكتب إليه هذه الأبيات (5) :
مدحت ابن سهل ذي الأيادي وماله
بذاك يد عندي ولا قدم
وما ذنبه والناس إلّا أقلّهم
عيال له إن كان لم يك لي جدّ
سأحمده للناس حتّى إذا بدا
له فيّ رأي عاد لي ذلك الحمد
فكتب إليه الحسن بن سهل : (باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلال :عقل ، وصبر ، ومال). فكتب إليه عليّ بن عبيده : (لو كان لي مال ، لأغناني عن الطلب إليك ، أو صبر ، لصبرت عن الذلّ ببابك ، أو عقل ، لاستدللت به
__________________
(1) مرو : عاصمة خراسان.
(2) ابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 348.
(3) الحصري ـ زهر الآداب. ج 6 / 226.
(4) محمّد بن شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ. ص / 241.
(5) الحصري ـ زهر الآداب. ج 1 / 354.
على النزاهة عن رفدك). فأعطاه الحسن بن سهل ثلاثين ألف درهم.
وقيل للحسن بن سهل : إنّ الدواب ، قد أصابها مرض ، فقال : اقتلوا الكلاب ، فقال أبو العواذل (1) :
له يومان من خير وشرّ
يسلّ السيف فيه من القراب
فأمّا الجود منه فللنصارى
وأما شرّه فعلى الكلاب
ثمّ تماهل الناس في قتل الكلاب ، وبعد أن أكلت الكلاب من لحوم الدواب ، استكلبت على الناس وأخذت تعضهم وتنهشهم ، فاضطروا بعد ذلك إلى قتلها ، وعرفوا صحة ما قال الحسن بن سهل.
وقيل أراد الحسن بن سهل مرّة أن يكتب لسقّاء بألف درهم ، فكتب له : ألف ألف درهم. فقال له الخازن : هل صحيح ما كتبته؟. قال : نعم ، ولن أرجع عما كتبته ، ثمّ تمكّنوا من مصالحة السقاء على مبلغ يرضيه.
ولمّا مات أخوه (الفضل بن سهل) حزن عليه حزنا شديدا ، حتّى مرض ، وأصابه الصرع ، فلم يتمكّن بعد ذلك من مزاولة أعماله ، فحبس في بيته ، بعد أن قيدوه بالحديد ، فاستوزر المأمون بعده (أحمد بن أبي خالد) وعين دينار بن عبد الله القائد الأعلى لجيشه (2).
ومن أقوال الحسن بن سهل : (من أحبّ الازدياد من النعم فليشكر ، ومن أحبّ المنزلة عند السلطان فليعظه ، ومن أحبّ عزّه فليتواضع ، ومن أحبّ السلامة فليدم الحذر) (3).
مات الحسن بن سهل في مدينة سرخس سنة (226) (4) للهجرة.
__________________
(1) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 4 / 436.
(2) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 115 ومحمّد شاكر الكتبي ـ عيون التواريخ ص / 242.
(3) تاريخ الطبري. ج 9 / 184 وابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 115.
(4) ابن منقذ ـ لباب الألباب. ج؟ /؟
38 ـ سليمان بن أبي جعفر المنصور :
هو : سليمان بن عبد الله (المنصور) بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، وكنيته : أبو أيّوب الهاشمي. ولّاه الحسن ابن سهل (وزير المأمون) إمارة الكوفة (1).
وكان سليمان قد ولّي قبل ذلك إمارة دمشق من قبل هارون الرشيد ، ثمّ ولّيت للأمين مرتين ، وولّي البصرة مرتين أيضا (2). وكان أميرا على طبرستان.
وعند ما بويع (الأمين) بالخلافة سنة (193) للهجرة ، وبايعه أهل بيته فوكّل (الأمين) لسليمان بن أبي جعفر المنصور بأخذ البيعة له على القادة وغيرهم (3).
وعند ما حوصر (الأمين) من قبل طاهر بن الحسين ، وأراد الأمين أن يهرب إلى الشام ، كتب طاهر بن الحسين إلى سليمان بن أبي جعفر المنصور والى محمّد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك أن يمنعوه من الهرب ، وإلّا فستصادر كافّة ممتلكاتهم ، وسيكونون هم المسئولون عن هروبه (4). ثمّ اجتمع طاهر بن الحسين ، وهرثمة بن أعين ، والقادة ، وحضر الاجتماع سليمان ابن أبي جعفر المنصور ، وقرروا في اجتماعهم : بأنّه إذا التجأ الأمين إلى هرثمة فعليه أن يدفع (الخاتم والبردة ومتطلبات الخلافة) إلى طاهر ، إلّا إنّ الأمين خرج ليلا للالتحاق بهرثمة ، فشعر به جند طاهر بن الحسين فقتلوه ، وكان ينادي : (أنا ابن عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنا ابن هارون ، أنا أخو المأمون ، الله
__________________
(1) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج 10 / 165 والبراقي ـ تاريخ الكوفة. ص 234.
(2) الزركلي ـ الأعلام. ج 3 / 190 والمستشرق زامباور ـ الأسرات الحاكمة. ص 285.
(3) تاريخ الطبري. ج 8 / 365 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 221.
(4) تاريخ الطبري. ج 8 / 478 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 283.
الله في دمي). ثمّ ذبحوه من قفاه ، وقطعوا رأسه ، وأرسلوه إلى طاهر بن الحسين (1) ، ثمّ أرسله طاهر إلى المأمون.
وعند ما ثار الحسين بن عليّ بن الحسن (صاحب فخ) سنة (169) للهجرة ، حاربه كافة أهل بيت الخليفة العباسي ، ما عدا سليمان بن أبي جعفر المنصور ، لم يشارك في المعركة ، لأنّه كان مريضا (2).
وعند ما ثار أهل دمشق ، كتب سليمان بن أبي جعفر المنصور إلى هارون الرشيد يخبره بثورة أهل دمشق ، فكتب إليه الرشيد : (إستحييت لشيخ ولده المنصور ، أن يهرب عمّن ولدته كنده وطيء ، فهلّا قابلتهم بوجهك ، وأبديت لهم صفحتك ، وكنت كمروان عمّك إذ خرج مصلتا سيفه ، متمثلا ببيت الجحّاف بن حكيم :
متقلّدين صفائحا هندّية
يتركن من ضربوا كمن لم يولد
فجالد به حتّى قتل ، لله أمّ ولدته ، وأب أنهضه) (3).
وقيل ثار بالشام السفياني عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة (195) للهجرة ، فطرد عنها سليمان بن أبي جعفر المنصور (4).
وعند ما ثار محمّد بن إبراهيم بن طباطبا بالكوفة سنة (199) للهجرة ، كان سليمان أميرا على الكوفة من قبل الحسن بن سهل ، ولمّا سمع الحسن بن سهل بثورة ابن طباطبا غضب على سليمان ، وقلّل من قيمته وتقديره ، ثمّ أرسل زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف مقاتل لإخماد ثورة ابن
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 488 وابن الأثير ـ الكامل. ج 6 / 284.
(2) الطبرى. ج 8 / 197.
(3) ابن عبد ربّه الأندلسي ـ العقد الفريد. ج 4 / 214.
(4) تاريخ الطبري. ج 8 / 415.
طباطبا ، فوقعت معركة بين الطرفين في قرية (شاهي) القريبة من الكوفة ، أسفرت عن انهزام الضبي ، والاستيلاء على ما كان في جيشه من سلاح ودوابّ وغير ذلك (1).
ودخل سليمان بن المنصور يوما على الخليفة (الأمين) وطلب منه أن يقتل أبا نؤاس ، لأنّه زنديق ، حيث قال (2) :
أهدي الثناء إلى الأمين
ما بعده بتجارة متربّص
صدق الثناء على الأمين محمّد
ومن الثناء تكذّب وتخرص
قد ينقص القمر المنير إذا استوى
هذا ونور محمّد لا ينقص
وإذا بنو المنصور عدّ حصباؤهم
محمّد ياقوتها المتخلص
ثمّ غضب سليمان وقال : لو شكوت من عبد الله ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن تعاقبه ، فكيف بهذا يا عمّ؟ وأنّه يقول أيضا :
قد أصبح الملك بالمنى ظفرا
كأنّما كان عاشقا قدرا
حسبك وجه الأمين من قمر
إذا طوى الليل دونك القمرا
خليفة يعتني بأمّته
وإن أتته ذنوبها غمرا
حتّى لو استطاع من تحنتّه
دافع عنها القضاء والقدرا
ثمّ أخذ سليمان يقرأ أشعارا أخرى لأبي نؤاس ظنا منه أن يوغر الأمين عليه ولكن الأمين لم يتخذ أيّ شيء اتّجاه أبي نؤاس ، مما دعا سليمان إلى عدم الذهاب إلى الأمين ، فانقطع عنه.
ثمّ إنّ الأمين أمر بحبس أبي نؤاس ، ولمّا طال حبس أبي نؤاس كتب إلى الأمين أبياتا نذكر منها (3) :
__________________
(1) تاريخ الطبري. ج 8 / 529.
(2) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 17.
(3) المصدر السابق.
تذكر أمين الله والعهد يذكر
مقامي وأشاديك والناس حضّر
ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم
فيا من رآى درّا على الدرّ ينثر
ومنها :
مضت لي شهور قد حبست ثلاثة
كأنّي قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن لم أذنبت فيم عقوبتي
وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر
فلما قرأ الأمين هذه الأبيات قال : (أخرجوه ، وأجيزوه ، ولو غضب أبناء المنصور كلّهم) (1).
وعند ما ذهب سليمان إلى دمشق ، التقى بإبراهيم بن المهدي ، فقال له سليمان : (خلا لك الجوّ فبيضي واصفري) (2). فقال له إبراهيم : (لك والله خلا الجوّ ، لأنّك تقعد في صدر المجلس ، وتأكل إذا اشتهيت ، ليس مثل من هو في السماط ، يأكل على شبع ، ويكف عن جوع ويخدم في وقت كسل) (3).
ودخل هارون الرشيد ذات يوم على سليمان بن المنصور ، فرأى عنده جارية في غاية الحسن والكمال تسمّى (ضعيفة) فأحبّها الرشيد ، وطلبها من سليمان ، فوهبها له.
ولمّا أخذها الرشيد مرض سليمان من شده حبه لها وقال :
أشكو إلى ذي العرش ما
لاقيت من أمر الخليفة
يسع البرّية عدله
ويريد ظلمي في ضعيفة
علق الفؤاد بحبّها
كالحبر يعلق بالصحيفة
ولمّا سمع الرشيد بذلك أعادها إليه.
ومات ابن لسليمان بن أبي جعفر المنصور ، فعزّاه موسى بن المهدي
__________________
(1) ابن الجوزي ـ المنتظم. ج 10 / 18.
(2) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج 10 / 165.
(3) نفس المصدر السابق. ج 10 / 165.
قائلا : (أيسرّك وهو بلية وفتنة؟ ويحزنك وهو صلاة ورحمة)؟ (1)
وكان هارون الرشيد ذات يوم وعنده سليمان بن أبي جعفر المنصور ، وعيسى بن جعفر ، وعبد الملك بن صالح ، فقال الرشيد لعبد الملك : كيف أرض كذا؟ فقال : (هضاب حمر ، وبراث غبر). قال الرشيد فأرض كذا؟
قال : (فيافي فاسحة ، وجبال متنادحة). قال الرشيد فأرض كذا؟ قال : (تربة حمراء ، وشجرة خضراء ، وسبيكة صفراء). قال الرشيد : فأرض كذا؟ قال : (مسافي ريح ، ومنابت شيح).
فقال عيسى لسليمان : (ما ينبغي أن نرضا لأنفسنا بالدون من الكلام) (2).
وفي سنة (176) كان سليمان بن أبي جعفر المنصور قد حجّ بالناس ومعه الستّ (زبيدة) زوجة هارون الرشيد (3).
مات سليمان بن أبي جعفر المنصور سنة (199) (4) للهجرة.
39 ـ خالد بن محجل الضبي :
استخلفه سليمان بن أبي جعفر المنصور على إمارة الكوفة سنة (199) (5) للهجرة.
__________________
(1) الزمخشري ـ ربيع الأبرار. ج 4 / 184.
(2) التوحيدي ـ البصائر والذخائر. ج 6 / 119.
(3) تاريخ ابن خياط. ج 1 / 448 وتاريخ الطبري. ج 8 / 254.
(4) تاريخ خليفة بن خياط. ج 1 / 448 والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج 9 / 24 وأبو المجالس ـ النجوم الزاهرة. ج 2 / 164 وعبد القادر بدران ـ تهذيب تاريخ دمشق. ج 6 / 281 والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج 1 / 213.
(5) تاريخ الطبري. ج 8 / 529.