إن إحدى أبرز السمات التي تــُميز بُنية المجتمع العراقي هي الطابع العشائري لمكوناتهِ ، إذ إن البُنية القبلية مُترسخة الجذور ، و قد سبقت ظهور الدين الإسلامي و وصولهُ إلى بلاد ما بين النهرين ، حيث فرضت العشائر نفسها كمؤسسة إجتماعية و كيان مستقل لها ثــُقلها و إعتبارها في موازين القوة و السطوة و التأثير على المستوى الإجتماعي و السياسي و الديني و الإقتصادي ، فالعشيرة لها دور أساسي في حفظ الأمن و النظام و حماية الأرواح و الممتلكات العامة و الخاصة ، تأتى هذا الدور لــِما تميزت بهِ من القيم و العادات و الأعراف و التقاليد و الموروث التأريخي المتصل قدمه بِعمق التأريخ ، مما يُكسبها القدرة على أن تكون الفاعل الأقوى على الساحة الإجتماعية و التحكم بصياغة العلاقات الإجتماعية و السياسية في المجتمع . كونها توفر الدعم الساند و الأمان من المخاطر الداخلية و الخارجية ، و إسهامها في الضبط الإجتماعي الذي يتضح من خلال إلتزام أبناءها بتقاليد العشيرة و أعرافها ، و خاصة ً في ظل غياب أو ضعف دور سلطة الدولة و خلال ظروف الأزمات و الصراعات يبرز دور العشيرة المهم التي تمثل الركن الرئيسي في قيادة المجتمع .
فلا يخفى ما للعشيرة من مساهمة فاعلة في حل كثير من النزاعات و ردع الصدع و إخماد و قلع جذور الفتنة و الحروب و محاربة أوكار الفساد ، أعتمدت عليها الدولة بحكوماتها المتعاقبة في تأريخ العراق الحديث .
حيث لعبت العشائر العراقية العربية الأصيلة منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي تقريبا دوراً رئيسياً و حيوياً في التأريخ السياسي و الإجتماعي مثلت العراقيين في أهم المحافل و الوقائع أثناء غياب الدولة العراقية و عبر تأريخهم الطويل .
تتَسم القبيلة العراقية بالعقل الجمعي الكــُل لإجل الكــُل ، و الفرد يدافع عن الجميع ، و كما أشار الباحثين في العلوم الإجتماعية و الأنثروبولوجية لإهمية الوظائف التي تؤديها المؤسسة العشائرية لكيان النظام الإجتماعي و من أهمها التضامن الإجتماعي حيث يسارع جميع أفراد القبيلة إلى مساعدة الفرد الذي يحتاج للعون ، بالتالي يوفر التضامن الإجتماعي شعوراً لدى أفراد العشيرة بالأمن و الطمأنينة و الأستقرار .
يتميز النسيج الإجتماعي العراقي بتنوع و تعدد القبائل و العشائر و القوميات و الأديان ، لعبت هذهِ التعددية دوراً في إنتاج تنوع ثقافي و فكري تــُسهم بإثراء ثقافة المجتمع ، و تمكنت العشائر من خلال مواقفها الوطنية الموحدة أن تجمع و توحد جميع الأطياف بتنوعها تحت خيمة الوطن الواحد و نبذ كافة أشكال العنصرية و الطائفية ، و للتاريخ شواهد و دلالات ، منها المعارك شمال العراق تحديداً تــلعفر ضد الإنكليز عندما شارك الأكراد و التركمان في الثورة العراقية الكبرى ثورة العشرين .
حيث أشتركت جميع العشائر العراقية بمختلف أنتمائتهم الدينية و القومية في مواجهة الإعتداء و الظلم ، و قامت بعدة ثورات و تمردات ضد سلطة الحكم العثماني ، و مواجهتها الباسلة مُنذ الأيام الأولى للإحتلال الإنكليزي (١٩١٤ – ١٩١٨ ) وصلت ذروتها في ثورة العشرين ، متمثلةً بشيوخها و مواقفهم البطولية و دورهم الرئيسي في مقارعة المعتدين ، و مــما يُحسب لتلك العشائر إنها أسهمت من خلال هذه الثورة في تعميق الحس الوطني ، و مناهضة السيطرة الأجنبية ، و كسر شوكة الطائفية .
أستطاعت العشائر أن تــُمارس دورها في ترسيخ القيم النبيلة و إشاعة روح التعاون و التماسك و المحبة و نبذ كــُل أنواع التطرف و الكراهية.
و تــُرسخ أُسس و قواعد الأمن و الأستقرار و أن تكون السد المنيع بوجه المخربين و الجسر المكمل لمسيرة بناء المجتمع و الحفاظ على وحدة العراق .. لــِذا يجب النظر إلى العشائر بإعتبارها ركيزة لِمنظومة قابلة للتطور في ظل المجتمع المدني ، و قابلة للإندماج و التعايش مع التقدم الإجتماعي و الإقتصادي ، بإعتبارها عنصراً إيجابياً داعماً للسلم الأهلي و التطور و التقدم العلمي و الإجتماعي ، و تصحيح رؤية البعض لِتجاوز الخوف من العشائر ، بإعتبار الولاء للعشيرة بالضد أو مناقض للوطنية و الدين و القومية ، بل على العكس تماماً ، إن ما تتميز بهِ العادات و التقاليد العشائرية من قيم المرؤه و الشهامة و الكرم و الشجاعة و الإيثار و نكران ذات الفرد لمصلحة الجميع ، تــُعد من العناصر الداعمه و الساندة للنهوض بالمجتمع و الدولة المدنية الحديثة .
و للقيام بهذا المشروع يجب قيام التعاون الحكومي مع القبائل و عشائرها بدون تخوف أو حساسية ، حتى يمكنها من العمل مع بعضها بطمأنينة و أرتياح أوسع ، كما يجب علينا أن نــُسهم بالعمل على تطوير المجتمع العشائري ، و إعطائهُ المساحه الكافية للمشاركة في بناء المجتمع و الدولة و مؤسساتها و النهوض بواقعها ، و بالتالي تجفيف المنابع الفكرية و المادية للعناصر الارهابية داخل العراق ، لترسي أسس دولة متماسكة .
كما يجب أن نــُبين المخاطر التي تواجه و تهدد كيان العشائر ، المتمثلة بالتخندق في إحدى زوايا إطار المجتمع و الوطن ، أو أن تتحول العشائر إلى أداة بيد طرف من الأطراف ، و تستغل لمصالح و مكاسب شخصية ، بالتالي تتحزب العشيرة للطائفة أو للجــُزء على حساب الكــُل و الوطن . تؤدي لا سامح الله إلى صراعات بين العشائــر . لذا فالأجدر الإبتعاد عن الولاءات الفرعية الضيقة ، خاصة و إن البلد يمر بمرحلة صعبة و حرجة .
و هناك العديد من المتربصين و مثيري الفتن اللذين يجب الوقوف بوجههم و إفشال مخططاتهم ، للحفاظ على النسيج الإجتماعي ، و تماسك أبناء العشائر . لقد تعرضت البنية الإجتماعية العراقية و لفترة طويلة لإنواع من الأزمات و الأخفاقات الاقتصادية و السياسية ، كان لها الأثر الكبير عليها جعلتهُ يعاني من ضعف القوى الأمنية و الضبط الأجتماعي و خلل في سلوك أفراد المجتمع ، مما يجعل الحكومة غير قادرة بمفردها على حل جميع المشاكل التي تعوق نهضتها و تقدمها ، لذا فلا بد من أن تستعين بمنظمات المجتمع الأخرى ، و من أهمها العشيــــرة . و التي أثبتت أمكانيتها و جدارتها بكل التجارب الصعبة التي مــر بها البلد ، فكانت صولات العشائر ضد التنظيمات الارهابية منذ عام ٢٠٠٦ ، عندما وقفت العشائر جنباً إلى جنب مع الإجهزة الأمنية لمحاربة التنظيمات الارهابية ، هي التي حسمت المعركة لصالح الدولة و أمن و أستقرار الوطن .
لــِذا فإن سلامة المجتمع و تماسك بنيتهُ و مدى تطوره و أزدهارهُ مرتبط بسلامة و قوة تماسك و ولاء أفرادهُ للعشيــرة التي ينتمون إليها . فــالعشيــرة كانت و ما زالت منظومة شاملة ضامنــة للوحدة و التعاضُد ،و التجانس و الترابط بين أفراد المجتمع ، تنمي فيهم المبادئ و القيم السامية لبنــاء وطن حر ، شامخ ، مزدهر ، تسودهُ المحبة و الأخوة ..