| حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:36 pm | |
| حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الناشر: دار البلاغة المطبعة: دار البلاغة الطبعة: ١ الصفحات: ٥٢٧
مقدمة الكتاب الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٢
١ ٢
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ). ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ). ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ).
« القرآن الكريم » ٣ ٤
الاهداء
إليك. يا من لا تحصى مواهبه وملكاته وعبقرياته.
إليك يا من تمت بخلافته في يوم « عيد الغدير » النعمة الكبرى ، وكمل الدين.
إليك. يا وصى رسول الله «ص» وصهره ، وصاحبه وخليله إليك. يا أمير المؤمنين.
أتقدم الى روحانيتك المقدسة ، وبيدى « الحلقة الثانية » من حياة الامام الحسن ، كبير ولدك وشريكك في آية التطهير ، وولي عهدك ، الذي سكبت في نفسه كمالك اللامتناهي ، وغذيته بأروع المثل العليا راجيا من مقامك الرفيع قبولها واذا منحتني القبول وتلطفت علي بالرضا ، فهو غاية النجاح ومنتهى الأمل والسعادة لعبدك.
المؤلف ٥ ٦
امام الكتاب
قدم الجزء الاول من هذا الكتاب سماحة الامام المغفور له الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء نضّر الله مثواه وقد وعد في تقديمه أن يعطي البيان حقه ويكشف الحجب والغموض ، ويرفع الابهام والالتباس في صلح الامام الحسن مع معاوية ـ فيما اذا سمحت له ظروفه بذلك ـ وعند ما انتهى الكتاب من الطبع وعرض عليه كتب هذه الكلمة الرائعة ، وهو في أواخر أيام حياته ، وقد اشتملت على مواضيع خطيرة ، وأبحاث مهمة ، وقد ابرز فيها دقائق التأريخ ، وهي تعد ـ بحق ـ آية من آيات الفن من حيث العمق والتحليل وروعة الاسلوب وبما أن الكتاب هو الباعث على تحريرها رأينا أن نتوج الجزء الثاني بها ، ونتحف القراء بهذه الاضبارة الممتعة من بحوث الامام كاشف الغطاء. ٧ ٨
بنو هاشم ، وبنو أمية
والحسن ومعاوية
العداوات ، والتباغض بين الأفراد والقبائل ، والجماعات غريزة بعيدة المدى في طبيعة البشر من أول عهده ، وبدء وجوده على هذه الكرة من عهد هابيل وقابيل ، مستمرة في جميع الاجيال إلى هذا الجيل ، ومنشأ العداوة وبواعثها غالبا هو التنافس والتعالي والانانية التي تدفع إلى حب الأثرة والغلبة والسيطرة ، والاستيلاء على مال أو جاه ، أو ولاية وإمرة وانكى العداوات العداوات التي تبعث عن ترة وطلب ثار وغسل عار وللتشفى والانتقام ، ولكن اسوأ العداء أثرا ، وأبعده مدى ، والذي يستحيل تحويله ولا يمكن زواله هو عداوة الضدية الذاتية ، والمباينة الجوهرية كعداوة الظلام للنور ، والرذيلة للفضيلة ، والقبح للحسن. والشر للخير وامثال ذا ، فان هذا العداء والتنافر يستحيل من أن يزول إلا بزوال احدهما إذ كل يضاد الآخر في اصل وجوده وطباع ذاته ، وكل واحد يمتنع على الآخر فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فالذوات الشريرة بذاتها وفي جوهرها تضاد الذوات الخيرة وتعاديها ، وكل واحد من هذين المتضادين المتعاندين يجد ويجتهد في ازالة الآخر ومحوه من الوجود كالنور والظلام لا يجتمعان في محل واحد أبدا ، وكل منهما بطباعه يتنافى مع الآخر ويعاديه وكالفضيلة والرذيلة في الانسان ، وعلى هذا الطراز ، ومن هذا النوع عداوة بنى هاشم وبنى ٩
أمية عداوة جوهرية ذاتية يستحيل تحويلها ويمتنع زوالها عداوة الظلام للنور والشر للخير ، والخبيث للطيب ، ويعرف كل واحد منهما بثماره وآثاره ، وقديما قيل : « من ثمارهم تعرفونهم » الشجرة لا تعرف إلا من ثمرها أنها خبيثة أم طيبة ، والانسان لا يعرف خبثه وطيبه إلا من أعماله وملكاته وخصاله.
أولد عبد مناف هاشما ، وعبد شمس ، ونشب العداء بينهما منذ نشا وشبا لا لشيء سوى اختلاف الجوهرين ، وتباين الذاتين ، ثم استشرى الشر واتسعت عدوى العداء بين القبيلين بحكم الوراثة ، وكان لكل واحد من هذا القبيل ضد له من القبيل الآخر ، فعدوه بالنسب ، هاشم وعبد شمس ، وعبد المطلب وأمية ، وأبو طالب وحرب ، ومحمد «ص» وأبو سفيان ، ما اشرقت أول بارقة من اشعة الاسلام ، وما اعلن البشير النذير بدعوة التوحيد إلا وثارت نعرة الشرك والوثنية لطمس أنوار الاحدية وقام بحمل معاول المعارضة والهدم لما يبنيه ، ويتبناه منقذ البشرية من مخالب الوحشية ، قام بها ثالوث الجبت والطاغوت ، أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان ، وكان الثالث زعيم الحزب الأموى أشدهم مناوئة للاسلام ومحاربة له ، نصبوا كل الحبائل ، وتوسلوا بجميع الوسائل لاخفات صوته واخماد ضوئه ، واعملوا كل بأس ، وسطوة في مقاومة تلك الدعوة حتى الجأت جماعة ممن تدين بها فهاجروا إلى الحبشة ، وتحمل النبي واصحابه من الاضطهاد والأذى أكثر من عشر سنين حتى اضطر إلى الجلاء من وطنه ووطن آبائه ، ومركز عزه ، فهاجر إلى يثرب فطارده أبو سفيان وتلاحقه إلى دار هجرته ، وما رفعت راية حرب على الاسلام إلا وبنو أمية وزعيمهم أبو سفيان قائدها ورافعها يلهب نارها ويثير غبارها ويتربص باخماد ذلك ١٠
النور ، الدوائر ، ويهيج نعرة القبائل ، إلى أن فتح الله الفتح المبين وأمكن الله نبيه من جبابرة قريش وملكهم عنوة ، فصاروا عبيدا وملكا بحكم قوانين الحرب ، والاستيلاء على المحاربين ، بالقوة والسلاح ولكنه سلام الله عليه أطلقهم وعفا عنهم ، وقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء واكتفى منهم بظاهر الاسلام واطلاق لسانهم بالشهادتين ، وقلوبهم مماوءة بالكفر والحقد على الاسلام ، يتربصون الفرص لمحو سطوره. وقلع جذوره « ما اسلموا بل استسلموا. ولما وجدوا اعوانا على الاسلام وثبوا » ما تغير شيء من نفسيات أبى سفيان وبنى أميه بعد دخولهم في حظيرة الاسلام قلامة ظفر ، إنما تغير وضع المحاربة ، وكيفية الكفاح والمقاومة ، دخل أبو سفيان ومعاوية في الاسلام ، ليفتكوا في الاسلام ويكيدوا له ، والعدو الداخل أقدر على الكيد والفتك من العدو الخارج وهذه العداوة ذاتية متأصلة ، والذاتي لا يزول وليست هى من تنافس على مال ، أو تزاحم على منصب أو جاه ، بل هى عداوة المبادئ عداوة التضاد الطبيعي ، والتنافر الفطري عداوة الظلام للنور ، والضلال للهدى والباطل للحق والجور للعدل ، ولذا بقى بنو أمية على كفرهم الداخلي ومكرهم الباطني مع عدادهم في المسلمين وتمتعهم بنعم الاسلام وبركاته لكن لم يمس الاسلام شعرة من شعورهم ولا بلّ ريشة من اجنحتهم ، كالبط يعيش طول عمره في الماء ولا يبل الماء ريشة منه ( فيما يقولون ) نعم أقروا باسلامهم حقنا لدمائهم وتربصا لسنوح الفرصة لهدم عروش الاسلام وقواعده ، حتى إذا أدلى من كانت له السلطة بالخلافة إلى أول خليفة منهم طاروا فرحا ، وأعلنوا ببعض ما كانت تكنه صدورهم ، فجمعهم أبو سفيان وقال : « تلقفوها يا بنى أمية ، تلقف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ». ١١
ثم أخذوا زمام الخليفة الأموي بأيديهم ، وصاروا يقودونه « كالجمل الذلول » حيث شاءوا ، فاتخذوا مال المسلمين دولا ، وعباد الله خولا ، وانتفضت بلاد المسلمين من جميع أقطارها عليه وعليهم إلى أن حاصروه في داره ، وضايقوه على أن يخلع نفسه من الخلافة ، ويجعلها شورى بين المسلمين فتقاعس وتصلب أولا ، ثم لما اشتد الحصار عليه وحبسوا عنه حتى الماء والطعام تراخت اعصابه ، ووهنت اطنابه ، وحاول أن يخمد نار الفتنة بخلع نفسه اجابة للثائرين الذين شددوا الحصار فاحس بنو أمية وقيادتهم يومئذ بيد مروان في المدينة ، ومعاوية في الشام ، بأن صاحبهم إذا خلع نفسه فسوف يفلت الحبل من ايديهم ، وقد غلط الدهر أو غلط المسلمون غلطة يستحيل أن يعودوا لمثلها أبدا ، وبأي سابقة ، أو مكرمة لبني أمية أو جهاد في الاسلام يستحقون أن تكون خلافة المسلمين في واحد منهم ، وهم اعداء الاسلام وخصومه في كل موقف من مواقفه ، وفي كل يوم من ايامه ، أدرك كل ذلك مروان ومن معه من حزبه فتواطئوا مع زعيمهم بالشام أن يجهزوا على صاحبهم فيقتلوه قبل أن يخلع نفسه وقبل أن يفلت حبل الحيلة من أيديهم ، نعم يقتلونه ويتخذون قتله ذريعة إلى مطالبة فئة من المسلمين بدمه ، ويتظاهرون لسائر المسلمين بأنه قتل مظلوما ولا بد من الأخذ بثاره فيكون أقوى وسيلة إلى استرجاع الخلافة إليهم ، ولو لا قتل عثمان وقميص عثمان لما صارت الخلافة إلى معاوية ومروان وابناء مروان ، ولكان من المستحيل أن يحلموا بها في يقظة أو منام ولكن جاءت صاحبهم الاول من غير ثمن ، وقد دفعها إليه من قبله دفعا نعم اراد السابق أن يحولها عن بني هاشم إلى خصومهم الألداء بني أمية ففتل حبل الشورى ، وابرمه بحيث تصير الخلافة لا محالة إلى عثمان ، وما اكتفى ١٢
بذلك حتى نفخ روح الطموح إليها في نفس معاوية الطليق ابن الطليق ، وهو وأبوه اكبر الاعداء الألداء للاسلام ، كان كل سنة يحاسب عماله ويصادر أموالهم ، ويعاملهم بأشد الأحوال إلا معاوية ، تتواتر الاخبار لديه بأن معاوية يسرف في صرف أموال المسلمين ويلبس الحرير والديباج فيتغاضى عنه بل يعتذر له ، ويقول : « ذاك كسرى العرب » (١) مع أن معاوية كان من الضعة والفقر والهوان باقصى مكان ، كان من الصعاليك الساقطين في نظر المجتمع حتى أن أحد أشراف العرب وفد على النبي «ص».
ولما أراد الخروج أمر النبي «ص» معاوية أن يشيعه إلى خارج المدينة وكان الحر شديدا والأرض يغلى رملها ويفور ومعاوية حافي القدمين فقال للوافد الذي خرج في تشييعه :
اردفني خلفك.
ـ أنت لا تصلح أن تكون رديف الأشراف والملوك!.
ـ ألا فاعطني نعليك اتقى بهما حرارة الشمس.
ـ أنت احقر من ان تلبس نعلى.
ـ ما أصنع وقد احترقت رجلاى؟
ـ امشى في ظل ناقتي ولا تصلح لأكثر من هذا!!.
__________________
(١) كان عمر يضفى على معاوية ثوب البطولات ، ويخلع عليه النعوت والألقاب ويبالغ في تسديده ، ولا يسمح بانتقاصه ، فقد جاء في الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ( ج ٣ ص ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ) ان قوما ذموا معاوية عند عمر فقال : دعونا من ذم فتى من قريش ، من يضحك في الغضب ولا ينال ما عنده الاعلى الرضا ، ولا يؤخذ ما فوق راسه الا من تحت قدميه. ولا ندرى لما هذا الاطرء على هذا الطليق الذي نظر إليه الرسول «ص» نظرة ريبة وشك في اسلامه. ١٣
تعسا لك يا زمان وأف لك يا دهر هذا الصعلوك النذل صار أو صيروه كسرى العرب!!!.
نعم : معاوية ومروان هما اللذان دبرا الحيلة في قتل عثمان ، ومكنوا الثائرين من قتله ، وقضية الجيش الذي أرسله معاوية من الشام إلى المدينة ووصيته له بأن لا يدخل المدينة حتى يقتل عثمان تشهد لذلك وهي مشهورة
نعم : وقد اعانهم على قتله أيضا احدى زوجات النبي التي كانت تهرج على عثمان وتصرخ في النوادى « اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا » ثم بعد أن امتثلوا أمرها وقتلوه ، ثارت أو أثاروها إلى الطلب بدمه ، وكانت من جراء ذلك واقعة الجمل التي ذهب ضحيتها عشرون الفا من المسلمين ، وفتحت باب الحروب بين أهل القبلة ، وقال أحد شعراء ذلك العصر يخاطبها ويؤنبها
وأنت البلاء وأنت الشقاء
وأنت السحاب وأنت المطر
وأنت أمرت بقتل الامام
وقلت لنا إنه قد كفر
وقال الآخر :
جاءت مع الأشقين في هودج
تزجى إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرة
من جوعها تأكل أولادها
وهذه النكات التي رشح القلم بها هنا وهي من أسرار دقائق التأريخ والتي قلّ من تنبه لها إنما جاءت عفوا ، وما كانت من القصد في شيء ، إنما المقصود بالبيان ان معاوية وأبا سفيان لما بهرهما الاسلام وقهرهما على الدخول فيه حفظا لحوبائهما (١) من التلف ، أظهرا الاسلام صورة واضمرا الكيد والفتك به سريرة ، وبقيا يتربصان فكلما سنحت فرصة لذلك ظهرت ركيزتهم في اقوالهم وفي اعمالهم.
__________________
(١) حوبائهما : تثنية حوباء وهي النفس تجمع على حوباوات. ١٤
وكان معاوية أدهى من أبيه الذي كبر وخرف في آخر عمره ومن دهائه وعزمه كان يحتفظ بصورة الاسلام مدة إمرته بالشام عشرين سنة فلا يصطدم بشعيرة من شعائره ، ولا يتطاول إلى اعتراض قاعدة من قواعده فلا يتجاهر بشرب الخمر والاغاني ، ولا يقتل النفس المحرمة ولا يلعب بالفهود ، ولا يضرب على المزمار والعود ، نعم : قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهب ولا بأس بذلك فانه « كسرى العرب » وما احتفظ بشعائر الاسلام إلا لحاجة في نفس يعقوب ، ومن باب الهدوء قبل العاصفة والمشى رويدا لأخذ الصيد.
بقى على ظاهر الايمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لامير المؤمنين في صفين ، فلما استشهد سلام الله عليه ، تنفس الصعداء ، وغمرته المسرة وامكنته الفرصة من اللعب على الحبل وتدبير الحيل ، ولكن بعد أن بويع الحسن «ع» والتف عليه الأبطال من أصحاب أبيه. وشيعته ومواليه ، ومنهم الرءوس ، والضروس ، والانياب ، والعديد ، والعدة ، والسلاح ، والكراع ، فوجد أنه وقع في هوة أضيق وأعمق من الأولى ، فان الحسن سبط رسول الله ، وابن بنته ، وريحانته ، وهو لوداعته ، وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ أحدا مدة عمره ، بل كان كله خير وبركة ، ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان ، بل قد يقال إنه كان من الذابين عنه فكيف يقاس معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول الله «ص» إلى ابن هند آكلة الأكباد ، اقلق معاوية ، وأقضّ مضجعه التفكير بهذه النقاط المركزة التي لا مجال فيها للنقاش والجدال ، ولكن سرعان ما اهتدى بدهائه ومكره إلى حل عقدتها وكشف كربتها ، فلجأ إلى عاملين قويين ، « أولهما » المال الذي يلوى اعناق الرجال ، ويسيل في لعبه ١٥
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:38 pm | |
|
لعاب الأبطال ، وبعث إلى اعظم قائد من قادة جيش الحسن الذين بايعوه على الموت دونه ، وأمسهم رحما به وهو عبيد الله بن العباس الذي جعله أميرا حتى على قيس بن سعد بن عبادة ذلك الزعيم العظيم الفارس المغوار المتفاني اخلاصا في حب الحسن وأبيه ، نعم : بعث إليه معاوية باكثر من خمسين الفا ، ووعده عند مجيئه إليه بمثلها ، فانسل إلى معاوية في جنح الظلام ، وأصبح الناس ولا أمير لهم فصلى بهم قيس ، وهوّن عليهم ، هذه الفادحة التي أوهت عزيمة الجيش ، وهيئتهم للهزيمة ، قبل النضال ، وقل ساعد الله قلبك يا أبا محمد كيف تحملت هذه الرزايا التي أقبلت عليك متتابعة كقطع الليل ، وصار معاوية يعمل بهذه الخطة مع كل بارز من الشيعة ورجالهم وأبطالهم فاستمالهم إليه جميعا ، ولم يستعص عليه ويسلم من مكره وحبائله إلا عدد قليل لا يتجاوز العشرة كقيس بن سعد ، وحجر بن عدى وأمثالهم ممن ناطحوا صخرة الظلم والضلال براسخ إيمانهم ، وما اختلجهم الشك في كفر معاوية وأبيه وبنيه ، طرفة عين ، وكان قيس « أقسم بالله أن لا يلقى معاوية إلا وبينهما الرمح أو السيف » في قضية معروفة ، هذا أول تدبير أتخذه معاوية للغلبة على الحسن ، واستبداده بالأمر واغتصاب الخلافة منه « الثاني » وهي حيلة تأثيرها أشد من الأولى استطابها السواد الأعظم وانجرف إليها الرأي العام تلك دعوى معاوية الحسن إلى الصلح (١) نعم : أشد ما فتّ في عضد الحسن طلب معاوية الصلح ، فقد كانت أفتك غيلة ، وأهلك حيلة لأن المال كان يستميل به معاوية عيون الرجال ، والخواص منهم ، اما العامة فلا ينالهم منه شيء ولكن الناس
__________________
(١) وهي تضارع خديعته في رفع المصاحف التي استطابها الجيش العراقي فلم يقرر حق مصيره بعد ما أشرف على الفتح والظفر. ١٦
كانوا قد عضتهم أنياب الحروب حتى أبادت خيارهم ، وأخربت ديارهم في أقل من خمس سنين ثلاثة حروب ضروس : الجمل ، وصفين ، والنهروان فاصبحت الدعوة الى الحرب ثقيلة وبيلة ، والدعوة إلى الصلح والراحة لذيذة مقبولة ، وهنا تأزمت ظروفه سلام الله عليه وحاسب الموقف حسابا دقيقا ، حساب الناظر المتدبر في العواقب ، فوضع الرفض والقبول في كفتى الميزان ليرى لأيهما الرجحان ، فوجد أنه لو رفض الصلح وأصر على الحرب ، فلا يخلو أما أن يكون هو الغالب ، ومعاوية المغلوب وهذا وإن كانت تلك الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل ، ولكن فليكن بالفرض هو الواقع ، ولكن هل مغبة ذلك إلا تظلم الناس لبني أمية ، وظهورهم باوجع مظاهر المظلومية ، بالامس قتلوا عثمان عين الامويين ، وامير المؤمنين « كما يقولون » واليوم يقتلون معاوية عين الأمويين ، وخال المؤمنين ( يا لها من رزية ) ويتهيأ لبني أمية قميص ثانى فيرفعون قميص عثمان مع قميص معاوية ، والناس رعاع ينعقون مع كل ناعق لا تفكير ولا تدبر ، فما ذا يكون موقف الحسن إذا؟ لو افترضناه ، هو « الغالب ».
أما لو كان هو « المغلوب » فاول كلمة تقال من كل متكلم إن الحسن هو الذي القى نفسه بالتهلكة ، فان معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فابى وبغى ، وعلى الباغي تدور الدوائر ، وحينئذ يتم لمعاوية وأبى سفيان ما أرادا من الكيد للاسلام وارجاع الناس الى جاهليتهم الأولى وعبادة اللات والعزى ، ولا يبقي معاوية من أهل البيت نافخ ضرمة ، بل كان نظر الحسن «ع» فى قبول الصلح أدق من هذا وذاك ، أراد أن يفتك به ويظهر خبيئة حاله ، وما ستره في قرارة نفسه قبل أن يكون غالبا أو مغلوبا ، وبدون أن يزج الناس في حرب ، ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء. ١٧
فقد ذكرنا أن معاوية المسلم ظاهرا العدو للاسلام حقيقة ، وواقعا كان لوجود المزاحم يخدع الناس بغشاء رقيق من التزمت في ارتكاب الكبائر والموبقات ، وما ينطوى عليه من معاداة الاسلام وتصميم العزيمة على قلع جذوره واطفاء نوره ، يتكتم بكل ذلك خوفا من رغبة الناس إلى الحسن وأبيه من قبل فاراد الحسن أن يخلى له الميدان ، ويسلم له الأمر ويرفع الخصومة ، حتى يظهر ما يبطن ، ويبوح بكفره ، ويعلن ويرفع عن وجهه ذلك الغشاء الصفيق ويعرف الناس حقيقة أمره ، وكامن سره ، وهكذا فعل ، وفور إبرام الصلح صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين ، وقال :
« إني ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد اعطيت الحسن شروطا كلها تحت قدمي. »
أنظر الى القحة والصلف وعدم الحياء وضيق الوعاء وصفاقة الوجه ، أما وأيم الله إنه لو لم يكن لقبول الصلح الا ظهور هذه الكلمات من معاوية لكفى بها دليلا على افتضاح معاوية ، ومعرفة الناس بكفره ، فما ظنك به وقد استمر على هذه الخطة الكافرة ، والخطيئة السافرة ، والتحدى للاسلام وهدم قواعده جهارا.
لو لا صلح الحسن لما استلحق معاوية زيادا بأبى سفيان ، وهو ولده من الزنا ، فضرب قول رسول الله «ص» « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ضربها بالحجر وبعرض الجدار بلا خيفة ، ولا حذر.
لو لا الصلح لما قتل حجر بن عدي سيد الأوابين ، وعشرة من أعلام خيار الصحابة والتابعين ، قتلهم بمرج عذراء صبرا ، من دون أى سبب مبرر
لو لا الصلح لما قتل معاوية الصحابي الجليل عمرو بن الحمق ، وحمل رأسه الى الشام ، وهو أول رأس حمل في الاسلام.
لو لا الصلح لما سقى معاوية الحسن السم على يد جعيدة بنت الاشعث ١٨
لو لا الصلح لما أجبر معاوية البقية الصالحة من أولاد المهاجرين والانصار على أخذ البيعة ليزيد ، وحاله في الفسق والفجور مشهور إلى كثير من أمثال هذه المخازى ، والفظائع التي لا يبلغها الاحصاء. ولكن تأمل مليا وأنظر من الغالب ومن المغلوب.
انظر ما صنع الحسن بمعاوية في صلحه وكيف هدّ جميع مساعيه وهدم كل مبانيه حتى ظهر الحق وزهق الباطل ، وخسر هنالك المبطلون فكان الصلح في تلك الظروف هو الواجب والمتعين على الحسن ، كما أن المحاربة والثورة على يزيد في تلك الظروف كان هو الواجب والمتعين على أخيه الحسين ، كل ذلك للتفاوت بين الزمانين ، والاختلاف بين الرجلين
ولو لا صلح الحسن الذي فضح معاوية ، وشهادة الحسين التي قضت على يزيد ، وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت.
لو لا تضحية هذين السبطين لذهبت جهود جدهما بطرفة عين ، ولصار الدين دين آل أبي سفيان دين الغدر والمكر ، دين الفسق والفجور ، دين الحانات والخمور ، دين العهار ، دين الفهود والقرود ، دين إبادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين.
فجزا كما الله يا سيدى شباب الجنة ويا سبطي رسول الله ، جزا كما الله عن الاسلام وأهله أفضل الجزاء ، فو الله ما عبد الله عابد ولا وحده موحد. وما حقت فريضة ولا أقيمت سنة ولا ساغت في الاسلام شريعة ولا زاغت من الضلال إلى الهدى أمة إلا ولكما بعد الله ورسوله الفضل والمنة والحجة البالغة والمحجة.
جاء رسول الله بالهدى والنور والخير والبركة للانسانية أجمع من غير لون ولون وعنصر وآخر وأمة دون أمة وقوم سوى آخرين جاء بالاسلام والنور المبين فشيّد قواعده وأحكمه وأقومه وأكمله وأتمه ولم يترك فيه أى ١٩
نقص وأى عوج وجاء أبو سفيان والشجرة الملعونة في القرآن معاوية ويزيد ومروان فحملوا معاول الكفر والشرك وتحاملوا على تلك الأسس والقواعد يقلعون جذورها ويخمدون نورها « يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون » فوقف السبطان بما لهما من قوة وسلطان سدا منيعا دون ذلك البنيان ، وما تم لهما ما أرادا من حفظ شريعة جدهما إلا بالتضحية العظمى بانفسهم وأموالهم ورجالهم وأطفالهم وبكل ما في دنيا النعمة والنعيم والعيش الوسيم ، بذلوا كل ذلك في سبيل الله ولحفظ دين الله ، ولو لا هذه التضحية وتلك المفادات لأصبح دين الاسلام أسطورة من الاساطير لا تجده إلا في الكتاب والقماطير يذكره التأريخ كما يذكر الحوادث العابرة والأمم المنقرضة.
« سبحان الله والله أكبر ولله الحمد » من هنا تعرف ويجب أن تعرف السر في حفاوة المنقذ الأعظم تلك الحفاوة البليغة والتعظيم الخارج عن نطاق العرف والمعتاد بل وعن رواق التعقل والسداد ذلك النبي العظيم والشخصية الحبيبة إلى المبدء الاعظم التي ملأها هيبة وعظمة ووقارا ، والذي لا تهزه العواصف ولا تستميله العواطف ولا خامره في لحظة من عمره العبث واللهو واللعب الذي كانت غريزته التي فطر عليها قوله : « ما أنا من دد ولا الددمني » والذي كان من الوقار والهيبة والاتزان ربما يدخل عليه الرجل الذي مار آه من ذى قبل فترتعد فرائصه من هيبته فيقول له النبي : « لا تفزع فاني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » حذرا من أن يقول المسلمون فيه ما قالت النصارى في المسيح ، هذا الطود العظيم ، يحمل الحسن والحسين وهما طفلان على كتفيه ، ويمشي بهما وهما على متنيه في ملأ من المسلمين رافعا صوته ليسمعوا « نعم الجمل جملكما ، ونعم الراكبان أنتما » ثم يأتي الحسين وهو غلام فيعلو على ظهر النبي والنبي ساجد فلا يرفع رأسه حتى ينزل ٢٠
الحسين حسب إرادته ، النبي يخطب والحسين يدرج في المسجد فيعثر فيقطع النبي خطبته ، ويعدو إليه ويحتضنه ويقول : « قاتل الله الشيطان ، الولد فتنة لما عثر ولدى هذا أحسست أن قلبي قد سقط مني » الى كثير من أمثال هذا مما صدر عنه سلام الله عليه في ولديه مما لست بصدد احصائه وجمعه ، ولكن أقول : إن هذا الشغف ، والحب اللامتناهي ليس لكونهما ابني بنته فحسب فان هذه النسبة لا تستوجب كل هذا العطف الخارق لسياج العرف والعادة ، ولكن لا شك ان هناك أسرارا وأسبابا هي أدق وأعمق ، أسرار روحية هي فوق هذه الوشائج الجسمية ، فهل ترى معى أن رسول الله (ص) لعله ارتفع عن أفق الزمان : وأشرف بروحيته المقدسة من نافذة الدهر ، وأطل على صحيفة التكوين من ألّفه إلى يائه ، فنظر الى الماضي والحاضر والآتى نظرة واحدة ، رأى الحوادث الآتية ممثلة بعينها في صحيفة الوجود لا بصورها على شاشة التمثيل ، رأى ما كابد ولداه من الدفاع عن دينه ، والحماية لشريعته والتضحية بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم ارخصوا في المفادات كل غال وعزيز ، تجرع الحسن السم من معاوية مرارا حتى قضى بالمرة الأخيرة التي تقيا بها كبده قطعة قطعة ، ثم ضرب الحسين المثل الأعلى في التضحية والمفادات لحفظ شريعة جده ، فاستقبل السيوف والرماح والسهام وجعل صدره ونحره ورأسه ورئته ، وقاية عن المعاول التي اتخذها بنو أمية لهدم الاسلام ، وقلعه من اساسه ، ونصب نفسه وأولاده وانصاره ، الغر الميامين هدفا وشبحا لوقاية الاسلام من أن تنهار دعائمه ، وتنهد قواعده وقوائمه ، بهجمات الأمويين عليه ، حتى سلم الاسلام واشرقت أنواره ، وعلمت أسراره ، وهلك الكافرون وخسر هنالك المبطلون ، وكانت كلمة الله العليا ، وكلمة اعدائه السفلى ، وكل مسلم من أول اسلام الناس إلى اليوم بل وإلى يوم القيامة مدين ورهين بالشكر والمنة لهذين الامامين ، ولو لا ٢١
تضحيتهما التي ما حدث التأريخ بمثلها أبدا ، نعم لو لا تلك التضحية لعاد الناس بمساعي الأمويين الى جاهليتهم الأولى بل اتعس إذا ، فهل تستغرب من النبيّ (ص) تلك الحفاوة والتعظيم لهما وهما طفلان صغيران ، وقد عرف بل رأى بعين بصره تلك الحوادث الفجيعة ، وذلك الكفاح المرير من أجله وفي سبيله ، وكان يشمهما ويضمهما ويقول : « هما ولداى وريحانتاى » وباليقين انه كان يتنسم منهما العبق الربوبي ، ويتوسم بهما الألق الالهي وبهذا نعرف ويجب ان نعرف أن الحسن والحسين ، نور واحد لا يفضل احدهما على الآخر قدر عرض شعرة كل واحد منهما قد قام بواجبه ، وأدى رسالته وعمل بالمنهاج المقرر له من جده وأبيه ، والصك الذي تسلمه في أول يوم من إمامته ، إذا أردت التوسع في معرفة عظمة الحسن سلام الله عليه وشجاعته ، وبسالته ، وقوة قلبه ، وشدة عارضته ، وبليغ حجته ، وعدم أكتراثه بزخارف الملك ، وأبهة السلطان ، فانظر الى كلماته واحتجاجاته في مجلس معاوية مع رءوس المنافقين ، وضروس الكفرة الملحدين الذين كان معاوية يحرش بينهم وبين الحسن ليضحك على ذقونهم ، كابن العاص وابن شعبة ومروان ونظرائهم من زبانية جهنم الذين ما آمنوا بالله طرف عين ، انظرها واعجب بها ما شئت هناك تتمثل لك العظمة في أوج رفعتها وتتصور لك البسالة في موج لجتها ، وإن شئت المزيد فانظر الى كلماته في ساعة الموت ، ويوم انطلاقه من هذا السجن ، الكلمات التي قالها لأخيه محمد بن الحنفية فى حق أخيه الحسين ، هنالك تنفتح لك أغلاق أسرار الامامة ، ويتضح لديك إشراق أنوار النبوة والزعامة ، وتعرف المرعوية النبوية ، والولاية الكلية ، هنالك الولاية لله « والنبيّ أولى بالمؤمنين من انفسهم » ( ومن كنت مولاه فعلى مولاه ) « وإنما وليكم الله ورسوله » الآية
وقد زحف القلم ، وخرج عن المحدد ، واشتمر عن قصد الجادة ٢٢
وجادة القصد ، إنما القصارى التي أردتها من كلمتى هذه ان العداوة بين بنى هاشم وبنى أميّة ذاتية متأصلة هى عداوة الهدى للضلال ، والنور للظلام ويشهد لذلك انك لو استعرضت سيرة بنى أميّة من اولهم من عبد شمس إلى آخرهم مروان الحمار لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا الغدر والمكر ونكث العهود ، والفسق والفجور ، والعهر والخنا وانباء الزنا إلى كل ما يتحمله لفظ الرذيلة من المعاني.
وإذا استعرضت سيرة بنى هاشم من أولهم ليومنا هذا لم تجد في صحيفة الكثير بل الأكثر منهم إلا كلما يتحمله لفظ الفضيلة من الوفاء والصدق والشجاعة والعفة ، وطهارة المولد ، وشرف النفس وعلو الهمة ، والتضحية في سبيل المبدأ ، وما الى ذلك من كرم الأخلاق ، وطهارة الأعراق ، وهب أن هناك من يعذر بنى أميّة في عداوتهم لبني هاشم ويقول : إنهم اتخذوها ذريعة ووسيلة الى الملك والسلطان ، ولكن ما عذر الموالين لبني أميّة في هذا العصر ما عذر الأموية الحديثة ، التي لا تنال بذلك حظا من حظوظ الدنيا ولا نصيبا في الآخرة.
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ).
والحمد لله الذي فقأ عيني الكفر والنفاق ، وأقر عينى الاسلام والإيمان بالحسن والحسين ، والعترة الطاهرة ، ونسأله تعالى كما منّ علينا بمعرفتهم وولايتهم أن يحشرنا في زمرتهم ، ويكرمنا بشفاعتهم والبراءة من اعدائهم وعداوتهم :
أو إليكم ما دجت مزنة
وما اصطخب الرعد أو جلجلا
وأبرأ ممن يعاديكم
فان البراءة شرط الولا
٢٣
وحقا إن الزكى أبا محمد سلام الله عليه في المدة القصيرة التي عاشها بعد ابيه تحمل من الرزايا والمحن ما لم يحتملها نبي ، وما هي بأقل من المصائب التي جرت على أخيه أبي عبد الله «ع» يوم الطف ، فان النكبة الأليمة ، والضربة الأثيمة في الأخوين واحدة وإن اختلفت الأشكال والأساليب ، وكما أن الحسين قابل رزاياه بالصبر الذي عجبت منه ملائكة السماوات ، فكذلك الحسن قاتل عدوه ، وقابل الامة وارزائه بصبر عجيب. وصدر رحيب ما هان يوما ولا لان ، ولا تضرع ولا استكان ، وما أخذ من امواله التي اغتصبها معاوية منه وصارت العوبة بايدى بنى أميّة ، ما أخذ واحدا من آلاف بل من مئات الآلاف وكما لا مساغ للتفاضل بين هذين النيرين ، كذلك لا يصح القول بأن صبر الحسن دون صبر الحسين ، أو ان مصيبته اهون المصيبتين ، فسلام الله عليكما يا إمامى الهدى وسليلى على والزهراء ما ازهرت الفضيلة واكفهرت الرذيلة.
واختم كلمتي بابيات من خاتمة قصيدة رثاء لسيد الشهداء نظمتها منذ مدة تزيد على خمسين سنة استهلها :
حذوا الماء من عيني والنار من قلبي
ولا تحملوا للبرق منا ولا السحب
واختها :
بنى الشرف الوضاح والحسب الذي
تناهي فاضحى قاب قوسين للرب
لئن عدت الأحساب للفخر اوغدت
تطاول بالأنساب سيارة الشهب
فما نسبي إلا انتسابي إليكم
وما حسبي إلا بأنكم حسبى
حرر هذه الكلمة بانامله الرقيمة ، واقلامه السقيمة مرتجلا مترسلا في بضع سويعات آخرها يوم الحادي والعشرين من شهر رمضان يوم وفاة سيد الوصيين وإمام الصديقين امير المؤمنين عليه آلاف السلام والتحية سنة ١٣٧٣ هـ
محمد الحسين آل كاشف الغطاء
بمدرسة العلمية بالنجف الاشرف ٢٤
البيعة ٢٥ ٢٦
واعتنى الاسلام بالخلافة (١) اعتناء بالغا فأناط بها المسئوليات الضخمة فجلها مسئولة عن نهضة المسلمين وتطوهم وانطلاقهم في ميادين العلم ، وتوجيههم نحو الخير وابعادهم عن مسالك الضلال والفساد ، والعمل على ايجاد الوسائل السليمة لأسباب قوتهم ورخائهم ، كما أوكل إليها حراسة الدين والحفاظ على شئونه ، وصيانة مثله فهي المحور الذي تدور عليه سياسته وسائر شئونه.
إن حقيقة الاسلام وفكرته شاملة لجميع المناحي الدينية والسياسية فقد الف بينهما وحدة متسقة وجعلهما كلا لا يتجزأ ، وقد ادرك هذه الحقيقة جمهور كبير من علماء المستشرقين يقول بعضهم :
( إن الاسلام ليس ظاهرة دينية فقط ، وانما اتى بنظام سياسي ذلك ان مؤسسه كان نبيا وكان حاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم. )
وقال جيت : ( ان الاسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية ، وانما استوجب اقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وانظمته الخاصة به. ) (٢)
إن الخلافة ترتبط بالاسلام ارتباطا وثيقا فهي جزء من برامجه وفصل من فصوله فلا بد من اقامتها على مسرح الحياة يقول الشيخ محمد عبده :
( الاسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ، ورسم حقوقا وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله فقد يغلب الهوى وتتحكم
__________________
(١) الخلافة : في الاصل مصدر خلف ، يقال : خلفه في قومه خلافة فهو خليفة ، ومنه قوله تعالى : « وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى في قومى » ثم أطلقت في العرف على الزعامة العظمى وهي الولاية العامة على كافة الأمة ، والقيام بأمورها والنهوض بأعبائها.
(٢) النظام السياسي فى الاسلام : ص ١٥. ٢٧
الشهوة فيغمط الحق ، ويتعدى المعتدي الحد فلا تكمل الحكمة إلا إذا وجدت قوة لاقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي وصون نظام الجماعة. ) (١)
إن الاسلام جاء بمجموعة كاملة من النظم والقوانين تهدف إلى تنظيم الحياة وصيانة الحقوق والقضاء على الغبن والظلم ، وبسط الأمن والعدل فى البلاد ، ومن الطبيعي انها تحتاج إلى قوة ودولة لتقوم بحمايتها وتطبيقها على واقع الحياة.
أما من يتولى قيادة الحكم وإدارة شئون البلاد فقد تحدث الامام أمير المؤمنين (ع) عما يعتبر فيه من الصفات بقوله :
( وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالى على الفروج ، والدماء ، والمغانم ، والاحكام وإمامة ، المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته (٢) ولا الجاهل فيضلهم بجهله ، ولا الجافى فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول (٣) فيتخذ قوما دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ، ويقف فيها دون المقاطع (٤) ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة ... ) (٥)
إن من يلى امور المسلمين ويتولى ادارة شئونهم ـ فى نظر الامام ـ
__________________
(١) الاسلام والنصرانية : ص ٦٥.
(٢) النهمة : ـ بالفتح ـ الافراط فى الشهوة ، المبالغة فى الحرص.
(٣) الحائف : من الحيف : الجور والظلم ، والدول : جمع دولة ـ بالضم ـ وهو المال لأنه يتداول به وينتقل من يد إلى يد ، وفى التنزيل ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) والمراد من كلامه (ع) ان الوالى ليس له أن يحيف فى الأموال بأن يفضل قوما على قوم فى العطاء من دون سبب موجب لذلك.
(٤) المقاطع : الحدود التي عينها الله لها.
(٥) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ١٩. ٢٨
لا بد أن يكون ندي الكف بعيدا عن البخل عالما بما تحتاج إليه الامة غير حائف للدول ، ولا مرتشي فى اعماله ، ولا معطل لحدود الله وسنة نبيه فانه اذا تجرد من هذه الصفات واجهت الأمة ـ فى عهده ـ سيلا عارما من المحن وتعرضت البلاد للازمات والنكبات.
وأعرب الذكر الحكيم فى قصة ابراهيم (ع) عمن يستحق الامامة من ذريته قال تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) وذكر المفسرون أن المراد بالعهد هو الامامة والإمامة هى الخلافة (٢) فلا ينالها من تلبس بالظلم فى أي مرحلة من حياته (٣) سواء أكان الظلم للنفس (٤) أو للغير فانه لا يمنح بذلك اللطف.
لقد اهتم الاسلام اهتماما كثيرا فيمن يلى امور المسلمين فالزم ان يكون مثالا للعدل وعنوانا للحق ورمزا للعدل والفضائل ليرعى مصالح الأمة ويحقق فى ربوعها جميع ما تصبوا إليه من العزة والكرامة ولم نتوفر الصفات الرفيعة التي يتطلبها الاسلام فى القيادة الرشيدة إلا فى أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والذين قرنهم النبي (ص)
__________________
(١) سورة البقرة : آية ١٢٤.
(٢) مجمع البيان ١ / ٢. ٢ ط صيدا.
(٣) هذا مبني على ما ذهب إليه بعض علماء الاصول فى بحوث المشتق من أنه حقيقة فى الأعم ممن تلبس بالمبدإ ومن انقضى عنه.
(٤) الظلم للنفس : كالسجود للاصنام وغير ذلك من الاخلاق الذميمة ، وقد استدل علماء الشيعة بالآية الشريفة على أحقية أمير المؤمنين بالخلافة دون غيره لأنه لم يظلم نفسه بالسجود للاصنام التي سجد لها غيره من الصحابة قبل بزوغ نور الاسلام. ٢٩
بكتاب الله العزيز ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ وجعلهم سفنا للنجاة وأمنا للعباد ، ومن الطبيعي أن ذلك لم يكن ناشئا إلا عن مدى أهميتهم ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين (ع) عما مثل فيهم من الصفات والنزعات بقوله :
« هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه هم دعائم الاسلام ، وولائج الاعتصام (١) بهم عاد الحق فى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية (٢) لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل ... » (٣)
وبالاضافة الى هذه القابليات والمواهب التي يتمتعون بها فان النبي (ص) نصّ على اختصاص الخلافة فيهم وانهم أحق بالأمر من غيرهم ، وقد تواترت النصوص (٤) الواردة منه بذلك كقوله :
« لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة .. كلهم من قريش ».
وقال (ص) : « يكون بعدي اثنا عشر أميرا. وقال : كلهم من قريش .. »
__________________
(١) الولائج : جمع وليجة ، وهي المحل الذي يعتصم فيه من المطر والبرد.
(٢) عقل الوعاية : الحفظ في فهم ، الرعاية : ملاحظة تعاليم الدين وتطبيق العمل عليها أما السماع والرواية من درن فهم وعمل فمنزلتهما منزلة الجهل.
(٣) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ٢٥٩.
(٤) التواتر : الاستفاضة في نقل الخبر بحيث يؤدي الى القطع بصدقه وذلك فيما إذا أحال العقل تواطؤ المخبرين على الكذب ، ولذا كان الخبر المتواتر من أهم الأسباب المؤدية الى القطع بالأشياء. ٣٠
الى غير ذلك من الأحاديث الدالة بصراحتها وحصرها على اختصاص الخلافة فيهم ، وانهم سفن النجاة وهداة العباد.
ومن الأئمة الطاهرين الاثنى عشر الذين أقامهم الرسول (ص) خلفاء من بعده وأمناء على تبليغ رسالته الامام الحسن ريحانته وسبطه الأكبر فقد نصبه اماما على أمته وقال فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين امامان إن قاما وإن قعدا ». ونص على امامته الامام أمير المؤمنين (ع) وأقامه علما من بعده ، بعد أن اغتاله ابن ملجم ، وقد فزع إليه المسلمون بعد موت أمير المؤمنين وأجمعوا على مبايعته ، فقد اجتمعوا في جامع الكوفة سنة أربعين من الهجرة في صبيحة احدى وعشرين من شهر رمضان المبارك ، وأقبل عليهالسلام وقد احتفت به البقية الباقية من صالحاء المهاجرين والأنصار فاعتلى منصة الخطابة فابتدأ ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ بتأبين فقيد العدالة الكبرى الامام أمير المؤمنين وتعداد بعض فضائله ومواهبه فقال :
« لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولم يدركه الآخرون بعمل ، لقد كان يجاهد مع رسول الله (ص) فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله (ص) يوجهه برايته فيكنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ، ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم (ع) وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى (ع) وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ».
وتمثلت صورة أبيه أمامه فخنقته العبرة وأرسل ما في عينيه من دموع وكذلك بكى جميع من حضر في جنبات الحفل ، وساد الحزن وعم الأسى ثم استأنف الامام خطابه فأعرب للناس سمو مكانته وما يتمتع به من الشرف
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:40 pm | |
|
والمجد قائلا :
« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن الوصي ، وأنا ابن البشير النذير ، وأنا ابن الداعي الى الله باذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذي كان جبرئيل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأنا من أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه (ص) : « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، ومن يقترف حسنة نزد له منها حسنا » فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ».
وحفل خطابه البليغ بما يلي :
١ ـ انه عرف الناس بجهاد ابيه وعظيم بلائه في الإسلام ووقايته لرسول الله (ص) بنفسه في جميع المواقف والمشاهد وقد أبّنه بكلمة تمثلت فيها بلاغة الاعجاز وروعة الايجاز وهي قوله : « فهو لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل » ومن كان لم يسبقه الأولون ولم يدركه الآخرون كان أعظم شخصية بزت جميع المصلحين والعظماء في جميع مراحل التاريخ وحقا انه كذلك ، فليس في جميع فترات الزمن وآناته قديما وحديثا أحد فاق الامام أو يفوقه في مثله وأعماله وجهاده وذبه عن حظيرة الإسلام.
٢ ـ وأبان (ع) في خطابه الرائع قداسة الليلة التي رحل فيها أبوه الى جنان الخلد. فلقد عرج فيها الى السماء المسيح عيسى بن مريم (ع) ورحل فيها إلى جواره تعالى يوشع بن نون وصي موسى (ع). وفي هذه الليلة العظيمة انتقل الى جوار الله سيد الأوصياء ، وعميد الأتقياء ، وحامى ٣٢
حوزة الإسلام الامام علي (ع) فهي ـ بحق ـ أشرف الليالي وأسماها عند الله.
٣ ـ وأعرب (ع) لذلك الحفل الحاشد زهد أبيه وعدم اعتنائه بدنياه فلقد رحل عنها ولم يخلف من حطامها شيئا ، وقد كان في استطاعته أن يسكن أفخم القصور ، ويلبس الحرير والديباج ، ويأكل ما لذّ من الطعام ويتخذ العبيد والاماء ولكنه ترك كل ذلك رغبة فيما أعد الله له فى دار البقاء من النعيم والكرامة والسعادة ، وما أفاض عليه في هذه الدنيا من خلود الاسم والثناء العاطر والذكر الحسن المقرون بالاكبار والتقديس عند الناس جميعا!! لقد وافى الامام عليا الأجل المحتوم وما خلف سوى ثمالة من المال يتركها أقل البائسين والضعفاء ، وهو سلطان المسلمين وزعيمهم ، تجبى له الأموال الطائلة من شتى الأقطار الإسلامية ولكنه (ع) أبى أن يأخذ منها شيئا.
٤ ـ وتضمن خطابه (ع) دعوة الناس إلى مبايعته ، وقد كانت دعواه رائعة بكل ما للروعة من معنى ، فلقد عرّف نفسه إلى الجماهير بأنه ابن الداعي إلى الله ، وابن السراج المنير ، وانه ممن أذهب الله عنهم الرجس والأباطيل ، وهل هناك أحد أحق بالخلافة من شخص التقت به هذه الكمالات ، واجتمعت فيه هذه الفضائل.
ولما انهى (ع) خطابه الذي لم يرو التأريخ الا شطرا منه انبرى عبيد الله بن العباس فحفز المسلمين إلى المبادرة لمبايعته قائلا :
( معاشر الناس هذا ابن نبيكم ، ووصي إمامكم فبايعوه ).
واستجاب الناس لهذه الدعوة المباركة فهتفوا بالطاعة ، واعلنوا الرضا والانقياد قائلين : ٣٣
( ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ) (١).
وانثالوا على الامام يبايعونه وهم ( إنما يبايعون الله ورسوله )
وأول من بايعه المؤمن الثائر والحازم اليقظ الزعيم قيس بن سعد الأنصاري فقال له بنبرات تقطر حماسا وشوقا إلى حرب اعداء الله وخصوم الاسلام :
( ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين ).
وثقل على الامام أن يعزب عن قيس من أن العمل على كتاب الله وسنة نبيه والسير على أضوائهما يغني عن اشتراط قتال المحلين لأن فيهما تبيانا لكل شيء ، فقال له بلطف ولين :
( على كتاب الله ، وسنة نبيه ، فانهما يأتيان على كل شرط ) (٢)
وذكر ابن قتيبة أن الامام كلما قصدته كوكبة من الناس لتبايعه يلتفت إليها قائلا :
( تبايعون لى على السمع والطاعة ، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت ).
ولما سمعوا هذا الشرط احجموا عن البيعة (٣) وأمسكوا أيديهم عنها ،
__________________
(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٤ ، الارشاد ص ١٦٧.
(٢) تأريخ ابن الأثير ج ٣ ص ١٧٤ ، تأريخ ابن خالدون ج ٢ ص ١٨٦.
(٣) البيعة : هى العهد على الطاعة لأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له أمر النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه على ذلك ... ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر ... وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم فى يده تأكيدا للعهد فاشبه ذلك كلا من البائع والمشتري ... فسمي بيعة ذكر ذلك ابن خالدون في مقدمته ص ١٩٧ ، والبيعة نوع من العقد الاجتماعي الذي ذكره ( جان جاك روسو )ـ ٣٤
وقبض الحسن يده ، فانثالوا نحو الحسين ، وهم يهتقون :
( ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك ، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام ).
فردعهم الحسين قائلا :
( معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا ).
وبعد ما رفض الحسين (ع) طلبهم أقبلوا نحو الحسن فبايعوه وهم مكرهون (١) وهذا القول بعيد فانه يدل على رغبة الامام في السلم فى أول الأمر وهو مناف لمواقفه العديدة فى إمضائه للحرب وعدم رغبته فى الموادعة والمسالمة مع خصمه كما ـ سنذكره بالتفصيل ـ ولو سلمنا صحة ذلك فانما كان مع الخوارج الذين يريدون خلق الاضطرابات والشغب في المجتمع العراقي واذاعة الخوف والارهاب بينهم بعزم الامام على الحرب ويدل على ذلك إحجامهم عن البيعة فى أول الأمر وذلك يكشف عن اضطراب نفوسهم وعدم ثقتهم وايمانهم بالخليفة الجديد ، وهذا مما عرفت به الخوارج وأما شيعته وأصحابه وخواصه فان نفوسهم قد ملئت ايمانا وثقة وحبا واخلاصا له.
ومهما يكن من شي ، فان هذا الحديث كما كان يتضمن السلم كذلك يتضمن إمضاء الحرب والتصميم عليه ، فهو جامع بين الأمرين السلم لمن دخل في الطاعة والحرب لمن خرج عنها سواء أكانوا من الخوارج أم من أهل الشام ولكن
__________________
ـ وتقوم هذه النظرية على اساس ان الاجتماع الذي يقع بين الناس في صورة شعب أو أمة انما يقوم على تعاقد بين الافراد ... فكل فرد قد دخل مع أفراد فراد مجتمعه فى عملية تعاقد ، ويقضي ذلك بأن يصبح الفرد جزءا من المجتمع ، وقد استدل على هذه النظرية ( روسو ) وأوضح كثيرا من جوانبها فى كتابه العقد الاجتماعي.
(١) الامامة والسياسة ١ / ١٧٠. ٣٥
لم يرق ذلك للخوارج فلذا شاغبوا فى الأمر وأرادوا الحرب خاصة لأهل الشام لا تتعداها الى غيرهم ، وقبل ان نسدل الستار على هذا الفصل نقدم إلى القارئ الكريم أمورا تتعلق فى هذا الفصل وهي كما يلى : ١ ـ قبول الخلافة :
ويتساءل كثير من النقاد عن السبب في قبول الامام للخلافة مع ما منيت به الحاضرة الاسلامية من اخطار وعواصف وفتن ، فكان الأجدر به أن يتريث فى الأمر ولا يتسرع ( كما يقولون ) ولندع الجواب إلى سماحة المغفور له الحجة آل ياسين قال نضر الله مثواه : أما أولا :
فلما كان الواجب على الناس دينا ، الانقياد إلى بيعة الامام المنصوص عليه كان الواجب على الامام ـ مع قيام الحجة بوجود الناصر ـ قبول البيعة من الناس.
أما قيام الحجة ـ فيما نحن فيه ـ فقد كان من انثيال الناس طواعية إلى البيعة فى مختلف بلاد الاسلام ما يكفي ـ بظاهر الحال ـ دليلا عليه ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه. وأما ثانيا :
فان مبعث هذا الانعكاس البدائي عن قضية الحسن عليهالسلام هو النظر إليها من ناحيتها الدنيوية فحسب بينما الأنسب بقضية ( إمام ) ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الأكثر ، وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين ٣٦
في نظر إمام ، والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة ـ كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب ـ وهي وإن تكن معرض آلام ، ولكنها آلام في سبيل الاسلام ، ومن أولى بالاسلام من الحسن (ع) وتحمل آلامه وإنما هو نبت بيته. واما ثالثا :
فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين ، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم ، بالذي يستطيع الفراغ وإن أراده عن عمد ، ولا بالذي يتركه الناس وإن أراد هو ان يتركهم ، وكان لا بد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي أن تتدافع إليه ، تستدعيه للوثوب إحقاقا للحق وانكارا للمنكر كما وقع لأخيه الحسين عليهالسلام في ظرفه (١).
ويأخذ شيخنا في الاستدلال على ضرورة قبول الامام للخلافة ، ولزوم تسرعه لإجابة الجماهير الهاتفة باسمه ، وعلى كل فليس هناك مجال للشك في أنه (ع) لو تقاعس عن الاعتلاء على العرش ، وترك الأمة حبلها على غاربها لوقعت في محاذير ومصاعب لا يمكن حلها ، ثم ما هو المبرر له في عدم التسرع في الأمر بعد ما أجمعت الأمة على مبايعته كما ذكر ذلك بالتفصيل سماحة المغفور له آل ياسين. ٢ ـ عموم البيعة :
واجمع العالم الاسلامي من اقصاه إلى ادناه على مبايعة الامام والانقياد لحكومته والخضوع لأمره ، فبايعه من الكوفة اثنان واربعون الفا على السمع
__________________
(١) صلح الحسن ص ٤٧. ٣٧
والطاعة وكذلك بايعه أهل البصرة والمدائن ، وجميع أهل العراق وبايعته فارس على يد زياد بن ابيه ، وبايعه الحجازيون واليمانيون ، على يد القائد العسكري الحازم اليقظ جارية بن قدامة وما تخلف أحد عن البيعة سوى معاوية ومن يمت به كما تخلف عن مبايعة الامام علي (ع) من قبل فكانت بيعته (ع) عامة على غرار بيعة أبيه. ٣ ـ احكام الدولة :
ولما تمت البيعة أخذ (ع) في إحكام دولته فرتب العمال ، ووظف المحنكين والأشراف من عدول المؤمنين وصالحاء المسلمين واعطى الاوامر الحازمة إلى الامراء وزاد في عطاء الجيش مائة مائة ، وكان الامام علي قد فعل ذلك يوم الجمل ، هذه هي الخطة الاولى من الاحسان والبر والمعروف التي افاضها على الجيش فملك بها القلوب والسيوف حتى قال ابن كثير : ( وأحبوه أشد من حبهم لأبيه ) (١) وهكذا أخذ (ع) يعمل مجدا في اصلاح دولته ، وإحكامها وصيانتها ، وقد خطب فيهم فكان منطق خطابه الحث على لزوم طاعته ووجوب الانقياد إليه لأنه من العترة الطاهرة ومن حلقات الثقل الأكبر الذي خلفه رسول الله (ص) في أمته وحذر (ع) رعيته من الاصغاء والانجراف بدعاية معاوية وبهتانه وكذبه وأمرهم بالتكاثف والاتحاد والوحدة ، لرد العدوان الأموي الذي يهدد المجتمع الاسلامي بالخطر ، وينذره بفقدان الحياة ، وقد تقدم نص هذا الخطاب في الحلقة الأولى من هذا الكتاب (٢).
__________________
(١) البداية والنهاية ج ٨ ص ٤١.
(٢) الجزء الأول ص ٣٢٧. ٣٨ ٤ ـ اخطاء تأريخية :
ووقع فريق من المؤرخين وكتاب العصر في اخطاء حول بيعة الامام الحسن نشأت من قلة التتبع رأينا من اللازم التنبيه عليها. ١ ـ المسعودي :
ذكر المسعودى : ( أن الامام بويع بعد وفاة أبيه بيومين ) (١) وهذا القول لا يتفق مع ما ذكره جمهور المؤرخين من أنه بويع له في صبيحة الليلة التي وارى فيها جثمان أبيه عليهالسلام. ٢ ـ فريد وجدي :
وذكر الاستاذ السيد محمد فريد وجدي أن الحسن (ع) : ( بويع له في الخلافة قبل وفاة والده ، ولما انتهت البيعة توفي والده ) (٢) وهذا القول كالقول السالف في مخالفته لاجماع المؤرخين ، فقد أجمعوا على أن البيعة كانت بعد مقتل الامام بلا فصل ، ولم يذكر مؤرخ ـ فيما نعلم ـ أنه بويع للامام في حياة أبيه. ٣ ـ الخضري :
ذكر الشيخ محمد الخضري في بيعة الامام ما نصه : ( نظر الحسن إلى بيعته في انها ليست كبيعة أبيه لأنها ليست عامة ، ولكنها قاصرة على شيعتهم من أهل العراق ) (٣) وهذا القول مجاف للواقع فان بيعة الامام لم تكن قاصرة على أهل العراق من الشيعة ، فان عمال الامام في جميع الاقطار الاسلامية قد أخذوا له البيعة من المسلمين ـ كما ذكرناه سابقا ـ ولم
__________________
(١) التنبيه والاشراف ص ٢٦٠.
(٢) دائرة المعارف ج ٣ ص ٤٤٣ ، كنز العلوم واللغة ص ٣٨٠ لفريد وجدي
(٣) اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ص ٢٢٥. ٣٩
تبق هناك أي حاظرة من الحواظر الاسلامية إلا بايعته سوى البلاد الخاضعة لمعاوية. ٤ ـ طه حسين :
قال الدكتور طه حسين في بيعة الامام الحسن : ( ومهما يكن من شيء فلم يعرض الحسن نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم وانما دعا الناس إلى هذه البيعة قيس بن عبادة فبكى الناس ، واستجابوا واخرج الحسن للبيعة .. ) (١) وما ذكره بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لما يلي
١ ـ إن قوله : ( إن الحسن لم يعرض نفسه على الناس ، ولم يتعرض لبيعتهم ) لا واقعية له ويرده خطاب الحسن في تأبين أبيه ، فقد دعا الناس إلى مبايعته وحفزهم إلى طاعته وذلك بذكره للفضائل النسبية والنفسية التي اختص بها فان بيانها وهو في مقام تأبين أبيه ليس المقصود منه إلا إلا الدعوة لمبايعته ، وارشاد المجتمع الإسلامى الى أحقيته بالخلافة دون غيره.
٢ ـ وأما قوله : إن قيس بن سعد دعا الناس الى البيعة ولم يكن الإمام حاظرا فاستجابوا له ، وأخرج فبويع. فانه اشتباه ظاهر وخلط غريب لأن الدعوة الى البيعة إنما كانت بعد ما أنهى الإمام خطابه السالف ولم تكن قبل ذلك الوقت والذي دعا إليها عبيد الله بن العباس وأول من بايعه قيس بن سعد كما بينّا ذلك فيما تقدم .. إن أغلب بحوث الدكتور فى الإمام الحس كانت خالية عن التحقيق وبعيدة عن الصواب ، فقد مرّ فى صلح الإمام وفى سائر مناحي حياته مرور منطلق فلم يقف على الحقيقة ولم يقرب من الواقع ، وسنشير الى مواضع اشتباهه إن من الناحية التأريخية أو الاستنتاج التأريخي فى كثير من الجهات التي تخص البحث
__________________
(١) على وبنوه : ص ١٩٥. ٤٠
الحرب الباردة ٤١ ٤٢
وما أذيع مصير الخلافة الاسلامية إلى حفيد الرسول (ص) إلا وموجات من الهموم والأحزان قد طافت بابن هند ، فملكته الحيرة واستولى عليه الجزع والذهول ، وذلك لعلمه أن للامام مركزا عظيما في نفوس المسلمين ، ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، لأنه سبط النبي العظيم وأعز الناس عنده وأقربهم إليه ، وقد شاعت بين المسلمين الأحاديث المتواترة عنه (ص) في رفع كيانه وتعظيم شأنه وتقديمه بالفضل على غيره فكيف يعدل الناس عنه إلى ابن هند وكيف يقاس معاوية به وهو من الاسرة الملعونة في القرآن وقد عرف الجميع عداء أبيه وأسرته للاسلام والمسلمين من يوم بزغ نوره
اضطرب معاوية وطارت نفسه شعاعا ، وأقضّ التفكير مضجعه لما ازدانت الخلافة الاسلامية بالامام الحسن ، وذلك لعلمه ان الامام لا يتحول عن شريعة جده وسيرة أبيه التي تقضي بلزوم محاربة الباغين والقضاء عليهم ومعاوية هو رافع لوائهم وعميدهم ، فالحسن لا بد وأن يعمل كل جهوده ويبذل جميع مساعيه لمناجزة معاوية والقضاء عليه ، مضافا إلى ذلك كله انه لم يجد منفذا وثغرا يسلك فيه للطعن بشخصية الامام أو اتهامه بشيء ما فدم عثمان بريء منه ، بل قد قيل إنه من الذابين والمدافعين عنه ، فبما ذا يتهم الامام اذا وقد نزه من كل نقص ورذيلة كما تجرد هو من كل مكرمة وفضيلة. المؤتمر الاموي :
وعقد معاوية على أثر ذلك اجتماعا مفاجئا في بلاطه دعا فيه خلص أتباعه وأشياعه فاخبرهم بالموقف الرهيب ، والخطر المفاجئ الذي حل في مملكته ، وأعلمهم ان الأمر إذا لم تتخذ فيه القرارات الحاسمة ، ولم تبذل الجهود الجبارة لانتشاله فسوف يحدق بهم الخطر المنذر بالفناء ، وبعد مداولة ٤٣
الآراء والأفكار اجمعت كلمتهم على ما يلي :
١ ـ نشر الجواسيس ، وبث العيون في الأقطار الإسلامية الخاضعة لحكم الامام ، خصوصا البصرة والكوفة ، ليعرفونه الأنباء بالتفصيل ويخبرونه باتجاه المجتمع ونياته ومدى اخلاصه لآل البيت (ع) كما ويقومون بعمليات الذعر والخوف والإرهاب بين المسلمين بقوة معاوية وضعف الحسن
٢ ـ مراسلة الزعماء والوجوه والشخصيات البارزة وارشائهم بالأموال الطائلة والوظائف المهمة في مناصب الدولة إن اتبعوه وانقادوا له وخذلوا الإمام الحسن ، أما هذا الأمر فقد أرجئ تنفيذه ـ بالاجماع ـ إلى وقت آخر قريب ، واما الأمر ( الأول ) فقد نفذ فورا فقد استدعى معاوية رجلين خبيرين يثق بكفاءتهما ويطمئن بدرايتهما وحذاقتهما في عالم التجسس ، أما الرجلان ( فاحدهما ) من حمير وقد ارسله إلى الكوفة ، وأما ( الآخر ) فمن بني القين وقد بعثه إلى البصرة.
ولما وصل الحميري إلى الكوفة ، والقيني إلى البصرة ، اخذا بتنفيذ الخطط المقررة لهما ، وبعد ما انتشر أمرهما قبضت عليهما الشرطة المحلية ، اما الحميري فجيء به إلى الامام فأمر بقتله ، واما القيني فجيء به مخفورا إلى عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس فأمر باعدامه أيضا. مذكرة الامام :
وعلى أثر وقوع هذا الاعتداء الصارخ من معاوية رفع الامام إليه مذكرة تهدده فيها وتوعده باعلان الحرب عليه وهذا نصها :
( أما بعد : فانك دسست إلي الرجال ، كأنك تحب اللقاء ، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء الله ، وبلغني أنك شمتّ بما لم يشمت به ذوو ٤٤
الحجى (١) وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول :
فانا ومن قد مات منا لكالذي
يروح فيمسي في المبيت ليغتدي
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تجهز لأخرى مثلها فكأن قد
ويلمس في هذه الرسالة مدى روح العزم والحزم والتصميم على الحرب إن اصر معاوية على البغي ، والتمرد والتمادي في الاثم ، كما احتوت على الاستنكار لما أظهره من السرور والغبطة بمقتل الامام أمير المؤمنين. جواب معاوية :
ولما وردت رسالة الامام إلى معاوية فزع منها ، فانبرى يفتش في حقيبة مكره عذرا يدفع به عن نفسه القبيح الذي ارتكبه ، والمنكر الذي فعله ، فلم بجد عذرا إلا انكار ما أظهره من السرور بمقتل الامام ولا بأس عليه في الكذب ، فقد استساغه واستحله وهو كل ما يملك في خزانة نفسه وأما بعثه العيون والجواسيس فرأى أن يتغاضى عن ذكره ويعرض عن جوابه ويهمل الاعتذار منه وهذا نصه :
( أما بعد : فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، ولقد علمت بما حدث ، فلم أفرح ، ولم أحزن ، ولم أشمت ، ولم آس (٢) وإن عليا
__________________
(١) الحجى : العقل والفطنة.
(٢) لم آس : أي لم أحزن وذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن معاوية أظهر الحزن والأسى والتوجع بمقتل الامام أقول : ـ أولا ـ لا يتفق مع ما ذكره معاوية من عدم حزنه بموت الامام ـ وثانيا ـ انه لا يتفق مع سيرة معاوية وعدائه السافر للامام الذي جعل سبه فريضة من فرائض الاسلام وتتبع شيعته واصحابه فقتلهم تحت كل حجر ومدر. ٤٥
أباك لكما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة (١) :
فأنت الجواد وأنت الذي
إذا ما القلوب ملأن الصدورا
جدير بطعنة يوم اللقا
يضرب منها النساء النحورا
وما مزبد من خليج البحا
ر يعلو الاكام ويعلو الجسورا (٢)
بأجود منه بما عنده
فيعطي الالوف ويعطي البدورا (٣)
__________________
(١) أعشى بني قيس : هو الأعشى الكبير أسمه ( ميمون ) بن قيس ولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة وفيها داره وقبره ويقال انه كان نصرانيا وهو أول من سأل بشعره ، وفد إلى مكة يريد النبي (ص) وقد مدحه بقصيدة أولها :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
وبت كما بات السليم مسهدا
ومنها :
أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
فلقيه أبو سفيان فى الطريق فأخبره بقصته فجمع له مائة من الابل ورده عن قصده فلما صار بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله ومن شعره :
قد يترك الدهر فى خلقاء راسية
وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا
وكان شيء إلى شيء ففرقه
دهر تعود على تفريق ما جمعا
الخلقاء : الصخرة الثابتة. الأعصم : الذي فى يده بياض. الصدع. الفتى من الوعول جاء ذلك فى معجم الشعراء للمرزباني ( ج ٢ ص ٤٠١ )
(٢) مزبد : مشتق من أزبد البحر إزبادا فهو مزبد ( بالتحريك ) وهو كالرغوة. الاكام : جمع أكمة كقصبة وهي التل.
(٣) البدور : جمع مفرده بدرة كوردة وهي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار. ٤٦
ويلمس في هذه الرسالة دهاء معاوية وخداعه ، كما يلمس خوره وضعف عزيمته وفزعه من الامام الحسن وذلك لمدحه وثنائه على الامام علي (ع) وانكاره لما اظهره من الفرح والسرور والغبطة بموته ولو لا ذلك لما سجل لخصمه هذا الثناء العاطر. مذكرة ابن عباس :
ورفع عامل الامام على البصرة عبد الله بن عباس مذكرة إلى معاوية يستنكر فيها بعثه العيون والجواسيس إلى البصرة ويهدده على هذا الاعتداء السافر ، وهذا نصها :
( أما بعد : فانك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الصلت (١)
لعمرك إني والخزاعي طارقا
كنعجة غادت حتفها تتحفر (٢)
__________________
(١) جاء فى رسالة جمهرة العرب ( ج ٢ ص ٤ ) ان الصحيح هو ( أمية بن الأسكر ) لا أمية بن أبي الصلت فانه خطأ وقد استند إلى ما ذكره برواية الأغاني حيث ذكر هذه الأبيات إلى أمية بن الأسكر قالها لما تغلب اصحاب النبي (ص) على رهط أمية بسبب طارق الخزاعي وكان قاطنا معهم فدل اصحاب النبي (ص) عليهم لأن خزاعة كان مشركها ومؤمنها يميلون إلى النبي على قريش فتأثر أمية من فعل طارق فقال فيه هذه الأبيات وأجابه طارق بأبيات استشهد فيها معاوية فى جوابه عن رسالة عبد الله بن عباس.
(٢) غادت : أي باكرت. الحتف : الموت ، ومنع نعجة من الصرف لأجل الضرورة. ٤٧
اثارت عليها شفرة بكراعها
فظلت بها من آخر الليل تنحر (١)
شمت بقوم هم صديقك أهلكوا
أصابهم يوم من الدهر أعسر (٢) جواب معاوية :
ولما وردت رسالة ابن عباس على معاوية انبرى إليها مجيبا بجواب تمثلت فيه المواربة والخداع ، وهذه صورته :
( أما بعد : فان الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به ، انبنى بما لم يحقّق سوء ظن ورأي فيّ ، وانك لم تصب مثلي ومثلكم ، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية على هذا الشعر :
فو الله ما أدري ( وإني لصادق )
إلى أي من يتظنني اتعذر (٣)
أعنف إن كانت زبينة أهلكت
ونال بني لحيان شر فأنفروا (٤)
وهذا الجواب يضارع الجواب الذي بعثه إلى الامام فى انكاره لما أبداه من السرور والفرح بموت الامام ، كما احتوى جوابه على الدهاء والمؤاربة ، فاما قوله لابن عباس إن الحسن قد انبنى ، فالامام الحسن وإن أنبه ولامه على إظهاره
__________________
(١) الشفرة : السكين العريضة ، وحد السيف ، وجانب النصل ، الكراع : مستدق الساق وجاء فى المثل ( كالباحث عن المدية ) ويروى عن ( الشفرة ) وفي آخر ( كباحثة عن حتفها بظلفها ) وأصله ان رجلا كان جائعا فوجد شاة ولم يكن معه ما يذبحها به فبحثت الشاة الأرض بأظلافها فسقطت على شفرة فذبحها بها يضرب مثلا لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره.
(٢) الأغاني : ( ج ٨ ص ٦٢ ) شرح ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ )
(٣) يتظننى : يتهمني.
(٤) نفروا : شردوا. ٤٨
للمسرات بمقتل الإمام إلا أنه تهدده وتوعده باعلانه للحرب لما هو أهم من ذلك وأعظم وهو بعثه للعيون والجواسيس الى مملكته فان هذه الجهة قد أعرض عنها لئلا يذاع نشاط الإمام وعزمه على إعلان الحرب فتخور عزائم جنده وتقوى نفوس أصحاب الإمام. رسالة ابن عباس للامام :
وعلى أثر ذلك بعث الحازم اليقظ عبد الله بن عباس رسالة الى الإمام ينشطه فيها على إثارة الحرب ومقاومة معاوية ومناجزته ، حتى النفس الأخير وقد دلت رسالته على درايته الواسعة واطلاعه الوافر بفنون السياسة ومعرفته التامة بنفوس المجتمع ووقوفه التام على نفسيات الأمويين واتجاههم السيئ نحو الإسلام والمسلمين وهذا نصها :
« أما بعد : فان المسلمين ولّوك أمرهم بعد علي عليهالسلام فشمر للحرب وجاهد عدوّك وقارب أصحابك ، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه (١) وولّ (٢) أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فان بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدي (٣) إلى ظهور العدل وعز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعوا الى ظهور الجور وذل المؤمنين وعز الفاجرين. واقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب ، أو اصلاح
__________________
(١) الظنين : المتهم. ويروى ( واستر من الظنين ذنبه بما لا يثلم دينك ).
(٢) وفى رواية ( واستعمل ) وفى أخرى ( ووال ).
(٣) وفى رواية ( تدعو ). ٤٩
بين الناس فان الحرب خدعة (١) ولك فى ذلك سعة إذ كنت محاربا ما لم تبطل حقا.
واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه الى معاوية أنه آسى (٢) بينهم فى الفيء وسوّى بينهم في العطاء ، فثقل عليهم ، واعلم أنك تحارب من حارب الله ورسوله فى ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله. فلما وحد الرب ، ومحق الشرك وعز الدين أظهروا الإيمان وقرءوا القرآن مستهزئين بآياته ، وقاموا الى الصلاة وهم كسالى وأدّوا الفرائض وهم لها كارهون ، فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم فى أماناتهم وقالوا حسابهم على الله فان كانوا صادقين فاخواننا في الدين وإن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين ، وقد منيت بأولئك وبأبنائهم وأشباههم ، والله ما زادهم طول العمر إلا غيا ، ولا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم ولا ترض دنية ولا تقبل خسفا (٣) فان عليا أباك لم يجب الى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب وإنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع الى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام (٤) واحتوت هذه الرسالة على أمور بالغة الأهمية هي :
١ ـ أن ابن عباس عرض على الإمام أن يولي الأشراف وذوي
__________________
(١) الحرب خدعة : مثلاثة الخاء ، وبضمها مع فتح الدال أي تنقضي بخدعة.
(٢) آسى : أي سوى.
(٣) خسفا : أي ذلا.
(٤) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٨. رسائل جمهرة العرب ج ٢ ص ١.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:41 pm | |
|
النفوذ ، ويشرى من الظنين دينه ليقضي بذلك على روح التفرقة ، ويكون الناس جماعة واحدة ، حتى يتمكن من مناجزة معاوية ومقاومته ، وغفل ابن عباس ان ذلك يتنافى مع السياسية الرشيدة التي انتهجها أهل البيت فانها بنيت على الحق الخالص ، وعلى شجب كافة الوسائل التي لا تتفق مع المبادئ الإسلامية وإن توقف عليها الظفر والنصر ، وسنذكر ذلك بمزيد من التوضيح عند عرض أسباب الصلح.
٢ ـ واشتملت هذه الرسالة على أهم الأسباب الوثيقة التي أدت الى خذلان الإمام فى دور خلافته ونجاح معاوية فى عهد حكومته ، فان الإمام قد انتهج سياسة العدل والمساواة فسوى بين المسلمين فى العطاء فلم يقدم أحدا على أحد فى العطاء عملا بما أمر به الإسلام ونصت عليه مبادئه العادلة التي محت التفاوت بين الأبيض والأسود وهدمت الحواجز بين الغني والفقير وجعلت ( الناس سواسية كأسنان المشط كلهم من آدم وآدم من تراب ) لا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل والكفاءة ، سار الإمام علي (ع) على هذه السياسة العادلة ومشى على هذه الخطة الواضحة حتى ضرب الرقم القياسي للمساواة والعدل فمن بوادر عدله انه ساوى بين سيدة قرشية ، وبين أمة في العطاء فغاظ القرشية ذلك وأقبلت إليه وهي محنقة مغيظة تقول بحرارة :
« أتساوي فى العطاء بيني وبين هذه الأمة؟ »
فرمقها الإمام بطرفه وأخذ بيده قبضة من التراب وجعل يقلبه بيده وهو يقول :
« لم يكن بعض هذا التراب أفضل من بعض ».
لقد ثقل على الناس هذه المساواة وشق عليهم هذا العدل لأنهم ٥١
لا يتطلبون إلا مصالحهم الخاصة ، فلذا زهدوا في حكومته وخضعوا لحكومة الظلم حكومة معاوية الذي لا هدف له إلا إشباع شهواته ، وتحقيق رغباته.
٣ ـ وأعرب ابن عباس في رسالته عن دراسته الوثيقة لنفسيات الأمويين ومعرفته بما انطوت عليه قلوبهم ، فلقد بيّن أنهم مجموعة من الملحدين والمشركين « كما هم كذلك » فاذا حاربهم الإمام فانما يحارب من حارب الله ورسوله حينما بزغ نور الاسلام فانه لما كتب الله النصر لدينه وقهر سلطان الإسلام العرب دخلت أمية فيه لكن لا إيمانا منهم بقضيته بل خوفا من حر السيف ، ورهبة الموت ، فكانوا يتظاهرون باعتناق الإسلام فيقرءون آيات الذكر الحكيم ولكن قراءة استهزاء وسخرية لا إيمانا واعتقادا به وكانوا يقيمون الصلاة ولكنهم يؤدونها وهم كسالى ، ويقيمون فرائض الإسلام ولكن عن كره ونفاق ، ولما رأوا أن خطتهم مغلوطة ولا تضمن لهم النجاح ، ولا تكفل لهم السعادة إذ لا يعز في هذا الدين إلا الأبرار الصلحاء لقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١). أظهروا ـ تدليسا ورياء ـ الصلاح والتقى والإيمان وأضمروا في دخائل نفوسهم الشرك والنفاق والحقد على الإسلام ، وظلوا على هذا الحال يظاهرون الطاعة لله والانقياد لأوامره وأحكامه حتى أشركهم المسلمون في امورهم وشئونهم ولكن المسلمين مع ذلك كانوا مرتابين منهم شاكين في أمرهم على ريب من صدقهم.
٤ ـ واحتوت هذه الرسالة على حث الإمام وتحريضه لمحاربة هؤلاء المنافقين والمارقين من الدين ، ومواصلة حربهم حتى النفس الأخير لتستريح الأمّة من شرهم ، وتسلم من مكرهم وغوائلهم. ولا شك ان هذه
__________________
(١) سورة الحجرات آية ١٣. ٥٢
الرسالة التي دبجتها يراعة هذا الحبر الجليل كان لها موقع حسن في نفس الإمام فقد حفزته الى مناجزة معاوية ومقاومته ، وإعلان الحرب عليه. رسالة الامام الى معاوية :
وأرسل الإمام رسالة أخرى الى معاوية يدعوه الى مبايعته ، وطاعته والدخول فيما دخل فيه المسلمون. وقد أرسل هذه الرسالة بيد شخصين من عيون المؤمنين وثقات الإسلام وهما الحارث بن سويد التميمي (١) وجندب الأزدي (٢) وإليك نص رسالته :
« من عبد الله الحسن أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان.
أما بعد : فان الله بعث محمدا (ص) رحمة للعالمين فأظهر به الحق ، وقمع به الشرك ، وأعزّ به العرب عامة ، وشرّف به قريشا خاصة ،
__________________
(١) الحارث بن سويد التميمي : هو أبو عائشة الكوفي روى عن جماعة من ثقات الصحابة منهم الإمام علي وابن مسعود ، وروى عنه جماعة من الثقات وقد عظّم الروات شأنه فقال ابن معين : إنه ثقة. وقال غيره : إنه أجود اسناد روى عن الإمام علي وقد أطرى على الرجل وأثنى عليه بثناء عاطر ويكفيه فضلا أنه ثقة الإمام الحسن ومعتمده الذي بعثه لمعاوية توفى في أواخر أيام عبد الله بن الزبير ، جاء في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ١٧٣.
(٢) جندب الأزدي العامري يكنى أبو عبد الله وهو أحد الصحابة وقد روى عن النبي (ص) أنه قال : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) روى عن جماعة من الصحابة منهم الإمام علي (ع) وسلمان الفارسي ، وروى عنه جماعة آخرون وذكره ابن حيان من ثقات التابعين ، توفي في آخر خلافة معاوية. جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ١١٨. ٥٣
فقال : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (١) ، فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعد ، فقالت قريش : نحن عشيرته وأولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك وجاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب ، فهيهات ما انصفتنا قريش ، وقد كانوا ذوي فضيلة في الدين ، وسابقة في الإسلام ، ولا غرو إلا منازعتك إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، فالله الموعد ، نسأل الله معروفه أن لا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة.
إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده ، فاتق الله يا معاوية وانظر لأمة محمد (ص) ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها والسلام » (٢)
وتروى هذه الرسالة بصورة أخرى أبسط من هذه الصورة وأوفى نذكرها لما فيها من مزيد الفائدة :
« من الحسن بن علي أمير المؤمنين ، الى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فان الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) (٣) فبلغ رسالات الله وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخصّ به قريشا خاصة. فقال له : « وإنه لذكر لك ولقومك » ، فلما توفى تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ،
__________________
(١) سورة الزخرف آية ٤٤.
(٢) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٩.
(٣) سورة يس آية ٧٠. ٥٤
فرأت العرب أن القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم (١) وسلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه الى محاججتهم وطلب النصف (٢) منهم باعدونا ، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا (٣) والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا فى حقنا وسلطان بيتنا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب (٤) في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله. لا بفضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لتلقينّ عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدّمت يداك ، وما الله بظلاّم للعبيد.
__________________
(١) أنعم له : أي قال له نعم.
(٢) النصف : الإنصاف.
(٣) راغمهم : نابذهم وعاداهم.
(٤) الأحزاب : هي التي تحزبت على قتال رسول الله (ص) من قريش وغطفان وبني مرة وبني أشجع وبني سليم وبني أسد في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق وكان قائدهم العام أبا سفيان وذلك في السنة الخامسة من الهجرة. ٥٥
إن عليا لما مضى لسبيله ـ رحمة الله عليه يوم قبض ، ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيا ـ ولاني المسلمون بعده ، فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل فى أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب (١) حفيظ ومن له قلب منيب ، واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك خير فى أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به وادخل فى السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة (٢) بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين » (٣)
وحفلت هذه الرسالة ـ على كلتا الروايتين ـ بأمور مهمة :
١ ـ إن الإمام أعرب فيها عن شعوره تجاه الخلافة الإسلامية فهو فهو يرى أنها من حقوق أهل البيت (ع) لا يشاركهم فيها أحد ، وان من ابتزها منهم فقد اعتدى عليهم وسلب تراثهم ، وقد سلك الإمام في الاستدلال على رأيه الوثيق بعين ما استدلت به قريش على العرب في أحقيتهم بالخلافة من أنهم أقرب الناس الى النبي (ص) وأمس الناس رحما به ، فان هذا الشعار الذي هتفوا به موجود في أهل البيت على النحو الأكمل
__________________
(١) آب الى الله رجع عن ذنبه وتاب فهو أواب مبالغة.
(٢) النائرة : العداوة والبغضاء.
(٣) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ١٢ ، ٥٦
فانهم فرع دوحته والصق الناس به وأقربهم إليه ، ومن الغريب ان العرب قنعت بحجة قريش ، ولكن القرشيين لم يخضعوا لمقالة أهل البيت ، نعم يعود السبب فى ذلك الى الأضغان والأحقاد التي أترعت نفوسهم بها فناصبوا عترة نبيهم ، وبالغوا في ارهاقهم ، والتنكيل بهم ، فواجهت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من المحن والخطوب.
٢ ـ وذكر الإمام الحسن السر في إمساكهم وإحجامهم عن المطالبة بحقهم وذلك خوفا منهم على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد من الأحزاب والمنافقين الذين مردوا على النفاق ، فقد قويت شوكتهم بموت النبي (ص) وأخذوا ينتهزون الفرصة لمحق الإسلام واستئصال شأفته ، فاثروا مصلحة الإسلام على ضياع حقهم ، وقد صرح الإمام أمير المؤمنين (ع) بذلك في كتابه الذي بعثه الى أهل مصر وقد جاء فيه :
« فلما مضى عليهالسلام ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو الله ما كان يلقى فى روعي ، ولا يخطر ببالي ، ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس عن الإسلام يدعون الى محق دين محمد (ص) فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوات ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ... »
فلأجل الحفاظ على الإسلام والاحتياط على مصلحة المسلمين أمسكوا عن المطالبة بحقوقهم ، ولم يناجزوا القوم بالسيف ، وسلموا الأمر الى الله.
٣ ـ وأعرب الإمام الحسن في رسالته عن استغرابه من نزاع معاوية ٥٧
وتطاوله عليه وهو من الحزب الذي سعر الدنيا حربا على رسول الله (ص) وأثاروا عليه حفائظ الجاهلية وأحقادها ، فكيف ينازع حفيد النبي ووريثه على منصبه ومقامه!! وهناك باعث آخر من بواعث استغراب الإمام على منازعة معاوية له ، وهو أن معاوية ليس له فضل فى الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وليست أي موهبة أو فضيلة حتى يستحق هذا المنصب العظيم في الإسلام.
٤ ـ وذكر (ع) لمعاوية عموم البيعة له بعد وفاة أبيه وان الأمّة قد أجمعت على مبايعته وعلى الانقياد إليه وهي حجة بالغة لو وعاها معاوية ورجع الى منطق الحق والصواب. جواب معاوية :
ولما وصلت رسالة الإمام الى معاوية أجاب عنها بجواب يلمس فيه المكر والخداع ، وهذه صورته :
« أما بعد : فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله (ص) وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله ، وذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده ، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر وأبي عبيدة الأمين وصالحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمّة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به ، فرأت قريش والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله وأخشاها له وأقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر ولم يألوا (١) ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ، ويذب عن حرم الإسلام ذبه ، ما عدلوا بالأمر الى أبي بكر ، والحال اليوم بيني وبينك على ما كانوا عليه
__________________
(١) لم يألوا : أي لم يقصروا. ٥٨
فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأكيد للعدو ، وأقوى على جمع الفيء ، لسلمت لك الأمر بعد أبيك ، فان أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب الله بدمه ، ومن يطلبه الله فلن يفوته ، ثم ابتز الأمّة أمرها ، وفرّق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة والجهاد والقدم فى الإسلام ، وادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء ، واستحلت الحرم ، ثم أقبل إلينا يدعي علينا بيعة ولكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه وحاربنا ، ثم صارت الحرب الى أن اختار رجلا واخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمّة ، وتعود به الجماعة والألفة ، وأخذنا بذلك عليهما ميثاقا ، وعليه مثله ، وعلينا مثله على الرضا بما حكما ، فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت وخلعاه فو الله ما رضى بالحكم ، ولا صبر لأمر الله ، فكيف تدعوني الى أمر إنما تطلبه بحق أبيك ، وقد خرج منه فانظر لنفسك ولدينك والسلام » (١).
وروى هذا الجواب بصورة أخرى أوسع وأبسط من الأولى وهذا نصه :
« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين الى الحسن بن علي : سلام عليك فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله (ص) من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه وصغيره وكبيره وقد والله بلغ وأدى ونصح وهدى حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم بعث ويوم قبض ويوم يبعث حيا ، وذكرت وفاة
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ج ٤ ص ٩. ٥٩
النبي (ص) وتنازع المسلمين بعده وتغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري (١) رسول الله (ص) وصالحاء المهاجرين والأنصار فكرهت ذلك لك ، إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين ، ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.
إن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمّة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانتها من نبيها ، ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار ، وغيرهم من سائر الناس وعوامهم ، أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها بالله ، وأحبها له ، وأقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر. وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للأمة فأوقع ذلك فى صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ولا فيما أتوا بالمخطئين ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه (٢) ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر الى غيره رغبة عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي (ص) ، فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو لأجبتك الى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت اني أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه
__________________
(١) الحواري : الناصر والمعين أو ناصر الأنبياء.
(٢) الغناء : النفع ، وأغنى غناءه أجزأ عنه ، وقام مقامه. ٦٠
الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام » (١).
واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي » (٢) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :
١ ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٣.
(٢) عصر المأمون ١ / ١٧. ٦١
في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.
٢ ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.
لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.
٣ ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ. ٦٢ مذكرة معاوية :
وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :
« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
وإن أحد أسدى إليك أمانة
فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى
ولا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».
وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له. جواب الامام :
ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :
« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني ٦٣
من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».
وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته. ٦٤
اعلان الحرب ٦٥ ٦٦
وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :
١ ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.
٢ ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه
٣ ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.
٤ ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.
هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد ٦٧
الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر (١) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله. مذكرة معاوية لعماله :
ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :
« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته » (٢).
__________________
(١) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٣. ٦٨
ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.
ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.
وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج (١).
__________________
(١) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :
قيل بمنبج مثواه ونائله
فى الأفق يسأل عمن غيره سألا
ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :
وليلة عين المرج زار خياله
فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني
فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا
بألمح آماقي وأنظر انساني
لعلي أرى أبيات منبج رؤية
تسكن من وجدي وتكشف أشجاني
جاء ذلك في معجم البلدان ٨ / ١٦٩. ٦٩ فزع العراقيين :
وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة (١) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون » (٢).
ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.
__________________
(١) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :
إني أدين بما دان الشراة به
يوم النخيلة عند الجوسق الحرب
جاء ذلك فى معجم البلدان ٨ / ٢٧٦.
(٢) شرح النهج ابن أبي الحديد ٤ / ١٣.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:43 pm | |
|
ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم (١) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم
__________________
(١) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة ٣ / ٣٩٢ ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب. ٧١
منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :
« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».
ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :
« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».
ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :
« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».
ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده (١).
وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي (٢) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا
__________________
(١) شرح النهج ابن أبي الحديد ٤ / ١٤.
(٢) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة ٤٢ هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة ٣٩ في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة ٣ / ٤٧٥ ، ٧٢
سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :
« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».
وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث (١) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه (٢) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام
__________________
(١) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة ٤ / ٤٠٧.
(٢) جاء في الخرائج والجرائح ص ٢٢٨ أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ». ٧٣
به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :
« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :
١ ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار. ٧٤
٢ ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » (١) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.
٣ ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.
وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي : ١ ـ اختيار عبيد الله :
ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس
__________________
(١) سورة البقرة آية ١٨٩. ٧٥
واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين (١). ٢ ـ عدد الجيش :
واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر (٢). وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا (٣) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له
__________________
(١) صلح الحسن ص ٩٦.
(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٤.
(٣) تأريخ الطبري ٦ / ٩٤. ٧٦
على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق » (١) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا (٢) ، وقيل أنه سبعون ألفا (٣) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي (٤) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر
__________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٥١.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٤ ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.
(٣) البداية والنهاية ٨ / ٤٢ وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج ٤ / ٧.
(٤) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص ٣٥٤. ٧٧
وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف (١) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه (٢) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :
« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليهالسلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية » (٣).
ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا » (٤).
فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات
__________________
(١) شرح النهج محمد عبده ٢ / ١٣٢.
(٢) تاريخ أبي الفداء ١ / ١٩٣.
(٣) الكامل ٣ / ٦١.
(٤) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٦. ٧٨
المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا (١).
ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟. ٣ ـ وصف الجيش :
لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء
__________________
(١) صلح الحسن ص ١٠٦. ٧٩
فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيد رحمهالله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :
« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين » (١).
وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي : ١ ـ الشيعة :
وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.
__________________
(١) الارشاد ص ١٦٩ ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص ١٤٣ ، والأربلي فى كشف الغمة ص ١٦١ ، والمجلسي في البحار ١٠ / ١١٠. ٨٠ ٢ ـ المحكمة :
وهم الخوارج الذين ضمهم جيش الامام وكانوا يرومون قتال معاوية بكل حيلة ووسيلة لا إيمانا منهم بقضية الحسن وباطل معاوية ، بل كانوا يرون الحسن ومعاوية في صعيد واحد ، وإنهما لا يستحقان الخلافة وإنما كانوا يستعجلون حرب معاوية ومناجزته لأنهم يعلمون انه أوفر قوة من الامام فرأوا أن ينضموا الى جيشه مؤقتا حتى ينهوا أمره ، فان قضي عليه فيكون أمر الحسن سهلا لأن اغتياله ليس بالعسير عليهم فقد اغتالوا أباه من قبل : ٣ ـ اصحاب المطامع :
وضم جيش الإمام فصيلة من الجند لا تؤمن بالقيم الروحية ولا تقدس العدل ولا تفقه الحق وإنما كانوا ينشدون مصالحهم وأطماعهم وكانوا يرقبون من كثب أي الجهتين قد كتب لها النصر والظفر حتى يلحقوا بها. ٤ ـ الشكاكون :
وأكبر الظن ان الشكاكين هم الذين أثرت عليهم دعوة الخوارج ودعاية الأمويين حتى شككوا في مبدأ أهل البيت (ع) ، وفي رسالتهم الإصلاحية ولو اندلعت نيران الحرب لما ساعدوا الإمام بشيء ، لأنهم لم يكونوا مدفوعين بدافع الإيمان والعقيدة. ٨١ ٥ ـ اتباع الرؤساء :
وهم أكثر العناصر عددا ، وأعظمهم خطرا ، فهم يتبعون زعماءهم ورؤساءهم اتّباع أعمى لا إرادة لهم ولا تفكير ولا شعور بالواجب ، وهم المعبر عنهم بالهمج الرعاع. وكان أغلب سواد العراق قد انتمى الى أحد الزعماء على غرار العشائر العراقية في هذا الوقت ، وأكثر زعماء العراق ممن كاتب معاوية بالطاعة والانقياد كقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج وحجار بن أبجر وأضرابهم من الخوارج والمنافقين الذين اشتركوا في أعظم مأساة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين (ع).
هذه هي العناصر التي تكوّن منها الجيش العراقي ، بل العراق كله من نفر منه الى الحرب ومن لم ينفر ينطبق عليه أحد هذه العناوين التي ذكرها شيخ الإسلام المفيد رحمهالله في كلامه القيم ، وأكثر هؤلاء لا يؤمن من شرهم فى السلم فضلا عن الحرب. ٤ ـ أخطاء تاريخية :
وقع فريق من المؤرخين والكتاب فى أخطاء تتعلق فى هذا الفصل يجدر التنبيه عليها وهي : ١ ـ الحاكم :
أفاد الحاكم النيسابوري أن الحسن (ع) أسند قيادة مقدمته إلى ابن عمه عبد الله بن جعفر ، وضم إليه عشرة آلاف جندي (١) وفد تفرد
__________________
(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٧٤. ٨٢
الحاكم بهذا القول وهو مخالف لما اجمع عليه رواة الأثر من أن قيادة المقدمة كانت لعبيد الله بن العباس باشراك قيس بن سعد وسعيد بن قيس ، كما أن عدد المقدمة كان اثنى عشر الفا حسب ما ذكروه لا عشرة آلاف. ٢ ـ اليعقوبى :
ذكر المؤرخ الشهير اليعقوبي : ان الإمام الحسن تجهز لحرب معاوية بعد ثمانية عشر يوما من وفاة أبيه (١) وهو اشتباه لأن الإمام لم يتجهز لمحاربة خصمه إلا بعد أن راسله بتلك الرسائل التي مرّ ذكرها فى الفصل السالف ، وعلى الظاهر أن مدة المراسلة كانت تزيد على شهرين كما أن الإمام لم يستعد للحرب إلا بعد ما فشلت جميع الوسائل التي اتخذها لأجل السلم والوئام ، وعلم أن معاوية قد زحف إليه بجنده ففى ذلك الوقت تجهز للحرب لا قبله كما أجمع عليه المؤرخون وإذا أردنا تصحيح ما ذكره اليعقوبي فان هذه المدة التي ذكرها كانت فاتحة المراسلات التي دارت بينهما. ٣ ـ ابن كثير :
قال ابن كثير : ولم يكن فى نية الحسن أن يقاتل أحدا ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله ، فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثنى عشر ألفا بين يديه. الخ (٢). وهذا القول ليس بوثيق لأن الإمام الحسن لو لم يكن من رأيه الحرب لما بعث الى معاوية تلك المذكرات التي يتهدده فيها ويتوعده باعلان الحرب
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.
(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٤. ٨٣
إن لم يدخل فى طاعته ، ولو لم يكن من نيته الحرب لما اعتلى المنبر وحفز الناس الى الجهاد ، ودعاهم الى الحرب كما ذكرنا ذلك بالتفصيل ، وأما قوله : ان الناس اجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله وهم يدعون الإمام الى الحرب. فينافيه ويرده تقاعسهم ، وعدم اجابتهم له ، وسكوتهم لما دعاهم (ع) الى الجهاد في خطابه السالف الذكر. ٤ ـ طه حسين :
قال الدكتور طه حسين : « ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ، ولا يظهر استعدادا لها ، حتى ألح عليه قيس بن سعد ، وعبيد الله بن العباس ، وكتب إليه عبد الله بن عباس من مكة يحرضه على الحرب ويلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه » (١) ومواقع النظر في كلامه ما يلي :
١ ـ إن قوله : ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادا لها. فانه بعيد عن الواقع ، وهو قريب مما ذكره ابن كثير في كلامه المتقدم ، ولعل الدكتور استند إليه ، وتفنده رسائل الإمام ـ التي مرّ بيانها ـ فانها صريحة في تصميمه وعزمه على الحرب ، وللاستدلال على ذلك نسوق بعض فقراتها يقول (ع) : « وإن أنت أبيت إلا التمادي فى غيك سرت إليك بالمسلمين حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ». وهذه الفقرات واضحة صريحة فيما ذكرناه ، ولعل الدكتور لم يلحظ هذه الجوانب من رسائل الإمام فأرسل حكمه محفوفا بالخلط والاشتباه ، وبالاضافة الى ذلك فان الإمام ملزم بمناجزة معاوية ،
__________________
(١) علي وبنوه ص ١٩٥. ٨٤
لأن الله أوجب حرب البغاة الذين يشقون عصا الطاعة ، ويخرجون على إمام المسلمين ، قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله ». وقال رسول الله (ص) : « من دعا الى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فقاتلوه ». ومعاوية قد خرج على أمير المؤمنين من قبل وبغى عليه ، وقد أغرق البلاد في الدماء ، وأشاع بين المسلمين الحزن والثكل والحداد ، فمناجزته من أهم الواجبات الإسلامية ، فكيف يتخلف الإمام عنها وهو سبط النبي وريحانته.
٢ ـ وأما قوله : إن قيس بن سعد ، وعبيد الله بن العباس ألحّا عليه فى أن ينهض للحرب ، فان هذا من الوهم والخلط لأنا ذكرنا ـ في أوائل هذا البحث ـ النصوص التأريخية التي دلت على أن الإمام نفر الى الحرب حينما علم أن معاوية قد زحف إليه ، ولم يكن أحد قد ألحّ عليه في ذلك ، وإنما كانت حراجة الموقف والضرورة البالغة تقضيان بخروجه ، فانه لو لم ينفر لحرب معاوية ورد عدوانه لاحتل الكوفة ، وأخذ الإمام أسيرا ، فكان خروجه للدفاع والجهاد أمرا لازما ، ولم يكن هناك أي أحد ألحّ عليه في ذلك.
إن بحوث الدكتور طه حسين فى هذه الجهات محفوفة بالإسفاف والخلط وفاقدة للتحقيق الذي يتطلبه البحث العلمي الذي لا يخضع للعاطفة والأهواء ، فان التاريخ ـ كما يقول ـ قد خلط بالموضوعات حتى أصبح من العسير أن يخلص المؤرخ للحق في أبسط الامور وأيسرها فضلا عن أمثال هذه الجوانب التي لبست أسمك جلابيب الغموض بسبب الروايات التي تعمد أصحابها على وضعها انتصارا للأمويين وتقليلا لجانب أهمية أهل البيت (ع) ، فيجب التثبت والوقف فى كثير مما انفردوا بروايته ، ٨٥
وملاحظة أقوال المؤرخين الذين عرفوا بالاستقامة وعدم الانحراف ، وتحرجوا من الوضع ، وليس من الحق أن يعتمد الدكتور على روايات ابن كثير وأمثاله ممن جرفتهم العصبية ، ومالوا عن القصد فدونوا ما هو مجاف للواقع وبعيد عن الحق.
إن مصدر الخطأ والالتباس في بحوث المتأخرين إنما جاءت من الاعتماد على أمثال هذه المصادر ، وعدم التحقيق والتدقيق فيما انفردوا بروايته انتصارا للحكم القائم ، وليس شيء أدعى للمؤرخ الذي يريد أن يخلص للحق من التثبت فى ذلك فانه مما يقتضيه البحث الحر الذي نحن في أمس الحاجة إليه. ٨٦
في المدائن ٨٧ ٨٨
فى سجل التاريخ حوادث مفجعة يذوب القلب من هولها أسى وحسرات ، وذلك بما تتركه من الآثار المريعة ، والمضاعفات السيئة ، وبما تخلفه من المشاكل والمصاعب كانتشار الظلم ، وذيوع الجور ، وهضم الحق ، وضياع العدل. ومن أفجع هذه الحوادث وأقساها ، انتصار الظالمين وتغلبهم على أئمة الحق والعدل ، فانه يؤدي حتما الى شل الحركة الإصلاحية ، وتدمير القيم الإنسانية ، وظهور البغي والجور في البلاد.
وتمثلت هذه المأساة المحزنة بأبشع صورها على مسرح الزمن الهازل في صراع الإمام الحسن (ع) مع معاوية ، وغلبة معاوية عليه ، وقد انتصرت بذلك القوى الحاقدة على الإسلام ، والباغية على المسلمين ، واندحرت المبادئ العليا التي جاء هذا الدين ليقيمها.
إن من نكد الدنيا غلبة معاوية وانتصاره على سبط النبي وريحانته ، وابتزازه لحقه ، وفرضه حاكما على المسلمين باسم الإسلام ، وهو من ألدّ خصومه وأعدائه. إن السر في انتصار معاوية يرجع الى أسباب كثيرة وعوامل متعددة وأهمها الحوادث القاسية التي وقعت في « مسكن » (١) التي كانت تضم مقدمة جيش الإمام ، والحوادث المؤسفة التي جرت فى « المدائن » التي استقرت فيها عامة جيوشه ، وقد عانى الإمام منها ألوانا شاقة من
__________________
(١) مسكن : بفتح أوله وكسر ثالثه ، قال أبو منصور : يقال للموضع المعروف الذي يسكنه الإنسان « مسكن » بفتح الثالث وكسره ، واللغة الثانية شاذة ، والقياس الفتح ، وهو موضع قريب من « أوانا » على نهر الدجيل ، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ، ومصعب بن الزبير ، سنة ( ٧٢ ه ) ، وفيها قتل مصعب ، وابراهيم بن مالك الأشتر ، ودفنا هناك ولهما قبر معروف ، معجم البلدان ٨ / ٥٤. ٨٩
المحن والخطوب حتى اضطر الى الصلح ، والتجأ الى مسالمة الخصم ، وعلينا أن ننظر الى تلكم الأحداث ونتأملها فانها من أهم علل الصلح وأسبابه ـ فيما نحسب ـ وهي كما يلي : حوادث مسكن
وبعد ما أسند الإمام القيادة العامة في مقدمة جيشه الى عبيد الله بن العباس ، انطلق عبيد الله يطوي البيداء مع الجيش حتى انتهى الى « سينور » ومنها خرج الى « شاهي » (١) ، فلزم الفرات والفلوجة حتى وصل الى مسكن فاستقام فيها وقابل العدو وجها لوجه ، وقد قام معاوية بدوره بعمليات التخريب والإفساد فسلك جميع الوسائل للقضاء على أصالة « المقدمة » وتمزيق وحداتها ، واماتة نشاطها العسكري ، فنشر بها المخاوف والأراجيف ، وبث فيها العصيان والتمرد ، ونقدم عرضا لبعضها :
__________________
(١) شاهي : موضع قريب من القادسية ، وكان شريك بن عبد الله قاضي الكوفة قد خرج الى شاهي يستقبل الخيزران فأقام فيه ثلاثة أيام ينتظرها حتى نفذ طعامه ، وكان عنده خبز يابس ، فجعل يبلله بالماء ، فنظر إليه العلاء بن منهال فقال فيه :
فان كان الذي قد قلت حمقا
بأن قد أكرهوك على القضاء
فما لك موضع فى كل يوم
تلقى من يحج من النساء
مقيما فى قرى شاهي ثلاثا
بلا زاد سوى كسر وماء
معجم البلدان ٥ / ٢٢٤.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:45 pm | |
| بث الجواسيس
وكانت باكورة الدسائس الخطيرة التي قام بها معاوية فى إفساده « المقدمة » ، انه بعث الجواسيس ، ونشر العيون ليذيعون الذعر والإرهاب ويقومون بخذلان الجيش ، وكانت دعايتهم ذات طابع واحد وهي :
« إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم؟. » (١)
وتركت هذه الموجة من الافتراء اضطرابا فظيعا ، وخوفا بالغا فى النفوس ، وأحدثت تمردا شاملا في جميع الوحدات العسكرية. رشوة الوجوه
ولم يقتصر معاوية في عمليات التخريب على ذلك ، فقد صنع ما هو أفتك منها وهو شراؤه الضمائر الرخيصة من قادة الجيش وزعمائه المقيمين في « مسكن » فقد بذل لهم أموالا ضخمة ، ومناهم بالوظائف والمراتب ، فأجابوه الى ذلك ، وتسللوا إليه ، والتحقوا بمعسكره في غلس الليل وفى وضح النهار ، وكتب عبيد الله أنباءهم بالتفصيل الى الإمام الحسن «ع» (٢) اغراؤه لعبيد الله
ولما رأى معاوية ان عملية الرشوة قد نجح بها الى حد كبير راح يعمل بنشاط فى اغرائه لذوي الضمائر القلقة ، والنفوس المريضة ، فمدّ أسلاك مكره الى عبيد الله بن العباس ، فجذبه إليه ، وصار العوبة بيده ، وقد خان
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢١٥.
(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨. ٩١
عبيد الله بذلك ثقل رسول الله ، وترك موكب الحق والهدى ، وانضم الى معسكر الخيانة والجور ، أما نص رسالة معاوية التي خدعه بها فهي :
« إن الحسن قد راسلني فى الصلح ، وهو مسلم الأمر إليّ فان دخلت فى طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ... » (١)
وتمثل الكذب الصريح ، والمكر السافر في قوله : « إن الحسن قد راسلني في الصلح. » إن الإمام متى راسله فى الصلح؟ أفي رسائله ومذكراته التي احتوت على تهديده وتوعيده باعلانه للحرب عليه إن لم يثب لطاعته ، أم بخروجه لمناجزته؟ مضافا الى أنه لم تجر أي اتصالات بينه وبين الإمام في ذلك الوقت.
وليس هناك أدنى مجال للشك فى أن عبيد الله كان يؤمن في قرارة نفسه بكذب هذا الادعاء لأن الإمام لو كان قد راسله في الصلح فلأي شيء يمنيه معاوية بهذه الأموال الطائلة ، وما قيمته إن أجابه الإمام إلى ذلك. غدر وخيانة
وغزى معاوية برسالته مشاعر عبيد الله فقد أخذ يطيل التفكير فى ارتكاب الجريمة والخيانة ، وتمثلت أمامه النقاط المغريات التي عرضها عليه معاوية وهي :
١ ـ مراسلة الحسن له في الصلح حسب الادعاء المزعوم.
٢ ـ الدخول فى معسكر معاوية وهو متبوع خير له من أن يكون تابعا.
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨. ٩٢
٣ ـ الحصول على مائة ألف درهم.
وانفق ليله ساهرا يفكر في الأمر ، قد ملأت الحيرة اهابه ، وتمثلت أمامه ( المادة ) التي منّاه بها معاوية وهو لم يظفر ببعضها فى ظل الحكومة الهاشمية التي بنيت على بسط العدل والمساواة ، وأخيرا سولت له نفسه الأثيمة بالغدر ونكث العهد ، فاستجاب لدنيا معاوية ، ومال عن الحق ، وانحرف عن الطريق القويم ، وخان الله ورسوله ، وترك سبط النبي (ص) وريحانته ، والتحق بمعسكر الظلم والجور ، وقد تسربل بثياب العار والخزي.
لقد تسلل عبيد الله الى معاوية فى غلس الليل البهيم ومعه ثمانية آلاف من الجيش (١) من ذوي الأطماع والأهواء الذين لم ينطبع الدين في قلوبهم ففي عنق عبيد الله الخائن الأثيم تقع المسئولية الكبرى ، فقد أدت خيانته الى زعزعة الجيش وتفلل وحداته واضطرابه.
إن هذه الخطة التي سلكها معاوية كانت من أهم الأسباب التي مهدت نجاحه ، وفوزه بالموقف وتغلبه على الأحداث ، فقد سببت اندحار جيش الإمام ، وقضت على عزائمه ، وفتحت باب الخيانة ، والغدر على مصراعيهما. اضطراب الجيش
وأصبحت البقية الباقية من الجيش تفتش عن قائدها ليصلي بها صلاة الصبح فلم تجده ، ولما علمت خيانته وغدره والتحاقه بالعدو اضطربت أشد الاضطراب ، وماجت فى الفتن ، وارتطمت بالنزاع والخلاف ، ولما رأى قيس بن سعد الرجات العنيفة ، والفتن السود قد ضربت أطنابها على الجيش قام فصلى بهم صلاة الصبح ، وبعد الفراغ منها قام خطيبا فهدأ روعهم
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١. ٩٣
وأثابهم الى الصواب والرشاد ، وهذا نص خطابه.
« إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط ، إن أباه عمّ رسول الله (ص) خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري (١) فأتى به رسول الله (ص) فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وإن هذا ولاّه علي على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع » (٢).
وملك قيس أحاسيس الجيش وشعورهم بخطابه المؤثر الرصين ، فقد رأوا في كلامه منطق الحق ، وفي شخصيته صلابة الإيمان ، وتبين لهم أن عبيد الله خليق بالخيانة ، ومظنة لكل سوء ، وانه لو كان عنده شعور نبيل أو عاطفة انسانية لما هرب من اليمن وترك ولديه بيد الجزار بسر بن أبي أرطاة فقتلهما.
__________________
(١) كعب بن عمرو الأنصاري السلمي ، شهد بدرا بعد العقبة ، وهو الذي أسر العباس يوم بدر ، وانتزع راية المشركين وكانت بيد أبي عزيز ، وشهد مع أمير المؤمنين صفين ، توفي في يثرب سنة (٥٥) جاء ذلك في الاستيعاب ٤ / ٢١٥ ، وجاء في تهذيب التهذيب ٨ / ٤٣٧ ، انه آخر من مات من أهل بدر وأنه شهد مع أمير المؤمنين جميع مشاهده ، توفي وله من العمر مائة وعشرون سنة ، وفي المسند من حديث له : أن النبي (ص) بعثه في حاجة فرآه موليا فقال : « اللهم امتعنا به » فكان من آخر الصحابة موتا ، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكى ، وقال : امتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.
(٢) مقاتل الطالبيين ص ٣٥. ٩٤
وانبرى الجيش بجميع كتائبه فأعلن التأييد والخضوع لمقالته وهم يهتفون « الحمد لله الذي أخرجه من بيننا. » (١)
وتسلم قيس القيادة ـ بعد غدر عبيد الله ـ بنص الإمام وبالترشيح من جميع القوات المسلحة ، وحينما تسلم منصبه الجديد رفع للإمام مذكرة أخبره فيها بوقوع الحادث المؤسف وبتسلمه مهام القيادة ، وهذا نصها :
« إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها ( الجنوبية ) بإزاء ( مسكن ) وان معاوية أرسل الى عبيد الله بن العباس يرغبه فى المصير إليه ، وضمن له ألف ألف درهم ، يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة ، فانسل عبيد الله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم ... (٢)
وساعد الله قلب الإمام الحسن حينما انتهى إليه هذا النبأ المؤسف ، فقد أترعت نفسه الشريفة بالآلام والهواجس ، ويئس من الظفر والنصر ، وعلم أن أكثر من معه لا واقعية لهم ، وانهم يسلمونه عند الوثبة ويغدرون به عند اندلاع نار الحرب. وأما جيشه الرابض معه فى « المدائن » فانه لما علم بخيانة عبيد الله ، والتحاقه بمعسكر العدو ارتطم في الفتن ، وماج في الشر ، واستولى عليه الذعر والخوف ، وأخذ أكثر قادته يلتمسون الطرق للاتّصال بمعاوية والظفر بأمواله. اكاذيب واضاليل :
وبعد ما طعن معاوية الجيش العراقي في صميمه بعمليات الرشوة ، سلك
__________________
(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٥.
(٢) الإرشاد ص ١٧٠. ٩٥
طرقا أخرى في إفساده واماتة نشاطه ، فقد أرسل عيونه وخواصه ينشرون الأكاذيب ، ويبثون الإرهاب في جميع كتائب الجيش سواء المقيمة في المدائن ، أو فى مسكن ، وكانت تلكم الإشاعات ذات صور وهي :
أ ـ إذاعتهم في « المدائن » أن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، وصار معه (١) ، ولم يشك الجيش في صدق هذه الدعاية ، فان عبيد الله بن العباس الذي هو أمس الناس رحما بالإمام قد غدر به وخانه فكيف بغيره.
ب ـ إشاعتهم في « مسكن » ان الإمام قد صالح معاوية وأجابه (٢).
ج ـ افتراؤهم على من في « المدائن » ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا (٣).
ومزقت هذه الدعايات الكاذبة أعصاب الجيش ، وأماتت نشاطه العسكري ، وأصبح متفككا تسوده الفتن والأهواء. خلاصة الأحداث :
ومجمل ما تقدم من الفتن السود ، والخيانة المفضوحة التي منيت بها المقدمة التي هي أقوى فصائل الجيش أمور :
١ ـ تسلل ذوي الوجاهة والنفوذ من ذوي البيوتات الشريفة والأسر البارزة الى معاوية.
٢ ـ غدر القائد العام عبيد الله بن العباس وخيانته لسبط النبي وريحانته.
__________________
(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤.
(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.
(٣) حياة الحيوان للدميري ١ / ٥٧. ٩٦
٣ ـ خيانة ثمانية آلاف من الجيش ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وناهيك بالضعف والاختلال الذي منيت به المقدمة بعد انسحاب هذا العدد الخطير منها.
٤ ـ اضطراب الجيش على الإطلاق سواء أكان في مسكن أو فى المدائن بسبب الإشاعات الكاذبة التي أذاعها أتباع معاوية من أن الحسن قد صالح معاوية ، وأن قيسا قد قتل.
هذه خلاصة الأخطار الفظيعة التي اصيبت بها « المقدمة » وقد أوجبت انهيارها وأماتت نشاطها ، وأصبحت لا لياقة لها على مواجهة الأحداث ، ولا قابلية لها على الدفاع ورد العدوان الأموي الذي يتمتع بأتم القابليات وأضخم الطاقات. وبعد هذه الزعازع التي فتكت بالمقدمة هل يصح أن يقال إنها جبهة قوية لها القدرة على مناجزة معاوية؟!! حوادث المدائن :
ونزح الإمام الحسن عن عاصمته ، وقد نفر معه أخلاط من الناس ، وأخذ في مسيره على حمام عمر حتى أتى دير كعب في « مظلم ساباط » (١) فاستقوا فيه ، وأخذ معاوية يعيث فسادا فى جيش الإمام حقى ارتطم بالفتن والخطوب ، ونقدم عرضا من النكبات التي مني بها ، والى الأحداث الهائلة
__________________
(١) مظلم ساباط : يقع قرب المدائن ، ولم يعلم سبب التسمية ، وذكر مظلم ساباط زهرة بن حوية في قوله :
ألا أبلغا أبا حفص آية
وقولا له قول الكمي المغاور
بأنا أثرنا آل طوران كلهم
لدى مظلم يهفو بحمر الطواهر
معجم البلدان ٨ / ٩١. ٩٧
التي واجهها الإمام الحسن. اذاعة الذعر :
وكانت أول بادرة فعلها معاوية لإفساد جيش الإمام أنه بعث عبد الله ابن عامر ليبثّ الخوف والجزع فى نفوس العراقيين فانطلق عبد الله فنادى بأعلى صوته بين صفوف الجيش العراقى :
« يا أهل العراق ، إني لم أر القتال ، وإنما أنا مقدمة معاوية وقد وافى الأنبار في جموع أهل الشام ، فأقرءوا أبا محمد « يعني الحسن » عني السلام وقولوا له : أنشدك الله في نفسك وأنفس هذه الجماعة التي معك ».
وحينما سمعوا ذلك داخلهم من الخوف والرهبة الى حد لا سبيل الى تصويره ، وأخذ بعضهم يخذل بعضا ، وسئموا القتال ، وكرهوا الحرب. رشوة الزعماء :
لا تزال الرشوة قديما وحديثا هي الثغرة الوحيدة التي يسلك فيها المستعمرون للاستيلاء على الشعوب ، وسلب سيادتها ، والقضاء على أصالتها وقد أمعن معاوية في استعمال الرشوة بنطاقها الواسع في شراء الضمائر والذمم والأديان لأجل تدعيم ملكه ، والقضاء على حكومة الإمام ، استعمل في سبيل هذه الغاية كل وسيلة ، وسلك كل طريق لأن « الغاية تبرر الواسطة » والرشوة التي استعملها كانت ذات طوابع مختلفة وهي :
أ ـ منح الوظائف المهمة ، والمناصب الخطيرة في الدولة كالولاية على قطر من الأقطار أو القيادة العامة على جيش من جيوشه لمن غدر بالإمام الحسن ، واستجاب له.
ب ـ بذل الأموال الضخمة من المائة ألف فما فوق. ٩٨
ج ـ الوعد بتزويج إحدى بناته ، ومن الغريب ان تتوصل خساسة الرشوة الى مثل هذا اللون الذي ينم عن انحطاط النفس وتماديها في الرذائل والموبقات.
ودلت هذه الأساليب على دراسة معاوية لنفوس العراقيين ، فقد عرف الأشخاص الذي تشترى ضمائرهم بالمادة فبذلها لهم بسخاء ، والأشخاص الذين لا يقيمون وزنا للمادة منّاهم بالوظائف والنفوذ ، والأشخاص الذين يحبون الاتصال والقرب منه منّاهم بزواج إحدى بناته ، وقد نص على هذه الجهات الصدوق رحمهالله فى كلامه قال :
« وبعث معاوية لكل من عمرو بن حريث (١) ، والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر (٢) عينا من عيونه يمنى كل واحد منهم بقيادة جند من
__________________
(١) عمرو بن حريث بن عثمان القرشي المخزومى الكوفي ، كان عمره يوم توفى رسول الله (ص) اثنى عشر سنة ، وكان من الطلقاء الصغار ولى الكوفة عن زياد وابنه عبيد الله توفى سنة ٨٥ وقيل ٩٨ هج تهذيب التهذيب ٧ / ١٧.
(٢) حجار بن أبجر العجلي كان أبوه نصرانيا فقال له : يا أبت أرى قوما قد دخلوا فى هذا الدين فشرفوا وقد أردت الدخول فيه ، فقال له أبوه : يا بني أصبر حتى أقدم معك على عمر ليشرفك ، وإياك أن تكون لك همة دون الغاية القصوى ، ووفد على عمر فقال أبجر لعمر : أشهد أن لا إله إلا الله وأن حجارا يشهد أن محمدا رسول الله ، فقال عمر : وما يمنعك أن تقولها أنت؟ فقال أبجر : « إنما أنا هامة اليوم أو غد ». وذكر المرزباني في معجم الشعراء : إن أبجر مات على نصرانيته في زمن أمير المؤمنين علي (ع) قبل قتله بيسير ، ولما مات شيّعته النصارى ، وكان حجار يمشي فى جانب مع أناس من المسلمين ، جاء ذلك فى الاصابة ١ / ٣٧٣. وجاء في كثير من المصادر التاريخية : أن حجارا كان من الأشخاص الذين راسلوا سيد الشهداء الحسين (ع) بالقدوم الى العراق ، ولما قدم (ع) الى العراق كان هذا الأثيم في طليعة الواثبين عليه. ٩٩
جنوده ، أو بتزويج إحدى بناته ، أو بمائة ألف درهم إن هم قتلوا الحسن وقد بلغه ذلك فاستلأم (١) ولبس درعا ، فكان لا يتقدم للصلاة إلا وعليه وقاية » (٢). تأثير الرشوة :
واستجابت النفوس المريضة التي لم يهذبها الدين الى دعوى معاوية ، وانجرفت بدنياه الحلوة وانخدعت بوعوده المعسولة ، فأخذت تتهاوى على أعتابه ملبية طلباته ، وممتثلة لأمره ، فراسله جمع من الأشراف والوجوه والبارزين برسائل متعددة أعربوا فيها عن استعدادهم الى الفتك بالإمام متى طلب وأراد وهي ذات مضمونين :
١ ـ تسليم الحسن له سرا أو جهرا.
٢ ـ اغتياله وقتله متى أراد ذلك.
وقد بعث معاوية بتلكم الرسائل الى الإمام ليطلع فيها على خيانة جيشه ، وعند ما عرضت عليه تلك الرسائل أيقن بفسادهم وتخاذلهم وسوء نياتهم (٣).
ومن تأثير الرشوة على تلك النفوس المريضة التي انمحت عنها جميع النواميس الإنسانية ، ان الإمام (ع) وجه قائدا من كندة فى أربعة آلاف وأمره أن يعسكر بالأنبار وأن لا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره ، فلما نزل بها عرف معاوية فوجّه إليه رسولا وكتب معه « إنك إن أقبلت إليّ أو لك بعض كور الشام والجزيرة غير منفس عليك » وأرسل إليه بخمسمائة ألف
__________________
(١) استلأم : أي لبس لامة حربه.
(٢) علل الشرائع ص ٨٤.
(٣) جنات الخلود الفصل التاسع منه ، وكشف الغمة ص ١٥٤ وغيرها. ١٠٠
درهم ، فقبض الكندي المال وانحاز الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته ، فبلغ الحسن (ع) ذلك فتأثر وقام خطيبا وهو متذمر ومتألم أشد الألم من ذلك المجتمع الذي جرفته الخيانة ، وصار فريسة للباطل والضلال فقال عليهالسلام :
« هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلا آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم ».
وبعث عليهالسلام رجلا آخر من مراد في أربعة آلاف ، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتأكد عليه ، ولكنه أخبره انه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان الموثقة أنه لا يفعل ذلك ، فلم يطمئن منه الحسن وقال متنبئا : « إنه سيغدر ».
وسار حتى انتهى الى الأنبار ، فلما علم معاوية به أرسل إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسة آلاف ولعلها خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن وأخذ طريقه الى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود (١).
وارتكب هذه الخيانة جمع غفير من الأشراف والوجوه. وقد أدّى ذلك الى زعزعة كيان الجيش واضطرابه ، وتفلل جميع وحداته. ٤ ـ نهب أمتعة الامام :
وانحطت نفوس ذلك الجيش انحطاطا فظيعا ، واستولت على ضمائره
__________________
(١) البحار ١٠ / ١١٠. ١٠١
سحب قاتمة لا بصيص فيها من نور الكرامة والشرف ، فارتكبوا كل جريمة وموبقة. ومن انحطاط نفوسهم ان بعضهم جعل ينهب بعضا ، ولم يكتفوا بذلك حتى عدوا الى أمتعة الإمام وأجهزته فنهبوها ، وأكبر الظن أن للخوارج ضلعا كبيرا في هذا الإجرام ، فانهم لا يرون حرمة للإمام ، ولا حرمة لأموال غيرهم ، فقد أباحت خططهم الملتوية أموال من لا يدين بفكرتهم ولا يخضع لدينهم ، وقد وقعت جريمة نهب الإمام فى موردين هما :
١ ـ حينما دس معاوية عيونه في جيش الإمام ليذيعون أن الزعيم قيس بن سعد قد قتل فانهم حينما سمعوا ذلك نهب بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن (١) وتنص بعض المصادر انهم نزعوا بساطا كان الإمام جالسا عليه واستلبوا منه رداءه (٢).
٢ ـ لما أرسل معاوية المغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الرحمن بن الحكم الى الإمام ليفاوضونه في أمر الصلح ، فلما خرجوا من عنده أخذوا يبثون بين صفوف الجيش لإيقاع الفتنة فيه قائلين : « إن الله حقن الدماء بابن بنت رسول الله (ص) وقد أجابنا الى الصلح » ولما سمعوا بمقالتهم اضطربوا اضطرابا شديدا ووثبوا على الإمام فانتهبوا مضاربه وأمتعته (٣). ٥ ـ تكفيره :
وخيم الجهل على قلوب ذلك الجيش المصاب بأخلاقه وعقيدته ، فراح يسرح في ميادين الشقاء والغواية متماديا في الإثم والضلال ، وبلغ
__________________
(١) الطبري ٤ / ١٢٢ ، البداية والنهاية ٨ / ١٤.
(٢) البحار ، أعيان الشيعة ، تأريخ اليعقوبي.
(٣) البحار ، شرح ابن أبي الحديد. ١٠٢
من طيشه وجهله أن بعضهم حكم بتكفير حفيد نبيهم ، فلقد انبرى له الجراح بن سنان الذي أراد قتله قائلا :
« أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!! ».
إن مجتمعا يرى هذا الاعتداء الصارخ على حفيد نبيهم ولا يقومون بنجدته لجدير بأن ينبذ ويترك لأنه لا ينفعه النصح ، ولا يثوب الى الحق والرشاد ، وأغلب الظن أن الذين حكموا بكفر الإمام كانوا من الخوارج إذ لا يصدر هذا الاعتداء إلا من هؤلاء الأشرار. ٦ ـ اغتياله :
ولم تقف محنة الحسن وبلاؤه في جيشه الى هذا الحد فلقد عظم بلاؤه الى أكثر من ذلك فقد قدم المرتشون والخوارج على قتله ، وقد اغتيل (ع) ثلاث مرات وسلم منها وهي :
١ ـ انه كان يصلي فرماه شخص بسهم فلم يؤثر شيئا فيه.
٢ ـ طعنه الجراح بن سنان في فخذه ، وتفصيل ذلك ما رواه الشيخ المفيد رحمهالله قال : « إن الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره ، فأمر (ع) أن ينادى ( بالصلاة جامعة ) فلما اجتمع الناس قام عليهالسلام خطيبا فقال :
« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق وائتمنه على وحيه.
أما بعد : فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ، ولا غائلة وإن ما تكرهون فى الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفون أمري ، ١٠٣
ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ».
ونظر الناس بعضهم الى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد؟
واندفع بعضهم يقول :
« والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه!!! »
وما سمعوا بذلك إلا وهتفوا :
« كفر الرجل!!! »
وشدوا على فسطاطه فانتهبوه ، حتى أخذوا مصلاه من تحته ، وشدّ عليه الأثيم عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه من عاتقه ، فبقى الإمام جالسا متقلدا سيفه بغير رداء ، ودعا (ع) بفرسه فركبه ، وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته محافظين عليه ، وطلب عليهالسلام أن تدعى له ربيعة وهمدان فدعيتا له ، فطافوا به ودفعوا الناس عنه ، وسار موكبه ولكن فيه خليطا من غير شيعته ، فلما انتهى (ع) الى مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته ، وبيده مغول (١) فقال له :
« الله أكبر ، اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ».
ثم طعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرّا جميعا الى الأرض ، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن يقال له عبد الله بن حنظل الطائي ، فانتزع المغول من يده فخضض به جوفه ، وأكب عليه شخص آخر يدعى بظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثم حمل الإمام (ع) جريحا على سرير الى المدائن في المقصورة البيضاء لمعالجة جرحه (٢).
__________________
(١) المغول : آلة تشبه السيف.
(٢) الارشاد ص ١٧٠. ١٠٤
٣ ـ طعنه بخنجر فى أثناء الصلاة (١).
واتضحت للإمام (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة نوايا هؤلاء الأجلاف وانه سيبلغ بهم الاجرام والشر الى ما هو أعظم من ذلك وهو تسليمه الى معاوية أسيرا فتهدر بذلك كرامته أو يغتال ويضاع دمه الشريف من دون أن تستفيد الأمّة بتضحيته شيئا. الموقف الرهيب :
وكان موقف الإمام الحسن عليهالسلام من هذه الزعازع ، والفتن السود التي تدع الحليم حيرانا ، موقف الحازم اليقظ ، فقد كان من حنكته وحسن تدبيره ، وبراعة حزمه فى مثل الانقلاب الذي مني به جيشه أن جمع الزعماء والوجوه ، فأخذ يبين لهم النتائج المرة والأضرار الجسيمة التي تترتب على مسالمة معاوية قائلا :
« ويلكم ، والله إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي فى يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي ، وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ، ولكن كأني أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ».
ولم تنفع جميع المحاولات التي بذلها الإمام من أجل استقامتهم وصلاحهم فقد أخذ الموقف تزداد حراجته ، ويعظم بلاؤه ، وتشتد فيه الفتن والخطوب وقد وجد زعماء الجيش انشغال الإمام بمعالجة جرحه فرصة إلى الاتصال
__________________
(١) ينابيع المودة ص ٢٩٢. ١٠٥
المفضوح بمعاوية ، والتزلف إليه بكل وسيلة ، وقد علم الإمام (ع) جميع ما صدر منهم من الخذلان والاتصال بالعدو.
حقا لقد كان موقف الإمام موقفا تمثلت فيه الحيرة والذهول ، ينظر الى معاوية فيرى حربه ضروريا يقضي به الدين ويلزم به الشرع وينظر الى الانقلاب والتفكك الذي أصيب به جيشه ، والى المؤمرات المفضوحة على اغتياله فينفض يده منهم وييأس من صلاحهم ، ومع ذلك أراد عليهالسلام أن يمتحنهم ليرى موقفهم من الحرب لو اندلعت نارها ، فأمر (ع) بعض أصحابه أن ينادى في الناس ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الجمهور فقام فيهم خطيبا فقال بعد حمد الله والثناء عليه :
« والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم فى مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، وأما الباقي فخاذل وثائر ».
وأعرب (ع) بهذا الخطاب البليغ عن بعض العوامل التي أدت الى تفككهم وانحلالهم ، وعرض عليهم بعد هذا دعوة معاوية في الصلح قائلا :
« ألا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ، ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه بظبات السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذناه بالرضا ».
وما انتهى (ع) من هذه الكلمات إلا وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الجمع وهي ذات مضمون واحد : ١٠٦
البقية ، البقية (١).
ورأى (ع) بعد هذا الموقف أنه إن حارب معاوية حاربه بيد جذاء إذ لا ناصر له ولا معين ، ولم يكن هناك ركن شديد حتى يأوي إليه ، واستبانت له الخطط المفضوحة التي سلكها زعماء الجيش من تسليمه الى معاوية أسيرا أو اغتياله ، رأى بعد هذا كله ان الموقف يقضي بالسلم واستعجال الصلح.
وحدث يزيد بن وهب الجهني عن مدى استياء الامام وتذمره من أجلاف الكوفة وأوباشهم ، قال : دخلت عليه لما طعن فقلت له :
« يا ابن رسول الله ، ان الناس متحيرون ».
فاندفع الامام يقول بأسى بالغ وحزن عميق :
« والله أرى معاوية خيرا لي ، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمى وآمن به أهلي وشيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتى ، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن اسالمه وأنا عزيز أحب من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منّا والميت ».
وأعرب الإمام فى حديثه عن مدى ما لاقاه من الاعتداء الغادر على حياته وكرامته من هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم شيعة له ، وانه سيبلغ بهم التفسخ الى أقصى حد فسيقتلونه أو يسلمونه أسيرا الى معاوية فيقتله أو يمن عليه فيسجل له بذلك يدا على الإمام وتكون سبة وعارا على بني هاشم الى آخر الدهر.
__________________
(١) حماة الاسلام ١ / ١٢٣ ، المجتنى لابن دريد ص ٣٦ ، ١٠٧
وأخذ (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة يجيل النظر ويقلب الرأي على وجوهه ، فى حرب معاوية وتصور المستقبل الملبد بالزعازع والاضطرابات التي تقرر المصير المخوف والنهاية المحتومة لدولته وحياته معا بل وعلى حياة الإسلام أيضا لأن القلة المؤمنة التي يحويها جيشه كانت بين ذرية النبي الأعظم (ص) وبين حملة الدين الإسلامى المقدس ، من بقايا الصحابة وتلامذة أمير المؤمنين (ع) وهؤلاء إن طحنتهم الحرب تفنى معنويات الإسلام ، ويقضى على كيانه وتحطم عروشه ، لأنهم هم القائمون بنشر طاقاته ، ومضافا الى ذلك ان الإسلام لا يستفيد بتضحيتهم شيثا لأن معاوية بمكره سوف يلبسهم لباس الاعتداء ، ويوصمهم بالخروج عن الطاعة والإخلال بالأمن العام والقضاء عليهم أمر ضروري حفظا لحياة المسلمين من القلق والاضطراب.
حقا لقد تمثلت الحيرة والذهول في ذلك الموقف الرهيب والخروج من مأزقه يحتاج الى فكر ثاقب والى مزيد من التضحية والإقدام ، رأى الامام عليهالسلام أن المصلحة التامة تقضي أن يصالح معاوية ويعمل بعد ذلك على تحطيم عروش دولته ، ويعرب للناس عاره وعياره ، ويظهر لهم الصور الإجرامية التي تتمثل فيه! لقد سالم (ع) وكانت المسالمة أمرا ضروريا يلزم بها العقل ويوجبها الشرع المقدس ، وتقتضيها حراجة الموقف ، واضافة لهذه الأحداث سوف نقدم أسبابا أخرى توضح المقام وترفع أثر الشك وترد شبهات الناقدين ١٠٨
اسباب الصّلح ١٠٩ ١١٠
تحوم حول صلح الامام الحسن (ع) مع خصمه معاوية كثير من الظنون والأقوال ، ويستفاد منها حكمان متباينان بكل ما للتباين من معنى والحق أن أحدهما خطأ وبعيد عن الصواب كما هو الشأن في كل حكمين متباينين :
« الأول » من هذين الحاكمين تبرير موقف الامام في صلحه وموفقيته فيه الى أبعد الحدود ، ويختلف مبنى التعليل فيه ، فطائفة من العلماء والبحاث عللته بأنه إمام والإمام معصوم من الخطأ ، فلا يفعل إلا ما هو الصالح العام لجميع الأمّة ، وسنذكر في أواخر هذا البحث الذاهبين الى هذا القول وتعليل آخر يكشف عن مناط القول الأول ، ويوضح مدركه وهو يستند الى العلل المادية التي اضطرت الامام الى الصلح كخذلان جيشه ، وفساد مجتمعه ، وخيانة الزعماء والمبرزين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل ،
« الثاني » من هذين الحاكمين تعود خلاصته الى ضعف ارادة الامام وعدم احاطته بشئون السياسة العامة وعجزه عن ادارة دفة الدولة ، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين ، فان نال الظفر فذاك وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين ، وهدف المصلحين ، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمت الى الواقع بصلة ولا تلتقي معه بطريق وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالامام ، وعدم الوقوف على اتجاه شعبه الذي اصيب بأخلاقه وعقيدته ، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع ، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :
١ ـ الصفدي :
قال الصفدي فى شرحه لهذا البيت من لامية العجم : ١١١
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:46 pm | |
| حب السلامة يثني عزم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
وقد رضى بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم ، وأخلوا الدسوت من تصديرهم ، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :
« وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال لمعاوية : إن عليّ دينا فأوفوه عني وأنتم فى حل من الخلافة ، فأوفوا دينه وترك لهم الخلافة » (١).
٢ ـ الدكتور فيليب حتى :
قال الاستاذ فيليب حتى : « وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت أعني اعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي ، ولعلمهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته ، ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف ، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها » (٢).
٣ ـ العلائلي :
قال الاستاذ العلائلي : « ولكنه ( يعني الحسن ) كان قديرا على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس ، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال « نابليون » الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب ، وزاد هو فى انهاكه بالحروب
__________________
(١) شرح لامية العجم ٢ / ٢٧ وقد خبط الصفدي خبط عشواء ، فان الامام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ بالله من هذا الافتراء.
(٢) العرب ص ٧٨. ١١٢
المتتالية المستمرة التي اخذ بها أوربا ، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس » (١).
٤ ـ المستشرق « روايت م رونلدس » :
قال هذا المستشرق : « فان الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح » (٢).
٥ ـ لامنس :
قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامى شيئا : « وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة الى قتال أهل الشام ، وقلب هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة ، فلم يعد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية ، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق ، وانتهى بهم الأمر إلى اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الى اتفاق مع الأمويين ، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى ، ودخل كورة فى فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بيد انه اجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم
__________________
(١) الحلقة الثانية من حياة الحسين ص ٢٨٣.
(٢) عقيدة الشيعة تعريب ع م ص. وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام ، وقد شحن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين وقد تعرض الاستاذ السيد عبد الهادي المختار في مجلة البيان الزاهرة في عددها الخاص بسيد الشهداء من السنة الثانية عدد ٣٥ ـ ٣٩ إلى تزيفه وعرض أكاذيبه. ١١٣
يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة » (١)
وهؤلاء الناقدون لصلح الامام كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام ، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن
__________________
(١) دائرة المعارف الاسلامية ج ٧ ص ٤٠٠ وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الاسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث ( لامنس ) عن الشيعة وعن أئمتهم فانها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم ، والسبب في ذلك ان لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الاسلام والكيد له ، مضافا الى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المستشرقين زار ( طهران ) عاصمة إيران بعد أن تعلم اللغة الفارسية في مدارس الألسنة الشرقية وقد حاول أن يضع تأريخا عن حالة إيران الاجتماعية والأخلاقية كما يشاهدها فرأى حمالين وعلى رءوسهم أوانيا وأسبابا فاخرة ، وأمامهم الدفوف والمزامير فسأل عن ذلك فقال له بعض الحاضرين إنهم يحملون جهاز عروس ، ثم سأل عن اسم الزوج فقال له بعض الحاضرين ( ما ذا يهمك؟ ) ، وفي المساء رأى هذا المستشرق رجلا يضرب امرأة في الشارع فسأل بعض الحاضرين عن القصة فأخبره أن الضارب زوجها وقد تركته بغير حق ، ثم سأل عن أسم الزوج فقال له ( ما ذا يهمك؟ ) فظن المستشرق ان اسم الرجل ما ذا يهمك ، وإنه العريس الذي رأى جهازه صباحا ، فكتب هذا المستشرق في كتابه تاريخ ايران انه رأى في عاصمتها عريسا يقترن صباحا ويضرب عروسه في الشارع مساء وان اسمه ما ذا يهمك ، هذا حال المستشرقين في الأمور الظاهرة البديهية فكيف حالهم في النظريات الدقيقة الغامضة هذا إذا لم يعتمدوا على التحريف فكيف إذا اعتمدوا عليه ومن المؤسف ان شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في اطروحاتهم مع انها لا نصيب لها من الصحة والواقع. ١١٤
قولهم الدليل فى جميع أحواله ، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته إلى مسالمة خصمه ، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يمثل للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا الى الصواب وبعيدا عن الخطأ وبما أنا وقفنا بعض الوقوف أو أقله على بعض العلل والعوامل التي دعت الامام لمسالمة عدوه ، وهي تتلخص في أمور استنبطنا بعضها من الابحاث السالفة والبعض الآخر استنتجناه من دراسة نفسية معاوية وملاحظة أعماله ، ومن الوقوف على أضواء سيرة الامام الرفيعة ، ومعرفة سياسة أهل البيت (ع) التي لا تتذرع بالوسائل التي شجبها الاسلام في سبيل الوصول الى الحكم وقبل أن نعرض أسباب الصلح نود أن نبين انا قد نعيد نماذج بعض المواضيع السالفة لأجل الاستدلال على ما نذهب إليه فان في الاعادة ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، فان تفصيل هذا الموضوع والاحاطة به أهم من غيره ، ولعل نظر القراء إليه وهي كما يلي : ١ ـ تفلل الجيش :
إن أعظم ما تواجهه الدولة فى جميع مجالاتها مسبب ـ على الأكثر ـ من خبث الجند ، وشدة خلافه ، وعصيانه لقيادته العامة ، وقد مني الجيش العراقي آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يبتل به جيش معاوية فانه ظل محتفضا بالولاء لحكومته ولم يصب بمثل هذه الرجات والانتكاسات ، أما العلل التي أدت الى اضطراب الجيش العراقي وانشقاقه فهي : أ ـ تضارب الحزبية فيه :
إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم ١١٥
القائم ، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها ، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به ، فان الدولة لا تلبث أن تلاقي النهاية المحتومة إن عاجلا أو آجلا ، وقد ابتلي الجيش العراقي في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها ، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها ، وهما : الحزب الاموي :
وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوتات الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية ، والظفر بالمال والسلطان وهم كعمر بن سعد ، وقيس ابن الأشعث ، وعمرو بن حريث ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة ، وكانوا أهم عنصر مخيف فى الجيش ، فقد وعدوا معاوية باغتيال الامام أو بتسليمه له أسيرا كما قاموا بدورهم باعمال بالغة الخطورة وهي :
١ ـ إنهم سجلوا كل ظاهرة أو بادرة فى الجيش فارسلوها الى معاوية للاطلاع عليها.
٢ ـ كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.
٣ ـ قاموا بنشر الأراجيف والارهاب فى نفوس الجيش بقوة معاوية وضعف الحسن.
وأدت هذه الأعمال الى انهيار الجيش ، وزعزعة كيانه ، وضعف معنوياته في جميع المجالات. ١١٦ الحزب الحروري :
وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم ، ومحاربته بجميع الوسائل ، وقد انتشرت مبادئه في الجيش العراقي انتشارا هائلا لأن المبشرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابلياتهم بقوله : « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع » (١) ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثر يهم في النفوس بقوله : « إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كل من خالطهم » (٢) وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به « لا حكم إلا لله » ولم يقصد بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن (٣)
لقد قضت خطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتم إليهم وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عسر عليهم مقاومتهم. وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية لأنها قد وترتهم بأعلامهم ، وقضت على الكثيرين منهم فى واقعة النهروان ، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم ، كما اغتالوا الإمام الحسن (ع) وطعنوه في فخذه ، وحكموا بتكفيره ، وكانت كمية هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نصت بعض المصادر أن أكثرية الجيش
__________________
(١) اليراع : القصب.
(٢) الطبري ٦ / ١٠٩.
(٣) السيادة العربية ص ٦٩. ١١٧
كانت من الخوارج (١).
وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش ، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء ، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة منه كان موقفها موقفا سلبيا في قضية الإمام الحسن (ع) لأنها لا تفقه الأهداف الأصيلة التي ينشدها الامام ، ولضيق تفكيرها ترى أن الامام كل من ارتقى دست الحكم من أي طريق كان فالحسن ومعاويه سيان ، وإن حارب الحسن معاوية على الدين ، وحارب معاوية الحسن على الدنيا.
ولم يعد بعد ذلك من يناصر الحكومة الهاشمية ، ويقف الى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحجر ابن عدي ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (ع) وهم الأقلية عددا كما قال الله تعالى « وقليل ما هم » وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها فانهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الامام أمير المؤمنين على قبول التحكيم ولما التجأ الامام الحسن الى الصلح. ب ـ السأم من الحرب :
ان من طبيعة الكوفة التي جبلت عليها نفوس أهلها السأم والملل « ولا رأي لملول » ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته وهما :
__________________
(١) أعيان الشيعة ٤ / ٤٢. ١١٨ ١ ـ الحروب المتتالية :
ومما سبب شيوع الملل والسأم فى نفوس الجيش العراقي الحروب المتتالية فان الدولة كانت تستعمله فى الفتوحات والدفاع عنها ، وزاد في ضعف أعصابه وانهياره حرب صفين والنهروان ، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويؤثرون السلم ويحبون العافية. ٢ ـ اليأس من الغنائم :
ولم يربح الجيش العراقي في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال ، لأن الامام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار فيقسم غنائمهم على المسلمين ، وإنما أمر بارجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة (١) وقد علم الجيش أن الامام الحسن (ع) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه ، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية فاعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.
إن كراهية الجيش العراقي للحرب وإيثاره للعافية لم يكن ناشئا في « مسكن » وإنما كان عقيب رفع المصاحف وواقعة النهروان فقد خلد بجميع كتائبه إلى السلم ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب صورا من الاعتداءات الغادرة التي قامت بها قوات معاوية على الحدود العراقية وغزوهم لمدن العراق ، وترويعهم للآمنين ، وقتلهم الأبرياء ، وهم متخاذلون متقاعسون عن ردها لا تحركهم العواطف الدينية ولا يهزهم الشعور الانساني لدفع الضيم والذل عنهم ، يأمرهم الامام أمير المؤمنين بالجهاد فلا يطيعونه ، ويدعوهم إلى مناصرته فلم يستجيبوا له ، وقد ترك ذلك أسى مريرا وشجى مقيما في نفسه ، وقد اندفع فى كثير من خطبه إلى انتقاصهم وذمهم يقول (ع) :
__________________
(١) علي وبنوه ص ٥٥. ١١٩
« لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ».
ويستمر في تقريعه ولومه لهم ، وإبداء تأثره على تخاذلهم ونكوصهم عن الحرب فيقول :
« وما أنتم بركن يمال بكم ، وأيم الله إني لأظن أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت قد انفرجتم من ابن أبي طالب انفراج الرأس ... ».
ويصف (ع) فى خطاب آخر عدم اندفاعهم للجهاد في سبيل الله ، ومدى محنته وبلائه فيهم فيقول :
« ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدء فمنهم الآتي كرها ، ومنهم المعتل كاذبا. ومنهم القاعد خاذلا ، واسأل الله أن يجعل منهم فرجا عاجلا والله لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة لا حببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا » (١).
ويقول (ع) في خطاب آخر له :
« المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (٢) أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم! ما دواؤكم
__________________
(١) النهج محمد عبده ٣ / ٦٧.
(٢) الأفوق من السهام : مكسور الفوق وهو موضع الوتر من السهم ، الناصل : العاري عن النصل أي : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له. ١٢٠
ما طبكم ... » (١).
وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا ـ على حد تعبيره ـ وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (ع) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :
« البقية البقية ».
ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية. ج ـ فقد القوى الواعية :
ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (ع) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (ص)
__________________
(١) نهج البلاغة محمد عبده ١ / ٧٠. ١٢١
وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه. د ـ الدعوة إلى الصلح :
ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.
وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته. ه ـ خيانة عبيد الله :
ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :
إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه
فلا عجب إن أسلمتك الاباعد
١٢٢
وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله (ص) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ». و ـ رشوات معاوية :
وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.
إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :
« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».
وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :
ولا فى سبيل الله لاقى حمامه
أبوكم ولكن في سبيل الدراهم (١)
إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.
لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية
__________________
(١) الطبري ٢ / ١٩. ١٢٣
ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي (١) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (ع) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار ـ على ما قيل ـ وكان آنذاك غلاما فقال له :
« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».
« وما ذاك؟ ».
« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».
فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :
« عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله فاوثقه بئس الرجل أنت » (٢).
ولم يكن المختار وحده ـ على تقدير صحة هذه الرواية ـ قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (ع) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد قال الإمام زين العابدين (ع) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه » (٣) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش
__________________
(١) سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (ع) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل وشرب حمد الله ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة ٢ / ٣٤.
(٢) الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته
(٣) خطط المقريزي ٢ / ٤٣٩. ١٢٤
الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته. ز ـ الاشاعات الكاذبة
ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.
إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!. ٢ ـ قوة العدو :
العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي : ١٢٥ أ ـ طاعة الجيش :
وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (ص) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح (١) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي (٢) :
أيها الناس اسمعوا أخبركم
عجبا زاد على كل العجب
عجبا من عبد شمس إنهم
فتحوا للناس أبواب الكذب
ورثوا أحمد فيما زعموا
دون عباس بن عبد المطلب
كذبوا والله ما نعلمه
يحرز الميراث إلا من قرب (٣)
ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس
__________________
(١) أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (١٠٨) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في ٣ ربيع الاول سنة (١٣٢) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (١٣٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠٠.
(٢) ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب ١ / ١٦٧.
(٣) مروج الذهب ٢ / ٣٣٥. ١٢٦
إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين الله » (١) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد. ب ـ بساطة وسذاجة :
وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :
« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».
وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا
__________________
(١) السيادة العربية ص ٧٠. ١٢٧
الحكم قائلا :
« أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة! ».
« حكم قد مضى ».
ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :
« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل » (١).
ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (ص) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.
وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٣٣٢. ١٢٨ ج ـ اتفاق الكلمة :
ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه. د ـ ضخامة القوى العسكرية :
وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.
وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (ص) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (ع) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر. ١٢٩ ه ـ حاشيته :
ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « والله لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.
لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (ص) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (ع) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول الله (ص) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال 130 | |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:48 pm | |
|
أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها. و ـ ضخامة الأموال :
ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (ص) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله. ٣ ـ اغتيال أمير المؤمنين :
ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه ١٣١
لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول الله (ص) فيه وقد رأى الإمام الحسن (ع) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (ع) بذلك بقوله :
« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».
حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم. ٤ ـ حقن الدماء :
ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :
« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي ... »
وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل » (١). وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.
« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. » (٢)
__________________
(١) الدينوري ص ٣٠٣.
(٢) أعيان الشيعة ٤ / ٤٢. ١٣٢
ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »
إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه. ٥ ـ منة معاوية :
لقد علم الإمام (ع) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (ع) بهذه الخاطرة قائلا :
« والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »
وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة. ٦ ـ حوادث المدائن :
ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.
أ ـ خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية. ١٣٣
ب ـ الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.
ج ـ اغتياله.
د ـ نهب أمتعته.
هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب. ٧ ـ الحديث النبوي :
نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :
« إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين » (١).
وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».
وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه
__________________
(١) تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص ٨١. ١٣٤
جده (ص) في ( المدائن ) رأى طائفتين :
( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.
( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة ٥٦٥ ه ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (ص) في ذلك (١).
وزعم الرواة ان النبي (ص) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون (٢).
__________________
(١) أنباء نجباء الأبناء ص ٥٦.
(٢) البداية والنهاية ٨ / ٤١ ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (ص) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي ـ ١٣٥
نظر الحسن (ع) الى قول جده (ص) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :
« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله (ص) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد الله خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق .. » (١)
إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال الله ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.
وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (ع).
« قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ، ولا يموتن حتى يملك
__________________
ـ في تأريخ الخلفاء ص ٦ ، وقد تحقق قوله (ص) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.
(١) البحار ١٣٦
ما تحت قدمي. » (١)
ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (ص) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.
ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل. ٨ ـ العصمة :
وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامام عليهالسلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :
١ ـ الشريف المرتضى :
قال الشريف المرتضى علم الهدى (٢) رحمهالله : « إنه ( يعني الحسن )
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٢٩٥.
(٢) الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفر عليهالسلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( ٣٥٥ هج ) ووفاته في سنة (٤٣٦) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء ١٣ / ١٤٦. ١٣٧
قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس » (١).
٢ ـ السيد ابن طاوس :
وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب الله مثواه (٢) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قال رحمهالله يخاطب ولده :
« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح
__________________
(١) تنزيه الأنبياء ص ٦٩.
(٢) السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات ٣ / ٤٣ ـ ٤٧ وجاء في الكنى والألقاب ١ / ٣٢٨ ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة :
فهذا علي نجل موسى بن جعفر
شبيه علي نجل موسى بن جعفر
فذاك بدست للامامة أخضر
وهذا بدست للنقابة أخضر
يشير بذلك الى الامام الرضا (ع) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( ٦٦٤ هج ). ١٣٨
الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد الله ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم » (١).
وعلل السيد رحمهالله صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (ص) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين عليهالسلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق. ٩ ـ ابراز الواقع الاموي :
كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام
__________________
(١) كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص ٤٦. ١٣٩
ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك ـ من دون شك ـ رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (ع) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب ـ كما يقولون ـ تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاء رحمهالله في مقدمته لهذا الكتاب (١).
إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (ص) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.
__________________
(١) ص ١٨ ـ ١٩. ١٤٠ أبو سفيان وهند :
وأبو سفيان من ألدّ أعداء النبي (ص) فهو الذي قاد الأحزاب ، وظاهر اليهود ، وناصر جميع القوى المعادية للإسلام ، وتضاعف حقده على النبي (ص) حينما وتره بأسرته وبسبعين رجلا من صناديد قريش ممن كانوا تحت لواء الشرك في غزوة بدر الكبرى ، فأترعت نفسه الأثيمة بالحزن عليهم ، وظل يناجز الرسول (ص) ويؤلب عليه الأحقاد ، ولكن الله رد كيده ، فنصر رسوله ، وأعز دينه ، وأذل أبا سفيان وحزبه ، فقد فتح النبي (ص) مكة ودخل ظافرا منتصرا فحطم الأصنام ، وكسر الأوثان ودخل أبو سفيان ـ على كره منه ـ في الاسلام ذليلا مقهورا يلاحقه العار والخزي ، وظل بعد إسلامه محتفضا بجاهليته لم يغير الاسلام شيئا من طباعه وأخلاقه ، وكان بيته وكرا للخيانة وكان هو كهفا للمنافقين (١).
ولما فجع المسلمون بالنبي (ص) وتقمص أبو بكر الخلافة أقبل أبو سفيان يشتد إلى أمير المؤمنين (ع) يطلب منه الثورة ومناجزة أبي بكر لارجاع الخلافة إليه ، ولم يكن ذلك منه إيمانا بحق أمير المؤمنين ، ولكن ليجد بذلك منفذا يسلك فيه للتخريب والهدم ، ولم يخف على الامام نواياه الشريرة فأعرض عنه وزجره ، وظل أبو سفيان بعد ذلك قابعا في زوايا الخمول ينظر إليه المسلمون نظرة ريبة وشك في اسلامه ، ولما آل الأمر الى عثمان وقرّب بني أمية ، وفوض إليهم أمور المسلمين ، ظهر أبو سفيان وعلا نجمه ، وراح يظهر الأحقاد ، والعداء الى النبي ، فوقف يوما قبال مرقد سيد الشهداء حمزة (ع) فألقى ببصره المتغور على القبر ثم حرّك شفتيه قائلا :
__________________
(١) الاستيعاب ١٤١
« يا أبا عمارة! .. إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا يلعبون به. »
ثم ركل القبر الشريف برجله ، ومضى مثلوج الصدر ، ناعم البال ، قرير العين ، كل ذلك بمرأى ومسمع من عثمان فلم يوجّه له عتابا ولم ينزل به عقابا ( فإنا لله وإنا إليه راجعون ).
هذا واقع أبي سفيان في كفره وحقده على الإسلام ، وأما زوجته هند فانها لا تقل ضراوة عن زوجها وكانت أحقد منه على رسول الله (ص) فكانت تحرض المشركين على قتاله ومناجزته ، ولما انتهت واقعة بدر بقتل أهلها ومن يمت إليها من المشركين ، لم تظهر الحداد والحزن (١) عليهم ، تحرض بذلك قريشا على الطلب بثارهم وجاءتها نسوة قريش قائلات لها :
« ألا تبكين على أبيك ، وأخيك ، وعمك ، وأهل بيتك »؟
فانبرت إليهن قائلة بحرارة :
« حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج لا والله حتى أثأر محمدا وأصحابه ، والدهن عليّ حرام إن دخل رأسي حتى نغزوا محمدا ، والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعينى من قتلة الأحبة. »
ومكثت على حالها لم تظهر الأسى ، ولم تقرب من فراش أبي سفيان
__________________
(١) كانت العادة في الجاهلية تأخير البكاء على القتيل منهم حتى يؤخذ بثأره فاذا أخذ بكت عليه نسوتهم وفي ذلك يقول شاعرهم :
من كان مسرورا بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه
يلطمن حر الوجه بالاسحار
صبح الأعشى ١ / ٤٠٥. ١٤٢
ولم تدهن حتى صارت واقعة أحد (١) فأخذت ثارها من سيد الشهداء حمزة فمثلت به ، وفعلت معه ذلك الفعل الشنيع ، فعند ذلك أظهرت السرور والفرح وأخذت ترتجز قائلة :
شفيت نفسي بأحد
حين بقرت بطنه عن الكبد
أذهب عني ذاك ما كنت أجد
من لوعة الحزن الشديد المعتمد
والحرب تعلوكم بشؤبوب برد
نقدم إقداما عليكم كالأسد
ولما رأى رسول الله (ص) ما فعلته هند بعمه من التنكيل غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، وقال :
« ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا الموقف ».
وقال (ص) ثانيا :
« لن أصاب بمثل حمزة أبدا .. » (٢)
ولما كان يوم الفتح ودخل المسلمون مكة قام أبو سفيان في أزقة مكة وشوارعها مناديا على كره منه من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فلما سمعت هند منه ذلك لطمته على وجهه وجعلت تصيح بلا اختيار :
« اقتلوا الخبيث الدنس ، قبّح من طليعة قوم .. »
ثم التفت الى جماهير قريش محرضة لهم على الحرب قائلة بنبرات تقطر حماسا : « هلاّ قاتلتم عن بلادكم ، ودفعتم عن أنفسكم .. »
تثير بذلك حفاظ النفوس ، وتلهب نار الثورة في قومها ، ولكن الله ردّ كيدها ، وخيّب سعيها ، فنصر الاسلام وأهله. هذان أبوا معاوية
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٤٢.
(٢) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٨٧. ١٤٣
وبقاعدة الوراثة نجزم بأن ما استقر في نفسيهما من الغل والحقد والبغض والعداء للإسلام ولرسول الله (ص) قد انتقل إلى معاوية ، ومضافا إلى ذلك فان رسول الله قد لاقى الأمويين عموما بالاستهانة والتحقير وذلك لما لاقى منهم من العناء والآلام ، فأمر بابعادهم عن يثرب كالحكم وابنه مروان وسعيد بن العاص والوليد ، وأمر المسلمين بالتجنب عنهم وسماهم بالشجرة الملعونة ، وهذه الامور التي شاهدها معاوية قد أولدت في نفسه حقدا على النبيّ (ص) وعلى أهل بيته. ما أثر عن النبي في معاوية :
وتضافرت الأخبار الواردة عن النبي (ص) في ذم معاوية وفي الاستهانة به وهي :
١ ـ قال (ص) يطلع من هذا الفج رجل يحشر على غير ملتي.
فطلع معاوية (١).
٢ ـ ورأى رسول الله (ص) أبا سفيان مقبلا على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به ، قال : لعن الله القائد والراكب والسائق (٢).
٣ ـ وروى البراء بن عازب قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال
__________________
(١) تاريخ الطبري ١١ / ٣٥٧ ، وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص ٢٤٧ ان النبيّ (ص) قال : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت حين يموت على غير سنتي.
(٢) تاريخ الطبري ١١ / ٣٥٧ ، ورواه الإمام السبط الحسن (ع) عن جده ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين ٢٤٧. ١٤٤
رسول الله (ص) : اللهم عليك بالأقيعس ، وسأل ابن البراء أباه عن الأقيعس ، فقال له : إنه معاوية (١).
٤ ـ وجاءت الى النبي (ص) امرأة تستشيره في الزواج من معاوية فنهاها ، وقال لها : إنه صعلوك.
٥ ـ وروى أبو برزة الأسلمي (٢) قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعنا غناء فتشرفنا له ، فقام رجل فاستمع له وذاك قبل أن تحرم الخمر فأتانا وأخبرنا أنه معاوية وابن العاص يجيب أحدهما الآخر بهذا البيت :
يزال حواري تلوح عظامه
زوى الحرب عنه أن يحس فيقبرا (٣)
فلما سمع بذلك رسول الله رفع يديه بالدعاء وهو يقول :
« اللهم اركسهم في الفتنة ركسا ، اللهم دعهم إلى النار دعا (٤) » (٥)
__________________
(١) كتاب صفين ص ٢٤٤ ورواه الإمام الحسن أيضا.
(٢) أبو برزة : هو نضلة بن عبيد كان صاحبا لرسول الله ، وروى عنه وعن أبي بكر وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد : كان من ساكني المدينة ثم البصرة ، وغزا خراسان ، وقال الخطيب شهد مع علي (ع) فقاتل الخوارج بالنهروان ، وغزا بعد ذلك خراسان ، فمات بها ، وقيل إنه مات بنيسابور ، وقيل بالبصرة وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٤٦.
(٣) الحس القتل الشديد وفي الكتاب ( إذ تحسونهم بأذنه ).
(٤) الأركاس والركس : الرد والإرجاع. وفي التنزيل ( والله أركسهم بما كسبوا ) والدع : الدفع الشديد. وفى الكتاب ( يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ) وقد ورد الحديث في اللسان ركس. بلفظ ( اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ).
(٥) وقعة صفين ص ٢٤٦ مسند أحمد ٤ / ٤٢١. ١٤٥
واستشف رسول الله (ص) من وراء الغيب ان معاوية سوف يتولى شئون الحكم فحذر المسلمين منه وأمرهم بقتله فقال (ص) :
إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه (١).
وكان الحسن (ع) إذا حدث بهذا الحديث يقول والتأثر ظاهر عليه.
« فما فعلوا ولا أفلحوا .. » (٢).
وهكذا كان معاوية في زمان النبي (ص) مهان الجانب ، محطم الكيان ، صعلوكا ذليلا ، يلاحقه العار ، ويتابعه الخزي ، يتلقى من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اللعن ، ومن المسلمين الاستهانة والتحقير ، ولما آل الأمر الى عمر جافى ما أثر عن النبي (ص) فيه فقربه وأدناه ، ورفعه بعد الضعة والهوان ، فجعله واليا على الشام ، ومنحه الصلاحيات الواسعة ، وفوض إليه أمر القضاء والصلاة ، وجباية الأموال ، وغير ذلك من الشؤون العامة التي تتوقف على الوثاقة والعدالة ، وبلغ من عظيم حبه وتسديده له أنه كان في كل سنة يحاسب عماله ، وينظر في أعمالهم إلا معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يراقبه ، وقد قيل له إنه قد انحرف عن الطريق القويم فبدد في الثروات
__________________
(١) تناول المحرفون هذا الحديث الشريف فرووه بصورة أخرى رواه الخطيب في تاريخه عن جابر مرفوعا قال رسول الله ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فانه أمين ) وروى الحاكم في تاريخه عن ابن مسعود قال رسول الله : ( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه فانه أمين مأمون ) ومتى كان ابن هند أمينا ومأمونا أبمحاربته لوصي رسول الله ، أو لولوغه فى دماء المسلمين ، وقتله الأخيار والصلحاء ، وغير ذلك من الأحداث الجسام التي تكشف عن جاهليته وعدم تحرجه فى الدين.
(٢) وقعة صفين. ١٤٦
ولبس الحرير والديباج ، فلم يلتفت لذلك ، وأضفى عليه ثوب الأبهة والمجد ، فقال : « ذاك كسرى العرب » ولما فتل حبل الشورى لأجل إقصاء عترة النبيّ (ص) عن الحكم ، وجعله في بني أمية ، أشاد بمعاوية وهو في أواخر حياته ، ونفخ فيه روح الطموح ، فقال لأعضاء الشورى : « إن تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام » (١).
وما أكثر عماله وولاته فلما ذا أشاد به دونهم؟! وكيف ساغ له أن يهدد أعضاء الشورى بسطوته وهم ذوو المكانة العليا وقد مات رسول الله (ص) وهو عنهم راض ـ كما يقول ـ وإذا كان يخاف عليهم منه فكيف أبقاه فى جهاز الحكم إن هذه الأمور تدعو إلى التساؤل والاستغراب.
وعلى أي حال فان معاوية كان أثيرا عند عمر وعزيزا عليه ، ولما آل الأمر إلى عثمان زاد في رقعة سلطانه وفي تقوية نفوذه كما أوضحنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب (٢) فصار يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، ولما قتل المسلمون عثمان نظرا للأحداث الجسام التي ارتكبها ، اتخذ معاوية قتله وسيلة لتحقيق مأربه وأهدافه ، فبغى على أمير المؤمنين بدعوة أنه رضى بقتله وآوى قتلته ، وأعقبت ذلك من الخطوب والمحن ما بلي بها الإسلام ، وتصدع بها شمل المسلمين فأدت الأحداث المؤسفة إلى انتصاره ، وخذلان الإمام أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسن ، ولما صار الأمر إليه بعد الصلح أخذ يعمل مجدا في إحياء جاهليته الأولى والقضاء على كلمة الإسلام وتحطيم أسسه ، وإلغاء نصوصه ، وقد ظهرت منه تلك الأعمال
__________________
(١) نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ١٨٧.
(٢) ص ٢٤٧. ١٤٧
بوضوح لما خلا له الجو وصفا له الملك ، فلم يخش أو يراقب أحدا في اظهار نواياه ، وفي ابراز اتّجاهه وعدائه للإسلام وللمسلمين ، وقد أوضح الإمام الحسن في صلحه حقيقته وبين واقعه وسلبه ذلك الغشاء الرقيق الذي تستر به باسم الدين ودونك أيها القارئ الكريم النزر اليسير من نواياه وأعماله : ١ ـ عداؤه للنبى :
كان معاوية يكن في نفسه بغضا عارما للنبى ولذريته ويحاول بكل جهوده القضاء على كلمة الإسلام ومحو أثره وقد أدلى بذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة فقد حدث عنه ولده مطرف قال وفدت مع أبي المغيرة على معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلىّ فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه ، وأقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء وهو مغتم أشد الغم ، فانتظرته ساعة وظننت أنه لشىء حدث فينا أو في عملنا فقلت له :
ـ مالي أراك مغتما منذ الليلة؟.
ـ يا بني إني جئت من أخبث الناس!!.
ـ وما ذاك؟.
ـ خلوت بمعاوية فقلت له : إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فانك قد كبرت ، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
فقال لي :
« هيهات هيهات!! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فو الله ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره ، إلا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدى فاجتهد ، وشمر عشر سنين ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك ، رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، ١٤٨
فعمل ما عمل وعمل به ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعّل به ، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات « أشهد أن محمدا رسول الله » فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك ، إلا دفنا دفنا » (١).
وهذه البادرة تدل بوضوح على كفره والحاده ، وعلى حقده البالغ على النبي فقد أزعجه وساءه أن يذكر اسمه كل يوم خمس مرات في الأذان ولو وجد سبيلا لمحا ذلك ولشدة بغضه وعدائه لذريته أنه مكث في أيام خلافته أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبيّ (ص) وقد سئل عن ذلك فقال :
« لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بانافها » (٢). ٢ ـ تعطيله الحدود :
ولم يعتن معاوية بالحدود الإسلامية ولم يهتم باقامتها فقد عفا عمن ثبت عليه الحد ، فقد جيء إليه بجماعة سارقين فقطع أيديهم ، وبقى واحد منهم فقال السارق :
يميني أمير المؤمنين أعيذها
بعفوك أن تلقى مكانا يشينها
يدى كانت الحسناء لو تمّ سترها
ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة
إذا ما شمالي فارقتها يمينها
وغزت هذه الأبيات قلب معاوية فقال له :
« كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك ».
فاجابته أم السارق :
« يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها ».
__________________
(١) ابن أبي الحديد ( ج ٢ ص ٣٥٧ ).
(٢) النصائح الكافية ص ٩٧. ١٤٩
فخلى سبيله وأطلق سراحه ، فكان أول حد ترك في الإسلام (١). ٣ ـ اباحته الربا :
ومنع الإسلام من الربا أشد المنع وجعله من الموبقات والكبائر ، فلعن المعطي والآخذ والوسيط والشاهد ، ولم يعتن معاوية بتحريم الإسلام له فعن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء (٢) : « سمعت رسول الله (ص) ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ».
فانبرى معاوية مظهرا له عدم اعتنائه بنهي رسول الله ، وتحريمه له قائلا :
« ما أرى بمثل هذا بأسا ».
فاستاء أبو الدرداء من هذه الجرأة واندفع وهو غضبان متألم قائلا :
« من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله (ص) ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها ».
__________________
(١) البداية والنهاية ٨ / ١٣٦.
(٢) أبو الدرداء : اختلف في اسمه فقيل عامر وعويمر ، واختلف في اسم أبيه فقيل عامر ومالك وعبد الله ، ينتهي نسبه إلى كعب بن الخزرج الأنصاري ، أسلم أبو الدرداء يوم بدر وشهد أحدا قال (ص) في حقه : ( أبو الدرداء حكيم أمتي ) كان تاجرا قبل الإسلام فلما أسلم ترك التجارة ، ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر توفى لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وقيل مات سنة ٣٢ ، وقيل مات بعد صفين ، جاء ذلك فى الإصابة ٤ / ٤٦ وجاء في الكنى والأسماء ص ٧٢ أن أبا الدرداء روى عن رسول الله أنه قال : ( إن أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذى ). ١٥٠
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:50 pm | |
|
ثم ترك الشام وانصرف إلى عاصمة الرسول وهو ثائر غضبان واستقال من وظيفته (١). ٤ ـ الأذان فى صلاة العيد :
وقضى الشرع الإسلامي باتيان الأذان والإقامة في خصوص الصلاة اليومية الواجبة ، وأما ما عداها من الصلاة المندوبة كصلاة النوافل أو الواجبة كصلاة العيدين والآيات فان الشرع قد حكم بتركهما ، فقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« ليس في العيدين أذان ، ولا إقامة » (٢) وسار على هذه السنة الخلفاء من بعد رسول الله (ص) (٣) ولكن معاوية لم يبال بذلك فقد أحدث الأذان والإقامة في صلاة العيد (٤) وبذلك خالف رسول الله وجافى ما أثر عنه وكان مبدعا في تشريعه. ٥ ـ الخطبة قبل صلاة العيد :
والزمت السنة الإسلامية فى صلاة العيد بالخطبة بعد فراغ الإمام من الصلاة فقد صلى النبي (ص) صلاة عيد الفطر وبعد الفراغ منها قام خطيبا بين أصحابه وفعل النبيّ كقوله سنة يجب اتباعه ، وصلى من بعده الخلفاء على وفق صلاته (٥) ولكن معاوية لم يعتن بذلك فقد قدّم الخطبة على الصلاة »
__________________
(١) النصائح ص ٩٤.
(٢) كشف الغمة للشعراني ١ / ١٢٣.
(٣) سنن أبى داود ١ / ٧٩.
(٤) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٤٧٠.
(٥) سنن أبي داود ١ / ١٧٨. ١٥١
واقتفي بفعله الأمويون (١) وبذلك فقد هجر سنة النبيّ. ٦ ـ أخذه الزكاة من الأعطية :
وفرض الإسلام الزكاة في موارد مخصوصة ذكرها الفقهاء وما عداها فلا تجب فيه الزكاة ، ولكن معاوية قد أعرض عن ذلك فأخذ الزكاة من الأعطية ولم تشرع فيها الزكاة باجماع المسلمين وقد ارتكب معاوية ذلك (٢).
أما جهلا منه بالحكم الشرعي أو تعمدا منه على مخالفة السنة والثاني أولى بسيرته. ٧ ـ تطيبه فى الإحرام :
ويجب على المحرم في الحج أن يترك الطيب ما دام محرما ، فاذا حلّ من إحرامه جاز له استعماله ، ولكن معاوية خالف ذلك فتطيب في حال إحرامه (٣) عنادا منه للإسلام أو لجهله بتعاليمه وفروضه. ٨ ـ استعماله أواني الذهب والفضة :
ويحرم استعمال أواني الذهب والفضة إلا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة ذلك وأخذ يستعملها في مأكله ومشربه ، ولما تلي عليه قول رسول الله (ص) في التحريم قال :
« لا أرى بأسا في ذلك » (٤). ٩ ـ لبسه الحرير :
وحرم الإسلام لبس الحرير على الرجال إلا في حال الحرب ولكن
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٤٧٠.
(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٧.
(٣) النصائح ص ١٠٠ وغيره.
(٤) النصائح ص ١٠١. ١٥٢
معاوية قد جافى ذلك فقد عمد إلى لبسه (١) غبر معتن بتحريم الإسلام ونهيه عنه. ١٠ ـ استحلاله أموال الناس :
وحرم الإسلام أموال الناس وأخذها بالباطل ، ولكن معاوية لم يلتزم بذلك فقد استصفى أموال الناس من دون عوض (٢). ١١ ـ شراؤه الأديان :
وليس في سوق التجارة رذيلة أسوأ من شراء ضمائر الناس وأديانهم فانه ينم عن سوء سريرة البائع والمشتري ، وقد مهر معاوية في هذه الصنعة وكان يتجاهر بها من دون خيفة وحذر فقد ذكر الرواة أنه وفد عليه الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة والجون بن قتادة والحتات بن يزيد فأعطى معاوية كل واحد منهم مائة الف ، وأعطى الحتات سبعين الفا ، فلما كانوا فى الطريق ذكر كل منهم جائزته فرجع الحتات مغضبا فالتفت إليه معاوية قائلا له :
« ما ردّك؟ ».
ـ فضحتني في بني تميم أما حسبى فصحيح ، أو لست ذا سن؟
ألست مطاعا في عشيرتي؟ ».
فأجابه معاوية :
« بلى ».
واندفع الحتات قائلا :
« فما بالك خست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن
__________________
(١) النصائح ص ١٠١.
(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٧. ١٥٣
كان لك ـ يريد الأحنف وجارية فهما كانا مع علي في حرب الجمل ـ وهو قد اعتزل القتال ».
فقال له معاوية بلا حياء ولا خجل.
ـ إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.
ـ وأنا اشتري مني ديني.
فأمر له باتمام الجائزة (١). ١٢ ـ خلاعة ومجون :
واتسعت الدعارة وانتشر المجون في الحاظرة الإسلامية في عصر بني أمية ، فكان الشعراء يتشببون ويتغزلون بالنساء ، وأول من فتح باب الدعارة معاوية فقد حدثوا أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت (٢) قد تشبب بابنة
__________________
(١) الكامل ٣ / ١٨٥.
(٢) عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي : ولد في زمن النبي (ص) كان شاعرا قليل الحديث ، ذكره ابن معين في تابعي أهل المدينة ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، توفى سنة ١٠٤ ، وأبطل هذا القول ابن عساكر فقال : إنه قيل إنه عاش ثماني وأربعين ، ومقتضاه أنه ما أدرك أباه لأنه مات بعد الخمسين بأربع أو نحوها وقد ثبت أنه كان رجلا في زمان أبيه وأبوه القائل :
فمن للقوافي بعد حسان وابنه
ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت
( قلت ) وإن يثبت أنه ولد في العهد النبوي وعاش إلى سنة ١٠٤ يكون عاش ٩٨ فلعل الأربعين محرفة ، جاء ذلك في الإصابة ٣ / ٦٧ وذكر الزمخشري في الكشاف أن عبد الرحمن قال في معاوية قصيدة منها :
ألا أبلغ معاوية بن حرب
أمير الظالمين نثا كلامى
معاوية بن هندو ابن صخر
لحاك الله من مرء حرامى ـ
١٥٤
معاوية فبلغ ذلك يزيد فغضب ودخل على أبيه قائلا بنبرات تقطر ألما :
ـ يا أبة أقتل عبد الرحمن بن حسان.
ـ لم؟.
ـ تشبب بأختي.
ـ وما قال؟
ـ قال :
طال ليلي وبت كالمحزون
ومللت الثواء في جيرون
فأجابه معاوية باستهزاء وسخرية :
« يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه ، أبعده الله ».
فالتفت يزيد إلى أبيه انه يقول :
فلذا اغتربت بالشام حتى
ظن أهلي مرجات الظنون
« يا بني وما علينا من ظن أهله ».
ـ إنه يقول :
هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا
ص ميزت من جوهر مكنون
ـ صدق يا بني هي كذلك.
ـ إنه يقول :
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون
ـ صدق يا بني :
ـ إنه يقول :
__________________
جشمنا بامرتك المنايا
وقد درج الكرام بنو الكرام
أمير المؤمنين أبو حسين
مفلق رأس جدك بالحسام
وإنا صابرون ومنظروكم
إلى يوم التغابن والخصام
١٥٥
ثم خاصرتها إلى القبة الخض
راء تمشي في مرمر مسنون
ـ : ولا كل هذا يا بني.
وما زال يزيد يذكر له ما قاله عبد الرحمن من التشبيب بأخته ، ومعاوية يدافعه عن ذلك ، ويظهر براءته وعدم استحقاقه العقاب ، وانتشر تشبب عبد الرحمن ، وافتضحت ابنة معاوية ، فأقبلت إليه طائفة فأكبروا هذه الجسارة على ابنته وقالوا له : « لو جعلته نكالا » فامتنع معاوية من اجابتهم ، وقال لهم : ـ لا ـ ولكن أداويه بغير ذلك ، واتفق أن عبد الرحمن وفد على معاوية فاستقبله أحسن استقبال وأجلسه على سريره وأقبل عليه بوجهه ، ثم قال :
إن ابنتي الأخرى عاتبة عليك.
ـ في أي شيء؟
ـ في مدحك أختها وتركك إياها.
ـ لها العتبى وكرامة أنا أذكرها.
وأخذ يتغزل بابنة معاوية فلما علم الناس ذلك قالوا : « قد كنا نرى أن تشبب حسان بابنة معاوية لشيء فاذا هو على رأي معاوية وأمره » (١)
وهذه البادرة تدل على ميوعته وتفسخ أخلاقه وقد فتح بذلك باب الفساد ومكن الماجنين من التعرض ببنات المسلمين حتى بلغ التهالك على اللذة منتهاه في عصره وعصر بني أمية.
وتشبب أبو دهبل الجحمي (٢) بابنته فعامله باللين وأوصله
__________________
(١) الأغاني ١٣ / ١٤٩.
(٢) أبو دهبل الجحمي : اسمه وهب بن زمعة بن أسيد ، كان شاعرا محسنا مداحا وهو القائل : ـ ١٥٦
وأعطاه (١) وسار بنو أمية على هذه الخطة ، وقد حاولوا أن يقلبوا الدنيا إلى مسارح للعبث والمجون ، فحببوا إلى الناس الفسق والدعارة وساقوهم إلى الضلال والباطل والفساد.
ومن تهتك معاوية ومجونه أنه اشترى جارية بيضاء جميلة ، فادخلها عليه مولاه ( خديج ) وهي مجردة عارية ليس عليها شيء ، وكان بيده قضيب فجعل يهوى به إلى ( متاعها ) وهو يقول :
« هذا المتاع ، لو كان لي متاع » (٢).
وأمر بها إلى يزيد ، ثم عدل عن ذلك ووهبها إلى عبد الله بن مسعدة الفزاري (٣) فقال له :
__________________
ـ
يا ليت من يمنع المعروف يمنعه
حتى يذوق رجال غب ما صنعوا
وليت رزق أناس مثل نائلهم
قوت كقوت ووسع كالذي وسعوا
وليت للناس حظا في وجوههم
تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا
وليت ذا الفحش لاقى فاحشا أبدا
ووافق الحلم أهل الجهل فارتدعوا
جاء ذلك في معجم الشعراء ١ / ١١٧ وقد نشر الشيء الكثير من شعره في مجلة الآسيوية البريطانية.
(١) الأغاني ٦ / ٣٩ ، ١٥٩.
(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٤٠.
(٣) عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزارى جيء به وهو صغير في سبى فزارة فوهبه رسول الله لابنته فاطمة فأعتقته وكان صغيرا ثم كان عند علي ، والتحق بمعاوية فكان من أشد الناس وأعداهم إلى علي ، وكان على جند دمشق بعد وقعة ( الحرة ) وبقى الى خلافة مروان ، وقيل أنه غزا سنة ٤٩ ، وكان أميرا على الجيش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فمات في أرض الروم فاستخلف من بعده عبد الله ـ ١٥٧
« دونك هذه الجارية الرومية فبيض ولدك » (١).
وذكر المؤرخون بوادر كثيرة من استهتاره ومجونه دلت على تحلله من جميع القيم الإنسانية. ١٣ ـ افتعال الحديث :
قال الله تعالى في كتابه الكريم : « إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون » (٢) وقرب معاوية من يفترى الكذب على الله ورسوله ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فقربهم إليه وأدناهم منه ومنحهم الأموال الضخمة ، وأوعز إليهم أن يضعوا الأحاديث الكاذبة على رسول الله (ص) فى فضله وفي فضل الأمويين والصحابة ، وفي الحط من كرامة العترة الطاهرة وانتقاصها خصوصا سيدها الإمام أمير المؤمنين (ع) ، وكتب مذكرة بذلك إلى جميع عماله وولاته جاء فيها :
« أنظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يرون فضله ، ويتحدثون بمناقبه فاكرموهم ، وشرفوهم ، واكتبوا إليّ بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه وممن هو ».
فامتثل عماله وولاته ذلك فأدنوا الرواة المستأجرين وأشادوا بهم ، ومنحوهم الأموال الكثيرة ودونوا ما افتعلوه في فضل عثمان ، وأرسلوه إليه ،
__________________
ـ الفزاري وهي أول ولاية وليها وفيه يقول الشاعر :
أقم يا ابن مسعود قناة قويمة
كما كان سفيان بن عوف يقيمها
ولما دخل على معاوية سأله عن الشعر ، فقال إن الشاعر ضمني إلى من لست له بكفء وهو سفيان بن عوف جاء ذلك في الإصابة ٢ / ٣٥٩.
(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤٠.
(٢) سورة النحل ـ آية ١٠٥. ١٥٨
ولما رأى الناس أن الحكومة تشجع الوضاعين وتقابلهم بالحفاوة والتكريم ، وتمنحهم الأموال والثراء العريض بادر من غرته الدنيا إلى وضع الأحاديث وأخذ عوضها من الجهة المختصة ، وقد رووا فى فضل معاوية طائفة كبيرة ، فمن جملة ما وضعوه : أن النبي قال : « اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب ، وادخله الجنة ». وأخرج الترمذي أن النبيّ قال لمعاوية : اللهم اجعله هاديا مهديا.
وروى الحارث بن أسامة أنه (ص) قال : أبو بكر أرق أمتي ، وأرحمها ، ثم ذكر مناقب الخلفاء الأربعة ، ومناقب جماعة آخرين من أصحابه ثم ذكر (ص) معاوية فقال (ص) : ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها (١).
ورووا أن النبي (ص) أشاد بفضل أصحابه ، ثم قال في معاوية : وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان (٢).
وحكى القدسي أنه كان بجامع واسط وإذا برجل قد اجتمع عليه الناس فدنا منه فإذا هو يروي حديثا بسنده عن النبيّ (ص) ان الله يدني معاوية يوم القيامة فيجلسه إلى جنبه ويغلفه؟ بيده ثم يجلوه على الناس كالعروس
__________________
(١) تطهير الجنان واللسان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة ص ٢٤.
(٢) تطهير الجنان واللسان ص ٢٦ ، وقد استند ابن حجر إلى هذه الروايات الموضوعة في فضل معاوية ونزهه عن كل ما ارتكبه من الماثم والموبقات ، والحقه بالصحابة المتحرجين في دينهم ، وقد أعمى الله بصيرة ابن حجر وأضله عن الطريق القويم ، فراح يمجد أعداء الله ، وخصوم الإسلام الذين هم صفحة عار وخزي على المجموعة الإنسانية ، لقد بلي المسلمون بأمثال هؤلاء المؤرخين الذين لا ينظرون إلى الواقع إلا بمنظار أسود فجنوا على الإسلام والمسلمين بمفترياتهم وأكاذيبهم. ١٥٩
فقال له المقدسي : بما ذا؟ قال بمحاربته عليا ، فأجابه المقدسي : كذبت يا ضال!! فقال خذوا هذا الرافضي فتدافع الناس عليه للبطش به وأنقذه شخص كان يعرفه (١) وحكى المقدسي أيضا أنه تعرض للقتل حينما أنكر على رجل قوله : ان معاوية نبى مرسل (٢).
وحدث بعضهم قال رأيت رسول الله (ص) وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ، إذ جاء رجل فقال عمر يا رسول الله هذا ينتقصنا فكأنه انتهره رسول الله (ص) فقال يا رسول الله : إني لا أنتقص هؤلاء ولكن هذا ـ يعنى معاوية ـ فقال : ويلك أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثا ثم أخذ رسول الله (ص) حربة فناولها معاوية ، فقال جابهه في لبته فضربه بها ، وانتبهت إلى منزلي فاذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات وهو راشد الكندي (٣).
وتعصب البسطاء والسذج لمعاوية ، وبالغوا في تقديره نظرا لهذه الأخبار الموضوعة والدعايات الكاذبة ، فقد ذكر المؤرخون ان عبد الرحمن النسائي دخل دمشق فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضّل؟ وفي رواية أنه قال : ما أعرف له فضيلة إلا « لا أشبع الله له بطنا » فثاروا عليه وداسوه فحمل إلى الرملة فمات بسبب ذلك (٤).
لقد أراد معاوية بهذه الأحاديث التي أصدرتها لجان الوضع أن يضفي
__________________
(١) المقدسي ص ١٢٦.
(٢) المنتظم ص ٦٠.
(٣) الغدير ١٠ / ١٣٨.
(٤) طبقات السبكي ٢ / ٨٤ وفيات الأعيان ١ / ٣٧. ١٦٠
على نفسه ثوب القداسة والإيمان لتمنحه الأمة ثقتها ، وتنقاد إليه بدافع العقيدة ، ولكنها محاولة فاشلة لأن المسلمين ينظرون إليه نظرة ريبة وشك في إسلامه لأنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي ناجزت النبي (ص) وقادت الجيوش لمحاربته ، بالاضافة إلى الأحداث الجسام التي ارتكبها كمناجزته لوصي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه ، وقتله الأخيار ، ومطاردته الصلحاء ، وبدعه التي أحدثها في الإسلام ، وغير ذلك من الكبائر والموبقات التي سود بها وجه التأريخ ، ومن الطبيعي أن هذه الدعايات والأكاذيب لا تمحو عنه العار والخزي.
وعلى أي حال فقد كثرت الأحاديث التي وضعها الدجالون في فضل معاوية ، وفي فضل عثمان بن عفان ، وقد خاف أن يفوت غرضه ، ويفتضح أمره ، ولا يصل إلى هدفه من البغي على العترة الطاهرة ، فكتب مذكرة إلى عماله يأمرهم فيها بأن يكف الوضاعون عن ذلك ، ويضعوا الأحاديث في فضل الشيخين ، لأن ذلك من أقرب الطرق ومن أهم الوسائل فى محاربة ذرية النبيّ (ص) والحط من قيمتهم ، وهذا نص ما كتبه :
« إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فان فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ـ يعني أهل بيت النبيّ ـ وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ».
وقرأ القضاة والأمراء كتابه على الناس ، فبادر الوضاعون إلى افتعال الأحاديث فى مناقب أبي بكر وعمر ، وأمر معاوية بتدوينها وإنفاذ نسخ منها إلى جميع العمال والولاة ليقرؤها على المنابر ، ويتلوها في الجوامع ، وأوعز إليهم أن ينفذوها إلى المعلمين ليجعلوها من مناهج دروسهم ، ويرغموا ١٦١
الأطفال على حفظها ، وقد اهتمت الحكومات المحلية فى ذلك اهتماما بالغا فالزمت الناشئة وسائر الطبقات بحفظ تلك الأخبار المفتعلة حتى حفظها الأولاد وحفظتها النساء والخدم والحشم (١) وقد عرض الإمام الباقر عليهالسلام بعض تلك الأخبار الموضوعة في حديثه مع أبان ، وندد بها فقد قال له أبان :
« أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئا؟ ».
قال (ع) رووا :
« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر » (٢).
« إن عمر محدث ـ بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة ـ ».
« إن عمر يلقنه الملك ».
« إن السكينة تنطق على لسان عمر ».
« إن الملائكة لتستحي من عثمان » (٣).
ثم استرسل (ع) في عرض الأخبار المفتعلة حتى عدّ أكثر من مائة
__________________
(١) سليم بن قيس ( ص ٢٩ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.
(٢) وضع المستأجرون هذا الحديث لمعارضة الخبر المتواتر الوارد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حق السبطين « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وقد سئل الإمام الجواد عنه ففنده وقال : والله ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.
(٣) وإمارة الوضع على هذا الحديث ظاهرة فان الملائكة لما ذا تستحي من عثمان بن عفان فهل انه اجتاز عليها فرآها تعمل القبيح وترتكب المنكر فاستحيت منه أو أنه فعل ذلك فاستحيت منه إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم. ١٦٢
رواية (١) يحسبها الناس أنها حق ، ثم قال (ع) : والله كلها كذب وزور (٢)
ويقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه (٣) « إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ، تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم » (٤).
ولم يكتف معاوية بتلك الأخبار الكثيرة التي وضعت في مناقب الشيخين فقد عمد إلى تشجيع الوضاعين لاختلاق الحديث ضد أهل البيت (ع) وقد أنفق عليهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك ، فقد أعطى الجلاد سمرة بن جندب أربع مائة الف على أن يخطب في أهل الشام ، ويذكر لهم أن الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
__________________
(١) وفي رواية حتى عد أكثر من مائتى حديث.
(٢) سليم بن قيس ( ص ٤٥ ).
(٣) ابراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ولد سنة ( ٢٤٤ هج ) ، بواسط ، وهو صاحب المؤلفات الحسنة ، لقب بنفطويه لدمامته ، وأدمته تشبيها له بالنفط ومن شعره :
قلبى أرق عليك من خديكا
وقواي أوهى من قوى جفنيكا
لم لا ترق لمن يعذب نفسه
ظلما ويعطفه هواه عليكا
هجاه أبو عبد الله الواسطي بقوله :
من سره أن لا يرى فاسقا
فليجتهد أن لا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف أسمه
وصير الباقي صراخا عليه
توفى في صفر (٣٢٣) وفيات الأعيان ١ / ٣٠.
(٤) النصائح الكافية ( ص ٧٤ ) وغيره. ١٦٣
والنسل والله لا يحب الفساد » (١).
نزلت في علي ، فروى لهم سمرة ذلك (٢) وأخذ العوض من بيت مال المسلمين ، وقد الزم الإسلام بانفاقه على صالح المسلمين ، وإعالة ضعيفهم ومحرومهم ، ولكن ابن هند أنفقه على حرب الإسلام وعلى الكيد والطعن في أعلامه الذين نافحوا عن رسول الله (ص) في جميع المواقف والمشاهد وأرغموا معاوية وأباه على الدخول في حظيرته.
وعلى أي حال فقد انطلق ذوو الأطماع والمنحرفون عن الإسلام إلى افتعال الأحاديث في الحط من قيمة أهل البيت للظفر بالأموال والثراء العريض ، وروى ابن العاص لأهل الشام أن النبي (ص) قال في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، انما ولي الله وصالح المؤمنين » (٣).
وهكذا أخذت لجان الوضع تفتعل أمثال هذه الأحاديث ضد عترة النبيّ (ص) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، محاولة بذلك إطفاء نور الله ، وحجب المسلمين عن قادتهم الواقعيين الذين نصّ عليهم النبيّ (ص) وجعلهم خلفاء من بعده على أمته.
وتحدث الإمام الباقر (ع) عن زيف تلك الأخبار وكذبها فقال : « ويرون عن علي أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور » (٤).
__________________
(١) سورة البقرة آية ٢٠٣ و ٢٠٤.
(٢) النصائح الكافية ص ٢٥٣ وغيره.
(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.
(٤) سليم بن قيس ص ٤٥. ١٦٤
وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليهالسلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير » (١).
إن هذه الإجرءات التي اتخذها معاوية ضد أهل البيت قد أشاعت الفرقة بين المسلمين ، وفتحت باب الكذب على الله وعلى رسوله ، وقد أعرض خيار الصحابة عن تلك الأخبار ، ولم يصغوا لرواتها ، فقد نقل الرواة ان بشير العدوى (٢) جاء إلى ابن عباس ، وجعل يحدثه ، ويقول له : قال رسول الله (ص) : وابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، وقابله بالاستخفاف والاستهانة ، فاندفع بشير قائلا :
« ما لي لا أراك تسمع الحديث؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع ».
فزجره ابن عباس قائلا :
« إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه باذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه » (٣).
__________________
(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ٦٣ ، ط دار احياء الكتاب العربية.
(٢) بشير بن كعب بن أبي الحميري العدوي ، ويقال العامري ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال انه ثقة ان شاء الله ، وقال النسائي : إنه ثقة ، تهذيب التهذيب ١ / ٤٧١.
ولا نعلم أنه كيف كان ثقة مع اعراض ابن عباس عن حديثه.
(٣) فجر الإسلام ص ٢٥٨ وغيره. ١٦٥
إن الناس قد ركبوا الصعبة والذلول ـ على حد تعبير ابن عباس ـ وسلكوا جميع المسالك التي تتنافى مع الدين فلم يتحرجوا من الكذب على الله ولم يتأثموا من الوضع على رسول الله (ص) فلذا كان التوقف والتثبت في الأخبار أمرا ضروريا.
والمحنة الكبرى التي امتحن المسلمون بها امتحانا عسيرا هو ان تلك الأخبار التي افتعلتها لجان الوضع قد وصلت إلى الثقات والحفاظ فدونوها في كتبهم وهم ـ من دون شك ـ لو علموا واقعها لأسقطوها وتبرءوا منها وما رووها ، وقد ألمع إلى ذلك المدائني في حديثه عن الوضاعين في عصر معاوية ، ونسوق نص كلامه في ذلك قال :
« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون ، والمستضعفون ، الذين يظاهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع ، والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب ، والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها » (١).
وقد فاضت الكتاب بتلك الأخبار الموضوعة ، وامتلأت بالإسرائيليات (٢) وبخرافات أبي هريرة ، ومما لا شبهة فيه أنها أضرت بالإسلام فشوهت شريعته
__________________
(١) ابن أبي الحديد ٣ / ١٦.
(٢) الاسرائيليات : هي الخرافات التي وضعها المنافقون من اليهود الذين أسلموا وتظاهروا بالإسلام فدسوا في الإسلام ما هو بريء منه ، وعلى رأس قائمة الوضاعين من اليهود كعب الأحبار. ١٦٦
السمحاء ، وأفسدت عقائد المسلمين ، وفرقتهم شيعا وأحزابا.
وليس من شك في أن الخلفاء لو بادروا إلى تدوين ما أثر عن النبي (ص) من الأحاديث لصانوا الأمة من الاختلاف ووقوها من الفتن والخطوب ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد عمد أبو بكر إلى جمع بعض الأحاديث فأحرقها (١) وجاء بعده عمر فاستشار الصحابة في تدوينها فأشار عليه عامتهم بذلك ، ولبث مدة يفكر في الأمر ثم عدل عنه ، وقال لهم : « إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم. ثم تذكرت ، فاذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. » ثم ترك ذلك وعدل عنه (٢).
وهو تعليل لا يساعده الدليل لأن حديث النبي (ص) لا يشذ عن كتاب الله ، ولا يخالفه بحال من الأحوال ، وليس تدوينه موجبا لهجر القرآن الكريم ، ولا مستلزما للاعراض عنه ، وأكبر الظن أنهم إنما أبوا من تدوينه لأن شطرا كبيرا منه يتعلق فى فضل العترة الطاهرة. وفي لزوم مودتها ، ووجوب الرجوع إليها في جميع المجالات ، وليس من الممكن التبعيض في كتابة الحديث بأن تدون السنن ، وتترك الأخبار الواردة في حق أهل البيت ، ومن الطبيعي أن تدوينها يتنافى مع ابتزازهم حقهم واجماعهم على هضمهم ، واقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها ، وقد بلغ من عظيم وجدهم وحقدهم عليهم ، أنهم لما شعروا أن النبي يريد أن يعهد بالأمر إليهم ويكتب فى ذلك كتابا ردوا عليه وهو في ساعاته الأخيرة فقالوا له : « حسبنا كتاب الله ».
__________________
(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.
(٢) تقييد العلم ص ٥٠ ، وقريب منه فى طبقات ابن سعد ٣ / ١ ص ٢٠٦. ١٦٧
وأثر عنهم أنهم قالوا : « لا تجتمع النبوة والخلافة فى بيت واحد » وبعد هذا فكيف يثبتون اخبار النبي (ص) في أهل بيته.
وعلى أي حال فان أعظم ما مني به المسلمون من الكوارث هي الروايات المفتعلة التي عهد معاوية بوضعها فانها قد أوجبت تشتت المسلمين واختلافهم في كل شيء ، وهي مما لا شبهة فيه من أعظم موبقات ابن هند. ١٤ ـ استلحاقه زيادا :
قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ». لقد ضرب معاوية كلام رسول الله (ص) بعرض الجدار بلا خيفة ولا حذر.
فعاكس قوله ، ورد حكمه علانية لأجل تدعيم ملكه ، وإقامة سلطانه ، فاستلحق به زياد بن أبيه طبقا لما كان عليه العمل قبل الإسلام!
يقول الله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون » (١) لقد بغى معاوية حكم الجاهلية ، وأحيى سننها فألحق به زياد بن أبيه وهو ابن بغية ، فان سمية كانت من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة (٢) من بغيها ، وكانت تنزل
__________________
(١) سورة المائدة آية ٥٠.
(٢) الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي كان طبيبا مشهورا عند العرب وكان من الشعراء ومن شعره :
ان اختياريك لا عن خبرة سلفت
ولا الرجاء ومما يخطئ النظر
كالمستغيث ببطن السيل يحسبه
جزرا يبادره إذ بله المطر
فقد رأيت بعبد الله واعظة
تنهى الحليم فما أناني الغرر
إن السعيد له في غيره عظة
وفي التجارب تحكيم ومعتبر
لأعرفنك إن أرسلت قافية
تلقى المعاذير إذ لا تنفع العذر
جاء ذلك في معجم الشعراء ص ١٧٢. ١٦٨
بالموضع الذي تنزل فيه البغايا خارجا عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا (١) هذه أم زياد في قذارتها وفجورها ولم يأنف معاوية من إلحاق هذا الدعى به.
أما بواعث هذا الاستلحاق فيقول عنه المؤرخون ان أمير المؤمنين «ع» كان قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس ، واصطنعه لنفسه ، فلما قتل «ع» بقى زياد في مله وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي «ع» فكتب إليه هذه الرسالة :
« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أما بعد : فانك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك ، بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته ، أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية ، إذا أتاك كتابى هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة واسرع الإجابة فانك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي ، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتى بك إلا في زمارة (٢) تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام ».
وفي هذه الرسالة قد نسب زيادا إلى عبيد ، واعترف برقيته ، وإنه إذا تمكن منه يبيعه في أسواق دمشق ويرده إلى أصله ، ولما وصلت هذه
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٣١٠.
(٢) الزمارة : آلة من القصب يغنى بها. ١٦٩
الرسالة إلى زياد ورم أنفه من الغضب وأمر بجمع الناس وخطب فيهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :
« ابن آكلة الأكباد ، وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف ، ومسر النفاق ، ورئيس الأحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا (١) والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة ، أفمن اشفاق على تنذر وتعذر كلا؟ ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة ، كيف أرهبه وبينى وبينه ابن بنت رسول الله (ص) وابن ابن عمه في مائة الف من المهاجرين والأنصار ، والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل (٢) دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ».
وقد أبرق زياد وأرعد وتهدد وأوعد وذلك لعدم علمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال معتقدا بأن الجيش على وضعه الأول محتفضا بنشاطه وقواه ، وانه مائة الف من المهاجرين والأنصار ولم يعلم بما نكب به من الانحلال والفتن التي مزقته وقضت على نشاطه ، وان أعلام المهاجرين والأنصار قد طحنتهم حرب صفين وأبادتهم واقعة النهروان وأصبح الجيش لا يضم من أولئك الرءوس والضروس إلا ما هو أقل من الصبابة ، وأقسم بالله إن الإمام لو استدعى زيادا حينذاك لغدر به وما استجاب له ، وآية ذلك أنه لما علم بوهن جيش الإمام انحاز إلى معاوية وغدر بالإمام ، وكيف لا ينخدع وهو من ذوي الضمائر القلقة وقد أبان الزمان خبثه ، وكشف عن
__________________
(١) القزع : قطع السحاب المتفرقة.
(٢) الخردل : حب شجر معروف. ١٧
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 4:52 pm | |
|
عدم طيب إنائه ، فقد عاد بعد الاستلحاق من ألد الأعداء إلى أمير المؤمنين وذريته وشيعته.
ومهما يكن من شيء فان زيادا عقيب خطابه أجاب معاوية عن رسالته وهذا نص جوابه :
« أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا فى الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فاما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء ، وأما تعييرك لي بسمية فان كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة (١) وأما زعمك انك تخطفنى بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟
فامض الآن لطيتك ، واجتهد جاهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا اجتهد إلا فيما يسوؤك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه والسلام »
ولما قرأ معاوية رسالة زياد طار قلبه رعبا وداخله فزع شديد فاستدعى داهية العرب « المغيرة بن شعبة » فقال له :
« يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى فانصحنى فيه وأشر علي برأي المجتهد ، وكن لي أكن لك ، فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي ».
فقال له المغيرة :
« فما ذاك؟ والله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع ».
__________________
(١) يشير بذلك إلى ما يرويه التاريخ من أن هند قد حملت به قبل أن تتزوج أبا سفيان ، وكان زواجها به سترا عليها. وإن المتهمين بها جماعة من الأعراب. ١٧١
ولما أظهر له المغيرة الانقياد والخضوع لطاعته عرض عليه مهمته قائلا :
« يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي (١) وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالأته حسنا : فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟ ».
ولما عرف الداهية الماكر مهمة معاوية أشار عليه بأن يخدعه ويمنيه ، ويكتب له بناعم القول وكان رأيه في ذلك مبنيا على دراسته لنفسية زياد ومعرفته باتجاهه وميوله قائلا له :
« ان زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرسول »
واستجاب معاوية لنصيحة المغيرة ، فكتب إلى زياد رسالة تمثلت فيها المواربة والخداع وهذا نصها :
« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد : فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وانك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم ، وواصل العدو ، وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمي وبتت نسبى وحرمتي حتى كأنك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتان ما بيني وبينك ، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت « كتاركة بيضها بالعراء ، وملحفة بيض أخرى جناحها » وقد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وان أصل رحمك ، وأبتغي الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة أنك
__________________
(١) كشيش الأفاعي : صوت جلدها. ١٧٢
لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فان بني شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع رحمك الله إلى أصلك ، واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب ، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك ، فان أحببت جانبي ووثقت بي فامرة بامرة وان كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ ولا لي والسلام ».
وأخذ المغيرة الرسالة التي كتبت على وفق رأيه وهي لا تحمل جانبا من الواقعية ، ولا بصيص فيها من نور الحق والصدق فغادر دمشق إلى فارس وأقبل إلى زياد فلما رآه رحب به وأدناه من مجلسه وأخذ الداهية الماكر يكلم زيادا بمختلف الطرق وشتى الأساليب حتى غزى قلبه وهيمن على مشاعره فأجابه إلى ما أراد.
وبعد ما وقع زياد في اشباك المغيرة غادر فارس إلى دمشق فلما انتهى إليها ومثل عند معاوية رحب به وادناه ، وأمر أخته جويرية بنت أبي سفيان أن تستدعيه ، فلما حضر عندها كشفت عن شعرها بين يديه ، وقالت له : « أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم » ثم أخرجه إلى المسجد وجمع الناس ليعلن أمامهم أن زيادا أخوه ، وقام أبو مريم السلولي الخمار أمام ذلك المجتمع الحاشد فادى شهادته بزنا أبى سفيان بسمية شهادة أخزت أبا سفيان ومعاوية والحقت العار بزياد وهذا نصها :
« أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمار فى الجاهلية ، فقال أبغى بغيا. فاتيته وقلت : لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة ، ١٧٣
سمية. فقال ائتني بها على ذفرها (١) وقذرها » وثار زياد فقطع على أبى مريم شهادته قائلا له بصوت يقطر غضبا :
« مهلا يا أبا مريم ، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما ».
فقال أبو مريم :
« لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليّ ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت ».
ثم استرسل فى بيان شهادته فقال :
« والله لقد أخذ بكم درعها ، وأغلقت الباب عليهما ، وقعدت دهشانا فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت ، مه يا أبا سفيان. فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها ، وذفر من فيها ».
هذه شهادة أبى مريم في فجور سمية وتندى لفضاعتها وخزيها وجه الإنسانية ولكن معاوية ما خجل منها وما أنف ولا استحى ، وكيف يخجل ابن هند من هذه المساوئ والمخازي وهو الذي جر ذيله على الرذائل والخداع كما يقول (٢) حتى صارت الرذيلة عنصرا من عناصره ومقوما من مقوماته.
لقد ألحق معاوية زياد بن أبيه به ليستريح من خصومته ، ويستعين به على تحقيق أهدافه وتدعيم سلطانه. الاستياء الشامل :
وأثر استلحاق معاوية لزياد استياء شاملا في نفوس المسلمين ، فقد
__________________
(١) الذفر : الرائحة النتنة.
(٢) التاج للجاحظ ص ١٠٣. ١٧٤
رووا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة النبي (ص) والى هجر سنته ، وقد خافوه على دينهم ، فاندفع جمع من الأحرار والمصلحين إلى إعلان سخطهم وإنكارهم عليه وعلى زياد ونشير إلى بعض المنكرين والناقدين له وهم : ١ ـ الإمام الحسن :
ورفع الإمام الحسن رسالة إلى زياد بين فيها فساد استلحاقه بمعاوية ، وأعرب له ان الإسلام لا يقر ذلك بحال من الأحوال ، وهذا نصها :
« من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد : فان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر والسلام » (١)
وقال «ع» له في حضور معاوية وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : « وما أنت يا زياد وقريشا؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال قريش وفجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا ـ يعنى معاوية ـ بعد ممات أبيه ، مالك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول الله (ص) » (٢). ٢ ـ الإمام الحسين :
ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين معاوية قد حمل معول الهدم على جميع الأسس الإسلامية اندفع (ع) ثائرا في وجهه ورفع له رسالة سجل فيها موبقاته ، وقد عرض فيها استلحاقه لزياد ، وهذا نص ما كتبه في ذلك :
« أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر ،
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧٣.
(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ١ / ٥٨. ١٧٥
فتركت سنة رسول الله تعمدا واتبعت هواك بغير هدى من الله » (١). ٣ ـ يونس بن عبيد :
وكان يونس بن عبيد ممن حضر هذه المأساة ، وشاهد فصولها ، فانطلق إلى معارضة معاوية وإلى الإنكار عليه قائلا :
« يا معاوية قضى رسول الله (ص) ان الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وقضيت أنت أن الولد للعاهر مخالفة لكتاب الله تعالى ، وانصرافا عن سنة رسول الله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ».
فانبرى إليه معاوية يتهدده ويتوعده بالقتل قائلا :
« والله يا يونس لتنتهي أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها ».
فقال له يونس : « هل إلا إلى الله ، ثم أقع؟ ».
قال له معاوية : ـ نعم ـ (٢). ٤ ـ عبد الرحمن بن الحكم :
وما رضى بهذا الاستلحاق حتى بنو أمية ، فقد نقموا عليه ذلك فقد أقبل عبد الرحمن بن الحكم ومعه جماعة من بني أمية فقال عبد الرحمن لمعاوية :
« يا معاوية ، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا ـ يعني على بني العاص قلة ـ وذلة ».
فالتفت معاوية إلى مروان قائلا :
« اخرج عنا هذا الخليع ».
« أى والله إنه لخليع ما يطاق ».
__________________
(١) رجال الكشي ص ٣٣.
(٢) مروج الذهب ٢ / ٣١١. ١٧٦
فقال معاوية : « والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، ألم يبلغنى شعره في وفي زياد ».
قال مروان وما ذا قال؟ :
ـ إنه يقول :
ألا أبلغ معاوية بن حرب
لقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زاني
فاشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد انها حملت زيادا
وصخرا من سمية غير دان
وتألم معاوية حينما قرأها فقال : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.
وخرج عبد الرحمن وقد غضب عليه معاوية ، فجاء إلى الكوفة وقصد زيادا يعتذر منه فاستأذن عليه بالدخول فلم يأذن له ، وتوسط في شأنه وجهاء قريش فسمح له بالدخول ، فلما دخل عليه أعرض عنه ، ثم التفت له قائلا :
« أنت القائل؟ ما قلت!! ».
ـ ما الذي قلت؟.
ـ قلت ما لا يقال!!
ـ أصلح الله الأمير أنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول :
ـ هات ما عندك.
إليك أبا المغيرة تبت مما
جرى بالشام من خطل اللسان
وأغضبت الخليفة فيك حتى
دعاه فرط غيظ أن هجاني
وقلت لمن لحاني فى اعتذاري
إليك أذهب فشأنك غير شاني
١٧٧
عرفت الحق بعد ضلال رأيى
وبعد الغي من زيغ الجنان
زياد من أبي سفيان غصن
تهادى ناضرا بين الجنان
أراك أخا وعما وابن عم
فما أدري بعيب ما تراني
وإن زيادة في آل حرب
أحب إلي من وسطى بناني
ألا بلغ معاوية بن حرب
فقد ظفرت بما تأتي اليدان
فقال زياد :
« أراك أحمق صرفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ».
ـ تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني.
ـ نعم.
ثم دعا كاتبه فرسم له العفو والرضا ، فأخذ الكتاب ومضى إلى معاوية فلما قرأ الأبيات قال :
« لحا الله زيادا ألم ينتبه لقوله : وإن زيادة في آل حرب؟ ».
ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته الأولى (١). ٥ ـ أبو العريان :
وكان أبو العريان شيخا مكفوفا ذا لسان وعارضة شديدة فاجتاز عليه زياد فى موكبه فقال أبو العريان :
« ما هذه الجلبة؟ ».
« إنه موكب زياد بن أبي سفيان ».
« والله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد؟ ».
__________________
(١) شرح ابن أبى الحديد ٤ / ٧١ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٤. ١٧٨
ونقل المتزلفون حديث أبي العريان إلى زياد فأشار عليه بعض خواصه أن يوصله بالمال حتى يكف لسانه عنه ، فاستصوب الرأي وأمر له بمائتي دينار فجاء بها الرسول إليه ، فقال له :
« يا أبا العريان ابن عمك زياد الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها » فلما سمع أبو العريان بذلك طار فرحا فقال :
« وصلته رحم أى والله ابن عمي حقا ».
واجتاز موكب زياد عليه في اليوم الثاني ، فسلم عليه زياد ، فبكى أبو العريان ، فقيل له :
« ما يبكيك؟ ».
« عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد ».
هكذا تفعل المادة بالضمائر القذرة التي لم تنطبع فيها العقيدة ، وكان أبو العريان عاريا من الإيمان فتغير بهذه الصلة الضئيلة ، ولما سمع حديثه معاوية كتب إليه :
ما ألبثتك الدنانير التي بعثت
أن لونتك أبا العريان الوانا
أمسى إليك زياد فى أرومته
نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا
لله در زياد لو تعجلها
كانت له دون ما يخشاه قربانا
فلما قرأت على أبي العريان هذه الأبيات أجابه :
احدث لنا صلة تحيا النفوس بها
قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا
أما زياد فقد صحت مناسبه
عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا
من يسد خيرا يصبه حين يفعله
أو يسد شرا يصبه حيثما كانا (١) ٦ ـ أبو بكرة :
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧١. ١٧٩
ومن جملة الناقمين على معاوية والناقدين لزياد على هذا الاستلحاق الفظيع أبو بكرة (١) أخو زياد ، فقد أنكر على أخيه أشد الإنكار ، فقاطعه ولم يتصل به ، ولما عزم زياد على السفر إلى بيت الله الحرام أقبل إليه أبو بكرة فلما بصر به بعض الحرس أقبل مسرعا إلى زياد ، فقال له :
« أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر ».
ـ ويحك أنت رأيته؟.
ـ ها هو ذا قد طلع!!.
أقبل أبو بكرة فوقف على رأس زياد وكان قد احتضن غلاما له فوجه أبو بكرة خطابا إلى الغلام ولم يوجهه إلى زياد ترفعا واستحقارا له :
« يا غلام ، إن أباك ركب في الإسلام عظيما ، زنى أمه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافى الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين ، فان جاء ان يستأذن عليها فأذنت له فاعظم بها
__________________
(١) أبو بكرة : اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، قيل اسم أبيه مسروح ، وكان عبدا للحارث ، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد ، وإنما لقب بأبى بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف ببكرة إلى النبيّ (ص) فلذا سمى بهذا الاسم ، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب ثم تابوا ، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فانه لم يجز شهادته ، قال ابن سعد مات بالبصرة في ولاية زياد ، وقال المدائني : مات سنة ٥٠ هج ، وقيل مات هو والحسن (ع) في سنة واحدة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٦٩ وجاء في الإستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٣ / ٥٣٧ أن أبا بكرة أوصى بنيه حين الوفاة فقال لهم : « إن أبي مسروح الحبشي ». ١٨٠
فرية على رسول الله (ص) ومصيبة وان هي منعته فاعظم بها على أبيك فضيحة ».
ثم تركه وانصرف ، فقال زياد :
« جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا ساخطا كنت أو راضيا » (١) ٧ ـ يزيد بن المفرغ :
وهجا هذا الشاعر العبقرى زيادا ببيتين من الشعر كانتا وصما عليه وعارا مدى الأجيال والأحقاب وهما :
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ما عاشت وما علمت
أن ابنها من قريش في الجماهير
وارتاع زياد وحزن من هذا الهجاء ، فقال :
« ما هجيت قط أشد علي من هذين البيتين » (٢).
ولم يقتصر هذا الشاعر الفذ على ذلك فقد نظم أقسى الشعر والذعه نقدا وهجاء لزياد ومعاوية على ارتكابهما هذه الجريمة التي انتهكت بها حرمة الإسلام وإليك بعض ما جادت به قريحته وخياله الخصب :
شهدت بأن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس
على حذر شديد وارتياع
إذا أودى معاوية بن حرب
فبشر شعب قعبك بانصداع
وقال أيضا :
إن زيادا ونافعا وأبا
بكرة عندي من أعجب العجب
__________________
(١) ابن أبي الحديد ٤ / ٧٠ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٠ مع اختلاف يسير.
(٢) نهاية الأرب فى فنون الأدب ٣ / ٢٨١ وفي رواية ( ما شجيت بشيء أشد علي من قول ابن المفرغ ). ١٨١
هم رجال ثلاثة خلقوا
في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما تقول وذا
مولى وهذا ابن عمه عربي (١)
وذكر المسعودى في « مروج الذهب » ان هذه الأبيات إلى خالد النجاري وانه قال في هجاء زياد لما استلحق به عبادا :
أعباد ما اللؤم عنك محول
ولا لك أم من قريش ولا أب
وقل لعبيد الله مالك والد
بحق ولا يدري امرؤ كيف تنسب
لقد كان استلحاق زياد لعباد على غرار استلحاق معاوية له مخالفا لسنة رسول الله وقد قال (ص) : « من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام » وما جرأ زيادا على ارتكاب هذه الموبقة إلا معاوية فهو الذي فتح باب الفساد ، وخالف أحكام الإسلام وتعاليمه وفروضه من دون خيفة ولا حذر. ٨ ـ الحسن البصري :
ومن جملة الناقمين على معاوية والناكرين عليه الحسن البصري (٢) فقد
__________________
(١) الإصابة ١ / ٥٦٣.
(٢) الحسن البصري : أبوه أبو يسار كان مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وأمه خيرة كانت مولاة لأم سلمة زوج النبي (ص) ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب ، بالمدينة يقال أنه ولد على الرق ، وكان من سادات التابعين وكبرائهم ، توفى بالبصرة مستهل رجب سنة ١١٠ ، وكان تشييعه حافلا لم يشهد له أحد نظيرا ، قال حميد الطويل توفى الحسن عشية الخميس ، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره ، وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلاة العصر بالجامع ، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ لأنهم تبعوا كلهم جنازته ، ولم يبق بالمسجد من يصلي العصر ، ولم يحضر ابن سيرين ـ ١٨٢
جعل هذا الاستلحاق إحدى موبقاته وسيئاته ومردياته فقال : « اربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير والديباج ، ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زيادا ، وقد قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ويلا له من حجر وأصحاب حجر مرتين » (١)
وهذه الجرائم الأربعة التي هي بعض موبقات معاوية تعد من أفظع فظع الكبائر التي اقترفها ، وسيحاسب عليها حسابا عسيرا عند الله ، وذلك لما أحدثته من المضاعفات السيئة التي مني بها المسلمون. ٩ ـ السكتواري :
وقال العلامة السكتواري : « أول قضية ردت من قضايا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علانية دعوة معاوية زيادا ، وكان أبو سفيان تبرأ منه وادعى أنه ليس من أولاده ، وقضى بقطع نسبه ، فلما تأمر معاوية قربه واستأمره ، ففعل ما فعل زيادا بن أبيه ـ يعني ابن زنية ـ من الطغيان والإساءة في حق أهل بيت النبوة » (٢).
وهؤلاء بعض الناقمين على معاوية والمنكرين عليه في استلحاقه زيادا ،
__________________
ـ جنازته لشيء كان بينهما ، جاء ذلك في وفيات الأعيان ٤ / ١٢٤ وكان الحسن من المؤازرين لبني مروان حتى قالوا عنه : لو لا لسان الحسن وسيف الحجاج لوئدت الدولة المروانية في لحدها ، وأخذت من وكرها ، وذكر الحفاظ أنه كان مدلسا في حديثه.
(١) تاريخ الطبري ٦ / ١٥٧ ، تأريخ أبي الفداء ١ / ١٩٦.
(٢) محاضرة الأوائل ص ١٣٦. ١٨٣
وهم ـ من دون شك ـ كانوا مدفوعين بدافع العقيدة والغيرة على الإسلام فقد رأوا أن معاوية قد عمد بذلك إلى احياء سنن الجاهلية وبدعها ، واماتة ما فرضه الإسلام ، استجابة لعواطفه ورغبته الملحة في السيطرة على المسلمين وإخضاع القوى المعارضة له بشتى الوسائل والأساليب.
وعلى أي حال فان زيادا قد استخدم جميع الوسائل لإثبات نسبه وإلحاقه بالعنصر الأموي فقد كتب إلى عائشة رسالة افتتحها بقوله : « من زياد بن أبي سفيان » وقد ظن أنها ستقر نسبه فيتخذ من ذلك دليلا يستدل به على صحة نسبه ، ولم يخف ذلك على عائشة فقد أجابته « من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد » (١) وقد خاب بذلك سعيه ، وباء بالفشل والخزي ، ولما ولي الكوفة قال لأهلها :
ـ قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم.
ـ أدعنا إلى ما شئت.
ـ تلحقون نسبي إلى معاوية.
فاعلن الأحرار والمؤمنون عدم إجابتهم له قائلين :
« أما بشهادة الزور فلا!! » (٢).
لقد أبت العرب من أن تلحق هذا الدعي بها ، ولكن السلطة الأموية سجلته في ديوان قريش ، وظل على هذا الحال هو وأبناؤه ولما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة بني العباس الغى الخليفة المهدي هذا الاستلحاق وأمر باخراج آل زياد من ديوان قريش ومن العرب وذلك في سنة ١٥٩ هج وبذلك فقد عادت ذرية زياد إلى جدها الأول عبيد الرومي.
__________________
(١) النصائح ص ٥٨.
(٢) الطبري ٦ / ١٢٣. ١٨٤ ١٥ ـ عماله وولاته :
وعانت الشعوب الإسلامية في أيام معاوية ألوانا مريعة من المحن والخطوب لأن الحكم القائم فيها مبني على العنف والجبروت ، وعلى البطش والإرهاق ، واستنزاف الثروات ، وعلى التنكر لجميع القيم الإنسانية ، حتى ضج المجتمع من الظلم والجور والاستبداد ، فلم تبق حاضرة من الحضّر الإسلامية إلا عمها الخوف ، وساد فيها الإرهاب والاضطراب.
ومن مظاهر ذلك الظلم الاجتماعي أن معاوية سلط على المسلمين حثالة من شذاذ الجلادين والسفاكين ، فاسرفوا في سفك الدماء ، وعمدوا إلى نهب امكانيات البلاد ، وحكموا البلاد حكما كيفيا يستند إلى الأهواء والشهوات فلا عهد له بالدعة والعدل ، وقد وصف الخوارج قسوة ذلك الحكم ومدى شذوذه وجوره ، فقالوا : « إن بني أميّة فرقة بطشهم بطش الجبارين ، يأخذون بالظنة ويقضون بالهوى ، ويقتلون على الغضب » (١).
وهو وصف دقيق للسياسة الأموية الجائرة التي انتهجت منهج الشدة في جميع مجالاتها ، فلم تؤمن بحقوق الإنسان ، ولا بكرامته ، واستحقاقه الحياة ، فكانت تسوق المواطنين إلى المجازر والسجون ، وتقضي بالهوى والشهوات ، فلا تستند فى حكمها إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وتقتل على الغيظ والغضب في سبيل مصالحها وأهدافها الضيقة.
وقد عبر عمرو بن العاص وزير معاوية ، وو الى مصر عما يكنه في نفسه الشريرة من الاستهتار والاستهانة بحقوق المسلمين ، فقال : « إنما السواد بستان لقريش » إن السواد الذي هو ملك للمسلمين ، وسائر الشؤون الاقتصادية
__________________
(١) البيان ١ / ٩٥. ١٨٥
الأخرى فى رأيه ملك لقريش ، وأي حق لها في ذلك وهي التي ناجزت النبي (ص) وأعلنت الحرب على أهدافه ومبادئه ، ووقفت صامدة تدافع عن جاهليتها وأوثانها ، فأي حق لها بأموال المسلمين ، وأي حق لها في السيطرة على شئونهم.
وعلى أي حال فان كسرى العرب ـ كما يقولون ـ قد مكن المجرمين والسفاكين من رقاب المسلمين ، فاسند لهم الحكم المطلق ، يتصرفون فى العباد والبلاد كيفما شاءوا ، قد أقر جورهم ، وأمضى ظلمهم ، وحمى جانبهم فقاموا بدورهم على استعباد المسلمين وإذلالهم وإرهاقهم ، ونذكر عرضا موجزا من تراجم هؤلاء السفاكين مع بيان بعض ما صدر منهم من الأعمال البربرية ، وإلى القراء ذلك : ١ ـ سمرة بن جندب :
ومن سماسرة معاوية وأعوانه على نشر الظلم والجور سمرة بن جندب الشقي الأثيم ، فقد سودت جرائمه وجه التأريخ وصحائف السير ، وقبل التحدث عن سيرته فى زمن ولايته من قبل السلطة الأموية نذكر ـ بايجاز ـ سيرته أيام النبيّ (ص) ، لقد كان هذا الوغد في زمان النبيّ معروفا بالنفاق والتمرد ، فقد ذكر الرواة انه زاحم أحد الأنصار في نخل ـ وما أهونها ـ كانت له في بستان ذلك الأنصاري فشكا أمره إلى رسول الله (ص) فاستدعى سمرة فلما مثل بين يديه قال (ص) له :
« بع نخلك من هذا وخذ ثمنه ».
ـ لا أفعل.
ـ خذ نخلا مكان نخلك.
ـ لا أفعل. ١٨٦
ـ فاشتر منه بستانه.
ـ لا أفعل.
ـ فاترك لي هذا ولك الجنة.
ـ لا أفعل.
ولما رأى رسول الله (ص) عناد سمرة وشره وخبثه وضراوته وإضراره للأنصاري التفت (ص) ـ والاستياء بادي عليه ـ إلى الأنصاري قائلا :
« اذهب فاقطع نخله فانه لا حق له فيه » (١).
وتدل هذه القصة على تمادي سمرة فى الأثم والشقاء ، وانعدام الانسانية والمثل الكريمة من نفسه فقد ترجاه سيد النبيين وأشرف المخلوقين في حسم النزاع والخصومة ، وضمن له عوض تلك النخيلات الزهيدة بقعة في الفردوس مقر الأنبياء والصالحين يتنعم فيها فلم يجبه وأصر على تمرده وعصيانه فحرم نفسه السعادة ورضى لها بالشقاء ، ومن موبقات سمرة ومردياته انه كان يبيع الخمر بعد ما حرمها الإسلام فبلغ عمر بن الخطاب ذلك فقال :
« قاتل الله سمرة ان رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣ وذكر الزمخشري في الفائق ان رسول الله قال لسمرة انك رجل مضار لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ، وفي رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) أن رسول الله (ص) قال للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ، وادعى فخر المحققين في الايضاح في باب الرهن تواتر هذا الحديث ، والتواتر المدعى أما اجمالي أو معنوي ، وأما اللفظى فغير حاصل نظرا لاختلاف اللفظ في نقل الحديث وقد بسطنا الكلام في هذه القاعدة في الجزء الثالث من مؤلفنا ( إيضاح الكفاية ). ١٨٧
الشحوم فباعوها » (١) هذا وضع سمرة في غلظته وجفائه وتمرده ولما آل الأمر إلى معاوية استعمله زياد على البصرة نائبا عنه فاسرف في قتل الأبرياء وإزهاق الأنفس بغير حق فقد حدث محمد بن سليم قال سألت أنس بن سيرين (٢) :
« هل كان سمرة قتل أحدا؟ ».
فاندفع أنس بحرارة والتأثر بادى عليه قائلا :
« وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس ، فقال له ( يعني زيادا ) « هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا!! ».
فانبرى الأثيم معلنا عدم اهتمامه باراقة دماء المسلمين قائلا :
« لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت » (٣).
وقال أبو سوار العدوي (٤) : قتل سمرة من قومى في غداة سبعة
__________________
(١) مسند أحمد بن حنبل ١ / ٢٥ وفي رواية الزمخشري في « الفائق » قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها « أي أذابوها فباعوها ».
(٢) أنس بن سيرين الأنصاري ولد لسنة أو لسنتين بقيتا من خلافة عثمان روى عن جماعة من الصحابة وروى عنه جماعة. قال ابن معين وغيره إنه ثقة وقال ابن سعد إنه ثقة قليل الحديث وقال العجلى تابعي ثقة مات سنة « ١١٨ هج » وقيل مات سنة « ١٢٠ هج » جاء ذلك في تهذيب التهذيب « ١ / ٣٧٤ ».
(٣) الكامل ٣ / ١٨٣ الطبري ٦ / ١٣٢.
(٤) أبو سوار العدوي : قيل اسمه حسان بن حريث وقيل حريث بن حسان وقيل منقذ روى عن أمير المؤمنين «ع» وعن الإمام الحسن وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد كان ثقة وعن أبي داود انه من ثقات الناس وقال النسائي في الكنى ـ ١٨٨
وأربعين رجلا قد جمع القرآن (١). وحدّث عوف عن اجرام سمرة قال : أقبل سمرة من المدينة فلما كان عند دور بنى أسد خرج رجل من بعض أزقتهم ففاجأ أول القوم فحمل عليه رجل فاوجره الحربة « عبثا وعتوا » قال ثم مضت الخيل فأتى عليه سمرة وهو متشحط بدمه فقال :
« ما هذا؟ ».
« أصابته أوائل خيل الأمير!! ».
فقال « عتوا واستكبارا » : « إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا (٢) وكان هذا الطاغي الظامئ إلى إراقة الدماء يقتل على الظنة والتهمة فقيل له :
« يا سمرة : ما تقول لربك غدا؟ تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله ، ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي إنما وجدناه ماضيا في حاجته فشبه علينا وإنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني!! »
فأجاب سمرة عما انطوت عليه نفسه من الوحشية والإجرام وما طبع عليه من الزيغ والضلال قائلا :
« وأي بأس في ذلك؟!! إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة وإن كان من أهل النار مضى إلى النار » (٣).
وحدث الحسن البصري قال جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة فزكى مالا كان معه في بيت المال ، وأخذ براءة ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ، فأخذه سمرة واتهمه برأي الخوارج فقدمه فضرب عنقه فنظروا
__________________
ـ ابو السوار حسان بن حريث العدوي ثقة جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٢ / ١٢٣.
(١) تأريخ الطبري ٦ / ١٣٢ وغيره.
(٢) الكامل ٣ / ١٨٣ وذكره الإمام شرف الدين في الفصول المهمة ( ص ١٢٢ ).
(٣) ابن أبي الحديد ١ / ٣٦٣. ١٨٩
فيما معه فاذا البراءة ـ أي البراءة من فكرة الخوارج ـ بخط بيت المال فاندفع أبو بكرة نحو سمرة وهو منكر عليه قائلا :
« يا سمرة أما سمعت الله تعالى يقول : ( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى؟ ».
فقال سمرة : « أخوك ( يعني زيادا ) أمرني بذلك » (١).
وبقى سمرة ملازما لزياد فلما هلك صار بخدمة الأثيم الوغد ابنه ( عبيد الله ) فكان مديرا لشرطته واشترك معه في أفظع جريمة سجلها التأريخ وهي : قتل سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول (ص) الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام فكان يحرض الناس على حربه والخروج إلى قتله (٢) ومن اجرامه وموبقاته انه جيء إليه بجمهور من المسلمين فكان يقول للرجل ما دينك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، واني بريء من الحرورية ، فيأمر به فتضرب عنقه حتى أعدم في جلسة واحدة ما يزيد على عشرين مسلما (٣) وما فعل سمرة هذه الموبقات إلا إرضاء لمعاوية وقد قال بعد ما عزله عن ولاية البصرة : « لعن الله معاوية ، والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا » (٤).
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد.
(٢) شرح ابن أبي الحديد.
(٣) النصائح ص ٥٤.
(٤) نفس المصدر ، والعجب من البخاري حيث أخذ بأقوال سمرة واعتمد على حديثه في ٨ / ١٣٨ وبموجب هذه الأعمال التي ذكرتها رواة الأثر يجب أن يعد من جملة المارقين عن الدين ولا تؤخذ رواياته وأخباره ولكن قاتل الله العصبية فانها القت الناس فى شر عظيم ، وحرفتهم عن الطريق القويم.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 5:02 pm | |
|
ومهما يكن من شيء فان هذه الفظائع التي صدرت من سمرة تدل نفس تجردت منها الإنسانية والرحمة وتمادت فى العقوق والإجرام والشر. ٢ ـ بسر بن ارطاة :
ومن ولاة معاوية وأعوانه على تحقيق الظلم والجور والعسف والإرهاب بسر بن ارطاة الوغد الأثيم الذي فعل الأفاعيل المنكرة فقتل الشيوخ الركع وذبح الأطفال الرضع لتدعيم ملك معاوية وسلطانه ، فانه لما وجهه معاوية مع جيشه إلى اليمن فعل الأفاعيل المنكرة التي لم يشاهد التأريخ نظيرا لها في فظاعتها وقسوتها ، وقبل أن يتوجه هذا الأثيم إلى مهمته استدعاه معاوية فزوده بوصيته النارية التي احتوت على ترويع المسلمين وقتلهم وهذا نصها :
« سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس وأخف من مررت به وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل فى طاعتنا فاذا دخلت المدينة فارهم أنك تريد أنفسهم واخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة ولا تعرض فيها لأحد وارهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة واجعلها شرودات حتى تأتي صنعاء والجند فان لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم » (١).
وقد امتثل هذا المجرم وصية ابن هند فروع المسلمين وأدخل الفزع والخوف فيهم وأشاع القتل والفساد في الأرض ، فقد سبى نساء همدان وأقمن في الأسواق فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت فكن أول مسلمات سبين في الإسلام (٢) واجتاز على قوم واقفين على بئر لهم فالقاهم مع غلمانهم
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١١٧.
(٢) الإستيعاب ١ / ١٦٥ العلم الشامخ ص ٥٧٠. ١٩١
في تلك البئر (١) ثم ولى عنهم وزحف إلى يثرب فدخلها بغير حرب وصعد المنبر فاعرب عن طغيانه وكفره قائلا : « والله لو لا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها ( يعنى المدينة ) محتلما » واستقام فيها شهرا فهدم دور أهلها وجعل يستعرض الناس فلا يقال له عن أحد أنه شرك في دم عثمان إلا قتله ثم زحف بجيشه إلى اليمن فقتل جمهورا غفيرا. شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام وطلب طفلين لعبيد الله بن العباس فلما ظفر بهما أمر بقتلهما فقام إليه رجل من كنانة فقال له :
« على م تقتل هذين؟ ولا ذنب لهما ، فان كنت قاتلهما فاقتلني »
فأمر بقتل الكناني ثم قتل الطفلين ، فانبرت إليه امرأة من كنانة وقد طاش لبها من هذا العمل الفظيع فقالت بنبرات تقطر ألما وحزنا :
( يا هذا قتلت الرجال ، فعلى م تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام ، والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء ) (٢).
نعم والله إن سلطة معاوية لسلطة سوء فقد قامت على الظلم والجور وأسست على إراقة الدماء وإدخال الرعب والفزع في نفوس الأبرياء.
وذكر الرواة أن هذا الأثيم قتل ثلاثين ألفا من المسلمين عدا من
__________________
(١) النصائح ص ٥٤.
(٢) الكامل ٣ / ١٩٤ الطبري ٦ / ٨٠ وذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ١٢٠ أن بسرا التفت إلى نسوة كنانة فقال لهن : والله لهممت أن أضع فيكن السيف ، فقالت له : الناقدة لجوره : ( والله لأحب إلي إن فعلت ) ثم زحف هذا المجرم إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا متسترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج. ١٩٢
أحرقهم بالنار (١). ٣ ـ أبو هريرة :
كان شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ذليل الجانب محطم الكيان نشأ في صباه ، وهو عاشق للهرة ، مولع بحبها حتى لقب بها (٢) قضى شطرا من حياته وهو بائس فقير معدم يعيش على التسول فان لم يجده كان خادما فى البيوت يستأجر نفسه لشبع بطنه (٣) راضيا بهذه الضعة والهوان ، ولما انبثق نور الإسلام دخل فيمن دخل في الإسلام فكان على وضعه الأول من الفقر والبؤس وقد أدرج نفسه بفقراء الصفة (٤) يعيش بفضلات البيوت وصدقات المسلمين ، وقد وصف فقره وسوء حاله فقال : « كنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة » (٥) وكان يتصل برسول الله (ص) ليشبع بطنه ويسد خلته (٦) وهكذا بقى على هذا الحال المرير حفنة من السنين وهو جائع عريان لا مأوى له ولا مال فلما انتهى أمر الخلافة إلى عمر تفضل عليه
__________________
(١) ابن أبي الحديد ١ / ١٢٠.
(٢) المعارف ١ / ٩٣ وجاء فيه أن أبا هريرة كان يقول : ( وكنيت بأبي هرة بهرة صغيرة كنت العب بها ) ولغرامه بالهرة وهيامه بحبها حدث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ان امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ) ذكره البخاري فى صحيحه ٢ / ١٤٩.
(٣) الإصابة ٤ / ٢٠٧ وذكره أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات.
(٤) الصفة : موضع مظلل من مسجد النبيّ (ص) كان أضياف الاسلام يبيتون بها ، ذكر ذلك الفيروزآبادي في ( القاموس ) في مادة الصف.
(٥) صحيح البخاري ٢ / ١.
(٦) الإصابة ٤ / ٢٠٤. ١٩٣
فأنقذه من هوة الفقر وحضيض البؤس فاستعمله واليا على البحرين سنة احدى وعشرين من الهجرة فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله لأنه ظهرت منه الخيانة ، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه ما اختلسه من أموال المسلمين فقال له :
« علمت أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغنى أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار ».
فقال أبو هريرة وقد استولى عليه الخوف :
« يا أمير المؤمنين ، كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت ».
فقال له عمر وهو ثائر غضبان : « حسبت لك رزقك ومئونتك وهذا فضل فأده ».
ـ ليس لك ذلك.
ـ بلى والله وأوجع ظهرك.
ثم قام عليه بالدرة فضربه حتى أدماه ، ولما أخذ الألم منه مأخذا عظيما وافق على إرجاعها وقال :
« ائت بها وأحتسبها عند الله ».
فانبرى إليه عمر مبطلا زعمه في هذا الاحتساب قائلا :
« ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا ، أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة (١) إلا لرعية الغنم ».
ثم أخذ الأموال التي اختلسها (٢) ورجع أبو هريرة إلى حاله الأول
__________________
(١) الرجع والرجيع : العذرة والروث ( أميمة ) أم أبى هريرة.
(٢) العقد الفريد ١ / ٢٥. ١٩٤
قابعا في زوايا الخمول قد وصم بالخيانة والاختلاس ولما انتهى الأمر إلى عثمان انضم إليه وصار من أعوانه وأخذ يفتعل الأحاديث في فضله ، فقال قال رسول الله (ص) :
« إن لكل نبي خليلا من أمته وإن خليلي عثمان » (١).
« لكل نبى رفيق في الجنة ورفيقي فيها عثمان » (٢).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي زورها على رسول الله (ص) فى فضل عثمان والأمويين ، ولما انتفضت الأمة على عثمان وقتلته لسوء تصرفاته وعدم تدبيره ، وصارت الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) رجع أبو هريرة إلى الذبول بعد النضارة ، فهاجر من يثرب إلى دمشق فعقد صلته بمعاوية وأخذ يتزلف إليه ويعمل في إرضائه بكل طريق وجعل يروي لأهل الشام عن رسول الله قائلا لهم إن رسول الله (ص) قال :
« إن الله ائتمن على وحيه ثلاثا أنا وجبرئيل ومعاوية!! ».
وقال لهم : « إن النبي (ص) ناول معاوية سهما ، فقال له : خذ هذا السهم حتى تلقاني في الجنة » (٣).
وهكذا أخذ أبو هريرة يفتعل الحديث تلو الحديث في فضل معاوية والأمويين والصحابة يتقرب بذلك إلى معاوية لينال من دنياه وقد أغدق
__________________
(١) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة اسحاق بن نجيح وجزم ببطلانه
(٢) أورده الذهبى في ميزان الاعتدال في ترجمة عثمان بن خالد وعده من منكراته.
(٣) رواهما الخطيب البغدادي في تأريخه وأثبتهما سماحة الإمام شرف الدين من الموضوعات في كتابه ( أبو هريرة ) ص ٢٧. ١٩٥
عليه بالأموال الطائلة ورفع من شأنه فكساه الخز والبسه الكتان المشيق (١) ولما كان عام الجماعة قدم مع معاوية إلى العراق فلما رأى كثرة المستقبلين له جثا على ركبتيه ، ثم ضرب صلعته مرارا وقال :
« يا أهل العراق ، أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله ، وأحرق نفسي بالنار؟!! والله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول : إن لكل نبي حرما ، وان المدينة حرمى فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وأشهد أن عليا أحدث فيها .. ».
فلما بلغ معاوية ذلك أجازه وأكرمه ، وولاه إمارة المدينة (٢) لقد استحق أبو هريرة هذا المنصب العظيم لأنه افتعل الحديث ضد أمير المؤمنين تقربا لمعاوية ، وسعيا وراء منافعه وأطماعه.
لقد فتك شيخ المضيرة بالإسلام فتكا ذريعا بسبب رواياته المفتعلة التي شوهت الشريعة الإسلامية ، والصقت بها الخرافات والأوهام ، وأضافت الى الدين ما ليس منه ، وشتّت شمل المسلمين ، وتركتهم أشياعا وأحزابا مختلفين في أصول الدين وفي فروعه وفي كل شيء ، وقد بحث سماحة الإمام المغفور له شرف الدين عن موضوعات أبي هريرة في كتابه الخالد « أبو هريرة » وكذلك تناوله بالنقد سماحة العلامة الكبير الشيخ محمود أبو رية في كتابه « شيخ المضيرة » وأثبت أنه في طليعة الوضاعين والمحرفين للسنة الاسلامية المقدسة ، والمسلمون في أمس الحاجة إلى أمثال هذه البحوث الحرة التي تكشف الغطاء عن هؤلاء الدجالين الذين لم يألوا جاهدا فى الكيد للإسلام ، والبغي للمسلمين بما وضعوه من الروايات التي لا واقعية ولا نصيب
__________________
(١) صحيح البخاري ١ / ١٧٥.
(٢) ابن أبي الحديد ١ / ٣٥٨. ١٩٦
لها من الصحة. ٤ ـ زياد بن أبيه :
ومن أخطر ولاة معاوية وأكثرهم جورا وظلما زياد بن أبيه ، فقد ذكر الرواة أنه أول من شدد السلطة ، وأكد الملك لمعاوية فجرد سيفه ، وأخذ بالظنة ، وعاقب على الشبهة (١) وهو أول من مشى بين يديه بالأعمدة الحديدية ، وأول من جلس الناس بين يديه على الكراسي ، وأول من اتخذ العسس والحرس (٢) وقد زاد معاوية في ربقة سلطانه فولاه البصرة والكوفة وسجستان وفارس والسند والهند (٣).
وقد ارتطمت هذه الأقطار الاسلامية الخاضعة لنفوذه بالبلاء والمحن والشقاء وعم فيها الهرج والمرج وانتزعت منها جميع الحريات واضطربت أفكار أهلها بالخوف والفزع من تلك السلطة الجائرة التي لم تعرف الرحمة والرأفة ، فقد أخذت بالظنة والتهمة وقطعت الأيدي والأرجل ، وسملت الأعين ، حتى خيم الموت على جميع الأحرار والنبلاء وبلغت الشدة والصرامة في الحكم إلى حد لا سبيل إلى تصويره ، وقد عبر زياد عن سياسته العمياء وخطته الارهابية في خطبته البتراء (٤) فقد جاء فيها :
« وإني اقسم بالله لآخذن الولى بالولى ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : أنج سعد فقد هلك سعيد ».
__________________
(١) الكامل ١٠ / ١٨٣.
(٢) صبح الأعشى ١ / ٤١٦.
(٣) الطبري ٦ / ١٣٤.
(٤) إنما سميت خطبة زياد بالبتراء لأنه لم يحمد الله فيها. ١٩٧
ومنها :
« وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوما غرقناه ، ومن حرق على قوم حرقناه ، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه ، ومن نبش قبرا دفنته حيا. ثم قال : وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي » (١).
ومعنى هذا الخطاب أن ما بينه الله ورسوله للمسلمين من الحدود لم يكن في رأي زياد كافيا لحمل أهل البصرة والكوفة على الجادة والرجوع بهم إلى الصراط المستقيم ، فالاسلام لا يغرق من أغرق ، ولا يحرق من أحرق ولا ينقب عن قلب السارق وإن نقب عن البيوت والاسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم والاسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها بها فهذا من التشريع في الدين وهو أقل ما قام به زياد من الموبقات ، إن هذه السياسة المنكرة التي أعلنها زياد لم يعرفها المسلمون ولم يألفوها ، وقد دلت على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي ويملأ قلوبهم رعبا ورهبا ويغتصب منهم الطاعة والخضوع للسلطان اغتصابا
لقد قضت سياسة زياد الملتوية بأخذ الصحيح بذنب السقيم والمقبل بذنب المدبر وهو حكم كيفي يبرأ من العدل والرحمة ، وحينما القى خطابه القاسي قام إليه أبو بلال مرداس بن أدية وهو يهمس ويقول :
« أنبأنا الله بغير ما قلت قال الله عز وجل ( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (٢) ( أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٣) ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ
__________________
(١) الكامل ٣ / ٢٢٦.
(٢) سورة النجم آية ٣٧.
(٣) سورة النجم آية ٣٨. ١٩٨
ما سَعى ) (١) فأوعدنا الله خيرا مما وعدت يا زياد.
فانبرى إليه زياد قائلا بنبرات تقطر غضبا وانتقاما :
« إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلا حتى تخوض إليها الدماء » (٢)
وسار زياد على هذه الخطة الارهابية الجائرة التي تحمل شارات الموت والاعدام لجميع الأحرار والمفكرين حتى ضرب الرقم القياسي للسلطة الجائرة وقد بلغ به الاجرام أنه كان يقتل بعض النفوس وهو يعلم ببراءتها وعدم تدخلها واشتراكها فى أي أمر من الأمور السياسية ، فقد قبضت شرطته على أعرابي فجيء به مخفورا إليه فقال له زياد :
ـ هل سمعت النداء؟.
ـ لا والله ، قدمت بحلوبة لي ، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع فأقمت لأصبح ، ولا علم لي بما كان من الأمير.
ـ أظنك والله صادقا ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة.
ثم أمر به فضربت عنقه صبرا (٣) من دون أن يقترف أي ذنب ، وهكذا كان زياد يلغ فى دماء المسلمين ، لا حرمة لها عنده ، ولا حريجة له في سفكها ، وقد بالغ هذا الوغد الأثيم فى سفك دماء شيعة آل محمد (ص) فقتلهم تحت كل كوكب ، وتحت كل حجر ومدر ، وقطع الأرجل والأيدي منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم (٤) ففي ذمة الله تلك الدماء الزكية التي سفكت ، والنفوس الكريمة
__________________
(١) سورة النجم آية ٣٩.
(٢) الطبري ٦ / ١٣٥.
(٣) الطبري ٦ / ١٣٥.
(٤) ابن أبي الحديد ٣ / ١٥. ١٩٩
التي روعت ، والنساء التي رملت ، والأطفال التي يتمت.
هؤلاء بعض ولاة معاوية وجلاديه الذين سلطهم على الأمة الاسلامية فذبحوا أبناءها ، واستحيوا نساءها ، ونهبوا ثرواتها ، وعمدوا إلى اشاعة المنكرات والفساد فيها. الجور الشامل :
وعمد ولاة ابن هند إلى نشر الجور والظلم في جميع أنحاء البلاد فكانت دوائرهم مصدرا للقلق والاضطراب وبابا من أبواب البلاء على الناس فما راجعها أحد إلا اكتوى بنارها ، يقول عبد الملك في وصفها : « أنعم الناس عيشا من له ما يكفيه ، وزوجة ترضيه ، ولا يعرف أبوابنا الخبيثة فتؤذيه » (١).
لقد بالغ الولاة فى ظلم المواطنين واضطهادهم فأخذوا ينهبون الاموال بغير حق ، ويشددون في أمر الخراج ، ويرغمون الناس على أدائها يقول « فان فلوتن » « وبدل أن يتخذ الخلفاء ـ أي ملوك الأمويين ـ التدابير لمحاسبة الولاة ، ومنعهم من الظلم نجدهم يقاسمونهم فى فوائدهم من الأموال التي جمعوها بتلك الطرق المفضوحة ، وهذا معناه رضى الخلفاء بسوء تصرف العمال مع أهل البلاد بالاضافة إلى أنه دليل على أن بعضهم كان يهمه مصالح الخزينة المركزية بالدرجة الأولى » (٢).
ان معاوية وسائر ملوك بنى أمية لم يحاسبوا واليا من ولاتهم ، ولم يمنعوهم من الظلم والاعتداء على الناس ، يقول عاقبة بن هبيرة الأسدي لمعاوية
__________________
(١) الكامل ١٠ / ١٨٣.
(٢) السيادة العربية : ص ٢٨. ٢٠٠
منددا بطمع ولاته واستصفائهم أموال الرعية :
معاوي إننا بشر فاسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديد (١)
أكلتم أرضنا فجردتموها
فهل من قائم أو من حصيد
فهبنا أمة ذهبت ضياعا
« يزيد » أميرها وأبو يزيد
أتطمع في الخلافة إذ هلكنا
وليس لنا ولا لك من خلود
ذروا خيل الخلافة واستقيموا
وتأمير الأراذل والعبيد
وأعطونا السوية لا تزركم
جنود مردفات بالجنود (٢)
ويقول الشاعر الراعي النميري لعبد الملك بن مروان : مبينا له جور عماله واضطهادهم لقومه حتى افتقروا ، وهربوا في البيداء وليس معهم سوى إبل مهزولة يقول الراعي :
أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
إن السعاة عصوك يوم أمرتهم
وأتوا دواهي لو علمت وغولا
أخذوا العرين فقطعوا حيزومه
بالأصبحية قائما مغلولا (٣)
حتى إذا لم يتركوا لعضامه
لحما ولا لفؤاده معقولا (٤)
جاءوا بصكهم واحدر أسأرت
منه السياط يراعه اجفيلا (٥)
أخذوا حمولته فأصبح قاعدا
لا يستطيع عن الديار حويلا
__________________
(١) السجح : السهولة واللين.
(٢) خزانة الأدب ٢ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
(٣) الحيزوم : وسط الظهر ، الأصبحية : السياط جمع أصبح.
(٤) المعقول : الادراك.
(٥) أسأرت : أي بقيت فى الإناء بقية ، الاجفيل : الخائف. ٢٠١
يدعو أمير المؤمنين ودونه
خرق تجر به الرياح ذيولا (١)
كهداهد كسر الرماة جناحه
يدعو بقارعة الطريق هديلا
أخليفة الرحمن إن عشيرتي
أمسى سوامهم عزين فلولا (٢)
قوم على الإسلام لما يتركوا
ما عونهم ويضيعوا التهليلا (٣)
قطعوا اليمامة يطردون كأنهم
قوم أصابوا ظالمين قتيلا
شهرى ربيع ما تذوق لبونهم
إلا حموضا وخمة وذبيلا (٤)
وأتاهم يحيى فشد عليهم
عقدا يراه المسلمون ثقيلا (٥)
كتبا تركن غنيهم ذا عيلة
بعد الغنى وفقيرهم مهزولا
فتركت قومي يقسمون أمورهم
إليك أم يتربصون قليلا (٦)
وهذا الشعر طافع بالأسى والألم قد صور فيه الشاعر الجور والمظالم التي صبها الولاة على الناس وقد استمر الجور حتى في دور عمر بن عبد العزيز الذي هو أعدل ملوك بنى أمية ـ كما يقولون ـ فان عماله لم يألوا جاهدا قي نهب أموال الناس وسلب ثرواتهم ، وفى ذلك يقول كعب الأشعري مخاطبا له :
إن كنت تحفظ ما يليك فانما
عمال أرضك بالبلاد ذئاب
لن يستجيبوا للذي تدعو له
حتى تجلد بالسيوف رقاب
__________________
(١) الخرق : الصحراء الواسعة.
(٢) عزين : الجماعات.
(٣) الماعون : أراد به الزكاة.
(٤) الحموض : المر المالح من النبات.
(٥) يحي : هو أحد السعاة الظالمين.
(٦) طبقات فحول الشعراء ص ٤٣٩ ـ ٤٤١ ، جمهرة أشعار العرب ص ٣٤١. ٢٠٢
باكف منصلتين أهل بصائر
في وقعهن مزاجر وعقاب (١)
وانبرى لعمر رجل وهو على المنبر فقال له :
إن الذين بعثت في أقطارها
نبذوا كتابك وأستحلّ المحرم
طلس الثياب على منابر أرضنا
كل يجور وكلهم يتظلم (٢)
وأردت أن يلي الأمانة منهم
عدل وهيهات الأمين المسلم (٣)
لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا ، وأرهقوا إرهاقا شديدا من الحكم الأموي الذي عمد إلى اماتة الحق ، ومناهضة العدل ، ونشر الفقر والبؤس في جميع انحاء البلاد.
ومهما يكن الأمر فان هذه البوادر التي ذكرناها عن معاوية وعن بني أمية قد شددت نقمة الناس عليهم في جميع مراحل التاريخ فقد أبرزت واقعهم الجاهلي الذي لا التقاء له مع النواميس الدينية ، وكان هذا هو الانتصار الرائع الذي أحرزه الإمام الحسن (ع) في صلحه ، فقد عاد الصلح بالنكاية ببنى أمية ، وبالتشهير والقدح بمعاوية حيا وميتا ، وعاد الحكم الأموي مثالا للسلطة الجائرة التي تحمل شعار الظلم والاستبداد ، والاستهانة بحقوق الناس. ونكتفي بهذا العرض ـ الموجز ـ من موبقات معاوية التي سودت وجه التأريخ وقد ابرزها الإمام الحسن (ع) في صلحه. سياسة أهل البيت :
ويجدر بنا ونحن في بيان أسباب الصلح ، وفي إيضاح علله أن نعرض
__________________
(١) البيان والتبيان ٣ / ٣٥٨.
(٢) الطلس : الوسخ من الثياب.
(٣) البيان والتبيان ٣ / ٣٥٩. ٢٠٣
بعض الجوانب من سياسة أهل البيت (ع) لنتبين مدى اصالة سياستهم البناءة ، ونقف على الأهداف الرفيعة التي ينشدون تحقيقها في ظلال الحكم فان إيضاح هذه الجوانب ـ فيما نحسب ـ يعطينا أضواء عن صلح الإمام الحسن مع طاغية زمانه ، ويكشف لنا عن الأسباب التي أدت إلى تظافر القوى الباغية على مناجزته ، ومناجزة أبيه من قبل ، وإلى القراء ذلك. السياسة البناءة :
إن السياسة التي يجب أن تسود جميع انحاء البلاد ـ عند أهل البيت ـ هي السياسة البناءة التي تضمن مصالح المجتمع ، وتعمل على ايجاد الوسائل السليمة لرقيه وبلوغ أهدافه وآماله ، وحمايته من الظلم والاعتداء ، وتحقيق المساوات العادلة في ربوعه ، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من البؤس والحرمان.
إن سياسة أهل البيت قد تبنت العدل الخالص ، والحق المحض ، ومثلت وجهة الإسلام وأهدافه في عالم السياسة والحكم ، فهي أرقى سياسة عرفها الناس وأجدرها بتحقيق العدل السياسي ، والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها في جميع مجالاتها تنشد الاطمئنان الذي لا يشوبه قلق ، والأمن الذي لا يشوبه خوف ، والعدل الذي لا يشوبه ظلم ، وهي بجميع مفاهيمها تباين السياسة الأموية الجائرة التي رفعت شعار الظلم والجور ، وتذرعت بجميع وسائل المكر والخداع للمساومة على مصالح الشعوب ، وابتزاز إمكانياتها والتغلب عليها.
إن السياسة الأصيلة عند أهل البيت هي التي لا تعتمد على المكر والمواربة والخداع والتهريج والتضليل وغير ذلك من الأساليب التي لا تحمل جانبا من الواقعية ، وانها لا بد أن تكون صريحة واضحة في جميع أهدافها ومعالمها ، لتحقق العدل فى البلاد ، ولصلابة سياستهم فى الحق وصرامتها في العدل ٢٠٤
ثار عليهم النفعيون والمنحرفون ، وطالبوهم أن ينهجوا منهجا خاصا لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة الى غيرهم ولكنهم سلام الله عليهم آثروا رضا الله وسلكوا الطريق الواضح ، وابتعدوا عن الخطط الملتوية التي لا يقرها الدين ، نظرهم الى الخلافة :
ان الخلافة عندهم هي ظل الله في الأرض فيجب أن يتحقق في ظلالها العدل الشامل ، وتسود الرفاهية ، ويعم الأمن بين جميع المواطنين ، وإذا تجردت السلطة من هذه الأهداف فلا طمع ولا ارب لهم بها يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) لابن عباس ، وكان يخصف نعله بذي قار :
ـ يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟.
ـ لا قيمة له يا أمير المؤمنين.
ـ والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا وأدفع باطلا.
إن حذاءه الذي كان من ليف أثمن عنده من الإمرة التي لا يقام فيها الحق ، ولا يدفع فيها الباطل فضلا عن السلطة الجائرة التي تضيع العدل وتحي الجور وتميت الحق ، وقد كشف (ع) ـ في بعض كلماته ـ السر في إحجامه عن مبايعة أبي بكر في دور السقيفة قائلا :
« اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك (١) ».
ولهذه الأسباب الوثيقة أعلن سخطه على أبي بكر ، وامتنع من مبايعته
__________________
(١) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ١٨. ٢٠٥
وأقام عليه سيلا من الأدلة على أحقيته بالخلافة دونه ، ولكنه لم يناجزه الحرب لأنه يرى أن الأمة من واجبها أن تنقاد إليه كما أمره رسول الله (ص) بذلك فقد قال له :
« يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ، ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم ، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك » (١).
إن الواجب على المسلمين كان هو الانقياد لعترة نبيهم ، والرجوع إليهم ليحكموا فيهم بما أنزل الله ، ويردوهم إلى الحق الواضح ، وإلى الطريق المستقيم ، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا ، وخدعتهم السلطة ، فانطلقوا وراء أطماعهم وأهوائهم فصرفوا الأمر عن أهله ، ووضعوه في غير محله ، فأدى ذلك إلى المحن الشاقة والخطوب السود التي منى بها المسلمون في جميع مراحل تأريخهم. المثل العليا :
أما الأهداف السليمة والمثل العليا التي رفع شعارها أهل البيت ، وتبنوها في جميع المجالات فهي كما يلي. أ ـ العدل :
إن السياسة الإسلامية بجميع مفاهيمها قد تبنت العدل ، وآمنت به إيمانا مطلقا ، وركزت جميع أهدافها على أضوائه ، فأهابت بالحكام والأمراء أن يطبقوه على مسرح الحياة ، وأن لا يكون الحكم الصادر منهم مبعثه الهوى وسائر الأغراض التي لا تمت بصلة للعدل قال تعالى : « وإذا حكمتم بين
__________________
(١) أسد الغابة ٤ / ٣١. ٢٠٦
الناس أن تحكموا بالعدل » (١) وقال تعالى : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله » (٢)
وقد أجمع المسلمون على أن الحاكم إذا انحرف في حكمه وجب عزله ، وقد عزل أمير المؤمنين أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية بأنه قد جار في حكمه فجعل الإمام يبكي ويقول :
« اللهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك ».
ثم عزله في الوقت (٣) ويقول الإمام الصادق : « اتقوا الله ، واعدلوا فانكم تعيبون على قوم لا يعدلون » (٤).
إن سعادة الأمة ورقيها بعدل حكامها ، فاذا جافى الحكام العدل وجاروا في الحكم تعرضت البلاد للأزمات والنكسات وسادت فيها الفوضى والنزعات ، ومن ثمّ فان الإسلام يحرص كل الحرص عل أن يكون الحكم بيد الصلحاء والثقات لأن للحكم إغراء لا يفلت من ربقته إلا ذوو النفوس الزكية الكريمة ـ وما أقل عددهم ـ وقد تحدثنا عن مظاهر العدل وبسطنا القول فيه في كتابنا « النظام السياسي في الإسلام » ولا نرى أن هنا حاجة فى عرض تلك البحوث ، وانما نريد أن نقول إن سياسة أهل البيت (ع) قد تركزت على العدل الشامل وبنت جميع أهدافها عليه.
__________________
(١) سورة النساء : آية ٥٦.
(٢) سورة ص : آية ٢٦.
(٣) العقد الفريد ١ / ٢١١.
(٤) أصول الكافى ٢ / ١٤٧. ٢٠٧ ب ـ المساواة :
إن الإسلام أسبغ نعمة المساواة على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل فى تأريخ المجتمع العالمي ، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس فلا فضل لأبيض على أسود ، ولا لعربي على أعجمي ، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى والعمل الصالح يقول الأستاذ جيب :
« إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ما زال في قدرته أن ينجح نجاحا باهرا في تأليف العناصر والأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة. وإذا وضعت منازعات الشرق والغرب موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام » (١).
وقد طبق الامام أمير المؤمنين المساواة العادلة تطبيقا شاملا في دور حكمه ، فامر عماله وولاته أن يساووا بين الناس حتى فى اللحظة والنظرة فقد جاء في بعض رسائله ما نصّه :
« وأخفض للرعية جناحك وأبسط لهم وجهك وألن لهم جانبك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة (٢) والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك » (٣).
وهذه السياسة العادلة هى التي أثارت عليه الأحقاد والضغائن وأدت إلى تكتل القوى الباغية وتظافرها على مناجزته ، وقد نص على ذلك المدائنى بقوله :
__________________
(١) النظام السياسي في الإسلام ص ٣١٩.
(٢) آس : أى شارك بين الرعية حتى في هذه الأمور البسيطة.
(٣) النهج محمد عبده ٣ / ٨٥. ٢٠٨
« إن من أهم الأسباب في تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب (ع) كان أتباعه لمبدإ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء والقبائل » (١).
إن طغاة قريش ، ومن سار في ركابهم من جبابرة العرب لم يكونوا بأي حال قد وعوا الأهداف الأصيلة التي جاء بها الإسلام لتعميم المساواة وبسط العدل والقضاء على الغبن ، إنهم يريدون الامتيازات والاستئثار بأموال المسلمين ، والاستعلاء على الفقراء والضعفاء وكل ذلك يتنافى مع سيرة ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، وقد سار الإمام الحسن على خطته وسيرته ولم يتحول عن نهجه فأثار ذلك عليه الأحقاد والأضغان. ج ـ الحرية :
وتبنى الإسلام الحرية العامة لجميع المواطنين ، وألزم الدولة بحمايتها ، وتطبيقها على مسرح الحياة سواء أكانت الحرية في العقيدة أو في التفكير ، والتعبير عن الرأي ، أو في المناحي السياسية ، واعتبر الإسلام كل ذلك من الحقوق الطبيعية للانسان التي لا غنى عنها بحال من الأحوال ، وقد طبق الإمام أمير المؤمنين الحرية بأرحب مفاهيمها في دور خلافته ، فانه لم يرغم القعاد على مبايعته ، ولم يكرههم على طاعته ، وإنما تركهم وشأنهم يتمتعون بحريتهم من دون أن يتعرض لهم بأذى أو مكروه ، وكذلك عامل الخوارج فانه لم يناجزهم الحرب حتى أنذرهم وأعذر فيهم ، وحاججهم فأبطل شبههم ولما صمموا على فكرتهم ولم يتنازلوا عنها خلّى سبيلهم ، وأطلق سراحهم ولكن لما عاثوا فسادا في الأرض ، وأخلّوا بالأمن العام ناجزهم عملا
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١٨٠. ٢٠٩
بقوله تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ». ولما فرغ من حربهم كان في المجتمع العراقي جمهور غفير ممن يعتنق فكرتهم ، فلم يتعرض لهم بمكروه ، ولم يمنعهم من الفيء ، ولم يرد أحدا منهم عن الخروج إن أراده ، ومنحهم الحرية التامة ، فلم تراقبهم السلطة ، ولم تتبعهم أو تنكّل بأحد منهم ، وكذلك أعطى الحرية الواسعة الى الحزب الأموي ، فلم يتعرض لهم بأذى أو مكروه مع العلم أنهم كانوا من ألدّ خصومه وأعدائه. وهذه الحرية الواسعة التي أعطاها الإمام للأحزاب المناوئة له كانت أوسع حرية عرفها التأريخ ، لقد قضت سياسته البنّاءة على عدم استكراه الناس على الطاعة ، وعدم ارغامهم على ما لا يحبون. د ـ الصراحة والصدق :
ان السياسة الرشيدة التي رفع شعارها أهل البيت تسير على ضوء الصدق والواقع فلا توارب ، ولا تنافق ، ولا تغري الشعوب بالوعود الكاذبة ، ولا تمنيها بالأماني المعسولة ، رائدها في جميع مخططاتها الصراحة والصدق.
لقد حفلت سياستهم بالصراحة في جميع الميادين ، فليس من منطقها الخداع والنفاق ، وقد صارح الإمام الحسين (ع) سبط النبي وممثل الإسلام الجماهير التي صحبته من مكة والتي التحقت به فى أثناء الطريق حينما بلغه مقتل سفيره وممثله فى العراق الشهيد العظيم مسلم بن عقيل (ع) صارحهم بمقتله ، وخيانة أهل الكوفة به ، وغدرهم بعهودهم ومواثيقهم ، وانه متوجه فى سفره الى ساحة الموت ، فتفرّق ذوو الأطماع والأهواء عنه ، لقد أدلى (ع) في تلك الساعة الرهيبة بالحقيقة الراهنة ، وكشف لهم الستار عن خطته وأهدافه ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم عملا بأوامر الإسلام التي ٢١٠
تلزم بالصراحة والصدق ولا تبيح أي وسيلة من وسائل الغدر والخداع.
إن المواربة لو كانت سائغة فى الإسلام بأي شكل من الأشكال لما تغلب معاوية بن أبي سفيان خصم الإسلام على الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام فكان بامكانه أن يساومه بعد مقتل عثمان ويبقيه على ولايته في دمشق ، ثم يعزله بعد ذلك عن منصبه ويتخلص من شرّه وتمرده ، ولكن الإسلام يأبى له تلك المساومة الرخيصة فامتنع من بقائه في جهاز الحكم ولو زمنا قصيرا ، وهناك أمر آخر هو أعمق أثرا ، وأبعد مدى في عالم الصراحة من ذلك هو امتناع الإمام من اجابة عبد الرحمن بن عوف أحد أعضاء الشورى الذين رشحهم الخليفة الثاني لانتخاب الخليفة الجديد من بعده ، فقد ألحّ عبد الرحمن على الإمام إلحاحا بالغا أن يبايعه وينتخبه لمركز الخلافة الإسلامية العظمى ، ولكن شرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين ، ويقتفي بسياستهما فامتنع (ع) من اجابته على هذا الشرط وأبى إلا أن يسير على كتاب الله ، ويقتدي بسنة نبيه في سياسته وأعماله الإدارية وغيرها ، لقد كان بامكانه أن يوافق على ذلك الشرط ابتداء ثم يعدل عنه ويسير فى سياسته على وفق الأهداف التي رسمها الإسلام ويعتقل كل من يعارضه ويقف فى وجه حكومته ، ولكنه أبى إلا الصراحة والصدق فى القول والفعل.
إن الإسلام يأمر بالتمسك بالصدق ، ولا يسيغ استعمال الطرق الملتوية التي لا تمت بصلة الى الواقع في تثبيت الحكم ، وتدعيم السلطة.
يقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« عليكم بالصدق ، فان الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما زال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب ، فان الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور ٢١١
يهدي الى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا » (١).
إن أهل البيت قد ركزوا سياستهم على الصدق والصراحة ، وجنبوها من المكر والخداع.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) :
« لو لا ان المكر والخداع في النار لكنت أمكر الناس ».
وكان (ع) كثيرا ما يتنفس الصعداء من الآلام المرهقة التي يلاقيها من خصومه ويقول :
« وا ويلاه ، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم ، وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة فى النار ، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا .. » (٢)
ويقول فى الغدر :
« لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » (٣).
إن الغدر إنما ينبعث عن نفس لا تؤمن بالمثل الإنسانية ، والقيم الدينية ، ويصف الإمام أمير المؤمنين الغادر بأنه قد نسخ من كيان نفسه الإيمان بالله يقول :
« ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله!! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله
__________________
(١) رواه مسلم.
(٢) جامع السعادات ١ / ٢٠٢.
(٣) نهج البلاغة ٢١٢
ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين .. »
وتحدث عمن قال فى دور حكومته من عبيد الشهوات والمناصب :
بأنه لا دراية له في شئون السياسة ، وإن معاوية خبير بها ، وخليق بادارة دفة الحكم. قال (ع) :
« والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس » (١).
ان سياسة الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت في جميع شئونها قد عبرت عن جميع القيم السياسية الخيرة التي أعلنها الإسلام ، فهي لا تقرّ الغدر ، ولا المكر ، ولا الخداع ، ولا تؤمن بأي وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقف عليها النجاح السياسي المؤقت ، لأن الخلافة الإسلامية من أهم المراكز الحساسة في الإسلام ، فلا بد لها من الاعتماد على الخلق الرصين والإيمان العميق بحق المجتمع والأمة.
وسار الإمام الحسن (ع) على مخططات أبيه ومقرراته فى عالم السياسة والحكم ، فلم يعتمد على أي وسيلة لا يقرّها الدين ، وتجنب جميع الطرق الشاذة التي لا تلتقي مع الواقع ، ولو أنه سلك بعض الأساليب التي سلكها معاوية لما تغلب عليه ، وقد أدلى (ع) بذلك الى سليمان بن صرد فقال له :
« ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا ، وللدنيا أعمل ، وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم .. »
ودلّ ذلك على أنه لو كان يعمل للدنيا لكان أقوى عليها من خصومه ولكن التغلب على الأحداث والظفر بالحكم يتوقف على اتخاذ الوسائل التي
__________________
(١) نهج البلاغة ٢ / ٢٠٦. ٢١٣
لا تتفق مع الدين وهو (ع) أحرص المسلمين على صيانة الاسلام ورعايته. ه ـ الولاة والعمال :
ويرى أهل البيت (ع) أن الموظفين في جهاز الحكم لا بد أن يكونوا من خيرة الرجال في الجدارة والنزاهة والكفاءة والقدرة على إدارة شئون البلاد ، ليضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم ، ويسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص ، والحق المحض ، ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة ، وأن يكونوا ـ قبل كل شيء ـ بعيدين عن الرشوة ، وعما في أيدي الناس ، فان الرشوة تؤدي الى انهيار الأخلاق وشيوع الباطل ، والفساد في الأرض ، وقد بعث الامام أمير المؤمنين (ع) الى أمراء الأجناد بهذه الرسالة :
« أما بعد : فانما هلك من كان قبلكم ، إنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه. » (١)
إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى دمار الحكومة وزوالها هي أن تحجب المواطنين عن الحق حتى يضطروا الى استنقاذه بالرشوة ، ومن الطبيعي ان ذلك يؤدي الى فقدان الأمن ، واضطراب المجتمع ، وانتشار الظلم والجور.
وقد نظر أهل البيت (ع) الى ما هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير ، فقد فرضوا على ولاتهم أن يبتعدوا عن الناس بكل نحو من أنحاء الصلة ، ولو كانت موجبة للربط الودي أو العاطفي لما عسى أن يكون لذلك أثر على مجرى العدل ، ولذلك ان أمير المؤمنين (ع) لما بلغه ان عامله بالبصرة سهل بن حنيف قد دعي الى مأدبة فأجاب إليها ، فكتب إليه يستنكر منه
__________________
(١) نهج البلاغة ١ / ١٥١. ٢١٤
ذلك ، ويوبخه على ما صدر منه ، وهذا نص ما كتبه إليه :
« أما بعد : يا ابن حنيف فقد بلغنى أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو (١) ، وغنيهم مدعو ، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم (٢) فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه (٣) فنل منه. » (٤).
وأراد الأشعث بن قيس أن يتقرب الى أمير المؤمنين ويتصل به فصنع له حلوى جيدة فقدمها إليه ، ولندعه (ع) يحدثنا عن موقفه تجاه هذا الأمر يقول :
« وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها (٥) ، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول (٦) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط ، أم ذو جنة ، أم تهجر (٧)؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها
__________________
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 5:04 pm | |
| (١) عائلهم : أي محتاجهم ، مجفو : أي مطرود من البؤس والجفاء.
(٢) المقضم : المأكل.
(٣) بطيب وجوهه : أي بالحل في طرق كسبه.
(٤) نهج البلاغة محمد عبده ٣ / ٧٨.
(٥) الملفوفة : نوع من الحلواء.
(٦) هبلتك ـ بكسر الباء ـ : ثكلتك ، الهبول ـ بفتح الهاء ـ : المرأة لا يعيش لها ولد.
(٧) المختبط : من اختل نظام ادراكه ، تهجر : أي تهذي بما لا معنى له. ٢١٥
على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة (١) ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات العقل (٢) ، وقبح الزلل وبه نستعين (٣)
وبهذه السياسة البناءة تتحقق العدالة الاجتماعية ، ويسود الأمن والرخاء ويقضى على جميع أفانين الظلم والغبن. د ـ الخدمة العسكرية :
ولم تقض سياسة أهل البيت بارغام الناس على الخدمة العسكرية ، فلم يؤثر عنهم أنهم أكرهوا الناس على الخروج الى الحرب ، وإنما كانوا يدعون الى الجهاد كفرض من فروض الله فمن شاء أن يخرج خرج مؤديا لما فرض عليه ، ومن قعد فانما يقعد غير تمتثل لما أوجبه الله عليه من دون أن ينال عقوبة أو يتعرض للسخط والارهاب ، وكانت هذه خطة الحسن (ع) لما أراد مناجزة معاوية ، فانه لم يكره أحدا على ذلك ، وإنما ندبهم الى الجهاد ، وقد فعل ذلك أمير المؤمنين من قبل في حرب الجمل وصفين ، والنهروان ، وقد أرادوا بذلك أن يكون الناس مندفعين بدافع الايمان والعقيدة لما أوجبه الله عليهم من الفرض ، وعلى عكس ذلك سار بنو أمية ، فانهم كانوا يفرضون أشد العقاب على من تخلف عن الحرب ، كما يحدثنا التأريخ بذلك في سيرة عبيد الله بن زياد لما امر بالخروج الحرب
__________________
(١) جلب الشعيرة ـ بكسر الجيم ـ : قشرها ، وأصل الجلب : غطاء الرحل فتجوز فى اطلاقه على غطاء الحبة.
(٢) سبات العقل : نومه.
(٣) النهج محمد عبده ٢ / ٢٤٤. ٢١٦
سيد الشهداء (ع) فقتل الشامى على أنه لم يكن ممن أمر بالخروج الى الحرب وقتل الحجاج عمرو بن ضابي البرجمي لأنه لم يستجب للالتحاق بجيش المهلب ابن أبي صفرة ، وفي ذلك يقول الشاعر :
تخير فأما ان تزور ابن ضابي
عميرا وأما أن تزور المهلبا
وأدت هذه الخطة الارهابية الى ارغام الناس على الاستجابة لهم عن كره ، ولو أن الامام الحسن (ع) أجبر جيشه على الطاعة ، وأنزل العقاب الصارم بالمتمردين والمتخاذلين ، وعاقب على الظنة والتهمة لما اصيب جيشه بتلك الزعازع والانتكاسات ، ولكنه سلام الله عليه قد سلك الطريق الواضح الذي لا تعقيد فيه ولا التواء ، وآثر رضاء الله في كل شيء. هـ ـ السياسة المالية :
أما السياسة المالية التي انتهجها أهل البيت فكانت تلزم بصرف الخزينة المركزية على المصالح العامة كانشاء المؤسسات ، وايجاد المشاريع الحيوية التي تنتظم بها الحياة ، ويقضى بها على شبح الفقر والحرمان ، ولا يسوغ عندهم صرف درهم واحد فيما لا تعود فيه منفعة أو فائدة للأمة ، وقد احتاطوا فى هذه الجهة احتياطا بالغا ، فقد اطفأ الامام أمير المؤمنين سراج بيت المال عن طلحة والزبير لما أرادا أن يفاوضاه في مصالحهما الشخصية ، فان الضياء الذي في بيت المال ملك للمسلمين ، فلا يجوز استعماله إلا في مصالحهم.
وقد أثارت عليه هذه السياسة الصارمة أحقاد العرب ، وأضغان قريش ، وأقبلت إليه طائفة من أصحابه يطلبون منه أن يغير سياسته قائلين :
« يا أمير المؤمنين ، اعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس ». ٢١٧
فلذعه هذا المنطق الرخيص وانبرى قائلا :
« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور .. » (١)
ان تفضيل العرب على الموالي ، ومنح الأموال للوجوه كل ذلك جور واعتداء على حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة والعدالة الكبرى في الأرض.
ان أموال المسلمين يجب أن تنفق على مصالحهم ، وضمان عائلهم ومحرومهم ، وليس لزعيم الدولة أن يصطفي منها ، أو يؤثر بها أقاربه ومن يمت إليه ، فان ذلك خيانة لله وللمسلمين ، وقد طبق الامام أمير المؤمنين هذه السياسة العادلة على واقع الحياة حينما آل إليه الأمر ، فانه لم يقتن الدور والضياع ، ولم يرفّه على نفسه فيعير لبالي ثوبه اهتماما ، أو يأكل ما لذّ من الطعام ، أو يتمتع بشيء من متع الحياة ، وإنما كان يعيش عيشة الفقراء والبؤساء ، فقد روى هارون عن أبيه عنترة قال دخلت على علي وهو بالخورنق ، وعليه خلق قطيفة ، وكان الوقت شديد البرد فقلت له :
« يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا ، وأنت تفعل هذا بنفسك ».
فانبرى (ع) مجيبا له :
« والله ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة. » (٢)
انه ليس عنده من اللباس ما يقيه من البرد سوى خلق قطيفة جاء بها من يثرب ، وفي استطاعته أن يلبس الحرير الموشى ، ولكنه أبى أن يصطفي من أموال المسلمين شيئا ، كما انه لم يؤثر بها أحدا من أهل بيته وأبنائه ،
__________________
(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١٨٢.
(٢) الكامل ٨ / ١٧٣. ٢١٨
فقد روى أبو رافع (١) وكان خازنا لبيت المال ، قال : دخل عليّ أمير المؤمنين وقد أعطيت ابنته لؤلؤة من بيت المال ، فلما رآها عرفها ، وقد تغير لونه ومشت الرعدة بأوصاله فقال :
« من أين لها هذه؟ والله لأقطعن يدها. »
فلما رأى أبو رافع جده في الأمر ، وعزمه على ذلك قال له :
« أنا والله يا أمير المؤمنين أعطيتها وهي عارية مضمونة »
فهدأ روعه ، وسكن غضبه ، واندفع قائلا :
« لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ، وما لي خادم غيرها. » (٢)
إن مثله الرفيعة لم تسمح له أن يؤثر ابنته على بنات المسلمين ، وهذا هو منتهى العدل الذي لم يحققه أحد غيره ، ومن مساواته بين المسلمين ، واحتياطه البالغ في أموالهم ما رواه عاصم بن كليب (٣) عن أبيه قال :
__________________
(١) أبو رافع : قيل اسمه ابراهيم ، وقيل أسلم ، كان قبطيا ، قيل كان ملكا للعباس فوهبه الى رسول الله (ص) ، ولما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول الله باسلامه فأعتقه توفي فى خلافة عثمان ، وقيل في خلافة أمير المؤمنين ، الإستيعاب ٤ / ٧٠.
(٢) الكامل ٨ / ١٧٣.
(٣) عاصم بن كليب بن شهاب الجرمى الكوفى ، روى عن جماعة من أعيان الصحابة ، وروى عنه جماعة آخرون ، قال ابن معين والنسائي : إنه ثقة ، وقال ابن شهاب : إنه من العباد ، ومن أفضل أهل الكوفة ، اتهم بالمرجئة ثم نزّه من ذلك ، وعدّه ابن حبان في الثقات ، وقال : إنه ثقة مأمون توفى سنة ١٣٧ ه تهذيب التهذيب ٥ / ٥٥. ٢١٩
« قدم على عليّ مال من اصبهان فقسمه على سبعة أسهم ، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أقسام ، ودعا امراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا ... » (١)
إن هذا هو العدل الذي لم تحققه الانسانية فى جميع مراحل تأريخها فانها على ما جربت من تجارب. وبلغت من رقي وابداع في فنون الحكم فانها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنشئ نظاما سياسيا تتحقق فيه العدالة الكبرى كهذا النظام الذي وضعه ابن أبي طالب ، وسار على منهاجه أبناؤه من بعده.
الى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض المثل العليا التي ينشدونها أهل البيت فى ظلال الحكم ، ولو أن الامام الحسن (ع) انحرف عنها ، ونهج في سياسته منهج من يعمل للدنيا ، وسلك مسلك من يبغي الملك والسلطان ، فراوغ وداهن ، وأنفق المال في غير محله ، لما آل الأمر الى ابن هند الذي سلك جميع الوسائل في سبيل الوصول الى الحكم ، ولكنه سلام الله عليه آثر صيانة الاسلام ، والحفاظ على مقدراته ومعنوياته ، فسار بسيرة جده وأبيه التي لا تقر كل طريق يتصادم مع الدين.
وبقي هنا شيء ذكره الناقدون للصلح ، وهو عدم استشهاد الامام فقد كان الأجدر به أن يناجز معاوية حتى ينال الشهادة ، كما استشهد أخوه سيد الشهداء الحسين (ع) ، وسنذكر جواب ذلك مشفوعا بالتفصيل عند التحدث عن موقف الامام الحسين عليهالسلام من الصلح.
__________________
(١) الكامل ٨ / ١٧٣. ٢٢٠
بنود الصّلح ٢٢١ ٢٢٢
واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسن عليهالسلام بعد ما آل أمره الى الانحلال (١) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد (٢) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك (٣) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».
__________________
(١) تاريخ ابن خالدون ٢ / ١٨٦ ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل ٣ / ٢٠٥ قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد ٤ / ٨.
(٢) الارشاد ص ١٧٠ ، كشف الغمة ص ١٥٤ ، مقاتل الطالبيين ص ٢٦
(٣) تذكرة الخواص ص ٢٠٦ ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص ١٥٧ انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه ٢ / ١٩٢ : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره. ٢٢٣
ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.
فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.
١ ـ ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :
« بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (ص) ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.
وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :
١ ـ جعله ولي عهده.
٢ ـ للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.
٣ ـ منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء. ٢٢٤
واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.
ولما انتهى عبد الله الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (ع) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين (١).
٢ ـ وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (ع) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على
__________________
(١) الفتنة الكبرى ٢ / ٢٠٠. ٢٢٥
الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا » (١).
وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به » (٢).
وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.
٣ ـ وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا
__________________
(١) الكامل ٣ / ٢٠٥ ، الطبري ٦ / ٩٣.
(٢) تأريخ ابي الفداء ١ / ١٩٢. ٢٢٦
أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية » (١).
وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.
٤ ـ وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى الله من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى
__________________
(١) الاستيعاب ١ / ٣٧٠. ٢٢٧
بالله شهيدا » (١).
وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :
١ ـ تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب الله ، وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢) وسيرة الخلفاء الصالحين (٣).
٢ ـ ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن (٤)
__________________
(١) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٤٥ ، كشف الغمة للإربلي ص ١٧٠ البحار ١٠ / ١١٥ ، فضائل الأصحاب ص ١٥٧ ، الصواعق المحرقة ص ٨١.
(٢) ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج ٤ / ٨.
(٣) البحار ١٠ / ١١٥ ، النصائح الكافية ص ١٥٩ ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.
(٤) الاصابة ١ / ٣٢٩ ، الطبقات الكبرى للشعراني ص ٢٣ ، حياة الحيوان للدميري ١ / ٥٧ ، تهذيب ٢ / ٢٢٩ ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / ١٩٩ ، ذخائر العقبى ص ١٣٩ ، الامامة والسياسة ١ / ١٧١ ، ينابيع المودة ص ٢٩٣ ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. ٢٢٨
فان حدث به حدث فالأمر للحسين (١).
٣ ـ الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة (٢).
٤ ـ ان لا يسميه امير المؤمنين (٣).
٥ ـ ان لا يقيم عنده الشهادة (٤).
٦ ـ ان يترك سب امير المؤمنين (٥) وان لا يذكره إلا بخير (٦).
٧ ـ ان يوصل الى كل ذي حق حقه (٧).
٨ ـ الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه (٨).
٩ ـ يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد (٩).
__________________
(١) عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص ٥٢.
(٢) الدينوري ص ٢٠٠ ، مقاتل الطالبيين ص ٢٦.
(٣) تذكرة الخواص لابن الجوزي ص ٢٠٦.
(٤) اعيان الشيعة ٤ / ٤٣.
(٥) نفس المصدر.
(٦) مقاتل الطالبيين ص ٢٦ ، شرح النهج ٤ / ١٥.
(٧) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٤٤ ، ومناقب ابن شهر اشوب ٢ / ١٦٧.
(٨) اعيان الشيعة ٤ / ٤٣ ، الطبري ٦ / ٩٧ ، علل الشرائع ص ٨١.
(٩) البحار ١٠ / ١٠١ ، تأريخ دول الإسلام ١ / ٥٢ ، الامامة والسياسة ص ٢٠٠ ، تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٢١ ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد. ٢٢٩
١٠ ـ ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة (١) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف (٢).
١١ ـ ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق (٣).
هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟ مكان الصلح :
اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس (٤) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام (٥) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.
__________________
(١) تأريخ دول الإسلام ١ / ٥٣.
(٢) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص ١١٢.
(٣) البحار ١٠ / ١١٥ ، النصائح الكافية ص ١٦٠.
(٤) تأريخ الخميس ٢ / ٣٢٣ ، دائرة المعارف للبستاني ٧ / ٣٨.
(٥) تذكرة الخواص ص ٢٠٦. ٢٣٠ عام الصلح :
وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة ٤١ هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام (١) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول (٢) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.
وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام ـ الخالد في دنيا الأحزان ـ بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية
__________________
(١) تأريخ أبي الفداء ١ / ١٩٣.
(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٢٩٩ ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة ٤١ ه وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في ٢٦ ربيع الثاني سنة ٤١ ه. ٢٣١
الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا » (١).
لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (ص) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟ دراسة وتحليل :
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2973 نقاط : 4624 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي الأربعاء أكتوبر 16, 2024 5:07 pm | |
| دراسة وتحليل :
ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها ـ ولو إجمالا ـ لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.
اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه
اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن
__________________
(١) الغدير ١٠ / ٢٢٧. ٢٣٢
محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.
وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.
وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي : ١ ـ العمل بكتاب الله :
ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها. ٢٣٣ ٢ ـ ولاية العهد :
وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك. ٣ ـ الأمن العام :
وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين. ٤ ـ عدم تسميته بأمير المؤمنين :
وفي رفض الامام (ع) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من ٢٣٤
السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم. ٥ ـ عدم اقامة الشهادة :
وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ، ٦ ـ ترك سب أمير المؤمنين :
وأظهر (ع) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (ع) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد ٢٣٥
كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين. ٧ ـ الامن العام للشيعة :
كان الامام (ع) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها ـ أي في المعاهدة ـ بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه » (١).
إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه. ٨ ـ خراج دارابجرد :
واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد (٢) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي
__________________
(١) صلح الحسن ص ٢٥٨.
(٢) دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة. ٢٣٦
المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (ص) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (ع) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم. ٩ ـ عدم البغى عليهم :
ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (ص) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام ـ كما سنبينه ـ فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين. ٢٣٧
هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :
« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.
وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط » (١).
__________________
(١) صلح الحسن ص ٢٥٧. ٢٣٨
موقف الإمام الحسين ٢٣٩ ٢٤٠
كان موقف سيد الشهداء الامام الحسين (ع) من قضية الصلح كموقف أخيه الحسن (ع) ، فكان يرى ضرورة المهادنة ، ولزوم المسالمة ، وانه ليس من الحكمة ، ولا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية ، فانه يعود بالمضاعفات السيئة على الإسلام ، ويجر الويلات والخطوب للمسلمين وذلك لتفلل الجيش الذي نزح معهم ، فقد ذكرنا فى البحوث السابقة الخيانات المفضوحة التي ظهرت من أغلب الأمراء والوجوه ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وضمانهم له الفتك بالامام الحسن ، أو تسليمه أسيرا له ، فكيف يحاربه بهذه القوى الغادرة التي تبغي له الغوائل ، وتتربص به الفرص للفتك به؟
إن الإمام الحسين (ع) كان من رأيه أن يستجيب أخوه للصلح ، ولا يناجز معاوية نظرا للعوامل المريرة التي أحاطت به حتى جعلت من المستحيل التغلب على معاوية ، والانتصار عليه ، فما عمله الامام الحسن من الصلح كان أمرا متعينا ، ولا سبيل لغيره ـ كما أوضحنا ذلك في أسباب الصلح ـ ، فكيف يخالف الإمام الحسين أخاه في ذلك ، ولا يقره عليه.
وزعم بعض المؤرخين ان الإمام الحسين (ع) كان كارها لما فعله أخوه ، وانه قال له :
« أنشدك الله أن تصدق احدوثة معاوية ، وتكذب احدوثة أبيك!! » فأجابه الحسن :
« أنا أعلم بهذا الأمر منك » (١).
ورووا أيضا : « ان الحسن (ع) قال لابن عمه عبد الله بن جعفر :
« إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه » فانبرى إليه ابن جعفر قائلا :
__________________
(١) أسد الغابة وغيره. ٢٤١
« ما هو »؟
« رأيت أن أعمد الى المدينة فأنزلها ، وأخلي بين معاوية ، وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسفكت فيها الدماء ، وقطعت الأرحام ، وعطلت الفروج » (١).
فأيد ابن جعفر رأيه قائلا :
« جزاك الله عن أمّة محمد خيرا ، وأنا معك ».
ثم بعث نحو الحسين ، فلما مثل بين يديه قال له :
« إني رأيت رأيا ، وأحب أن تتابعني عليه ».
« ما هو؟ »
فذكر له رأيه في ذلك.
فانبرى الحسين وهو غضبان قائلا :
« أعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره ، وتصدق معاوية ».
فتأثر الحسن من كلامه ، وقال له :
« والله ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه الى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك فى بيت فأطينه عليك ، حتى أقضى أمري ».
فلما رأى الحسين غضب أخيه وجدّه في الأمر انسحب عن فكرته وتنازل عن رأيه وقال له بصوت خافت : « أنت أكبر ولد عليّ ، وأنت خليفتي ، وأمرنا لأمرك متبع ، فافعل ما بدا لك » (٢).
لا شك في افتعال ذلك كله وانه من الموضوعات لأن الامام الحسين عليهالسلام كان عالما بالعلل والأسباب التي الجأت أخاه الى الصلح والزمته
__________________
(١) الفروج : الثغور.
(٢) تأريخ ابن عساكر الكبير ٤ / ٢١. ٢٤٢
بالمسالمة ، فان رأيه في الصلح كان موافقا لرأي أخيه لا يخالفه ولا يختلف عنه ، ويدل على ذلك ان الإمام الحسن لما أبرم الصلح أقبلت الى الامام الحسين طائفة من الزعماء والوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه ويناجز معاوية فأبى (ع) وامتنع ، ولو كان رأيه مخالفا لرأي أخيه لأجابهم الى ذلك ، ولما انتقل الإمام الحسن (ع) الى حظيرة القدس رفعت إليه طوائف من زعماء العراق عدة رسائل يطلبون منه اعلان الثورة على معاوية فامتنع من اجابتهم وقال لهم :
« ما دام معاوية في قيد الحياة فلا اتحرك بكل شيء ، وإذا مات نظرت في الأمر » (١).
إن امتناعه من القيام بالأمر ما دام معاوية حيا يدل بصراحة أنه كان يرى ضرورة المهادنة والمسالمة المؤقتة ، فان الثورة لا تنتج ولا التضحية تجدي شيئا مع وجود معاوية لأنه يلبسها ثوبا يخرجها عن اطار الإصلاح كما أوضحنا ذلك فيما تقدم ، نعم لا شك ان الصلح قد ترك في نفس الحسين أسى مريرا وحزنا مرهقا كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة وحزنا ، ولكنهما سلام الله عليهما ما ذا يصنعان والظروف لم تكن مواتية لهما حتى يقوما بمناجزة معاوية.
ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته انه جاء في الرواية الثانية ان الإمام قال لأخيه الحسين.
« ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه ».
ان هذا الكلام شاهد على الافتعال والوضع لأن الإمام الحسين عليهالسلام تصده مثله العليا عن مخالفة أخيه وعدم طاعته له فقد تربيا معا
__________________
(١) الارشاد ص ٢٠٦ وغيره. ٢٤٣
في حجر المشرع الأعظم ، وأفاض عليهما مثله وتهذيبه وهديه حتى صارا صورة صادقة عنه ، فكيف يخالف أوامر أخيه ولا يطيعه فى أمر يعود بالصالح العام لجميع المسلمين ، إن الامام الحسين كان يكبر أخاه ويجله ولا يخالف له أمرا. فقد روى حفيده الإمام الباقر (ع) عن مدى اجلاله وتعظيمه له قال :
« ما تكلم الحسين بين يدي الحسن اعظاما له » (١).
وبعد هذا التقدير والإكبار هل يصح أن يقول الحسن لأخيه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه.
وانجرف الدكتور طه حسين بهذه الرواية المفتعلة فقال :
« كره صلح أخيه وهمّ أن يعارض ، فأنذره أخوه بأن يشدّه في الحديد حتى يتم الصلح ».
وقال : « وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه ».
وقال أيضا : « رأى الوفاء لأخيه حقا فوفى له ، وأطاعه كما أطاع أباه من قبله. وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها فى المدينة بعد صلح أخيه كان يتحرق تشوقا الى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد حيث تركه أبوه » (٢).
أما قوله : « كره صلح أخيه وهمّ بالمعارضة ، فأنذره أخوه بأن يوثقه في الحديد ، وانه كان يعيب عليه لأنه إنكار لسيرة أبيه » ، فيرده انه لو كان كارها لذلك لأجاب الكوفيين الى مناجزة معاوية بعد ما جرى
__________________
(١) مناقب ابن شهر اشوب ٢ / ١٤٣.
(٢) الفتنة الكبرى ٢ / ٢١٣ وعول على الروايات المصطنعة الاستاذ محمود العقاد في أبي الشهداء. ٢٤٤
الصلح ، ولأعلن الثورة عليه بعد موت أخيه ، مضافا الى انه لو كان الصلح مخالفا لسيرة أمير المؤمنين (ع) لما سكت الحسين لحظة واحدة لأن السكوت عن الحق جبن ومعصية ، ولو كان مخالفا لسيرة أمير المؤمنين التي هي سيرة رسول الله (ص) لما أبرم الحسن (ع) الصلح ونفذه ، نعم كان الحسين يتحرق شوقا الى الجهاد تحرق الظمان الى الماء ، قد انطوى قلبه على شجى مكتوم وحزن مرهق ولكنه لم ينفرد بذلك ، فقد شاركه أخوه في جميع محنه وأشجانه ، وكانا معا يترقبان بفارغ الصبر الفرصة السانحة للثورة على حكومة أميّة ، ولكن الفرصة التي يؤمل بها النصر والفتح كانت معدومة ما دام معاوية حيا ، فان فتح باب الحرب معه يعود بالضرر البالغ على الإسلام والمسلمين.
بقي هنا شيء لم نذكره في أسباب الصلح ، وهو انه لما ذا لم يفتح الإمام الحسن باب الحرب مع معاوية ، وإن عدم الناصر والمعين فيستشهد كما استشهد أخوه سيد الشهداء الإمام الحسين عليهالسلام ، وهذه الشبهة قد ذهب إليها بعض الناقدين للصلح ، ولندع الجواب الى إمام من أئمة المسلمين وهو آية الله المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين فقد كشف الغطاء عنها في مقال عنوانه ( ثورة الحسين صدى لصلح الحسن ) وقد نشر في أغلب الصحف المحلية ، نذكره بأسره لما فيه من مزيد الفائدة قال رحمهالله :
« كان بنفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمد ، فى نفوس غير المتمكنين فى فهم التأريخ فهما صحيحا وكثير من هؤلاء لا يرجعون الى مصدر علمي في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت ، واخضاع حركاتهم في حالتي مدها وجزرها للمبدإ الأسمى ، ٢٤٥
الذي طوعهم لخدمته ، وأفنى ذواتهم في ذاته ، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض ، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك ...
كان بنفسي أن أرد هذه الشبهة عن أبي محمد السبط باقامة هذا الميزان العلمي الذي يجلو هذه الحقيقة ، ويكشف خدرها ، غير أن واردا ثقيلا من المشاغل التي تنتهي كان يصرفني عما بنفسي من ذلك ، .. فها أنا الآن أوجز الإشارة الى هذه الشبهة ودفعها ، وعسى أن تعود هذه النواة غرسا أتعهده أنا بما ينميه إن سنحت الفرصة أولا فينميه قلم من هذه الأقلام الصقيلة ، المغموسة بقلوب الأحرار ، وعقول العلماء من خدام الحقائق.
أما الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر والملمون بتأريخ الحسن (ع) يعرفون أن قوما من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ، ومناجزته إياه القتال ، حتى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحية هذه الفتنة ، وحتى دخل عليه خاصته بسلام غليظ يقولون فيه : « السلام عليك يا مذل المؤمنين » ..!
وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الايمان الذين تغلب فيهم عاطفة الحماسة ، واستقرار الروية وبعد النظر.
وقد يكون ذلك ولكنا لا نقصد الآن الى الاعتذار لهم بل نريد أن نثبت طرف هذه الشبهة عن الأول لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر طورا على لسان أوليائه ، وتارة على لسان أعدائه ، وهي هنا وهناك لا تظهر إلا لتدل على جهل هؤلاء وأولئك.
فنحن حين نزن صلحه عليهالسلام وحربه ترجح كفة الصلح من حيث اعتبرت المعايير المرعية ، وكن إن شئت ( ماديا ) ، أو كن ( روحيا ) ٢٤٦
| |
|
| |
| حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المؤلف: باقر شريف القرشي | |
|