كان الإمام 7 هو المتصدي الوحيد لإبطال الشّبه والأوهام التي تحوم حول الإسلام في تشريعاته وأحكامه ، والتي أثارها الحاقدون على انتصاره ، واقبال الناس أفواجا على اعتناقه ، ومن المؤكد انه ليس هناك أقدر ولا أولى من حماية الإسلام سوى الإمام 7 ، فقد احاط بفلسفة التشريع الإسلامي ، ووقف على دقائقه ومحتوياته وانه ليس هناك أي تناقض أو تضاد في جميع تشريعاته التي تواكب الفطرة ، وتساير الطبيعة ، وتتفق مع سنن الكون ، ونعرض لبعض شبهات الزنادقة والمنحرفين والمنجمين ، وإبطال الإمام 7 لها.
مع زنديق
وفد على الإمام 7 زنديق ، وقد اترعت نفسه بالأوهام حول الإسلام ، فزعم أنّ هناك تضاربا وتعارضا في آيات القرآن الكريم ، فقال للإمام :
لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم وسارع الإمام قائلا :
« ما هو؟ ».
عرض الزنديق على الإمام 7 ما التبس عليه من الآيات وهي :
قوله تعالى : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) (1).
وقوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) (2).
وقوله تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (3).
وقوله تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ) (4).
__________________
(1) التوبة : 67.
(2) الأعراف : 51.
(3) مريم : 64.
(4) النبأ : 38.
وقوله تعالى : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (1).
وقوله تعالى : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (2).
وقوله تعالى : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3).
وقوله تعالى : ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ) (4).
وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (5).
وقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (6).
وقوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ... ) (7).
وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) (
.
وقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (9).
وقوله تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً ... ) (10).
__________________
(1) الأنعام : 23.
(2) العنكبوت : 25.
(3) ص : 64.
(4) ق : 28.
(5) يس : آية 65.
(6) القيامة : 22 ـ 23.
(7) الأنعام : 103.
(
النجم : 13 ـ 14.
(9) طه : 109.
(10) الشورى : 51.
وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (1).
وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ... ) (2).
وقوله تعالى : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) (3).
وقوله تعالى : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ... ) (4).
وقوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) (5).
وقوله تعالى : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) (6).
وقوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) (7).
وقوله تعالى : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) (
.
وانبرى الإمام 7 إلى تفسير هذه الآيات بما يرفع التعارض المتوهم :
أمّا قوله : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) إنّما يعني نسوا الله في دار الدّنيا ، لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسيّين من الخير.
وكذلك تفسير قوله عزّ وجلّ : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ
__________________
(1) المطفّفين : 15.
(2) الأنعام : 158.
(3) السجدة : 10.
(4) التوبة : 77.
(5) الكهف : 110.
(6) الكهف : 51.
(7) الأنبياء : 47.
(
المؤمنون : 102 ـ 103.
هذا ) يعني بالنّسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الّذين كانوا في دار الدّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله ، وخافوه بالغيب.
وأمّا قوله : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) فإنّ ربّنا تبارك وتعالى علوّا كبيرا ليس بالّذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب في باب النّسيان قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنّه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به فهل فهمت ما ذكر الله عزّ وجلّ؟
قال : نعم ، فرّجت عنّي فرّج عنك وحللت عنّي عقدة فعظّم الله أجرك. قال :
وأمّا قوله : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ).
وقوله : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ).
وقوله : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).
وقوله : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ).
وقوله : ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ).
وقوله : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ، فإنّ ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الّذي كان مقداره خمسين ألف سنة.
المراد : يكفر ـ أهل المعاصي ـ بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، والكفر في هذه الآية « البراءة » تقول : فتبرّأ بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم ، قول الشّيطان : ( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (1) ، وقول إبراهيم خليل الرّحمن : ( كَفَرْنا بِكُمْ )
__________________
(1) إبراهيم : 22.
يعني تبرّأنا منكم.
اجتماع العباد في مواطن :
وأفاد الإمام 7 أنّ العباد يجتمعون يوم القيامة في مواطن متعدّدة وهي : ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطقون ويبكون فيه ، فلو أنّ تلك الأصوات بدت لأهل الدّنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم ، ولتصدّعت قلوبهم ... الخ.
ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه ، فيقولون : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) وهؤلاء خاصّة هم المقرّون في دار الدّنيا بالتّوحيد ، فلا ينفعهم إيمانهم بالله لمخالفتهم رسله وشكّهم فيما أتوا به عن ربّهم ، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم ، واستبدالهم الّذي هو أدنى بالّذي هو خير ، فكذّبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله : ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (1) فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم ، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم ، فيقولون لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ قالوا : أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء.
ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون ، فيفرّ بعضهم من بعض فذلك قوله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (2) فيستنطقون فلا يتكلّمون إلاّ من ...
__________________
(1) الأنعام : 24.
(2) عبس : 34 ـ 36.
ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه ، فلا يتكلّم أحد إلاّ من أذن له الرّحمن وقال صوابا ، فيقوم الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالة الّتي حملوها إلى اممهم ، وتسأل الامم فتجحد كما قال الله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (1) فيقولون : ( ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) (2) فتشهد الرّسل رسول الله 9 فيشهد بصدق الرّسل ، وتكذيب من جحدها من الامم ، فيقول ـ لكلّ أمّة منهم ـ: ( فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم ، كذلك قال الله لنبيّه : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (3) فلا يستطيعون ردّ شهادته ، خوفا من أن يختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون ، ويشهد على منافقي قومه وامّته وكفّارهم بإلحادهم وعنادهم ، ونقضهم عهده ، وتغييرهم سنّته ، واعتدائهم على أهل بيته ، وانقلابهم على أعقابهم وارتدادهم على أدبارهم ، واحتذائهم في ذلك سنّة من تقدّمهم من الامم الظّالمة الخائنة لأنبيائها ، فيقولون بأجمعهم : ( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) (4).
ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد 9 وهو « المقام المحمود » فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله ، ثمّ يثني على
__________________
(1) الأعراف : 6.
(2) المائدة : 19.
(3) النساء : 41.
(4) المؤمنون : 106.
الملائكة كلّهم ، فلا يبقى ملك إلاّ أثنى عليه محمّد ، ثمّ يثني على الأنبياء ، بما لم يثن عليهم أحد قبله ، ثمّ يثني على كلّ مؤمن ومؤمنة يبدأ بالصّدّيقين والشّهداء ثمّ الصّالحين ، فيحمده أهل السّماوات وأهل الأرضين ، فذلك قوله تعالى : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (1).
فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظّ ونصيب ، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظّ ولا نصيب.
ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر ، ويزال بعضهم عن بعض ، وهذا كلّه قبل الحساب ، فإذا اخذ في الحساب شغل كلّ إنسان بما لديه ، نسأل الله بركة ذلك اليوم.
لقد عرض الإمام 7 إلى تفصيل المواقف التي يقف بها العباد في يوم القيامة وذلك قبل يوم الحساب ، ولا أظن أن رواية وردت عن أئمة الهدى : عرضت لذلك بصورة مفصلة.
ثمّ يأخذ الإمام 7 في تفسير الآيات التي سئل عنها وغيرها فيقول :
وأمّا قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عزّ وجلّ بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمّى « نهر الحيوان » فيغتسلون منه ، ويشربون من آخر ، فتبيضّ وجوههم فيذهب عنهم كلّ أذى وقذى ووعث ، ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم ـ أي إلى عطائه كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنّة فذلك قول الله عزّ وجلّ في تسليم الملائكة عليهم : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ
__________________
(1) الإسراء : 79.
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (1) ، فعند ذلك اثيبوا بدخول الجنّة ، والنّظر إلى ما وعدهم الله عزّ وجلّ وهو قوله تعالى : ( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) أي منتظرة ... الخ.
وأمّا قوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) يعني محمّدا 9 كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزّ وجلّ ، وقوله في آخر الآية : ( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (2) رأى جبرئيل في صورته مرّتين هذه مرّة ومرّة اخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل خلق عظيم فهو من الرّوحانيّين الّذين لا يدرك خلقهم ولا صفتهم إلاّ الله ربّ العالمين.
وأمّا قوله : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ... ) (3) ، كذلك قال الله تعالى ، وقد كان الرّسول يوحي إليه رسل من السّماء فتبلغ رسل السّماء إلى الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السّماء ، وقد قال رسول الله 9 : يا جبرئيل ، هل رأيت ربّك؟
فقال جبرئيل : إنّ ربّي لا يرى.
فقال رسول الله 9 : من أين تأخذ الوحي؟
قال : آخذه من إسرافيل.
__________________
(1) الزمر : 73.
(2) النجم : 17 ـ 18.
(3) الشورى : 51.
قال : ومن أين يأخذه إسرافيل؟
قال : يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين.
قال : ومن أين يأخذه ذلك الملك؟
قال : يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي ، وهو كلام الله عزّ وجلّ ، وكلام الله ليس بنحو واحد :
منه ما كلّم الله به الرّسل.
ومنه ما قذف في قلوبهم.
ومنه رؤيا يراها الرّسل.
ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ ، فهو كلام الله عزّ وجلّ.
وأمّا قوله : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (1) فإنّما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربّهم لمحجوبون.
وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (2) يخبر محمّدا 9 عن المشركين والمنافقين الّذين لم يستجيبوا لله ولرسوله فقال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله قال : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدّنيا ، كما عذّب في القرون الاولى ، فهذا خبر يخبر به النّبيّ 9 عنهم ، ثمّ قال : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
__________________
(1) المطفّفين : 15.
(2) الأنعام : 158.
قَبْلُ ) يعني لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية ، وهي طلوع الشّمس من مغربها.
وقال في آية اخرى : ( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (1) يعني أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم حيث قال : ( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) (2) يعني أرسل عليهم العذاب.
وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ).
وقوله : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ القيامة ).
وقوله : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) يعني : البعث ، فسمّاه لقاء.
كذلك قوله : ( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) (3) يعني : من كان يؤمن أنّه مبعوث فإنّ وعد الله لآت : من الثّواب والعقاب ، فاللّقاء هاهنا ليس بالرؤية ، واللّقاء هو البعث.
وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) يعني تيقّنوا أنّهم يدخلونها.
وكذلك قوله : ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (4).
وأمّا قوله عزّ وجلّ للمنافقين : ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) (5) ، فهو ظنّ
__________________
(1) الحشر : 2.
(2) النحل : 26.
(3) العنكبوت : 5.
(4) الحاقّة : 20.
(5) الأحزاب : 10.
شكّ وليس ظنّ يقين ، والظّنّ ظنّان : ظنّ شكّ ، وظنّ يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظّنّ فهو ظنّ يقين ، وما كان من أمر الدّنيا فهو ظنّ شكّ.
وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) فهو ميزان العدل ، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلائق بعضهم من بعض ويجزيهم بأعمالهم ، ويقتصّ للمظلوم من الظّالم.
ومعنى قوله : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) و : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) ، فهو قلّة الحساب وكثرته ، والنّاس يومئذ على طبقات ومنازل :
فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ، وينقلب إلى أهله مسرورا.
ومنهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يتلبّسوا من أمر الدّنيا ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس بها هاهنا.
ومنهم من يحاسب على النّقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السّعير.
ومنهم أئمّة الكفر وقادة الضّلالة ، فاولئك لا يقيم لهم وزنا ، ولا يعبأ بهم يوم القيامة ، وهم في جهنّم خالدون وتلفح وجوههم النّار ، وهم فيها كالحون.
الزنديق :
ـ أجد الله يقول : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (1).
وفي موضع آخر يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (2).
__________________
(1) السجدة : 11.
(2) الزمر : 42.
( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) (1) وما أشبه ذلك ، فمرّة يجعل الفعل لنفسه ، ومرّة لملك الموت ، ومرّة للملائكة.
ـ أجده يقول : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) (2).
ويقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (3) ، ففي الآية الاولى انّ الأعمال الصالحة لا تكفر.
وفي الثانية أنّ الإيمان والأعمال الصالحات لا تنفع إلاّ بعد الاهتداء.
ـ وأجده يقول : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) (4) كيف يسأل الحيّ من الأموات قبل البعث والنشور؟
ـ أجده يقول : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (5) فما هذه الأمانة ، ومن هذا الإنسان ، وليس من صفة العزيز العليم التلبيس على عباده؟
ـ أجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (6).
وبتكذيبه نوحا لمّا قال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (7) بقوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (
.
__________________
(1) النحل : 32.
(2) الأنبياء : 94.
(3) طه : 82.
(4) الزخرف : 45.
(5) الأحزاب : 72.
(6) طه : 121.
(7) هود : 45.
(
هود : 46.
وبوصفه إبراهيم بأنّه عبد كوكبا مرّة ، ومرّة قمرا ، ومرّة شمسا.
وبقوله في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) (1).
وبتهجينه موسى حيث قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) (2).
ويبعثه جبرئيل وميكائيل على داود حيث تسوّرا المحراب ، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا ، وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم ، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل ، وكنى عن أسمائهم في قوله : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) (3) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟
ـ وأجده يقول : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (4).
و ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (5).
و ( لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ) (6) فمرّة يجيئهم ومرّة يجيئونه.
ـ وأجده يقول : ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (7) فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه؟
__________________
(1) يوسف : 24.
(2) الأعراف : 143.
(3) الفرقان : 27 ـ 29.
(4) الفجر : 22.
(5) الأنعام : 158.
(6) الأنعام : 94.
(7) التكاثر : 8.
ـ وأجده يقول : ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) (1) ما هذه البقية؟
ـ وأجده يقول : ( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (2).
و ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (3).
( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (4).
( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) (5).
( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) (6) ، ما معنى الجنب والوجه واليمين والشمال فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟
ـ وأجده يقول : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (7).
ويقول : ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ ) (
.
( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (9).
( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (10).
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (11).
__________________
(1) هود : 86.
(2) الزمر : 56.
(3) البقرة : 115.
(4) القصص : 88.
(5) الواقعة : 27.
(6) الواقعة : 41.
(7) طه : 5.
(
الملك : 16.
(9) الزخرف : 84.
(10) الحديد : 4.
(11) ق : 16.
( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ ) (1).
ـ وأجده يقول : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وليس يشبه القسط في اليتامى من نكاح النساء ولا كل النساء أيتام فما معنى ذلك؟
ـ وأجده يقول : ( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3) فكيف يظلم الله؟ ومن هؤلاء الظلمة؟
ـ وأجده يقول : ( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ) (4) ما هذه الواحدة؟
ـ أجده يقول : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (5) وأرى مخالفي الإسلام ، معتكفين على باطلهم غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم يلعن بعضهم بعضا ، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟
ـ أجده قد بيّن فضل نبيّه على سائر الأنبياء ، ثمّ خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الإزراء عليه ، وانتقاص محله ، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء ، مثل قوله :
( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (6).
وقوله : ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (7).
__________________
(1) المجادلة : 7.
(2) النساء : 3.
(3) الأعراف : 160.
(4) سبأ : 46.
(5) الأنبياء : 107.
(6) الأنعام : 35.
(7) الإسراء : 74.
( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (1).
وقوله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) (2).
وقوله : ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (3).
وقال : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (4).
( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) (5) ، فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام وهو وصيّ النبيّ ، فالنبيّ أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها :
( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) وهذه كلّها صفات مختلفة ، وأحوال متناقضة ، وامور مشكلة ، فإن يكن الرسول والكتاب حقّا فقد هلكت لشكّي في ذلك ، وإن كانا باطلين فما عليّ من بأس؟
جواب الإمام :
وانبرى الإمام 7 إلى تفنيد هذه الشبه والأوهام ، قائلا :
« سأنبّئك بتأويل ما سألت » ، وفيما يلي ذلك :
أمّا قوله تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ).
وقوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ).
( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ).
__________________
(1) الإسراء : 75.
(2) الأحزاب : 37.
(3) الأحقاف : 9.
(4) الأنعام : 38.
(5) يس : 12.
( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) (1) فهو تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله لأنّهم بأمره يعملون ، فاصطفى جلّ ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الّذين قال الله فيهم : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (2) فمن كان من أهل الطّاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرّحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكة النّقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرّحمة والنّقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكلّ ما يأتونه منسوب إليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإنّ فعل امنائه فعله كما قال : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (3).
وأمّا قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ).
وقوله : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء ، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنّجاة ممّا هلك به الغواة ، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتّوحيد ، وإقرارها بالله ، ونجا سائر المقرّين بالوحدانيّة ، من إبليس فمن دونه بالكفر ، وقد بيّن الله ذلك بقوله :
__________________
(1) النحل : 28.
(2) الحجّ : 75.
(3) الإنسان : 30.
( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (1).
وبقوله : ( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (2) ، وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها. ومن ذلك أنّ الإيمان قد يكون على وجهين :
إيمان بالقلب وإيمان باللّسان ، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله لمّا قهرهم بالسّيف ، وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالإيمان بالقلب هو التّسليم للرّبّ ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره ، كما استكبر إبليس عن السّجود لآدم ، واستكبر أكثر الامم عن طاعة أنبيائهم ، فلم ينفعهم التّوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السّجود الطّويل ، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، ولم يرد بها غير زخرف الدّنيا ، والتّمكين من النّظرة ، فلذلك لا تنفع الصّلاة والصّدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النّجاة ، وطرق الحقّ ، وقد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته ، وإرسال رسله ، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، ولم يخل أرضه من عالم بما تحتاج إليه الخليقة ، ومتعلّم على سبيل النّجاة ، اولئك هم الأقلّون عددا ، وقد بيّن الله ذلك في امم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخّر ، مثل قوله في قوم نوح : ( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (3).
__________________
(1) الأنعام : 82.
(2) المائدة : 41.
(3) هود : 40.
وقوله فيمن آمن من أمّة موسى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (1).
وقوله في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل : ( مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (2) يعني : بأنّهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم ، ولا يستكبرون عن أمر ربّهم فما أجابه ـ أي عيسى ـ منهم إلاّ الحواريّون.
وقد جعل الله للعلم أهلا ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3).
وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (4).
وبقوله : ( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (5).
وبقوله : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (6) ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (7) ، والبيوت هي بيوت العلم الّذي استودعه الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ من عمل من أعمال الخير فجرى على
__________________
(1) الأعراف : 159.
(2) آل عمران : 52.
(3) النساء : 59.
(4) النساء : 83.
(5) التوبة : 119.
(6) آل عمران : 7.
(7) البقرة : 189.