الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyاليوم في 10:46 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     موسوعة الامام علي عليه السلام

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:38 am

    ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
    النحل : 125
    ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ )
    الحجّ : 3
    ( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )
    العنكبوت : 46
    ( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
    غافر : 56



    تقديم
    1
    الاحتجاجات والمناظرات بين الأديان والمذاهب قديمة جدّا ، فقد تسلّح بها أرباب الأديان وزعماء المذاهب وأتباعهم ، واستخدموا في ذلك جميع الوسائل التي بأيديهم ، وذلك لإضفاء الأصالة والشرعية على ما يدينون ويعتقدون به ولجرّ الناس إلى اعتناق آرائهم ومعتقداتهم.
    وهذه الظاهرة سائدة بين الناس منذ فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا ... لقد اسست أندية وأمكنة لهذا الغرض في دول الغرب ، وقد جرت في الولايات المتّحدة ندوة حضرها حشد كبير من الأمريكا وغيرهم ، فتناظر عالم مسلم وعالم مسيحي ، واستمرّت المناظرة عدّة ساعات ، فانهار العالم المسيحي أمام الأدلة الحاسمة التي أدلى بها العالم المسلم ، واعترف بالعجز وزيف أدلّته أمام الحاضرين.
    2
    إنّ الاحتجاجات والمناظرات من أوثق الأسباب ، وأكثرها عمقا ، وأجدرها في فصل الخصومات ، وحسم النزاعات أمام فتح باب الحرب وإراقة الدماء ، وإشاعة الثكل والحزن ، والحداد لفرض الرأي والمعتقدات ، فإنّ ذلك سلاح العاجزين الذين


    يعوزهم الدليل والبرهان ، وسرعان ما تفشل معتقداتهم ، وتتلاشى آراؤهم كما يتلاشى الدخان في الفضاء.
    3
    وكان الاحتجاج هو السّمت البارز في دعوة الأنبياء إلى الله تعالى وإبطال مذاهب خصومهم الوثنيّين ، فقد أفلجوا بالأدلة الحسّية آراء الملحدين ، فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم 7 حينما حاججه أحد فراعنة عصره في الله تعالى أجابه إبراهيم بأروع الأدلة ، وقد حكى القرآن الكريم هذه المحاججة ولننظر إليها ، قال تعالى :
    ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).
    فوجم الذي كفر ولم يطق جوابا ، وانهار أمام هذه الحجّة الدامغة.
    4
    أمّا سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين فقد اعتمد في تبليغ رسالة ربّه على الحوار والمحاججة مشفوعة بالخلق الكامل ، فقد أمره الله تعالى بذلك ، قال تعالى :
    ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (2).
    __________________
    (1) البقرة : 258.
    (2) النحل : 125.

    وبقي الرسول 9 مستمرا في تبليغ دعوته الخلاّقة يحتجّ ويناظر ويدافع عن قيمها ومبادئها ، ووقف كالطود الشامخ أمام طغيان القرشيّين وعتاتهم ، حتى فتح الله له الفتح المبين ، واندحرت العصابات القرشية التي لا تحمل أي طابع من الفكر والوعي.
    5
    ونؤكد أنّ الإسلام بصورة إيجابية ومتميّزة قد تبنّى المحاورة والمناظرة في تبليغ رسالته ، ولم يلجأ إلى القوّة العسكرية ولا لأي وسيلة من وسائل العنف والقهر ، فقد أعلن القرآن الكريم بصراحة ووضوح أن ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (1) ، وإنّما فتح باب الحرب مع خصومه وأعدائه للدفاع عن قيمه ومبادئه وأهدافه التي جهدت العصابات القرشية على محوها وحجبها عن المجتمع الإنساني.
    إنّ رسالة الإسلام الخالدة قد رفعت مشاعل النور ، وأسّست معالم الحضارة في المشرق العربي ، وقد سعت لتأسيس أهدافها بالاحتجاج والمناظرة لا بالسيف والنطع.
    6
    كان الإمام أمير المؤمنين 7 من ألصق الناس برسول الله 9 وأقربهم إليه ، فهو باب مدينة علمه ، وأبو سبطيه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى. فقد تطبّع بأخلاقه ، والتزم بحرفية منهجه ، وسار على أضواء رسالته لم يخالف أي سنّة منها ، فاعتمد 7
    __________________
    (1) البقرة : 256.

    بصورة موضوعية على الاحتجاج والمناظرة مع خصومه ، ولم يفتح معهم باب الحرب إلاّ بعد أن انسدّت معهم نوافذ السلم ، وأعلنوا العصيان المسلّح عليه ، وكان ذلك مكشوفا في حربه مع أهل الجمل وصفّين والنهروان ، فقد بغوا عليه ، وتمرّدوا على حكومته ، ولم تجد معهم أي وسيلة من وسائل الصلح وحقن الدماء.
    7
    أمّا الإمام أمير المؤمنين 7 فهو من أوسع الناس افقا وأكثرهم استيعابا لجميع مباحث العلوم ، كما كان أخبرهم في المسائل الكلامية ، فقد ناظر الخلفاء وأفحمهم ، وناظر علماء الأديان السماوية وألحق بهم هزيمة ساحقة ، فقد علم مناطق الضعف والزيف في أناجيلهم وتوراتهم فوضعها بين أيديهم ، فلم يستطيعوا الدفاع عن أديانهم ووقفوا واجمين أمام منطقه الفيّاض ، معترفين بعجزهم خاضعين لملكاته وقدراته العلمية.
    ومن المؤكد أنّه لم يملك أي أحد من الصحابة وغيرهم ما يملك الإمام من المواهب والعبقريات التي فاق بها على غيره.
    8
    ويحفل هذا الجزء من موسوعة حياة الإمام أمير المؤمنين 7 باحتجاجاته ومناظراته ، وهي تحمل طابعا فكريا وعلميا وتعدّ في طليعة البحوث الكلامية خصوصا في مناظراته مع علماء النصارى واليهود ، فقد تجلّى فيها الإبداع والأصالة وعمق المناهج العلمية التي استدلّ بها الإمام 7 ، والتي اقتبس منها بعض علماء المسلمين الذين قصدوا للردّ على علماء النصارى واليهود وبيان فساد معتقداتهم.

    9
    وقبل أن أطوي هذا التقديم ، أودّ أن أعرض إلى أني لم استوعب ـ بصورة قاطعة ـ جميع احتجاجات الإمام 7 ومناظراته وإنما سجّلت ما عثرت عليه منها ، فإنّه من المؤكد أنّ الباحث المتتبّع يجد أضعاف ما دوّنته منها ...
    إنّ هذا الإمام الملهم العظيم له من التراث الهائل الذي هو من مناجم الفكر الإسلامي ومن ذخائر الأدب الإنساني ، ما يفوق حدّ الوصف والإحصاء.
    إنّه وليّ التوفيق
    النّجف الأشرف
    باقر شريف القرشى
    2 / جمادى الاولى / 1420 هـ



    احتجاجات الإمام
    على الخلفاء


    الشيء البارز في حياة الإمام السياسية احتجاجاته الصارمة على الخلفاء ومناظراته معهم ، فإنّها تلقي الأضواء على ما يكنّه الإمام من أسى بالغ بسبب إبعاده عن المسرح السياسي ، وحجبه عن الخلافة التي هي ظلّ الله في الأرض يحتمي بظلالها المظلومون والمضطهدون ، ويفزع إليها البائسون والمحرومون.
    وعلى أي حال فقد نجم عن إقصاء الإمام عن قيادة الامّة أن خسرت الإنسانية الطاقات الهائلة التي يملكها الإمام في ميادين الحكم والإدارات وحقول التربية والسياسة ، وغيرها من الوسائل التي تتطوّر بها الحياة العامّة.
    والشيء المؤكد أنّ المهاجرين في يثرب كانوا امتدادا للاسر القرشية في مكّة ، وكانوا يمثّلون رغباتهم ، ويحكون انطباعاتهم وميولهم ، وكانت معظم نفوس القرشيّين مترعة بالكراهية للإمام ؛ لأنه أشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد في سبيل الدعوة الإسلامية التي ناهضوها بجميع قدراتهم ، وبالإضافة لذلك فإنّ نفوس القرشيّين قد طبعت على الأنانية والحسد ، وهي من عناصرهم ومقوّماتهم ، وقد بدت هذه الظاهرة بصورة واضحة للبيت الهاشمي الذي لمع نجمه بسيّد الكائنات الرسول محمّد 9 فقد ورمت منه انوفهم وتميّزوا غيظا منهم.
    لقد ظهر حقد القرشيين على أهل بيت النبوة : بصورة واضحة بعد انتقال النبي 9 إلى حظيرة القدس فقد رفعوا عقيرتهم بصورة محمومة بهذا الشعار المزيف :

    لا يجتمع سيفان بغمد واحد.
    لا تجتمع النّبوّة والخلافة في بيت واحد.
    وحقّقوا ما أرادوه بالقوة والحيلة والقهر ، فأقصوا أهل البيت عن الخلافة ، وقبضوا على الحكم بيد من حديد ، وقد منيت الامّة من جراء ذلك بالأزمات الخطيرة والنكبات السود ، وكان من أقسى الكوارث التي عاناها المسلمون استيلاء الأمويّين على الحكم ، إمعانهم في الظلم والاستبداد ، وإرغام الناس على ما يكرهون ، ومن مساوئ حكمهم كارثة كربلاء التي انتهكت فيها حرمة الرسول 9 التي هي أولى بالرعاية والتكريم من كل شيء ، فلم تمض على انتقاله إلى حظيرة القدس خمسون عاما وإذا برءوس أبنائه على الرماح يطاف بها الأقطار والأمصار ، وبنات الوحي ومخدّرات الرسالة سبايا من بلد إلى بلد يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ... هذا ما أرادته قريش لأهل بيت النبوة فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
    وعلى أي حال فلنعد إلى ما نحن بصدده ، وهو عرض احتجاجات الإمام 7 على الخلفاء ، وهذه بعضها :

    احتجاجه على أبي بكر
    تقلّد أبو بكر الخلافة واستولى على أزمة الحكم وذلك بجهود حزبه ، وفي طليعتهم مستشاره ووزيره عمر بن الخطّاب ، فقد دفع الناس دفعا لمبايعته ، وقد لعبت درّته في الميدان ، ولولاه لما تمّت البيعة لأبي بكر ، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر بنو هاشم ، وأعلام الإسلام كعمّار بن ياسر وأبي ذرّ والزبير والمقداد وغيرهم ، كما تخلّف عن البيعة معظم أبناء الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون العمود الفقري للقوّات الإسلامية ، فكانوا يرون أنّ الإمام 7 أحقّ وأولى بمركز الخلافة من غيره وذلك لنص النبيّ 9 عليه ، بالإضافة إلى مواهبه وعبقرياته وسائر ملكاته التي ترشّحه لقيادة الامّة.
    وقد سارع أبو بكر إلى الإمام ليكسب رضاه ، ويضفي الشرعية على حكومته قائلا :
    يا أبا الحسن ، والله ما كان الأمر منّي ولا رغبة فيما وقعت عليه ، ولا حرص عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامّة ، ولا قوّة لي بمال ، ولا كثرة بعشيرة ، ولا استئثار به دون غيري ، فما لك تضمر عليّ ما لم أستحقه منك ، وتظهر لي الكراهة لما صرت فيه ، وتنظر إليّ بعين الشنآن؟
    واستخدم أبو بكر في حديثه الأساليب السياسية ، فأظهر زهده في الخلافة وعدم رغبته فيها ، وانّه لم تتوفّر في شخصيّته المؤهّلات التي ترشّحه لقيادة الامّة ...


    وردّ الإمام عليه بمنطقه الفيّاض قائلا :
    « فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام به ... »؟
    وحفل كلام الإمام بالرأي الأصيل ، فإنّ أبا بكر إذا لم يكن راغبا في الخلافة ولا حريصا عليها فلما ذا تقلّدها؟
    أجابه أبو بكر قائلا :
    حديث سمعته من رسول الله 9 : « إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال » ، ولمّا رأيت إجماعهم اتّبعت قول النبيّ 9 ، وخفت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى ، فأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت ...
    ومعنى كلام أبي بكر أنّ الذي دعاه وحفّزه لأن يتقلّد الخلافة هو حديث النبي 9 ، وقد أجمعت الامّة على انتخابه واختياره ، فلم يجد سبيلا للتخلّف عن إجماعها.
    ووجّه الإمام إليه السؤال الثاني قائلا :
    « أمّا ما ذكرت من قول النّبيّ 9 : إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال ، فكنت ـ ويعني نفسه الشريفة ـ من الامّة أم لم أكن؟ ».
    فأجاب أبو بكر : بلى.
    واندفع الإمام قائلا :
    « وكذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان وعمّار وأبي ذرّ والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار ... ». عرض الإمام إلى الكوكبة من صحابة النبي 9 التي امتنعت من بيعة أبي بكر،

    وأنّهم من الامّة ، وقد اعترف أبو بكر بذلك.
    ثمّ وجّه الإمام له السؤال الثالث :
    « كيف تحتجّ بحديث النّبيّ 9 وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك؟ وليس للامّة فيهم طعن ولا في صحبة الرّسول لصحبته منهم تقصير ... »؟
    وفنّد الإمام كلام أبي بكر ، وأقام الحجّة على مدّعاه.
    وانبرى أبو بكر قائلا :
    ما علمت بتخلّفهم إلاّ بعد إبرام الأمر ، وخفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين ، وكان ممارستهم إليّ إن أجبتهم أهون مئونة على الدين ، وإبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون كفارا ، وعلمت أنّك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم ...
    والتفت الإمام إلى أبي بكر قائلا :
    « أجل ، ولكن اخبرني عن الّذي يستحقّ هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ بما يستحقّه؟ ».
    جواب أبي بكر عمّن يستحق الخلافة : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعمل بالكتاب والسنّة ، وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدّنيا وقلّة الرغبة فيها ، وانتصاف المظلوم من ظالمه للقريب والبعيد ...
    لقد أدلى أبو بكر بالصفات التي يجب أن تتوفّر فيمن يتصدّى للخلافة.
    وأضاف الإمام إلى تلك الصفات صفات اخرى يجب أن يتّصف بها القائد العام للامّة قائلا :
    « والسّابقة والقرابة ».

    وأراد الإمام من السابقة : السبق للإسلام ، ومن القرابة : القرابة للرسول 9 ، وهذان الشرطان متوفّران في الإمام دون غيره ، فهو أوّل من آمن بالرسول 9 ، كما أنّه أقرب الناس إلى رسول الله 9. وأقرّه أبو بكر على ذلك.
    وأخذ الإمام يدلي على أبي بكر ببعض صفاته التي لم تتوفّر عند غيره قائلا :
    « أنشدك بالله يا أبا بكر ، أفي نفسك تجد هذه الخصال؟ ».
    أبو بكر : بل فيك يا أبا الحسن.
    « فأنشدك بالله ، أنا المجيب لرسول الله 9 قبل ذكران المسلمين أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت ...
    « فأنشدك بالله ، أنا صاحب الأذان لأهل الموسم والجمع الأعظم للامّة بسورة براءة أم أنت؟ ».
    عرض الإمام 7 إلى تبليغ سورة براءة لأهل مكّة التي عهد بها الرسول إلى أبي بكر ، ثمّ نزل عليه الوحي بعزله ، وإسناد هذه المهمّة إلى الإمام ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض بحوث هذه الموسوعة.
    أبو بكر : بل أنت.
    « فأنشدك بالله ، أنا وقيت رسول الله 9 بنفسي يوم الغار أم أنت؟ ».
    حكت هذه الكلمات ما قام به الإمام 7 في مبيته على فراش النبي 9 حينما أحاطت قريش بدار النبي 9 لقتله ، وقد فداه الإمام بنفسه ، وليس لأحد من الاسرة النبوية أو الصحابة مثل هذه الكرامة التي اختصّ بها الإمام.
    أبو بكر : بل أنت.

    « فأنشدك بالله ، ألي الولاية من الله مع رسوله في آية الزّكاة بالخاتم أم لك؟ ».
    ذكر الإمام 7 ما نزل في القرآن في حقّه حينما تصدّق بخاتمه على المسكين في صلاته وهي : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1).
    فقد حصرت الآية الولاية العامّة على المسلمين في الله والرسول والذين آمنوا وهو الإمام ، وعبّرت الآية عنه بصيغة الجمع تعظيما وتكريما له.
    أبو بكر : بل لك.
    « فأنشدك بالله ، أبي برز رسول الله 9 وبأهلي وولديّ في مباهلة المشركين أم بك؟ ».
    وثمّة منقبة اخرى أدلى بها الإمام شاركته فيها سيّدة النساء والسبطان ، وذلك في مباهلة النبيّ 9 مع أهالي نجران ، فإنّه لم يصحب معه للمباهلة صنو أبيه عمّه العباس ، ولا المخدّرات من بني هاشم ، ولا السيّدات من نسائه ، وإنمّا اصطحب الإمام وزوجته وابنيه ، وقد ذكرنا تفصيل هذه الحادثة في بعض أجزاء هذه الموسوعة ، واعترف أبو بكر بذلك فقال :
    بل فيكم.
    « فأنشدك بالله ، ألي الوزارة مع رسول الله 9 ، والمثل من هارون من موسى أم لك؟ ».
    عرض الإمام 7 لفضيلتين أضفاهما عليه النبي 9 ، وهما :
    __________________
    (1) المائدة : 55.

    الاولى : أنّ النبي 9 اتّخذه وزيرا له ، وقد صرّح بذلك في عدّة مناسبات ذكرنا مصادرها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
    الثانية : أنّ النبيّ 9 جعل الإمام منه بمنزلة هارون من موسى ، فقد قال له : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... ».
    أبو بكر اعترف بذلك قائلا :
    بل لك.
    « فأنشدك بالله ، ألي ولأهلي وولدي آية التّطهير من الرّجس أم لك ولأهل بيتك؟ ».
    أشار الإمام 7 إلى آية التطهير وهي : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) ، فقد نزلت فيه وفي سيّدة النساء وسبطي الرحمة وإمامي الهدى : ، وقد ذكرنا في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة المصادر التي دلّت على ذلك.
    أبو بكر : بل لك ولأهل بيتك ـ يعني آية التطهير ـ.
    « فأنشدك بالله ، أنا صاحب دعوة رسول الله 9 وأهلي وولديّ يوم الكساء : اللهمّ هؤلاء أهلي إليك لا إلى النّار ، أم أنت؟ ».
    عرض الإمام 7 إلى حديث الكساء الذي ضمّ الإمام وسيّدة نساء العالمين والسبطين الإمامين الحسن والحسين 8 ، والحديث يدلّ على عظم منزلة أهل البيت : وسموّ مكانتهم عند الله ورسوله.
    أبو بكر : بل أنت وأهلك وولدك.
    __________________
    (1) الأحزاب : 33.

    « فأنشدك بالله ، أنا صاحب آية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (1) أم أنت؟ ».
    أشار الإمام 7 إلى نذر الإمام وسيّدة النساء وجاريتها فضة حينما مرض الحسنان أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا لله إن برئا من مرضهما ، فأبلا من مرضهما فصاموا جميعا ، وحين الإفطار طرق الباب مسكين يشكو الجوع فتبرّعوا بإفطارهم ولم يتناولوا شيئا سوى الماء القراح.
    وفي اليوم الثاني قبل الإفطار طرق الباب يتيم يشكو الجوع ، فناولوه إفطارهم ، وطووا ليلتهم جوعا.
    وفي اليوم الثالث طرق الباب أسير يستميحهم القوت ، فناولوه إفطارهم ، وقد ذابت أجسامهم وصاروا أشباحا ، فلمّا رآهم النبيّ 9 فزع وانهارت قواه ، فنزل عليه الوحي بسورة : ( هَلْ أَتى ... ) وفيها تقييم من الله تعالى لإيثارهم ، وإشادة ببرّهم وإحسانهم ، وقد أضفى عليهم وساما خالدا خلود الدهر.
    أبو بكر : بل أنت.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي ردّت عليه الشّمس لوقت صلاته فصلاّها ، ثمّ توارت أم أنا؟ ».
    حديث ردّ الشمس على الإمام ذكرته الخاصّة والعامّة ، وقد ذكر المحقّق الأميني ; كوكبة من المصادر التي ذكرت ذلك.
    أبو بكر : بل أنت.
    « فأنشدك بالله ، أنت الفتى الّذي نودي من السّماء : لا سيف إلاّ ذو الفقار ،
    __________________
    (1) الإنسان : 7.

    ولا فتى إلاّ عليّ ، أم أنا؟ ».
    نودي الإمام من السماء بهذا النداء في واقعة احد ، وهو من الأوسمة الرفيعة التي تقلّدها.
    أبو بكر : بل أنت.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي حباك رسول الله 9 برايته يوم خيبر ففتح الله له أم أنا؟ ».
    قاد النبيّ 9 حملة عسكرية إلى فتح خيبر التي هي أهم حصن لليهود ، وقد أسند قيادة جيشه إلى أبي بكر فرجع منهزما ، ثمّ أسند القيادة إلى عمر فكان كصاحبه ، فقال النبيّ 9 : « لاعطينّ غدا الرّاية رجلا يحبّه الله ورسوله ، ويحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه » ، فلمّا أصبح الصبح دعا النبيّ 9 الإمام عليّا ، وكان يشتكي من عينيه ، فسقاه بريقه فبرئ وسلّم الراية ، وحمل على اليهود ، ففتح الله على يده ، وقد ذكرنا تفصيل القصة في بعض أجزاء هذه الموسوعة.
    أبو بكر : بل أنت.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي نفّست عن رسول الله 9 وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ودّ أم أنا؟ ».
    عمرو بن عبد ودّ أعظم فارس في الجزيرة العربية ، وقد برز في واقعة الخندق يطلب من المسلمين من يبارزه منهم ، فلم يستجب له أحد وخيّم عليهم الخوف ، فانبرى إليه بطل الإسلام الإمام 7 فأرداه صريعا يتخبّط بدمه ، وكان لقتله الأثر الفعّال في هزيمة المشركين ، وقتل هذا الجاهلي الخطير من الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام على الإسلام والمسلمين.
    أبو بكر : بل أنت.

    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي طهّره الله من السّفاح من لدن آدم إلى أبيه بقول رسول الله 9 : « خرجت أنا وأنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطّلب » أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    حكى حديث الإمام إلى ما نقله الرواة إلى أنّ النبيّ 9 وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين 7 خرجوا من لدن آدم من نكاح غير سفاح (1).
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي اختارني رسول الله 9 وزوّجني ابنته فاطمة 3 ، وقال : الله زوّجك إيّاها في السّماء ، أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    زواج الإمام من سيّدة نساء العالمين بأمر الله حديث متّفق عليه عند جميع الرواة.
    « فأنشدك بالله ، أنا والد الحسن والحسين سبطيه وريحانتيه إذ يقول :
    هما سيّدا شباب أهل الجنّة وأبوهما خير منهما ، أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    امتاز الإمام 7 على بقيّة المسلمين بولديه السبطين ريحانتي رسول الله 9 وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين 8.
    « فأنشدك بالله ، أخوك المزيّن بالجناحين يطير في الجنّة مع الملائكة أم أخي؟ ».
    أبو بكر : بل أخوك.
    __________________
    (1) يراجع في ذلك ينابيع المودة : 16. كنز العمال 6 : 100.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:40 am

    ومن مزايا الإمام أنّ أخاه الشهيد العظيم جعفرا الطيّار الذي ، استشهد في مؤتة دفاعا عن الإسلام ، ووقف صامدا حتى قطعت يداه ، وأصابته تسعون ضربة ما بين طعنة بالرمح وضربة بالسيف ، وقد أبدله الله تعالى عن يديه بجناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى مع الملائكة.
    « فأنشدك بالله ، أنا ضمنت دين رسول الله 9 ، وناديت في المواسم بإنجاز موعده أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    أشار الإمام 7 بكلماته إلى حديث النبيّ 9 انّه جمع الأقربين من اسرته ، وقال لهم :
    « من يضمن عنّي ديني ومواعدي يكن معي في الجنّة ويكن خليفتي في أهلي؟ ».
    فانبرى إليه الإمام وقال : « أنا يا رسول الله ».
    ذكر ذلك أحمد في مسنده ، كما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (1).
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي دعاه رسول الله 9 والطّير عنده يريد أكله ، يقول : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ وإليك بعدي يأكل معي من هذا الطّير فلم يأته غيري ، أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    حديث الطائر المشوي أجمع الرواة على نقله ، وقد دلّ بوضوح على أنّ
    __________________
    (1) الشعراء : 214.

    الإمام أحبّ الخلق إلى الله وإلى رسوله (1).
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي بشّرني رسول الله 9 بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين على تأويل القرآن أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    ألمح الإمام في كلماته إلى حديث رسول الله 9 حينما كان عند أمّ المؤمنين أمّ سلمة فجاء عليّ فقال لها :
    « يا أمّ سلمة ، هذا قاتل القاسطين والنّاكثين والمارقين من بعدي » (2).
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي دلّ عليه رسول الله 9 بعلم القضاء وفصل الخطاب بقوله : عليّ أقضاكم ، أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    تظافرت الأخبار عن النبي 9 أنه قال في أصحابه : « أقضاكم عليّ بن أبي طالب » (3).
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي أمر رسول الله 9 بالسّلام عليه بالإمرة في حياته أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    ألمح الإمام 7 إلى ما أمر به النبيّ 9 أن يسلّموا على الإمام بإمرة المؤمنين.
    « فأنشدك بالله ، أنا الّذي شهدت آخر كلام رسول الله 9 ووليت غسله
    __________________
    (1) يراجع في ذلك : اسد الغابة 4 : 30. مستدرك الحاكم 3 : 130 ، وغيرهما.
    (2) الرياض النضرة : 320.
    (3) يراجع في ذلك : الاستيعاب 2 : 461.

    ودفنه أم أنت؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    كان الإمام 7 آخر الناس عهدا برسول الله 9 وهو الذي تولّى غسله ودفنه (1).
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي سبقت له القرابة من رسول الله 9. أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    أمّا الإمام 7 فهو من ألصق الناس برسول الله 9 وأقربهم إليه ، فهو أخوه ، وابن عمّه ، وختنه على سيّدة نساء العالمين ، وأبو سبطيه ، وليس لغيره هذه المنزلة من رسول الله 9.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي حباك الله بالدّينار عند حاجته إليه ، وباعك جبرئيل ، وأضفت محمّدا فاطعمت ولده أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    ألمح الإمام 7 في كلامه إلى أنّ سيّدة نساء العالمين طلبت من الإمام 7 أن يخرج ليقترض لهم ما يسدّ رمقهم من الجوع ، فخرج فلم يجد أحدا يستقرض منه إلاّ أنّه التقط دينارا فعرّف به فلم يجد له صاحبا ، وعرضت عليه حبيبة رسول الله 9 أن يستقرضه ، ومتى جاء صاحبه أعطوه مكانه ، فأخذ الإمام 7 الدينار ومضى إلى السوق فوجد رجلا يبيع الطعام فاشترى منه بدينار ، إلاّ أنّ صاحب الطعام أبى أن يأخذ الدينار.
    وفي اليوم الثاني خرج الإمام إلى السوق ليشتري طعاما لهم فوجد الرجل
    __________________
    (1) يراجع في ذلك : مستدرك الحاكم 3 : 111. ذخائر العقبى : 72. الرياض النضرة 2 : 237.

    الذي باعه الطعام قد عرض طعاما للبيع فاشترى منه ، وناوله الدينار فامتنع من أخذه.
    وفي اليوم الثالث فعل مثل ذلك ، فسارع الإمام 7 إلى النبيّ 9 وعرض عليه الأمر فأخبره النبيّ 9 بأنّ صاحب الطعام هو جبرئيل (1).
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي جعلك رسول الله 9 على كتفه في طرح صنم الكعبة وكسره حتّى لو شئت أن أنال افق السّماء لنلتها أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    عرض الإمام في حديثه إلى تحطيمه لأصنام قريش التي اتّخذتها آلهة يعبدونها من دون الله ، وقد حطّمها الإمام 7 في فتح مكّة ، وقضى على خرافات الجاهلية ، والحديث مستفيض ذكرته مصادر التأريخ والحديث.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي قال لك رسول الله 9 : أنت صاحب لوائي في الدّنيا والآخرة ، أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    حكى الإمام 7 الحديث الوارد عن رسول الله 9 : « يا عليّ ، أنت صاحب لوائي في الدّنيا والآخرة » ، هذا الحديث متواتر مستفيض.
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي أمرك رسول الله 9 بفتح بابه في مسجده عند ما أمر بسدّ أبواب جميع أهل بيته وأصحابه ، وأحلّ لك فيه ما أحلّ الله له ، أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    __________________
    (1) يراجع في ذلك : مناقب الخوارزمي : 224.

    عرض الإمام 7 إلى أمر النبي 9 بسدّ جميع الأبواب التي كانت على المسجد إلاّ باب عليّ 7 فقد أبقاها ، وكان ذلك تكريما للإمام 7 (1).
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي قدّمت بين يدي نجوى رسول الله 9 صدقة فناجيته إذ عاتب الله قوما فقال : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ... ) (2) أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    من آداب الإمام 7 مع رسول الله 9 أنّه إذا أراد أن يناجيه قدّم صدقة ثمّ يناجيه ، ولم يعمل مثل ذلك من الصحابة غيره (3).
    « فأنشدك بالله ، أنت الّذي قال رسول الله 9 لفاطمة : زوّجتك أوّل النّاس إيمانا ، وأرجحهم إسلاما ، في كلام له ، أم أنا؟ ».
    أبو بكر : بل أنت.
    أشار 7 إلى قول رسول الله 9 لسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء 3 حينما عرض عليها الزواج من الإمام أمير المؤمنين 7 فقال لها :
    « أما ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاما ، وأعلمهم علما ... » (4).
    « فأنشدك بالله يا أبا بكر ، أنت الّذي سلّمت عليه ملائكة سبع سماوات يوم القليب أم أنا؟ ».
    __________________
    (1) يراجع في ذلك : كنز العمال 6 : 152. مستدرك الحاكم 2 : 125. الرياض النضرة 2 : 253.
    (2) المجادلة : 13.
    (3) يراجع في ذلك : الرياض النضرة 2 : 215.
    (4) يراجع في ذلك : كنز العمال 6 : 153 وغيره.

    أبو بكر : بل أنت. عرض الإمام 7 إلى قيامه بسقي الماء إلى النبيّ 9 وأصحابه في ليلة بدر ، فقد طلب منهم ذلك فلم يستجب له أحد منهم سوى الإمام ، فقد انبرى ومعه قربة إلى بئر بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها ، فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالقيام بنصرة رسوله ، فهبطوا إلى الأرض ، فلمّا حاذوا القليب وقفوا وسلّموا على الإمام إكراما وتبجيلا له (1).
    موقف أبي بكر :
    ووجم أبو بكر أمام هذه الحجج الحاسمة التي أدلى بها الإمام 7 ، والتي تدلّ بوضوح على أنّ الإمام أحقّ بالأمر وأولى به من غيره ، وقد سدّت على أبي بكر جميع النوافذ ، فاستجاب لرأي الإمام إلاّ أنّ عمر صدّ أبا بكر عمّا عزم عليه من التخلّي عن منصبه (2).
    لا أكاد أعرف مناظرة قائمة على العلم والحقّ ، خالية عن الالتواء والغلبة سوى هذه المناظرة المشفوعة بأوثق الحقائق ، والتي وضعت النقاط على الحروف ، وكان الأولى بأبي بكر أن يستجيب لها إلاّ أنّ صاحبه عمر ومستشاره صدّه عن ذلك.
    __________________
    (1) يراجع في ذلك : ذخائر العقبى : 68 ـ 69. تذكرة الخواص : 228.
    (2) الاحتجاج 1 : 157 ـ 184.

    احتجاجه على أبي بكر وحزبه
    ولمّا اخذ الإمام 7 قسرا إلى الجامع النبوي ليبايع أبا بكر أحاط به حزب أبي بكر ، وصاحوا به : بايع أبا بكر ، فأجابهم الإمام بحجّته البالغة ، ومنطقه الفيّاض قائلا :
    « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا ابايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النّبيّ 9 ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصبا؟
    ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة؟
    وأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّا وميّتا ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظّلم وأنتم تعلمون ... » (1). وسلك الإمام 7 بهذا الاحتجاج الصارم نفس الطريقة التي احتجّ بها المهاجرون على الأنصار من أنّهم أمسّ الناس رحما برسول الله 9 ، وبه تغلّبوا على الأنصار وتسلّموا قيادة الحكم ، وهذه الجهة قد توفرت في الإمام 7 على النحو
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 73.

    الأكمل فهو ابن عم النبي وختنه على بضعته سيدة نساء العالمين ، وأبو سبطيه فهو أمسّ الناس رحما بالنبي 9 وأولى بمركزه وأحقّ بمقامه.

    مع عمر
    وثار ابن الخطّاب على الإمام بعد ما أدلى بحجّته ، فقال له :
    إنّك لست متروكا حتى تبايع ....
    فزجره الإمام وصاح به :
    « احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غدا ». وأوضح الإمام السبب في اندفاع ابن الخطاب وحماسه في بيعة أبي بكر انّه يرجو أن ترجع إليه الخلافة بعده.
    ثمّ ثار الإمام في وجه عمر ، وقال :
    « والله يا عمر لا أقبل قولك ، ولا ابايعه ... ».
    وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، فأجاب الامام بناعم القول : إن لم تبايع فلا اكرهك عليه ...
    وخلّى أبو بكر سبيل الإمام ، ولم يرغمه على البيعة له.

    احتجاج الإمام على المهاجرين
    واحتجّ الإمام على المهاجرين باحتجاج صارم لأنهم وقفوا ضده ، وحالوا بينه وبين حقه ، فخاطبهم بأسى ولوعة قائلا :
    « يا معشر المهاجرين والأنصار ، الله الله لا تخرجوا سلطان محمّد 9 في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به ؛ لأنّا أهل البيت ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، أما كان منّا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرّعيّة ، الدّافع عنهم الامور السّيّئة ، القاسم بينهم بالسّويّة ، والله إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا عن الحقّ بعدا ... » (1).
    ولو أنّ المهاجرين استجابوا لنداء الحق وآثروا الصالح العام لما عانت الامّة الأزمات الحادة ، على امتداد التأريخ الإسلامي.
    إنّ الحسد لآل البيت : قد نخر قلوبهم وألقاهم في شرّ عظيم ، وباعد بينهم وبين دينهم.
    لقد اقصوا الاسرة النبوية عن قيادة الامّة ، وحالوا بينها وبين ما أراده الله
    __________________
    (1) الإمامة والسياسة 1 : 11 ـ 12. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 6 : 11 ـ 12.

    ورسوله لها ، فتركوهم في أرباض يثرب حتى انتهى المطاف إلى أن يتسلّم الأمويون مركز الحكم ، ويستولوا على مقدرات الدولة فينفقوها على شهواتهم وملاذهم ، ويمعنوا في قتل قادة الإسلام أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وتعدّوا إلى ما هو أفظع من ذلك كلّه وهو إبادة العترة النبوية التي هي عديلة الذكر الحكيم حسبما نصّ عليه حديث الثقلين ، ومجزرة كربلاء ، وما جرى على آل الرسول من الخطوب السود والنكبات القاسية ناجم عن تصرفات المهاجرين الذين هم الطلائع للاسر القرشية التي ناجزت الإسلام.

    الإمام مع أعضاء الشورى
    وأقام عمر بعد اغتياله نظام الشورى ، وهو نظام هزيل لا يحمل أي طابع من الشورى الواقعية التي تمثّل جميع قطاعات الشعب ، فقد حصرها في ستة أشخاص فكان معظمهم من الحاقدين على الإمام أمثال سعد بن أبي وقاص وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف.
    وحسب الدراسات العلمية التي لا تخضع للنزعات الطائفية إنّ الغرض من هذه الشورى اقصاء الإمام عن مركز الحكم ، وتسليمه إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية ، وقد تكلّمنا عن هذه الشورى وحلّلنا أبعادها في بعض بحوث هذا الكتاب.
    وعلى أي حال فإنا نعرض لاحتجاج الامام على أعضاء الشورى فقد قال لهم :
    « لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم. فاسمعوا قولي ، وعوا منطقي ؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة ، وشيعة لأهل الجهالة » (1).
    وكان الإمام 7 رائد حق وداعية هداية في احتجاجه ، ولو انهم استجابوا له
    __________________
    (1) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 : 31.

    ولم ينسابوا وراء شهوة الحكم لما واجه المسلمون الأزمات القاسية والأحداث الرهيبة.
    لقد تحقّق ما تنبّأ به الإمام ، فلم تمض حفنة من السنين حتى انتضيت السيوف وتصارع القوم على الحكم ، فكان بعضهم من أئمّة الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة والضلال.
    إذعان الإمام لمصلحة المسلمين :
    وأعرب الإمام 7 حينما بويع عثمان عن إذعانه لمصلحة المسلمين ، فقد خاطب أعضاء الشورى قائلا :
    « لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها ـ أي الخلافة ـ من غيري ؛ وو الله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ؛ ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (1).
    لقد كانوا على ثقة وإيمان انّ الإمام 7 أحقّ بالخلافة وأولى بالأمر من غيره ، فهو حامي الإسلام ، والمجاهد الأوّل ، وأخو النبي 9.
    وصبر الإمام على سلب تراثه حفظا على كلمة الإسلام ووحدة المسلمين ، وقد أدلى بذلك بقوله 7.
    « إنّ الله لمّا قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافّة ، فرأيت أنّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والنّاس حديثو عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلق ،
    __________________
    (1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 6 : 166.

    فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثمّ انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله وليّ تمحيص سيّئاتهم ، والعفو عن هفواتهم » (1).
    وقد عزى الإمام سكوته عن أخذ حقه من الذين اغتصبوه إلى الحفاظ على كلمة المسلمين ، وعدم اراقة دمائهم ، خصوصا في تلك الظروف التي كان الإسلام في أوّل مراحله ، وإثارة الفتنة توجب إعراض الناس عن الإسلام واعتناق أديانهم التي كانوا يدينون بها.
    كما تحدّث الإمام عمّا لحقه من ضيم وأذى من جراء ما اقترفه القوم تجاهه يقول 7 :
    « فإنّه لمّا قبض الله نبيّه 9 قلنا : نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا ، وصرنا سوقة ؛ يطمع فينا الضّعيف ، ويتعزّز علينا الذّليل ، فبكت الأعين منّا لذلك ، وخشنت الصّدور ، وجزعت النّفوس ، وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه » (2).
    وحكت هذه الكلمات الآلام المرهقة التي عانتها الاسرة النبوية من جرّاء اقصاء الخلافة عنهم ، وتسلّم القرشيين لها الذين امعنوا في ظلمهم واذلالهم.
    __________________
    (1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 308.
    (2) المصدر السابق 1 : 307.


    احتجاج آخر للإمام
    روى أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا 7 يقول :
    « بايع النّاس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ بايع النّاس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقّ به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف ، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذا لا أسمع ولا اطيع.
    وإنّ عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصّلاح ، ولا يعرفونه لي كلّنا فيه شرع سواء ، وأيم الله لو أشاء أن أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم ولا أعجميّهم ولا معاهد منهم ولا المشرك ردّ خصلة منها لفعلت » (1).
    وأنت تري في هذه الكلمات مدى الصدعة والأسى التي في نفس الإمام 7 من القوم الذين استهانوا بمكانته وعاملوه معاملة عادية ، وتنكروا لجميع حقوقه ، وقد امسك الإمام عن استعمال القوة في ارجاع حقه ، وذلك خوفا على ردة المسلمين ، وانتكاس الدين ، وضياع الرسالة الإسلامية.
    __________________
    (1) فرائد السمطين 1 : 320.

    احتجاجاته
    على المتمرّدين


    كانت بيعة الإمام عامة اشتركت فيها جميع قطاعات الشعب بما فيها القوات المسلّحة التي أطاحت بحكومة عثمان بن عفان ، وقد باركتها الصحابة وباركها جميع المسلمين سوى الاسر القرشية التي ناهضت رسول الله 9 ، فانها أصيبت بذهول ووجوم ، وتميّزت من الغيظ ، فقد خافت على مصالحها وما كانت تتمتع به من السيطرة على جهاز الدولة وتسخير اقتصادها لمصالحهم ، وهي على يقين لا يخامره شك أنّ الإمام 7 يتحرى بكل دقة مصالح الامّة ، ويقيم فيها برامج السياسة الإسلامية الهادفة إلى نشر الرخاء والأمن بين المسلمين ، وابعاد العناصر المشبوهة ، ومعاملتها معاملة عادية تتّسم بعدم التقدير وعدم الاستجابة لرغباتها ومصالحها.
    إنّ الاسر القرشية تعرف الإمام 7 أنه لا يداهن أحدا في دينه ولا يصانع أي إنسان قريب أو بعيد ، وأنه يبغي في جميع تصرفاته وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فلذا أجمعت على مناجزته ووضع الحواجز والسدود أمام سياسته ، وقبل أن نذكر بعض احتجاجاته معهم نعرض إلى ما يلي :


    لوعة الإمام من القرشيّين
    التاع الإمام 7 كأشد ما تكون اللوعة من القرشيين وبلغ به الحزن منهم أقصاه ، فقد استبان له عداؤهم السافر له وحقدهم البالغ عليه ، وقد ادلى 7 بعدة مناسبات بعميق ألمه وحزنه منهم ، ولنستمع لبعضها :
    1 ـ قال 7 :
    « اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ؛ فإنّهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متأسّفا ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا ذابّ ولا مساعد ، إلاّ أهل بيتي ؛ فضننت بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشّجا ، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من وخز الشّفار » (1).
    أرأيتم مدى حزن الإمام وأساه من ظلم القرشيين واعتدائهم عليه ، فقد قطعوا رحمه ، ونازعوه الخلافة التي هو أولى بها من غيره ، وأجبروه على ما أرادوه ، ولم يكن باستطاعة الإمام أن يناهضهم ، فلم تكن عنده قوة ولم يكن يأوي إلى ركن شديد
    __________________
    (1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 11 : 109.


    لينتزع حقه منهم فصبر على ما في الصبر من قذى في العين ، وشجى في الحلق.
    2 ـ قال 7 :
    « اللهمّ إنّي استعديك على قريش ، فإنّهم أضمروا لرسولك 9 ضروبا من الشّرّ والغدر فعجزوا عنها وحلت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدّائرة عليّ.
    اللهمّ احفظ حسنا وحسينا ، ولا تمكّن فجرة قريش منهما ما دمت حيّا ، فإذا توفّيتني فأنت الرّقيب عليهم ، وأنت على كلّ شيء شهيد » (1).
    حكت هذه الكلمات ما يلي :
    أولا : عداء القرشيين للرسول 9 ، وما أضمروه له من ضروب الشر والغدر إلاّ أنّ الله تعالى حال بينهم وبين ما دبروا وأضمروا للنبي 9 من سوء ومكر فقد نصر نبيّه وأعزّ دينه.
    ثانيا : أنّ دائرة القرشيين كانت على الإمام بعد وفاة النبي 9 ، فقد استوفوا منه ديونهم التي كانت لهم على النبي 9 ، وشفوا غيظ صدورهم منه فسلبوه حقه ، وانتزعوا منه ولايته على المسلمين التي عقدها النبي له في غدير خم.
    ثالثا : فإنّه أبدى مخاوفه على سبطي الرحمة وامامي الهدى الحسن والحسين من القرشيين الذين كانوا يبغون الغوائل لذرية الرسول 9 ، وقد تحقق ما كان يتخوف عليهما الإمام 7 فالسبط الأوّل الإمام ريحانة رسول الله 9 ، تجرّع أقسى الآلام من طاغية زمانه معاوية بن أبي سفيان فقد بالغ الطاغية في ظلم الإمام والاعتداء عليه ، وأخيرا دسّ إليه السم فقتله ، وأمّا أخوه الإمام الحسين 7
    __________________
    (1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 20 : 298.

    أبو الشهداء ، فقد عمد يزيد بن معاوية الممثل الوحيد للأسر القرشية إلى السبط فأجهز عليه وعلى أهل بيته وأصحابه في أرض كربلاء ، ورفع جيشه رءوسهم على أطراف الرماح ومعها عقائل النبوة سبايا يطاف بهم في الأقطار والأمصار ، وقد اعلنوا فرحتهم الكبرى باستئصالهم لذرية النبي 9 ، وقد استوفوا بذلك ثارات بدر.
    3 ـ قال 7 :
    « حتّى إذا قبض الله رسوله 9 ، رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السّبل ، واتّكلوا على الولائج (1) ، ووصلوا غير الرّحم ، وهجروا السّبب (2) الّذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير موضعه. معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كلّ ضارب في غمرة. قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السّكرة ، على سنّة من آل فرعون : من منقطع إلى الدّنيا راكن ، أو مفارق للدّين مباين » (3).
    وحفل كلام الإمام 7 بما مني به المسلمون بعد وفاة النبي 9 من الانقلاب على الأعقاب الذي كان من مظاهره إبعاد الاسرة النبوية وإقصاؤها عن قيادة الامة ، وتقليد الخلافة إلى غيرها ، وقد وصفهم بالأوصاف التي ذكرها والتي هي واضحة الدلالة بيّنة المفاد ، ومن المؤكد أنه لم يقم بعملية الانقلاب إلاّ الاسرة القرشية الحاقدة على أهل البيت :.
    4 ـ قال 7 :
    « اللهمّ فاجز قريشا عنّي الجوازي ، فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت عليّ ،
    __________________
    (1) الولائج : جمع وليجة ، وهي البطانة التي يتّخذها الإنسان.
    (2) أراد بالسبب هم أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة الذين قرنهم الرسول بمحكم التنزيل.
    (3) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 9 : 132.

    ودفعتني عن حقّي ، وسلبتني سلطان ابن امّي ، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرّسول وسابقتي في الإسلام ، إلاّ أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه ، ولا أظنّ الله يعرفه ، والحمد لله على كلّ حال » (1).
    ويلمس في هذه الكلمات مدى لوعة الإمام 7 وأساه على ضياع حقه ، ونهب تراثه الذي استأثرت به قريش.
    5 ـ قال 7 :
    « اللهمّ أخز قريشا فإنّها منعتني حقّي ، وغصبتني أمري » (2).
    6 ـ قال 7 :
    « فجزى قريشا عنّي الجوازي فإنّهم ظلموني حقّي واغتصبوني سلطان ابن امّي » (3).
    7 ـ قال 7 :
    « اللهمّ إنّي استعديك على قريش فإنّهم ظلموني حقّي وغصبوني إرثي » (4).
    وأعربت هذه الكلمات عما لاقاه الإمام 7 من الظلم والاعتداء من القرشيين فقد اجمعوا على مناهضته والحطّ من شأنه ، ولنستمع بعد هذا إلى احتجاجاته على المتمردين على حكومته من القرشيين.
    __________________
    (1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 2 : 119.
    (2) نهج البلاغة : 346.
    (3) المصدر السابق : 336.
    (4) نهج البلاغة : 346.

    احتجاجاته على طلحة والزبير
    بايع الزبير وطلحة الإمام 7 عن رضى لا إكراه فيه ، ولمّا تمّ الأمر للإمام وأعلن منهجه في الحكم ، وانه يسير على منهاج رسول الله 9 لا يستأثر بشيء من أموال المسلمين ، وإنما يحتاط فيها كأشد ما يكون الاحتياط ، وقد جرت بينه وبين طلحة والزبير عدّة مناظرات كان منها ما يلي :
    سارع طلحة والزبير نحو الإمام ، وهما يرفعان عقيرتهما قائلين : هل تدري علام بايعناك يا أمير المؤمنين؟
    فرمقهما الإمام بطرفه ، وقال برنة المستريب منهما :
    « نعم على السّمع والطّاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان ».
    وكشفا عن نواياهما وأطماعهما قائلين : ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر ...
    ما ذا يعني الشيخان في الاشتراك في الأمر؟
    هل يبغيان أن تسير الدولة في برامجها السياسية والاقتصادية على ضوء الكتاب والسّنّة ، ويكونا عونا للإمام على تحقيق هذه الغاية النبيلة؟
    هل الاشتراك في الأمر معناه بذل الجهود لسير البلاد قدما في تطورها

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:42 am

    الاقتصادي وتنمية دخل الفرد ونشر الرخاء بين المواطنين واشاعة العلم بين الناس؟
    كل ذلك لم يفكّر فيه طلحة والزبير ، وإنّما المقصود هو الاستيلاء على مقدّرات الدولة وأجهزة الحكم ، والاستيلاء على ثروات الامّة ، واخضاعها لرغباتهما وشهواتهما.
    ولم تخف على الإمام أطماعهما فردّ عليهما قائلا :
    « ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأود ... ».
    إنّ الذي يفهمه الإمام من مشاركتهما له المشاركة على الاستقامة وعدم الانحراف عن الخط الإسلامي الذي يعنى قبل كلّ شيء بإسعاد المجتمع ، ونفي الحاجة والبؤس ، وتوزيع خيرات الله تعالى على الجميع.
    وهذا المنطق لا يفهمه طلحة ولا يعيه الزبير ، انّ الذي يعنيهما قبل كلّ شيء الاستيلاء على خيرات الامّة ومقدراتها الاقتصادية.
    ولمّا استبان للشيخين ضياع أملهما ، وعدم فوزهما بتحقيق آمالهما انطلقا صوب الإمام يطلبان الإذن لهما في الخروج من يثرب ليعلنا التمرّد على حكومة الإمام فقالا له : ائذن لنا يا أمير المؤمنين.
    « إلى أين؟ ».
    نريد العمرة.
    فرمقهما الإمام بطرفه ، وقد عرف خفايا نفوسهما ، وما انطوت عليه قلوبهما من الشر ، قائلا لهما برنة المستريب :
    « والله ما العمرة تريدان!! بل الغدرة ونكث البيعة »!
    ولم يخف على الإمام ما انطوت عليه نفوسهما من الشر والغدر والمكيدة

    وأخذا يقسمان بالله ويحلفان بالأيمان المغلظة انهما يخرجان للعمرة والتفت إليهما الإمام ونفسه مترعة بالريبة منهما فطلب منهما إعادة البيعة له ثانيا ففعلا دون تردّد ، ومضيا منهزمين إلى مكّة ، وكأنه قد اتيح لهما الخلاص من السجن فلحقا بعائشة ، فجعلا يحثّانها على الثورة على حكومة الإمام ، وقد كانا يعلمان بكراهيتها للإمام.
    مع عائشة :
    وفزعت عائشة حينما علمت أنّ الإمام 7 قد تقلّد زمام الحكم ، وآلت إليه زعامة الامّة ، فأعلنت العصيان والتمرّد ، ورفعت عقيرتها مطالبة بدم عثمان بن عفّان ، وقد كانت من أقوى العناصر التي نادت بسفك دمه ، فقد أفتت بكفره ومروقه من الدين ثمّ هى الآن تطالب بدمه ، وهل هي وليّة دمه حتى يباح لها ذلك؟ وهل هي وليّة أمر المسلمين حتى تطالب بدمه؟ أسئلة لا جواب لها فيما نعلم.
    وعلى أي حال فقد رفعت علم الثورة على حكومة الإمام وراحت تستنهض المسلمين للإطاحة بحكومته ، وقد استجاب لها الغوغاء الذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، فقد شكّلت منهم جيشا أمدّه الأمويّون بجميع المعدّات الحربية وما يحتاجون إليه ، وقد أنفقوا عليه أموالا هائلة كانت ممّا نهبوه من أموال المسلمين حينما كانوا ولاة من قبل عثمان بن عفّان ، وقد عرضنا لذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب.
    وقد احتلّت عائشة البصرة ، وحينما علم الإمام بذلك زحف بجيوشه للقضاء على هذا التمرّد ، وقبل أن تندلع نار الحرب بعث الإمام إليها عبيد الله بن عبّاس وزيد ابن صوحان يدعوها إلى حقن دماء المسلمين ، وقال لهما قولا لها :
    « إنّ الله أمرك أن تقرّي في بيتك وأن لا تخرجي منه ، وإنّك لتعلمين ذلك ، غير أنّ جماعة قد أغروك فخرجت من بيتك ، فوقع النّاس

    ـ لاتّفاقك معهم ـ في البلاء والعناء ، وخير لك أن تعودي إلى بيتك ، ولا تحومي حول الخصام والقتال ، وإن لم تعودي ولم تطفئي هذه النّائرة فإنّها سوف تعقب القتال ، ويقتل فيها خلق كثير ، فاتّقي الله يا عائشة وتوبي إلى الله فإنّ الله يقبل التّوبة من عباده ويعفو ، وإيّاك أن يدفعك حبّ عبد الله بن الزّبير وقرابة طلحة إلى أمر تعقبه النّار ».
    ولو أنّها وعت هذه النصيحة ، واستجابت لنداء الحق لجنّبت الامّة الكثير من المآسي والخطوب إلاّ انها جعلت ذلك دبر اذنيها ، وقالت للرسولين : إني لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام لأني لا أبلغه بالحجاج (1). ولم ترد على الإمام بالكلام ، وانما ردّت عليه بالسيوف والرماح وأبت أن تذعن لنداء الحق.
    مع طلحة والزبير :
    وأقام الإمام 7 الحجّة على طلحة والزبير ، فقد بعث إليهما برسالة يدعوهما إلى الوئام ، وجمع كلمة المسلمين ، وهذا نصها :
    « أما بعد : فقد علمتما ـ وإن كتمتما ـ أنّي لم ارد النّاس حتّى أرادوني ، ولم ابايعهم حتّى بايعوني ، وإنّكما ممّن أرادني وبايعني ، وانّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب ، ولا لعرض حاضر ، فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السّبيل باظهاركما الطّاعة وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحقّ المهاجرين بالتّقيّة والكتمان ، وأنّ دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد
    __________________
    (1) حياة الإمام الحسن 7 1 : 443 ، نقلا عن تاريخ ابن أعثم.

    إقراركما به ، وقد زعمتما أنّي قتلت عثمان فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة ثمّ يلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، فارجعا أيّها الشّيخان عن رأيكما ، فإنّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار والنّار » (1).
    لقد ألقيا الفتنة بين المسلمين ، وجرّا للعالم الإسلامي الويل والدمار ، وقاتل الله الطمع والحسد ، فقد ألقياهما في شر عظيم ، وحمّلاهما المسئولية أمام الله تعالى.
    وقد ألمحنا إلى تفصيل هذه الأحداث المروعة في بعض أجزاء هذه الموسوعة ، فلا نطيل البحث عنها.
    __________________
    (1) نهج البلاغة 3 : 122.

    مع معاوية
    وأعلن معاوية التمرّد على حكومة الإمام ، ورفض البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، فقد رأى له قوة تمكّنه من مناجزة الإمام ؛ وذلك لما له من النفوذ والمكانة في بلاد الشام فانّه لم يعمل فيها عمل وال ، وإنمّا عمل فيها عمل صاحب الدولة الذي يؤسسها ، فقد أمدّه عمر وعثمان بجميع مقومات البقاء والقوة ، ويعترف معاوية بصراحة أنّه لو لا أبو بكر وعمر لما نازع الإمام ، فقد أعلن ذلك في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر جاء فيها :
    كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزه ـ يعني عليا ـ حقّه ، وخالفاه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم ـ يعني قتله ـ ، ثمّ انّه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشاركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما الله.
    وأضاف قائلا :
    فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا له ، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا وأخذنا بمثله (1).
    __________________
    (1) المسعودي على هامش ابن الأثير 6 : 78 ـ 79.

    فمن المؤكد الذي لا ريب فيه أنّه لو لا منازعة الشيخين للإمام وابتزازهما لحقّه لما استطاع معاوية منازعته ، ولقبع في زوايا الخمول هو واسرته.
    وعلى أي حال فان من مهازل الزمن أن ينبري معاوية إلى مناهضة عملاق الفكر الإنساني ، وباب مدينة علم النبي 9 ، ويعلن العصيان المسلّح عليه.
    إيفاد جرير إلى معاوية :
    رأى الإمام 7 أن يقيم الحجّة على معاوية ، ويدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، فبعث إليه جرير بن عبد الله البجلي وزوّده بهذه الرسالة :
    « أمّا بعد .. فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام ؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشّاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار ، إذا اجتمعوا على رجل ، فسمّوه إماما كان ذلك لله رضا ، وإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى ، ويصليه جهنّم وساءت مصيرا.
    وإنّ طلحة والزّبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ، فكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ ، وظهر أمر الله وهم كارهون.
    فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فإنّ أحبّ الامور إليّ فيك العافية ، إلاّ أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك.

    وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه النّاس ، ثمّ حاكم القوم إليّ ـ يعني الذين قتلوا عثمان ، أحملك وإيّاهم على كتاب الله ، فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصّبيّ عن اللّبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان ، وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجليّ ، وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ، ولا قوّة إلاّ بالله » (1).
    وأعرب الإمام الممتحن في رسالته عن شمول بيعته التي لم يظفر بمثلها أحد من الذين سبقوه ، فقد بايعه الأنصار والمهاجرون ، وبايعته الأقطار الإسلامية ، وبايعه طلحة والزبير إلاّ انهما نكثا بيعته لغير سبب إسلامي ، فقد دفعتهما الأطماع والحسد للإمام إلى ذلك.
    وقد دعا الإمام 7 معاوية إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن لا يخلع يد الطاعة ، ويفارق الجماعة الإسلامية كما أعرب الإمام عن براءته من دم عثمان الذي اتّخذه معاوية وسيلة لإعلان التمرّد ، والخروج عن طاعة الإمام ، وأعلن الإمام أنّ معاوية لا يصلح للخلافة ولا لأي منصب من مناصب الدولة لأنه من الطلقاء الذين ناجزوا الرسول الأعظم 9.
    ولم يستجب معاوية لنداء الحق ، وراح في غيه مناجزا للإمام ، ومعلنا للتمرّد على حكومته ، فردّ جرير البجلي ، وحمّله رسالة الحرب للإمام.
    احتجاجه على معاوية :
    من أروع ما احتجّ به الإمام 7 على معاوية هذا الاحتجاج الذي كان جوابا
    __________________
    (1) العقد الفريد 2 : 233. الإمامة والسياسة 1 : 71. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 3 : 300.

    لرسالة معاوية له ، ولنقرأه بإمعان :
    « أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمّد 9 لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ؛ فلقد خبّأ لنا الدّهر منك عجبا ؛ إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا ، فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر (1) ، أو داعي مسدّده إلى النّضال.
    وزعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان وفلان (2) ؛ فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه.
    وما أنت والفاضل والمفضول ، والسّائس والمسوس! وما للطّلقاء وأبناء الطّلقاء ، والتّمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها! ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك (3) ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا ظفر الظّافر! ».
    حكى هذا المقطع من كلام الإمام 7 استهانته بمعاوية وازدراءه له وأنه لا حقّ له ولا مكانة له في التمييز بين المهاجرين من أصحاب النبي 9 ، فان كان لهم الفضل فهو لغيره ولا يلحقه وان كان فيهم ثلمة ونقص فلا تلتصق به لأنه من الطلقاء الذين لا يحق لهم التدخل في شئون المسلمين ...
    ويستمر الإمام في رسالته الذهبية قائلا :
    __________________
    (1) هجر : مدينة باليمن كثيرة النخيل ، وقيل مدينة بالبحرين.
    (2) فلان وفلان : يعني بهما الشيخين أبا بكر وعمر.
    (3) أربع على ظلعك : أي قف عند حدّك ، واعرف قدرك.

    « وإنّك لذهّاب في التّيه (1) ، روّاغ عن القصد ، ألا ترى ـ غير مخبر لك ».
    تحدث الإمام 7 بهذه الكلمات عن نفسية معاوية ، وانه لذهاب في التّيه أي الضلال ، فقد كان من عناصره ومقوماته ، كما كان رواغا عن القصد أي الاعتدال ، فلم يستقم إلاّ على الباطل.
    وأضاف الإمام قائلا :
    « ولكن بنعمة الله احدّث ـ أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل سيّد الشّهداء ، وخصّه رسول الله 9 بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل الطّيّار في الجنّة وذو الجناحين! ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه ، لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السّامعين.
    فدع عنك من مالت به الرّميّة ، فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد صنائع لنا (2) لم يمنعنا قديم عزّنا ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ؛ فنكحنا وأنكحنا ، فعل الأكفاء ، ولستم هناك! وأنّى يكون ذلك كذلك ومنّا النّبيّ ومنكم المكذّب ـ وهو أبو جهل.
    __________________
    (1) التيه : الضلال.
    (2) لعلّ المراد من قوله 7 : « فإنّا صنائع ربّنا ، والنّاس بعد صنائع لنا » أنّ الله خصّهم بالهداية فبعث منهم رسوله العظيم ، وهو وأهل بيته مصادر الهداية والرشاد للخلق ، فهم بهذا صنائع الله لأنهم خصهم بالنبوة ، والناس صنائع لهم لأنّ هدايتهم كانت بسببهم.

    ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف ـ وهو أبو سفيان.
    ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النّار ـ وهم صبية الأمويّين.
    ومنّا خير نساء العالمين ـ وهي زهراء الرسول ـ ، ومنكم حمّالة الحطب ـ وهي أمّ جميل عمة معاوية ـ ، في كثير ممّا لنا وعليكم! ».
    عرض الإمام 7 في هذا المقطع إلى مآثر الاسرة النبوية ، وما خصّها الله بها من الفضائل التي جعلتهم في قمة الفضيلة ، فقد جعل منهم قادة الأنام وعمالقة الإسلام كما جعل من خصومهم الأمويين والقرشيين أئمة الضلال ودعاة الكفر والإلحاد.
    ويستمر الإمام في رسالته :
    « فإسلامنا قد سمع ، وجاهليّتنا لا تدفع (1) ، وكتاب الله يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (2) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) ، فنحن مرّة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطّاعة.
    ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول الله 9 فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ... ».
    __________________
    (1) أراد 7 أن شرف اسرته في الجاهلية لا ينكر.
    (2) الأنفال : 75.
    (3) آل عمران : 68.

    عرض الإمام 7 في هذا المقطع إلى سمو مكانته ، وعظيم منزلته وذلك لقربه من رسول الله 9 فهو ابن عمه وأبو سبطيه ، وليس لغيره من قريب أو بعيد هذه المنزلة ، ثمّ ذكر 7 احتجاج المهاجرين على الأنصار بأنّهم ألصق الناس برسول الله 9 وهذه الجهة التي احتجوا بها وتغلبوا على الأنصار موجودة في أهل البيت : على النحو الأكمل فلم لا يأخذ بها المهاجرون ، ويرجعون الخلافة إلى مركزها الذي عينه الرسول؟
    ويأخذ الإمام في احتجاجه :
    « وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليست الجناية عليك ، فيكون العذر إليك.
    * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها *
    وقلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش (1) حتى أبايع ؛ ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه! وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ».
    عرض الإمام 7 في هذا المقطع إلى رده على معاوية الذي اتهمه بحسده للخلفاء ، ويقصد معاوية موقف الإمام 7 من بيعة أبي بكر فقد رفضها ، وتخلف عنها ، فاتخذ معه أبو بكر جميع الإجراءات الصارمة التي منها هجوم شرطته بقيادة عمر على دار الإمام ، وحمله مقادا إلى أبي بكر ، بصورة مروعة وقد عيّره معاوية بذلك فردّ عليه الإمام بانه لا غضاضة ولا منقصة عليه في أن يكون مظلوما غير شاك في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، ويستمر الإمام الممتحن في رسالته واحتجاجه
    __________________
    (1) الجمل المخشوش : هو الذي يجعل في أنفه خشبة ليقاد.

    على معاوية قائلا :
    « ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان ، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه ، فأيّنا كان أعدى له ، وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه ، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون إليه ، حتّى أتى قدره عليه.
    كلاّ والله ( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1).
    وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا ؛ فإن كان الذّنب إليه إرشادي وهدايتي له ؛ فربّ ملوم لا ذنب له.
    وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح
    وما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب ».
    عرض الإمام 7 في هذا المقطع إلى موقفه من عثمان ، وان معاوية جدير بالإجابة ؛ لأنه من اسرته وإن كان ليس من أولياء دمه ، وأعرب الإمام انه بريء من دم عثمان ، ولا علاقة له في ذلك ، وإنّما المسئول عن دمه معاوية فقد استنجد به عثمان ، فلم يهب لنجدته ، وكانت جيوش معاوية قريبة من يثرب فلم يسمح لها بنجدته حتى أجهز عليه ، وكان الإمام 7 يأمر عثمان بالاستقامة في سياسته وسلوكه إلاّ انه استجاب لآراء مروان الذي كان مسيطرا على جميع شئونه ، فأوقعه في الفخ الذي نصبه الأمويون له ليتخذوا من مصرعه ورقة إلى تنفيذ أغراضهم ...
    __________________
    (1) الأحزاب : 18.

    وعلى أي حال فقد أخذ الإمام في رسالته في الاحتجاج على معاوية قائلا :
    « وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السّيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار (1)! متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسّيف مخوّفين؟!
    فلبث قليلا يلحق الهيجا حمل (2)
    فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مرقل (3) نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار ، والتّابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم (4) ، متسربلين سرابيل الموت (5) ؛ أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم ، وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك وما هي من الظّالمين ببعيد » (6).
    عرض الإمام في هذا المقطع الأخير من رسالته إلى تهديد معاوية للإمام بالسلاح والقوى العسكرية التي يملكها فردّ عليه الإمام ساخرا ومستهزئا ، وانه والاسرة الهاشمية لا يرهبهم الموت ، ولا تخيفهم قوة العدو ، وانهم على استعداد
    __________________
    (1) الاستعبار : البكاء.
    (2) لبث قليلا يلحق الهيجا حمل ، هو شطر من بيت قاله بدر بن قشير لمّا اغير على إبله في الجاهلية فاستنقذها وقال :
    لبث قليلا يلحق الهيجا حمل
    لا بأس بالموت اذا الموت نزل

    (3) مرقل نحوك : أي مسرع.
    (4) القتام : الغبار.
    (5) متسربلين : أي لابسين.
    (6) صبح الأعشى 1 : 229. نهاية الأدب 7 : 233. نهج البلاغة 2 : 21.

    كامل لمناهضته يصحبهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم باحسان وانهم جميعا في شوق لملاقاة ربهم والشهادة في سبيله.
    وكانت هذه الرسالة خاتمة الرسائل التي دارت بينه وبين معاوية ، وأعقبت بعد ذلك استعداد الفريقين للحرب ، وقد ذكرنا عرضا لذلك في بعض أجزاء الكتاب.

    مع الخوارج
    وبعد ما أحرز الإمام 7 النصر الحاسم على خصمه الجاهلي معاوية وبات الاستيلاء عليه قاب قوسين أو أدنى ، مني الإمام 7 بانقلاب عسكري ، فقد رفع جيش معاوية المصاحف الكريمة على الرماح ودعوا إلى المحاكمة على ضوئها فانخدع جيش الإمام بذلك وأصروا على الاستجابة لهم ، وكان بعض أفراد القيادة العامة في معسكر الإمام على اتصال بمعاوية واتفاق معه على ذلك ، ووقعت الفتنة في جيش الإمام ، ورفعت الأصوات بضرورة إيقاف القتال ، وإلاّ ناجزوا الإمام وقتلوه.
    وكان على رأس القائلين بالتحكيم المنافق الأشعث بن قيس ، ومن يتصل به من عملاء معاوية ، فراحوا يجوبون في معسكر الإمام وينادون بضرورة التحكيم.
    احتجاج الإمام عليهم :
    واندفع الإمام 7 لإبطال مزاعم معاوية واتباعه قائلا لأصحابه :
    « ويحكم أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله ، وأوّل من أجاب إليه ، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن ادعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إنّي إنّما اقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم ، وأنّهم ليسوا

    العمل بالقرآن يريدون ... » (1).
    لقد أوضح الإمام لجيشه زيف ما دعوا إليه ، وانه انما قاتل معاوية من أجل العمل بالقرآن ، وتطبيق أحكامه ، وانهم انما رفعوا المصاحف للكيد بهم وتضليلهم ، وليس لهم أية صلة بالقرآن ، ولا يدينون بما فيه.
    مناظرة الإمام معهم :
    وبعد ما أرغم على قبول التحكيم ، وعلى انتخاب أبي موسى الأشعري ممثلا عن العراقيين ، وعزله للإمام ، انحاز الخوارج وهم ينادون بشعارهم « لا حكم إلاّ لله » فبعث الإمام إليهم عبد الله بن عباس فحاججهم وابطل شبههم ، فلم تغن حججه ومنطقه الفياض معهم شيئا.
    فانبرى إليهم الإمام 7 فقال لهم :
    « هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة ، ومن نطف فيه أو عنت فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا ».
    ثم قال لهم :
    « من زعيمكم؟ ».
    فهتفوا جميعا : ابن الكواء.
    فوجه إليه كلامه وشاركهم فيه قائلا :
    « ما أخرجكم علينا؟ ».
    حكومتكم يوم صفين.
    « نشدتكم بالله أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم
    __________________
    (1) حياة الإمام الحسن 7 1 : 511.

    إلى كتاب الله ، قلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي صحبتهم ، وعرفتهم أطفالا ورجالا ، فكانوا شرّ رجال وشرّ أطفال ، امضوا على حقّكم وصدقكم إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة وو هنا ومكيدة ، فرددتم عليّ رأيي.
    وقلتم : لا ، بل نقبل منهم ، فقلت لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ، فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحياه القرآن وأن يميتا ما أماته القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن ، فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما في الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء » (1). وقد دحضت هذه المحاججة أوهام الخوارج ، وأظهرت زيف ما يذهبون إليه ، وهم يتحملون المسئولية الكبرى فيما آلت إليه امور المسلمين ، فهم الذين أرغموا الإمام على قبول التحكيم ، وهم الذين فرضوا عليه أبا موسى الأشعري ممثلا عنهم في التحكيم فأي مسئولية بعد هذا تقع على الإمام 7؟
    مناظرة اخرى للإمام معهم :
    وبعد أن فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لإقناع الخوارج فقد أشاعوا الفساد والتمرّد والرعب بين المسلمين ، فلم يجد الإمام 7 طريقا لإعادة الأمن والاستقرار إلاّ فتح باب الحرب معهم ، وقد وجّه إليهم خطابا مشفوعا بالنصح والإرشاد لهم قائلا :
    « أيّتها العصابة! إنّي نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الامّة غدا ، وأنتم
    __________________
    (1) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2 : 289 ـ 290.

    صرعى بإزاء هذا النّهر بغير برهان ولا سنّة ، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة ، وأخبرتكم أنّ طلب القوم لها مكيدة ، وأنبأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنّي أعرف بهم منكم ، وقد عرفتهم أطفالا ، وعرفتهم رجالا ، فهم شرّ رجال وشرّ أطفال ، وهم أهل المكر والغدر ، وأنّكم إن فارقتموني ورأيي جانبتم الخير والحزم ، فعصيتمونى وأكرهتموني حتّى حكّمت ، فلمّا أن فعلت شرطت واستوثقت ، وأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا ، وخالفا حكم الكتاب والسّنّة وعملا بالهوى ، فنبذنا أمرهم ، ونحن على أمرنا الأوّل ، فما نبؤكم ومن أين اتيتم ... ».
    وحكى هذا الاحتجاج إكراه الخوارج للإمام على التحكيم ، وانه رفضه ولكنهم أصرّوا عليه ، وان الإمام 7 لم يوافق عليه إلاّ بعد أن اشترط على الحكمين أن يحكما بما وافق الكتاب والسنة ، ولمّا لم يحكما بذلك كان حكمهما مرفوضا إلاّ انّ الخوارج لم يعوا كلام الإمام فردوا عليه قائلين :
    إنّا حيث حكّمنا الرجلين أخطأنا بذلك ، وكنّا كافرين ، وقد تبنا من ذلك ، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت كما تبنا فنحن معك وإلاّ فاعتزلنا ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء.
    فأنكر الإمام مقالتهم وقال :
    « أبعد إيماني بالله ، وهجرتي وجهادي مع رسول الله 9 أبوء وأشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
    ويحكم! بم استحللتم قتالنا ، والخروج من جماعتنا؟ أأن اختار النّاس رجلين ، فقالوا لهما : انظرا بالحقّ فيما يصلح العامّة


    ليعزل رجل ويوضع آخر مكانه ، أحلّ لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم ، تضربون بها هامات النّاس ، وتسفكون دماءهم؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين » (1).
    ولم تجد معهم هذه الحجج الناصعة التي أقامها الإمام عليهم فقد أصروا على الغي والعدوان ، وقد اترعت نفوسهم بالجهل والغباء ، فشهروا سيوفهم ، فقاتلهم أصحاب الإمام ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة (2) ، وقد أوضحنا ذلك في بعض أجزاء هذا الكتاب ، وبهذا نطوي الحديث عن احتجاج الإمام ومناظراته مع المتمردين على حكومته.
    __________________
    (1) الإمامة والسياسة 1 : 155.
    (2) الملل والنحل 1 : 159.

    مناظرته
    مع النّصارى

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:45 am

    مناظرته
    مع النّصارى


    لمّا انتشر الإسلام في أنحاء الجزيرة ، وعمّت فتوحاته الكثير من مناطق الشرق العربي خفّت جمهرة من علماء النصارى في وفود متعددة إلى يثرب للتعرف على الدين الإسلامي ، ومعرفة خليفة الرسول 9 ، ومعهم كوكبة من المسائل المعقّدة التي يشبه بعضها الألغاز أعدوها لامتحانه ، فان اهتدى لحلها آمنوا بالإسلام وإلاّ بقوا على دينهم ، فقد اعتقدوا أنّ أوصياء الأنبياء قد وهبهم الله طاقات من العلم لا تصعب عليهم أية مسألة مهما كانت معقّدة.
    وقد عرضت تلك الوفود مسائلهم على الخلفاء فلم يهتدوا للجواب عنها ، وفزع بعض الصحابة إلى الإمام أمير المؤمنين 7 وأحاطه علما بالأمر فسارع الإمام إلى الجامع والتقى بهم ، وأجابهم عن مسائلهم ، فآمنوا بالإسلام ، واهتدوا لاعتناقه وايقنوا أنّ الإمام 7 خليفة النبيّ 9 وولي عهده.
    ونعرض إلى طائفة من تلك المسائل التي سئل الخلفاء عنها ، وعجزوا عن حلها وأجاب عنها الإمام 7 :


    أسئلة الجاثليق
    وفد إلى المدينة جماعة من النصارى يتقدمهم الجاثليق وهو من علمائهم النابهين ، وكان قدومهم بعد وفاة النبي 9 وتقلّد أبي بكر للخلافة ، فقال له الجاثليق : إنّا وجدنا في الإنجيل رسولا يخرج بعد عيسى ، وقد بلغنا خروج محمد بن عبد الله ، يذكر أنه ذلك الرسول ، ففزعنا إلى ملكنا ، فجمع وجوه قومنا ، وانفذنا ـ أي الملك ـ في التماس الحق ... وقد فاتنا نبيكم محمد ، وفيما قرأناه من كتبنا أنّ الأنبياء لا يخرجون إلاّ بعد إقامة أوصياء لهم يخلفونهم في أممهم يقتبس منهم الضياء فيما أشكل ، فأنت أيّها الأمير وصيه لنسألك عما نحتاج إليه؟
    فانبرى عمر ، فقال له : هذا ـ وأشار إلى أبي بكر خليفة رسول الله 9 ...
    فاتجه صوبه.
    الجاثليق : خبّرنا عن فضلكم علينا في الدين ، فإنّا جئنا نسأل عن ذلك.
    أبو بكر : نحن مؤمنون وأنتم كفار ، والمؤمن خير من الكافر ، والإيمان خير من الكفر.
    الجاثليق : هذه دعوى تحتاج إلى حجة ، خبّرني أنت مؤمن عند الله أم عند نفسك؟
    أبو بكر : أنا مؤمن عند نفسي ، ولا علم لي بما عند الله.
    الجاثليق : فهل أنا كافر عندك على مثل ما أنت مؤمن ، أم أنا كافر عند الله؟
    أبو بكر : أنت عندي كافر ، ولا علم لي بحالك عند الله.


    الجاثليق : ما أراك إلاّ شاكّا في نفسك وفيّ ... خبّرني ألك عند الله منزلة في الجنّة بما أنت عليه من الدين تعرفها؟
    أبو بكر : لي منزلة في الجنّة أعرفها بالوعد ، ولا أعلم هل أصل إليها أم لا.
    الجاثليق : ترجو لي منزلة في الجنّة؟
    أبو بكر : أرجو لك.
    الجاثليق : ما أراك إلاّ راجيا لي وخائفا على نفسك ... أخبرني هل احتويت على جميع علم النبي إليك؟
    أبو بكر : لا ، ولكن أعلم ما أفضى لي علمه.
    الجاثليق : كيف صرت خليفة للنبي وأنت لا تحيط علما بما تحتاج إليه امّته من علمه؟
    وثقل الجاثليق على عمر ، فقد رأى منه تعدّيا على أبي بكر فصاح به.
    وسارع سلمان إلى الإمام وأحاطه علما بالأمر ، فجاء إلى الجامع والتفت إلى الجاثليق ، وقال له :
    « سل يا نصرانيّ فو الّذي خلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لا تسألني عمّا مضى وعما يكون إلاّ أخبرتك به عن نبيّ الهدى محمّد 9 ».
    الجاثليق : أخبرني أمؤمن عند الله أم عند نفسك؟
    أنا مؤمن عند الله كما أنا مؤمن في عقيدتي.
    الجاثليق : هذا كلام من يثق بدينه ، اخبرني عن منزلتك في الجنّة ما هي؟
    منزلتي مع النّبيّ الامّي في الفردوس الأعلى ، لا أرتاب في ذلك ولا أشكّ في الوعد به من ربّي.
    الجاثليق : بما ذا عرفت الوعد لك بالمنزلة التي ذكرتها؟

    بالكتاب المنزل ، وصدق النّبيّ المرسل.
    الجاثليق : بما علمت صدق نبيّك؟
    بالآيات الباهرات ، والمعجزات البيّنات.
    الجاثليق : هذا طريق الحجّة لمن أراد الاحتجاج ، اخبرني عن الله تعالى أين هو اليوم؟
    إنّ الله تعالى يجلّ عن الأين ، ويتعالى عن المكان ، كان فيما لم يزل ، ولا مكان وهو اليوم على ذلك ، لم يتغيّر من حال إلى حال.
    الجاثليق : أحسنت أيّها العالم وأوجزت في الجواب ، أخبرني عن الله تعالى أمدرك بالحواس عندك ، فيسلك المسترشد في طلبه استعمال الحواس؟ أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك؟
    تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار أو تدركه الحواس ، أو يقاس بالنّاس ، والطّريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول الدّالّة ذوي الاعتبار بما هو منها مشهود ومعقول.
    الجاثليق : صدقت هذا والله هو الحقّ الذي ضلّ عنه التائهون في الجهالات ، اخبرني عمّا قاله نبيكم في المسيح ، وانه مخلوق من أين أثبت له الخلق ، ونفي عنه الإلهيّة؟
    اثبت له الخلق بالتّقدير الّذي لزمه ، والتّصوير والتّغيّر من حال إلى حال ، والزّيادة الّتي لم ينفكّ عنها والنّقصان ، ولم أنف عنه النّبوّة ، ولا أخرجته من العصمة والكمال ، وقد جاءنا عن الله تعالى بأنّه مثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له : كن فيكون.
    وجرت بعد ذلك احتجاجات بين الجاثليق والإمام ، فبهر الجاثليق من علوم

    الإمام ، وأعلن إسلامه قائلا : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله 9 وأنّك وصي رسول الله ، وأحقّ بمقامه ، وأسلم الوفد الذي كان معه.
    وانبرى عمر قال للجاثليق : الحمد لله الذي هداك إلى الحق وهدى من معك ، واعلم أنّ علم النبوة في بيت صاحب النبوة ، والأمر بعده لمن خاطبت أوّلا برضى الامّة واصطلاحها عليه ، وتخبر صاحبك ـ أي الملك ـ بذلك وتدعوه إلى طاعة الخليفة.
    فقال الجاثليق : عرفت أيّها الرجل ، وأنا على يقين من أمري فيما أسررت وأعلنت (1).
    وتمثّلت روعة الاستدلال وقوة الحجة في مناظرة الإمام مع الجاثليق فقد استوعبت نفسه اعجابا بمواهب الإمام وعبقرياته الأمر الذي دعاه إلى اعتناق الإسلام.
    __________________
    (1) أمالي الطوسي : 137. بحار الأنوار 10 : 54 ـ 56. الغدير 7 : 179 ـ 181 ، رويت بأسلوب آخر لا يتّفق مع ما ذكره الطوسي والمجلسي.

    أسئلة راهب
    وفد إلى يثرب جمع من النصارى من الروم يتقدمهم راهب لمعرفة الخليفة من بعد النبي 9 ، فدخلوا الجامع النبوي وفيه أبو بكر وقد احتفّ به المهاجرون والأنصار ، فتقدم إليه الراهب ودار بينهما الحديث التالي بتصرف :
    الراهب : أيّها الشيخ ما اسمك؟
    أبو بكر : عتيق.
    الراهب : هل هناك اسم آخر؟
    أبو بكر : الصدّيق.
    الراهب : هل هناك اسم آخر؟
    أبو بكر : لا.
    الراهب : لست بصاحبي.
    أبو بكر : ما حاجتك؟
    الراهب : أنا من بلاد الروم جئت منها ببختيّ موقرا ذهبا لأسأل أمين هذه الامّة عن مسألة إن أجابني عنها أسلمت ، وفرقت عليكم هذا المال ، وإن عجز رجعت إلى بلدي ومعي المال ، ولا أسلم.
    أبو بكر : سل عمّا بدا لك.

    الراهب : والله لا أفتح الكلام حتى تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابك.
    أبو بكر : أنت آمن ، وليس عليك بأس قل ما شئت.
    الراهب : أخبرني عن شيء ليس لله ، ولا من عند الله ، ولا يعلمه الله؟
    أبو بكر لم يهتد للجواب.
    ووجّه الراهب سؤاله إلى الصحابة فلم يهتدوا لحلّه ، فانبرى سلمان الفارسي إلى الإمام أمير المؤمنين 7 وأخبره بالأمر فأسرع إلى الجامع ومعه السبطان الحسن والحسين 8 ، فقال أبو بكر للراهب : سل عليّا فإنه صاحبك ، فتوجّه الراهب صوب الإمام ، وعرض عليه ما يلي : الراهب : ما اسمك يا فتى؟
    اسمي عند اليهود إليا ، وعند النّصارى إيليا ، وعند والدي عليّ ، وعند امّي حيدرة.
    الراهب : ما محلّك من نبيّكم؟
    أخي وصهري وابن عمّي.
    الراهب : أنت صاحبي وربّ عيسى! أخبرني عن شيء ليس لله ، ولا من عند الله ، ولا يعلمه الله؟
    أمّا قولك : ما ليس لله ، فإنّ الله تعالى ليس له صاحبة ولا ولد.
    وأمّا قولك : ولا من عند الله فليس من عند الله ظلم لأحد.
    وأمّا قولك : لا يعلمه الله فإنّ الله لا يعلم له شريكا في الملك.
    أعلن الراهب إسلامه ، وقام فقبّل الإمام وقال له : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأشهد أنّك أنت الخليفة ، وأمين هذه الامّة ، ومعدن الدين

    والحكمة ، وقدّم للإمام 7 ما معه من أموال ، فلم يبرح الإمام من مكانه حتى أنفق المال بأجمعه على الفقراء ، وانصرف الراهب ، مع قومه وقد أعلنوا إسلامهم (1).
    لقد وقف الراهب على الحقيقة ، وتبيّن الواقع الرسالي ، فآمن بالإمام 7 وصيا للرسول الأعظم ، وخليفة له.
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 307 ـ 308.

    مع الاسقف
    وفد اسقف نجران على عمر بن الخطاب ليؤدي الجزية ، فدعاه عمر إلى الإسلام ، فأطرق الأسقف إلى الأرض لا يردّ جوابا ، ودخل الإمام 7 على القوم فاستقبل بحفاوة بالغة ، والتفت الإمام إلى الأسقف ، وتبادل معه المناظرة التالية :
    الأسقف : أنتم تقولون : إنّ الجنّة عرضها السماوات والأرض ، فأين تكون النار؟
    إذا جاء اللّيل أين يكون النّهار؟
    وبهر الأسقف من علم الإمام ، والتفت إليه يطلب منه الإذن بأن يسأل عمر بن الخطاب ، فأذن له الإمام فقال له :
    أنبئني يا عمر عن أرض طلعت عليها الشمس ساعة ولم تطلع مرة اخرى؟
    فعجز عمر عن الجواب وطلب من الإمام أن يجيبه.
    هي أرض البحر الّذي فلقه الله تعالى لموسى حتّى عبر هو وجنوده ، فوقعت عليها الشّمس تلك السّاعة ، ولم تطلع عليها قبل ولا بعد ، وانطبق البحر على فرعون وجنوده.
    الأسقف : صدقت ، أخبرني عن شيء هو في أهل الدّنيا تأخذ الناس منه مهما أخذوا فلا ينقص بل يزداد؟

    هو القرآن والعلوم.
    الأسقف : صدقت ، اخبرني عن أوّل رسول أرسله الله تعالى لا من الجنّ ولا من الإنس؟
    ذلك الغراب الّذي بعثه الله تعالى لمّا قتل قابيل أخاه هابيل ، فبقي متحيّرا لا يعلم ما يصنع به ، فعند ذلك بعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه.
    الأسقف : صدقت ، بقيت لي مسألة واحدة أريد أن يخبرني عنها عمر وهي : أين الله؟
    فغضب عمر ، فقال له الإمام :
    لا تغضب يا أبا حفص حتّى لا يقول إنّك قد عجزت.
    وطلب عمر من الإمام أن يجيبه.
    كنت يوما عند رسول الله 9 إذ أقبل إليه ملك فسلّم عليه ، فردّ 7 ، فقال له النّبيّ : أين كنت؟ قال : عند ربّي فوق سبع سماوات.
    ثمّ أقبل ملك آخر فقال له : أين كنت؟ فقال : عند ربّي في مطلع الشّمس ، ثمّ جاء ملك آخر فقال له : أين كنت؟ قال : كنت عند ربّي في مغرب الشّمس ، إنّ الله تعالى لا يخلو منه مكان ، ولا هو في شيء ، ولا على شيء ، ولا من شيء ، وسع كرسيّه السّماوات والأرض ، ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، يعلم ما في السّماوات وما في الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، ولا خمسة إلاّ هو

    سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا.
    لم يملك الاسقف اعجابه بمواهب الإمام ، فقد علم أنه باب مدينة علم النبي 9 ، وراح يعلن اسلامه قائلا :
    أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وأنّك خليفة الله في أرضه ، ووصي رسوله (1).
    وحكت هذه المناظرة مدى سعة علوم الإمام 7 واحاطته التامة بواقع التوحيد ، وانه لا يضارعه أحد في فضله وسعة علومه.
    __________________
    (1) بحار الأنوار 10 : 59 ـ 60.

    مع قيصر ملك الروم
    يقول الرواة : حدثت مشادّة بين الحارث بن سنان الأزدي وبين رجل من الأنصار ، فرفع أمرهما إلى عمر ، فلم ينتصف للحارث فارتدّ عن الإسلام ، ولحق بقيصر ، وكان الحارث قد نسي ما تعلّمه من القرآن الكريم سوى قوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (1) وسمع قيصر هذه الآية فقال : سأكتب إلى ملك العرب بمسائل فإن أجابني عنها أطلقت ما عندي من الأسارى ، وإن لم يجبني عنها عمدت إلى الأسارى فعرضت عليهم النصرانية ، فمن قبلها منهم استعبدته ، ومن أبى قتلته ، وكتب إلى عمر بمسائل كان منها :
    1 ـ تفسير سورة الفاتحة.
    2 ـ الماء الذي ليس من الأرض ، ولا من السماء؟
    3 ـ عما يتنفّس ولا روح فيه؟
    4 ـ عصا موسى مم كانت ، وما اسمها ، وما طولها؟
    5 ـ جارية بكر لأخوين في الدنيا وفي الآخرة لواحد؟
    ولمّا عرضت هذه المسائل على عمر لم يهتد لحلها ، ففزع إلى الإمام 7 فعرضها عليه.
    __________________
    (1) آل عمران : 85.

    جواب الإمام :
    وكتب الإمام جواب هذه المسائل ، وهذا نص ما كتبه بعد البسملة :
    « من عليّ بن أبي طالب صهر محمّد 9 ، ووارث علمه ، وأقرب الخلق إليه ، ووزيره ، ومن حقّت له الولاية وامر الخلق من أعدائه بالبراءة ، قرّة عين رسول الله ، وزوج ابنته ، وأبي ولده إلى قيصر ملك الرّوم.
    أمّا بعد : فإنّي أحمد الله الّذي لا إله إلاّ هو عالم الخفيّات ، ومنزل البركات ، من يهدي الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، ورد كتابك وأقرأنيه عمر بن الخطّاب.
    فأمّا سؤالك عن اسم الله تعالى فإنّه اسم فيه شفاء من كلّ داء ، وعون عن كلّ دواء.
    وأمّا الرّحمن فهو عون لكلّ من آمن به ، وهو اسم لم يسمّ به غير الله الرّحمن تبارك وتعالى.
    وأمّا الرّحيم فرحم من عصى وتاب وآمن وعمل صالحا.
    وأمّا ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فذلك ثناء على ربّنا تبارك وتعالى بما أنعم علينا.
    وأمّا قوله : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فإنّه يملك نواصي الخلق يوم القيامة ، وكلّ من كان في الدّنيا شاكّا أو جبّارا أدخله النّار ، ولا يمتنع من عذاب الله عزّ وجلّ شاكّ ولا جبّار ، وكلّ من كان في الدّنيا طائعا مديما محافظا أدخله الجنّة برحمته.
    وأمّا قوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فإنّا نستعين بالله عزّ وجلّ من

    الشّيطان الرّجيم لا يضلّنا كما أضلّكم.
    وأمّا قوله : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فذلك الطّريق الواضح من عمل في الدّنيا عملا صالحا فإنّه يسلك على الصّراط إلى الجنّة.
    وأمّا قوله : ( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فتلك النّعمة الّتي أنعمها الله عزّ وجلّ على من كان قبلنا من النّبيّين والصّدّيقين فنسأل الله ربّنا أن ينعم علينا كما أنعم عليهم.
    وأمّا قوله : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) فاولئك اليهود بدّلوا نعمة الله كفرا فغضب عليهم فجعل منهم القردة والخنازير ، فنسأل ربّنا أن لا يغضب علينا كما غضب عليهم.
    وأمّا قوله : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) فأنت وأمثالك يا عابد الصّليب الخبيث ، ضللتم من بعد عيسى بن مريم 7 ، فنسأل الله ربّنا أن لا يضلّنا كما ضللتم.
    وأمّا سؤالك عن الماء الّذي ليس من الأرض ولا من السّماء ، فذلك الّذي بعثته بلقيس إلى سليمان بن داود ، وهو عرق الخيل إذا جرت في الحروب.
    وأمّا سؤالك عمّا يتنفّس ولا روح له فذلك الصّبح إذا تنفّس.
    وأمّا سؤالك عن عصا موسى ممّا كانت؟ وما طولها؟ وما اسمها؟ وما هي؟
    فإنّها كانت يقال لها البرنيّة الرّائدة ، وكان إذا كان فيها الرّوح زادت ، وإذا خرجت منها الرّوح نقصت ، وكانت من عوسج ، وكانت عشرة أذرع ، وكانت من الجنّة أنزلها جبرئيل 7.
    وأمّا سؤالك عن جارية تكون في الدّنيا لأخوين وفي الآخرة لواحد ، فتلك


    النّخلة في الدّنيا هي للمؤمن مثلي وللكافر مثلك ، ونحن من ولد آدم 7 ، وفي الآخرة للمسلم دون الكافر المشرك ، وهي في الجنّة وليس في النّار ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (1) ».
    ثم طوى الكتاب ، وأنفذه إلى قيصر ، فلما قرأه أعجب به ، وعمد إلى الأسرى فأطلقهم وأسلم ، ودعا أهل مملكته إلى الإسلام فثارت عليه النصارى وهمّوا بقتله ، فأعتذر منهم بأنه إنما أعلن إسلامه لاختبارهم فكفّوا عنه ، وبقي كاتما اسلامه حتى مات (2).
    وانتهت هذه المناظرة وهي قبس من جهاد الإمام 7 فقد نافح عنه في جميع المواقف بسيفه وعلمه وبهذا ينتهى بنا الحديث عن بعض مناظراته مع النصارى.
    __________________
    (1) الرحمن : 68.
    (2) بحار الأنوار 10 : 60 ـ 62. ارشاد القلوب 2 : 175.

    مناظرته
    مع اليهود


    ناظر بعض علماء اليهود ، وأعمدتهم الروحية ، الإمام 7 ، فقد سألوه عن أعقد المسائل ، وأكثرها غموضا ، وأشبهها بالألغاز ، وذلك لامتحانه واكتشاف الواقع الرسالي الماثل فيه ، وقد أجابهم الإمام عنها جواب العالم الخبير ، فلم يبق أي جانب من مسائلهم إلاّ أجاب عنه بدقة وشمول وقد بهروا بسعة علومه ، وإحاطته الكاملة بأديانهم وبالكتب السماوية ، وقد اعتنق بعضهم الإسلام لما رأوه من سعة علوم الإمام ، ونعرض ـ فيما يلي ـ لبعض تلك المناظرات.


    مع عالم يهوديّ
    لمّا تقلّد عمر الخلافة بعد أبي بكر وفد عالم يهوديّ على عمر ، وقد احتفّ به جماعة من الصحابة كان من بينهم الإمام 7 ، فقال اليهوديّ لعمر : إني رجل من اليهود وأنا علاّمتهم ، قد أردت أن أسألك عن مسائل إن أخبرتني بها أسلمت ، فقال عمر : وما هي؟ قال ثلاث ، وثلاث ، وواحدة ، وان كان في القوم أحد أعلم منك فأرشدني ، فأشار إلى الإمام 7 ، فاتجه صوبه ، فقال له الإمام :
    قلت : ثلاثا ، وثلاثا ، وواحدة ألا قلت : سبعا؟ ... (1).
    اليهوديّ : أسألك عن ثلاث ، فإن أصبت فيهن أسألك عن الواحدة ، وإن أخطأت في الثلاث الاولى ، لم أسألك عن شيء ...
    ما يدريك إذا سألتني فأجبتك أخطأت أم أصبت؟
    فاستخرج اليهودي كتابا عتيقا ، وقال : هذا كتاب ورثته عن آبائي وأجدادي بإملاء موسى وخطّ هارون ، وفيه هذه الخصال التي أريد أن أسألك عنها.
    بالله عليك إن أجبتك عنها بالصّواب تسلم؟
    اليهوديّ : لئن أجبتني منها بالصواب لاسلمنّ الساعة على يديك (2).
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 226.
    (2) الغدير 6 : 268.


    سل.
    اليهوديّ : اخبرني عن أوّل حجر وضع على وجه الأرض؟ وأوّل عين نبعت ، وأوّل شجرة نبتت.
    أنتم تقولون : أوّل حجر وضع على وجه الأرض الحجر الّذي في بيت المقدس ، وكذبتم ، هو الحجر الأسود الّذي نزل مع آدم من الجنّة.
    اليهودىّ : صدقت والله إنه بخط هارون وإملاء موسى.
    أمّا العين فأنتم تقولون : إنّ أوّل عين نبعت على وجه الأرض العين الّتي ببيت المقدس ، كذبتم ، هي عين الحياة الّتي غسل فيها النّون موسى ، وهي العين الّتي شرب منها الخضر.
    اليهوديّ : صدقت والله إنّه بخط هارون وإملاء موسى.
    وأما الشجرة فأنتم تقولون : إن أول شجرة نبتت على وجه الأرض الزيتون وكذبتم ، وهي «العجوة» نزل بها آدم 7من الجنة.
    اليهوديّ : وأمّا الثلاث الاخرى ، كم لهذه الامّة من إمام هدى لا يضرهم من خذلهم؟
    اثنا عشر إماما.
    اليهوديّ : صدقت.
    اليهوديّ : صدقت.
    اليهوديّ : أين يسكن نبيّكم من الجنّة؟
    يسكن أعلاها درجة ، وأشرفها مكانا في جنّات عدن.
    اليهوديّ : صدقت والله انه بخط هارون واملاء موسى.

    اليهوديّ : فمن ينزل معه في منزله؟
    ينزل معه اثنا عشر إماما.
    اليهوديّ : صدقت.
    اليهوديّ : كم يعيش وصيّه ـ أي وصيّ النبي 9 ـ بعده؟
    ثلاثين سنة.
    اليهوديّ : يموت أو يقتل؟
    يضرب على قرنه فتخضب لحيته.
    اليهودي : صدقت والله انه بخط هارون واملاء موسى ، ثمّ اعتنق اليهودي الإسلام (1).
    وحكت هذه المناظرة تصدي الإمام 7 لنشر الإسلام ، واشاعة قيمه بين الناس ، وانه ليس هناك أحد يملك ما يملكه الإمام 7 من الطاقات العلمية.
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 336 ـ 337.

    مع اليهود
    وفد جماعة من اليهود على عمر بن الخطاب في أيام خلافته ، فقالوا له : أنت والي هذا الأمر بعد نبيكم؟ وأتيناك نسألك عن أشياء إن أخبرتنا بها آمنا وصدّقناك ، فقال عمر : سلوا عمّا بدا لكم.
    اليهود : أخبرنا عن أقفال السموات السبع ، ومفاتيحها ، وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه ، وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس ، وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه ، وأخبرنا عن خمسة لم يخلقوا في الأرحام ، وعن واحد وعن اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟
    وأطرق عمر برأسه ولم يهتد للجواب ، واعتذر انّ هذه المسائل لا يعلم بها إلاّ الله ، ولكن يجيبكم عنها ابن عمّ رسول الله 9 فأرسل خلفه فلما حضر قال له عمر : يا أبا الحسن إنّ اليهود سألوني عن أشياء لم أجبهم عنها ، وقد ضمنوا إن أخبرتهم أن يؤمنوا بالنبي 9 فعرض اليهود عليه مسائلهم وهي :
    اليهود : ما أقفال السماوات؟
    الشّرك بالله.
    اليهود : ما مفاتيحها؟
    قول لا إله إلاّ الله.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:47 am

    اليهود : ما القبر الذي سار بصاحبه؟
    الحوت الّذي سار بيونس في بطنه البحار السّبعة.
    اليهود : ما الذي أنذر قومه لا من الجن ولا من الإنس؟
    تلك نملة سليمان بن داود.
    اليهود : ما الموضع الذي طلعت الشمس ولم تعد إليه؟
    ذلك البحر الّذي أنجى الله عزّ وجلّ فيه موسى وأغرق فرعون.
    اليهود : ما الخمسة الذين لم يخلقوا في الأرحام؟
    آدم وحوّاء وعصا موسى وناقة صالح وكبش إبراهيم.
    اليهود : ما الواحد؟
    الله الواحد القهّار.
    اليهود : ما الاثنان؟
    آدم وحوّاء.
    اليهود : ما الثلاثة؟
    جبرئيل وميكائيل وإسرافيل.
    اليهود : ما الأربعة؟
    التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان.
    اليهود : ما الخمسة؟
    خمس صلوات مفروضات على النّبيّ 9.
    اليهود : ما الستة؟

    قول الله عزّ وجلّ : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (1).
    اليهود : ما السبعة؟
    قول الله عزّ وجلّ : ( وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً ) (2).
    اليهود : ما الثمانية؟
    قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (3).
    اليهود : ما التسعة؟
    الآيات المنزّلة على موسى بن عمران.
    اليهود : ما العشرة؟
    قول الله عزّ وجلّ : ( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ) (4).
    اليهود : ما الحادي عشر؟
    قول يوسف لأبيه : ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ) (5).
    اليهود : ما الاثنا عشر؟
    قول الله عزّ وجلّ لموسى : ( اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (6).
    وأسلموا على يد الإمام ، وجرى بينهم حديث أعرضنا عن ذكره (7).
    __________________
    (1) ق : 38.
    (2) النبأ : 12.
    (3) الحاقّة : 17.
    (4) الأعراف : 142.
    (5) يوسف : 4.
    (6) البقرة : 60.
    (7) الخصال 2 : 65. بحار الأنوار 10 : 7 ـ 9.

    مع عالم يهودي
    ووفد إلى يثرب عالم يهودي من أهل الشام كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء ، فالتقى بكوكبة من أصحاب رسول الله 9 كان من بينهم الإمام أمير المؤمنين 7 وحبر الامّة عبد الله بن عباس وأبو معبد الجهني ، وجرت بينه وبين الإمام 7 مناظرة متشعبة قد استوعبت وقتا كثيرا لطولها ، ونحن نذكر معظمها ، فقد التفت اليهودي إلى الجماعة الجالسين وقال لهم :
    يا أمّة محمد ما تركتم لنبي درجة ، ولا لمرسل فضيلة إلاّ أنحلتموها نبيّكم ، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه؟ فأمسك القوم عن جوابه ، سوى الإمام فقد انبرى إليه قائلا :
    « نعم ، ما أعطى الله عزّ وجلّ نبيّا درجة ، ولا مرسلا فضيلة ، إلاّ جمعها لمحمّد 9 ، وزاد محمّدا 9 على الأنبياء أضعافا مضاعفة ... ».
    اليهوديّ : هل أنت مجيبي؟
    نعم ، سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله 9 ما يقرّ الله به أعين المؤمنين ، ويكون نفسه فيه إزالة لشكّ الشّاكّين في فضائله ، إنّه 9 كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال : ولا فخر ، وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء ، ولا منتقص لهم ، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمّدا 9 مثل ما أعطاهم وما زاده الله ، وما فضّله عليهم ...

    اليهوديّ : إني أسألك فأعدّ له جوابا.
    هات.
    اليهوديّ : هذا آدم أسجد الله له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟
    لقد كان ذلك ، ولئن أسجد الله لآدم ملائكته فإنّ سجودهم لم يكن سجود طاعة ، وأنّهم عبدوا آدم من دون الله عزّ وجلّ ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله تعالى صلّى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها ، وتعبّد المؤمنون بالصّلاة عليه (1) فهذه زيادة له.
    اليهوديّ : إنّ آدم تاب الله عليه من بعد خطيئته.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد نزل عليه ما هو أكبر من هذا ، قال الله عزّ وجلّ : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (2) إنّ محمّدا غير مواف في القيامة بوزر ، ولا مطلوب فيها بذنب.
    اليهوديّ : إنّ إدريس رفعه الله عزّ وجلّ مكانا عليّا ، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله جلّ ثناؤه قال فيه : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (3) فكفى بهذا من الله رفعة ، ولئن اطعم إدريس من تحف الجنّة بعد وفاته ، فإنّ محمّدا 9 اطعم في الدّنيا في حياته ، بينما هو يتضوّر جوعا أتاه جبرئيل بجام من الجنّة فيه تحفة ...
    __________________
    (1) يشير الإمام 7 بذلك إلى الآية ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).
    (2) الفتح : 2.
    (3) الشرح : 4.

    فناولها أهل بيته ، فهمّ أن يتناولها بعض الصّحابة ، فتناولها جبرئيل فقال له : كلها فإنّها تحفة من الجنّة أتحفك الله عزّ وجلّ بها وإنّها لا تصلح إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ ، فأكلنا منها ، وإنّي لأجد حلاوتها ساعتي هذه.
    اليهوديّ : هذا نوح صبر في ذات الله عزّ وجل ، وأعذر قومه إذ كذّب.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد صبر في ذات الله ، وأعذر قومه إذ كذّب وشرّد ، وحصب بالحصى ، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة فأوحى الله تعالى إلى جابيل ملك الجبال أن شقّ الجبال ، وانته إلى أمر محمّد فأتاه فقال له : إنّي قد امرت لك بالطّاعة ، فإن أمرت أن اطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها ... قال عليه الصّلاة والسّلام : إنّما بعثت رحمة. ربّ اهد أمّتي فإنّهم لا يعلمون ... إنّ نوحا لمّا شاهد غرق قومه رقّ عليهم رقّة القرابة ، وأظهر عليهم شفقة فقال : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (1) فقال الله تبارك وتعالى اسمه : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) (2) أراد جلّ ذكره أن يسلّيه بذلك ، ومحمّد 9 لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النّقمة ولم تدركه فيهم رقّة القرابة.
    اليهوديّ : إنّ نوحا دعا ربه فهطلت له السماء بماء منهمر؟
    لقد كان كذلك ، وكانت دعوته دعوة غضب ، ومحمّد 9 هطلت له السّماء بماء منهمر رحمة ، إنّه لمّا هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة ، فقالوا له : يا رسول الله ، احتبس القطر ، واصفرّ العود ، وتهافت الورق ، فرفع يده المباركة حتّى رئي بياض إبطيه ، وما ترى في السّماء سحابة ، فما برح حتّى
    __________________
    (1) هود : 45.
    (2) هود : 46.

    سقاهم الله ، حتّى إنّ الشّابّ المعجب بشبابه لهمّته نفسه في الرّجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدّة السّيل ، فدام اسبوعا ، فأتوه في الجمعة الثّانية فقالوا : يا رسول الله ، لقد تهدّمت الجدر ، واحتبس الرّكب والسّفر ، فضحك 9 وقال : هذه سرعة ملالة ابن آدم ، ثمّ قال : اللهمّ حوالينا ولا علينا ، اللهمّ في اصول الشّيح ومراتع البقع ، فرئي حوالي المدينة يقطر المطر قطرا ، وما يقع في المدينة قطرة لكرامته على الله عزّ وجلّ.
    اليهودي : إنّ هودا قد انتصر الله له من أعدائه بالريح ، فهل فعل لمحمّد 9 شيئا من هذا؟
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله عزّ وجلّ قد انتصر له من أعدائه بالرّيح يوم الخندق ، إذ أرسل عليهم ريحا تذرو الحصى ، وجنودا لم يروها فزاد الله تبارك وتعالى محمّدا 9 على هود بثمانية آلاف ملك ، وفضّله على هود ، بأنّ ريح عاد ريح سخط وريح محمّد 9 ريح رحمة ، قال الله تبارك وتعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) (1).
    اليهودي : إنّ صالحا أخرج الله له ناقة جعلها عبرة لقومه.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من ذلك ، إنّ ناقة صالح لم تكلّم صالحا ، ولم تشهد له بالنّبوّة ، ومحمّد 9 بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ، ثمّ رغا فأنطقه الله عزّ وجلّ فقال : يا رسول الله ، إنّ فلانا استعملني حتّى كبرت ، ويريد نحري فأنا أستعيذ بك منه ، فأرسل رسول الله 9 إلى صاحبه فاستوهبه منه ، فوهبه له وخلاّه ...
    __________________
    (1) الأحزاب : 9.

    اليهودي : إنّ إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى ، وأحاطت دلالته بعلم الإيمان به؟
    لقد كان كذلك ، واعطي محمّد 9 أفضل من ذلك ، قد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى ، وأحاطت دلائله بعلم الإيمان به ، وتيقّظ إبراهيم وهو ابن خمس عشرة سنة ، ومحمّد 9 كان ابن سبع سنين ، قدم تجّار من النّصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصّفا والمروة ، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته ، وخبر مبعثه وآياته فقالوا له : يا غلام ، ما اسمك؟ قال محمّد. قالوا : ما اسم أبيك؟ قال : عبد الله. قالوا : ما اسم هذه ـ وأشاروا إلى الأرض ـ قال : الأرض ، ثمّ قالوا فما اسم هذه؟ وأشاروا إلى السّماء؟ قال : السّماء. قالوا : فمن ربّهما؟ قال : الله ، ثمّ انتهرهم وقال : أتشكّكوني في الله عزّ وجلّ؟ ويحك يا يهودي! لقد تيقّظ بالاعتبار على معرفة الله عزّ وجلّ مع كفر قومه ، إذ هو بينهم يستقسمون بالأزلام ، ويعبدون الأوثان ، وهو يقول : لا إله إلاّ الله.
    اليهودي : إنّ إبراهيم حجب عن نمرود بحجب ثلاثة؟
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 حجب عمّن أراد قتله بحجب خمسة ، فثلاثة بثلاثة ، واثنان فضل ، قال الله عزّ وجلّ : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) (1) فهذا الحجاب الأوّل ، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) فهذا الحجاب الثّاني ، ( فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) فهذا الحجاب الثّالث ، ثمّ قال : ( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) (2) فهذا الحجاب الرّابع ، ثمّ قال : ( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ
    __________________
    (1) يس : 9.
    (2) الإسراء : 45.

    مُقْمَحُونَ ) (1) ، فهذه حجب خمسة.
    اليهودي : إنّ إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 أتاه مكذّب بالبعث بعد الموت وهو ابيّ بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثمّ قال :
    يا محمّد ( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) فأنطق الله محمّدا بمحكم آياته ، وبهته ببرهان نبوّته ، فقال : ( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، فانصرف مبهوتا.
    اليهوديّ : إنّ إبراهيم جذّ أصنام قومه غضبا لله عزّ وجلّ.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 قد نكس عن الكعبة ثلاث مائة وستّين صنما ، ونفاها عن جزيرة العرب ، وأذلّ من عبدها بالسّيف.
    اليهوديّ : إنّ إبراهيم قد اضجع ولده وتلّه للجبين.
    لقد كان كذلك ، ولقد اعطي إبراهيم بعد الاضطجاع الفداء ، ومحمّد 9 اصيب بأفجع منه فجيعة إنّه وقف على عمّه حمزة أسد الله ، وأسد رسوله ، وناصر دينه ، وقد فرّق بين روحه وجسده ، فلم يبن عليه حرقة ، ولم يفض عليه عبرة ، وذلك ليرضي الله عزّ وجلّ بصبره ، ويستسلم لأمره ، في جميع الفعال.
    وقال 9 : « لو لا أن تحزن صفيّة لتركته حتّى يحشر من بطون السّباع وحواصل الطّير ، ولو لا أن يكون سنّة بعدي لفعلت ذلك ».
    اليهودي : إنّ إبراهيم قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر ، فجعل الله عزّ وجلّ النار عليه
    __________________
    (1) يس : 8.

    بردا وسلاما ، فهل فعل بمحمّد شيئا من ذلك؟
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 لمّا نزل بخيبر سمّته الخيبريّة فصيّر الله السّمّ في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ، فالسّمّ يحرق إذا استقرّ في الجوف ، كما أنّ النّار تحرق ، فهذا من قدرته لا تنكره.
    اليهودي : فإنّ يعقوب أعظم إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ومريم ابنة عمران من بناته.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 أعظم في الخير نصيبا منه ؛ إذ جعل فاطمة سيّدة نساء العالمين من بناته والحسن والحسين 8 من حفدته.
    اليهودي : إنّ يعقوب قد صبر على فراق ولده حتى كاد يحرض من الحزن.
    لقد كان كذلك ، وكان حزن يعقوب بعده تلاق ، ومحمّد 9 قبض ولده إبراهيم قرّة عينه في حياته ، وخصّه بالاختبار ليعظم له الادّخار فقال 9 : « تحزن النّفس ويجزع القلب ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون ، ولا نقول : ما يسخط الرّبّ » ، في كلّ ذلك يؤثر رضا الله عزّ ذكره ، والاستسلام له في جميع الفعال.
    اليهودي : إنّ يوسف قاسى مرارة الفرقة ، وحبس في السجن توقيا للمعصية ، فألقي في الجبّ وحيدا.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 قاسى مرارة الغربة ، وفراق الأهل والأولاد والمال ، مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه ، فلمّا رأى الله تعالى كآبته ، واستشعاره الحزن أراه تبارك وتعالى اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها ، وأبان للعالمين صدق تحقيقها فقال : ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ

    اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) (1) ولئن كان يوسف 7 حبس في السّجن فلقد حبس رسول الله نفسه في الشّعب ثلاث سنين ، وقطع منه أقاربه وذوو الرّحم وألجئوه له إلى أضيق المضيق ، فقد كادهم الله عزّ ذكره كيدا مستبينا ؛ إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الّذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه ، ولئن كان يوسف القي في الجبّ فلقد حبس محمّد نفسه مخافة عدوّه في الغار حتّى قال لصاحبه : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) (2) ومدحه الله بذلك في كتابه.
    اليهوديّ : هذا موسى بن عمران آتاه الله عزّ وجلّ التوراة التي فيها حكم الله.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل منه ، اعطي سورة البقرة والمائدة وطواسين وطه ونصف المفصّل والحواميم بالتّوراة ، واعطي نصف المفصّل والتّسابيح بالزّبور ، واعطي سورة بني إسرائيل وبراءة ، بصحف إبراهيم وصحف موسى ، وزاد الله عزّ وجلّ محمّدا 9 السّبع الطّوال ، وفاتحة الكتاب وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم واعطي الكتاب والحكمة.
    اليهودي : إنّ موسى ناجاه الله عزّ وجلّ على طور سيناء.
    لقد كان كذلك ، ولقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى محمّد 9 عند سدرة المنتهى ، فمقامه في السّماء محمود ، وعند منتهى العرش مذكور.
    اليهودي : ألقى الله على موسى محبة منه.
    __________________
    (1) الفتح : 27.
    (2) التوبة : 40.

    لقد كان كذلك ، لقد أعطى الله محمّدا ما هو أفضل من هذا ، لقد ألقى الله عليه محبّة منه ، فمن هذا الّذي يشركه في هذا الاسم إذ تمّ من الله عزّ وجلّ الشّهادة ، فلا تتمّ الشّهادة إلاّ أن يقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ... فلا يرفع صوت بذكر الله إلاّ رفع بذكر محمّد معه.
    اليهودي : لقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عند الله.
    لقد كان كذلك ، ولقد لطف الله جلّ ثناؤه لأمّ محمّد 9 بأن أوصل إليها اسمه حتّى قالت : شهد الله والعالمون أنّ محمّدا 9 منتظر ، وشهد الملائكة على الأنبياء أنّهم أثبتوه في الأسفار ، وبلطف الله عزّ وجلّ ساقه إليها وأوصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده ، ورأت في المنام أنّه قيل لها : إنّ ما في بطنك سيّد فإذا ولدته فسمّيه محمّدا ، فاشتقّ الله له اسما من أسمائه ، فالله المحمود ، وهذا محمّد.
    اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران أرسله الله إلى فرعون ، وأراه الآية الكبرى.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 أرسله إلى فراعنة شتّى ، مثل أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة ، وأبي البختريّ ، والنّضر بن الحارث ، وابيّ بن خلف ، ومنبه ونبيه ابني الحجّاج وإلى الخمسة المستهزئين :
    الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السّهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزّهري ، والأسود بن المطّلب ، والحرث بن أبي الطّلالة ، فأراهم الآيات في الآفاق ، وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ.
    اليهوديّ : لقد انتقم الله عزّ وجلّ لموسى من فرعون.
    لقد كان كذلك ، ولقد انتقم الله جلّ اسمه لمحمّد 9 من الفراعنة. فأمّا

    المستهزءون فقد قال الله تعالى : ( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (1) فقتل الله كلّ واحد بغير قتلة صاحبه في يوم واحد ، فأمّا الوليد فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه ووضعه في الطّريق فأصابته شظيّة منه فانقطع أكحله حتّى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد 9.
    وأمّا العاص بن وائل فإنّه خرج في حاجة إلى موضع فتدهده (2) تحته حجر ، فسقط فتقطّع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد 9.
    وأمّا الأسود بن عبد يغوث : فإنّه خرج يستقبل ابنه زمعة ، فاستظلّ بشجرة فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشّجرة ، فقال لغلامه : امنع عنّي هذا ، فقال : ما أرى أحدا يصنع بك شيئا إلاّ نفسك ، فقتله وهو يقول : قتلني ربّ محمّد 9.
    وأمّا الأسود بن المطّلب فإنّ النّبيّ 9 دعا عليه أن يعمي الله بصره ، وأن يثكله بولده ، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتّى صار إلى موضع فأتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه ، فعمي ، وبقي حتّى أثكله الله بولده.
    وأمّا الحرث بن أبي الطّلالة فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا فرجع إلى أهله ، فقال : أنا الحرث ، فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول : قتلني ربّ محمّد 9.
    اليهوديّ : إنّ موسى بن عمران قد أعطي العصا فكانت تتحول ثعبانا.
    __________________
    (1) الحجر : 95.
    (2) تدهده : أي تدحرج.

    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ رجلا كان يطلب أبا جهل بن هشام دينا عن جزور كان قد اشتراه منه ، فاشتغل أبو جهل بشرب الخمر ولم يدفع للرّجل دينه ، فشكا حاله إلى رجل وكان من المستهزئين بالنّبيّ ، فقال له : أدلّك على رجل يستخرج حقّك؟ قال : نعم ، فدلّه على النّبيّ 9 وكان أبو جهل يقول : ليت لمحمّد إليّ حاجة فأسخر به وأردّه ، فأتى الرّجل إلى النّبيّ 9 وقال له : بلغني أنّ بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة ، وأنا استشفع بك إليه فأجابه إلى ذلك وقام معه ، فطرق بابه فخرج أبو جهل فقال له : أدّ إلى الرّجل حقّه ، فقام مسرعا وأدّى إليه حقّه ، فلمّا اجتمع أبو جهل بأصحابه قال له بعضهم : فعلت ذلك فرقا من محمّد 9؟ فقال : ويحكم! اعذروني إنّه لمّا أقبل إليّ رأيت عن يمينه رجالا بأيديهم حراب تتلألأ ، وعن يساره ثعبانان تلمع النّيران من أبصارهما لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب ويقضمني الثّعبانان. هذا أكبر ممّا اعطي موسى.
    ولقد كان النّبيّ 9 يؤذي قريشا بالدّعاء ، فقام يوما فسفّه أحلامهم ، وعاب دينهم ، فشتم أصنامهم ، وضلّل آباءهم ، فاغتمّوا من ذلك غمّا شديدا ، فقال أبو جهل : والله! للموت خير لنا من الحياة ، فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمّدا فيقتل به؟ فقالوا له : لا ، فقال : أنا أقتله فإن شاء بنو عبد المطّلب قتلوني به وإلاّ تركوني ، فقالوا له : إنّك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي خيرا لا تزال تذكر به.
    قال أبو جهل : إنّه كثير السّجود حول الكعبة ، فإذا جاء وسجد أخذت حجرا فشدخته به ، فجاء رسول الله 9 فطاف بالبيت سبعا ثمّ صلّى وأطال

    السّجود ، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه ، فلمّا أن قرب منه أقبل فحل ـ أي ثعبان ـ من قبل رسول الله 9 فاغرا فاه ، فلمّا أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده وطرح الحجر فشدخ رجله فرجع مدميّا متغيّر اللّون يفيض عرقا ، فقال له أصحابه : ما رأيناك كاليوم؟ قال : ويحكم! اعذروني فإنّه أقبل من عنده فحل فاغرا فاه كاد أن يبتلعني فرميت الحجر فشدخني.
    اليهوديّ : إنّ موسى قد أعطي اليد البيضاء فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟
    لقد كان كذلك ، فإنّ محمّدا قد اعطي ما هو أفضل من هذا. إنّ نورا كان يضيء عن يمينه حيثما جلس ، وعن يساره أينما جلس ، وكان النّاس يرونه.
    اليهوديّ : إنّ موسى قد ضرب له في البحر طريق فهل فعل بمحمد شيء من هذا؟
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب ـ أي يسيل ـ فقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة ، فقالوا : يا رسول الله ، العدوّ من ورائنا والوادي أمامنا كما قال أصحاب موسى : إنّا لمدركون فنزل رسول الله 9 ثمّ قال : « اللهمّ إنّك جعلت لكلّ نبيّ مرسل دلالة فأرني قدرتك » وركب 9 فعبرت الخيل لا تندى حوافرها ، والإبل لا تندى أخفافها ، فرجعنا فكأن فتحنا فتحا.
    اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 لمّا نزل الحديبية وحاصره أهل مكّة ، اعطي ما هو أفضل من ذلك ، فإنّ أصحابه شكوا إليه الظّمأ ، وأصابهم ذلك حتّى التقت خواصر الخيل ، فذكروا له ذلك ، فدعا بركوة يمانيّة ثمّ نصب يده المباركة فيها فتفجّرت من بين أصابعه عيون الماء ، فصدرنا وصدرت الخيل رواء ،

    وملأنا كلّ مزادة وسقاء ... الخ.
    اليهوديّ : إنّ موسى قد اعطي المنّ والسلوى ، فهل اعطي محمد 9 نظير هذا؟
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ الله عزّ وجلّ أحلّ له الغنائم ولامّته ، ولم تحلّ لأحد قبله ، فهذا أفضل من المنّ والسّلوى ، ثمّ زاده بأن جعل النّيّة ـ أي نيّة عمل الخير ـ له ولامّته بلا عمل عملا صالحا ، ولم يجعل لأحد من الامم ذلك قبله ، فإذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها كتبت له عشرا.
    اليهوديّ : إنّ موسى قد ظلل عليه الغمام.
    لقد كان كذلك ، وقد فعل ذلك لموسى في التّيه ، واعطي محمّد 9 أفضل من هذا إنّ الغمامة كانت تظلّه من يوم ولد إلى يوم قبض ، في حضره وأسفاره ، فهذا أفضل ممّا اعطي موسى.
    اليهودي : هذا داود قد ليّن الله له الحديد فعمل منه الدروع.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 قد اعطي ما هو أفضل منه ، إنّه ليّن الله عزّ وجلّ له الصّمّ الصّخور الصّلاب ، وجعلها غارا ، ولقد غارت الصّخرة تحت يده ببيت المقدس ليّنة حتّى صارت كهيئة العجين وقد رأينا ذلك ، والتمسناه تحت رايته.
    اليهوديّ : إنّ داود بكى على خطيئته حتى سارت الجبال معه لخوفه.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّه كان إذا قام إلى الصّلاة ، سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدّة البكاء ، وقد آمنه الله عزّ وجلّ من عقابه فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه ،

    ويكون إماما لمن اقتدى به ، ولقد قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه ، يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك ، فقال الله عزّ وجلّ :
    ( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) (1) بل لتسعد به ، ولقد كان يبكي حتّى يغشى عليه ، فقيل له :
    يا رسول الله ، أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟
    قال : بلى أفلا أكون عبدا شكورا ...
    اليهوديّ : إنّ سليمان اعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل منه ، إنّه هبط إليه ملك لم يهبط إلى الأرض قبله ، وهو ميكائيل ، فقال له :
    يا محمّد ، عش ملكا منعّما ، وهذه مفاتيح خزائن الأرض معك ، وتسير معك جبالها ذهبا وفضّة ، لا ينقص لك فيما ادّخر لك في الآخرة شيء ، فأومأ إلى جبرئيل ، وكان خليله من الملائكة فأشار إليه : أن تواضع ، فقال :
    بل أعيش عبدا آكل يوما ، ولا آكل يومين ، وألحق بإخواني من الأنبياء من قبلي فزاده الله الكوثر وأعطاه الشّفاعة ، وذلك أعظم من ملك الدّنيا من أوّلها إلى آخرها سبعين مرّة ، ووعده المقام المحمود ، فإذا كان يوم القيامة أقعده الله تعالى على العرش ، فهذا أفضل ممّا اعطي سليمان بن داود.
    اليهوديّ : إنّ سليمان قد سخّرت له الرياح فسارت به في بلاده غدوّها شهر ورواحها شهر.
    __________________
    (1) طه : 1 ـ 2.

    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّه اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، وعرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقلّ من ثلث ليلة حتّى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى ، فدلّي له من الجنّة رفرف أخضر وغشّي النّور بصره ، فرأى عظمة ربّه عزّ وجلّ بفؤاده ، ولم يرها بعينه فكان كقاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، فكان فيما أوحى إليه الآية الّتي في سورة البقرة ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).
    اليهوديّ : هذا يحيى بن زكريا اوتي الحكم صبيا والحلم والفهم ، وانّه كان يبكي من غير ذنب وكان يواصل الصوم.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من هذا ، إنّ يحيى بن زكريّا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهليّة ، ومحمّد 9 اوتي الحكم والفهم صبيّا بين عبدة الأوثان وحزب الشّيطان ، ولم يرغب لهم في صنم قطّ ، ولم ينشط لأعيادهم ، ولم ير منه كذب قطّ ، وكان أمينا ، صدوقا ، حليما ، وكان يواصل صوم الأسبوع والأقل والأكثر ، فيقال له في ذلك : فيقول : إنّي لست كأحدكم ، إنّي أظلّ عند ربّي ، فيطعمني ، ويسقيني ، وكان يبكي حتّى يبتلّ مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ من غير جرم.
    اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنه تكلّم في المهد صبيا.
    __________________
    (1) البقرة : 284.

    لقد كان كذلك ، ومحمّد سقط من بطن امّه واضعا يده اليسرى على الأرض ، ورافعا يده اليمنى إلى السّماء يحرّك شفتيه بالتّوحيد ، وبدا من فيه نور رأى أهل مكّة منه قصور بصرى من الشّام وما يليها ، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من اسطخر وما يليها ... ولقد أضاءت الدّنيا ليلة ولد النّبيّ 9 ... الخ.
    اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه أبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله عزّ وجلّ.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 اعطي ما هو أفضل من ذلك ، أبرأ ذا العاهة من عاهته ، فبينما هو جالس إذ سأل عن رجل من أصحابه ، فقالوا :
    يا رسول الله ، إنّه قد صار من البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه ، فأتاه ، فإذا هو كهيئة الفرخ من شدّة البلاء ، فقال :
    قد كنت تدعو في صحّتك دعاء؟
    قال : نعم ، كنت أقول : يا ربّ السّماء ، أيّما عقوبة معاقبي بها في الآخرة فعجّلها لي في الدّنيا.
    فقال له النّبيّ 9 : ألا قلت : ( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) (1) ، فقالها ، فكأنّما نشط من عقال ، وقام صحيحا وخرج معنا ...
    وذكر الإمام بوادر كثيرة ممن ابتلوا بالأرض والعاهات ، وعافاهم الله تعالى ببركة النبي 9. ومن بنود هذه المناظرة :
    __________________
    (1) البقرة : 201.

    اليهوديّ : إنّ عيسى بن مريم يزعمون أنّه أنبأ قومه بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد فعل ما هو أكثر من ذلك إنّ عيسى أنبأ قومه بما كان من وراء حائط ، ومحمّد 9 أنبأ عن مؤتة وهو عنها غائب ، ووصف حربهم ، ومن استشهد منهم ، وبينه وبينهم مسيرة شهر.
    وكان يأتيه الرّجل يريد أن يسأله عن شيء فيقول 9 : تقول أو أقول؟
    فيقول : بل قل يا رسول الله ، فيقول : جئتني في كذا وكذا حتّى يفرغ من حاجته ، ولقد كان 9 يخبر أهل مكّة بأسرارهم ، حتّى لا يترك من أسرارهم شيئا ، منها ما كان بين صفوان بن اميّة ، وبين عمير بن وهب إذ أتاه عمير ، فقال : جئت في فكاك ابني ، فقال له : كذبت ، بل قلت لصفوان : وقد اجتمعتم في الحطيم ، وذكرتم قتلى بدر ، والله للموت خير لنا من البقاء مع ما صنع محمّد 9 بنا ، وهل حياة بعد أهل القليب؟ فقلت أنت : لو لا عيالي ودين عليّ لأرحتك من محمّد ، فقال صفوان : عليّ أن أقضي دينك ، وأن أجعل بناتي مع بناتك يصيبهنّ ما يصيبهنّ من خير أو شرّ ، فقلت أنت :
    فاكتمها عليّ وجهّزني حتّى أذهب فأقتله ، فجئت لتقتلني ، فقال : صدقت يا رسول الله ، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، وأشباه هذا ممّا لا يحصى.
    اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه خلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله عزّ وجلّ.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 قد فعل ما هو أشبه بهذا ؛ إذ أخذ يوم حنين حجرا فسمعنا للحجر تسبيحا وتقديسا ، ثمّ قال للحجر : انفلق فانفلق ثلاث فلق نسمع لكلّ فلقة منها تسبيحا لا يسمع للاخرى.

    ولقد بعث إلى شجرة يوم البطحاء فأجابته ، ولكلّ غصن منها تسبيح وتهليل وتقديس ، ثمّ قال لها : انشقى ، فانشقّت نصفين ، ثمّ قال لها : التزقي فالتزقت ، ثمّ قال لها : اشهدي لي بالنّبوّة فشهدت ، ثمّ قال لها : ارجعي إلى مكانك بالتّسبيح والتّهليل والتّقديس ففعلت ، وكان موضعها بجنب الجزّارين بمكّة.
    اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون أنه كان سياحا.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 كانت سياحته في الجهاد واستنفر في عشر سنين ما لا يحصى من حاضر وباد ، وأفنى فئاما من العرب من منعوت بالسّيف ... وذلك لنشر كلمة التوحيد ـ.
    اليهوديّ : إنّ عيسى يزعمون كان زاهدا.
    لقد كان كذلك ، ومحمّد 9 أزهد الأنبياء ، كان له ثلاث عشرة زوجة سوى من يطيف به من الإماء ، ما رفعت له مائدة قطّ وعليها طعام ، وما أكل خبز برّ قطّ ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قطّ ، توفّي ودرعه مرهونة عند يهوديّ بأربعة دراهم ، ما ترك صفراء ولا بيضاء مع ما وطّئ له من البلاد ، ومكّن له من غنائم العباد ، ولقد كان يقسّم في اليوم الواحد ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف ، ويأتيه السّائل بالعشيّ فيقول : والّذي بعث محمّدا بالحقّ ما أمسى في آل محمّد صاع من شعير ، ولا صاع من برّ ، ولا درهم ، ولا دينار.
    وانتهت هذه المناظرة التي حفلت بتفوّق الرسول 9 على سائر الأنبياء وامتيازه عليهم بما منحه الله وآتاه من الطاقات الهائلة في ميادين الفضائل التي لا حدّ لها ، وقد أسلم اليهودي ، وقال :

    أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا 9 رسول الله ، وأشهد أنّه ما أعطى الله نبيّا درجة ، ولا مرسلا فضيلة إلاّ وقد جمعها لمحمّد 9 ، وزاد محمّدا 9 على الأنبياء صلوات الله عليهم أضعافا.
    وبهر حبر الامّة عبد الله بن عباس من حديث الإمام وقال : أشهد يا أبا الحسن إنّك من الراسخين في العلم.
    فقال له الإمام : وما لي لا أقول ما قلت في نفس من استعظمه الله تعالى في عظمته فقال : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) (2).
    وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مناظرات الإمام واحتجاجاته مع اليهود وقد حفلت بأروع الأدلّة ، وأكثرها أصالة ، مما دعا اليهود الذين سألوه وحاججوه إلى إعلان الإسلام واعتناقه.
    __________________
    (1) القلم : 4.
    (2) بحار الأنوار : 10 : 28 ـ 48. الاحتجاج 111 ـ 120.



    مناظرته
    مع الزّنادقة


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:49 am

    كان الإمام 7 هو المتصدي الوحيد لإبطال الشّبه والأوهام التي تحوم حول الإسلام في تشريعاته وأحكامه ، والتي أثارها الحاقدون على انتصاره ، واقبال الناس أفواجا على اعتناقه ، ومن المؤكد انه ليس هناك أقدر ولا أولى من حماية الإسلام سوى الإمام 7 ، فقد احاط بفلسفة التشريع الإسلامي ، ووقف على دقائقه ومحتوياته وانه ليس هناك أي تناقض أو تضاد في جميع تشريعاته التي تواكب الفطرة ، وتساير الطبيعة ، وتتفق مع سنن الكون ، ونعرض لبعض شبهات الزنادقة والمنحرفين والمنجمين ، وإبطال الإمام 7 لها.


    مع زنديق
    وفد على الإمام 7 زنديق ، وقد اترعت نفسه بالأوهام حول الإسلام ، فزعم أنّ هناك تضاربا وتعارضا في آيات القرآن الكريم ، فقال للإمام :
    لو لا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم وسارع الإمام قائلا :
    « ما هو؟ ».
    عرض الزنديق على الإمام 7 ما التبس عليه من الآيات وهي :
    قوله تعالى : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) (1).
    وقوله تعالى : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ) (2).
    وقوله تعالى : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (3).
    وقوله تعالى : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ) (4).
    __________________
    (1) التوبة : 67.
    (2) الأعراف : 51.
    (3) مريم : 64.
    (4) النبأ : 38.


    وقوله تعالى : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (1).
    وقوله تعالى : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (2).
    وقوله تعالى : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (3).
    وقوله تعالى : ( قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ ) (4).
    وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (5).
    وقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (6).
    وقوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ... ) (7).
    وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) (Cool.
    وقوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (9).
    وقوله تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً ... ) (10).
    __________________
    (1) الأنعام : 23.
    (2) العنكبوت : 25.
    (3) ص : 64.
    (4) ق : 28.
    (5) يس : آية 65.
    (6) القيامة : 22 ـ 23.
    (7) الأنعام : 103.
    (Cool النجم : 13 ـ 14.
    (9) طه : 109.
    (10) الشورى : 51.

    وقوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (1).
    وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ... ) (2).
    وقوله تعالى : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) (3).
    وقوله تعالى : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ... ) (4).
    وقوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) (5).
    وقوله تعالى : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) (6).
    وقوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) (7).
    وقوله تعالى : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) (Cool.
    وانبرى الإمام 7 إلى تفسير هذه الآيات بما يرفع التعارض المتوهم :
    أمّا قوله : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) إنّما يعني نسوا الله في دار الدّنيا ، لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسيّين من الخير.
    وكذلك تفسير قوله عزّ وجلّ : ( فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ
    __________________
    (1) المطفّفين : 15.
    (2) الأنعام : 158.
    (3) السجدة : 10.
    (4) التوبة : 77.
    (5) الكهف : 110.
    (6) الكهف : 51.
    (7) الأنبياء : 47.
    (Cool المؤمنون : 102 ـ 103.

    هذا ) يعني بالنّسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الّذين كانوا في دار الدّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله ، وخافوه بالغيب.
    وأمّا قوله : ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) فإنّ ربّنا تبارك وتعالى علوّا كبيرا ليس بالّذي ينسى ولا يغفل بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب في باب النّسيان قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنّه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به فهل فهمت ما ذكر الله عزّ وجلّ؟
    قال : نعم ، فرّجت عنّي فرّج عنك وحللت عنّي عقدة فعظّم الله أجرك. قال :
    وأمّا قوله : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً ).
    وقوله : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ).
    وقوله : ( يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ).
    وقوله : ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ).
    وقوله : ( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ).
    وقوله : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ، فإنّ ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الّذي كان مقداره خمسين ألف سنة.
    المراد : يكفر ـ أهل المعاصي ـ بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، والكفر في هذه الآية « البراءة » تقول : فتبرّأ بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم ، قول الشّيطان : ( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (1) ، وقول إبراهيم خليل الرّحمن : ( كَفَرْنا بِكُمْ )
    __________________
    (1) إبراهيم : 22.

    يعني تبرّأنا منكم.
    اجتماع العباد في مواطن :
    وأفاد الإمام 7 أنّ العباد يجتمعون يوم القيامة في مواطن متعدّدة وهي : ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطقون ويبكون فيه ، فلو أنّ تلك الأصوات بدت لأهل الدّنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم ، ولتصدّعت قلوبهم ... الخ.
    ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه ، فيقولون : ( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) وهؤلاء خاصّة هم المقرّون في دار الدّنيا بالتّوحيد ، فلا ينفعهم إيمانهم بالله لمخالفتهم رسله وشكّهم فيما أتوا به عن ربّهم ، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم ، واستبدالهم الّذي هو أدنى بالّذي هو خير ، فكذّبهم الله فيما انتحلوه من الإيمان بقوله : ( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (1) فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم ، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم ، فيقولون لجلودهم : لم شهدتم علينا؟ قالوا : أنطقنا الله الّذي أنطق كلّ شيء.
    ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون ، فيفرّ بعضهم من بعض فذلك قوله عزّ وجلّ : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (2) فيستنطقون فلا يتكلّمون إلاّ من ...
    __________________
    (1) الأنعام : 24.
    (2) عبس : 34 ـ 36.

    ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه أولياء الله وأصفياؤه ، فلا يتكلّم أحد إلاّ من أذن له الرّحمن وقال صوابا ، فيقوم الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالة الّتي حملوها إلى اممهم ، وتسأل الامم فتجحد كما قال الله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (1) فيقولون : ( ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) (2) فتشهد الرّسل رسول الله 9 فيشهد بصدق الرّسل ، وتكذيب من جحدها من الامم ، فيقول ـ لكلّ أمّة منهم ـ: ( فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم ، كذلك قال الله لنبيّه : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (3) فلا يستطيعون ردّ شهادته ، خوفا من أن يختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون ، ويشهد على منافقي قومه وامّته وكفّارهم بإلحادهم وعنادهم ، ونقضهم عهده ، وتغييرهم سنّته ، واعتدائهم على أهل بيته ، وانقلابهم على أعقابهم وارتدادهم على أدبارهم ، واحتذائهم في ذلك سنّة من تقدّمهم من الامم الظّالمة الخائنة لأنبيائها ، فيقولون بأجمعهم : ( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) (4).
    ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد 9 وهو « المقام المحمود » فيثني على الله بما لم يثن عليه أحد قبله ، ثمّ يثني على
    __________________
    (1) الأعراف : 6.
    (2) المائدة : 19.
    (3) النساء : 41.
    (4) المؤمنون : 106.

    الملائكة كلّهم ، فلا يبقى ملك إلاّ أثنى عليه محمّد ، ثمّ يثني على الأنبياء ، بما لم يثن عليهم أحد قبله ، ثمّ يثني على كلّ مؤمن ومؤمنة يبدأ بالصّدّيقين والشّهداء ثمّ الصّالحين ، فيحمده أهل السّماوات وأهل الأرضين ، فذلك قوله تعالى : ( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (1).
    فطوبى لمن كان له في ذلك المكان حظّ ونصيب ، وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظّ ولا نصيب.
    ـ ثمّ يجتمعون في موطن آخر ، ويزال بعضهم عن بعض ، وهذا كلّه قبل الحساب ، فإذا اخذ في الحساب شغل كلّ إنسان بما لديه ، نسأل الله بركة ذلك اليوم.
    لقد عرض الإمام 7 إلى تفصيل المواقف التي يقف بها العباد في يوم القيامة وذلك قبل يوم الحساب ، ولا أظن أن رواية وردت عن أئمة الهدى : عرضت لذلك بصورة مفصلة.
    ثمّ يأخذ الإمام 7 في تفسير الآيات التي سئل عنها وغيرها فيقول :
    وأمّا قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عزّ وجلّ بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمّى « نهر الحيوان » فيغتسلون منه ، ويشربون من آخر ، فتبيضّ وجوههم فيذهب عنهم كلّ أذى وقذى ووعث ، ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم ـ أي إلى عطائه كيف يثيبهم ، ومنه يدخلون الجنّة فذلك قول الله عزّ وجلّ في تسليم الملائكة عليهم : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ
    __________________
    (1) الإسراء : 79.

    طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (1) ، فعند ذلك اثيبوا بدخول الجنّة ، والنّظر إلى ما وعدهم الله عزّ وجلّ وهو قوله تعالى : ( إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) أي منتظرة ... الخ.
    وأمّا قوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) يعني محمّدا 9 كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عزّ وجلّ ، وقوله في آخر الآية : ( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (2) رأى جبرئيل في صورته مرّتين هذه مرّة ومرّة اخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل خلق عظيم فهو من الرّوحانيّين الّذين لا يدرك خلقهم ولا صفتهم إلاّ الله ربّ العالمين.
    وأمّا قوله : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ... ) (3) ، كذلك قال الله تعالى ، وقد كان الرّسول يوحي إليه رسل من السّماء فتبلغ رسل السّماء إلى الأرض ، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السّماء ، وقد قال رسول الله 9 : يا جبرئيل ، هل رأيت ربّك؟
    فقال جبرئيل : إنّ ربّي لا يرى.
    فقال رسول الله 9 : من أين تأخذ الوحي؟
    قال : آخذه من إسرافيل.
    __________________
    (1) الزمر : 73.
    (2) النجم : 17 ـ 18.
    (3) الشورى : 51.

    قال : ومن أين يأخذه إسرافيل؟
    قال : يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين.
    قال : ومن أين يأخذه ذلك الملك؟
    قال : يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي ، وهو كلام الله عزّ وجلّ ، وكلام الله ليس بنحو واحد :
    منه ما كلّم الله به الرّسل.
    ومنه ما قذف في قلوبهم.
    ومنه رؤيا يراها الرّسل.
    ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ ، فهو كلام الله عزّ وجلّ.
    وأمّا قوله : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (1) فإنّما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربّهم لمحجوبون.
    وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (2) يخبر محمّدا 9 عن المشركين والمنافقين الّذين لم يستجيبوا لله ولرسوله فقال : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) وحيث لم يستجيبوا لله ولرسوله قال : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدّنيا ، كما عذّب في القرون الاولى ، فهذا خبر يخبر به النّبيّ 9 عنهم ، ثمّ قال : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
    __________________
    (1) المطفّفين : 15.
    (2) الأنعام : 158.

    قَبْلُ ) يعني لم تكن آمنت من قبل أن تأتي هذه الآية ، وهي طلوع الشّمس من مغربها.
    وقال في آية اخرى : ( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (1) يعني أرسل عليهم عذابا ، وكذلك إتيانه بنيانهم حيث قال : ( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) (2) يعني أرسل عليهم العذاب.
    وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ).
    وقوله : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ القيامة ).
    وقوله : ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) يعني : البعث ، فسمّاه لقاء.
    كذلك قوله : ( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) (3) يعني : من كان يؤمن أنّه مبعوث فإنّ وعد الله لآت : من الثّواب والعقاب ، فاللّقاء هاهنا ليس بالرؤية ، واللّقاء هو البعث.
    وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) يعني تيقّنوا أنّهم يدخلونها.
    وكذلك قوله : ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) (4).
    وأمّا قوله عزّ وجلّ للمنافقين : ( وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) (5) ، فهو ظنّ
    __________________
    (1) الحشر : 2.
    (2) النحل : 26.
    (3) العنكبوت : 5.
    (4) الحاقّة : 20.
    (5) الأحزاب : 10.

    شكّ وليس ظنّ يقين ، والظّنّ ظنّان : ظنّ شكّ ، وظنّ يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظّنّ فهو ظنّ يقين ، وما كان من أمر الدّنيا فهو ظنّ شكّ.
    وأمّا قوله عزّ وجلّ : ( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) فهو ميزان العدل ، يؤخذ به الخلائق يوم القيامة ، يدين الله تبارك وتعالى الخلائق بعضهم من بعض ويجزيهم بأعمالهم ، ويقتصّ للمظلوم من الظّالم.
    ومعنى قوله : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) و : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) ، فهو قلّة الحساب وكثرته ، والنّاس يومئذ على طبقات ومنازل :
    فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا ، وينقلب إلى أهله مسرورا.
    ومنهم الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب لأنّهم لم يتلبّسوا من أمر الدّنيا ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس بها هاهنا.
    ومنهم من يحاسب على النّقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السّعير.
    ومنهم أئمّة الكفر وقادة الضّلالة ، فاولئك لا يقيم لهم وزنا ، ولا يعبأ بهم يوم القيامة ، وهم في جهنّم خالدون وتلفح وجوههم النّار ، وهم فيها كالحون.
    الزنديق :
    ـ أجد الله يقول : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (1).
    وفي موضع آخر يقول : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (2).
    __________________
    (1) السجدة : 11.
    (2) الزمر : 42.

    ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) (1) وما أشبه ذلك ، فمرّة يجعل الفعل لنفسه ، ومرّة لملك الموت ، ومرّة للملائكة.
    ـ أجده يقول : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) (2).
    ويقول : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) (3) ، ففي الآية الاولى انّ الأعمال الصالحة لا تكفر.
    وفي الثانية أنّ الإيمان والأعمال الصالحات لا تنفع إلاّ بعد الاهتداء.
    ـ وأجده يقول : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) (4) كيف يسأل الحيّ من الأموات قبل البعث والنشور؟
    ـ أجده يقول : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (5) فما هذه الأمانة ، ومن هذا الإنسان ، وليس من صفة العزيز العليم التلبيس على عباده؟
    ـ أجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله : ( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) (6).
    وبتكذيبه نوحا لمّا قال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (7) بقوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) (Cool.
    __________________
    (1) النحل : 32.
    (2) الأنبياء : 94.
    (3) طه : 82.
    (4) الزخرف : 45.
    (5) الأحزاب : 72.
    (6) طه : 121.
    (7) هود : 45.
    (Cool هود : 46.

    وبوصفه إبراهيم بأنّه عبد كوكبا مرّة ، ومرّة قمرا ، ومرّة شمسا.
    وبقوله في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) (1).
    وبتهجينه موسى حيث قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) (2).
    ويبعثه جبرئيل وميكائيل على داود حيث تسوّرا المحراب ، وبحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغضبا ، وأظهر خطأ الأنبياء وزللهم ، ووارى اسم من اغتر وفتن خلقا وضل وأضل ، وكنى عن أسمائهم في قوله : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) (3) فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟
    ـ وأجده يقول : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (4).
    و ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) (5).
    و ( لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ) (6) فمرّة يجيئهم ومرّة يجيئونه.
    ـ وأجده يقول : ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (7) فما هذا النعيم الذي يسأل العباد عنه؟
    __________________
    (1) يوسف : 24.
    (2) الأعراف : 143.
    (3) الفرقان : 27 ـ 29.
    (4) الفجر : 22.
    (5) الأنعام : 158.
    (6) الأنعام : 94.
    (7) التكاثر : 8.

    ـ وأجده يقول : ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) (1) ما هذه البقية؟
    ـ وأجده يقول : ( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) (2).
    و ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (3).
    ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (4).
    ( وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) (5).
    ( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) (6) ، ما معنى الجنب والوجه واليمين والشمال فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا؟
    ـ وأجده يقول : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (7).
    ويقول : ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ ) (Cool.
    ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (9).
    ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) (10).
    ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (11).
    __________________
    (1) هود : 86.
    (2) الزمر : 56.
    (3) البقرة : 115.
    (4) القصص : 88.
    (5) الواقعة : 27.
    (6) الواقعة : 41.
    (7) طه : 5.
    (Cool الملك : 16.
    (9) الزخرف : 84.
    (10) الحديد : 4.
    (11) ق : 16.

    ( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ ) (1).
    ـ وأجده يقول : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وليس يشبه القسط في اليتامى من نكاح النساء ولا كل النساء أيتام فما معنى ذلك؟
    ـ وأجده يقول : ( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (3) فكيف يظلم الله؟ ومن هؤلاء الظلمة؟
    ـ وأجده يقول : ( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ) (4) ما هذه الواحدة؟
    ـ أجده يقول : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (5) وأرى مخالفي الإسلام ، معتكفين على باطلهم غير مقلعين عنه ، وأرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم يلعن بعضهم بعضا ، فأي موضع للرحمة العامة لهم المشتملة عليهم؟
    ـ أجده قد بيّن فضل نبيّه على سائر الأنبياء ، ثمّ خاطبه في أضعاف ما أثنى عليه في الكتاب من الإزراء عليه ، وانتقاص محله ، وغير ذلك من تهجينه وتأنيبه ما لم يخاطب أحدا من الأنبياء ، مثل قوله :
    ( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (6).
    وقوله : ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (7).
    __________________
    (1) المجادلة : 7.
    (2) النساء : 3.
    (3) الأعراف : 160.
    (4) سبأ : 46.
    (5) الأنبياء : 107.
    (6) الأنعام : 35.
    (7) الإسراء : 74.

    ( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (1).
    وقوله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) (2).
    وقوله : ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (3).
    وقال : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (4).
    ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) (5) ، فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام وهو وصيّ النبيّ ، فالنبيّ أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها :
    ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) وهذه كلّها صفات مختلفة ، وأحوال متناقضة ، وامور مشكلة ، فإن يكن الرسول والكتاب حقّا فقد هلكت لشكّي في ذلك ، وإن كانا باطلين فما عليّ من بأس؟
    جواب الإمام :
    وانبرى الإمام 7 إلى تفنيد هذه الشبه والأوهام ، قائلا :
    « سأنبّئك بتأويل ما سألت » ، وفيما يلي ذلك :
    أمّا قوله تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ).
    وقوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ).
    ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ).
    __________________
    (1) الإسراء : 75.
    (2) الأحزاب : 37.
    (3) الأحقاف : 9.
    (4) الأنعام : 38.
    (5) يس : 12.

    ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) (1) فهو تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه ، وفعل رسله وملائكته فعله لأنّهم بأمره يعملون ، فاصطفى جلّ ذكره من الملائكة رسلا وسفرة بينه وبين خلقه ، وهم الّذين قال الله فيهم : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (2) فمن كان من أهل الطّاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرّحمة ، ومن كان من أهل المعصية تولّت قبض روحه ملائكة النّقمة ، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرّحمة والنّقمة يصدرون عن أمره ، وفعلهم فعله ، وكلّ ما يأتونه منسوب إليه ، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ، وفعل ملك الموت فعل الله لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء ، ويعطي ويمنع ، ويثيب ويعاقب على يد من يشاء ، وإنّ فعل امنائه فعله كما قال : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (3).
    وأمّا قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ).
    وقوله : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء ، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنّجاة ممّا هلك به الغواة ، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتّوحيد ، وإقرارها بالله ، ونجا سائر المقرّين بالوحدانيّة ، من إبليس فمن دونه بالكفر ، وقد بيّن الله ذلك بقوله :
    __________________
    (1) النحل : 28.
    (2) الحجّ : 75.
    (3) الإنسان : 30.

    ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (1).
    وبقوله : ( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (2) ، وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها. ومن ذلك أنّ الإيمان قد يكون على وجهين :
    إيمان بالقلب وإيمان باللّسان ، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله لمّا قهرهم بالسّيف ، وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالإيمان بالقلب هو التّسليم للرّبّ ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره ، كما استكبر إبليس عن السّجود لآدم ، واستكبر أكثر الامم عن طاعة أنبيائهم ، فلم ينفعهم التّوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السّجود الطّويل ، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، ولم يرد بها غير زخرف الدّنيا ، والتّمكين من النّظرة ، فلذلك لا تنفع الصّلاة والصّدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النّجاة ، وطرق الحقّ ، وقد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته ، وإرسال رسله ، لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل ، ولم يخل أرضه من عالم بما تحتاج إليه الخليقة ، ومتعلّم على سبيل النّجاة ، اولئك هم الأقلّون عددا ، وقد بيّن الله ذلك في امم الأنبياء وجعلهم مثلا لمن تأخّر ، مثل قوله في قوم نوح : ( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (3).
    __________________
    (1) الأنعام : 82.
    (2) المائدة : 41.
    (3) هود : 40.

    وقوله فيمن آمن من أمّة موسى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (1).
    وقوله في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل : ( مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (2) يعني : بأنّهم مسلمون لأهل الفضل فضلهم ، ولا يستكبرون عن أمر ربّهم فما أجابه ـ أي عيسى ـ منهم إلاّ الحواريّون.
    وقد جعل الله للعلم أهلا ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (3).
    وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (4).
    وبقوله : ( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (5).
    وبقوله : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (6) ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (7) ، والبيوت هي بيوت العلم الّذي استودعه الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ من عمل من أعمال الخير فجرى على
    __________________
    (1) الأعراف : 159.
    (2) آل عمران : 52.
    (3) النساء : 59.
    (4) النساء : 83.
    (5) التوبة : 119.
    (6) آل عمران : 7.
    (7) البقرة : 189.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    موسوعة الامام علي عليه السلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: موسوعة الامام علي عليه السلام   موسوعة الامام علي عليه السلام Emptyالأربعاء أكتوبر 16, 2024 8:50 am

    غير أيدي أهل الاصطفاء وعهودهم وشرائعهم وسننهم ومعالم دينهم مردود وغير مقبول ، وأهله بمحلّ كفر ، وإن شملتهم صفة الإيمان ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ ) (1)؟ فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النّجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفع حقّ أوليائه ، وحبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ، وكذلك قال الله سبحانه : ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) (2).
    وهذا كثير في كتاب الله عزّ وجلّ ، والهداية هي : الولاية كما قال الله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (3) والّذين آمنوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر ، وليس كلّ من أقرّ أيضا من أهل القبلة بالشّهادتين كان مؤمنا. إنّ المنافقين كانوا يشهدون : أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، ويدفعون عهد رسول الله بما عهد به من دين الله وعزائمه وبراهين نبوّته إلى وصيّه ، ويضمرون من الكراهة لذلك ، والنّقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم ، فيما قد بيّنه الله لنبيّه بقوله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).
    __________________
    (1) التوبة : 54.
    (2) غافر : 85.
    (3) المائدة : 56.
    (4) النساء : 65.

    وبقوله : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (1).
    ومثل قوله : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) (2) ، أي لتسلكنّ سبيل من كان قبلكم من الامم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.
    وهذا كثير في كتاب الله عزّ وجلّ ، وقد شقّ على النّبيّ ما يؤول إليه عاقبة أمرهم ، واطلاع الله إيّاه على بوارهم فأوحى الله عزّ وجلّ إليه :
    ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ) (3) ، ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (4).
    أمّا قوله : ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّنا الّتي آتاه الله إيّاها ، وأوجب به الحجّة على سائر خلقه ، لأنّه لمّا ختم به الأنبياء ، وجعله الله رسولا إلى جميع الامم ، وسائر الملل ، خصّه الله بالارتقاء إلى السّماء عند المعراج ، وجمع له يومئذ الأنبياء ، فعلم منهم ما ارسلوا به ، وحملوه من عزائم الله وآياته وبراهينه ، وأقرّوا جميعا بفضله وفضل الأوصياء والحجج في الأرض من بعده وفضل شيعة وصيّه من المؤمنين والمؤمنات الّذين سلّموا لأهل الفضل فضلهم ، ولم يستكبروا عن أمرهم ، وعرف من أطاعهم وعصاهم من اممهم ، وسائر من مضى ومن غبر ، أو من تقدّم وتأخّر.
    __________________
    (1) آل عمران : 144.
    (2) الانشقاق : 19.
    (3) فاطر : 8.
    (4) المائدة : 68.

    وأمّا هفوات الأنبياء وما بيّنه الله في كتابه ، ووقوع الكناية ... ممّن شهد الكتاب بظلمهم فإنّ ذلك من أدلّ الدّلائل على حكمة الله عزّ وجلّ الباهرة ، وقدرته القاهرة ، وعزّته الظّاهرة لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور اممهم ، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إليها ، كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الّذي تفرّد به عزّ وجلّ.
    ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى حيث قال ـ فيه وفي امّه ـ: ( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) (1)؟ يعني أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل ، ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا ادّعته النّصارى لابن مريم ، ولم يكنّ عن أسماء الأنبياء تبجّرا (2) أو تعزّرا (3) ...
    إلى آخر ما أفاده الإمام في هذا الموضوع.
    وأمّا قوله : ( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ).
    وقوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) فذلك كلّه حقّ ، وليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه فإنّه ربّ كلّ شيء.
    ومن كتاب الله عزّ وجلّ يكون تأويله على غير تنزيله ، ولا يشبّه تأويله بكلام البشر ، ولا فعل البشر ، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى وهو حكاية الله عزّ وجلّ عن إبراهيم 7 حيث قال : ( إِنِّي
    __________________
    (1) المائدة : 75.
    (2) البجر : العيب.
    (3) التعزير : اللوم والتأديب.

    ذاهِبٌ إِلى رَبِّي ) (1) ، فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه في عبادته واجتهاده ، ألا ترى أنّ تأويله غير تنزيله ـ أي غير ظاهره ـ؟ وقال : ( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) (2) ، وقال : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) (3) فإنزاله ذلك خلقه إيّاه.
    وكذلك قوله : ( إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) (4) أي الجاحدين ، والتّأويل في هذا القول باطنه مضادّ لظاهره.
    ومعنى قوله : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) فإنّما خاطب نبيّنا محمّدا 9 هل ينتظر المنافقون والمشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينوهم؟
    ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) ، يعني بذلك أمر ربّك ، والآيات هي العذاب في دار الدّنيا ، كما عذّب الامم السّالفة ، والقرون الخالية.
    وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) (5) ، يعني بذلك ما يهلك من القرون فسمّاه إتيانا.
    وقال : ( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (6) ، أي لعنهم الله أنّي يؤفكون ، فسمّى اللّعنة قتالا.
    __________________
    (1) الصافّات : 99.
    (2) الزمر : 6.
    (3) الحديد : 25.
    (4) الزخرف : 81.
    (5) الرعد : 41.
    (6) المنافقون : 4.

    وكذلك قال : ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (1) ، أي لعن الإنسان.
    وقال : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ) (2) ، فسمّى فعل النّبيّ 9 فعلا له ، ألا ترى تأويله على غير تنزيله؟
    ومثل قوله : ( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) (3) فسمّى البعث لقاء.
    وكذلك قوله : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) (4) ، أي يوقنون أنّهم مبعوثون ليوم عظيم ، واللّقاء عند المؤمن البعث وعند الكافر المعاينة والنّظر.
    ويأخذ في إيضاح هذه الجهة أنّ المراد غير التنزيل.
    وأمّا معنى قوله : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (5) فذلك حجّة الله أقامها على خلقه ، وعرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النّبيّ إلاّ من يقوم مقامه ، ولا يتلوه إلاّ من يكون في الطّهارة مثله ، لئلاّ يتّسع لمن ماسّه حسّ الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول الله 9 ...
    وعرض الإمام 7 بعض الامور التي ترتبط بذلك.
    وأمّا الأمانة الّتي ذكرتها فهي الأمانة الّتي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلاّ في الأنبياء وأوصيائهم ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى ائتمنهم على خلقه ،
    __________________
    (1) عبس : 17.
    (2) الأنفال : 17.
    (3) السجدة : 10.
    (4) البقرة : 46.
    (5) هود : 17.

    وجعلهم حججا في أرضه ... إلى آخر ما ذكره.
    وأمّا ما كان من الخطاب بالانفراد مرّة وبالجمع مرّة ، من صفات الباري جلّ ذكره ، فإنّ الله تبارك وتعالى اسمه على ما وصف به نفسه بالانفراد والوحدانيّة ، هو النّور الأزليّ القديم الّذي ليس كمثله شيء ، لا يتغيّر ويحكم ما يشاء ويختار ، ولا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، ولا ما خلق زاد في ملكه وعزّه ، ولا نقص منه ما لم يخلقه ، فخلق ما شاء كما شاء ، وأجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من امنائه ، وكان فعلهم فعله ، وأمرهم أمره ، كما قال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (1) وجعل السّماء والأرض وعاء لمن يشاء من خلقه ليميز الخبيث من الطّيّب ، مع سابق علمه بالفريقين من أهلها ...
    وتحدّث الإمام بصورة مستوعبة عن الإمامة وضرورتها وما يرتبط بالموضوع.
    وأمّا قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (2) فالمراد كلّ شيء هالك إلاّ دينه لأنّه من المحال أن يهلك منه كلّ شيء ويبقى الوجه ، هو أجلّ وأكرم وأعظم من ذلك ، إنّما يهلك من ليس منه. ألا ترى أنّه قال : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) (3)؟
    وحوت المناظرة التالية على بعض البحوث التي لا يقرها العلم ، وقد أعرضنا عن ذكرها لاعتقادنا أنّها من الموضوعات ، ونكتفي بهذا المقدار منها (4).
    __________________
    (1) النساء : 80.
    (2) القصص : 88.
    (3) الرحمن : 26 ـ 27.
    (4) ومن أراد الوقوف عليها فإنها في الاحتجاج للطبرسي 1 : 358 ـ 384.

    مع ابن الكوّاء
    أمّا ابن الكوّاء ، فهو خبيث دنس قد اترعت نفسه بالزندقة والمروق من الدين ، وكان من سعة حلم الإمام 7 وعظيم أخلاقه أن فسح المجال لهذا الوضر الخبيث بالتطاول عليه ، ولم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيعتقله أو ينفيه ، وقد آل أمر هذا الخبيث أن صار من عيون الخوارج ، فكان يجابه الإمام بالكلمات القاسية فيقول له : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (1).
    فيجيبه الإمام الممتحن بقوله تعالى :
    ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (2).
    وعلى أي حال فقد جرت بين الإمام وابن الكوّاء عدّة مناظرات لم يكن غرض ابن الكوّاء الوقوف على الواقع والتعرّف على الحقّ ، وإنّما غرضه امتحان الإمام وازعاجه ، ومن بين تلك المناظرات ما يلي :
    ابن الكوّاء : أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار؟
    وعن أعمى بالليل وأعمى بالنهار.
    وعن أعمى بالليل بصير بالنهار.
    __________________
    (1) الزمر : 65.
    (2) الروم : 60.

    وعن أعمى بالنهار بصير بالليل؟
    الإمام :
    « سل عمّا يعنيك ولا تسأل عمّا لا يعنيك. ويلك!
    أمّا بصير باللّيل وبصير بالنّهار : فهو رجل آمن بالرّسل والأوصياء الّذين مضوا وبالكتب والنّبيّين وآمن بالله ونبيّه محمّد 9 وأقرّ لي بالولاية ، فأبصر في ليلة ونهاره.
    وأمّا بصير باللّيل أعمى بالنّهار : فرجل آمن بالأنبياء والكتب ، وجحد النّبيّ 9 وأنكر حقّا فأبصر باللّيل وعمي بالنّهار.
    وأمّا أعمى باللّيل أعمى بالنّهار : فرجل جحد الأنبياء والأوصياء والكتب الّتي مضت ، وأدرك النّبيّ 9 فلم يؤمن به ، ولم يقرّ بولايتي ، فجحد الله عزّ وجلّ ونبيّه فعمي باللّيل وعمي بالنّهار.
    وأمّا أعمى باللّيل وبصير بالنّهار ، فرجل جحد الأنبياء الّذين مضوا والأوصياء والكتب ، وأدرك محمّدا 9 فآمن بالله وبرسوله محمّد 9 ، وآمن بإمامتي ، وقبل ولايتي ، فعمي باللّيل وأبصر بالنّهار.
    ويلك يا ابن الكوّاء! نحن بنو أبي طالب ، بنا فتح الله الإسلام ، وبنا يختمه » (1).
    ولم يكن يبغي ابن الكوّاء في هذه المناظرة الوقوف على الواقع والانتهال من نمير علوم الإمام ، وإنّما كان يبغي التبكيت بالإمام وامتحانه.
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 329.

    كان إمام المتّقين على المنبر يخطب الناس ويوعظهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ ، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له :
    أخبرني عن ذي القرنين أنبيّا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه أمن ذهب كانا أم من فضّة؟
    فأجابه الإمام :
    « لم يكن نبيّا ولا ملكا ، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضّة ، ولكنّه كان عبدا أحبّ الله فأحبّه الله ، ونصح لله فنصح الله له ، وإنّما سمّي « ذا القرنين » لأنّه دعا قومه إلى الله عزّ وجلّ فضربوه على قرنه فغاب عنهم حينا ثمّ عاد إليهم ، فضرب على قرنه الآخر ، وفيكم مثله » (1).
    يعني نفسه الشريفة ، فقد ضربه عمرو بن عبد ودّ على قرنه الأوّل ، وضربه الزنيم الفاجر ابن ملجم ضربة اخرى على هامته ففلقها ، وكانت بها شهادته.
    روى الأصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند الإمام 7 فجاء ابن الكوّاء ، فقال للإمام : من البيوت في قول الله عزّ وجلّ : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) (2)؟
    فقال الإمام 7 :
    « نحن البيوت الّتي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها ، نحن باب الله وبيوته الّتي يؤتى منها ، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ،
    __________________
    (1) المصدر السابق 1 : 341.
    (2) البقرة : 189.

    ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها ».
    فقال ابن الكوّاء : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (1)؟
    فأجابه الإمام :
    « نحن أصحاب الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف يوم القيامة بين الجنّة والنّار ، ولا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا وأنكرناه ، وذلك بأنّ الله عزّ وجلّ لو شاء عرّف للنّاس نفسه حتّى يعرفوه وحده ، ويأتوه من بابه ، ولكنّه جعلنا أبوابه وصراطه وبابه الّذي يؤتى منه ، فقال ـ فيمن عدل عن ولايتنا وفضّل علينا غيرنا فإنّهم ( عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) (2) » (3).
    * * *
    كان الإمام 7 على المنبر يخطب الناس ، فانبرى إليه ابن الكوّاء فقال له : يا أمير المؤمنين ، ما الذاريات ذروا؟
    « الرّياح ».
    ما الحاملات وقرا؟
    « السّحاب ».
    ما الجاريات يسرا؟
    « السّفن ».
    ما المقسّمات أمرا؟
    __________________
    (1) الأعراف : 46.
    (2) المؤمنون : 74.
    (3) الاحتجاج 1 : 337 ـ 338.

    « الملائكة ».
    وجدت كتاب الله ينقض بعضه بعضا.
    « ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! كتاب الله يصدّق بعضه بعضا ، ولا ينقض بعضه بعضا سل عمّا بدا لك ».
    سمعته يقول : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) (1).
    ويقول : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (2).
    وقال في آية اخرى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (3).
    « يا ابن الكوّاء! هذا المشرق وهذا المغرب ».
    وأومأ إلى جهة المشرق والمغرب.
    « وأمّا قوله : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) فإنّ مشرق الشّتاء على حدة ومشرق الصّيف على حدة ، أما تعرف ذلك من قرب الشّمس وبعدها؟
    وأمّا قوله : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ) ، فإنّ لها ـ أي الشمس ـ ثلاثمائة وستّين برجا ، تطلع كلّ يوم من برج وتغيب في آخر ، فلا تعود إليه إلاّ من قابل في ذلك اليوم ».
    كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك؟
    « ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! سل متعلّما ولا تسأل متعنّتا ، من موضع
    __________________
    (1) المعارج : 40.
    (2) الرحمن : 17.
    (3) المزمل : 9.

    قدمي إلى عرش ربّي أن يقول قائل ـ مخلصا ـ : لا إله إلاّ الله ».
    ما ثواب من قال : لا إله إلاّ الله؟
    « من قال : لا إله إلاّ الله مخلصا طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّقّ الأبيض ، فإن قال ثانية : لا إله إلاّ الله مخلصا خرقت أبواب السّماوات وصفوف الملائكة حتّى تقول الملائكة اخشعوا لعظمة الله ، فإذا قال ثالثة : لا إله إلاّ الله ـ مخلصا ـ تنتهي دون العرش ، فيقول الجليل : لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (1) ارتفع قوله وكلامه ».
    أخبرني عن قوس قزح؟
    « لا تقل : قوس قزح ، فإنّ قزحا اسم شيطان ، ولكن قل : قوس الله إذا بدا يبدو الخصب والرّيف ».
    أخبرني عن أصحاب رسول الله 9؟
    « عن أيّ أصحاب رسول الله تسألني؟ ».
    قال : أخبرني عن أبي ذرّ الغفاري؟
    « سمعت رسول الله 9 يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء ، ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ ».
    أخبرني عن سلمان الفارسي؟
    « بخ بخ سلمان منّا أهل البيت ، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم؟ علم علم الأوّل والآخر ».
    __________________
    (1) فاطر : 10.

    أخبرني عن حذيفة بن اليماني؟
    « ذاك امرؤ علم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالما ».
    أخبرني عن عمّار بن ياسر؟
    « ذاك امرؤ حرّم الله لحمه ودمه على النّار أن تمسّ شيئا منها ».
    اخبرني عن نفسك؟
    « كنت إذا سألت اعطيت ، وإذا سكتّ ابتدئت ».
    أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (1)؟
    « كفرة أهل الكتاب : اليهود والنّصارى ، وقد كانوا على الحقّ فابتدعوا في أديانهم ، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ».
    ثمّ نزل الإمام عن المنبر ، وضرب بيده على منكب ابن الكوّاء ، وقال له :
    « يا بن الكوّاء! ما أهل النّهروان منك ببعيد! ». فقال ابن الكوّاء : ما اريد غيرك ، ولا أسأل سواك.
    ولم تمض الأيام حتّى كان ابن الكوّاء في مقدّمة المحاربين للإمام يوم النهروان ، فقيل له : بالأمس تسأل أمير المؤمنين وأنت اليوم تقاتله؟
    وانبرى إليه رجل فطعنه برمحه فهلك عدوّ الله (2).
    __________________
    (1) الكهف : 103.
    (2) الاحتجاج 1 : 386 ـ 388.

    قال الإمام أمير المؤمنين 7 لأصحابه :
    « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله عزّ وجلّ ، فو الله ما نزلت آية من كتاب الله في ليل ونهار إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله 9 وعلّمني تأويلها ».
    فقام إليه ابن الكوّاء فقال له : فما كان ينزل عليه وأنت غائب؟
    قال 7 :
    « كان رسول الله ما كان ينزل عليه من القرآن وأنا غائب عنه حتّى أقدم عليه ، فإذا قدمت عليه فيقرأنيه ، ويقول لي : يا عليّ ، أنزل الله عليّ بعدك كذا وكذا ، وتأويله كذا وكذا ، فيعلّمني تنزيله وتأويله » (1).
    __________________
    (1) الاحتجاج 1 : 386 ـ 388.

    مع رجل
    ارتقى الإمام 7 المنبر في الكوفة ، وقال :
    « سلوني قبل أن تفقدوني ، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت عنه ، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر ».
    فقام إليه رجل ، وفي عنقه كتاب كالمصحف وكان رجلا آدم طوالا ، جعد الشعر كأنّه من يهود العرب ، فرفع صوته قائلا :
    أيّها المدّعي لما لا يعلم ... أنا سائلك فأجب ، فوثب إليه جماعة من شيعة الإمام لمعاقبته ، فنهرهم الإمام ، وقال لهم :
    « دعوة ولا تعجّلوه فإنّ العجل والطّيش لا يقوم به حجج الله ، ولا بإعجال السّائل تظهر براهين الله تعالى ».
    ثمّ التفت إلى السائل ، فقال له :
    « سل بكلّ لسانك ومبلغ علمك ، اجبك إن شاء الله تعالى بعلم لا تختلج فيه الشّكوك ، ولا تهيّجه دنس ريب الزّيغ ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ».
    وانبرى الرجل سائلا :
    كم بين المشرق والمغرب؟

    « مسافة الهواء ».
    ما مسافة الهواء؟
    « دوران الفلك ».
    ما دوران الفلك؟
    « مسيرة يوم للشّمس ».
    صدقت.
    متى القيامة؟
    « عند حضور المنيّة وبلوغ الأجل ».
    صدقت.
    أين بكّة من مكّة؟
    « مكّة أكناف الحرم ، وبكّة موضع البيت ».
    لم سمّيت مكّة؟
    « لأنّ الله تعالى مكّ الأرض ـ أي مدّ الأرض ـ من تحتها ».
    لم سمّيت بكّة؟
    « لأنّها بكّت رقاب الجبّارين ، وأعناق المذنبين ».
    صدقت.
    أين كان الله قبل أن يخلق عرشه؟
    « سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة عرشه على قرب ربواتهم من كرسيّ كرامته ، ولا الملائكة المقرّبون من أنوار سبحات جلاله.
    ويحك! لا يقال : الله أين؟ ولا فيم؟ ولا أيّ ، ولا كيف ».


    صدقت.
    كم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء؟
    « أتحسن أن تحسب؟ ».
    نعم.
    « لعلّك لا تحسن أن تحسب ».
    بلى ، إني أحسن أن أحسب.
    « أرأيت إن صبّ خردل في الأرض حتّى يسدّ الهواء ، وما بين الأرض والسّماء ، ثمّ اذن لك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من مقدار المشرق إلى المغرب ، ومدّ في عمرك ، واعطيت القوّة على ذلك ، حتّى نقلته وأحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الله الأرض والسّماء ، وإنّما وصفت لك عشر عشر العشير من جزء من مائة ألف جزء ، وأستغفر الله من التّقليل والتّحديد ». فبهر الرجل وراح يقول :
    فأنت أصل العلم هادي الهدى
    تجلو من الشّكّ الغياهيبا

    حزت أقاصي كلّ علم فما
    تبصر إن غولبت مغلوبا

    لا تنثني عن كلّ اشكولة
    تبدي إذا حلّت أعاجيبا

    لله درّ العلم من صاحب
    يطلب إنسانا ومطلوبا (1)

    __________________
    (1) بحار الأنوار 10 : 126 ـ 128.

    مع ذعلب
    كان إمام المتقين 7 على المنبر ، وهو يدعو الناس إلى سؤاله قائلا :
    « سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة لو سألتموني عن آية في ليل انزلت أو في نهار ، مكّيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم ... ».
    فانبرى إليه ذعلب ، وكان ذرب اللسان بليغا ، شجاعا فقال : لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لاخجّلنّه اليوم لكم في مسألتي ، فرفع عقيرته قائلا :
    يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟
    فصاح به الإمام :
    « ويلك يا ذعلب لم أكن بالّذي أعبد ربّا لم أره ».
    كيف رأيته؟ صفه لنا؟
    وأخذ الإمام في وصفه لله تعالى قائلا :
    « ويلك ، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
    ويلك يا ذعلب ، إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة ، ولا بالسّكون ،

    ولا بقيام ، قيام انتصاب ، ولا بجيئة ، ولا بذهاب ، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ... » (1).
    إلى آخر ما تفضل به في صفة المبدع العظيم ، الذي لا يخضع لأوصاف الممكنات التي يطرق عليها العدم ، ويؤول أمرها إلى التراب.
    لقد كان وصيّ رسول الله 9 ، وباب مدينة علمه ، متصدّيا لكلّ ما يرد على الإسلام من أوهام فيكشفها ببالغ حججه ، وعظيم برهانه.
    __________________
    (1) بحار الأنوار 10 : 118.

    مناظرته
    مع المنجّمين


    أمّا علم النجوم فإنّه من العلوم القديمة ، وقد ذهب فريق من علماء هذا الفنّ القدامى إلى أنّ الكواكب حيّة مريدة مختارة ، وانّ لها الاستقلال التامّ في جميع مجريات الأحداث ، بمعنى أنّها العلّة التامّة المؤثّرة ، أو أنّها شريكة في التأثير ، وهذا المعنى قد حرّمه الإسلام ولم يجزه ؛ لأنّه صريح وواضح في إنكار الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، وانّ جميع ما يجري في الكون من أحداث يستند إليه ، فالاعتقاد بأنّ المؤثر هي الكواكب مروق من الدين ، قد أفتى فقهاء الإمامية بكفر من يذهب إلى ذلك (1).
    فقد ورد في بعض الأخبار أنّ المنجّم بمنزلة الكاهن وهو بمنزلة الساحر الذي هو بمنزلة الكافر (2).
    وعلى أي حال ، فإنّ الإمام أمير المؤمنين 7 قد أنكر هذا العلم بالمعنى الذي ذكرناه ، وشجب الآثار التي ذكروها له ، وكان من بين ما اثر عنه في ذلك ما يلي :
    __________________
    (1) القواعد للشهيد. جامع المقاصد. بحار الأنوار وغيرها.
    (2) المكاسب وغيرها.


    مع منجّم في بعض أسفاره
    لمّا عزم الإمام 7 على سفر له بادر إليه منجم ، فقال له : إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم ...
    فأنكر عليه الإمام ذلك وقال له :
    « أتزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء وتخوّف من السّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ ، فمن صدّق بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الإعانة بالله في نيل المحبوب ، ودفع المكروه ».
    وأضاف الإمام قائلا :
    « أيّها النّاس ، إيّاكم وتعلّم النّجوم إلاّ ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فإنّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجّم كالكاهن ، والكاهن كالسّاحر ، والسّاحر كالكافر ، والكافر في النّار ، سيروا على اسم الله » (1).
    لقد نهى الإمام 7 عن تعلم النجوم ، فإنها تدعو إلى الضلال ، وانصراف الإنسان نحوها ، واعراضه عن قدرة الله تعالى ومشيئته.
    __________________
    (1) المكاسب 2 : 293 ـ 294.


    مع منجّم آخر
    التقى الإمام 7 مع منجم آخر نهاه عن المسير ، فقال له الإمام :
    « أتدري ما في بطن هذه الدّابّة أذكر أم انثى؟ ».
    فقال المنجم : إن حسبت علمت ...
    فرمقه الإمام بطرفه ، وقال له :
    « من صدّقك على هذا القول ، فقد كذّب القرآن ، قال الله : ( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1).
    ما كان محمّد 9 يدّعي ما ادّعيت ، أتزعم أنّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها صرف عنه السّوء ، والسّاعة الّتي من سار فيها حاق به الضّرّ؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة بالله ، واحوج إلى الرّغبة إليك في دفع المكروه عنه » (2).
    ويستثنى من حرمة تعلم النجوم معرفة الأنواء الجوية التي تعرف بها الأوضاع الفلكية كالخسوف الناشئ عن حيلولة الأرض بين النيرين ، والكسوف الناشئ عن
    __________________
    (1) لقمان : 34.
    (2) وسائل الشيعة 8 : 269 ـ 270.

    حيلولة القمر بين الأرض والشمس ، فيكون القمر مانعا عن رؤية الشمس ، فإنّ تعلّم النجوم من أجل هذه الغاية وما شابهها لا بأس به ولا محذور فيه.
    وبهذا انطوى الحديث عن احتجاج الإمام 7 ومناظراته ، وليست هي جميع ما اثر عنه في هذا الميدان ، فقد حفلت مصادر التأريخ والحديث بالكثير منها ، وقد آثرنا الإيجاز فيها وتركنا الباب مفتوحا للمؤلفين عن الإمام 7.



    المحتويات
    تقديم 5
    احتجاجات الإمام
    11 ـ 38
    احتجاجه على أبي بكر 15
    موقف أبي بكر 29
    احتجاجه على أبي بكر وحزبه 30
    مع عمر 32
    احتجاجه الإمام على المهاجرين 33
    الإمام مع أعضاء الشورى 35
    إذعان الإمام لمصلحة المسلمين 36
    احتجاج آخر للإمام 38
    احتجاجاته على المتمرّدين
    39 ـ 66
    لوعة الإمام من القرشيين 43



    احتجاجاته على طلحة والزبير 47
    مع عائشة 49
    مع طلحة والزبير 50
    مع معاوية 52
    إيفاد جرير إلى معاوية 53
    احتجاجه على معاوية 54
    مع الخوارج 62
    احتجاج الإمام عليهم 62
    مناظرة الإمام معهم 63
    مناظرة اخرى للإمام معهم 64
    مناظرته مع النّصارى
    67 ـ 84
    أسئلة الجاثليق 71
    أسئلة راهب 75
    مع الاسقف 78
    مع قيصر الروم 81
    جواب الإمام 82


    مناظرته مع اليهود
    85 ـ 113
    مع عالم يهوديّ 89
    مع جماعة من اليهود 92
    مع عالم يهودي 95
    مناظرته مع الزّنادقة
    115 ـ 156
    مع زنديق 119
    اجتماع العباد في مواطن 123
    مع ابن الكوّاء 144
    مع رجل 152
    مع ذعلب 155
    مناظرته مع المنجّمين
    157 ـ 163
    مناظراته مع المنجّمين 161
    مع منجّم في بعض أسفاره 162

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    موسوعة الامام علي عليه السلام
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » طب الامام الصادق عليه السلام
    » صلح الامام الحسن عليه السلام مع معاويه الشيخ راضي الياسين
    » الحسين عليه السلام في مواجهة الضلال الأموي وإحياء سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام
    » الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الاموي
    » مناقب علي بن ابي طالب عليه السلام

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: -28- منتدى موسوعة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-
    انتقل الى: