| دفع شبهة التشبيه | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:45 pm | |
| بسم اللّه الرّحمن الرّحيم باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك قال اللّه سبحانه وتعالى: و (يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن: 27](1). قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52] أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة: (كُلُّ شَيْءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ) [القصص: 88] أي إلا هو. وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة يختص باسم زائد على الذات. فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات، وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه، وقال ابن حامد: أثبتنا اللّه تعالى وجها ولا يجوز إثبات رأس. قال: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس. ومنها قوله تعالى: و (لِتُصْنَعَ عَلىٰ عَيْنِي) [طه: 39]، (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنٰا) [هود: 37] (2). أي بمرأى منا، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول أمرنا ونهينا. وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة (3). فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين. __________________ (1) قال الزمخشري في الكشاف: (وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن: 27] ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان. (2) يقول الزمخشري: بِأَعْيُنِنٰا [هود: 37] في موضع الحال بمعنى اصنعها محفوظا وحقيقته ملتبسا بأعيننا كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ه ويقول الرازي في أساس التقديس عند الكلام على العين: لا بد من المصير إلى التأويل وذلك هو أن يحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة، والوجه في حسن هذا المجاز أن من عظمت عنايته بشيء وميله إليه ورغبته فيه كان كثير النظر إليه فجعل لفظ العين التي هي آلة لذلك النظر كناية عن شدة العناية. (3) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري توفي عام أحد عشر وثلاثمائة، يعد في أكابر المحدثين، كان يورع نفسه عن الخوض في مسائل الكلام وينهي أصحابه عنه، ثم اضطره بعض أهل النظر إلى الدخول في هذه المآزم فزلّت قدمه وخرج إلى وجوه غير معقولة سامحه اللّه (ز). وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى اللّه عليه وسلم: «ليس بأعور» (1) وإنما أريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه. ومنها قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] (2) اليد في اللغة بمعنى النعمة والإحسان، ومعنى قول اليهود لعنهم اللّه تعالى: (يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64] أي محبوسة عن النفقة؛ واليد القوة يقولون: له بهذا الأمر يد. وقوله: (بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ) [المائدة: 64] أي نعمته وقدرته(3). وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] أي بقدرتي ونعمتي. وقال الحسن: (يدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10] أي منته وإحسانه، هذا كلام المحققين. وقال القاضي (أبو يعلى) اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين. وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه، وقال: لو لم يكن لآدم عليه الصلاة والسلام مزية على سائر الحيوانات بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال: (بِيَدَيَّ) [ص: 75] ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، ولو كانت القدرة لم تثن. قلنا: بلى قالت العرب ليس لي بهذا الأمر يدان أي ليس لي به قدرة، قال عروة بن حزام: فقالا شفاك اللّه واللّه ما لنا بما ضمنت منك الضلوع يدان __________________ (1) طالع الحديث الخمسين الآتي ترى مزيد تفصيل عن هذا الخبر. (2) يقول الزمخشري: أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له: يداك أوكتا وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك ا. ه وقال الراغب الأصبهاني في مفرداته: قوله تعالى: (مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا) [يس: 71] وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] عبارة عن توليه لخلقه باختراعه الذي ليس إلا له عزّ وجل، وخصّ لفظ اليد ليتصور لنا المعنى إذ هو أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا ليتصور لنا اختصاص المعنى لا لنتصور منه تشبيها، وقيل معناه بنعمتي التي رشحتها لهم، والباء فيه ليس كالباء في قولهم: قطعته بالسكين بل هو كقولهم: خرج بسيفه أي معه سيفه، معناه خلقته ومعه نعمتاي الدنيوية والأخروية اللتان إذا رعاهما بلغ بهما السعادة الكبرى. وقال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: (لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] أي بنفسي من غير توسط كأب وأم. (3) في أساس التقديس لمجدد القرن السادس الفخر الرازي: والسبب في حسن هذا المجاز أن كمال حال هذا العضو إنما يظهر بالصفة المسماة بالقدرة فلما كان المقصود من اليد حصول القدرة أطلق اسم القدرة على اليد، ولأن آلة إعطاء النعمة اليد فإطلاق اسم اليد على النعمة إطلاق لاسم السبب على المسبب. وقولهم: ميّزه بذلك عن الحيوان فقد قال تعالى: (خَلَقْنٰا لَهُمْ مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً) [يس: 71] ولم يدل على تمييز الأنعام على بقية الحيوان. قال تعالى: و (السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ) [الذّاريات: 47] أي بقوة ثم قد أخبر أنه قد نفخ فيه من روحه ولم يرد الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة إذ لا يليق بالخالق جلّ جلاله سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، ولا له أعضاء وجوارح يفعل بها لأنه تعالى الغني بذاته؛ فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام. وقد ظنّ بعض الثلاثة أن اللّه تعالى يمسّ حتى توهموا أنه مس طينة آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أن من جملة مخلوقاته جسما يقابل جسما فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه وتعالى جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (59) [آل عمران: 59]. ومنها قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] وقوله تعالى: (تَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِي وَلاٰ أَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِكَ) [المائدة: 116] قال المفسرون: ويحذركم اللّه إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته. وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا وهي صفة زائدة على ذاته، وهذا قول لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها. ومنها قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى: 11](1). ظاهر الكلام أن __________________ (1) يقول الزمخشري في الكشاف: قالوا مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره: قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ومنه قولهم: قد أيفعت لذاته وبلغت أترابه يريدون إيفاعه وبلوغه اه. وقال الراغب: إن الندّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد اللّه نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى: 11] وأما الجمع بين الكاف والمثل فقد قيل ذلك لتأكيد النفي تنبيها على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف فنفى بليس الأمرين جميعا وقيل المثل هاهنا بمعنى الصفة ومعناه: ليس كصفته صفة تنبيها على أنه وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر. له مثلا فليس كمثله شيء وليس كذلك، إنما معناه عند أهل اللغة أن يقام المثل مقام الشيء نفسه يقول الرجل مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى ليس كهو شيء. ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ) [القلم: 42](1). قال جمهور العلماء: يكشف عن شدة وأنشدوا: وقامت الحرب على ساق(2). وقال آخر: وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجدّ فيه شمّر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وثعلب واللغويين، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «أن اللّه عزّ وجل يكشف عن ساقه»(3). وهذه إضافة إليه معناها يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى يكشف عنها يزيلها، وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه وإنما ذلك من أمر شديد. وقد ذكر أبو عمر الزاهد: أن الساق بمعنى النفس، قال: ومنه قول علي رضي اللّه عنه لما قالت الشراة لا حكم إلا للّه تعالى فقال: لا بد من محاربتهم ولو __________________ (1) ومما قاله الرازي في تفسير هذه الآية: يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ لا يدل إلا على ساق فأما إن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه. وفي محاسن التأويل للعلامة الجمال القاسمي رحمه اللّه: وقال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته استعارة من ساق الشجر. (2) قال البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) عند الاستشهاد بهذا الكلام من الشعر: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ) [القلم: 42] فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب. (3) في صحيح البخاري: ثنا آدم ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: ووقع في هذا الموضع «يكشف ربنا عن ساقه» وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله عن ساقه نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة بن زيد بن أسلم بلفظ (يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ) [القلم: 42] قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة اه. وقد أخذ ابن شاقلا على البخاري إخراجه حديث الساق في صحيحه لأنه من رواية ابن أبي هلال ويراه ليس من شرطه لضعفه. وقال ابن حزم أيضا: ابن أبي هلال ليس بالقوي قد ذكره بالتخليط يحيى وأحمد بن حنبل (ز). تلفت ساقي، فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرون للّه سجّدا ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ (42)) [القلم: 42]». وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن الساق صفة ذاتية وقال: مثله يضع قدمه في النار. وحكي عن ابن مسعود قال: يكشف عن ساقه اليمنى فتضيء من نور ساقه الأرض، قلت: وذكره الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكره عن ابن مسعود محال ولا يثبت للّه تعالى صفة بمثل هذه الخرافات، ولا توصف ذاته بنور شعاعي تضيء به الأرض، واحتجاجه بالإضافة ليس بشيء لأنه إذا كشف عن شدته فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن معنى يكشف يظهر وإنما المعنى يزيل ويرفع. وقال ابن حامد: يجب الإيمان بأن للّه سبحانه وتعالى ساقا صفة لذاته فمن جحد ذلك كفر. قلت: لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحا فكيف من ينسب إلى العلم فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردون الأمر إلى اللغة وهؤلاء أثبتوا ساقا للذات وقدما حتى يتحقق التجسيم والصورة. ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4](1). قال الخليل بن __________________ (1) يقول الآلوسي في تفسيره: والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في (الأسماء والصفات) بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وما روي عن مالك رضي اللّه عنه أنه سئل كيف استوى فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: «غير مجهول» أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه الاستقرار وهو غير مجهول. وقال في موضع آخر: وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن اللّه تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (19)) [القيامة: 19] ولنبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه اللّه مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون اه. وفيه توسط في المسألة، وقد توسط ابن الهمام في (المسايرة) وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصر بنا ابن عابدين الشامي في (رد المحتار) توسطا أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله: وجواب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه، وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه، وإذا خيف أحمد: العرش السرير وكل سرير لملك يسمى عرشا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام، قال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف: 100] وقال تعالى: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا) [النّمل: 38]، اعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه: منها الاعتدال. قال بعض بني تميم: «فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم» أي اعتدلا، والاستواء تمام الشيء. قال اللّه تعالى: (وَلَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوىٰ) [القصص: 14]، والاستواء القصد إلى الشيء. قال اللّه تعالى: (ثُمَّ اسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشيء. قال الشاعر: إذا ما غزا قوما أباح حريمهم وأضحى على ما ملكوه قد استوى وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء، وجميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل. وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد: الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود(1). قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن اللّه تعالى على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه على العرش، وقال: والنزول انتقال. __________________ ـ على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله: فلما علونا واستوينا عليهم جعلناهم مرعى لنسر وطائر وقوله: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق (ز) (1) قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به (أي بالقدم النوعي) في العرش اه وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن اللّه استوى على العرش جلوسا، فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن اللّه أزلي فمكانه أزلي، وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي أن اللّه لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلا وأبدا ولننظر أين يكون اللّه بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا، فسبحان اللّه ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضى لنفسه، ولست أعرف هل قال ابن تيمية بشيء من ذلك على التحقيق، وكثيرا ما نقل عنه ما لم يقله اه (ز).
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:47 pm | |
| وعلى ما حكي تكون ذاته أصغر من العرش، فالعجب من قول هذا ما نحن مجسمة. وقيل لابن الزاغوني: هل تجددت له صفة لم تكن بعد خلق العرش؟ قال: لا، إنما خلق العالم بصفة التحت فصار العالم بالإضافة إليه أسفل، فإذا ثبتت لإحدى الذاتين صفة التحت ثبت للآخر استحقاق صفة الفوق، قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال: (اِسْتَوىٰ) [البقرة: 29] علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال: ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها. قلت: هذا رجل لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقرّ بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما تحيز، ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه، قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه. فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدثه، وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات. وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتا، والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات، فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تحس بالأجرام. وأما قولهم: «خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها» قلنا: ذاته المقدسة لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا. واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ) [الأنعام: 18] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إما أن تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان(1). ثم إنه كما قال تعالى: (فَوْقَ عِبٰادِهِ) [الأنعام: 18] قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) [الحديد: 4] فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر(2). وذهبت طائفة إلى أن اللّه تعالى على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية. * * * فصل: فإن قيل فقد أخرج في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: فعلا به إلى الجبار تعالى فقال وهو في مكانه: «يا رب خفّف عنا». الجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة انفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى اللّه تعالى إنما هو مكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في __________________ (1) في التفسير الكبير للفخر الرازي: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق، إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة لأحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون في حيز معين (ز). (2) يقول الفخر الرازي في أساس التقديس: إن ظاهر قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16] وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ) [الحديد: 4] وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلٰهٌ) [الزّخرف: 84] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآيات لتبقى الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس اه (ز). داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه(1) ؛ وقد قال القاضي (أبو يعلى) في كتابه المعتمد: إن اللّه عزج وجل لا يوصف بالمكان. ومن الآيات قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمٰاءِ) [الملك: 16](2). قد ثبت قطعا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق. ومنها قوله تعالى: (يٰحَسْرَتىٰ عَلىٰ مٰا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّٰهِ) [الزّمر: 56] (3). أي في طاعته وأمره لأن التفريط لا يقع إلا في ذاته وأما الجنب المعهود من ذي الجوارح فلا يقع فيه تفريط. __________________ (1) زاد البيهقي في كتابه الأسماء والصفات: (وهي الجنة). (2) قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: إن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون اللّه تعالى شيئا حقيرا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال. وقال الزمخشري ووافقه الفخر: (من في السماء) في وجهان أحدهما من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه، والثاني أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل إذا رأيته يركب بعض المعاصي، وقال الرازي أيضا: والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان اللّه وتعظيم قدرته كما قال: (وَهُوَ اللّٰهُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام: 3] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، وقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله (من في السماء) هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام (ز). (3) يقول الزمخشري في كشافه: والجنب الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال سابق البربري: أما تتقين اللّه في جنب وامق له كبد حرّى عليك تقطع وقال السيد محمود الآلوسي في تفسيره (روح المعاني): وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزّ وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي، ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعوّل على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد اللّه وحفصة (في ذكر اللّه) ه. وقال العلامة القاسمي في تفسيرها: أي في جانب أمره ونهيه إذ لم أتبع أحسن ما أنزل. وقال ابن حامد: نؤمن بأن للّه سبحانه وتعالى جنبا بهذه الآية. فوا عجبا من عدم العقول، إذا لم يتهيأ التفريط في جنب مخلوق فكيف يتهيأ في صفة الخالق جلّ جلاله، وأنشد ثعلبة: «خليليّ كفا واذكرا اللّه في جنبي» أي في أمري. ومنها قوله تعالى: (فَنَفَخْنٰا فِيهِ مِنْ رُوحِنٰا) [التّحريم: 12](1). قال المفسرون: أي من رحمتنا، وإنما نسب الروح إليه لأنه بأمره كان. ومنها قوله تعالى: (يُؤْذُونَ اللّٰهَ) [الأحزاب: 57] (2). أي يؤذون أولياءه كقوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] أي أهلها. وقال صلى اللّه عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» وقال الشاعر: أنبئت أن النار بعدل أوقدت واستبّ بعدك يا كليب المجلس ومنها قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمٰامِ) [البقرة: 210] (3). أي بظلل وكذلك قوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ) [الفجر: 22] ذكر القاضي __________________ (1) قال الشهاب الآلوسي: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر: 29] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري. (2) قال الآلوسي: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57] أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له، وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد اللّه مغلولة، والمسيح ابن اللّه، والملائكة بنات اللّه، والأصنام شركاؤه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. (3) ومما قاله جار اللّه الزمخشري: ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى أن يأتيهم اللّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فإن اللّه عزيز)، فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب اللّه قوله تعالى: (وَبَدٰا لَهُمْ مِنَ اللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزّمر: 47] اه وساق الفخر الرازي في هذا المعنى فصلا مشبعا ـ شأنه في تفسير آيات الصفات ـ إلى أن قال: إن قوله: (يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ) [البقرة: 210] وقوله: (وَجٰاءَ رَبُّكَ) [الفجر: 22] إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل: 33] فصار هذا المحكم مفسرا لذلك (أبو يعلى) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال في قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ) [البقرة: 210] قال: المراد به قدرته وأمره، قال: وقد بيّنه في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل: 33] ومثل هذا في التوراة «وجاء ربك» قال: إنما هي قدرته. قال ابن حامد: وهذا خطأ إنما ينزل بذاته بانتقال. قلت: وهذا كلام في ذات اللّه تعالى بمقتضى الحس كما يتكلم في الأجسام. قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85] قال: من كفّ خلقه عن السؤال عن مخلوق فكفهم عن الخالق وصفاته أولى وأنشدوا: كيفية النفس ليس المرء يدركها فكيف كيفية الجبار في القدم * * * باب ذكر الأحاديث التي سموها أخبار الصفات اعلم أن في الأحاديث دقائق وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة في نقلها وتارة في كشف معناها وسنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى: الحديث الأول: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة __________________ (3) ـ المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض، وقال تعالى بعده: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة: 210] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: (يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ) [البقرة: 210] أي يأتيهم أمر اللّه، وأنهى كلامه بقوله: والذي هو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ الْبَيِّنٰاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)) [البقرة: 209] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمٰامِ وَالْمَلاٰئِكَةُ) [البقرة: 210]، حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اللّٰهَ جَهْرَةً [البقرة: 55]، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على اللّه المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد عليه الصلاة والسلام. رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «خلق اللّه تعالى آدم عليه الصلاة والسلام على صورته»(1). للناس في هذا مذهبان: أحدهما السكوت عن تفسيره، والثاني الكلام في معناه. واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء إلى من تعود على ثلاثة أقوال: أحدها: تعود إلى بعض بني آدم، قال: وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبّح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته». وإنما خصّ آدم بالذكر لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذى عليها من بعده، وكأنه نبّه على أنك سببت آدم وأنت من ولده، وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب(2). ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى اللّه عزّ وجل لقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسبه إليه سبحانه كان تشبيها صريحا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته». القول الثاني: أن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصلح أن تصرف إلى اللّه عزّ وجل، لقيام الدليل أنه تعالى ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم. ومعنى الحديث أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما، لم __________________ (1) يقول الراغب الأصفهاني: الصورة أراد بها ما خص الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه، وإضافته إلى اللّه سبحانه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك، وذلك على سبيل التشريف له كقوله بيت اللّه وناقة اللّه ونحو ذلك: ونفخت فيه من روحي. (2) مما أورده الرازي في تأويل هذا الخبر قوله: إن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريبا من السماء فالنبي عليه السلام أشار إلى إنسان معين (وهو المضروب) وقال: «إن اللّه خلق آدم على صورته» أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة (ز). ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه(1). هذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه. القول الثالث: أنها تعود إلى اللّه تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما أن تكون صورة ملك، لأنها فعله وخلقه فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما التشريف بالإضافة كقوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ) [الحجّ: 26] والثاني ابتدعها لا على مثال سبق. والقول الثاني أن تكون الصورة بمعنى الصفة تقول «هذا صورة هذا الأمر» أي صفته، ويكون خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، فميّزه بذلك عن جميع الحيوانات، ثم ميّزه على الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له، والصورة هاهنا معنوية لا صورة تخاطيط. وقد ذهب أبو محمد بن قتيبة(2) في هذا الحديث إلى مذهب قبيح فقال: «للّه تعالى صورة لا كالصور فخلق آدم عليها» وهذا تخليط وتهافت، لأن معنى كلامه أن صورة آدم كصورة الحق تعالى. وقال القاضي (أبو يعلى) يطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته. وهذا تخليط لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف. وقول القائل «لا كالصور» نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول «جسم لا كالأجسام» فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال «لا كالأجسام» نقض ما قال. * * * __________________ (1) ومن الوجوه التي سردها الفخر في هذا المقام قوله: أنه تعالى لما عظم أمر آدم بجعله مسجود الملائكة، ثم إنه أتى بتلك الزلة فاللّه تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره فإن نقل إن اللّه تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاوس وغير تعالى خلقهما، مع أنه لم يغير خلقة آدم بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا عن عذاب المسخ ه. وذهب البيهقي هذا المذهب (ز). (2) هو صاحب التصانيف أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة أحد أئمة الأدب، إخباري، قليل الرواية، قد يعتمد في التشبيه على ما يرويه من كتب أهل الكتاب، يتهم بالنصب، كذبه الحاكم ووثقه غيره، مات عام ست وسبعين ومائتين (ز). الحديث الثاني: روى عبد الرّحمن بن عياش عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفيّ فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات والأرض». قال الإمام أحمد: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة وقد روي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أتاني آت في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض». وهذه أحاديث مختلفة وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق(1). وأن الإنسان يرى كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه على ما ذكرنا، وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال عليّ والرضا عني، وإن قلنا: ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى رأيته وأنا على أحسن صورة(2). وروى ابن حامد من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لما أسري بي رأيت الرّحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ وعن عن»(3). وصفه لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته وإذا كأنه عروس حين كشف عنه __________________ (1) يقول الحافظ ابن حجر في مثل هذا المقام: ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: «إن رؤيا الأنبياء وحي» فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير أه (ز). (2) بقي على المؤلف أن يتكلم على عجز الحديث، ونحن ننقل عن (أساس التقديس للفخر الرازي) ما بقي بالغرض: وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففي وجهان: الأول: المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه. الثاني: أن يكون المراد من اليد النعمة، وأما قوله: «بين كتفي» فإن صحّ فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا، والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله عليه السلام في آخر الحديث «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» اه (ز). (3) هكذا في الأصل المحفوظ لدينا.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:49 pm | |
| حجابه مستو على عرشه وهذا الحديث كذب قبيح ما روي قط لا في صحيح ولا في كذب فأبعد اللّه تعالى من عمله، فقد كنا نقول ذاك منام فيذكر هذا ليلة الإسراء كافأهم اللّه عزّ وجل وجزاهم النار، يشبهون اللّه سبحانه وتعالى بعروس ما كتب هذا مسلم، وأما حديث البرد في الحديث الماضي فإن البرد عرض لا يجوز أن ينسب إلى اللّه عزّ وجل. وقد ذكر القاضي (أبو يعلى) في كتابه الكناية (رأيت ربي في أحسن صورة) أي في أحسن موضع. * * * الحديث الثالث: روت أم الطفيل امرأة أبيّ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عزّ وجل في المنام في أحسن صورة شابا منورا في خضر، في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب. هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد. قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسئل الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء» وهذا مروي. من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد، وكان يدس في كتبه هذه الأحاديث لا ثبوت لها ولا يحسن أن يحتج بها. وقد أثبت القاضي (أبو يعلى) صفات للّه تعالى فقال: قوله شاب وأمرد وجعد وقطط والفراش والنعلان والتاج، قال: ثبت ذلك تسمية لا نعقل معناها. ومن يثبت بالمنام وما صحّ نقله صفات! وقد عرفنا معنى الشاب الأمرد، ثم يقول «ما هو كما نعلم» كمن يقول قام فلان وما هو بقائم، وقعد وما هو بقاعد، قال ابن عقيل: هذا الحديث نجزم بأنه كذب ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا وصار هذا كما لو أخبرنا جماعة من المعدلين بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة الخياط فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم. * * * الحديث الرابع: روي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليلة أسري بي رأيت كل شيء من ربي حتى رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ» هذا يرويه أبو القاسم محمد بن اليسع عن قاسم بن إبراهيم، قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة فيقول: قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشيء، قال الدار قطني: هو كذاب كافأ اللّه تعالى من عمل هذا. * * * الحديث الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يجمع اللّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم اللّه تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه تعالى منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا». وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيقال هل بينكم وبينه آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن»(1). اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى لا يجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف؛ قال أبو سليمان الخطابي: معنى فيأتيهم اللّه تعالى أي يكشف الحجاب لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي لم يكن شوهد قبل. وقال بعض العلماء: يأتيهم بأهوال القيامة وصور الملائكة(2). ولم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقول: إذا جاء ربنا عرفناه أي إذا أتانا نعرفه من لطفه وهي الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد المهولة فيسجدون شكرا؛ وقال بعضهم: صورة يمتحنهم بها كما يبعث الدجال فيقولون نعوذ باللّه تعالى منك. وفي حديث أبي موسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الناس يقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرّون سجّدا» قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط والأشكال وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما من الأدلة القطعية قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشّورى: 11] ومن الأدلة العقلية __________________ (1) لقدم الكلام على هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سٰاقٍ) [القلم: 42]. (2) باعتبار (في) بمعنى الباء، ونظيره قول ابن عباس في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمٰامِ) [البقرة: 210] أي بظلل من الغمام على ما نقله الفخر الرازي في كتابه (أساس التقديس) (ز). أنه لو كان جسما كانت صورته عرضا ولو كان حامل الأعراض جاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع ولو كان جسما مع قدمه جاز قدم أحدنا. فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل صورة يليق إضافتها إليه وما ذلك إلا الحال الذي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون: كيف صورتك مع فلان، وفلان على صورة من الفقر؛ والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونها اللطف فيكشف عن الشدة، والتغير إنما يليق بفعله فأما ذاته فتعالت عن التغير، نعوذ باللّه أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة أن الصورة ترجع إلى ذاته وأن ذلك تجويز التغير على صفاته فخرجوه في صورة إن كانت حقيقة فذاك استحالة وإن كان تخيلا فليس ذاك هو إنما يريهم غيره. * * * الحديث السادس: روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا شخص أغير من اللّه ولذلك حرّم الفواحش ولا شخص أحب إليه المدحة من اللّه». لفظة «الشخص» يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم «لا شيء أغير من اللّه» والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك «شخص» من تغيير الرواة وقد يكون المعنى ليس منكم أيها الأشخاص أغير من اللّه لأنه لما اجتمع الكل بالذكر سمّى بأسمائهم والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا ومثل هذا قول ابن مسعود: وما خلق من جنة ولا نار أعظم من آية الكرسي؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: الخلق يرجع إلى الجنة والنار لا إلى القرآن ويجوز أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس كقوله تعالى: (مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبٰاعَ الظَّنِّ) [النّساء: 157] وأما الغيرة فقد قالت العلماء: كل من غار من شيء أسندت كراهته له، فلما حرّم الفواحش ووعد عليها وصفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغيرة. * * * الحديث السابع: روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض»(1). __________________ (1) يقول السيوطي في الجامع الكبير: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي في السنن والطبراني في الكبير وابن سعد. وإنما أضيفت القبضة لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ) [القمر: 37] وقد روى محمد بن سعد في كتاب الطبقات أن اللّه تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء: 61]. * * * الحديث الثامن: روى سلمان قال: إن اللّه لما خمّر طينة آدم وضرب بيديه فيه فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى ثم خلط بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. وهذا مرسل، وقد ثبت بالدليل أن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شيء، وإن صح فيضرب مثلا لما جرت به الأقدار، وقال القاضي (أبو يعلى): تخمير الطين وخلط بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم وهذا التشبيه المحض. * * * الحديث التاسع: روى عبيد بن حنين قال: بينا أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإنه قد أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري وقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان اللّه يا ابن أم أوجعتني، قال ذلك أردت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا» قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا(1). قال عبد اللّه بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في دواوين الشريعة المعتمد عليها؛ وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل المدينة. وفي __________________ (1) روى الحافظ البيهقي هذا الخبر في (الأسماء والصفات) وقال: فهذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه وفليح بن سليمان ـ أحد رواته ـ مع كونه من شرط البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح وهو عند الحفاظ غير محتج به، عن يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه، عنه يقول: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح ليس بالقوي. قال الشيخ: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم اه. وذكر أيضا علة عدم اجتماع عبيد بقتادة (ز). الحديث علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، قال الإمام أحمد: ثم لو صحّ طريقه احتمل أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم قتادة إنكاره. ومن هذا الفن حديث رويناه أن الزبير سمع رجلا يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه قال الزبير: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعان أن نحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة فإن أهل الكتاب قالوا: إن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض استراح فنزل قوله تعالى: (وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ) [ق: 38] فيمكن أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى ذلك عنهم ولم يسمع قتادة أول الكلام. وقد روى عبد الرّحمن بن أحمد في كتاب السنة قال: رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة؟ فقال: قاتل اللّه اليهود، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ وَمٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ (38)) [ق: 38] فعرفت ما عنى به فأمسكت. قلت: وإنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود. وقد صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يستلقون ويضعون رجلا على رجل، وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له واللّه أعلم. * * * الحديث العاشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أن رجلا من المشركين سبّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وقتل الرجل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما تعجبون من نصر اللّه تعالى ورسوله لقي اللّه تعالى متكئا فقعد له». هذا حديث مقطوع بعيد عن الصحة، ولو كان له وجه كان المعنى: فأقبل اللّه تعالى عليه وأنعم. * * * الحديث الحادي عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض»(1). قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات اللّه عزّ وجل لا تتبعض ولا يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال، وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم هم الذين قدمهم اللّه لها من شرار خلقه وأثبتهم لها، وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله: «وأما الجنة فينشئ لها خلقا». ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما فالقدم جمع قادم، ومن يرويه بلفظ (الرجل) فإنه يقال: (رجل من جراد) فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد فيسرعون التهافت فيها. وقال القاضي (أبو يعلى): القدم صفة ذاتية، قال ابن الزاغوني: يقول إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. وهذا إثبات تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات. ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات(2). وبوّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل وإن رغمت المعتزلة، ثم قال: قال اللّه تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهٰا) [الأعراف: 195] فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام. قال ابن عقيل: تعالى اللّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها، ثم إنه أليس يعمل في النار أمر وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ويعالجها بصفة من صفاته وهو القائل: (كُونِي بَرْداً وَسَلاٰماً) [الأنبياء: 69] فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك، وقد صرح __________________ (1) يقول جار اللّه الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث): وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر اللّه فيكفها عن طلب المزيد فترتدع ه. وفي أساس البلاغة: من المجاز «فيضع قدمه عليها» أي فيسكنها ويكسر سورتها كما يضع الرجل قدمه على الشيء المضطرب فيسكنه. (2) وهو الكتاب الذي يسميه (كتاب التوحيد)، والإمام فخر الدين الرازي يقول عنه: (وهو في الحقيقة كتاب الشرك) (ز). بتكذيبهم فقال تعالى: (لَوْ كٰانَ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً مٰا وَرَدُوهٰا) [الأنبياء: 99] فكيف يظن بالخالق أن يردها، تعالى اللّه عن تجاهل المجسّمة. * * * الحديث الثاني عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار»(1). قال أبو عمر الزاهد: الجبار هاهنا الطويل، يقال نخلة جبارة(2). قال القاضي (أبو يعلى) نحملها على ظاهرها، والجبار هو اللّه عزّ وجل. قلت: وا عجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد! أو يجوز أن يقال: إن الذراع اثنان وأربعون مرة حتى يبلغ جلد الكافر ويضاف إلى الذات القديمة! تعالى اللّه علوا كبيرا. * * * الحديث الثالث عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود عليه الصلاة والسلام ذنبه فيقول اللّه تعالى كن أمامي فيقول يا رب ذنبي ذنبي، فيقول كن خلفي فيقول يا رب ذنبي فيقول له خذ بقدمي، وفي لفظ عن ابن سيرين قال: إن اللّه تعالى ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه. والعجب من إثبات ذلك للحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين وما تصح عنهم ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب كما يذكر وهب بن منبه؛ قال القاضي (أبو يعلى) نحمله على ظاهره لأننا لا نثبت قدما وفخذا هو جارحة. واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق وقدم ووجه ويدين وأصابع وخنصر وإبهام وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح. __________________ (1) يقول الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وأحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا، والترمذي عن أبي هريرة (بألفاظ متقاربة). (2) قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) في كلامه على هذا الحديث: ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك. قال اللّه تعالى: (وَمٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ) [ق: 45] أي بملك مسلّط والجبابرة الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه. وهل يجوز لعاقل أن يثبت للّه تعالى خلفا وأماما وفخذا! ما ينبغي أن نحدّث هؤلاء لأنا قد عرفنا الفخذ فيقال: ليس بفخذ والخلف ليس بخلف، ومثل هؤلاء لا يحدثون فإنهم يكابرون العقول كأنهم يحدثون الأطفال. * * * الحديث الرابع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «يضحك اللّه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة» وفي أفراد مسلم من حديث ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبر عن آخر من يدخل الجنة وضحك، فقيل: مم تضحك؟ فقال: «من ضحك رب العالمين». اعلم أن الضحك له معان ترجع إلى معنى البيان والظهور وكل من أبدى عن أمر كان مستورا قيل قد ضحك، يقال: «ضحكت الأرض بالنبات» إذا ظهر فيها وانفتق عن زهره، كما يقال «بكت السماء» قال الشاعر: كل يوم بأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء وكذلك الضحك الذي يعتري البشر إنما هو انفتاح الفم عن الأسنان، وهذا يستحيل على اللّه سبحانه وتعالى فوجب حمله على معنى أبدى اللّه تعالى كرمه وفضله. ومعنى «ضحكت لضحك ربي» أبديت عن أسناني بفتح فمي لإظهار ربي كرمه وفضله. وقد روي في حديث موقوف «ضحك حتى بدت لهواته وأضراسه» ذكره الخلال في كتاب السنة. وقال المروزي: قلت لأبي عبد اللّه: ما تقول في هذا الحديث؟ قال: «يشفع» ثم يقول: على تقدير الصحة يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون ذلك راجعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كأنه ضحك حين أخبر بضحك الرب جلّ جلاله حتى بدت لهواته وأضراسه وهذا هو الصحيح لو ثبت الحديث؛ والثني أن يكون تجوزا عن كثرة الكرم وسعة الرضا كما جوّز بقوله: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة». قال القاضي (أبو يعلى) لا يمتنع الأخذ بظاهر الأحاديث وإمرارها على ظواهرها من غير تأويل. قلت: وا عجبا قد أثبت للّه تعالى صفات بأحاديث آحاد وألفاظ لا تصح وقد أثبت الأضراس، فما عنده من الإسلام خبر. * * * الحديث الخامس عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن عبد اللّه بن عمر موقوفا أنه قال: «خلق اللّه تعالى الملائكة من نور الذراعين والصدر». وقد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا للّه عزّ وجل. وهذا قبيح لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات القديم! هذا أقبح مما ادعاه النصارى. * * * الحديث السادس عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن من ربه فيضع عليه كنفه فيقول تعرف ذنب كذا». قال العلماء: يدنيه من رحمته ولطفه، قال ابن الأنباري: كنفه حياطته وستره، يقال: قد كنف فلان فلانا إذا حاطه وستره وكل شيء ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأن يستر صاحبه. قال القاضي (أبو يعلى) يدنيه من ذاته. وهذا قول من لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى ولا يعلم أنه لا يجوز عليه الدنو الذي هو مسافة. وكذلك قوله: «إنه ليدنو يوم عرفة» أي يقرب بلطفه وعفوه. * * * الحديث السابع عشر: روى مسلم في أفراده من حديث معاوية بن الحكم قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة فصككتها صكة، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعظم ذلك عليّ فقلت: ألا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فقال لها: «أين اللّه تعالى؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: رسول اللّه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اعتقها فإنها مؤمنة». قلت: قد ثبت عند العلماء أن اللّه تعالى لا تحويه السماء ولا الأرض ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ جلاله عندها. * * * الحديث الثامن عشر: رواه أبو رزين قال: قلت: يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: «كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء»(1). __________________ (1) رواه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير في تهذيب الآثار والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة (جمع الجوامع للسيوطي). العماء السحاب، واعلم أن الفوق والتحت يرجعان إلى السحاب لا إلى اللّه تعالى و «في» بمعنى فوق، والمعنى: كان فوق السحاب بالتدبير والقهر. ولما كان القوم يأنسون بالمخلوقات سألوا عنها، والسحاب من جملة خلقه، ولو سئل عما قبل السحاب لأخبر أن اللّه تعالى كان ولا شيء معه، كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «كان اللّه سبحانه وتعالى ولا شيء معه» ولسنا نختلف أن الجبار تعالى لا يعلوه شيء من خلقه بحال وأنه لا يحل في الأشياء بنفسه ولا يزول عنها، لأنه لو حلّ بها كان منها ولو زال عنها لنأى عنها .. * * * الحديث التاسع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له». روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول إنه يستحيل على اللّه عزّ وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين: أحدهما: المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد: 25] وإن كان معدنه في الأرض، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ) [الزّمر: 6] ومن لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في الجمل. والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل وهذا لا يجوز على اللّه عزّ وجل. قال ابن حامد: هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على اللّه تعالى. وقال القاضي (أبو يعلى): النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال. وهذا مغالط ومنهم من قال يتحرك إذا نزل. وما يدري أن الحركة لا تجوز على اللّه تعالى. وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه(1). ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفته كل ليلة تتجدد(2). وصفاته قديمة كذاته.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:51 pm | |
| كذب عليه(1). ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفته كل ليلة تتجدد(2). وصفاته قديمة كذاته. * * * الحديث العشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي فقال: إني مجهود، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من يضيفه هذه الليلة؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى امرأته فقال: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، فقال: فعلليهم بشيء إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «لقد عجب اللّه تعالى من صنيعكما بضيفكما الليلة». وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «عجب اللّه من قوم جر بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة». قال العلماء: العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان مما لا يعلمه فيستعظمه وهو لا يليق بالخالق جلّ جلاله، لكن معناه: عظم قدر ذلك الشيء عند اللّه لأن __________________ (1) حكى ذلك أبو يعلى في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري، وهو كما قال المصنف نقل مفترى. وعجيب من ابن تيمية كتبه في معقوله ـ غير منكر ـ ما يرويه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه ... يتكلم ويتحرك .. اه. ونقل أيضا عن نقض الدارمي ـ ساكتا أو مقرا ـ الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة أه (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم ه. (2) مما يقوله ابن حزم الظاهري في حديث النزول: هذا إنما هو فعل يفعله اللّه تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة تقول: نزل فلان عن حقه لي بمعنى وهبه لي وتطوّل به علي، ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علق التنزل المذكور بوقت محدود وصحّ أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ، وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البتة وقد بيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أن ذكر عليه السلام أن اللّه يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق، وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدّمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم اه (ز). المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده، ومعنى السلاسل أكرهوا على الطاعة التي بها يدخلون، وقال ابن الأنباري: معنى عجب ربك: زادهم إنعاما وإحسانا فعبر في هذا الحديث بالعجب عن ذلك. * * * الحديث الحادي والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «للّه أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها». قال المصنف: لما كان مسرورا بشيء راضيا قيل له فرح، والمراد الرضا بتوبة التائب، ولا يجوز أن يعتقد في اللّه سبحانه وتعالى التأثر الذي يوجد في المخلوقين، فإن صفات الحق تعالى قديمة لا تحدث له صفة. * * * الحديث الثاني والعشرون: روى مسلم في أفراده من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن اللّه تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»(1). قوله: «حجابه النور» ينبغي أن يعلم أن هذا الحجاب للخلق عنه لأنه لا يجوز أن يكون محجوبا، لأن الحجاب يكون أكبر مما يستره وكما أنه لا يجوز أن يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء لا يصح أن يكون لذاته نهاية وإنما المراد أن الخلق محجوبون عنه كما قال تعالى: (كَلاّٰ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (15) [المطفّفين: 15] وأما السبحات فجمع سبحة ويقال إن السبحة جلال وجهه ومنه قوله: «سبحان اللّه» إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمنع إطلاق حجاب من دون اللّه تعالى لا على وجه الحد والمحاذاة. وهذا كلام مختلط يرضى به العوام. * * * __________________ (1) يقول النووي في شرح صحيح مسلم: والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته (ز). الحديث الثالث والعشرون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة». قوله: «في رمال الكافور» إشارة إلى الحاضرين ثمّ في رمال الكافور وأقربهم منه أي أحظاهم عنده. وفي حديث آخر: «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرّحمن». وقال بعضهم: «يمين العرش» وفي حديث سوق الجنة: «ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره اللّه محاضرة» ويروى خاصره بالخاء المعجمة. وهذا يرويه يوسف بن عبد اللّه وهو خطأ والمخاصرة المصافحة. وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع أن يكون الحق تعالى في رمال الكافور. فقد أقرّ بالحصر، ثم قال: لا على وجه الانتقال. وهذا تلاعب، ثم قال: ولا يمتنع قربهم من الذات، وهذا يضيع معه الحديث، واستدل بقوله: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه تعالى» وقال: الخلوة عبارة عن القرب ويجوز القرب من الذات. وقد سبق ردّ هذا. * * * الحديث الرابع والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع، وفي لفظ والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91]. قلت: وظاهر ضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم الإنكار(1) ، واليهود مشبهة، ونزول الآية دليل على إنكار الرسول صلى اللّه عليه وسلم عليهم، وفي معنى هذا الحديث قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف يشاء» ولما كان القلب بين إصبعين ذليلا مقهورا دلّ هذا على أن القلوب مقهورة لمقلبها. وقال القاضي (أبو يعلى): غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. وهذا كلام __________________ (1) يستبعد ابن خزيمة ـ وهو ممن وقع في خطأ التشبيه ـ أن يكون ضحك الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنكارا، وقد نقض الحافظ ابن حجر زعمه هذا في الفتح (ز). مخلط لأنه إما أن يثبت جوارح وإما أن يتأولها. وأما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح ثم يقول: ليست أبعاضا. فهذا كلام قائم قاعد ويضيع الخطاب لمن يقول هذا. * * * الحديث الخامس والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يطوي اللّه عزّ وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ...»(1). هكذا رواه مسلم وهي أتم الروايات؛ وقد ثبت بالدليل القاطع أن يد الحق سبحانه وتعالى ليست جارحة وأن قبضته الأشياء ليست مباشرة ولا له كف، وإنما قربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأفهام بما يدركه الحس، وأما رواية الشمال فضعيفة بالمرة، وقد صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وكلتا يديه يمين مباركة»(2). وهذا يوهن ذكر الشمال. الحديث السادس والعشرون: رواه الإمام أحمد رحمه اللّه في مسنده من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) [الأعراف: 143] قال: قال هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر، وفي لفظ فأومأ بخنصره فساخ. وروى ابن حامد (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) [الأعراف: 143] قال: خرج منه أول مفصل من خنصره. هذا الحديث تكلم فيه علماء الحديث وقالوا: لم يروه عن ثابت غير حماد بن سلمة، وكان ابن العوجاء الزنديق قد أدخل على حماد أشياء فرواها في آخر عمره، ولذلك تجافى بعض أصحاب الصحيح الإخراج عنه، ومخرج الحديث سهل وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقربه إلى الأفهام بذكر الحسيات فوضع يده على خنصره إشارة إلى أن اللّه تعالى أظهر اليسير من آياته. * * * __________________ (1) في الذي بين أيدينا من نسخ صحيح مسلم زيادة «ثم يطوي الأرضين بشماله» (ز). (2) يقول القتيبي عند الكلام على هذا الحديث: إنما أراد بذلك معنى التمام والكمال لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص، ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما وإلى هذا ذهب المرار حين قال: وأن على الإوانة من عقيل فتى كلتا اليدين له يمين (ز)
الحديث السابع والعشرون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عكرمة أنه قال: إذا أراد اللّه عزّ وجل أن يخوّف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تتزلزل وإذا أراد اللّه أن يدمدم على قوم تجلّى لهم. قال القاضي (أبو يعلى): «أبدى عن بعضه» هو على ظاهره وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض. قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته وما هو بعض لا يكلم وإنما المراد أبدى عن آياته. * * * الحديث الثامن والعشرون: روى أبو الأخمص الجمحي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: لعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها فتقول هذه نحر، وتشق أذن الأخرى وتقول صرم؟ قال: نعم، قال: «فلا تفعل فإن موسى اللّه تعالى أحد من موساك وساعد اللّه تعالى أشد من ساعدك». قال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع حمل الخبر على ظاهره في إثباته الساعد صفة لذاته. قلت: المراد بالساعد القوة لأن قوة الإنسان في ساعده وكان ينبغي أن يثبت الموسى أيضا. * * * الحديث التاسع والعشرون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرّحمن». قد ذكرنا صفة العين في الآيات المذكورة قبل الأحاديث، والمراد بالحديث أن اللّه تعالى يشاهد المصلي فليتأدب وكذلك قوله: «فإن اللّه تعالى قبل وجهه» أي يراه. * * * الحديث الثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من هذه؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال صلى اللّه عليه وسلم: «مه عليكم ما تطيقون فاللّه لا يمل اللّه تعالى حتى تملّوا» وفي لفظ «لا يسأم اللّه تعالى حتى تسأموا». قال العلماء: معنى الحديث لا يمل اللّه تعالى وإن مللتم كما قال الشاعر: صليت مني هذيل بخرق لا يملّ الشرّ حتى يملوا
المعنى لا يملّ وإن ملّوا وإلا لم يكن له فضل عليهم. وقال قوم: من ملّ من شيء تركه، والمعنى لا يترك الثواب ما لم يتركوا العمل، وأما الملل الذي هو كراهة الشيء والاستثقال له ونفور النفس عنه والسآمة منه فمحال في حقه تعالى لأنه يقتضي تغيره وحلول الحوادث في حقه. * * * الحديث الحادي والثلاثون: روت خولة بنت حكيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن آخر وطأة وطئها الرّحمن بوجّ». وج: واد بالطائف وهي آخر وقعة أوقعها اللّه تعالى بالمشركين على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» مأخوذ من القدم وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره، قال القاضي (أبو يعلى) غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره وأن ذلك معنى بالذات دون الفعل لأنّا حملنا قوله ينزل ويضع قدمه في النار على الذات. وهذا الرجل يشير بأصولهم إلى ما يوجب التجسيم والانتقال والحركة وهذا مع التشبيه بعيد عن اللغة ومعرفة التواريخ وأدلة المعقول وإنما اغترّ بحديث روي عن كعب أنه قال: «وجّ مقدس منه عرج الرب إلى السماء ثم قضى خلق الأرض» وهذا لو صحّ عن كعب احتمل أن يكون حاكيا عن أهل الكتاب وكان يحكى عنهم كثيرا ولو قدرناه من قوله كان معناه أن ذلك المكان آخر ما استوى من الأرض لما خلقت ثم عرج الرب أي عمد إلى خلق السماء وهو قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ وَهِيَ دُخٰانٌ) [فصّلت: 11] ويروى عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لما أسري بي مرّ بي جبريل عليه الصلاة والسلام حتى أتى الصخرة فقال: يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء» وهذا يرويه بكر بن زياد وكان يضع الحديث على الثقات. فإن قيل قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: (اِسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] صعد، قلنا: صعد أمره إذا لا يجوز عليه الانتقال والتغير. * * * واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب: أحدها: إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ) [الفجر: 22] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف. المرتبة الثانية: التأويل، وهو مقام خطر(1). __________________ (1) يقول في شرح المشكاة: قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران: فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه اللّه سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين. وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك عما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيل ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ اللّه أن يظن بهم ذلك وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثمة اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أوّلا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره: (ثُمَّ اسْتَوىٰ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخلف: أن معتقد الجهة كافر كما صرّح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني، وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ) [الحديد: 4] (مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ) [المجادلة: 7] الآية (فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ) [البقرة: 115] وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] و «قلب المؤمن بين إصبعين من أصبع الرّحمن» و «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على (الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لا الجلالة. قلت: الجمهور على أن الوقف على (إلا اللّه) وعدوا وقفه وقفا لازما وهو الظاهر لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا اللّه جلّ جلاله ولا إله غيره، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ولم يقدر أحد أن يقول إن هذا التأويل هو مراد اللّه جزما ففي التحقيق الخلاف لفظي ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى، وهذا توسط بين المذهبين وتلذذ بين المشربين واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر فقال: إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين. قلت: التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين مع أن التوقف مؤيّد بقول السلف ومنهم الإمام الأعظم اه. والمرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمّ جهلة الناقلين إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على اللّه تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس، وإليه أشار القاضي (أبو يعلى) بقوله: لا يمتنع أن يحمل التي وطئها الحق تعالى على أصولنا وأنه معنى يتعلق بالذات. وأصولهم على زعمه ترجع إلى الحس. ولو فهموا أن اللّه تعالى لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا تغير ما بنوا على الحسيات، والعجب أنه يقر بهذا القول ثم يقول: «من غير نقلة ولا حركة» فينقض ما بنى. ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش: إن اللّه تعالى قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش. __________________ ـ ويقول في شرح المشكاة أيضا: والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى اللّه تعالى وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين ه. وفي (إشارة النبيه في كشف شبه أهل التشبيه إملاء الشيخ نجم الدين أبي الفتح نصر اللّه بن العز بن سعد اللّه بن نجم الكاتب البغدادي): وقد تأول العلماء والأدباء والشعراء قديما وحديثا ولذلك قول بعضهم: أقول بالخد خال حين أذكره خوف الرقيب وما بالخد من خال أبكي إلى الشرق إن كانت منازلهم يجانب الغرب خوف القيل والقال ومن قال: (لا أقول بالتأويل ولا أشبه) فقد تأوّل لأنه إذا عدل عن معنى النزول عنده ومعنى اليمين في حديث «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» إلى غير ذلك فقد تأول فلا محيص لكم عن التأويل بحال اه. ويقول العلامة الآلوسي في تفسيره عند الكلام على الوجه: والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف واللّه تعالى أعلم بمراده ه. وقال أيضا: وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى اللّه مثل قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاٰنِ) (31) [الرّحمن: 31]، وقوله صلى اللّه عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين اللّه في أرضه فمن قبّله أو صافحه فكأنما صافح اللّه تعالى وقبّل يمينه» فأجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته كما قال السلف في اليمين اه. وقد عقد ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) بابا سرد فيه جماهير المؤولين (فيما يظهر فيه وجه الكلام) من الصحابة والتابعين وغيرهم (ز). قلت: ونحن نحمد اللّه إذ لم يبخس حظنا من المنقولات ولا من المعقولات، ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم. * * * الحديث الثاني والثلاثون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إلى اللّه تعالى بمثل ما خرج منه»(1). وهو القرآن وفي حديث عفان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «فضيلة القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه إن القرآن منه خرج وإليه يعود» والمعنى وصل إلينا من عنده وإليه يعود فيرفع. * * * الحديث الثالث والثلاثون: روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف سنة فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم به». هذا حديث موضوع يرويه إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن حفص وأما عمر بن حفص فقال الإمام أحمد بن حنبل: حرقت أحاديثه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ: هذا متن موضوع. * * * الحديث الرابع والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»(2). وفي لفظ أخرجه البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن الرحم شجنة من الرّحمن». __________________ (1) الذي في الجامع الكبير للسيوطي: «ما تقرّب العباد إلى اللّه بشيء أحب إليه مما خرج منه» ابن السني عن زيد بن أرطأ عن أبي أمامة. (2) في شرح صحيح مسلم للإمام النووي: قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض فسمّى ذلك الاتصال رحما، والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصليها وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم (ز). قال أبو عبيد: الشجنة كالغصن من الشجرة، ومعنى شجنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق ولا شجر تشجن إذا التف بعضها ببعض. قلت: لا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يراد أن اللّه تعالى يراعي الرحم فيصل من يصلها ويقطع من قطعها ويأخذ لها حقها كما يراعي القريب قرابته كأنه يزيد في المراعاة على الأجانب أو أن يراد أن الرحم حروف الرّحمن فكأنه عظم قدرها بهذا الاسم ويؤكد هذا حديث عبد الرّحمن بن عوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال اللّه تعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» وقد ورد هذا الحديث بلفظ لم يخرج في الصحاح «الرحم شجنة من الرّحمن تعلق بحقوي الرّحمن تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني» وفي لفظ «الرحم شجنة آخذة بحقو الرّحمن» وفي لفظ «لما خلق اللّه تعالى الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرّحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة». وهذه كلها أمثال ترجع إلى ما بيّنّا، ومعنى تعلقها بحقو الرّحمن الاستجارة والاعتصام(1). قال أبو بكر البيهقي: الحقو الإزار، والمعنى تتعلق بعزه. قال ابن حامد: يجب التصديق بأن للّه حقوا فتأخذ الرحم بحقوه، قال: وكذلك نؤمن بأن للّه تعالى جنبا لقوله تعالى: (عَلىٰ مٰا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّٰهِ) [الزّمر: 56]. وهذا لا فهم له أصلا، كيف يقع التفريط في جنب الذات، نعوذ باللّه من سوء الفهم. * * * الحديث الخامس والثلاثون: روى البخاري في صحيحه(2) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته». قال أبو سليمان الخطابي: وفي الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان للّه تعالى اختص فيهما، لا يشركه فيهما أحد ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة __________________ (1) قال في النهاية: والحقو فيه مجاز وتمثيل ومنه قولهم: عزت بحقو فلان إذا استجرت به واعتصمت اه وفي أساس البلاغة: لاذ بحقويه إذا فزع إليه. (2) يقول العجلوني في كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: رواه مسلم وابن حبان وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم (بألفاظ متقاربة)، وممن أخرجه بلفظ الترجمة القضاعي عن أبي هريرة والحكيم الترمذي عن أنس ه. ولم يذكر البخاري فليحرر. المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الإزار والرداء مثلا، يقول واللّه تعالى أعلم: كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد كذلك لا يشركه في الكبرياء والعظمة مخلوق. * * * الحديث السادس والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة». فذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا هي صفة زائدة عن الذات. وهذا قول مبتدع ينوع به التشبيه، لا يفرق بين الذات والنفس وما المانع أن يكون المعنى: ذكرته أنا، وقد سبق هذا في الكلام على الآيات. والتقريب والهرولة توسع في الكلام(1). كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا) [الحجّ: 51] لا يراد به المشي. * * * الحديث السابع والثلاثون: روى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال»(2). قال العلماء: الجميل: المجمل بتحسين الصور والأخلاق والإحسان والذي أراه أن الجميل الذي أوصافه تامة مستحسنة. وقد فسّر القاضي (أبو يعلى) بما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى فقال: غير ممتنع وصفه بالجمال، فإن ذلك راجع إلى الذات، لأن الجمال في معنى الحسن قال: وقد تقدم قوله صلى اللّه عليه وسلم: «رأيت ربي في أحسن صورة». * * * __________________ (1) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عند الكلام على التقرب والهرولة: ونحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه. (2) أثبت العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس هذا الحديث وقال رواه أحمد عن أبي ريحانة، ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني عن أبي أمامة وابن عمر وجابر، وابن عدي في الكامل عن ابن عمر. الحديث الثامن والثلاثون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ اللّه تعالى من أهل الجنة والنار أقبل يمشي في ظلل من الغمام والملائكة، فيقف على أول درجة فيسلم عليهم فيردون عليه السلام فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسأل، وعزتك وجلالك وارتفاعك في علو مكانك لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم وسقيناهم ولم ينقص ما عندنا، فيقول تعالى بلى سلوني فيقولون: نسألك رضاك، قال تعالى: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كل درجة حتى ينتهي إلى مجلسه. هذا حديث مكذوب به على عمر. وبعد فكيف يثبت للّه تعالى صفة بقول عمر!. قال القاضي (أبو يعلى): يشهد لحديث عمر قوله تعالى: (يَأْتِيَهُمُ اللّٰهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمٰامِ) [البقرة: 210] ولم يدر أن المعنى يأتيهم اللّه بظلل من الغمام. الحديث التاسع والثلاثون: روى عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المقام المحمود، قال صلى اللّه عليه وسلم: «وعدني ربي عزّ وجل بالقعود على العرش». هذا حديث لا يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن حامد: يجب الإيمان بما ورد به من المماسة والقرب من الحق تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في إقعاده على العرش، قال: وقال ابن عمر: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ) [ص: 25] قال: ذكر الدنو منه حتى يمس بعضه. وهذا كذب على ابن عمر، ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع. * * * الحديث الأربعون: روى الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه تعالى أن يدخلني الجنة فعظم الرب عزّ وجل فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله». هذا حديث مختلف جدا وقد رواه أبو إسحاق عن ابن خليفة عن ابن عمر قال: إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل، رواه ابن جرير أن عبد اللّه بن خليفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصبعه فجمعها وإن له لأطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله» هذا على ضد اللفظ الأول وكل ذلك من تخليط الرواة وسوء الحفظ والأليق فما يفضل منه مقدار أربع أصابع والمعنى أنه قد ملأه بهيبته وعظمته، ويكون هذا ضرب مثل لقدر عظمة الخالق جلّ جلاله وقول الرواة: «إذا قعد» و «إذا جلس» من تغييرهم ومن تعبيرهم بما يظنونه كما قال القائل «ثم استوى على العرش» قعد، وإنما قلنا هذا لأن الخالق تعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس فيفضل ذلك الشيء لأن هذه صفة الأجسام. * * * الحديث الحادي والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن اللّه تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». انفرد بلفظ الصوت حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت وسئل الإمام أحمد عن حفص قال: كان يخلط في حديثه. وفي الحديث الصحيح: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا». وفي حديث ابن مسعود: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا» وليس في الصحيح «سمع صوته أهل السماء». * * * الحديث الثاني والأربعون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما كلم اللّه موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه، فقال له: يا موسى إني كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع إلى بني إسرائيل قالوا: صف لنا كلام الرّحمن، قال: لا أستطيع، قالوا: قرّب لنا، قال: ألم تروا صوت الصواعق التي تقبل بأحلى كلام سمعتموه. هذا حديث لا يصح، يرويه علي بن عاصم عن الفضل بن عيسى قال النسائي: علي بن عاصم متروك الحديث، وقال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب. * * * الحديث الثالث والأربعون: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أنه قال: الساجد يسجد على قدم الرّحمن. هذا قول تابعي وهو مثل للقرب من فضل اللّه تعالى. وأثبت القاضي (أبو يعلى) بهذا وصف قدم وأنه يسجد على قدمه حقيقة لا على وجه المماسة. * * *
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:53 pm | |
| الحديث الرابع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن». الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط به الأمكنة. وقال القاضي (أبو يعلى): ظاهر الحديث أن المرئي في جنة عدن. وهذا التجسيم المحض. ورداء الكبرياء ما له من الكبرياء والعظمة، وكأنه إن منعهم فلعظمته وإن شاء كشف لهم؛ وقد تكلمنا على الوجه في الآيات وقلنا المراد هو. * * * الحديث الخامس والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لما قضى اللّه تعالى الخلق كتب في كتابه فهو عنده(1) فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ «سبقت». قال القاضي (أبو يعلى) ظاهر قوله «عنده» القرب من الذات. واعلم أن القرب من الحق تعالى لا يكون بمسافة، إنما ذلك من صفة الأجسام، وقد قال تعالى: (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود: 83]. * * * الحديث السادس والأربعون: روى عن بعض التابعين أنه قال: خلق اللّه آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده. هذا لا يثبت عن قائله، وقد تكلمنا على قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75]. * * * الحديث السابع والأربعون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة: 255] أنه قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره. رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس، ورفعه منهم شجاع بن مخلد(2). فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط. ومعنى الحديث أن الكرسي __________________ (1) يقول العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم (ز). (2) يقول الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل البغوي نزيل بغداد صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف فذكره بسببه العقيلي في الضعفاء (ز). صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير، قال الضحاك: الكرسي الذي تجعل عليه الملوك أقدامهم، وقال القاضي (أبو يعلى): القدم قدم الذات وهي التي يضعها في النار. الحديث الثامن والأربعون: حديث العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، واللّه تعالى فوق ذلك». هذا الحديث لا يصح، تفرّد به يحيى بن العلاء، قال الإمام أحمد: هو كذاب يضع الحديث. وقد تكلمنا في الفوق في قوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ) [الأنعام: 18]. قال القاضي (أبو يعلى): المراد من الفوقية استواء الذات على العرش. وهذا الكلام أصله التجسيم. * * * الحديث التاسع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب فإن اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل». وفي لفظ أخرجه مسلم «فتربو في كف الرّحمن حتى تكون أعظم من الجبل». قال العلماء: هذا خطاب للناس بما يعلمونه ويفهمونه من الأخذ والتربية والنمو ، ولما كان التناول باليد والقبض بالكف خاطبهم بما يعقلون، وإنما جرى ذكر اليمين لأنها مرصدة لما عزّ من الأمور؛ ومعنى التربية المضاعفة. * * * الحديث الخمسون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال: «ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»(1). __________________ (1) لفظ الحديث في صحيح البخاري «أن اللّه ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه وأن المسيح الدجال أعور عين اليمنى» وقد قال الحافظ ابن حجر: إن الإشارة إلى عينه صلى اللّه عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إلا ربكم ليس بذي جوارح يتسلط عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزي. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القدم، فإن الكامل في الصورة كثير. * * * الحديث الحادي والخمسون: روى البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تعالى قال: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته». قوله: «كنت سمعه وبصره» مثل، وله أربعة أوجه: أحدها: كنت كسمعه وبصره فهو يحب طاعتي كما يحب هذه الجوارح. الثاني: أن كليته مشغولة بي فلا يصغي إلى ما يرضيني ولا يبصر إلا عن أمري. الثالث: أني أحصل له مقاصده كما ينالها بسمعه وبصره ويده اللواتي تعينه، وأما التردد فخطاب لنا بما نعقل. * * * الحديث الثاني والخمسون: روى جبير بن مطعم قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول اللّه جهدت الأنفس وجاع العيال وتهتكت الأموال وهلكت __________________ ـ وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه ه. وقال الفخر الرازي في (أساس التقديس) عند الكلام على هذا الحديث: وأما هذا الخبر فمشكل لأن ظاهره يقتضي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور وكون اللّه تعالى ليس بأعور وذلك بعيد، وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال، أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ثم إن المشهور أن ابن عمر لما روى حديث «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» طعنت عائشة رضي اللّه عنها فيه وذكرت أن هذا الكلام من الرسول كان مسبوقا بكلام آخر واحتجّت على ذلك بقوله تعالى: (وَلاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ) [الأنعام: 164] لو حكى لزال هذا الإشكال فكذا هاهنا أنه من البعيد صدور مثل هذا الكلام من الرسول اه. الأنعام، فاستسق اللّه لنا فأستشفع باللّه عليك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ويحك تدري ما تقول» وسبّح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه ثم قال صلى اللّه عليه وسلم: «إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك ويحك أتدري ما اللّه، إن عرشه على سماواته هكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة ـ وأنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب». ومعنى قوله: «أتدري ما اللّه» أي أتدري ما عظمة اللّه تعالى وجلاله ومعنى يئط به أي يعجز عن عظمته وجلاله إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله فقرب بهذا النوع من عنده معنى عظمة اللّه وجلاله ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر، وقد ذكرنا فيما تقدم عن القاضي (أبي يعلى): يئط من ثقل الذات، وهذا صريح التجسيم. * * * الحديث الثالث والخمسون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ : إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النّساء: 58] فوضع إصبع الدعاء وإبهامه على عينيه وأذنه. قال العلماء: أراد بهذا تحقيق السمع والبصر منه فأشار إلى الجارحتين اللتين هما السمع والبصر، لا أن للّه سبحانه وتعالى جارحة. * * * الحديث الرابع والخمسون: روى أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عزّ وجل ينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره وهي مسكنه ثم يقول طوبى لمن دخلك، ثم ينزل في الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فيقول بعزتي». هذا الحديث يرويه زيادة بن محمد الأنصاري قال البخاري: وهو منكر الحديث وقال أبو حاتم بن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، ونقول: على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه فهذا بيته وذاك مسكنه، وإنما قلت هذا لأن السكنى مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى. * * * الحديث الخامس والخمسون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثياته عزّ وجل». الحثية: ملء الكف، والمراد التقريب بما نعقل، لا حقيقة الحثية. * * * الحديث السادس والخمسون: روى أبو أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه يجلس يوم القيامة على القنطرة بين الجنة والنار». يرويه عثمان بن أبي عاتكة، وعن يحيى: ليس بشيء. * * * الحديث السابع والخمسون: روى القاضي (أبو يعلى) عن محمد بن كعب قال: كان الناس إذا سمعوا القرآن من في الرّحمن لم يسمعوه قط. قال القاضي (أبو يعلى): ولا يمتنع أن يطلق الفم عليه. قلت: وا عجبا يعني (في) الرّحمن فمه، فيثبت للّه تعالى صفة بقول تابعي لا تصح الرواية عنه، هذا من أقبح الأشياء. فأما الحديث الذي قد سبق عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إليّ بمثل ما خرج مني» فالمعنى: ظهر عنه، ولا يجوز أن يظن أنه كخروج جسم من جسم. * * * الحديث الثامن والخمسون: روينا عن سهل بن سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «دون اللّه تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت». هذا حديث لا أصل له. * * * الحديث التاسع والخمسون: رواه أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن للّه تعالى لوحا أحد وجهيه درة والآخر ياقوتة، قلمه النور فيه يخلق وبه يرزق، وبه يحيى وبه يميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء في يوم وليلة». هذا حديث موضوع يرويه محمد بن عثمان، وهو متروك الحديث. * * * الحديث الستون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الريح فلا تسبّوه فإنها من نفس الرّحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فاسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها». النفس بمعنى التنفيس عن المكروب(1). ومثله ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إني لأجد نفس ربكم من جهة اليمن» يعني تنفيسه عن الكرب بنصرة أهل المدينة إياي، والمدينة من جانب اليمن وهذا شيء لا يختلف فيه المسلمون. وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون للّه تعالى وصفا في ذاته بأنه يتنفس، قال: وقالوا الرياح الهابّة مثل العاصف والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة إلا ريحا من صفاته هي ذات نسيم خيالي وهي من نفس الرّحمن. قلت: على من يعتقد هذا اللعنة لأنه يثبت جسدا مخلوقا، ما هؤلاء بمسلمين. قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا : ليس هذا المذهب. قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المقولات غير مقلد فيما أعتقده، وكيف أترك بهرجا وأنا أنقده وقلت: سبقت بحمد اللّه من كان من قبلي فقل للذي يرجو لحاقي على مهل وإنكم لو تنقصون عتابكم لعزّ على التفتيش أن تجدوا مثلي ثم قصيدة مطولة وهي: حمدت إلهي كيف لا وله الفضل كما قد تولاني فذلت لي السبل وأخرجني من بين أهلي مفهما وعلّمني علما به قيمتي تغلو وحركني للمكرمات أحوزها فهمة نفسي دائما أبدا تعلو وألهمني بالعلم حتى ملكته فصار مرير الصبر عند فمي يحلو وقد زاد عشقي للعلوم فأصبحت كتمثال ليلى عند قيس فما يسلو __________________ (1) يقول الزمخشري في أساس البلاغة: وما لي نفس أي فرج. وقال ابن قتيبة: وقد فرج اللّه عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا) [الأحزاب: 9].
فما من علوم بثّها اللّه في الورى إلى خلقه إلا ولي معها وصل وصنفت ما قد صنف الناس جنسه فيا قاصدي الإنصاف لي ميزوا وأبلوا ولي من بديهات الكلام عجائب تكر عليهم كلما طولت تحلو وقد قادني علمي إلى الزهد في الدنا وما جمعا إلا لعبد له فضل نعم وتقاة اللّه أشرف خلة ولا خير في قول إذا ضيع الفعل قنوعي بما يكفي يقيني من الأذى وبعد يقيني بالمقادير لا ذل وأحسن من علم ترامى بأهله إلى مين مخلوق يماثله الجهل وأسكن قلبي حب كل محقق عشقت كما قد تعشق الأعين النجل وبغداد دار ليس يغبن أهلها وما حبهم إلا لمن ما له شكل وكل البلاد أشحنتها فضائلي أقرّ بفضلي الدين والحزن والسهل وذكرى وراء النهر بالفضل وافر وفي المغرب الأقصى وما بلغت إبل * * * ولما نظرت في المذاهب كلها طلبت الأسد في الصواب وما أغلو فألفيت عند السبر قول ابن حنبل يزيد على كل المذاهب بل يعلو وكل الذي قد قاله فمشيد بنقل صحيح والحديث هو الأصل وكان بنقل العلم أعرف من روى يقوم بأنباء وإن شأنه عضل * * * ومذهبه أن لا يشبه ربه يتبع في التسليم من قد مضى قبل فقام له الحساد من كل جانب فقام على رجل الثبات وهم زلوا وكان له أتباع صدق تتابعوا فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا وجاءك قوم يدعون تمذهبا بمذهبه ما كل فرع له أصل فلا في الفروع يثبتون لنصره وعندهم عن فهم ما قاله شغل إذا ناظروا قاموا مقام مقاتل فوا عجبا والقوم كلهم عزل قياسهم طردا إذا صدروا به وهم من علوم النقل أجمعها عطل إذا لم يكن في النقل صاحب فطنة تشابهت الحيات وانقطع الحبل ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة ال ذي نقلوه في الصفات وهم غفل وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد فمال إلى تصديقهم من به جهل
وصار الأعادي قائلين لكنا مشبهة قد ضرنا الصحب والخل فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا لعمري لقد أدركت منهم مشايخا وأكثر من أدركته ما له عقل وما زلت أجلو عنهم كل خلة من الاعتقاد الرذل كي يجمع الشمل تسموا بألقاب ولا علم عندهم فوائدهم لا حرم فيها ولا حل موائدهم لا يلحق الخل بقلها وإن شئت لا خل عليها ولا بقل * * * وأكثر حساد لنا أهل مذهبي فلو قدروا أفتوا بأن دمي حل تمنوا بجهل أن تزل بي النعل ولم تمش في مجد بمثلي لهم رجل ومنذ مضى شيخ الجماعة أحمد إلى الآن لم يوجد لعالمكم مثل لقد بات عندي ألف ألف يقوموا سحابة وعظي كلهم صيب وبل وروضات علمي كلها تمرح الجنا وبستانهم إذ ما تأملته أثل وكيف ترى تبرى الحسود وداؤه إذا سئل الطب الخبير به يسلو تفرد بالبغض القبيح مخالف أليس اجتماع الناس لي شاهد عدل تمّ كتاب دفع شبه التشبيه للإمام ابن الجوزي جاء في آخر (مجلس في نفي التشبيه من أمالي الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي): أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن منصور المؤمل لنفسه: اللّه أكبر أن يكون لذاته كيفية كذوات مخلوقاته أو أن تقاس صفاتنا في كلما نبديه من أفعالنا بصفاته تبا لذي سفه يقول بأنه جسم وأن سماتنا كسماته لبديع صنعته عليه شواهد تبدو على صفحات مصنوعاته ذرا الأنام بقدرة أزلية وأراده فيهم لتقديراته ورأى بعين العلم ما تأتي به لمحات أعينهم وما لم تأته * * * بسم الله الرّحمن الرّحيم ترجمة الإمام الحصني مؤلف هذا الكتاب إنا إنما نذكر ترجمة هذا الإمام رضي الله عنه ليعرف القارئ من ترجمته مقدار كتابه هذا فإنا نرى أن الكتب أشبه بالأبناء فمن لا والد له من الأبناء ضائع لا قيمة له حتى في نظر نفسه ومن له والد حقير كان حقيرا كوالده ومن جلّ والده جلّ ويزداد عظما كلما عظم والده هذا شيء لا نزاع فيه. وهكذا الكتب إذا رأى الناس كتابا لا يعرف مؤلفه ارتفعت ثقتهم به وظنوا به الظنون وإذا عرف المؤلف نظروا إليه وبمقدار عظمته في نفوسهم علما وعملا تكون ثقتهم بكتابه واستفادتهم منه. وأعدل حكم على الرجل هو الذي يصدر عليه من معاصريه الناظرين إليه المحيطين علما بكل أحواله مع ما في المعاصرة من منافسات ومنازعات وأحقاد يهيجها الحسد الذي يدفن الفضائل وينشر الرذائل فإذا صدر مع هذا حكم جليل من معاصر دلّ ذلك على أن الحقيقة أرفع وأسمى. رفع سؤال إلى علماء عصره رضي الله عنه عن زيارة النبي صلىاللهعليهوسلم واسمع ما قاله عنه أحد معاصريه قال ما نصه : فأجاب شيخنا وسيدنا ومولانا العارف الورع العابد الزاهد المحقق المدقق شيخ الإسلام ومفتي الأنام وعلم الأعلام الرباني والصدر النوراني. منقح الألفاظ. ومحقق المعاني. بحر العلوم. والمبرز على ذوي الفهوم. داعي الخلق للحق. الناصح لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. بقية السلف. وزين الخلف. شافعي زمانه. وسيبويه أوانه. القطب الكبير. والغوث الشهير. والعلم المنير. والعلامة النحرير. والمجتهد الأخير. البحر الزاخر. والسيف الباتر. زبدة المتقدمين. وعمدة المتأخرين. ومفزع العباد. وحجة الله على العباد. وصمصامة أهل الزيغ والفساد. رحلة وقته. ووحيد عصره. وفريد دهره. نسيج وحده. جامع أشتات العلوم والفضائل. القائم في نصرة الحق بالبراهين والدلائل. قدوة أهل الأصول والفروع. وناثر فرائد المنقول والمسموع. الحسيب النسيب. والمتصل في الدين بالمصطفى الحبيب. الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:55 pm | |
| سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن ناسي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن عبد الله بن عمر بن موسى بن يحيى علي الأصغر بن محمد التقي بن حسن العسكري بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني الشافعي الأشعري الحصني قدس الله روحه. ونوّر ضريحه. وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه. وضاعف له جزيل هباته. وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته. ونفعنا بعلومه الجمة وفوائده. كما حلّى أجياد الدهر بقلائد فرائده. آمين. بجاه سيد الأولين والآخرين. اه من الفتاوى السهمية في ابن تيمية. بمجموعة 33 دولاب 15 من مكتبة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ محمد بخيت المطيعي حفظه الله وهو وصف لم يدع قولا لقائل في هذا الإمام الهمّام رضي الله عنه ورضي عنا به : ولد رضي الله عنه بدمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة من الهجرة الشريفة وبها أخذ العلم عن أئمة عصره وأخذ عنه أئمة وكان من الزهد في الدنيا بدرجة لا تقل عن درجات سلف الأمة الصالحين وكان لتقواه وخشيته لربه وقورا مهيبا حتى عند الأكابر من ولاة الأمور وكان إذا رأى ما لا يرضاه ربه صدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ـ لم يقتصر في بث علومه على ما كان يلقيه من جواهر المعارف والآداب في دروسه حال حياته بل ألّف من الكتب الجليلة الكثيرة ما يجعل نفعه العلمي خالدا : فمن مؤلفاته شرح صحيح مسلم في ثلاثة مجلدات ، وشرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في الفقه الشافعي في خمسة مجلدات نافع جدا ، وشرح منهاج النووي في خمسة مجلدات كذلك ، وتفسير آيات متفرقات في مجلد ، وقواعد الفقه على المذهب الشافعي في مجلدين ، وتلخيص مهمات الإسنوي في مجلدين ، وتنبيه السالك على مضار المسالك في ستة مجلدات ، وأسنى المسالك لسير السالك في مجلد ، وقمع النفوس في مجلد ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلد ، وشرح الأربعين النووية في مجلد ، وسير نساء السلف العابدات في مجلد ، وتلخيص تخريج أحاديث الأحياء في مجلد ، وأهوال القبور في مجلد ، وتأديب القوم في مجلد ، وشرح الهداية في أوهام الكفاية في مجلد ، وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. قال السخاوي : حسن للغاية وقد طبع في العام الماضي فكاد يطرب الشافعية فرحا طلبة وعلماء ، وتقرر رسميا أن يقرأ بالأزهر لجلالته ، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد وهو هذا الكتاب الذي يجل عن نظير في موضوعه كيف لا وقد أتي على بناء مخالفه من أساسه. مات رحمة الله عليه ليلة الأربعاء منتصف شهر جمادى الثانية سنة تسع وعشرين وثمانمائة وحملت جنازته على أعناق الأفاضل وكان يوم وفاته يوما مشهودا لم يتخلف عنه أحد من أهل دمشق حتى الحنابلة الذين كانت له عليهم حملات ثم حملات. ومع كونه وصّى أن يخرج بجنازته بغلس ذهب من غفل عن جنازته من الناس إلى قبره وصلوا عليه غير مرة ودفن عند والده وأقاربه بالجهة الجنوبية للجامع الأموي سقى الله روضة ضمته غيوث فضله وإحسانه وكرمه ورضوانه. وقد عنى بترجمته كثير منهم المقريزي في العقود وابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب وابن حجر في أنباء الغمر ، والتقي ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية والرضي القري في بهجة الناظرين والسخاوي في الضوء اللامع وغيرهم فمن أراد أن يعرف من هو الإمام التقي الحصني علما وعملا فليرجع إلى تلك التراجم رضي الله عنه وعن جميع العلماء العاملين خصوصا من أسهروا عيونهم وأتعبوا أبدانهم ووقفوا أفكارهم على نصر دين ربهم والذود عن حياضه : إن أحبوا فلله وإن أبغضوا فلله جعلنا الله من محبيهم السالكين سبيلهم اللهم آمين اللهم آمين. قال حضرة صاحب الفضيلة العلامة صاحب النسخة الفرعية ما نصه : سبب تأليف هذا الكتاب قال العلامة التقي محب السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهر الكوثري : في ظهر الأصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون. فائدة : سبب تكلم المؤلف رحمهالله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي أنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال : فرأيته يقول بمسألة التناسخ ولا يقطع لأطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر ونقل للشيخ المؤلف أيضا أن شخصا قال عند هذا المبتدع المشار إليه : يا جاه محمد ، فقال : لا تقل يا جاه محمد ، وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده فقال : لا تقل يا جاه محمد فإنه قد بقي قفة عظام نعوذ بالله العظيم من هذه الزلة الجسيمة وسمع هذا الكلام أيضا ابن أخي الشيخ المؤلف فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه ثم قال : يا عم لو تكلمت في ذلك فقال : أنا مشغول بنفسي فقال : ما يخلصك هذا عند الله عزوجل كيف يتعرض هذا الجاهل للرسول صلىاللهعليهوسلم وحط مرتبته ومراتب النبيين ويتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وغير ذلك مما هو زندقة لا يخلصك هذا عند الله مع تمكنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله وتعظيم رسول عليه الصلاة والسلام فقال المؤلف رحمهالله تعالى : ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل انظر فيه فإذا تكلمت تكلمت على بصيرة ، فأتى بأشياء من كلامه فلما رأى كلامه تكلم بما تكلم رحمهالله : قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت : نقلتها من خط شيخنا شهاب الدين بن قرا تلميذ المؤلف ملخصا (1) لها. انتهى ما وجدته بخط ابن طولون في ظهر الأصل المذكور. وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب الضوء اللامع في القرن التاسع للحافظ محمد بن عبد الرّحمن السخاوي وفي طبقات الشافعية للتقي ابن قاضي شهبة وفي طبقات الرضى الغزي العامري وله مؤلفات ممتعة كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات وشرحه على المنهاج كذلك وطبع حديثا شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهدا وعلما وسيرة وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه. __________________ (1) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة 953 سنة تسعمائة وثلاث وخمسين وشيخه عبد القادر النعيمي له مؤلفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة. وابن قرا هو الشهاب الخوارزمي المحدّث مترجم في الضوء اللامع ، قاله صاحب الأصل. بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين ، وأكرم السابقين واللاحقين ، وسلّم ومجّد وكرم ، سبحان من بيده الضر والنفع ، والوصل والقطع ، والتفرقة والجمع ، والعطاء والمنع ، وفق من أحب لتنزيهه فحمى موضع نظره منه وكذا السمع ، وخذل من أبغض فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألفه من رديء الطبع ، فهب على الأول نسيم إسعاده وعلى الثاني ريح إبعاده ، لصدع قلبه بتمويه العدو فيا له من صدع ، تقدس وتمجد بعز كبريائه وجلاله ، وتفرد بأوصاف عظمته وكماله ، كما عمّ بجوده وإفضاله ونواله ، تقدّس وتبارك عن مشابهة العبيد ، وتنزّه عن صفات الحدوث. فمن شبه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد ، ومن عطل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحق مائل ومحيد (1) ، وكلا القسمين سفيه وشقي وغير رشيد ، ومن ورائهما عذاب شديد. ونال خلع الرضوان في دار الأمان من نزه مع تزايد الكرامات ولديه مزيد. فشتان بين من هو راتع في رياض السلامة ونزل الكرامة في دار المقامة ، وبين المطرود المبعود (2) وقد حق عليه الوعيد. وبعد ، فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام أخباث السريرة ، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد ، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد. والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة وهم أكفر ممن تمرد وجحد ، ويضلون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التعبد والتقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند ، كل ذلك __________________ (1) كان ينبغي أن يقول حائد : ولعله اختار ذلك مراعاة للسجع ، اه مصححه. (2) اسم المفعول مبعد فيقال فيه كما قيل فيما قبله ، اه مصححه. خزعبلات منهم وتمويه وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوام وبهذه الأحرف يظهر الأمر إن شاء الله تعالى لكل أحد إلا لمن أراد عزوجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد. ومن قال بنفي ذلك أي بنفي خلود العذاب وسرمديته وهو ابن تيمية وأتباعه فقد تجرأ على كلام الغفور. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)) [فاطر : 36] وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)) [المائدة : 37] والآيات في ذلك كثيرة عموما وخصوصا ومنها قوله تعالى : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : 65] والغرام المستمر الذي لا ينقطع فلو انقطع قدر نفس لا يسمى غراما. ومن ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : 22] قال الإمام أحمد معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى : قال الإمام أحمد : المراد به قدرته وأمره وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : 33] يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لأنه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى. ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزّه نفسه عن ذلك ومن ذلك قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : 54] فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الاستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن. قال الأئمة : وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عزوجل ومن أسمائه القدوس وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه وكذا في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)) [الإخلاص : 1] إلخ ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية وغير ذلك مما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي وكان من المحققين وكذلك أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء فقال تحت السياط فكيف أقول ما لم يقل وقال في آية الاستواء هو كما أراد فمن قال عنه إنه قال في الاستواء إنه من صفات الذات أو صفات الفعل أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مما فيه إلحاقه عزوجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون. ومنهم ابن حامد والقاضي تلميذه وابن الزاغوني وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مما ذكرت بعضه وبالغوا في الافتراء إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم كالمغيرة بن سعيد وأبي محمد الكرامي لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم وحرف المغيرة ومعه خمسة من أتباعه كما أذكره من بعد. قال ابن حامد في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : 27] وفي قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88] نثبت لله وجها ولا نثبت له رأسا. وقال غيره : يموت إلا وجهه ، وذكروا أشياء يقشعر الجسد من ذكر بعضها. قال أبو الفرج بن الجوزي : رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة : ابن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب وقد رأيتهم نزلوا إلى مرتبة فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا : يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم ويتنفس ثم إنهم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم وكفروا تقليدا وقد نصحت للتابع والمتبوع ثم أقول لهم على وجه التوبيخ : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول : (أقول ما لم يقل) هل بلغكم أنه قال إن الاستواء من صفة الذات المقدسة أو صفة الفعل فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء وهذا كله ابتداع قبيح بمن ينكر البدعة ثم قلتم إن الأحاديث تحمل على ظاهرها. وظاهر القدم الجارحة وإنما يقال تمر كما جاءت ولا تقاس بشيء فمن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات وذلك عين التشبيه فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم وأمروا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر عليكم أحد ولا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الإمام أحمد ـ ما ليس منه فلقد كسوتم هذا المذهب شيئا قبيحا حتى لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة. فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم ونزعة يهودية في التشبيه وكذا نزعة نصرانية فإنه لما قيل عن عيسى عليهالسلام أنه روح الله سبحانه وتعالى اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم عليهاالسلام وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم وما ذاك إلا أنهم سموا الأخبار أخبار صفات وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة فإنه سبحانه وتعالى قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : 29] وليس لله صفة تسمى روحا فقد ابتدع من سمى المضاف صفة ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم ثم إنهم في مواضع يؤولون بالتشهي وفي مواضع أغراضهم الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحس ويقولون ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته ثم يقولون لا كما يعقل يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيئ الفهم وذلك عين التناقض ومكابرة في الحس والعقل لأنه كلام متهافت يدفع آخره أوله وأوله آخره ، وفي كلامهم (ننزهه غير أننا لا ننفي عنه حقيقة النزول) وهذا كلام من لا يعقل ما يقول ومثل قول بعضهم المفهوم من قوله : «هو الله الحي القيوم» في حقه هو المفهوم في حقنا إلا أنه ليس كمثله شيء فانظر أرشدك الله كيف حكم بالتشبيه المساوي ثم عقبه بهذا التناقض الصريح وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى روية ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] أنه مستقر على العرش مع قولهم في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : 16] أن من قال إنه ليس في السماء فهو كافر ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيزين في آن واحد وفي زمن واحد ومن المعلوم أن في للظرفية ويلزم أنه سبحانه وتعالى مظروف تعالى عن ذلك. وفي البخاري من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشقّ ذلك عليه حتى رئي في وجهه فقام فحكها بيده فقال : «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة» وفيه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في جدار القبلة فحكها ثم أقبل على الناس فقال : «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلّى». وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فقال : «ما بال أحدكم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه». وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» وفي رواية «والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وفي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» وحديث المريض «أما لو عدته لوجدتني عنده». وقال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : 52] وقال تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)) [القصص : 30] وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : 115]. وفي الترمذي في حديث العنان وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض والأخرى كما بين السماء والأرض ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى» ومثل هذه الأدلة كثير وكلها قاضية بالكون السفلي دون العلوي. واعلم أن الاستواء في الغلة على وجوه وأصله افتعال من السواء ومعناه أي السواء العدل والوسط وله وجوه في الاستعمال منها الاعتدال. قال بعض بني تميم : استوى ظالم العشيرة والمظلوم ، أي اعتدلا ، ومنها إتمام الشيء ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : 14] ومنها القصد إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : 29] أي قصد خلقها ، ومنها الاستيلاء على الشيء ، ومنه قول الشاعر : ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق وقال آخر : إذا ما غزا قوما أباح حريمهم وأضحى على ما ملكوه قد استوى ومنها بمعنى استقر ، ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : 44] وهذه صفة المخلوق الحادث كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 12 ، 13] وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع. وقطع المادة في ذلك أن المسألة علمية وكفى الله المؤمنين القتال والجدال. قال أبو الفرج بن الجوزي : وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل. قال عبد الله بن وهب : كنا عند مالك بن أنس ودخل رجل فقال : يا أبا عبد الله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] كيف استواؤه؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع. وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه. فأخرج. كان ابن حامد يقول : المراد بالاستواء القعود. وزاد بعضهم : استوى على العرش بذاته فزاد هذه الزيادة وهي جرأة على الله بما لم يقل. قال أبو الفرج : وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الله عزوجل على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه العرش ، ثم قال : والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ولأن ذلك مستحيل في حقه عزوجل ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام ولا نزاع في ذلك وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عزوجل منزّه عن ذلك شرعا وعقلا بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث. ومن المعلوم أن الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لا بد فيه من المماسة. والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] ومن المعلوم في قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 13] أنه الاستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عزوجل وبين خلقه وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وذلك كفر محقق. ثم من المعلوم أن الاستواء من الألفاظ الموضوعة بالاشتراك وهو من قبيل المجمل فدعواه أنه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل لجعله المشترك دليلا على أحد أقسامه خاصة فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضحكة لجعله القسم قسيما فمن تأمل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركب يحتجون بالأدلة المجملة التي لا دليل فيها قطعا عند أهل العلم ويتركون الأدلة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم بل بعضها نصوص كما قدمته في حديث النخامة وغيرها فتنبه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك. ومن المعلوم أنه عزوجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما أعني الزمان والمكان مخلوقان وبالضرورة أن من هو في مكان فهو مقهور محاط به ويكون مقدرا ومحدودا وهو سبحانه وتعالى منزّه عن التقدير والتحديد وعن أن يحويه شيء أو يحدث له صفة تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا. فإن قيل ففي الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أنه ذكر المعراج وفيه «فعلا بي الجبار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفف عنا» .. الحديث ، فالجواب أن الحافظ أبا سليمان الخطابي قال : إن هذه لفظة تفرّد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو مكان النبي صلىاللهعليهوسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه. وفي الحديث «فأستأذن على ربي وهو في داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه. وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان فإن قيل يلزم من كلامكم نفي الجهات ونفيها يحيل وجوده فالجواب أن هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبياء يجرون الجهات المتعلقة بالآدميين بالنسبة إلى الله عزوجل عن ذلك. وأيضا إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض بمحال ويوضح هذا أنك لو قلت كل موجود لا يخلو أن يكون عالما أو جاهلا قلنا إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلا فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل ونحن ننزه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزّه نفسه عن كل ما يدل على الحدث وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك ، ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدو فأهلك خلقا وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا وصرفوا عنه عقولهم إلى تنزيهه سبحانه وتعالى فسلّموا. ومن الأحاديث التي يحتجون بها حديث عبد الرّحمن بن عائش عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت أنت أعلم يا رب ، فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه أن طرقه مضطربة ، وقال الدارقطني كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح ، وقال البيهقي روي من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه يدل على أن ذلك كان في النوم ويدل على ذلك أنه روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أتاني آت في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد صلاة الصبح فقال : «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم يا رب ، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض» وروي من وجوه كثيرة فهي أحاديث مختلفة وليس فيها ما يثبت مع أن عبد الرّحمن لم يسمعه من النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:56 pm | |
| فالمعنى رأيته على أحسن صفاته أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك. لأن الصورة يعبر بها ويراد الصفة كما في حديث خلق الله آدم على صورته تقول : هذه صورة هذا الأمر أي صفته فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصرة والإرادة مع أن أن هذا الحديث فيه علل منها أن الثوري والأعمش كان يدلس ولم يذكر أنه سمع الحديث من حبيب بن أبي ثابت ومنها أن حبيبا كان يدلس ولم يعلم أنه سمعه من عطاء وهذا كله يوجب وهنا في الحديث ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليهالسلام فالمعنى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه. قال الإمام أبو سليمان الخطابي : وذكره تغلب في أماليه وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث فالمشبه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عزوجل من ذلك. ومن ذلك حديث القدم «لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» الحديث ، وهذا يرجع إلى المحكم ، قال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : 2]. وقال الحسن البصري : القدم في الحديث هم الذين قدمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها. وقال البيهقي عن النضر بن شميل : القدم هنا الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار. وقال الأهري : القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار. وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم وكل قادم عليها يسمى قدما والقدم جمع قادم كما يقال عيب وعائب. وروى الدارقطني حتى يضع قدمه أو رجله وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظن مع أن الرجل في اللغة هي الجماعة ألا تراهم يقولون رجل من جراد فيكون المعنى يدخلها جماعة يشبهون الجراد في الكثرة. قال ابن عقيل : تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وهذا عين التجسيم وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكون تعالى الله عن تخايل الجسمية ، وذكر كلاما مطولا بالغا في التنزيه وتعظم الله تعالى. وقد تمسك بهذا الحديث ابن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات ، وزاد فروى من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما أسري بي رأيت الرّحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه» وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عزوجل وعلى رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ومن أعظم فرية ممن شبه الله عزوجل بأمرد وعروس ، وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجه ويقول : ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم وحاشاه من ذلك بل هو من أعظم المنزهة لله عزوجل وقد خاب من افترى. وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين : من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر تقدس الله عزوجل عما يقولون علوا كبيرا ، وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف الله عزوجل وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لا يعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة فيجرونها على المتعارف عند الخلق فيقعون في الكفر ، ونوضح ذلك إيضاحا مبينا يدركه أبلد العوام فضلا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار الذين جعل الله عزوجل قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها. فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الضيف وفيه «لقد عجب الله من صنيعكما الليلة» وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجب ربك من قوم جيء بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة». قال ابن الأنباري : معنى عجب ربك زادهم إنعاما وإحسانا فعبّر بالعجب عن ذلك. قال الأئمة : لأن العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان فيستعظمه مما لا يعلمه وذلك إنما يكون في المخلوق وأما الخالق فلا يليق به ذلك فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده لأن المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده ، فالمعنى في حديث الضيف عظم قدره وقدر زوجته عنده حتى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه وعظّم قدر المجيء بهم في السلاسل حتى أدخلهم الجنة وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه. ومن ذلك حديث «لله أفرح بتوبة عبده» ومعناه أرضى بها ومنه (1) قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : 53] أي راضون ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن __________________ (1) أي من هذا الاستعمال ، اه مصححه. وكذا الأحاديث ومنها حديث النزول وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له» إلى آخره ، وهذا الحديث رواه عشرون نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لأن ذلك من صفات الحدث فمن قال ذلك في حقه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى. ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : 25] مع أن معدنه في الأرض وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : 6] فيا لله العجب من شخص لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيلها. وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : 48] وقال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [الطّلاق : 10] فنسب الإنزال إلى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى. وقد قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [الأعراف : 186] أي ببدعته (فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : 186] والعمه في البصيرة كما أن العمى في البصر والعمه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك. وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا : أمروا هذه الأحاديث بلا كيف ، قال الأئمة : فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة والحركة فإن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى آخر يفتقر إلى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة كما في قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل : 50] فإن الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة والرب سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث. وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي : هو فوق العرش بذاته وينزل من مكانه الذي هو فيه فينزل وينتقل ، ولما سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه فقال : النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله انتقال ، أراد أن يغالط الأغبياء بذلك. وقال غيره : يتحرك إذا نزل ، وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد فجورا منهم بل هو كذب محض على هذا السيد الجليل السلفي المنزّه فإن النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجددها كل ليلة وتعددها ، والإجماع منعقد على أن صفاته قديمة فلا تجدد ولا تعدد تعالى الله عما يصفون. وقد بالغ في الكفر من الحق صفة الحق بالخلق وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا. ومنها حديث الأصابع وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع وفي لفظ : والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91] وفي لفظ : فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعجبا وتصديقا له. قال الأئمة ومنهم أبو سليمان الخطابي : لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع بصحته مستند إلى أصل في الكتاب أو السنة المقطوع بصحتها (1) وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه. وقال غيره : قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91](وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى) [الزّمر : 67] دفعا لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات. قال الأئمة : معناه ما عرفوه حق معرفته. وقال المبرد : ما عظموه حق عظمته. وقبضة الله عزوجل عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، واليمين في كلام العرب بمعنى الملك والقدرة كما قال تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)) [الحاقّة : 45] أي بالقوة والقدرة. وأشعار العرب في ذلك أكثر جدا من أن تذكر وأشهر من أن تنشد وتبرز وتظهر. وفي الحديث «الحجر الأسود يمين الله تعالى» وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : 10] وقال أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب الإمام أحمد : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الحجّ : 74] إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم. وفي معنى هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف شاء» وفي ذلك إشارة إلى أن القلوب مقهورة لمقلبها. __________________ (1) لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الأصل لاستراحوا وأراحوا ، اه مصححه. قال الخطابي : واليهود مشبهة ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم ولهذا ضحك عليه الصلاة والسلام على وجه الإنكار وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته بل يطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه. وقال غيره : من حمل الأصابع على الجارحة فقد رد على الله سبحانه وتعالى في قوله : (سُبْحانَهُ) [البقرة : 116] وأدخل نفسه في أهل الشرك لقوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : 18] وهو عزوجل يذكر في كتابه المبين التحرس عما لا يليق دفعا وردا لأعدائه كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : 116] وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ) [الأنعام : 100] ونحو ذلك. وآكد من ذلك قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)) [الجنّ : 3] قدّم تنزيهه عزوجل أولا في هذه الآية والقرآن طافح بذلك ومنها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ «سبقت» قال القاضي المشبه تلميذ ابن حامد : ظاهر قوله عنده القرب من الذات وما قاله يستدعي القرب والمساحة وذلك من صفات الأجسام وقد عمي عن قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود : 83] ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة ثم إن هذا القاضي روى عن الشعبي أنه قال إن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل وهو كذب على الشعبي. وقال بعضهم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : 54] قعد عليه. وقال ابن الزاغوني : خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث ، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» إلخ ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار بل ولا جماد تعالى الله وتقدس عن ذلك. قال ابن الجوزي : وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه ، ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش إن الله قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش ، ثم قال : ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا فعابنا الناس بكلامهم ولو فهموا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بما يوصف به الخلق لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه. وفي ذلك تكذيبه في تنزيهه وتقديسه نفسه عزوجل. وقال أبو الوفاء بن عقيل : تحسب الجهلة أن الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزوجل ، والذي أوقعهم في ذلك القياس المظنون وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضي عليه دليل العقل بالرد. قال أبو الفرج ابن الجوزي : والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب : أحدها : إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : 22] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف ، المرتبة الثانية : التأويل وهو مقام خطر ، المرتبة الثالثة : القول فيها بمقتضى الحس وقد عمّ جهله الناقلين إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله عزوجل وما يستحيل فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس ولو فهموا أن الله عزوجل لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير لما بقوا على الحسيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك ، ولا شك أن مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلمين على الخوض في ذلك. قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره : (خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه والآن رجعت إلى قولهم عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني). قال أبو الوفاء بن عقيل : معنى دين العجائز أن المدققين بالغوا في البحث والنظر ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل فوقفوا مع المراسم واستطرحوا وقالوا لا ندري. وسئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر). فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها وعلى أتباعه ما أشققها (1) اعتقاد قويم ومنهاج سليم. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واسمه عبد الرّحمن بن علي لما رأى الحساد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه حسدا من أنفسهم فصرحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحييوا من الخبير العليم. ونسبوه إليه افتراء عليه. ومن نظمه في ذلك : ولما نظرت في المذاهب كلها طلبت الأسد في الصواب وما أغلو فألفيت عند السير قول ابن حنبل يزيد على كل المذاهب بل يعلو وكل الذي قد قاله فمشيد بنقل صحيح والحديث هو الأصل وكان بنقل العلم أعرف من روى يقوم ......... (2) ومذهبه أن لا يشبه ربه ويتبع في التسليم من قد مضى قبل يشير إلى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر : فقام له الحساد من كل جانب فقام على رجل الثبات وهم زلوا وكان له أتباع صدق تتابعوا فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا وجاءك قوم يدعون تمذهبا بمذهبه ما كل زرع له أكل ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة الذي نقلوه في الصفات وهم غفل وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد فمال إلى تصديقهم من به جهل فصار الأعادي قائلين لكلنا مشبهة قد ضرنا الصحب والخل فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا لعمري لقد أدركت منهم مشايخا وأكثر ما أدركته ما له عقل __________________ (1) لعله ما أشقها بحذف إحدى القافين أو بإبدال إحداهما فاء ، اه مصححه. (2) هكذا بياض بالأصل ويصح أن يتمم بنحو قولنا : إذا نام السوي وبه يخلو ، اه مصححه. وحذفت أبياتا من هذه القصيدة لأني في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز إلى منهج الحق والرشاد. وسئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك) وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به. وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك فقال : (من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانا ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه). وسئل الإمام مالك عن الاستواء فقال : (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فنفى العلم بالكيف فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه. وقال الإمام مالك عند قوله : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النّحل : 74] من وصف شيئا من ذاته سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبّه الله بنفسه. وقال مالك رضي الله عنه : (الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة ، وقوله : (والكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عزوجل لأن الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عزوجل منزّه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة ، وقوله : (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه ، وقوله : (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه فلما ذهب العالمون به وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزوجل وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : 187] فهذه (1) الأئمة __________________ (1) لعله فهؤلاء ، اه مصححه. التي (1) مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة فمن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين والله حسبه وسيجزي الله المفترين. وفي الصحيحين : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» وقال عليه الصلاة والسلام : «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والنافرة والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد ورجاله ثقات. وسئل الإمام أحمد عن الشافعي فقال : (ما الذي أقول فيه وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها ، وأطلع على معارفها أربابها ، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها ، فالمحدثون صيادلة والشافعي طبيبهم ، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم ، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلا وللشافعي عليه منّة) وكان كثير الدعاء للشافعي ، قال له ابنه عبد الله : أي شيء كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ قال : (يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض). وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] فقال : (الرّحمن جلّ وعلا لم يزل والعرش محدث بالرحمن استوى ثم قال كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم محدث ومصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم كلا كيف يحيط به علم وقد اتفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : 3] أي عبارة تخبر عنه ، حقيقة الألفاظ كلام ، قصرت عنه العبارات ، وخرست عنه الألسنة بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] تعالى الله وتقدّس عن المجانسة والمماثلة). قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : معناها ليس له نظير. وقال أهل التحقيق : ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها ، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)) [النّمل : 26] فسبحانه هو المنزّه عن التشبيه القدوس المبرّأ عن الآفات ، والمسبح بجميع اللغات ، السلام السالم من نقائص المخلوقات ، الصمد __________________ (1) لعله الذين ، اه مصححه. السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات ، الغني عن الأغيار ، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات ، الفرد الذي لا نظير له ، المنفرد بصفات الكمال والقدرة ، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسماوات ، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه ، وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات. قال البغداديون في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)) [البقرة : 117] كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان ، وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك (1) وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو ، حي قيوم لا أول لحياته ، ولا أمد لبقائه ، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك ، والدرك عن الاستنباط ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، وأسنده الطلب إلى شكله اه. وقولهم : كل صنع ، عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : 11] ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك ، كيف وقد تنزّه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان ، وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات. جلّت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)) [مريم : 67]. وسأل بعض المخبثين (2) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السنية ، __________________ (1) قوله : بالدرك متعلق بمحذوف فيما يظهر تقديره وأعجز الخلق عن أن يحيطوا به بالدرك ، الخ ، والدرك الإدراك ، اه مصححه. (2) لعله خبيثي الخ ، وقوله للإمام : لعل اللام الأولى من تصرفات النسّاخ وهذا ظننا في كل ما تقدم أو يجيء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة ، لأن الإمام الحصني أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك ، اه مصححه. والمناهج العلية ، يحيى بن معاذ الرازي فقال له : أخبرنا عن الله ، فقال : إله واحد ، فقال له : كيف هو؟ قال : إله قادر ، قال : فأين هو؟ قال : بالمرصاد ، فقال السائل : لم أسألك عن هذا ، فقال : ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق ، فأما صفته فالذي أخبرتك عنه. فالسائل سأل عن الذات والكيفية فأجابه هذا الحبر بالصفات الجلالية القدسية وهذا أخذه من قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون اللعين لما قال له موسى عليهالسلام : (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزّخرف : 46] فسأله فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : 23] فقال موسى : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)) [الدّخان : 7] فضمن الجواب العدول عما سأل لأنه عدل فيه عن مطابقة السؤال لأن فرعون سأل عن ماهيته سبحانه وتعالى وموسى أجابه عن قدرته وصفاته فجاز له حين خلط في السؤال وأخطأ وسأل عما لا يمكن إدراكه العدول عن سؤاله فقال فرعون : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشّعراء : 25] أنا أسأله عن شيء فيجيب عن غيره ، فقال موسى عليهالسلام : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشّعراء : 26] فلما قال موسى عليهالسلام ذلك استشعر فرعون أنه أخطأ في السؤال فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه فقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشّعراء : 27] رماه بذلك حتى يتخلص ويصير موسى عليهالسلام في مقام لا يلتفت إلى قوله ولا يؤخذ به ، فتأمل أرشدك الله عزوجل وهداك إلى الحق كيف أن ذلك معلوم عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف فلا أجهل ولا أعمى بصيرة من فرعون أهدى منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته. قال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل). وقال أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة : (من اعتقد في الله عزوجل ما يليق بطبعه كالعامي فهو مشبه فإنه عزوجل منزه عن كل ما يصفه الآدمي أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحدث تعالى وتقدس عن ذلك) فإيمان العامي لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك (1). __________________ (1) هذا الكلام ليس على عمومه فإن من العامة من يندهش العالم لمبلغ كمال إيمانه بالله عزوجل وقد يصدق ذلك في بعض العوام الذين لم ينشئوا في حجور أهل الدين ولم يختلطوا بهم وهو أندر من الكبريت الأحمر بين طبقات العوام ، اه مصححه. قال ابن عباس : سبحانه وتعالى بخلقه يؤمنون به مجملا ويكفرون به مفصلا حملهم على ذلك زخرف العدو وإغواؤه رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) [يوسف : 106] هم الذين شبّهوا الله بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمّارة بالسوء وعدم تأملهم قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : 51] وفي ذلك إشارة إلى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها أو تدري كيف كنهها في أنفسها بعدم شهودهم خلق السماوات والأرض وخلق أنفسها فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها فكيف تدري أو تدرك شيئا من صفات موجدها من العدم وبارئها ومالكها. وقال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذّاريات : 49](سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : 36] وفي ذلك إشارة ظاهرة إلى عجزك عن إدراك كنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وهو سبحانه وتعالى مباين لخلقه من كل وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيله وهم أو يتصوره خيال. كل ذلك محال. فهو الملك القدوس المنزّه في ذاته و صفاته عن مشابهة مخلوقاته وأنت من مخلوقاته ، ركبك على منوال عجيب ، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب ، مع تنقل تارات من ماء مهين فقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)) [المؤمنون : 12 ـ 14] الإنسان هنا هو آدم عليهالسلام وسلالته لأنه سلة من كل تربة وكان عليهالسلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي الإنسان (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حرز منيع وهو الرحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي دما (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وبين كل خلقتين أربعون يوما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو نفخ الروح فيه. قاله ابن عباس ومجاهد والشعبي وغيرهم. وقيل : نبات الأسنان والشعر قاله قتادة. وقيل ذكرا أو أنثى قاله الحسن. وقيل غير ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصورين والمقدرين تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار. المعنى أن من هذه من بعض مقدوراته يستحق التعظيم والتنزيه لأن هذه التارات والتنقلات إنشاء بعد إنشاء في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية ثم الإنشاء الآخر أن شق الشقوق وخرق الخروق وأخرج
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:58 pm | |
| العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية وركّبها على منوال غريب مع كونه خلقا سويا فأظهر يد القدرة والآيات الظاهرة وكمال الصنع والحكمة الباهرة وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة وغير ذلك مما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني إلى غير ذلك مما يطول عده ويعسر تقديره وحده (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). ولو قيل لك أخبرني عن قدر عروقك رقة وثخانة وطولا وقصرا أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان لعجزت عن بيان ذلك ولخرست ، وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نتفة تراب جعله بشرا منتشرا فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلا من عدم الرشاد ، وسلك سبيل الفساد والعناد ، وصيّر نفسه أخس العباد ، فمن حقق نظره واستعمل فكره وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم فلا يقدره أحد قدره ولا يعرفه سواه وإن قربه وأدناه ، فسبحانه ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه ، عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك. قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومن تأمل كلام الله عزوجل وجده محشوا بتنزيهه تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتارة بالإشارات وتارة بما تقصر عنه العبارات وهؤلاء (1) العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قربوا من درجة النبوة لأنهم دلوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ويرجح مدادهم على دم الشهداء ويستغفر لهم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وهم أمناء الله عزوجل في أرضه وأحدهم على الشيطان أشد من ألف عابد وقد قيل في قوله تعالى : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : 114] أي زدني علما بالقرآن ومعانيه وهؤلاء لهم علم لدني يرد على قلوبهم من غيب الهدى لها جولان في الملكوت فترجع إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة وإلا هلك وأهلك غيره ، ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها ، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يهلك ويهلك غيره فيلقي الله بذنوبه وذنوب غيره فيضاعف عليه العذاب. __________________ (1) معطوف على الأنبياء أي عجزوا كما عجز الأنبياء عن وصف ربنا عزوجل كما ينبغي له ويليق به ولو لا ما علمهم الله تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه وإنما قلنا بذلك العطف لأنه لم يجيء بعدهم حديث عنهم فليعلم ، اه مصححه. قال محمد بن المنكدر وهو من سادة التابعين وكانت عائشة رضي الله عنها تحبه وتكرمه وتبره : الفقيه يدخل بين الله عزوجل وبين عباده فلينظر كيف يدخل. وصدق ونصح قدس الله روحه. وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للإسلام والمسلمين وكانوا شديدين على من خالف ولا سيما لما ظهر أهل الزيغ وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم وكانوا يقولون هم الذين عنى الله عزوجل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : 7] الآية وكذا قالت عائشة رضي الله عنها ، وكانوا يقولون إذا جلس أحد للوعظ والتذكير تفقدوا منه أمورا ولا تغتروا بكل واعظ فإن الواعظ إذا لم يكن صادقا ناصحا سليم السريرة من الطمع والهوى هلك وأهلك ، وذكروا أشياء ببعضها تنطفئ نار الشبه التي بها يموه أهل الزيغ ومن لا يقبلها فما ذاك إلا أن الله عزوجل يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة ومن يرد الله عزوجل إضلاله فلا هادي له (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرّعد : 41](لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : 23] قسم الخلق إلى شقي وسعيد ، فهو الفعال لما يريد ، فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى ، ومن ابتع هوى نفسه الأمّارة وأهل الزيغ والضلالة وحاد عن سبيل من بهم يقتدي هلك في المرقى. ولنرجع إلى قول السلف رضي الله عنهم : إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أمورا إن كانت فيه وإلا فاهربوا منه وإياكم والجلوس إليه وإلا هلكتم من حيث طلبتم النجاة. قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع وكثرت المقالات وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه ، وحديث حذيفة رضي الله عنه يدل لذلك واللفظ لمسلم قال حذيفة : (كنا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم : نحن سمعناه ، فقال : لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره ، قالوا : أجل ، قال : تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ، ولكن أيكم سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي الله عنه : فأسكت القوم فقلت : أنا ، قال : أنت لله أبوك؟ قال حذيفة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «تعرض الفتن على القلوب كالحصير فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاة فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» قال حذيفة رضي الله عنه : وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر ، قال : قال عمر رضي الله عنه : اكسر لا أبا لك فلو أنه فتح لعله كان يعاد ، قال : لا بل يكسر ، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط). قال أبو خالد : فقلت لسعيد : يا أبا مالك : ما «أسود مربادا»؟ قال : شدة البياض في السواد ، قلت : فما «الكوز مجخيا»؟ قال : منكوسا ، فقوله ليس بالأغاليط يعني أنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والفتن كل أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء وأصله في اللغة الاختبار وشبهت بموج البحر لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدة عظمها وشيوعها ، وقوله «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم وتؤثر فيه لشدة التصاقها وهذا شأن المشبهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثر وتحسن لعقولهم ذلك حتى يعتقدوا ذلك دينا وقربانا من الله عزوجل وما يقنع أحدهم حتى يبقى داعية وحريصا على (1) إفتان من يقدر على إفتانه كما هو مشاهد منهم ، وإلى مثل ذلك قوله : «أشربها» أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : 93] أي حبه ، فقوله : «إن بينك وبينها بابا مغلقا» معناه أن تلك الفتن لا تفتح ولا يخرج منها شيء في حياتك ، وقوله : «يوشك» هو بضم الياء وكسر الشين معناه أنه يكسر عن قرب و «الرجل» هو عمر وقد جاء مبينا في الصحيح والحاصل أن الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر رضي الله عنه ما دام حيا فإذا مات دخلت ، ومبدأ الفتن هو الذين شرقوا (2) بالنبي صلىاللهعليهوسلم وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمهم أن الدين لا يتم إلا بهما لأن عندهم علما بذلك وكانوا يظهرون الإسلام ويقرءون شيئا من القرآن وكانوا يرمزون إلى التعرض بالنقص حتى في النبي صلىاللهعليهوسلم حتى أن منهم من كان يؤم الناس ولا يقرأ في الجهرية إلا بعبس لما فيها من العتاب مع النبي صلىاللهعليهوسلم لأجل ابن أم مكتوم وهم رضي الله عنه على (3) قتاله وتظاهر شخص بسؤال ما الذاريات ذروا فقال عمر رضي الله عنه : اللهم أمكني منه ، فمرّ يوما فقيل له : هو ذا ، واسم الرجل صبيغ ، فشمّر عمر رضي الله عنه عن ذراعيه وأوجعه جلدا ثم قال : أرحلوه فأركبوه على __________________ (1) يريد فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون الخ ، اه مصححه. (2) أي غصوا به صلىاللهعليهوسلم وبصاحبيه فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للإسلام في وجودهم لعلمهم الخ ، اه مصححه. (3) على موضع الباء ، اه مصححه. راحلته ، فقال : طيفوا به في حيه ليعلم الناس بذلك (1) وكان رضي الله عنه شديدا في دين الله عزوجل لا تأخذه في الله لومة لائم وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب (قمع النفوس). ولما كان أواخر القرن الأول اتسع الأمر من القصاص وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد وكان ساحرا واشتهر بالوصاف وجمع بين الإلحاد والتنجيم ويقول إن ربه على صورة رجل على رأسه تاج وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به ويقول إن الأمانة في قول الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) [الأحزاب : 72] هي أن لا يمنع على الخلافة ، وقوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : 72] هو أبو بكر رضي الله عنه. وقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر أن يحملها ويمنع عليا منها وضمن عمر أنه يعين أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده فقبل أبو بكر منه وأقدما على المنع متظاهرين ، ثم وصفهما بالظلم والجهل فقال : وحملها أبو بكر إنه كان ظلوما جهولا. وزعم أنه نزل في حق عمر رضي الله عنه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [الحشر : 16] الآية ، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلا لمن ثبت مع علي رضي الله عنه وكان يقول إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يختلفوا في شيء من الشرائع ، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الإمام ، وقال لمحمد الباقر : أقر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق ، فانتهره وطرده ، وكذا فعل بجعفر الصادق ولد محمد الباقر فقال : أعوذ بالله ، وكان يقول : انتظروا محمد بن عبد الله الإمام فإنه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام ، وكان له خبائث ، فلما كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبد الله القشيري فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه فهذا شأن أهل الزيغ. واستمر الأمر على ذلك إلا أنهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الكب (2) على سماع الحديث ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس العوام ثم كثرت المقالات في زمن الإمام أحمد وكثر القصاص وتوجع هو وابن عيينة وغيرهما منهم وكان الإمام أحمد يقول : كنت أود لو كان قصاصا صادقا نصوحا طيب السريرة ، ونبغ في زمنه محمد بن كرام السجستاني وترافق مع الإمام أحمد __________________ (1) ونفاه بعد ذلك رضي الله عنه ولم يرجعه حتى صدقت توبته ، اه مصححه. (2) يريد الإكباب ، اه مصححه. وأظهر حسن الطريقة حتى وثقه هو وابن عيينة ، وسمع الحديث الكثير ووقف على التفاسير وأظهر التقشف مع العفة ولين الجانب ، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء ، ثم أخذ حانوتا يبيع فيه لبنا ، واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويذكر ويحدث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفا ، وكان من غلاة المشبهة وصار يلقي على العوام الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوام وما ألفوه ففطن الحذّاق من العلماء فأخذوه ووضعوه في السجن فلبث في سجن نيسابور ثمان سنين ثم لم يزل أتباعه يسعون فيه حتى خرج من السجن وارتحل إلى الشام ومات بها في زعر ولم يعلم به إلا خاصة من أصحابه فحملوه ودفنوه في القدس الشريف وكان أتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفا على التعبد والتقشف وقد زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون واستمر على ما هم عليه خلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا. قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : 8] قال سعيد بن جبير : هذه الآية نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ، المعنى أنه ركض في ميادين الباطل وهو يظنها حقا ، كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول عند هذه الآية : إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظن بكونها حقا وهؤلاء ينزع من قلوبهم نور المعرفة وسراج التوحيد من أسرارهم ووكلوا إلى ما اختاروا فضلّوا وأضلّوا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : 18] حتى ينكشف لهم الأمر كما قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزّمر : 47] قيل : عملوا أعمالا ظنوا أنها في كفة الحسنات فإذا هي في كفة السيئات ، وهذه الآية قيل إنها في أهل البدع يتصور (1) ويعتقد مع تمام الورع والزهد وتمام الأعمال الصالحة وفعل الطاعات والقربات ما عاقبته خطرة. ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحق ويعتقده على خلاف ما هو به إما برأيه ومعقوله الذي يحاكي به الخصوم وعليه يعول وبه يغتر قد زين له العدو وحلاه له حتى اعتقده دينا ونعمة وإما أخذا بالتقليد ممن هذه حاله ، وهذا التقليد كثير في العوام لا سيما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر وهو على وفق الطبع والعادة وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقا لا يحصون حتى أنهم يعتقدون أن الحق في __________________ (1) أي أحدهم ، اه مصححه. مثال ما هم عليه وأن غيرهم على ضلالة ومثل هؤلاء ومن اتبعوهم إذا بدا لهم ناصية ملك الموت انكشف لهم بطلان (1) ما اعتقدوه حقا باطلا وجهلا وختم لهم بالسوء وخرجت أرواحهم على ذلك وتعذر عليهم التدارك وكذا كل اعتقاد باطل ، ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبد وشدة الزهد وكثرة الصوم والحج وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات لأنها تبع لأمر باطل ولا ينجو أحد إلا بالاعتقاد الحق ، وقد قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : 32] وهذه الآية صريحة في أنه ليس بين الحق والباطل واسطة والباطل هو الذهاب عن الحق مأخوذ من ضل الطريق وهو العدول عن سمته والحق هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)) [الأنعام : 153] وصف الله تعالى صراطه وهو دينه بالاستقامة وأمر باتباعه ، والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه فمن اتبعه أوصله إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال سهل : الصراط المستقيم هو الاقتداء والاتباع وترك الهوى والابتداع ، ثم إنه تعالى نهى عن اتباع السبل لما فيها من الحيدة عن طريق الاستقامة فقال : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : 153] أي تميل بكم عن طريقه التي ارتضى وبه (2) أوصي إلى سبل الضلالات من الأهواء فتهلكوا. قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما الصراط المستقيم؟ فقال : ما تركنا محمد صلىاللهعليهوسلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جوادّ وعن يساره جوادّ وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : 153] الآية ، فأشار رضي الله عنه بالرجال الذين على الجوادّ إلى علماء السوء وأهل البدع ، وأشار بقوله : يدعون من مرّ بهم ، إلى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم. ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كل أحد وقالوا : إذا جلس للوعظ فتفقدوا منه أمورا فإن كانت فيه فاهربوا منه وإلا هلكتم من حيث ظننتم __________________ (1) لعل لفظ بطلان من زيادة النساخ ، اه مصححه. (2) راعى في وصف الطريق بالتي جواز تأنيثها وراعى في رجوع الضمير إليها في به جواز تذكيره فليعلم ، اه مصححه. النجاة منها إن كان مبتدعا فاحذروه واجتنبوه فإنه على (1) لسان الشيطان ينطق ومن نطق على لسان الشيطان فلا شك ولا ريب في إغوائه فيهلك لإنسان من حيث يظن السلامة وأيضا ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير. روى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» ورواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن بشر وبهذا وغيره يجب التبري من أهل البدع والتباعد. قال بعض السلف : (من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عرى الإسلام عروة عروة). وقال شخص من أهل الأهواء لأيوب السختياني رضي الله عنه : أكلمك كلمة؟ فقال : لا الله ولا نصف كلمة ، وكان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا. قال رضي الله عنه : كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديثا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبكي حتى نرحمه وكان يقول : إذا بلغني موت أحد من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي ، وكان يقول : والله ما صدق عبد إلا سره ألا يراه أحد (2). وكان يونس بن عبيد يقول : احفظوا عني ثلاثا مت أو عشت : لا يدخلن أحد على سلطان يعظه أو يعلمه ، ولا يخلون بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن ، ولا يمكن سمعه من ذي هوى ، وأشدها الثالثة لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك. وكان يقول : ما يزال العبد بخير ما أبصر ما يفسد عمله. ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري ، وكان أبو عبد الله الأصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكائين ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه ، قال : وقفت على علي بن ماشاذة وهو يتكلم على الناس فلما جاء الليل رأيت رب العزة في النوم فقال لي : وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنك النظر في الدنيا ، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئا. __________________ (1) على بمعنى عن أو الباء ، اه مصححه. (2) أي وهو يعمل الصالحات وهو كلام جليل فليفكر فيه القارئ طويلا لعله يتحقق به ، اه مصححه. وقال الحميدي : سمعت الفضيل يقول : من وقر صاحب بدعة أورثه الله عمى قبل موته ، قيل : أراد أيضا عمى البصيرة. واعلم أن الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدا وقد ذكرت جملة منه في (تنبيه السالك على مظان المهالك) ومنها : أن يكون الواعظ سيئ الطعمة فإنه إنما ينطق بالهوى لأن مثل هذا يوقع الناس في الحرام أو ربما اعتقدوا حله لأنهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله. ومنها : أن يكون رديء العقل أحمق فإنه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح والأحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنه يصيب. قال عيسى عليهالسلام : أبرأت الأكمه والأبرص وأعياني الأحمق ، فالأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه للطريق فاسد فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول إلى الغرض ويختار ما لا ينبغي أن يختار وهذا واجب الاجتناب بخلاف صاحب العقل الصحيح فإنه يثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأدلة والأعمال وخفايا النفس الأمّارة وغرور الشيطان. ومنها : أن يذكر الأدلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الأخبار والآثار لأنه بذلك يحل من القلوب الزواجر ويسهل ارتكاب المعاصي لا سيما إذا علم منه ارتكاب شيء ولو كان مكروها فإنه يوقع الناس في ورطة عظيمة. قال : إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوام بالحرام وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوام معناه أنهم يعتقدون حله لارتكاب العلماء ذلك لأنهم القادة وعليهم المعول في التحليل والتحريم. ومنها : أن يتعرض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار ويجمعها ويسردها ويكرر الآية والخبر مرارا لأنه يوقع العامي في ما اعتاده وألفه فيجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه ويزينه الشيطان له بغروره لا سيما إن كان الواعظ ممن يظهر زهدا وورعا وشفقة على الناس فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر ، والسلف رضي الله عنهم لهم اعتناء بشدة مجانبة هذا والتباعد عنه. ومنها : أن يكون متهما بالرفض وبسب الصحابة رضي الله عنهم وهؤلاء نبّه مالك رضي الله عنه على أنهم من سلالة المنافقين وأوضح ذلك نور الله تعالى قلبه فقال : أرادوا أن يقدحوا في النبي صلىاللهعليهوسلم بشيء فلم يجدوا مساغا فقدحوا في الصحابة لأن القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه وهؤلاء كفار لاستحلالهم سب أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام. ومنهم أقوام يلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره وهم لا يعتقدون البخاري ويسمونه فيما بينهم بالفشاري ولهم خبائث عديدة كل واحدة كفر محقق ، وبقي أمور لا أطول بذكرها فمن أراد الله به خيرا حماه عن مجالسة هؤلاء لأن القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن يرتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه وأقل ما ينال القلب التردد والحيرة وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان فإن كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميا والمبتدع أدخلها عليه بقال الله عزوجل وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبعيد أن يرجع ويتقشع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكم الشبهة بالدليل وهذا من الهالكين إلا أن يتداركه الله برحمته لأن عمدة الناس الكتاب والسنة والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضي فمن حق العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم وأن لا يغتر بتقشفهم وكثرة تعبدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم فإن ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها وبها تتشرب القلوب لبدعتهم لا سيما من قلبه مشغوف بحب الدنيا إذا رئي زاهدا فيها مع إكبابه على الكتاب والسنة مع الورع والزهد والعفة والقناعة فلا شك ولا ريب أنه يرغب فيه غاية الرغبة ويميل إليه غاية الميل ولا يصده عنه صاد كما هو مشاهد من العوام ومحبتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة فتنبه لذلك فقد أوضحت طريق السلامة والتباعد عن مظان الهلكة فكم من شخص قصده صالح قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر وعليك بالاقتداء بالأطباء أعني أطباء القلوب وهم الأنبياء عليهمالسلام لأنهم العالمون بأسباب الحياة الأخروية ثم أتباعهم الذين أخذوا عنهم وشاهدوا منهم ما لم يشاهده غيرهم. شعر : من كان يرغب في النجاة فما له غير اتباع المصطفى فيما بدا فاتبع كتاب الله والسنن التي صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى فالدين ما قال النبي وصحبه فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدى فسبحان الحليم الودود ، الممهل الكريم العميم الجود ، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود ، ويرى جريان الماء في العود ، القادر فكل ما سواه بقدرته موجود ، نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك ، فتعالى عن الأشكال والأمثال والجهات والحدود ، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل فمن عطل وقع في الجحود ، وتنزيهه عن النقائص والأشباه محقق ومعلوم والتشبيه مذهب السامرة واليهود ، وكف الكف مشلولة بل مقطوعة وباب التشبيه مردود ومسدود ، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود ، وأصحاب الأخدود وعاد وثمود ، فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود ، ونتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين محمد كما توسل به أبو البشر فقبلته فهو أحمد المحمود ، صاحب الحوض المورود ، والمقام المحمود ، فهو أعظم الوسائل ولا يخيب من توسل به ولو كان من أهل الجحود. قال الله تعالى : (وَكانُوا) [البقرة : 61] أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) [البقرة : 25] أي بعث محمد صلىاللهعليهوسلم (يَسْتَفْتِحُونَ) [البقرة : 89] أي يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] وهم مشركو العرب كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو اللهم انصرنا بجاه النبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة ، فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وثمود. فانظر أرشدك الله إلى قدره ودنو منزلته عند ربه كيف قبل عزوجل التوسل به من اليهود مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به ولا يوقرونه ولا يعظمونه بل يؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه فمن منع التوسل به فقد نادى على نفسه وأعلم الناس بأنه أسوأ حالا من اليهود. شعر : أنت الملاذ لنا وأنت المرتجى وبك اللياذ وأنت ملجأ من لجا يا سيد الكونين يا من قد سما معراجه فوق السماء وعرجا يا سيد الثقلين والحكم الهدى والمقصد الأسنى لأبواب الرجا يا سيدا من أم باب مقامه ألفاه خير مقام سؤل يرتجى يا سيدا ما أمه من ضامه ريب الزمان بخطبه الأنجا يا سيدا جعل الإله وجوده للعالمين المرتجى والملتجى يا خاتم الرسل الكرام ومن به رب البرية كل هم فرجا غيره : وكن مستجيرا بالذي نال رفعة إلى عزها ذل الملوك الأكاسر
نبي له جاه عريض ومنصب عظيم له تعزي العلى والمفاخر جليل جميل راحم متعطف فصيح مليح كامل الحسن باهر ألا يا رسول الله يا غاية المنى لقد نلت فخرا ما لأدناه آخر أيا درة الأنباء يا جوهر الورى هنيئا لنفس في هواك تتاجر لقد ربحت في بيعها وتنعمت وقد سعدت يا درها والجواهر حبيبي رسول الله كن لي شافعا أغثني أجرني يوم تبلى السرائر بجاهك آمال الضعيف تعلقت إذا نصب الميزان والعقل طائر فكن شافعي عند الإله فإنه حليم كريم غافر الذنب ساتر مضى العمر في لهو وزهو وغفلة وإني عن الفعل الحميد لقاصر فيا رب داركنا بعفو ورحمة فأنت جميل العفو للكسر جابر وخذ بنواصينا وطهر قلوبنا ومنّ بعفو منك فالعفو غامر وصل على البدر الذي من جبينه بدا الشمس والأقمار والنجم زاهر نجزت هذه الأحرف المباركات على قارئها ومستمعيها المتأسين بأهل الحق التابعين للصفوة من أولي المعجزات المنزهين لرب العالمين والمعظمين لسيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء والمرسلين وسرج هذه الأمة من بعدهم كالصديقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكنت قد عزمت على أن أقتصر على ذلك لأن في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك ثم قيل لي وكرر علي أن أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيد الأولين والآخرين تبعا لسلالة القردة والخنازير لهم وجود وفيهم كثرة وقد أخذوا بعقول كثير من الناس لما يزينون لهم من الاطراء على قدوتهم ويزخرفون لهم بالأقوال والأفعال ويموهون لهم بإظهار التنسك والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحج والتلاوة وغير ذلك مما يحسن في قلوب كثير من الرجال لا سيما العوام المائلين مع كل ريح أتباع الدجال فانقادوا لهم بسبب ذلك وأوقعوهم في أسر المهالك فرأيت بسبب هذه المكائد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم قمعا لهذا الزائغ عن طريق أهل الحق وهم الأئمة الأربعة المقتدى بهم والمعول عليهم في جميع الأعصار والأقطار لأنهم النجوم الذين بهم يهتدى وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبدين وغيرهم من العلماء أهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة ولو كان أحرفا يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة فاستخرت الله عزوجل في ذلك مدة مديدة ثم قلت : لا أبا لك ، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما عملت ، وإلا ألجمت بلجام من نار ومقت وها أنا أذكر الرجل وأشير باسمه الذي شاع وذاع ، واتسع به الباع ، وسار بل طار في أهل القرى والأمصار ، وأذكر بعض ما انطوى باطنه الخبيث عليه وما عول في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه ولو ذكرت كثيرا مما ذكره ودونه في كتبه المختصرات لطال جدا فضلا عن المبسوطات وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطلع عليها إلا من تحقق أنه على عقيدته الخبيثة ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات. قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس : لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه ، وأكد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه وما أفتى به مخالفا لجميع المذاهب وما خطئ فيه وما انتقد عليه وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات وما جاءت به المراسيم العاليات وأتعرض لبعض ما سلكه من المكائد التي ظن بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات وهيهات فأول شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد وشرع يطلب العلم ويتعبد فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه فأظهر التعفف فزادوا في الغربة فيه والوقوع عليه ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوداته حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلا ذلك المتفنن الفطن ثم مع ذلك شرع يتلقى الناس بالإنس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس لا سيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فطلبوا منه أن يذكر الناس ففعل فطار ذكره بالعلم والتعبد والتعفف ففزع الناس إليه بالأسئلة فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة قال له عادوني فيها فإذا جاءه قال هذه مسألة مشكلة ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلدها في عنقي فيقول أنا أوفي لك فيقول إن تكتم علي فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك فيفتيه بما فيه فرجه حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه فكان إذا كان في بعض المجالس قال (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلانا وزيرا وفلانا محتسبا وفلانا دويدارا وفلانا أمير البلد فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب فكانوا يقومون في نصرته. ثم اعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصا منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له ما عقيدة إمامك فإذا قال كذا وكذا قال أشهد أنها حق وأنا مخطئ واشهدوا أني على عقيدة إمامك ، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه ، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع ، ألا ترون كيف خرج سالما حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير لا سيما من العوام ، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكرا فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عزوجل في سجن الزندقة والكفر ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن حقا كان أو باطلا ولو بالأيمان الفاجرة سواء كانت بالله عزوجل أو بغيره وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز وهذا مذهب فرقة الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خزعبلات ومكر وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثا أو منعا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك ، وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة وقد وقفت على مصنف له في ذلك (1) وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له : يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن تيمية فقال : اشهد علي أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية فنسأل الله العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل (2) ثم اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك __________________ (1) هذا شيء مدهش جدا ولو لا أن الذي يحكيه الإمام الحصني المعروف بشحه على دينه ما وجد ما يحكيه إلى القلوب سبيلا ، اه مصححه. (2) لا يتردد عاقل في أن ما سيحكيه الإمام الحصني بعد فعل دجاجلة لا علماء فليقرأه العاقل وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين الله ، اه مصححه. الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : 43] ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الأعناق مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم حتى إنهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلا في الأماكن الخفية بعد التحرز وغلق الأبواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة ويقولون إن للحيطان آذانا ، ومن جملة مكرهم وتحيلهم أن الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث له أتباع يظهرون له العلم والعظمة والتعبد والتعفف يخدعون بذلك أرباب الأموال لا سيما الغرباء فيدفع ذلك الغريب أو غيره إلى ذلك الشيخ شيئا فيأبى ويظهر التعفف فيزداد ذلك الرجل حرصا على الدفع فلا يأخذ منه إلا بعد جهد فيأخذها ذلك الخبيث ولا عليه من اطلاع الله تعالى على خبث طويته ويدفع بعضها إلى أتباعه وإلى غيرهم ويتمتع هو وخواصه بالباقي ولهم يد وقدرة على ذلك ، ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصانا أو غيرها ثم يقولون انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه وهكذا كان السلف ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع وكثير من الناس في غفلة من هذا ولو لا أن ذلك من جملة النصيحة لما ذكرته ولما تعرضت له وكان ما في نفسي شاغلا عن ذلك إلا أنه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بسبب نجدة الحروري المبتدع (لو لا أن أكتم علما لما كتبت إليه) يعني جواب ما كتب إليه بأن يعلمه مسائل والقصة مشهورة حتى في صحيح مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» رواه غير واحد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه منهم أبو داود وكذا الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. ثم إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمة بدفعه إليهم لأنهم ليسوا من أهلها فليتنبه لذلك فإنه قد يخفي مع ظهوره وقد تشكك في ذلك وتلاعب الشيطان به فلنأخذ بجانب الاحتياط منه فإنه طريق السلامة والله أعلم. واعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر لكان لي في ذلك مزيد وكثرة ، وفيما ذكرته أنموذج ينبه بعضه على غيره لا بما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره التي أشار إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبعضها صرح به تصريحا ظاهرا لا يخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر. وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة». وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء وليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية». وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول وهو على المنبر : «ألا إن الفتنة هنا ـ ويشير إلى المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية «إن الفتنة هاهنا» ثلاثا ، وفي رواية : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم من بيت عائشة رضي الله عنها فقال : «رأس الكفر هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وهذا المبتدع من حران الشرق بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع كجعد وغيره. وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية هم شر الخلق طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا : يا رسول الله وما سيماهم؟ قال : «التحليق والتسبيد فإذا رأيتموهم فأنيموهم» أي اقتلوهم ، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر وقيل ترك التدهن وغسل الرأس وغير ذلك ، والأحاديث في ذلك كثيرة وفي واحد كفاية لمن أراد الله عزوجل به الرشد والهداية فقد أوضحهم سيد الناصحين صلىاللهعليهوسلم باعتبار أوصافهم وأماكنهم إيضاحا جليا لا خفاء فيه ولا جهالة فلا يتوقف في معرفتهم بعد ذلك إلا من أراد الله تعالى إضلاله وإذا تمهد لك هذا أيها الراغب في فكاك نفسك من ربقة عقائد أهل الزيغ الضالين المضلين والاقتداء بأهل السلامة في الدين. فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ : المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 10:59 pm | |
| أراد الله عزوجل إهلاكه فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به (1) ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين فمنه ما دوّن في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات وتضمنه الفتاوى الزكيات من دنس أهل الجهالات ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رءوس الأشهاد في المجامع الجامعة حتى شاع وذاع واتسع به الباع حتى في الفلوات فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني (2) ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمهالله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة ، صورته : بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي تنزّه عن التشبيه والنظير ، وتعالى عن المثل فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنة والكتاب ، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ، وينزّه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : 4] ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته وأمر بالتفكر في الآيات ونهى عن التفكر في ذاته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع ، وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع ، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع. وبعد فإن القواعد الشرعية ، وقواعد الإسلام المرعية ، وأركان الإيمان العلمية ، ومذاهب الدين المرضية ، هي الأساس الذي يبنى عليه ، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه ، والطريق التي من سلكها فاز فوزا عظيما ، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما ، ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها ، ويؤكد دوامها ، وتصان عقائد هذه الأمة عن __________________ (1) ليتأمل هذا جدا فإنه عجيب ، اه مصححه. (2) لفظ ناصر الدين صفة لموصوف محذوف قطعا ليستقيم الكلام والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين الخ ، اه مصححه. الاختلاف ، وتزان بالرحمة والعطف والائتلاف ، وتخمد ثوائر البدع ، ويفرق من فرقها ما اجتمع. وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ، ومدّ بجهله عنان كلمه ، وتحدث بمسائل الذات والصفات ، ونص في كلامه الفاسد على أمور منكرات ، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون ، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام ، وشهر من فتاويه ما استخف به عقول العوام ، وخالف في ذلك فقهاء عصره ، وأعلام علماء شامه ومصره ، وبث به رسائله إلى كل مكان ، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، ولما اتصل بنا ذلك وما سلك به هو ومريدوه ، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه ، من هذه الأحوال وأشاعوه ، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه ، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم فقمنا في نصرة الله مشفقين من هذا النبأ العظيم ، وأنكرنا هذه البدعة ، وعزنا (1) أن يشيع عمن تضمنه ممالكه هذه السمعة ، وكرهنا ما فاه به المبطلون ، وتلونا قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) [الصّافات : 180] فإنه سبحانه وتعالى تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)) [الأنعام : 103] فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى أبوابنا ، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا ، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : 74] ولما وصل إلينا الجمع أولو العقد والحل ، وذوو التحقيق والنقل ، وحضر قضاة الإسلام ، وحكام الأنام ، وعلماء المسلمين ، وأئمة الدنيا والدين ، وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع ، ومن له دراية في مجال النظر ودفع ، فثبت عندهم جميع ما نسب إليه ، بقول من يعتمد ويعول عليه ، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده (2) وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون ، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزّخرف : 19] وبلغنا أنه قد استتيب مرارا فيما تقدم ، وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك ، وأقدم ، ثم عاد بعد منعه ، ولم يدخل ذلك في سمعه ، __________________ (1) هذه الفقرة محرّفة ومعناها ليس بظاهر والذي يظهر أن أصلها وعذنا أن يشيع عمن تضمه ممالكه هذه السمعة ، يستعيذ السلطان بالله أن يشيع عنه هو تلك السمعة لأن الرجل في مملكته ، اه مصححه. (2) ليحفظ هذا ثم ليحفظه المغرورون ، اه مصححه. ولما ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور ، ويمنع من التصرف والظهور ، ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك ، وينهي عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك ، أو يعود له في هذا القول متبعا ، أو لهذه الألفاظ مستمعا ، أو يسري في التشبيه مسراه ، أو يفوه بجهة العلو بما فاه ، أو يتحدث أحد بحرف أو صوت ، أو يفوه بذلك إلى الموت ، أو ينطق بتجسيم ، أو يحيد عن الطريق المستقيم ، أو يخرج عن رأي الأئمة ، أو ينفرد به عن علماء الأمة ، أو يحيز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف ، فليس لمعتقد هذا إلا السيف (1) ، فليقف كل واحد عند هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة ، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة ، ولزوم ما أمر الله تعالى به والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل ، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل ، والسجن الطويل مستقره ومقيله وبئس المقيل ، وقد رسمنا بأن ينادي في دمشق المحروسة والبلاد الشامية ، وتلك الجهات الدنية والقصية ، بالنهي الشديد ، والتخويف والتهديد ، لمن اتبع ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه ، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه ، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه ، ومن أصر على الامتناع ، وأبى إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم ، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم ، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية ، ولا شهادة ولا إمامة ، بل ولا مرتبة ولا إقامة ، فإنا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد ، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيرا من العباد أو كاد ، بل كم أضلّ بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد ، ولتثبت المحاضر الشرعية ، على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية ، وقد أعذرنا وحذرنا ، وأنصفنا حيث أنذرنا ، وليقرأ مرسومنا الشريف على المنابر ، ليكون أبلغ واعظ وزاجر ، لكل باد وحاضر ، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه ، وكتب ثامن (2) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة (3). __________________ (1) لينظر هذا كذلك ، اه مصححه. (2) كذا بالأصل والمعنى ظاهر ولعل الأصل في ثامن وعشرين من شهر الخ وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك ، اه مصححه. (3) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : 13] ، اه مصححه. وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التواريخ وهو ابن شاكر ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي وكان من أتباع ابن تيمية وضرب الضرب البليغ لكونه قال لمؤذن في مأذنة العروس وقت السحر أشركت حين قال : ألا يا رسول الله أنت وسيلتي إلى الله في غفران ذنبي وزلتي وأرادوا ضرب عنقه ثم جددوا إسلامه وإنما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حق ابن تيمية في إقامة الحجة عليه مع أنه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته والعجب أن ابن تيمية ذكرها وهو سكت عنها. كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال : كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال غير ذلك حتى أوصلوه إلى بعض الحكام واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فقال : قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا : ما تقول في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : 115]؟ فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من الجهلة على التحقيق وأنه لا يدري ما يقول وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوام عليه وكذا الجامدين (1) من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه المرضي وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء وقد أطنب فيها وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظن أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله (إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) [الحديد : 4] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا) هذه عبارته بحروفها ، فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة __________________ (1) كذا بالأصل وليس يخفى أن لفظ الجامدين حقها الجامدون وكذا العارون ، اه مصححه. بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش ومحتجا بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك ومن قبيل المجمل وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله وفساد تصوره وبلادته وكان بعضهم يسميه حاطب ليل وبعضهم يسميه الدار الهدار وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة (1) عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام وهو (2) من أعظم الناس عداوة للنبي صلىاللهعليهوسلم وقتل علي رضي الله عنه واحدا منهم تكلم في مجلسه كلمة فيها ازدراء بالنبي صلىاللهعليهوسلم وقد وقفت على المسألة أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء فتصدى لهم الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق ولم يبق منهم إلا الضعفاء في العلم ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقاها ابن تيمية عن شيخه وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصورها. عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم. ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ذكره في الجزء العشرين قال : وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق فسئل ابن تيمية عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلهم بذلك فأفحم كمال الدين ابن تيمية وخاف ابن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي فرضوا منه بذلك وانصرفوا ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره فشفع فيه وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيمية ثم قال : ولما كان __________________ (1) ظاهر أنها الفوقية وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة بين حياة الرسول ومماته ، اه مصححه. (2) ظاهر أن هذا اللفظ هم لا هو ، اه مصححه. سلخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس بالميدان أيضا وحضر نائب السلطنة أيضا وتباحثوا في أمر العقيدة وسلك معهم المسلك الأول فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيمية وفي الكتاب (تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيمية) فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر فأجاب فلما كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على ابن تيمية كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية وأن بعضهم صفع فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير شمس الدين بن محمد المهمندار إلى ابن تيمية وقال له قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا وكذلك راح إلى قاضي القضاة فشرعوا في التجهيز وسافر صحبة ابن تيمية أخواه عبد الله وعبد الرّحمن وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيمية وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق وأخبر بوصولهم إلى الديار المصرية وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهر بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء ، فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادعى على ابن تيمية في أمر العقيدة ، فذكر منها فصولا فشرع ابن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلم بما يقتضي الوعظ فقيل له يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك وقد ادعي عليك بدعوى شرعية فأجب ، فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من ذلك بل قيل له أجب فتوقف وكرر عليه القول مرارا فلم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة فتردد إليه جماعة من الأمراء فسمع القاضي بذلك فاجتمع بالأمراء وقال يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل ونقلوا أخويه معه بإهانة وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي وحضر القراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة فلما كان بعد أيام عرضها عليه فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما فيها امتثالا للمراسيم السلطانية وكانوا قد بيتوا على الحنابلة كلهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموي بعد الصلاة وحضر القضاة كلهم بالمقصورة وحضر معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل على يديه وفيه ما يتعلق بمخالفة ابن تيمية في عقيدته وإلزام الناس بذلك خصوصا الحنابلة والوعيد الشديد عليهم والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين محمد بن شهاب الدين الموقع وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذن وقرئ بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة واعترفوا أنهم يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها ابن تيمية وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء وحضر ابن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قبل مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه فأنكر فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحاما اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا فقيل لابن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها ، فقال القاضي نجم الدين بن صصري : حكمت بحبسك واعتقالك ، فقال له : حكمك باطل لأنك عدوي ، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق ، وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر ونصف وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر من شعبان قدم بريدي من الديار المصرية ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيمية فاعتقل في قلعة دمشق وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنه قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلىاللهعليهوسلم) ثم إن الشاميين كتبوا فتيا أيضا في ابن تيمية لكونه أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء وآخر القول إنه أفتى بتكفيره ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك المالكي وكذلك كتب غيرهم ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلسا ويجمع العلماء والقضاة فرأى أن الأمر يتسع فيه الكلام ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيرها فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب عليها (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع) ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعا عليه (1) ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره ، وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان إلى نائب البلد وأمره أن يقرأ على السدة في يوم الجمعة فقرئ وكان قارئ الكتاب بدر الدين بن الأعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذن ومضمون الكتاب بعد البسملة أدام الله تعالى نعمه ونوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء وعقدنا بهذا السبب مجلسا بين أيدينا الشريفة ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقا وكتبوا خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية وقد جهزنا إلى الجناب العالي طي هذه المكاتبة فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه تضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى فيحيط به علمك الكريم ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه فإنه في كل وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها ويفسد على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع ما ذلك وتسد الذريعة منه فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية فيتقدم منع من سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتاوى أو يعمل بها في أمر الطلاق أو هذه القضايا المستحدثة وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله وإن كان من الشبان الذين يقصدون الظهور كما يقصده ابن تيمية فيؤديهم ويردعهم ردعا بليغا ويعتمد في أمر ما يجسم به مواد أمثاله لتسقيم أحوال الناس وتمشي على السداد ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله عزوجل __________________ (1) لينظر هذا المغرورون ، اه مصححه. من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد الذرائع فيها وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين سبعمائة صورة الفتوى من المنقول من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى : الحمد لله هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلىاللهعليهوسلم فضيلة وسنّة مجمع عليها وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوى الغريبة ويجلس (1) إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي. وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي : لكن يحبس الآن جزما مطلقا. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي : ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرّحمن القزويني فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم غيرة عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن. وذكر الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الذهبي بعض محنته وأن بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة وكان سؤالهم عن عقيدته وعما ذكر في الواسطة وطلب وصورت عليه دعوى المالكي فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهرا ثم أخرج ثم حبس في حبس الحاكم وكان مما ادعى عليه بمصر أن قال : (الرّحمن استوى على العرش) حقيقة وأنه تكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه (2). __________________ (1) ظاهر أن اللفظ ويحبس لا يجلس ، اه مصححه. (2) ليتأمل العاقل هذا ثم ليتأمله ، اه مصححه. وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : 255] ما صورته : (وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش (إن الله يجلس على الكرسي) وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه أظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه. ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات المتعلقة بالخالق والمخلوق (ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن المفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا) هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 13] تعالى الله وتقدّس عن ذلك. وقال في الكلام على حديث النزول المشهور (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب) هذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصا على ظاهرها واعتقادها وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا وذكره إخبارا عن الملأ الأعلى والكون العلوي والسفلي ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك وهذا الخبيث لا يعرج على ما فيه التنزيه وإنما يتتبع المتشابه ويمعن الكلام فيه وذلك من أقوى الأدلة على أنه من أعظم الزائغين ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما قلته إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه. قال بعض السلف رضي الله عنهم : الإعراض عن الحق والتسخط له علامة الركون إلى الباطل وطريق الحق دقيق وبعيد ، والصبر معه شديد ، والعدو لا يزال عنه يحيد ، وأثقال الحق لا يحملها إلا مطايا الحق. وقال بعض السلف : داعي الحق داعي رشد ، ليس للشيطان فيه يد ، ولا للنفس فيه نصيب ، وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس ومتبعها هالك لا محالة لأنه عاص في صورة طائع ، ومبعد في صورة مقرب ، وصدق ونصح رضي الله عنه فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يحصون عدّا ، ولا يمكن ضبطهم حدا. قال العلماء : إن وسوسة التشبيه من إبليس فالرد عليه وإبطال وسوسته أن يقول في نفسه كل ما تصور في صدري فالرب بخلافه فإنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق له كيفية ومثل والرب سبحانه وتعالى لا مثل له ولا كيفية فما مثل في صدري فهو غير ربي فهو سبحانه وتعالى موحد الذات والصفات. وسئل علي رضي الله عنه عن التوحيد والعدل فقال : (التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه). وقال يحيى بن معاذ : (التوحيد في كلمة واحدة ما تصور في الأوهام فهو بخلافه). وقال علي رضي الله عنه : (ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود). وقال رضي الله عنه : (أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات المحدثة عنه فمن وصفه بحادث فقد قرنه ، ومن قرنه فقد؟؟؟ (1) ومن؟؟؟ فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عده). قال المحققون : (من اعتقد في الله سبحانه وتعالى ما يليق بطبعه فهو مشبه لأنه سبحانه وتعالى منزّه عما يصفه به أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحديث). وسئل ـ أعني عليا رضي الله عنه ـ : بم عرفت ربك؟ فقال : (عرفته بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كل شيء ولا يقال أمامه شيء وهو في كل شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره). وقال أيضا رضي الله عنه : (عرّفنا الله سبحانه وتعالى نفسه بلا كيف وبعث سيدنا محمدا صلىاللهعليهوسلم بتبليغ القرآن وبيان المفصلات للإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقته بما جاء به). وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل). قال جعفر في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)) [الإخلاص : 1] (هو الذي لم يعط لأحد من معرفته غير الاسم والصفة) وقيل هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته __________________ (1) قوله :؟؟؟ هي ثناه ، اه مصححه. وصفاته إلا هو وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ (2)) [الإخلاص : 2] قيل هو الذي أيست العقول من أن تطلع عليه أو تدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه ، وقيل هو السيد الذي لا نهاية لسؤدده وقيل هو المصمود إليه في الحوائج وقيل هو الذي لا يستغني عنه شيء من الأشياء. وقال ابن عباس رضي الله عنه : معناه الذي لا جوف له وقيل غير ذلك ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)) [الإخلاص : 3] نفي الجنسية والبعضية ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)) [الإخلاص : 4] نفي الشريك والنظير فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فتعالى أن تدركه الأوهام والعقول والعلوم بل هو كما وصف نفسه والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة كيف يكون ذلك وهو قديم الذات والصفات والتخيل إنما يكون في المحدثات. وسئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب فقال : كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور فجعلوا الآيات صفات ومعنى الآيات العلامات ، وهو كلام إمام محقق وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك ، فسبحان الأحدي الذات العلي الصفات المنزّه عن الآلات ، المقدّس عن الكيفيّات ، المنزّه عن مشابهة المخلوقات ، تعالى عما يقوله من الإلحاقات ، كيف يقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات ، وهي من آياته البينات الظاهرات ، رفع السماوات وبسط الأرض وثبتها بالأوتاد الراسيات ، وأتحفها بالمزن الماطرات ، فزهت بأنواع النباتات المختلفات ، كذلك يحيي الموتى. (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) [الحديد : 17] قال : أرباب البصائر وذوو التحقيقات : ليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلا من جهة موافقة اللفظ وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة وأن التكرار من حدوث الصفة جلّ ربنا أن يحدث له صفة أو اسم إذ لم يزل بجميع صفاته واحدا ولا يزال كذلك وكل أمور التوحيد والتفريد خرجت (1) من هذه الكلمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينبعث (2) إقداره إلا على إقراره لأن كل __________________ (1) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة ، اه مصححه. (2) قوله : لا ينبعث هو لا تنعت الخ بدليل قوله بعد ذلك : لأن كل ناعت الخ ، اه مصححه. ناعت مشرف على المنعوت وجلّ ربنا أن يشرف عليه مخلوق. احتجب عن خلقه بخلقه ثم عرفهم صنعه بصنعه وساقهم إلى أمره بأمره فلا يمكن الأوهام أن تناله ولا العقول أن تختاله (1) ولا الأبصار أن تمثله ، ولا الأسماع أن تستمله (2) ، ولا الأماني أن تمتحنه ، هو الذي لا قبل له ولا مقصر (3) عنه ولا معدل ، ولا غاية وراءه ولا مثل ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، ولا يستره حجاب ، ولا يقله مكان ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه (4) فضاء ، ولا يتضمنه خلاء. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] قال ابن عباس رضي الله عنهما : (معنى الآية ليس له نظير) وقيل الكاف صلة أعني زائدة فالمعنى ليس مثله شيء وقيل المثل صلة فالمعنى ليس كهو شيء فأدخل المثل للتأكيد فمن الجهل البين أن يطلب العبد درك ما لا يدرك وأن يتصور ما لا يتصور كيف وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحواس ، أو يتصور بالعقل الحادث والقياس ، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل فهو جسم ولا (5) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ومن الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى الله عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدثين وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، جلت الذات القديمة الواجبة الوجود التي لم تسبق بقدم (6) أن تكون كالصفة الحديثة. قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)) [مريم : 67] فهو سبحانه وتعالى احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الإدراك والأبصار فعجز الخلق عن الدرك والدرك عن الاستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله وأسنده الطلب إلى شكله. __________________ (1) يريد أن تتخيله ، اه مصححه. (2) لعلها تشمله أي هو ليس من جنس الأصوات فتسمعه الأسماع ، اه مصححه. (3) لعلها مفر ، اه مصححه. (4) لعل الأصل ولا يحيط به الخ ، اه مصححه. (5) قوله : ولا نهاية صوابه وله نهاية الخ كما هو ظاهر ، اه مصححه. (6) قوله بقدم هو بعدم كما هو واضح ، اه مصححه. قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقال رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه واستواؤه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)) [الإسراء : 43] لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91] أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك. قال بعض أهل المعاني والقلوب : لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ، ثم قال : ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا تغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك (1) عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) [الصّافات : 180] وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) [الأعلى : 1] مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه. فقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : 1] أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزّه اسمه ربك واذكره وأنت له معظّم وقيل نزّه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ اسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزّه مسمى ربك الذي خلق فسوّى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على اختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبّحه بلغته وبما يليق بجلاله. قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : 44] وقال : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ __________________ (1) أي لو كنت كما ذكر تعرف قدر الخ ، اه مصححه. وَتَسْبِيحَهُ) [النّور : 41] قال مجاهد : تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقه من كمال صفات عظم ذاته ، قيل : يفقه تسبيحهم العلماء الربانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنورون البصائر الذين يشاهدون كل شيء مرقوما عليه بقلم القدرة هو الملك القدوس. وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح حيوانا وجمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده. وروى ابن السني أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلا سبّح الله تعالى وحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم» فقيل : ما أغبياء بني آدم؟ فقال : «شرار الخلق». وقال شهيب (1) بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : 23] فالملك اسم من أسمائه تعالى وكذا مليك وهو صفة مبالغة في الملك. قال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : 55] فالملك هو المستغني عن كل شيء ويفتقر إليه كل شيء ونافذ حكمه في مملكته طوعا أو كرها ، وقيل هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام وهذا على الحقيقة لا يكون إلا لله عزوجل أبدع المكونات العلويات والسفليات الجليات والخفيات أبدعها بقدرته ورتبها على اختلاف أطوارها بحكمته فكل ما برز فهو مقهور الوجود بكن ، وكل ما انعدم فهو مقهور العدم بكن وبهذا يعلم أن إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازي إذ المملوك لا يكون مالكا لأن من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم ولهذا لما تحقق أرباب القلوب أن الملك لله عزوجل تحققا قلبيا سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات وتبرءوا من الحول والقوة حتى بالإشارات فلا يقول مني ولا لي حتى قيل لبعضهم ألك رب؟ فقال : أنا عبد وليس لي نملة ومن أنا حتى أقول لي ، فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشرية وهواها وفك ربقة رق خيالاتها الباطلة ومناها ومحض رق العبودية لمولاها فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذللون له ولهذا تتمات ليس هذا المقام مقامها إذ الغرض التنزيه. __________________ (1) معروف هذا الاسم بشهر ، اه مصححه.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:01 pm | |
| والقدوس من أسمائه عزوجل سمّى نفسه بذلك ليرشدك إلى تقديسه كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)) [الأنبياء : 20] وفيه الحث على دوام التقديس فالقدوس قيل هو المنزّه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد ، وقيل هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب وهاتان غير مرضيين عند المحققين. قال حجة الإسلام الغواص الغزالي : وهذا في حق الباري سبحانه وتعالى يقارب ترك الأدب كما أنه ليس من الأدب أن يقال لملك ليس بحائك ولا بحجام لأن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل القدوس المنزّه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره وهم أو يسبق إليه فكر أو يهجس به سر أو يختلج به ضمير أو يسنح له خفي خيال وقد أجاد رضي الله عنه وهاهنا فائدة جليلة للمنزه والمشبه وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظا وافرا من تكرير هذا الاسم والإمعان في معناه فإن كان منزّها عطف ذلك عليه وقدّس نفسه وقلبه وبدنه أما نفسه فيطهرها من الأوهام المذمومة كالغضب والحقد والحسد والغش وسوء الظن والكبر وحب الشرف والعلو وحب الدنيا ولوازمها وغير ذلك ويبدلها بالأوصاف المحمودة فيطهرها أيضا عن العاهات والشهوات وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات إذ هي أزمة الشيطان يقود بها إلى ارتكاب الموبقات وأما القلب فيطهره بالعقد الصحيح المطابق الجازم وبالمبادرة إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأهواء وتحقيق الإخلاص نية وقولا وعملا وبالرضى بما جرى فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت وذلك يرجع إلى ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان ولا يرى الأغيار إلا على العدم الأصلي فلا يتحرك في ظاهره ولا باطنه حتى في أنفاسه إلا بالله عزوجل وأما البدن فيطهره بماء الجوع ويكفنه بدوام التقشف ويحنطه بالعزلة ويطيبه بدوام الذكر والفكر ويدفنه في لحد الخوف فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه وبقي معناه فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات فيثمر له ذلك الشوق إلى رؤية مطلوبه فلا شيء أشهى إليه من الموت لأنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبوبه إلا به فمن أراد أن يجلسه في حضرة القدس على منابر التقديس فليجر على هذا التأسيس. ومر إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ فنظر إليه وقال : بأي لسان أصابته هذه الآفة وطهر فمه ومضى فلما أفاق السكران أخبر بما فعله به إبراهيم فخجل وتاب وحسنت توبته فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول غسلت لأجلنا فمه فلا جرم أنا طهرنا لأجلك قلبه. وأما المشبه والمجسم فلأنه بتكرار هذا الاسم يتعقل معناه فيضيء له نوره فينكشف له حجاب الضلال فإذا حقق المعنى المراد منه ظهر له نوره فأحرق حجاب الضلال فصفى قلبه للحق وزاح الباطل وقد وقع ذلك لبعض الغلاة في التشبيه والتجسيم مرّ يوما على هذه الآية (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : 23] فكرر هذا الاسم وتعقل معناه فقال : والله إنا لفي ضلال مبين بيّن فبادر في الحال وأتى بالشهادتين وقال : والله لا يخلصني إلا استئناف العمل. فانظر أرشدك الله تعالى إلى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حق أهل التنزيه والتشبيه والله أعلم. ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الاستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقي القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الاستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر. ومن مقدوراته جلّ وعلا ما ذكره في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) [النّبأ : 38] قال أبو الفرج بن الجوزي : روي عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الروح ملك عظيم أعظم من السماوات والأرضين والجبال والملائكة يسبّح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا. قال ابن عباس : وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السماوات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «رأيت على كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبّح الله عزوجل» ومراده سدرة المنتهى ، سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهمالسلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين. وقال الله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)) [الرّحمن : 78] معنى (تَبارَكَ) جلّ وعظم ومعنى (ذِي الْجَلالِ) المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جلّ أن يعرف جلاله غيره تنزّه وعظم شأنه عما يقول فيه المبطلون لأن كل شيء يثني عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه ، والحق جلّ جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف (1) دون الغايات الجلالية فسبحانه ما أثني عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال : أجلّهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما (2) الإكرام فمعناه ذو الإنعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ، ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : 6] قال عمر رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غرني ، والكريم هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن (3) أعطي وكم أعطي ولا يضيع من لاذ به والتجا ، وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى ، وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجزله ثم ستره وقيل غير ذلك ، فمن تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : 7] ويقول كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث : «وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله __________________ (1) لم يظهر لي في هذه العبارة معنى فلتحرر ، اه مصححه. (2) ذو الإنعام ليس معنى الإكرام بل معنى ذو الإكرام فهنا لفظ ذو ساقط ، اه مصححه. (3) لعله بما أعطى الخ ، اه مصححه. وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم المتبع له. وقال عمر بن عبد العزيز : انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : 7] وقال بعضهم : للقرآن تأويل استأثر الله تعالى بعلمه لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك ، والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم اعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت لله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات ، شعر : الله أكبر أن يكون لذاته كيفية كذوات مخلوقاته أو أن تقاس صفاتنا في كل ما تأتيه من أفعالنا بصفاته أبدا عقول ذوي العقول بأسرها متحيرات في دوام حياته لبديع صنعته عليه شواهد تبدو على صفحات مصنوعاته فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على (1) العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار الطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطوامح والأفكار والقرائح ، تقدس عن مثل وشبيه ، وتنزه عن نقص يعتريه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح ، تعالى عن الند المماثل والضد المكارح ، يفعل ما يشاء ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، هلك الجاهل والمكافح ، متكلم __________________ (1) هنا لفظ أن محذوف كما هو ظاهر ، اه مصححه. بكلام (1) مسموع بالآذان (2) بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح ، أين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما فما أجهلك بقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النّمل : 13] نسب الأبصار إلى الآيات فأين الحذّق يا قامح. ومن آياته إنزال القطر بقدرته ، وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته مع مخالفة الطعوم بمشيئته ، وإرسال الرياح لواقح. موصوف بالسمع والبصر يرى في الدجنة كما يرى في القمر ، من شبهه أو كيفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسنة ، وإن دليلهم لجلي واضح ، من شبهه أو مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم يوم تظهر المخبآت وتبلى السرائر وتبين الفضائح ، وإن قيل عنه في الدنيا إنه ولي صالح هلك الهالكون بآرائهم لأنه عمل غير صالح ، وفاز المنزّهون فيا لها صفقة رابح. هو الواحد المتوحد في صفاته الأزلي الجبار ، العظيم العزيز القهار ، تبارك وتعالى وتنزّه عن درك الخواطر والأفكار ، وسم كل مخلوق بميسم الافتقار ، وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته ومن أظهرها السماوات والأرض والبراري والبحار ، والأعين والأنهار ، وجريانها على المدرار ، وتصريف السحاب المسخّر بين السماء والأرض واختلاف الليل والنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : 13] يعلم حركات الأسرار ، ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار ، نوع هذا العالم الإنساني فمنهم شقي ومنهم سعيد وربك يخلق ما يشاء ويختار. وصفاته كذاته والمشبهة والمجسمة أهل زيغ وكفار ، نزّه نفسه بنفسه وقدّسها فمن شبه أو عطل فمأواه النار ، ومن أناب ورجع قبله وإن ارتكب العظائم الكبار ، لأنه سبحانه وتعالى عزيز غفّار ستّار. ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته ، وقمر السماء وشمسه ، وآدم عليهالسلام وما مسه ، علم ذلك المنزّه فنزّه قدسه ، وجهله أعمى البصيرة المشبه فتصور فيه جنسه ، لأنه بجهله قاس الخالق جلّ وعلا على ما ألفه وأحسه ، فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسة ، وأما المعطل فجحد صفاته فما أغباه وما أخسه ، وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطل بيديك النقية ، وألحق بالمشبه دفعه ورفسه. __________________ (1) المراد بهذا الكلام هو القرآن لأنه الذي يسمع ، اه مصححه. (2) قوله : بغير آلات ، متعلق بمتكلم فليفهم ، اه مصححه. مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار واعلم : أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى ، وأن الله تعالى يفنيها وأنه جعل لها أمدا تنتهي إليه وتفنى ، ويزول عذابها وهو مطالب أين قال الله عزوجل وأين قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصحّ عنه وقد سفّه الله تعالى في ذكره في كتابه العزيز كما سفّهه في تنزيهه لنفسه وأتى بأمور إقناعية (1) صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : 56] تبدل في كل ساعة مائة مرة ، وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) [النّساء : 56] أي شديد النقمة على من عصاه ، وقيل العزيز الشديد القادر القوي وقيل الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر وقيل الذي لا نظير له وقيل معناه المعز فيكون فعيل بمعنى مفعل كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه. وقال أهل المعاني وأرباب القلوب : العزيز من ظلت العقول في بحار تعظيمه وحارت الألباب دون إدراك نعته وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف كماله والقيام بشكر آلائه ، وقوله : (حَكِيماً) [الفتح : 7] أي حكم على الأعداء بدوام العذاب كما حكم للأولياء بدوام النعيم فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره فلا شيء من الأشياء إلا وفيه شيء من حكمته على وفقه لمناسبته (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النّمل : 88] وقال تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)) [الحج : 19 ـ 22] وقال : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النّبأ : 30] وقال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : 97] وقال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)) [المائدة : 37] وقال تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : 65] أي مقيما ملازما فكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام والآيات في ذلك كثيرة جدا وأما السنة فطافحة بذلك وتدل على إخراج المؤمنين دون غيرهم حتى يخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، وفي رواية مثقال ذرة من خير ، فأقول : يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود. قال الله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ __________________ (1) أي للعامة البله الذين لم يخالطوا المؤمنين أما من عرف دين الله عالما ومخالطه فمعاذ الله أن يقتنع بغير كلام ربه فليعلم ، اه مصححه. الْخُلْدِ) [فصّلت : 28] إلى غير ذلك ولأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم وكذلك المؤمن يستحق الخلود وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام «نية المؤمن خير من عمله» وفي معناه أقوال أخر فادعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : 80] الآية ، أي قدرا مقدورا ، ثم يذهب عنا العذاب ، وكانت اليهود تقول إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقيل أربعين يوما الذي عبد آباؤنا العجل فيها وكانت تقول إن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبننا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا تحلّة القسم أربعين يوما. فالرجل ساع خلف سلفه كما تقدم وكما يأتي. مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم ومما انتقد عليه ، وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (1) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضا فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عزوجل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الحديد : 3] فجعل معه قديما وتكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : «كان الله ولا شيء معه» وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه : «كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر فإن الدين ما قاله عزوجل» وقاله رسوله صلىاللهعليهوسلم وقد قال : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء ويبقى هو. والظاهر هو الغالب على كل شيء والباطن هو العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والأقوال في ذلك كثيرة ، ومنها قول أبي القاسم الجنيد نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته لظاهريته وحجب الإدراك عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته. وقال أيضا : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران __________________ (1) لعله (والذي لا أول له ليس كذلك) ، اه مصححه. الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب. وقال السيد الجليل محمد بن الفضل. الأول : ببره والآخر بعفوه والظاهر بإحسانه ، والباطن بستره ، ومن حق العبد أن يجعل له حظا من هذا الخطاب فيزين ظاهره بأنواع الخدمة ويزين باطنه بأنوار الهيبة ويحقق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقرباته بالصدق والإخلاص لقوله عزوجل : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : 282] وسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية فقال : إن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. ومما انتقد عليه : تكذيبه النبي صلىاللهعليهوسلم فيما أخبر به عن نبوته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال عليه الصلاة والسلام : «وآدم بين الروح والجسد» وفي رواية «وإن آدم لمنجدل في طينته وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئ الأفهام» يقصد بذلك الازدراء برسول الله صلىاللهعليهوسلم والحط من قدره ورتبته ، وما فيه رفعه يسكت عنه يفهم ذلك منه كل عالم امتلأ قلبه بعظمته صلىاللهعليهوسلم وتوقيره وبما خصّه الله تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره. وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب : مكة أفضل بالإجماع ، وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي وعليها خطه وأنا أعرف خطه ، وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد والإمام أحمد وأتباعه برآء منه ومما هم (1) عليه وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه. ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق ، فإن الإمام أحمد قال : الذي أخبرنا بأن الطلاق واحدة أخبرنا بأن الطلاق ثلاث وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق. __________________ (1) هم هو ، اه مصححه. وقال ـ أعني ابن تيمية ـ في الجواب عن المسألة المبسوطة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة وبالغ في الثناء عليه فيا لله العجب من هذا الأعمى البصيرة الذي لا يحس بتناقض كلامه كيف يجعل الإمام أحمد فيما له فيه غرض أعلم الناس بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله. ومن فجوره ادعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة حتى إنه مشهور في أشهر الكتب المتداولة بين الناس وهو الشفاء فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة وإن مالكا وأكثر أهل المدينة قائلون بأن المدينة أفضل من مكة وقال : أهل مكة والكوفة مكة أفضل ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمّ سيد الأولين والآخرين صلىاللهعليهوسلم ، وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع وممن حكى الإجماع القاضي عياض في الشفاء بعد أن حكى الخلاف في التفضيل بين مكة والمدينة فقال : ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال : قال القاضي عياض : أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك ، فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حق سيد الأولين والآخرين صلىاللهعليهوسلم. وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة ويدل على ما قلته من الرمز (1) تخطئته في الطلاق وعدم الاعتداد بذلك كما رمز إلى تكفير الصديق رضي الله عنه في قوله في بعض تصانيفه من قال الله : ورسوله في أمر يلحقه فإنه يكون مشركا فإن الصديق رضي الله عنه لما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما أبقيت لأهلك؟» قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، ويؤيد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه لا ينبغي أن ينسب إلى غير الله تعالى ضر ولا نفع ولا أنه يغني وهذا من الدسائس أيضا فإنه يلبس به على كثير من الناس لا سيما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة فهي كلمة حق أريد بها باطل. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التّوبة : 74] وقال تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) [التّوبة : 59] وغير ذلك فهذا نص القرآن العظيم على مثل هذا القول في __________________ (1) هنا لفظ إلى محذوف ، اه مصححه. الذين يقولون إنه شرك ففي قولهم قدح في القرآن وفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم لإقراره الصديق رضي الله عنه على هذا القول الذي هو شرك (1) وهذا منهم كفر بيقين لأنه واجب وحتم لازم على كل أحد أن يؤمن بالقرآن وبما جاء به سيد الأولين والآخرين صلىاللهعليهوسلم عن رب العالمين من غير شك ولا ارتياب. قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)) [الفتح : 13] وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : 92] وقال : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النّساء : 136] جمع بينهما بواو العطف للشركة ولا يجوز هذا في حق غيره عليه الصلاة والسلام ولما خطب عليه الصلاة والسلام أم سلمة رضي الله عنها فاعتذرت إليه بأعذار منها وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد فقال لها من جملة قوله : «وأما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على الله وعلى رسوله» وقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : 55] واعلم أن ما ذكرته من الرمز إلى الصديق والفاروق رضي الله عنهما وأن فيه أشعارا بأنه رافضي هو كذلك ، وفي الرد على الرافضي أنه رافضي وهذا نبّه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي. نعم وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح (2) وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه (3) ما يدل على ذلك ، والله أعلم. ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكاسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك ، وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى مما يترتب __________________ (1) يعني في زعمهم ، اه مصححه. (2) القول بتناسخ الأرواح كفر لأنه عبارة عن اعتقاد أن أرواح من يموتون تتصل بغيرهم فقد يكون روح الخواجة الذي مات اليوم روح أكبر عالم مرشد زاهد ورع بعد ذلك والعكس ، وقد يتصل روح الخنزير الذي مات بمحمد الذي ولد بعد ذلك ويعكس ، وقد يتصل بعد ذلك بكلب ثم يتصل بحمار ثم يتصل بنبي وهكذا إلى غير نهاية ، وهذا يقتضي أن لا بعث وأن لا جزاء ، فإن الروح لا يقف عند حد معلوم يجازى عليه بل قد يكون بحال يقتضي العذاب ويسبح بحال يقتضي النعيم ثم بحال لا يقتضي عذابا ولا نعيما وهكذا ، وهذا غير ما تنطق به الشرائع الإلهية كلها فهو مصادم للأنبياء ولما جاء به الأنبياء ، وكيف لا يكون ما هذا حاله كفرا وهذا المذهب لا دليل عليه من العقل مع كونه مع الشرع كما ذكرنا وذلك أن الأرواح ليست من عالم المحسوسات حتى نراها ونحكم عليها وهي لم تخبرنا عن نفسها بشيء فالجهالة بها مطلقة ، اه مصححه. (3) أي من ذلك البعض ، اه مصححه. على التصريح من أهل المكس وتجرئهم عليه وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق وأهمل الآخر فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك وكان شخص من الحنابلة يدعى بعلاء الدين بن اللحام البعلبكي وكان عندهم عظيما وصنّف في مذهب الإمام فأتيته وهو في حلقة في الجامع الأموي وهم يقرءون عليه في بعض مصنفاته فسألته عن شيء يتعلق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجاب ثم أخرى فما أجاب ثم قلت : ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ تقي الدين بن تيمية في المكس فقال : وشرع يقرر ما قرره ابن تيمية فأخذت الشق الآخر وقررته فسكت ولم يجد جوابا فقلت : يلزم أحد شيئين إما بطلان ما قاله أو تكفيره فقال : هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا اختصرتها فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم فإن ظفروا به فلا كلام وإن ظفر بهم قالوا هذه ما هي في كلامه فهم خلف إمامهم في المكر والخديعة والكذب وقد خاب من افترى ، والله أعلم. ومن الأمور المنتقدة عليه : وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود وعصوا أمر النبي صلىاللهعليهوسلم واستمر عليها أتباعهم الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يقدروا أن يتوصلوا إلى الغض منه إلا بذلك. وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فاذكر بعض كلامهم فيها ثم أعود إلى تتميمه مستدلا بأمور سمعية وغيرها تفيد جلالته وعظامته وحياته في قبره صلىاللهعليهوسلم وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة وأن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلىاللهعليهوسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأنه من الملحدين وجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه (الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم) وقد وقفت في كلامه على المواضع الذي كفر فيها الأئمة الأربعة (1) __________________ (1) أحب أن لا يستغرب القارئ شيئا يراه منسوبا إلى هذا الرجل بعد تصريح العلماء عنه أنه يستخف برسول الله صلىاللهعليهوسلم ويزدريه ويصغر من شأنه فإن الذي يجترئ على أسمى مقام في الوجود لا يتهيب ما دونه فليعلم ، اه مصححه. وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة. ولنرجع إلى قول بعض الأئمة فمنهم : الإمام العلامة شيخ شيو | |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:02 pm | |
| شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي قال بعد ذكره أشياء لا أطول بذكرها وفيها دلالة على أن التوسل بالنبي صلىاللهعليهوسلم في الحاجات بعد وفاته كالتوسل به في حال حياته ثم قال : وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا ومنعوا التوسل برسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد جمع بعضهم كلاما يتضمن نفي عمله صلىاللهعليهوسلم بعد الوفاة ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته فقال : (والتفريق بين الحياة والوفاة كان ثابتا عند الصحابة فلهذا استسقي أمير المؤمنين عمر بالعباس ولو لا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر مع جلالته وكونه خليفة راشدا وكان يشاور أيضا ـ عن قبر رسول الله إلى غيره) ثم قال : (هذا لفظ المبتدع الجاهل التي قامت البينة عليه بأشياء من هذا القبيل وعزر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرح والحبس وغير ذلك في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة بالقاهرة وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين والاستناد فيه إلى استسقاء عمر بالعباس ليس له وإنما هو لشيخه فإنه لما أظهر القول بنفي التوسل برسول الله صلىاللهعليهوسلم أورد عليه حديث الاستسقاء ففزع إلى التفرقة المذكورة ولا متشبث في الحديث المذكور فإن عمر رضي الله عنه إنما قصد أن يقدم العباس ويباشر الدعاء بنفسه وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي أي الحياة الدنيوية ، وأما التوسل برسول الله صلىاللهعليهوسلم فلا نسلّم أن عمر رضي الله عنه تركه بعد موته. وتقديم العباس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك ، ثم قال : وهذا القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلىاللهعليهوسلم بالعدم حاشاه من ذلك ـ يلزمه أن يقال إنه ليس رسول الله صلىاللهعليهوسلم اليوم وهو قول بعض الضّلال. قال أبو محمد حزم في كتابه الملل والنحل : (حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلىاللهعليهوسلم ليس هو اليوم رسول الله لكن كان رسولا) ثم قال : (وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله عزوجل ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ولما عليه أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام إلى يوم القيامة) قال : (وإنما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث إن الروح عرض والعرض يفنى أبدا أو يحدث ولا يبقى وقتين) قال : (فروح رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند هؤلاء بطل ولا روح له الآن عند الله وأما جسده ففي قبره تراب فبطلت نبوته ورسالته بموته عندهم فنعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع إنه مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله صلىاللهعليهوسلم واتفق عليه أهل الإسلام من الأذان في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهارا في شرق الأراضي وغربها كل يوم خمس مرات بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، كان يجب أن يقال على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النّساء : 164] وقال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : 109] وقال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزّمر : 69] فسماهم الله عزوجل بعد موتهم رسلا ونبيين والأصل الحقيقة وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النص أن كل مصل فرضا أو نفلا يقول في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو كان بعد موته في حكم العدم لما صحّت هذه المخاطبة) هذا معنى كلام ابن حزم ثم قال : (إن ابن حزم أورد على نفسه إيرادات وأجاب عنها) قلت : وقد حذفتها أنا لأجل الإطالة ولا تسع عقول العوام وكثير ممن أشير إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب ، ثم قال : (وإنما أطلت النفس في هذه المسألة وإن كانت في غاية الوضوح لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها وأفسد به عقائد خلق كثير من العوام فلذلك استطرقت في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام وللمقال فيها مجال واسع لكن إشباع القول في ذلك خارج عما نحن بصدده في هذا الكتاب والله تعالى أعلم). وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له (شرح التعرف لمذهب أهل التصوف) واعلم أرشدنا الله وإياك أيها الموفق المنزّه المعظم لسيد الأولين والآخرين صلىاللهعليهوسلم ولذريته الذين بهم تم الدين ولسائر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين إن في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلا أني وعدت بذكر شيء وخلف الوعد صعب شديد فأنا أذكر نبذة يسيرة وأرجو من الله عزوجل حصول البركة فيها وقد ذكرت في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك) جملة كثيرة تتعلق بذلك وبغيره وسقت فيها فتواه المطولة والجواب عما قاله ذكرته في فضل الحج والله أعلم. ومن الأمور المهمة معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان فمن الخذلان عدم إيمان الإنسان بالآيات والنذر كما قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : 101] قيل : المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل النجاة وما يغني ضياء العقل مع الخذلان إنما ينفع نور العقل مؤيدا بنور التوفيق وعناية الأزل وإلا فإنه متخبط بإدراكه بعقله فإذا وعيت ما قلته ووقفت على بعض ما أذكره من الأدلة ولم تجد قلبك مؤمنا بها فاعلم أنك من أهل الخذلان ومرقوم في حزب الشيطان وتابع لأهل البدع عصاة الرّحمن. قال كعب الأحبار : تجد الرجل يستكثر من أنواع البر ويحتاط في (1) صانع المعروف ويكابد سهر الليل وشدة ظمأ الهواجر وهو مع ذلك لا يساوي عند الله جيفة حمار يشير إلى أهل البدع والتبري منهم بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوى ، لما صالح عمر رضي الله عنه أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح به عمر رضي الله عنه وبإسلامه. قال له عمر : رضي الله عنه هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلىاللهعليهوسلم وتنتفع بزيارته قال : نعم يا أمير المؤمنين افعل ذلك ، فهذا ضريح في الندب إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وشد الرحل وأعمال المطي إليه والكلام على هذا يأتي إن شاء الله تعالى. بيان زندقة من قال إن روحه عليه الصلاة والسلام فنيت وأن جسده صار ترابا وبيان زيغ ابن تيمية وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنه سئل عنها : فقال في جوابه : الحمد لله رب العالمين ، من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات ، ويطلب منه قضاء الحاجات ، فيقول : يا سيدي الشيخ فلان أنا في حسبك أو في جوارك ، أو يقول عند هجوم العدو عليه : يا سيدي فلان ، يستوحيه أو يستغيث به ، أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته ، فإن هذا ظالم ضال مشرك ، وفي بعض النسخ كافر عاص لله تعالى باتفاق المسلمين فإنهم متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدّعي ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو غير ذلك ثم أكد ما قاله بقصة عمر والعباس في الاستسقاء تبعا لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود ، وأنت أرشدك الله تعالى وبصّرك إذا تأملت ما قاله في هذا الجواب اقشعر جلدك وقضيت العجب مما فيه من الخبائث والفجور وادعاء اتفاق المسلمين وما فيه من الرمز إلى تكفير الأنبياء وتضليلهم والتلبيس على الأغبياء بقصة عمر رضي الله عنه وليت شعري من أي الدلالات أن من توجه إلى قبر سيد الأولين __________________ (1) صانع المعروف صوابها صنائع ، اه مصححه. والآخرين صلىاللهعليهوسلم وتوسل به في حاجة الاستسقاء أو غيرها يصير بذلك ظالما ضالا مشركا كافرا. هذا شيء تقشعر منه الأبدان ولم نسمع أحدا فاه بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان. ولا بلد من البلدان ، قبل زنديق حران ، قاتله الله عزوجل وقد فعل ، جعل الزنديق الجاهل الجامد قصة عمر رضي الله عنه دعامة (1) للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء بسيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وحط رتبته في حياته وأن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته وذلك منه كفر بيقين وزندقة محققة فإنه عليه الصلاة والسلام حرمته وقدره ومنزلته عند ربه ما زالت ولم تزل وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عزوجل على الدوام ، ومن تأمل القرآن العظيم وجده مشحونا بذلك وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده عليه الصلاة والسلام وأشير هنا إلى نبذة يسيرة من ذلك ليتحقق السامع لها خبث هذا الزنديق وما انطوى عليه باطنه من الخبث بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالازدراء وما فاه به من الفجور والافتراء كما ترى : سل عن فضائله الزمان لتخبرا فنظير مجدك يا محمد لا يرى ولقد جمعت مناقبا ما استجمعت ما استعجمت يا سيدي فتفسرا ما بين مجدك والمحاول نيله إلا كما بين الثريا والثرى فمن ذلك : أنه سبحانه وتعالى تولى عصمته بنفسه فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : 67] وحقا عصمه عزوجل في ظاهره وباطنه حفظه في ظاهره من أن ينالوا ما همّوا به ورد كيدهم في نحورهم وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم التفات أو يكون له بهم اشتغال صان سره عن موارد السكون إليهم وعن نزغات الشيطان وفلتات النفس. ومنها : قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النّور : 63] قيل : معناه لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله ولكن فخّموه وعظّموه وشرّفوه وقولوا يا نبي الله يا رسول الله مع لين وتواضع ، قاله مجاهد وقتادة. __________________ (1) قوله للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء الخ والصواب أن تقدم في وتؤخر إلى ليظهر معنى الكلام ، اه مصححه. وقيل : معناه احذروا دعاء الرسول عليكم فإن دعاءه مستجاب لا يرد وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل : معناه من ضيّع حرمة الرسول صلىاللهعليهوسلم فقد ضيّع حرمة الله عزوجل ومن ضيّع حرمة الله فقد دخل في ديوان الأشقياء ، وحرمة الرسول صلىاللهعليهوسلم من حرمة الله تعالى بل من ضيّع حرمة الأولياء فقد عرض نفسه للهلكة. ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : 45] أي عليهم بالتوحيد (وَمُبَشِّراً) [الأحزاب : 45] أي لهم بالتأييد والمغفرة (وَنَذِيراً) [البقرة : 119] أي محذرا إياهم الزيغ والضلالات (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : 9] أي تعظموه تعظيما يليق به وبمرتبته. قال الأئمة : لم يؤمن بالرسول من لم يعزه ويعز أوامره ويوقره ويوقر أصحابه رضي الله عنهم. ومنها : قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) [الأعراف : 157] أي بمحمد صلىاللهعليهوسلم (وَعَزَّرُوهُ) [الأعراف : 157] أي وقروه (وَنَصَرُوهُ) [الأعراف : 157] بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : 157] وهو القرآن (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : 157] أي الفائزون حصر الفلاح فيهم ، فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربه. ومنها : قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : 80] قال عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أثناء كلام طويل : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل الله عزوجل طاعتك طاعته». وقال جعفر الصادق : معناه من عرفك بالنبوة والرسالة فقد عرفني بالربوبية والألوهية ، وقيل بطاعتك يصل العبد إلى الحق وبمخالفتك يقطع عنه ، وقيل غير ذلك ، ومن أحسنها من ألزم نفسه طاعته وصحح الاقتداء به أوصله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ، ألا ترى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النّساء : 69] الآية. ومنها : وهو أبلغ مما تقدم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) [الفتح : 10] أي يا محمد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : 10] نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة وقد تنبّه لذلك أرباب المعالي والقلوب العارفون بمراتبه عليه الصلاة والسلام وما وهبه الله تعالى من سني الأوصاف التي لا تليق بغيره ولا يقدر على حملها إلا هو ، قالوا : (إن البشرية في نبيه صلىاللهعليهوسلم عارية (1) وأضافه دون الحقيقة) وهو كلام حكيم منوّر القلب. وقال بعضهم : لم يظهر الحق سبحانه وتعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمة وأشرفها وهو المصطفى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : 10] ومنها قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) [الشّرح : 4] قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر ، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافرا. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم سأل جبريل عليهالسلام عن هذه الآية فقال : «قال الله عزوجل إذا ذكرت ذكر معي» وقال قتادة رضي الله عنه : «رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة» وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به ، وقيل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) [الشرح : 4] ليعرف المذنبون قدر رتبتك لدي ليتوسلوا بك إلي فلا أرد أحدا عن مسألته فأعطيه إياها إما عاجلا وإما آجلا ولا أخيب من توسل بك وإن كان كافرا ، ألا ترى قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] وسيأتي الكلام على هذه الآية ، وقيل غير ذلك. ولما هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة قيل : بكت مكة لفقده بدموع الحرقة على الخد وقالت : وا أسفاه على من أنزل عليه (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)) [البلد : 1] وهو مكة لحلولك فيه ومن جعل لا أصلية فالمعنى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)) [البلد : 1] وأنت حال فيه بل أقسم بك وبحياتك وهذا يدل على علو قدره عند ربه ورفعته التي لم يفز بها غيره. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما من رواية أبي الجوزاء رضي الله عنه : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ __________________ (1) قوله عارية وأضافه دون الحقيقة لفظ أضافه بالضمير هو إضافة بالتاء ومعنى هذا الكلام غامض وكأن قائليه يريدون أن يقولوا إن حقيقته صلىاللهعليهوسلم ملكية وإن كانت صورته بشرية وهو معنى يكون مدحا إن سلّم أن حقيقة الملكية أفضل من حقيقة البشرية وليس لنا قسم آخر يراد إلحاقه صلىاللهعليهوسلم به إلا الإلهية ولا يتصور أن يكون مرادا للقائلين فليعلم ، اه مصححه. نفسا أكرم على الله من محمد صلىاللهعليهوسلم ولا رأيت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)) [الحجر : 72] والعمه في البصيرة والعمى في البصر. وفي رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المعنى وعيشك يا محمد إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، وقال بعضهم : أقسم بحياة محمد لأن حياته كانت به وهو في قبضة الحق وبساط القرب وشرف الانبساط ومقام الاتفاق الذي لا يقوم به غيره فبحياتك يكون القسم فإن الكل زاغوا وما زغت ومالوا وما ملت حتى برأناك ونزلناك منزلة ما نالها غيرك ولا ينالها أحد سواك وقيل المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق فحيوا بالأرواح وحييت بنا ولهذا تتمة مهمة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها. وقيل : أقسم الله عزوجل في الأزل بحياته ليظهر شرفه وعلو قدره ودنو منزلته عنده ليتوسل المتوسلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود وفي حياته وبعد وفاته وفي عرصات القيامة ولهذا وغيره لم يزل أهل الإيمان يتوسلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير ، وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك فكانوا يتوسلون به قبل وجوده فيستجاب لهم كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أهل خيبر تقاتل غطفان كلما التقوا هزمت غطفان يهود فعاذت يهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهود غطفان ويهود غير منصرف للعلمية والتأنيث علم على (1) قبيلة فلما بعث النبي صلىاللهعليهوسلم كفروا به فأنزل الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] أي يدعون بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : 89]. وإذا كان عزوجل يستجيب لأعدائه بالتوسل به صلىاللهعليهوسلم إليه سبحانه مع علمه عزوجل بأنهم يكفرون به ويؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين فكيف لا يستجيب لأحبائه إذا توسلوا به بعد وجوده عليه الصلاة والسلام وبعثته رحمة للعالمين ، وإذا كان رحمة للعالمين فكيف لا يتوسل ولا يتشفع به. __________________ (1) هي أمة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، اه صاحب الفرعية. ومن أنكر التوسل به والتشفع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادى على نفسه أنه أسوأ حالا من اليهود الذين يتوسلون به قبل بروزه إلى الوجود وأن في قلبه نزغة هي أخبث النزغات وهذا آدم عليهالسلام توسل به كما هو مشهور. ورواه غير واحد من الأئمة منهم الحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب بحق محمد لما (1) غفرت لي فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال : يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولو لا محمد لما خلقتك». قال الحاكم : صحيح الإسناد (2). ورواه الطبراني وزاد «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» ورواه الحاكم أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة بلفظ «أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولو لا محمد ما خلقت الجنة والنار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن». قال الحاكم في مستدركه : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ـ يعني البخاري ومسلم ـ فهذا الإمام الحافظ قد كفانا المئونة وصحح الحديث وقد رواه غير واحد من الحفاظ وأئمة الحديث بألفاظ ، منهم : أبو محمد مكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما أن آدم عليهالسلام عند اقترافه قال : «اللهم بحق محمد عليك اغفر لي خطيئتي» ويروي نفيل «فقال الله : من أين عرفت محمدا؟ قال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله». __________________ (1) أي إلا ، اه صاحب الفرعية. (2) لا التفات بعد هذا التصحيح من الحاكم وهو الحاكم إلى طعن طاعن في هذا الحديث وقد رأينا من يطعن فيه وفي أمثاله من الأحاديث التي يصححها الحاكم وهي دالة على سمو شرفه عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته عند ربه كأن هذا الطاعن أوذي ممن يستخفون بشأنه عليه الصلاة والسلام فصدر منه ذلك الطعن طاعة لشعوره وهو لا يشعر أو يشعر وكأن هذه المسألة مسألة عظم حرمته صلىاللهعليهوسلم ورفعة شأنه ـ موضع خلاف بيننا وبين هؤلاء الناس ونحن لا نسلم هذا الخلاف إلا بعد أن نسمع من هذه الشرذمة أن كلام الله تعالى مطعون في صدقه أيضا فإذا قالوها سكتنا عنهم ويكونون بذلك أراحوا واستراحوا وحسبنا الله ونعم الوكيل ، اه مصححه. ويروي محمد عبدي ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له. وفي رواية الحافظ الآجري «فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك» قال : وكان آدم عليهالسلام يكنى أبا محمد. بدا مجده من قبل نشأة آدم وأسماؤه في العرش من قبل تكتب (1) وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) [الكهف : 82] قال : لوح من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال : على باب الجنة مكتوب أني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها. وذكر السميطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد وعلى جبينه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب (2) عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شقه الأيمن لا إله إلا الله وعلى شقه الأيسر محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وهو مرئي ظاهر لكل من له بصر وذكر غير ذلك. فسيد الأولين والآخرين عظيم عند ربه نوّه بذكره في الأزل وفي الكون العلوي والسفلي ليعلم أنه الفاضل الكامل وأنه أعظم الوسائل. قال أبو حميد : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له ما لك : لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله عزوجل أدّب أقواما فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : 2] الآية ، ومدح قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [الحجرات : 3] الآية ، وذمّ قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)) [الحجرات : 4] وإن حرمته __________________ (1) أي كتبت والتعبير بالمضارع بحكاية الحال الماضية ، اه صاحب الفرعية. (2) يتعين نصب لفظ مكتوب لأنه وصف لمنصوب ، اه مصححه. ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك (1) الله عزوجل. قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : 64] القصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان ، ومنهم الإمامة العلامة هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وقد اشتملت هذه القصة على تعظيمه بعد وفاته وأنه حي والتوسل به وحسن الأدب في حقه كما في حياته وأن في الآية الحث على المجيء إليه ليستغفر له ، وليس في الآية تعرض لزمن حياته دون الوفاة وكذا فهم العلماء مالك وغيره كما يأتي إن شاء الله تعالى. العموم واستحبوا لمن زار قبره المكرم أن يتلو هذه الآية ويستغفر ويتوسل به ويطلب الشفاعة منه ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر ابن تيمية فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه إذا وجد شيئا لا مساس فيه لما ابتدعه قال به وقبله ولم يطعن. وإذا وجد شيئا على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتفق على صحته ولا يذكر شيئا على خلاف هواه وإن اتفق على صحته لا سيما إذا كان آية أو خبرا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل (2) إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه فمن ادعى التخصيص بغير دليل سمعي ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتهمناه واستدللنا بذلك على استنقاصه سيد الأولين والآخرين الكامل المكمل ، وهو كفر بإجماع أهل التوحيد. __________________ (1) قوله : فيشفعك الله ، السياق يقضي أن يكون فيشفعك فيشفعه لأنه هو صلىاللهعليهوسلم الشافع ، اه مصححه. (2) هذا المبدأ عليه أتباعه المفتونون به إلى اليوم يعرف ذلك منهم من يلتفت لحالهم أدنى التفاتة فالواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث ولا تضعيفهم فإنهم للهوى يصححون ويضعفون وأحب أن يأخذ القارئ قول الإمام الحصني (ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل) على ظاهره دون أن يظن فيه أي مبالغة وليطرده في اتباعه كذلك ، اه مصححه. وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحثا على رأسه من ترابه ثم قال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله عزوجل فوعينا عنك وكان فيما أنزل عليك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : 64] الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر قد غفر لك وهذه القصة غير قصة العتبى وقصة العتبى مشهورة في غاية الشهرة وقد ذكرها الأئمة في كتبهم قديما وحديثا وكنية العتبى أبو عبد الرّحمن واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو وكان من أفصح الناس وصاحب أخبار وصاحب رواية للآثار. حدّث عن أبيه وعن ابن عيينة وقد ذكر قصته خلائق منهم ابن عساكر في تاريخه وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن) وذكرها غيرهما بالأسانيد. وممن ذكرها الإمام العلامة المتفق على علمه ودينه وزهده أبو زكريا يحيى بن شرف النووي قدّس الله روحه ونوّر ضريحه قال في زيارة قبره : إنها من أعظم القربات وأفضل المساعي والطلبات وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له. قال العتبي : كنت جالسا عند قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : 64] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول : يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم قال : فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم فقال : يا عتبى الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له ، وفي رواية غيره : الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي فخرجت فلم أجده فأفاد النووي قدس الله تعالى روحه أن أصحاب الشافعي استحسنوا ذلك وحكوه عن غيرهم وأفاد شمول الآية للحياة والممات وأنه يستشفع به إلى ربه وساق ذلك مساق ما هو متفق عليه ولم يتعرض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار وزدت أنا هذين البيتين لعلي يلحقني نصيب من شفاعته وهما : وفيه كل خصال الحمد قد جمعت فلذ به فهو من ترعى له الذمم وهو الذي يرتجى في كل معضلة وفي المعاد إذا زلّت بنا القدم
قصة الراهبين مع أبي عبد الله وقال السيد الجليل قطاع المفاوز على قدم التوكل أبو عبد الله الفرحي قدّس الله سره ونوّر ضريحه : خرجت مرة أريد الزيارة من طريق المفاوز فوقعت في التيه فكنت فيه أياما حتى أشرفت على الموت فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين (1) يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما بالقرب فملت إليهما فقلت : أين تريدان فقالا : لا ندري ، فقلت : من أين أتيتما ، قالا : لا ندري ، قلت : فتدريان أين أنتما؟ قالا : نعم نحن في ملكه وبين يديه ، قال : فأقبلت على نفسي أقول : لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك ثم قلت : لهما أتأذنان لي في الصحبة؟ فقالا : ذاك إليك ، قال : فسرنا فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاة المغرب فتيممت وصليت فنظرا إلي وقد تيممت فضحكا مني فلما فرغا من صلاتهما بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر إذا بطعام موضوع قال : فبقيت أتعجب من ذلك فقالا لي : ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وتوضأت وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتى أصبحنا فصليت الفجر ثم قاما يسيران فساروا (2) إلى الليل فلما أمسينا تقدم الآخر فصلّى بصاحبه ثم دعا بدعوات ثم بحث الأرض بيده فنبع الماء وظهر الطعام فقالا لي ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وشربنا وتوضأت للصلاة ثم نضب الماء وغار حتى لم يبق له أثر فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي : يا مسلم الليلة توبتك ، قال : فاستحييت من قولهما وداخلني من ذلك هم شديد ، قال : فقلت في نفسي : اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكني أسألك وأتوسل إليك بنبيك المكرم عندك إلا تفضحني عندهما ولا تشمت (3) بنبيك محمد صلىاللهعليهوسلم ، قال : فإذا بعين خرّارة وطعام كثير ، قال : فأكلنا وشربنا ولم نزل على حالنا حتى بلغت النوبة الثانية إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت أولا وتوسلت بالنبي صلىاللهعليهوسلم فإذا بطعام اثنين وشراب اثنين دون ما كان ، قال : فتقاصرت إلى نفسي وقصرت عن الأكل وأريتهما أني آكل فسكتا عني ، قال : وسرنا __________________ (1) هذه القصة فيها خبئ خفي ولعل هذين الراهبين ملكان أو وليان لله تعالى أرسلهما سبحانه وتعالى للشيخ الفرحي لينتقل بحالهما من حاله إلى حال أرفع كما ترى في القصة ، وأما أنهما راهبان حقيقة فهذا ما لا يستطيع العقل فهمه فإنا لا نعرف أن الله تعالى يكرم إلا الصادقين من عباده المؤمنين فكيف يكرم بهذه الكرامة الباهرة التي تضمنتها القصة راهبين كافرين بسيد أنبيائه وهما يعرفانه حق المعرفة كما ترى من كلامهما ، فاعرف ذلك ، اه مصححه. (2) قوله : فساروا بالجمع ، هو : فسارا بالتثنية كما هو ظاهر ، اه مصححه. (3) أي تشمتهما ، اه مصححه. حتى بلغت النوبة الثالثة إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت وتوسلت بالنبي صلىاللهعليهوسلم وقوي حالي في أمر صدق توسلي به صلىاللهعليهوسلم علمي بأنه وسيلة من قبلي فإذا بطعام اثنين والماء مثل ذلك فغمني ذلك ، قال : فغلبتني عيناي من الهم خوف الشماتة بديننا فإذا بقائل يقول لي : أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمدا من دون الأنبياء (1) وهي علامته وكرامة أمته من بعد إلى يوم القيامة. قال : فلما بلغت النوبة الرابعة إلي قالا : بلى يا مسلم ما هذا؟ إنا نرى في طعامك وشرابك نقصا فلم ذلك؟ فقلت لهما : أو لم تعلما أن هذا خصّ الله عزوجل نبيه نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم من بين الأنبياء وخصّ أمته به من بعده إن الله عزوجل يريد لي الإيثار وقد آثرتكما اقتداء بنبي المكرم فقالا : صدقت ، ثم قالا : نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، صدقت في قولك هذا ، خلق محمد في كتب الله المنزلة إن الله عزوجل خصّ محمدا وأمته بذلك ، قال : وحسن إسلامهما ، قال : ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة فقالا : ذلك واجب ، قلت : نعم فاسألا الله تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن فدعوا ، فبينا نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها فإذا هي بيت المقدس ، قال : فدخلنا المسجد وأقمنا أياما ثم تجدد لي سفر ففارقتهما وقد ملئ قلبي فرحا بإسلامهما وبصحبة توسلي (2) بالنبي صلىاللهعليهوسلم وأنه غيّاث الصادقين في محبة (3) السالكين خلفه في صدقه مع ربه وصحة الاعتماد عليه. فانظر أرشدك الله كيف بصدق التوسل به جرى ما جرى من حصول الكرامات من نبع الماء وحصول الطعام والاهتداء لها ، فله عزوجل المنّة على ما أكرمنا به وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته. وقال سفيان الثوري : بينا أنا أطوف بالبيت وإذا أنا برجل لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا وهو يصلي على النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت على الصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم فهل عندك من هذا شيء؟ فقال لي : من أنت؟ قلت : سفيان الثوري ، فقال : لو لا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي __________________ (1) أي خصصنا به أمة محمد صلىاللهعليهوسلم من دون أمم الأنبياء وإلا فالأنبياء جميعا أوائل أهل الإيثار صلى الله وسلّم عليهم جميعا ، اه مصححه. (2) قوله : وبصحبة توسلي ، صوابه وبصحة توسلي الخ ، اه مصححه. (3) قوله : في محبة السالكين ، صوابه في محبته. السالكين ، الخ ، اه مصححه. ولما أطلعتك على سري ، ثم قال : خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيد الأنام حتى إذا كنا ببعض المنازل مرض والدي فعالجته فمات فلما مات اسودّ وجهه فغلبتني عيناي من الهم فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه ولا أنظف ثوبا ولا أطيب رائحة منه فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمرّ يده عليه فعاد وجهه أبيض ثم ذهب فتعلقت بثوبه وقلت له : يا عبد الله من أنت الذي منّ الله عزوجل علي وعلى والدي بك في دار الغربة لكشف هذه الكربة؟ فقال : أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله صاحب القرآن ، أما إن والدك كان مسرفا على نفسه ولكنه يكثر الصلاة علي فلما نزل به ما نزل استغاث بي وأنا غيّاث من أكثر الصلاة علي ، قال : فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيضّ. فانظر أرشدك الله عزوجل إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته كيف أغاث من استغاث به حتى في البرزخ فهو عليه الصلاة والسلام كما قيل : غياث لملهوف وغيث لآمل وعين لظمآن وعون لذي جهد له فوق إيوان الزمان مراتب يقصر عنها الأنبياء أول المجد فموسى وعيسى والخليل ونوحهم يقولون طه منتهى السئول والقصد حوى قصبات السبق من قبل آدم وكهلا وأيام الطفولة في المهد به طيبة طابت ولا غرو قد حوت طبيب قلوب الخلق من مرض الجحد فلولاه ما اشتاقت قلوب نفيسة إلى الشيخ من أرض الحجاز ولا الرند ولا ذكرت سلع ونعمان والنقا ولا استعذبت من شدة الوجد للوجد فسبحان من قرّبه وبجّله وعظّمه ومنحه وتوجه خلع الفضائل وجعله أعظم ما يتوجه به إليه وأعظم الوسائل. روى الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : ادع لي أن يعافيني الله ، فقال : «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال : فادعه ، فأمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم شفعه في» قال الترمذي : حديث حسن صحيح ورواه النسائي بنحوه ورواه البيهقي وزاد محمد بن يونس في روايته فقام وقد أبصر ، وفي رواية شعبة ففعل فبرئ ، وفي رواية : يا محمد إني توجهت بك إلى ربي فتجلى عن بصري ، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي ، قال
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:03 pm | |
| عثمان رضي الله عنه : فو الله ما انصرفنا ولا طال الحديث حتى جاء الرجل كأنه لم يكن به ضر (1). فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والاستجابة وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي صلىاللهعليهوسلم وليس فيه التقييد بزمن حياته ولا أنه خاص بذلك الرجل بل إطلاقه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رءوف رحيم ، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم ، ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهموا التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته صلىاللهعليهوسلم كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف رضي الله عنه ذكره في أول الجزء الخمسين من مسنده أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف وشكا (2) إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي (3) حاجتك وتذكر حاجتك ، ورح حتى أرواح معك ، فذهب الرجل وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له ثم إن الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده حتى أدخله إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ، فأعلمه بها فقضاها له ، وقال : ما ذكرت حاجتك إلا الساعة ، ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما كان لك من حاجة فاذكرها ، ثم إن الرجل خرج من عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقي عثمان بن حنيف رضي الله عنه فقال له : جزاك الله خيرا أما إنه ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في ، فقال عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له عليه الصلاة والسلام : «أو تصبر؟» فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات» قال عثمان بن حنيف : فو الله ما انصرفنا ولا طال الزمان حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. ورواه البيهقي بإسناده من طريقين فهذا من __________________ (1) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : «وإن كان لك حاجة» فمثل ذلك ، اه مستنسخ النسخة. (2) قوله وشكى يرسم شكا بالألف ، اه مصححه. (3) قوله : فتقضي حاجتك ، ليس بظاهر معناه وقد راجعت الأصل فرأيت النص فتقضى حاجتي وتذكر حاجتك ، الخ وبه يتضح المعنى ، اه مصححه. أوضح الأدلة على الاحتجاج بالتوسل بالنبي صلىاللهعليهوسلم بعد وفاته كحياته كفعل (1) عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته وهم أعلم بالله عزوجل وبرسوله صلىاللهعليهوسلم من غيرهم وإليهم ترجع الأمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنهم رضي الله عنه (2) ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه أن عنده ضغينة لهم وهذا من الواضحات الجليات التي لا ينكرها إلا صاحب دسيسة أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقال القاضي عياض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو (الشفاء) الفصل الثاني في حرمته بعد وفاته : وأما حرمته (3) النبي صلىاللهعليهوسلم بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه فهو لازم كما كان في حياته وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كل مؤمن متى ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه (4) لو كان بين يديه ويتأدب بما أدّبنا الله عزوجل به. وقال ابن حبيب : إذا دخلت مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصلّ ركعتين بين الروضة والمنبر ثم اقصد القبر من تجاه القبلة وادن منه ثم سلّم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه عليه الصلاة والسلام مسلم (5) ويعلم وقوفك بين يديه وكذا قاله غيره من الأئمة. قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : (أما زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فأحضر قلبك لتعظيمه ولهيبته وأحضر عظيم رتبته في قلبك واعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك) وهذا الذي قالاه معروف مشهور لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغضون أصواتهم في مسجده تعظيما له وتوقيرا. وفي البخاري أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دق الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. __________________ (1) الكاف في قوله كفعل لام ، اه مصححه. (2) قوله : وأخذوها عنهم رضي الله عنه تؤخر فيه عنهم وتقدم عنه كما هو ظاهر ، اه مصححه. (3) الصواب وحرمة ويحذف الضمير ، اه مصححه. (4) قوله بما كان يأخذ بعينه عبارة الشفاء بما كان يأخذ به نفسه الخ ، اه مصححه. (5) قوله مسلم بتشديد اللام أي راد عليك السلام الذي تسلمه عليه ، اه مصححه. وروي أن عليا رضي الله عنه لما عمل مصراعي داره ما عملهما إلا بالمناصع توقيا لذلك ، والآثار بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكذا الأخبار بعرض الصلاة عليه وكذا برد (1) روحه الشريفة العظيمة الكريمة على الله عزوجل ، وإذا ثبت ردها ثبتت حياته وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحة التوسل به. في ابن ماجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفر منها. قال : قلت : يا رسول الله وبعد الموت؟ قال : «وبعد الموت فإن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق». وقال عليه الصلاة والسلام : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» رواه النسائي وكذا الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحح : وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليهالسلام» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد قال البيهقي : معنى قوله : إلا رد الله عليه روحه ، إلا وقد ردّ الله عليه روحه لأجل سلام من سلّم عليه واستمرت في جسده لأنه لا يبلى ولا تفتر صلاة المصلين عليه ولا سلام المسلّمين عليه من الثقلين وغيرهم. وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما (2) كنتم» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح ، والأحاديث في ذلك كثيرة. وقال كعب الأحبار : ما من فجر يطلع إلا أنزل الله سبعين ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر الشريف يضربون بأجنحتهم ويصلّون على النبي صلىاللهعليهوسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم وصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه. __________________ (1) سيأتي للمصنف شرح الحديث الوارد بذلك وتوضيحه أن الوجود لا يخلو لحظة من مسلم عليه صلىاللهعليهوسلم فهو دائما يرد السلام فهو دائما مردودة عليه روحه فهو دائما حي وشرح الحديث بأن جملة رد الخ حالية تحل إشكال الحديث كذلك وهناك أحاديث أخرى كثيرة تدل على حياة الأنبياء في البرزخ بلا قيد ولا شرط وهو أمر مجمع عليه بين علماء الأمة فليعلم ، اه مصححه. (2) توصل حيث بما ، اه مصححه. وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني صاحب الترغيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من صلّى علي في يوم جمعة وليلة جمعة مائة من الصلاة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا وكل بذلك ملكا يدخله على قبري كما يدخل عليكم الهدايا إن علمي بذلك بعد موتي كعلمي به في حياتي». وقال السيد الجليل سلمان بن شحيم قدس الله تعالى روحه : رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام فقلت : يا رسول الله الذين يأتونك ويسلّمون عليك تفقه سلامهم؟ قال : «نعم وأرد عليهم». وقال بعض المشايخ : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النوم فقلت : استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر أنك لم تسأل شيئا قط ، فقلت : لا ، فأقبل علي وقال : «غفر الله لك» وكان موهوب ابن الجزري الشافعي إماما عالما فاضلا مفيدا يشارك في سائر العلوم مشاركة جيدة مع العقل والدين والإيثار لأهل الضرورات وكان يتجر فكثر ماله فأراد الصاحب أن يتعرض له ، قال : فخفت منه خوفا شديدا فلما كان في بعض الليالي رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام فقلت : يا رسول الله إني خائف من الصاحب ، فقال : «لا تخف منه وقل له بعلامة كذا وكذا لا تؤذني فرسول الله صلىاللهعليهوسلم يشفع في» فلما انتبهت صليت الصبح وركبت دابتي ووقفت للصاحب في الطريق وهو طالع إلى القلعة ، قال : فسلّمت عليه وصحبته وقلت له : معي رسالة ، فقال : ممن؟ قلت : من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «قل له بعلامة كذا وكذا» فقال : صدقت أنت وصدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا اليوم أتشفع بك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فالمولى يرسم والمملوك يمتثل ومهما كان لك من الحوائج تعرفني بها أو لأحد أصحابك. وطلب بعض أمراء الجور رجلا أراد منه شيئا وهدده تهديدا وتواعده (1) بالعقوبات فقال له الرجل : أنا أتشفع إليك بسيد الأولين والآخرين أن لا تتعرض لي بما لا يحل لك ، فلم يلتفت إليه ولا إلى قوله ، فلما أصبح الصباح طلب الأمير الرجل وأكرمه بعد أن فكّ عنه الطلب فقيل للأمير في ذلك فقال : رأيت البارحة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنهرني وهمّ بي وقال : «يتشفع بي إليك ولا تقبل فو الله لا يتشفع به أحد إلي إلا قبلت شفاعته» فإني خفت على نفسي الهلكة. __________________ (1) الصواب حذف ألف تواعده ، اه مصححه. وعن منصور بن عبد الله قال : سمعت ابن الجلاء يقول : دخلت مدينة الرسول صلىاللهعليهوسلم وبي شيء من الفاقة فتقدمت إلى القبر فسلّمت على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى ضجيعيه أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم قلت : يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة ، ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر وإذا أنا بالنبي صلىاللهعليهوسلم قد جاءني ودفع إلى رغيف خبز فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف. ومن تتمة القصة أن قال ابن الجلاء إنه دام بعد ذلك أربعين سنة لم يحتج فيها إلى طعام الدنيا ولا إلى شرابها ببركة تلك الأكلة. قال العلماء : الظاهر أن ما أتاه به النبي صلىاللهعليهوسلم من طعام الجنة لأن من أكل من طعام الجنة استغنى عن طعام الدنيا ، قالوا : وهذه رؤيا حق لما جاء في الحديث «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي». ومثل هذا وقع للسيد الجليل أبي الخير الأقطع صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة قال : دخلت مدينة النبي صلىاللهعليهوسلم وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلّمت على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت : أنا ضيفك يا رسول الله وتنحيت ونمت خلف القبر فرأيت في المنام النبي صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني ، وقال : قم قد جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : فقمت إليه وقبلت بين عينيه فدفع إلي رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت وإذا في يدي نصف رغيف ، قال العلماء : وإنما يبقي نصف الرغيف ليتحقق الأمر وتظهر الكرامة لأولياء الله عزوجل الذين سلكوا سبيله بصدق صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهم. وقال ابن أبي ذرعة الصوفي : سافرت مع أبي ومع ابن حنيف إلى مكة وأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا مدينة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبتنا طاوين وكنت دون البالغ فكنت أجيء إلى أبي غير دفعة وأقول : أنا جائع ، فأتى والدي إلى الحضرة الشريفة ، وقال : يا رسول الله أنا ضيفك الليلة وجلس على المراقبة فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة فقال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوضع في يدي دراهم وفتح يده فإذا فيها دراهم وبارك الله تعالى لنا فيها إلى أن رجعنا شيراز فكنا ننفق منها. وقال السيد الجليل أبو العباس أحمد الصوفي : تهت في البادية ثلاثة أشهر وانسلخ جلدي فدخلت المدينة الشريفة وجئت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فسلّمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم فقال لي : «يا أحمد جئت؟» قلت : نعم وأنا جائع وأنا في ضيافتك ، فقال لي : «افتح كفيك (1)» ففتحتهما فملأهما دراهم فانتبهت وهما مملوءتان فقمت فاشتريت لي خبزا حواري وفالوذجا وأكلت وقمت للوقت ودخلت البادية ومثل هذا كثير وهؤلاء رجال صدق يقطعون البوادي على قدم التوكل لا يعتمدون على غيره ولا يأنسون بسواه وتقع لهم ألطاف وأمور عجيبة وقد ذكرت جملة من ذلك في كتاب (تنبيه السالك) في فصل الكرامات ، فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب فلينظر فيه وفيما وهب لهم من الكرامات على مقدار طبقاتهم. وخرج بعض المشايخ يريد الزيارة في جماعة من الفقراء ، قال : فلما وصلنا إلى شعب النعام أدركنا العطش وبيننا وبين المدينة مراحل ، قال : فاستغثت بالنبي صلىاللهعليهوسلم وصليت ونمت فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «مرحبا بك وبجماعتك» وضمني إلى صدره وقبّلني فقبّلت يده الكريمة وقدمه ، وقلت له : يا سيدي يا رسول الله أنا خائف على أصحابنا من العطش ، فقال : «لا تخف فإنا نسيّر لكم الماء وها نحن نعد لكم الضيافة» ورأيته عليه الصلاة والسلام مشمر الأكمام فجاءنا السيل في تلك الليلة وملأنا ركابنا فلما قدمنا المدينة تلقانا أحد خدام النبي صلىاللهعليهوسلم فقال لي : سلّم على النبي صلىاللهعليهوسلم وأشتهي أن أجتمع بك حتى أوفي لك بما أوصاني به النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلما سلّمت على النبي صلىاللهعليهوسلم جئت إليه ، فقال لغلامه : جئ بالمائدة ، فجاء بها وعليها كل خير يراد فالتفت إلي وقال : كل ، هذا الذي أوصاني به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال لي : هذه ضيافتك يا فلان وسماني باسمي ، وما يبعد أن النبي صلىاللهعليهوسلم سماه كما وقع لغيره من الخدام من تسمية أقوام قصدوا زيارته من أرض شاسعة كما أخبرني به الشيخ محمد فولاذ في المسجد الأقصى وكان من الأخيار وكثير التعبد والإيثار وحجّ ماشيا ما يزيد على ثلاثة حجة ، قال لي : إذا جاء أوان الحج هاج بي الشوق إلى تلك المعاهد الشريفة وإلى زيارة سيد الأولين والآخرين فآخذ زادي على ظهري وإناء الماء وأسير مع الناس إلى جنب وأنا مشغول بحالي ، قال : فاتفق أني تحدثت أنا وخادم الضريح وتذاكرنا مواهب الله عزوجل لسيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لي : يا شيخ محمد إني أخدم هذا الضريح ستين سنة فاتفق في يوم حار أني سمعت السرير يصرصر وسمعت صوته عليه الصلاة والسلام وهو يقول : «وعليك السلام يا فلان ويا فلان بن فلان» وسمّى ثمانية أنفس ، قال الخادم : فقمت من ساعتي وجئت الضريح وإذا بشخص كاد أن يموت من الهزال جالس عند __________________ (1) الصواب ففتحتهما ، اه مصححه. الضريح ، فسلّمت عليه وقلت : ما اسمك؟ فقال : فلان بن فلان لأحد الثمانية ، فقلت له : وأين رفقتك؟ فقال : عند باب الحرم ، قد عجزوا عن الوصول إلى الضريح ، قال : فعمدت إليهم فإذا ثلاثة من الذين سماهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : وأين بقيتكم؟ فقالوا : فارقناهم من وراء تلك الأكمة ، قال : فأخذت ما أحملهم عليه وماء وشيئا من الأكل ومضيت فوجدت الأربعة قد قضوا فجهزتهم ثم رجعت إلى الأربعة فأخذتهم وأكرمتهم وسألتهم من أين ورودهم فقالوا : من بلاد شاسعة تعاقدنا وتعاهدنا على زيارة سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأن لا نرجع عن ذلك ولو ذهبت أنفسنا ، فأما نحن فقد أعطانا الله عزوجل مرادنا وأما إخواننا الذين ماتوا عند الأكمة فنرجو أن الله عزوجل لا يخيب مسعاهم. ووقع مثل ذلك كثيرا جدا وقد دوّنه الأئمة كابن أبي الدنيا وغيره وعقدوا له باب الاستغاثة بالنبي صلىاللهعليهوسلم وخرّجوه بأسانيدهم على اختلاف الوقائع وفيها ما يتعلق بالصديق والفاروق رضي الله عنهما وها أنا ذا أتعرض لنبذة يسيرة جدا من غير الأسانيد لأنه اللائق بهذه الورقات فمن أراد الكثرة فعليه بالنظر في كتب الأئمة فإنها مجلدات والمهمل لذكرها قد نادى على نفسه بخبث طويته في حق أصفياء الله عزوجل وأوليائه ، أعاذنا الله من الزيغ والفتن ما ظهر منها وما بطن. فمن ذلك : ما أخبر به أبو عبد الله الحسين وأبو علي بن سعيد بن نبهان وكان من فضلاء بغداد ورؤسائهم وغيرهما قالوا : أراد رجل الحج فأحضره الأمير مقلد فقال : يا فلان تريد الحج؟ قال : نعم ، قال : إذا حججت وأتيت المدينة فاقرأ على النبي صلىاللهعليهوسلم مني السلام وقل له لو لا صاحباك لزرتك قال الرجل : فحججت وأتيت المدينة ولم أقل الكلام عند القبر إجلالا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما كان الليل نمت فرأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في منامي فقال لي : «يا فلان لم لم تؤد الرسالة من مقلد؟» فقلت : يا رسول الله أجللتك أن أقول في صاحبيك ذلك فرفع رأسه إلى رجل فقال له : خذ هذا الموسى واذبحه ، قال : ففعل ، قال : فوافيت العراق فسمعت أن الأمير مقلد ذبح على فراشه فلما قدمت المدينة ـ أي بغداد ـ سألت عنه فقيل إنه ذبح على فراشه فذكرت للناس الرؤيا التي رأيتها فشاعت إلى أن بلغت الأمير قرواس بن المسيب فأحضرني وقال : اشرح لي الحال ، فشرحت له ، فقال : أتعرف الموسى؟ قلت : نعم ، فأحضر طبقا مملوءا مواسي والموسى في الجملة فقال لي : أخرج الموسى ، فضربت بيدي وأخذت الموسى الذي رأيته بيد المصطفى صلىاللهعليهوسلم وقد ناوله الرجل فقال : صدقت هذا الموسى وجدته عند رأسه وهو مذبوح. ومن ذلك ما أخبر به علي بن محمد قال : سمعت رضوان اليماني وكان من الأخيار وأهل السنة ، قال : كان لي جار في منزلي وفي سوقي وكان يشتم أبا بكر وعمر ، قال : فكثر الكلام بيني وبينه فلما كان ذات يوم شتمهما وأنا حاضر فوقع بيني وبينه كلام حتى ناولته وناولني فانصرفت إلى منزلي وأنا مهموم حزين ألوم نفسي ، قال : فنمت وتركت العشاء لشدة ما بي فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في منامي في ليلتي فقلت : يا رسول الله فلان جاري في منزلي وفي سوقي يسب صاحبيك ، قال : «من أصحابي؟» قلت : أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال لي : «خذ هذه المدية واذبحه بها» قال : فأخذتها وأضجعته فذبحته فرأيت كأن يدي أصحابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض أمسحها فانتبهت وأنا أمسح يدي فأسمع الصراخ من نحو داره فقلت : انظروا ما هذا الصراخ؟ قالوا : فلان مات فجأة ، فلما أصبحنا جئت أنظر إليه لعلمي أن رؤياه حق ، فنظرت فإذا خط موضع الذبح. ومن ذلك ما أخبر به يحيى بن عطاف المعدل بالموصل قال : حكى لي شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين ، قال : جاورت بالمدينة الشريفة سنة مجدبة فخرجت إلى السوق لأشتري برباعي دقيقا فأخذ صاحب الدقيق مني الرباعي ، وقال : العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق ، فامتنعت من ذلك فراجعني مرات وهو يضحك ، فضجرت وقلت : لعن الله من لعنهما ، فلطم عيني فرجعت إلى المسجد والدموع تسيل ، قال : وكان لي صديق زاهد عابد جاور بالمدينة سنين فسألني عن حالي فذكرت القصة فقام معي إلى التربة الشريفة ، وقال : السلام عليك يا رسول الله ، فلما جنّ علي الليل نمت فلما أصبحت صادفت عيني أحسن مما كانت وكأنها لم يصبها ضر ثم لم يكن إلا ساعة وإذا رجل مبرقع قد دخل من باب المسجد يسأل عني فدلّ علي فجاء وسلّم علي وقال : ناشدتك الله إلا جعلتني في حل فأنا الرجل الذي لطمتك فقلت : لا أو تذكر لي قصتك ، فقال : نمت فرأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أقبل ومعه أبو بكر وعمر وعلي فتقدمت وقلت : السلام عليكم ، فقال علي رضي الله عنه : لا سلام الله عليك ولا رضي عنك أنا أمرتك أن تلعن الشيخين ، وجعل بإصبعيه كذا في عيني ففقأهما فانتبهت وأنا تائب إلى الله تعالى ، وأسألك التجاوز عن جرمي فحين سمعت قوله قلت : اذهب فأنت في حل من قبلي ، قال أبو النصر : فكان هذا الشيخ الدمشقي دينا صالحا ناسكا قدس الله تعالى روحه. كان علي رضي الله عنه يقول : أنا وأبو بكر وعمر كنفس واحدة من أحبنا جميعا انتفع بمحبتنا ومن فرق بيننا في المحبة لقي الله تعالى يوم القيامة ولا حجة له. وكان أيوب السختياني يقول : من أحب أبا بكر فقد أحب إمام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله تعالى ، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد فقد برئ من النفاق ، ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف السنة والسلف الصالح ، وأخاف أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه سليما. على هذا الاعتقاد درج السلف وبذلك اقتدى العلماء خلفا بعد خلف ومن ذلك ما أخبر به محمد بن عبد الله بن محمد الفقيه الحنبلي قال : اجتمع جماعة في الطريق قاصدين مكة في عرض السنة وكان أحدهم كثير الصلاة والتعبد فمات فأهمهم دفنه فنظروا إلى بيت شعر في الصحراء فقصدوه فإذا في البيت عجوز وفيه قدوم فسألوها أن تدفعه إليهم فقالت : تعاهدوني بالله عزوجل أنكم تردونها إلي فأعطوها ما أرادت ثم أخذوا القدوم فحفروا به قبرا وواروا الرجل ونسوا القدوم في القبر فذكروا العهود فدعتهم الضرورة إلى أن ينبشوا فإذا القدوم قد صار غلا من يد الرجل إلى عنقه فردوا عليه التراب فأخبروا العجوز الخبر فقالت : لا إله إلا الله رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في منامي فقال : «احتفظي بهذا القدوم فإنه غل لرجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما». وأخبر العباس السني قال : قال لي أحد المشايخ المعمرين : كنت بجامع عمرو بن العاص ونحن في صلاة أراها صلاة الصبح فسمعت ضجيجا بصحن الجامع فلما فرغنا من الصلاة اجتمع الناس فرأوا رجلا مذبوحا فقال رجل من الحاضرين : أنا ذبحته فإني سمعته يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فحمل إلى السلطان فسأله عن القضية فقال : أنا ذبحته ، فأمر السلطان بالرجل أن يحبس وبالمقتول أن يدفن ، فحفروا له موضعا فوجدوا ثعبانا ثم حفروا له موضعا آخر فوجدوا فيه ثعبانا فأخبروا السلطان بذلك فقال : احفروا له قبرا ثالثا ، فحفروا فإذا فيه ثعبان ، فقال : ادفنوه ، وسرح القاتل ، قلت : وبلغني أنه لما دفن ابن تيمية قال شخص بعد ثلاثة أيام : قد اضطرب القول في هذا الرجل والله لأنظرن ما صنع الله به ، قال : فحفر قبره فوجد على صدره ثعبانا عظيما هاله منظره فكان الرجل يحذر الناس من اعتقاده ويعلمهم بما رأى ، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا في كتابه (مجاني الدعوة) بسنده (أن (1) مؤذن عك) قال : __________________ (1) هكذا وجدنا في الأصل ، اه مستنسخه. جزت أنا وعمر إلى بكران وكان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينه فقلنا : اعتزلنا فاعتزلنا فلما دنا خروجنا قلنا : لو صحبناه حتى يرجع إلى الكوفة فلفينا غلام له فقلنا له : قل لمولاك يعود إلينا ، فقال : إن مولاي قد حدث له أمر عظيم قد مسخت يداه يدي خنزير ، قال : فأتيناه فقلنا له : ارجع إلينا ، قال : إنه حدث في أمر عظيم وأخرج ذراعيه فإذا هما ذراعا خنزير ، قال : فصحبنا حتى أتينا قرية من قرى السواد كثيرة الخنازير فلما رآها صاح صيحة فمسخ خنزيرا وخفي علينا فجئنا بغلامه ومتاعه إلى الكوفة وشاع أمره أعاذنا الله تعالى من ذلك. واعلم أن من الشيعة طائفة تقول إن خير الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي رضي الله عنه وأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ارتدا بعد الإسلام وقاتلا الناس. ثم اعلم أن مما يتعلق بأمور الشيعة من هذا النوع وغيره كثير والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلىاللهعليهوسلم واللواذ بقبره مع الاستعانة به كثير على اختلاف الحاجات وقد عقد الأئمة لذلك بابا ، وقالوا : إن استعانة من لاذ بقبره وشكا إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى. فمن ذلك ما أخبر به يوسف بن علي قال : ركبتني ديون فقصدت الخروج من المدينة الشريفة ثم جئت إلى قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاستغثت به في وفاء ديني فنمت فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم فأشار علي بالجلوس فاستيقظت فقيّض الله لي من وفى ديني. وقال بعضهم : بلغنا أن أبا الليث يقرأ القرآن في المصحف من غير تعلم سبق منه للكتابة وكنت أنكر ذلك ، قال : فدخلت مكة فوجدته يقرأ القرآن في المصحف قراءة محمودة فسألته عن سبب ذلك فقال : كنت في مدينة النبي صلىاللهعليهوسلم أبيت في المسجد وأخلو به فتشفعت إلى الله عزوجل بالنبي صلىاللهعليهوسلم أن يسهل على القرآن في المصحف ، قال : وجلست فأخذتني سنة فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : «قد أجاب الله تعالى دعاءك فافتح المصحف واقرأ القرآن» قال : فلما أصبح الصباح فتحت المصحف وشرعت أقرأ القرآن فكنت أقرأ في الصحف فربما تتصحف علي الآية فأنام فأرى من يقول لي الآية التي تصحفت عليك كذا وكذا. وذكر ابن عساكر في تاريخه أن أبا القاسم بن ثابت البغدادي رأى رجلا بمدينة النبي صلىاللهعليهوسلم أذّن الصبح عند قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال فيه : الصلاة خير من النوم ، فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك منه فبكى واستغاث بالنبي صلىاللهعليهوسلم وقال : يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل ، قال : فضربه الفالج في الحال وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ثم مات. وقال أبو العباس أحمد المقري الضرير التونسي : جعت بالمدينة ثلاثة أيام فجئت إلى القبر ، وقلت : يا رسول الله جعت ثم نمت ضعيفا فلكزتني جارية برجلها فقمت إليها فقالت : اعزم ، فقمت معها إلى دارها فقدمت لي خبز بر وتمرا وسمنا وقالت : كل أبا العباس فقد أمرني بهذا جدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال أبو العباس : فرجعت إلى بلادي فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم بمصر بعد رجوعي فقال : «أوحشتنا يا أبا العباس قراءتك» وكنت أكثر قراءة القرآن عند ضريحه. قال الباجي : كم قرأت من ختمة عند قبره؟ قلت : ألف ختمة. وقال أبو العباس أحمد : اللواتي كانت عندنا بمدينة فاس امرأة وكانت إذا أصابها أمر أو شيء يفزعها جعلت يدها على عينيها واستغاثت بالنبي صلىاللهعليهوسلم فتغاث فلما توفيت قال لي قريب لها : رأيتها في النوم فقلت لها : يا عمة ، أرأيت الملكين الفتانين؟ فقالت : نعم جاءاني فعند ما رأيتهما جعلت يدي على عيني وقلت : يا محمد ، فلما نزعت يدي عن وجهي فلم أرهما. وهذه القصة ذكرها بعض الأئمة وعزاها ، وقال : إن الاستغاثة من بعيد به صلىاللهعليهوسلم كالاستغاثة به عند قبره صلىاللهعليهوسلم. وساق عن أبي إسحاق الحسين قال : كنت بين مدينة النبي صلىاللهعليهوسلم والشام فضل لنا جمل قال : وكان قد بلغني عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال : من كانت له حاجة فليستقبل عبادان نحو قبري ويمشي سبع خطوات ويستغيث فإن حاجته تقضى ، قال : فلما استقبلت عبادان وقصدت الاستغاثة هتف بي هاتف : أما تستحي من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتستغيث بغيره؟ قال : فتحولت نحو المدينة فقلت : يا سيدي يا رسول الله أنا مستغيث بك ، قال : فو الله ما استكملت ذلك إلا والجمال يقول لي : هذا الجمل قد وجدناه. وسافر بعض الفقراء لقصد زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فتاه في الطريق فاستغاث بالنبي صلىاللهعليهوسلم فظهرت له قبة العباس رضي الله عنه وبينه وبين الموضع المذكور يومان أو نحوهما. وقال أبو الحجاج يوسف بن علي قدس الله روحه : خرجت من مكة متوجها إلى المدينة على طريق المشاة فتهت في الطريق فاستغثت بالنبي صلىاللهعليهوسلم فإذا بامرأة آتية من نحو المدينة وهي تشير إلى أن أمشي على أثرها فلم أزل أمشي على أثرها إلى أن وصلت المدينة ، وقال : سمعت أبا عبد الله بن سالم يقول : رأيت في المنام كأني في بحر النيل وإذا بتمساح يريد أن يقفز علي فخفت منه وإذا بشخص وقع لي أنه النبي صلىاللهعليهوسلم فقال لي : إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله فكنت أفعل فأغاث ، فأراد بعض الأخوان السفر لزيارته صلىاللهعليهوسلم وكان ضريرا فحكيت له الرؤيا وقلت له : إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله ، فسافر في تلك الأيام فجاء إلى رابغ وهي غزيرة الماء وكان له خادم قد ذهب في طلب الماء ، قال : فبقيت القربة في يدي وأنا في شدة من طلب الماء فذكرت ما قلت لي وقلت : أنا مستغيث بك يا رسول الله ، فبقيت أنا كذلك وإذا بصوت يقول : زم قربتك ، وسمعت صرير الماء في القربة إلى أن امتلأت ولم أعلم من أين أتى القائل. وقال : سمعت محمد السلاوي يقول : لما ودعت النبي صلىاللهعليهوسلم قلت : يا حبيبي يا محمد يا سيد الكونين أنا أدخل الصحراء فإذا أخذتني شدة أدعو الله وأتوسل بك ، وجئت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت لهما كذلك قال فبقيت في البرية سبعة أيام ووقعت في جب وفيه ماء فبقيت فيه من أول النهار إلى ما بعد الظهر فلم يبق إلا الموت ، قال : ففكرت ما كنت قلت عند النبي صلىاللهعليهوسلم وقلت : يا حبيبي يا محمد الذي كنت قلت لك وقلت كذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال : فكأني بمن حولني وطلعت ببركة النبي صلىاللهعليهوسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. وقال : أخبرني رجل من مدينة طرابلس قال : كنا جائين من الإسكندرية في مركب فهاج البحر علينا وأشرفنا على التلف والهلاك فقمت إلى الناس فقلت : استغيثوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم فإنه غيّاث ، فقلنا جميعا : الغياث يا رسول الله العفو يا رسول الله العفو يا رسول الله جانين مذنبين استجرنا بك أجرنا يا محمد الحبيب يا حبيبنا يا شفيعنا يا ولينا ، فنام رجل من أهل المركب مشهور بالخير والصلاح فرأى النبي صلىاللهعليهوسلم وأخذ بيده فقال : انج وأبشروا بالسلامة ، فلما أفاق الرجل بشرنا برؤياه فلما أصبح رجع البحر كالزيت وكأنه عقد بيضة وجئنا إلى طرابلس سالمين ببركته صلىاللهعليهوسلم وقال : سمعت أبا الحسن العسقلاني يقول : ركبنا البحر في طلب جده فهاج علينا ورمينا ما معنا فيه وأشرفنا على التلف فجعلنا نستغيث بالنبي صلىاللهعليهوسلم ونحن نقول : وا محمداه ، وكان معنا رجل مغربي صالح ، فقال لنا : ارفقوا بالحجاج إنكم سالمون ، رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام فقلت : يا رسول الله أمتك يستغيثون بك ، قال : فالتفت إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال : يا أبا بكر أنجدهم ، قال : فكأن عيني ترى أبا بكر رضي الله عنه وقد خاض البحر وأدخل يده في مقدم الحق ولم يزل يجذبها حتى دخل بها البر فلم تستغيثون فأنتم سالمون ، فسلّمنا ، ولم نر بعد هذا إلا خيرا ، ودخلنا البر سالمين والحمد لله رب العالمين. ولما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء أول سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة ونصف سنة ونصف شهر ووقع ما وقع من السبي وحمل النساء والصبيان فلما مروا بالقتلى صاحت زينب بنت علي رضي الله عنهما مستغيثة بالنبي صلىاللهعليهوسلم : يا محمداه هذا حسين بالعراء مزمل بالدماء مقطع الأعضاء ، يا محمداه ، فلما كان سنة ثلاث وأربعمائة أخذ أهل الكوفة جدري عظيم ثم عمي منهم ألف وخمسمائة كلهم من نسل من حضر قتل الحسين رضي الله عنه. وهذا من أعجب ما سمع ، واعلم أرشدك الله عزوجل أن مثل هذه القضايا كثيرة جدا وقد ذكر جماعة من الأئمة من ذلك أمورا عديدة عجيبة منهم البيهقي ومنهم أبو محمد عبد الحق ومنهم بعض الأئمة وذكر جملة مستكثرة في ذلك وعقد أبوابا في الاستغاثات بالنبي صلىاللهعليهوسلم ومنها باب في أصحاب العاهات وذكر منها جملة مستكثرة من ذلك على اختلاف أنواع العاهات كالعمى والصداع والزمانة ووجع البطن وغير ذلك ، وأنه عليه الصلاة والسلام يضع يده الشريفة على موضع العاهة فتزول ببركة يده الشريفة وتشفي وكأنه ما به وجع قلبه (1). ثم إنه مع ذلك قال : ولو تتبعت هذا الفن لحفيت الأقلام وجفّت المحابر وفنيت الطروس في تتبعه والدفاتر ، ثم قال : ولقد سألت بعض إخواننا المجتهدين وكان بمدينة النبي صلىاللهعليهوسلم على التجريد فقلت : هل استغثت بالنبي صلىاللهعليهوسلم أو لجأت إليه في شيء قط مدة إقامتك في المدينة؟ فقال : كنت أستحي أن أسأله إذ كنت بحضرته صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : سمعت الفقيه الإمام برهان الدين بن الطيب المالكي يقول : قال لي من أثق به وكان بمدينة النبي صلىاللهعليهوسلم وأنه أصابه الجوع فأتى قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني جائع ، وجلس بالقرب من حجرة النبي صلىاللهعليهوسلم فأتاه رجل من الأشراف فقال له : قم ، فقال : إلى أين؟ فقال : تأكل عندي شيئا ، فقام معه إلى بيته فقدم إليه جفنة فيها ثريد ولحم ودهن فأكل حتى شبع وأراد الانصراف فقال له : كل وازداد فلما أراد الانصراف قال له : يا أخي الواحد منكم يأتي من البلاد البعيدة ويقطع المفاوز والقفار ويترك الأهل والأوطان ويقطع البحار ويأتي إلى زيارة النبي العظيم على ربه صلىاللهعليهوسلم __________________ (1) الصواب قبله ، اه مصححه. وتكون همته أن يطلب منه كسرة خبز يا أخي لو طلبت الجنة أو المغفرة أو الرضى مهما طلبته منه لنلته ببركة هذا النبي الكريم صلىاللهعليهوسلم (1). هذا وعدم السؤال يكون للأكابر لما يشاهدون في الحضرة النبوية من الإجلالات والكرامات العلوية وأنت أرشدك الله عزوجل إلى الحق وأزاح عنك الباطل إذا استحضرت بعض ما تقدم وعطفت على قول هذا الزائغ أن المسلمين متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدعى ولا يطلب منه سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك قطعت بفجوره وببهتانه وأنه من أخبث الناس طوية وأنه لا اعتقاد له وهذه عادته بادعاء الاتفاق وبالإجماع المقطوع به كما سيأتي عند ذكر شد الرحال وأعمال المطي وفي غير ذلك. وقد تقدم توسل آدم عليهالسلام بالنبي صلىاللهعليهوسلم وأن الله قبله بسبب التوسل وجعل هذا الزنديق آدم عليهالسلام بتوسله بالنبي صلىاللهعليهوسلم ظالما ضالا مشركا وليس وراء ذلك زندقة وكفر. وروي عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت : امضوا إلى القبر واجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينها وبين السماء شيء ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام التفتق. وروى البيهقي بسنده إلى الأعمش عن ابن صالح قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله هلك الناس __________________ (1) هذا كلام جليل جدا فليتأمله القارئ ولا يستكثر على منزلته صلىاللهعليهوسلم عند ربه إغاثة أي ملهوف فإنه تعالى يسمع له في الآخرة في الشفاعة العظمى التي تشمل كل خلق الله كافرهم كمؤمنهم فيحمده لذلك الأولون والآخرون من الخلق ، وإذا كان تعالى يكرمه بذلك في دار الجزاء وقد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله. فعدم كل ما يحكى في هذه الدار من أنواع إغاثته تعالى للمستغيثين به صلىاللهعليهوسلم بالنسبة لذلك المقام المحمود. وهو تعالى يشفع في ذلك اليوم عباده الصالحين في أناس وجبت لهم النار فلا يدخلونها وفي أناس في النار فيخرجون منها ، فإغاثته إذن لمن يستغيث بهم في هذه الدار في أمور دون النار بملايين المرات ليست بالأمر البديع وإنما كتبت هذا لأني أعلم أن كثيرا من الناس لا يقع منهم موقع القبول ما يحكيه هذا الإمام رغم نقله عن أئمة تنحني رءوس أكابر الفضلاء عند ذكرهم فأنا في زمن لا يعرف أهله إلا الإنكار وهم لا يعلمون أنهم إنما ينكرون إما فضل الله على أحبابه أو قدرته على ما ينسب إليه من كرامة يكرم بها محبي أحبابه فليعلم ، اه مصححه. استسق لأمتك ، فأتاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المنام فقال : «ائت عمر فاقرأه مني السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له عليك الكيس» قال : فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه وقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. فهذا رجل مبارك قد أتى قبره عليه الصلاة والسلام وطلب الاستسقاء منه عليه الصلاة والسلام فلو كان ذلك جهلا وضلالا وشركا لمنعه عمر رضي الله عنه الذي احتج الزائغ باستسقائه بالعباس وقد تقدمت قصة عثمان بن حنيف وهي من الأمور المشهورة. فسكوت هذا الزائغ القائل بمسألة الفرق تبعا لسلالة اليهود عن هذه الأمور الواضحة الجلية المشهورة والعدول إلى الفجور من أقوى الأدلة على خبث طويته. ومثل هذا لا يحل لأحد تقليده فيما يقوله ولا ينظر في كلامه إلا من يكون أهلا لمعرفة دسائس أهل البدع والزيغ وإلا هلك وأهلك فتنبّه لذلك وخذ حذرك وإلا هلكت من حيث ظننت السلامة. وقوله : (ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك) قال الأئمة الأعلام النقاد أصحاب الأذهان الجيدة : هذا منه كفر لما فيه من حط رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإجماع على أن من غمط من نبي في شيء من الأشياء كفر وأيضا ففيه ترفيع غير الأنبياء إلى رتبة الأنبياء وإلحاقهم بهم وفيه إشارة بعيدة ترجع إلى اعتقاد الشيعة (1) وهو أن النبوة عندهم تكتسب بالرياضات وتهذيب النفس وكتبهم مشحونة بهذا ، وهذا من فجورهم فإن النبوة إنما هي من الله عزوجل فمن نبأه الله عزوجل فهو النبي ومن أرسله فهو الرسول (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : 124]. ومن الأمور المنتقدة عليه قوله (زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها) وهذا ثابت عنه أنه قاله. وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني. فانظر هذه العبارة ما أعظم الفجور فيها من كون ذلك معصية. ومن ادعى الإجماع وأن ذلك مقطوع به فهذا الزائغ يطالب بما ادعاه من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وكذا التابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى حين ادعائه ذلك. وما أعتقد أن أحدا يتجاسر على مثل ذلك مع أن الكتب المشهورة بل والمهجورة وعمل الناس في سائر الأعصار على الحث على زيارته من جميع الأقطار فزيارته من __________________ (1) هذا ليس اعتقاد الشيعة وإنما هو اعتقاد الفلاسفة هكذا رئي على حاشية خط الشيخ ، اه صاحب الأصل. أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سنة من سنن المرسلين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه مرض المنافقين ومن هو من أفراخ اليهود وأعداء الدين من المشركين الذين أسرفوا في ذم سيد الأولين والآخرين. ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شد الرحال إليه على ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سار في ذلك الزرافات والوحدان والعلماء والمشايخ والكهول والشبان حتى ظهر في آخر الزمان مبتدع من زنادقة حران لبس على أشباه الرجال ومن شابههم من سيئ الأذهان وزخرف لهم من القول غرورا كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبيل أهل الأيمان وأغواهم عن الصراط المستقيم إلى ثنيات الطريق ومدرجة النيران فهم برزيته في ظلمة الخطأ يعمهون وعلى منوال بدعته يهرعون ، وسأذكر لك ما تحقق به فجوره وبدعته وتضليل من مشى خلفه وهلكته وأبين ما أظهره من القول الباطل وما رمز إليه وأوضحه لكل من سمعه ووقف عليه ثم أردف ذلك بما يدل على المنهج من ذلك فلا يزيغ عنه بعد ذلك إلا هالك. قال القاضي عياض في أشهر كتبه الذي شاع ذكره في سائر البلاد وقرئ في المجامع والجوامع على رءوس الأشهاد (فصل في حكم زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وفضل من زاره وكيف يسلم عليه ويدعو) : وزيارة قبره سنّة من سنن المرسلين مجمع عليها ومرغب فيها. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي». وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري وكنت له شفيعا يوم القيامة». وفي حديث آخر «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» هذه ألفاظه بحروفها. وكذا ذكره الإمام العلامة هبة الله في كتاب توثيق عرى الإيمان فهذا نقل الإجماع على خلاف ما نقله هذا الزائغ الفاجر المبالغ في فجوره وعزوه إلى السلف ، وأما غير هذين الإمامين ممن نقل الندب إلى زيارته فخلق لا يحصون وسأذكر بعضهم على أنه ذكر في فتوى مطولة ما يناقض ما ادعاه من الإجماع والقطع هنا وقد ذكرت المسألة في (تنبيه السالك) وذكرت صورة الفتوى وجوابه ، وهذا جواب مطول وتعرضت لما فيه من الخلل وسوء الفهم وفجوره في النقل والعزو وها أنا ذا أذكر هنا
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:06 pm | |
| بعض الجواب وأبيّن ما فيه من الخطأ وعدم صحة الاحتجاج بما احتج به كحديث «لا تشد الرحال» ولا أدقق في الجواب لأن قصدي بيان جهله وأنه لا حجة له في الحديث جريا على القواعد التي عليها مدار الاستدلال صحة وبطلانا. وأذكر ما ذكره في أحاديث الزيارة وما ادعاه فيها من الفجور وما رمز إليه في تكفير الأئمة الذين رووها وأنه قال قولا مفترى لم يسبقه إليه أحد ولا رمز ولا أشار إليه وبالله التوفيق. فمن (1) ما ذكره في الجواب بلفظ قوله وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم كقوله : «من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني وابن ماجه. فانظر أرشدك الله تعالى كيف جعل هذين الإمامين ممن لا يعرف الحديث وهو من أقبح البهتان ، وقد احتج بهذا الحديث خلائق من أئمة الحديث غير هذين الإمامين منهم القاضي عياض وصاحب توثيق عرى الإيمان وهو أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) ذكره في الباب الذي عقده لزيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم. ومنهم ابن قدامة ذكره في كتابه المغني في فصل يستحب زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم واستدل بحديث ابن عمر من طريق الدارقطني ومن طريق سعيد بن منصور ، وذكر أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ما من أحد سلّم عليّ عند قبري» وقوله : (وأما ما يذكره بعض الناس من قوله : «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فلم يورده أحد من العلماء) وهذا أيضا من البهتان البيّن والجهل فقد روى هذا الحديث غير واحد من الأئمة بألفاظ متقاربة منهم الحافظ أبو عبد الله بن النجار في كتابه (الدرة الثمينة). من حديث علي رضي الله عنه ومنهم الإمام الحافظ المتفق على حفظه وعلو قدره في هذا الشأن أبو سعيد عبد الملك النيسابوري خرجه في كتابه شرف المصطفى من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عساكر من طرق ، وقوله : (وهو مثل «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة). __________________ (1) توصل ما بمن ، اه مصححه. تنبه يا من أشير إليه بالعلم في قوله فإنه يشير به إلى أن الحديث الأول كذب على رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه سوّى بينهما ، وذكر الحديث الثاني توطئة لقصده الفاسد في إرادة تجاسره به والتمويه على العوام والضعفاء من الطلبة وهو شديد الاعتناء بهذا القصد الخبيث في الكلام على آيات الصفات وأحاديثها فليحذر الواقف على كلامه في آيات المتشابه وأحاديثه غاية الحذر فإن الخطأ فيها كفر بخلاف غيرها من مسائل الفروع. وقوله : (وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم وقبور الأنبياء بأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يزور قباء وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب وأما الأولون فإنهم محتجون بما في الصحيحين عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال (1) : «إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به). انظر بصّرك الله تعالى ما في هذا الكلام من الإيهام والتدليس فإنه قال : قل ، وقد احتج الشيخ أبو محمد على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن النبي كان يزور قباء ولم يذكر راكبا وماشيا لأن الراكب قد شدّ الرحل وهو لا غرض له في ذلك ، وأيضا لم يذكر غير الشيخ أبي محمد وهو يوهم انفراده بذلك ولم ينفرد كما أذكره من بعد. وقوله : (أجاب ـ يعني أبا محمد ـ عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب) وهو يوهم أن ذلك لم يقله إلا الشيخ أبو محمد وهو من التدليس الذي هو كثير الاعتناء به. والمكر السيئ قوله : (أما الأولون ـ يعني القائلين بتحريم السفر وعدم جواز القصر في سفر المعصية ـ فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به) وهو يوهم أنهم احتجوا لتحريم (2) قبور الأنبياء وقبر النبي صلىاللهعليهوسلم به وهو من التدليس الفاحش وهو مطالب بأن الأولين صرحوا بأن شد الرحال وأعمال المطي إلى قبره وقبر الخليل إبراهيم عليهما الصلاة والسلام حرام ومعصية ولا تقصر فيه الصلاة وهذا لا يجده بل الموجود غيره والندب إلى ذلك كما يأتي إن شاء الله تعالى ، وقد خاب من افترى. __________________ (1) أول الحديث «لا تشد الرحال» ثم المذكور هنا ، اه مصححه. (2) فيه حذف مضاف تقديره فزيارة قبور الخ ، اه مصححه. ثم ما ذكره من انفراد الشيخ أبي محمد بأن الحديث محمول على نفي الاستحباب كذب وفجور وجهل فإنه لم ينفرد بذلك بل لا الحديث مسوق لتحريم زيارة القبور وإنما هو لبيان فضيلة المساجد الثلاثة دون غيرها لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والعمل فيها يضاعف ما لا يضاعف في غيرها ، وليس لزيارة القبور تعلق بالحديث. ولما تكلم الأئمة على هذا الحديث ومنهم الإمام العلامة أبو زكريا يحيى النووي رضي الله عنه في شرح مسلم قال : (في الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شدها إلى مسجد غيرها ، وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : يحرم شدها إلى غيرها وهو غلط ومر بيانه في باب سفر المرأة) فصرح بأن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة وصرح بأنه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها ولم يتعرض للزيارة البتة. قلت : وجزم الشيخ محيي الدين رضي الله عنه بأن الشيخ أبا محمد جزم بالتحريم وهو ممنوع ، وإنما تردد في ذلك فقال : ربما يحرم وربما يكره والله أعلم. وقال ـ أعني النووي ـ في شرح مسلم في باب سفر المرأة : واختلف في شد الرحال وأعمال المطي إلى غيرها لا الذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك. فقال الشيخ أبو محمد الجويني : يحرم ، وهذا الذي أشار إليه عياض مختارا له والصحيح عند أصحابنا واختاره الإمام والمحققون لا يحرم ولا يكره والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة ، انتهى. فذكر أولا أن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة ، وذكر ثانيا أنه قول المحققين وأنه لا يحرم ولا يكره وأن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة خاصة ولم يصرح بقبور الأنبياء ، وقوله : وأن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة يفيد أن شد الرحل إلى غير الثلاثة فيه فضيلة إلا أنها غير تامة ، وإذا علمت ذلك وما قرره هذا العبد الصالح وما نقله استفدت منه أنه لا يجوز تقليد هذا الزائغ في نقله ، ولا يرجع إليه في تقريره لسوء فهمه وتدليسه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما تقطع به بصحة ما قلته بلا شك ولا تردد. وأزيدك على ما ذكره النووي ما يؤكد ما قلته : قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني (فصل : فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد) قال ابن عقيل : لا يباح له الترخيص لأنه منهي عن السفر إليها. قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يأتي قباء ماشيا وراكبا وكان يزور القبور ، وقال : «زوروها تذكركم الآخرة» وأما قوله : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فيحمل على نفي الفضيلة لا على التحريم ، وليس الفضيلة شرطا في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها ، انتهى. وفيه من الفوائد أنه صرح بأن الصحيح أن ذلك في نفي الفضيلة وأن المنع إنما نسبه إلى ابن عقيل فقط ، فأين قول ابن تيمية وطوائف كثيرون من العلماء المتقدمين ، وابن قدامة واسع الباع في الاطلاع فكيف يقتصر على ابن عقيل وحده ويترك طوائف كثيرة من العلماء المتقدمين؟ وهذه كتب الحنابلة وغيرها مشهورة فأين النقل فيها عن المتقدمين؟ وهذا مما يعرفك أن ابن تيمية يكذب في الإجماع ، ومن تتبع ذلك وجده صحيحا وينقل في بعض الأحيان شيئا وهو كذب محقق ، وإذا نقل كلام الغير لم ينقله على وجهه وإن نقله على وجهه دسّ فيه ما ليس من كلام ذلك المنقول فاعلم (1) ذلك وتنبّه له واحذر تقليده تهلك كما هلك. وقول ابن عقيل : لا يباح الترخص لزيارة القبور لأنه منهي عن السفر إليها لم يصرح بقبور الأنبياء ولا بقبر النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يعلم مراده ، وعلى تقدير إرادته ذلك فهو مخطئ وضعيف الإدراك في الاستدلال ، ألا تراه اعتمد على الحديث ، وما قاله ابن عقيل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الحديث لا دليل فيه إلا عند عوام الفقهاء وأن من تمسك به فقد تمسك بما لا يفيد ، ولا بد من ذكر ألفاظ الحديث لتتم الفائدة ، وقد ورد بألفاظ مختلفة : أشهرها : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى». __________________ (1) هل الذي يبلغ في الخيانة في النقل إلى هذه الدرجة يعد من متوسطي المؤمنين فضلا عن أفاضل العلماء فضلا عن الأئمة المجتهدين وأنت تعلم أن العالم لا يكون عالما ويثق الناس بمؤلفاته إلا إذا كان أمينا أمانة لا يتطرق إليها الشك أصلا لأنه يتكلم في دين الله وأنا لا أدري من هذا حاله كيف مدحه بعض الناس لا سيما إذا لوحظ ما تقدم من تكفيره بإجماع علماء المذاهب الأربعة وقد أجاد وأفاد من قال إن ذلك المدح صدر ممن مدح في أوائل أمر هذا الرجل فإنه كان يتظاهر بما يمدح به ولكن لما تبين حاله لم يمدحه إلا من يوافقه على مشربه لا بل هذا ذمه كل الذم ونصحه وقول المؤلف المنقول أي عنه ، اه مصححه. واللفظ الثاني : «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد» من غير لفظ الحصر. اللفظ الثالث : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء» وإيلياء بيت المقدس. وهذه الروايات ذكرها مسلم في فضل المدينة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذكر قبل ذلك في سفر المرأة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» وهذا بصيغة النهي والثلاثة الأول بصيغة الخبر وبصيغة النهي ، رواه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس» وهذا اللفظ رواه ابن راهويه في مسنده من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. هذا ما يتعلق بلفظ الحديث وأما ما يتعلق بمعناه وما يدل عليه فاعلم أن الاستثناء في الحديث مفرغ كما هو واضح ولا بد فيه من تقدير ، وهو شيئان : أحدهما : «لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاث» ولا بد من تقدير أحد هذين ليكون المستثنى مندرجا تحت المستثنى منه ، والتقدير الأول وهو «لا تشد الرحال إلى مسجد» أولى من التقدير الثاني وهو «لا تشد الرحال إلى مكان» لأنه على التقدير الأول جنس قريب لما فيه من قلة التخصيص ، لأن التخصيص على تقدير إضمار الأمكنة أكثر فيكون مرجوحا ، ولو خطر بالبال تقدير العموم في الحديث لكان خيالا فاسد (1) المسافة وللقرينة اللفظية فيه ولدخول التخصيص بالأدلة السمعية والعملية الكثيرة جدا ، أما سياقه فلأن الحديث إنما ورد لبيان شرف هذه المساجد الثلاثة (2) وخيرتها على غيرها من المساجد كما مر من أنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولهذا تضاعف الأعمال فيها ما لا تضاعف في غيرها ، والمتكلمون على الحديث إنما يتكلمون في ذلك ونحوه من لزوم النذر المتعلق بها دون الزيارات ، ولهذا لما تكلم بعض المتأخرين على الحديث وأدرج ذكر الزيارة اعترض عليه في ذكر الزيارة وقيل : لم يرد الحديث لذلك وإنما ورد لبيان شرف هذه المساجد دون غيرها وهذا كاف في بطلان الاحتجاج بالحديث لمنع زيارة القبور والزيادة على ذلك إنما هو على وجه التنزل ، فمن احتج بالحديث لمنع الزيارة ينبغي أن لا يرسم في حزب __________________ (1) قوله : فاسد المسافة ، ينبغي أن يكون فاسد المشاقة كما هو ظاهر ، اه مصححه. (2) صوابه وخيريتها كما لا يخفى ، اه مصححه. الفقهاء البتة لما قررنا وإن قلنا بعموم اللفظ فكذلك لأن وقائع الأعيان إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال وهذا في الاحتمال وإن كان فيه بعد. فما ظنك بهذا الحديث الذي لا احتمال فيه من لفظه وهو قرينة ظاهرة قوية ولها شاهد ظاهر الدلالة كما أذكره إن شاء الله تعالى ولا سيما وقد دخله التخصيص بالأدلة السمعية والعملية مع كثرة المخصصات على اختلاف أنواعها ، فمنها ما هو فرض عين ، ومنها ما هو فرض كفاية ، ومنها ما هو مندوب ، ومنها ما هو قربة ، ومنها ما هو مباح. وصور هذه الأنواع لا تكاد تنحصر عدا. فأما القرينة اللفظية فذكر المساجد الثلاث في الاستثناء وهو بعض المستثنى منه وهذا قوي جدا وإلى تكون بمعنى اللام إذ حروف الصلة ينوب بعضها عن بعض كما هو كثير في الكلام ، فالمعنى : لا تشد الرحال لمسجد إلا للمساجد الثلاثة ، ويؤيد هذا أن رجلا من التابعين قال لابن عمر رضي الله عنهما : أريد أن آتي الطور ، قال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومسجد الأقصى ودع عنك الطور فلا تأته. فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلم إلا في شد الرحال إلى المساجد دون غيرها وهو أعلم بالحديث وموارده ومصادره ، وعلى منواله تكلم العلماء في شد الرحال بالنسبة إلى المساجد ، وكذا ذكر القاضي عياض في كتابه الإكمال ولم يتعرض لزيارة الموتى أصلا وليس في الحديث تعرض لمنع الزيارة البتة ، وبهذا وغيره يعرف أن دعوى أن الحديث يدل على منع الزيارة من كلام الجهلة العارين عن العلوم التي بها يصح الاستدلال والاستنباط وعلى سوء الفهم وبلادة الذهن وجموده وأن مثل هذا لا يحل لأحد تقليده ولا الأخذ بقوله لتحقق جهله ببعض ما قررنا (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النّور : 40] ومثل هذا لا يزال يتخبط في ظلمة جهله هو وأتباعه ، وبالله التوفيق. وقوله في جواب الفتوى (ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالسمع) إلى آخره ، فقوله وجب الوفاء عند الشافعي يوهم أن الشافعي جازم بذلك وليس كذلك بل هو قول مرجوح عند الشافعي ، وعلل بأن مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم والمسجد الأقصى لا يقصدان بالنسك فأشبها سائر المساجد ، وقوله : ولو نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة لم يجب ذلك باتفاق الأئمة ، وهذا أيضا ليس بصحيح وما رأيت أجرأ منه على الفجور ولا أكذب في دعوى الاتفاق والإجماع ، وقصده بذلك الترويج على الأغمار ولا عليه من غضب الجبار ، وفي كلامه مسألتان : الأولى : إذا نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه من غير المساجد الثلاث. وقد حكي الاتفاق على أنه لا يجب الوفاء بذلك وهو البهتان البين ففي ذلك قولان آخران أحدهما : يجب الوفاء مطلقا ، والثاني : أن نذرها في الجامع تعين وإلا فلا. المسألة الثانية : إذا نذر أن يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة فإنها لا تجب عليه باتفاق الأئمة ، ثم أردف ذلك بقوله : وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاث ، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاث). فانظر إلى هذه الجرأة والفجور بقوله : حتى نص العلماء ، والمسألة فيها خلاف ، وقد قال الإمام محمد بن مسلمة المالكي إذا قصد مسجد قباء لزمه لأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا ، بل قال الليث بن سعد : إذا نذر المشي إلى أي مسجد كان لزمه سواء في ذلك المساجد الثلاثة وغيرها. وقال الإمام ابن كج من كبار أصحابنا : إذا نذر أن يزور قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فعندي أنه يلزمه وجها واحدا ولو نذر المشي إلى مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم ففيه قولان : أحدهما لا يلزمه ، والثاني : يلزمه فعلى هذا لا بد من ضم عبادة ، قيل : يلزمه صلاة وقيل اعتكاف ولو لحظة ، والصحيح أنه يتخير في مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم بين الصلاة وبين زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فجعل زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم طاعة وهي أخص من القربة ، وجعلها تقوم مقام الصلاة التي هي أفضل عبادات البدن والمساجد موضوعة لها بالأصالة. وقوله : (وقالوا لأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأمة). قلت : لما وقف بعض الأئمة على هذا الكلام الباطل قال : هذا من البهت الصريح ، وصدق رضي الله عنه لما أذكره وفيه أيضا تدليس من الفجور ، بيان التدليس قوله : قالوا : فإنه يوهم أن هذا الذي قاله لم يقله من عند نفسه وإنما نقله عن أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهذا شأنه يدلس في الإغراء ليحمل الناس على عقيدته الفاسدة المفسدة لأنه لو عزاه إلى نفسه لما انتظم له ذلك لعلم الحذّاق النقاد بسوء فهمه وكثرة خلطه مما عرفوه منه في بحثه وتدوينه إذا انفرد ، فقوله : (لأن السفر إلى قبور الأنبياء) يشمل قبر الخليل والكليم وقبر النبي صلىاللهعليهوسلم وغيرهم ، وقوله : (والصالحين) يشمل قبور الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم وهو مطالب بتصحيح ما عزاه إلى أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا بل المنقول خلاف ذلك كما تراه ، وقوله : (إن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين) هذا من الفجور والإفك المبين. ولم تزل الناس على زيارة قبر الخيل والكليم وغيرهما في سائر الأعصار من جميع الأمصار. وهذا بلال مؤذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سافر من الشام إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وممن ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر والحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه (الإكمال في ترجمة بلال) وقال فيه : ولم يؤذن لأحد بعد النبي صلىاللهعليهوسلم فيما يروى إلا مرة واحدة في قدمة قدمها إلى المدينة لزيارة قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم طلب إليه الصحابة رضي الله عنهم ذلك فأذن لهم ولم يتم الأذان وقيل إنه أذن لأبي بكر رضي الله عنه في خلافته اه. وممن ذكر ذلك أيضا إمام الأئمة في الحديث أبو الحجاج الشهير بالمزي (1) وسبب سفر بلال رضي الله عنه لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام أنه رأى النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام فقال له : «ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه من نومه حزينا وجلا خائفا ، فقعد على راحلته من حينه وقصد المدينة فأتى قبره عليه الصلاة والسلام فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما إليه فجعل يضمهما ويقبلهما ثم قالا له : يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن للنبي صلىاللهعليهوسلم في المسجد فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف ، فلما أن قال الله أكبر ارتجت المدينة ، فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها ، فلما قال أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا : أبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك اليوم. __________________ (1) المزي بكسر الميم وتشديد الزاي نسبة إلى قرية بالشام ، اه مستنسخ الأصل. فهذا بلال من سادات الصحابة رضي الله عنهم قد شدّ رحله من الشام وسافر لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام فقط ، وأعلم بذلك الحسن والحسين ، وطار بذلك الخبر في المدينة وكان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم ينكر عليه ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم. ولو كان السفر لزيارة قبره مخالفا للسنة ولإجماع الأمة لأنكروا عليه لأنهم ينكرون أدنى شيء من المخالفات ولا سيما عمر وهو أمير المؤمنين وأشد الناس في الإنكار وأبطشهم يدا وأحدهم لسانا ووقوفا مع الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم. وأيضا فمن الشائع الذائع أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يبرد البريد من الشام لأجل السلام على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقط ، ذكر هذا غير واحد منهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو (الشفاء) وذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكره الإمام العلامة ابن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) وذكره الإمام أبو بكر أحمد بن النبيل في مناسك له لطيفة جردها من الأسانيد والتزم فيها الثبوت ولفظه : وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلىاللهعليهوسلم السلام ثم يرجع ، وهذا الإمام أبو بكر قديم توفي في سنة سبع وثمانين ومائتين ، فهذا السيد الجليل عمر بن عبد العزيز يبعث الرجل لأجل السلام فقط لا لقصد آخر ، وكان ذلك في زمن صدر التابعين ، وكان سفر بلال في زمن صدر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر ذلك أحد ، فدلّ على أن السفر لأجل زيارة قبره صلىاللهعليهوسلم ولأجل السلام عليه مجمع عليه بين الصحابة والتابعين فأين دعوى ابن تيمية أن ذلك مخالف للسنة ولإجماع الأمة ، وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار ألا تسافر لتزور قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتتمتع بزيارته ، فقال : نعم يا أمير المؤمنين أفعل. وهذا أو بعضه كاف في إبطال دعوى ابن تيمية وإثبات فجوره وأتبرع بزيادة وأقتصر غاية الاقتصار. قال بعض الأئمة : وأما زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فلم ينكرها أحد ولم يقع في السفر إليها نزاع ولم يزل سفر الحجيج إليه في السلف والخلف ، وصدق رضي الله عنه ، وهذه كتب العلماء من جميع المذاهب مصرحة بذلك ، وقد تقدم قول القاضي عياض : زيارة قبره صلىاللهعليهوسلم سنّة من سنن المرسلين ومجمع عليها ومرغّب فيها ، واحتج بحديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم ، وقد ذكر غير القاضي عياض ما ذكره. وإذا تقرر ذلك ففي ذكرى ما أتبرع به مع غاية الاقتصار تتحقق أن ابن تيمية من أعظم الكذبة والفجار ، وقد انكشف لك ذلك كما انكشف ضوء النهار. فمن ذلك ما ذكره القاضي أبو الطيب وهو من أئمة الشافعية قال : ويستحب أن يزور قبر النبي صلىاللهعليهوسلم بعد أن يحج ويعتمر ، اه وكيف يزور من غير سفر سواء كان راكبا أو ماشيا. وقال المحاملي في كتابه التجريد : ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، اه. وقال الحليمي في كتابه المنهاج عند ذكر تعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم وذكر جملة ثم قال : وهذا كان من الذين رزقوا مشاهدته وصحبته ، وأما اليوم فمن التعظيم بيان تعظيمه وزيارته. وقال الماوردي في كتابه الحاوي : أما زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فمأمور بها ومندوب إليها ، وقال في كتابه الأحكام السلطانية في باب الولاية على الحجيج وذكر كلاما يتعلق بأمير الحاج ثم قال : وإذا قضى الناس الحج أمهلهم الإمام الأيام التي جرت عادتهم بها ، فإذا رجعوا سار بهم على طريق المدينة للنبي صلىاللهعليهوسلم ليجمع بين حج بيت الله عزوجل وزيارة قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم رعاية لحرمته وقياما ببعض حقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة. فتأمل هذه العبارة من هذا الإمام وما اشتملت عليه من الفوائد الجليلة. وقال الإمام العلامة المتفق على دينه وكثرة علومه وعلو قدره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : ويستحب زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وذكر القاضي حسين نحوه وكذا الروياني ، ولا حاجة إلى الإطالة بذكر من قال بزيارة قبره عليه الصلاة والسلام سواء في ذلك قبل الحج أو بعده ، وذكر السير إليه كثير من أصحاب الشافعي ، من جملتهم : السيد الجليل أبو زكريا يحيى النووي قدس الله روحه ، قال في كتابه المناسك وغيرها (فصل في زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم) : سواء كان ذلك على طريقه أم لا فإن زيارته صلىاللهعليهوسلم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات ، اه. وإذا عرفت هذا فأتبرع إليك بزيادة أخرى مع زيادة فائدة. قالت الحنفية : إن زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم من أفضل المنوبات والمستحبات بل تقرب من درجة الواجبات ، وممن صرح بذلك الإمام أبو منصور محمد الكرماني في مناسكه ، والإمام عبد الله بن محمود في شرح المختار. وقال الإمام أبو العباس السروجي : وإذا انصرف الحاج من مكة شرّفها الله تعالى فليتوجه إلى طيبة مدينة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي وكلامهم في ذلك يطول ، وأتبرع بزيادة هي أبلغ في تكذيب هذا الفاجر لأنها من كلام أئمة الحنابلة. قال ابن الخطاب محفوظ الكلواذي الحنبلي في كتابه الهداية في آخر باب صفة الحج : استحب له زيارة قبره صلىاللهعليهوسلم وصاحبيه وفيه فائدة وهي استحباب شد الرحل إلى زيارة الصديقين رضي الله عنهما. وقال الإمام ابن أحمد في الرعاية (1) الكبرى : ويستحب لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما وذلك بعد فراغ الحج وإن شاء قبله. وذكر نحو ذلك غيرهم ومنهم الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام وعقد له بابا في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام ، واستدل بحديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم. وذكر ابن قدامة في المغني فصلا في ذلك ، فقال : يستحب زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم واستدل بحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ولا أطول بذكري من ذكره من أئمة الحنابلة تبعا لإمامهم رضي الله عنهم ، وأتبرع بزيادة لفوائد جمة ومهمة. فمن ذلك ما في كتابي (2) تهذيب الطالب لعبد الحق الصقلي عن أبي عمران المالكي أن زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم واجبة ، وقال عبد الحق في هذا الكتاب : رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها أبو محمد بن أبي زيد قيل له في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك ، فقال : يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة وهي مسألة حسنة. وفي كتاب النوادر لابن أبي زيد فائدة أخرى ، فإنه بعد أن حكى في زيارة القبور من كلام ابن حبيب ومن المجموعة عن مالك ، ومن كلام القرطي بإسكان الراء وبالطاء المهملتين ، ثم قال عقبة (3) : ويأتي قبور الشهداء بأحد ويسلّم عليهم كما يسلّم على قبره صلىاللهعليهوسلم وعلى صاحبيه وفي الكتاب المذكور. ويدل على التسليم على أهل القبور ما جاء في السنة والتسليم على النبي صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقبورين. __________________ (1) هي الدعاية بالدال ، اه مصححه. (2) صوابه كتاب كما هو واضح ، اه مصححه. (3) هي عقبه بالقاف لا بالتاء ، اه مصححه. وقال العبدي المالكي في شرح الرسالة : إن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم أفضل من المشي إلى الكعبة وبيت المقدس ، وصدق وأجاد رضي الله عنه لأنه أفضل البقاع بالإجماع. فهذه نبذة يسيرة والنقول في ذلك كثيرة جدا وفيها الإجماع على طلب الزيارة بعدت المسافة أو قصرت وعمل الناس في ذلك في جميع الأعصار من جميع الأقطار ، فكيف يحل لأحد أن يبدعهم بالقول الزور ويضلل أئمة أمة المختار ، بل من المصائب العظيمة أن يوقع وفد الله تعالى في جريمة عظيمة وهي عصيانهم بشد رحالهم لزيارة قبره عقب ما رجوه من المغفرة وبتركهم الصلاة التي هي أحد أركان الدين لأنهم إذا لم يجز لهم القصر وقصروا فقد تركوا الصلاة عامدين ، ومن تركها متعمدا قتل إما كفرا وإما حدا ، ولا يصدر هذا إلا ممن هو شديد العداوة لوفد الله تعالى ولحبيبهم الذين (1) يرتجون بزيارتهم له استحقاق الشفاعة التي بها نجاتهم. وسأذكر عقب هذا الأدلة الخاصة بالحث على زيارته وأتعرض لما قدح فيها وفي الأئمة رواتها ومنه تعلم أن هذا الخبيث لا دين له يعتمد عليه فتراه واضحا جليا لا تشك فيه ولا ترتاب فنسأل الله تعالى العافية مما يرتكبه هذا الزائغ الفاجر الكذاب ، وأن يذيقه أشد العذاب ، على ما أفسد في هذه الأمة وسيلقى أشد الحساب. وقوله (إنما (2) ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها) أعوذ بالله من مكر الله عزوجل. انظر أدام الله لك الهداية وحماك من الغواية إلى فجور هذا الخبيث كيف جعل الأحاديث المروية في زيارة قبر خير البرية كلها ضعيفة ، ثم أردف ذلك بقوله باتفاق أهل العلم بالحديث ، ولم يجعل الأئمة الذين أذكرهم من أهل الحديث ، والعجب أنه روي عنهم في مواضع عديدة من كتبه ، وهذا من جهله وبلادة ذهنه وعماءة قلبه من أنه لا يعلم تناقض كلامه ونقضه بذلك ، ثم إنه لم تخمد نار خبثه بما ذكره من الفجور حتى أردف ذلك بأن الأحاديث المروية في زيارة القبر المكرم موضوعة ـ يعني أنها كذب ـ وهذا شيء لم ير أحد من علماء المسلمين ولا من عوامهم فاه به ولا رمز إليه لا من في عصره ولا من قبله قاتله الله تعالى. __________________ (1) الذي بالإفراد ، اه مصححه. (2) صوابه إن ما ، اه مصححه. ولقد أسفرت هذه القضية عن زندقته بتجريه على الإفك على العلماء وعلى أنه لا يعتقد حرمة الكذب والفجور ولا يبالي بما يقول ، وإن كان فيه عظائم الأمور. وإذا عرفت هذا فينبغي أيها المؤمن الخالي من البدعة والهوى أن لا تقلده فيما ينقله ولا فيما يقوله ، بل تفحص عن ذلك وتسأل غير أتباعه ممن له رتبة في العلوم وإلا هلكت كما هلك هو وأتباعه (1). ولنذكر بعض الأحاديث الواردة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام ، وأذكر من رواها وأحذف الأسانيد لأنها لا تليق بهذه الأوراق وقد رويت من طرق بلغت بها منزلة الصحيح أو قاربت أو منزلة الحسن وأذكر من صحح بعضها وأبين أنه من الأئمة الأعلام بالحديث وأنه يعتمد تصحيحه وبالله التوفيق. فمن الأحاديث في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام قوله صلىاللهعليهوسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه غير واحد من أئمة الحديث منهم الدار قطني والبيهقي وغيرهما والحديث مروي بهذا اللفظ في عدة نسخ معتمدة وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وخرجه أبو اليمن في كتابه إيجاف (2) الزائر ، وأطراف المغنم للسائر ، في زيارة سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخه في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام بعد وفاته كان كمن زاره في حياته ، وخرجه العقيلي وغيره فلا نطول بذكر من رواه من أئمة الحديث المعتبرين وهو مروي من طرق تبلغ الحسن. قال أئمة الحديث : والحديث أو الأحاديث وإن لانت أسانيد مفرداتها فمجموعها يقوي بعضها بعضا ويعتبر الحديث حديثا حسنا ويحتج به وممن ذكر ذلك أبو زكريا النووي ذكره في شرح المهذب في كتاب الحج وهي فائدة جليلة ينبغي معرفتها ليعلم بها جهل هذا الفاجر المبالغ في فجوره. وقوله عليه الصلاة والسلام : «وجبت له شفاعتي» معناه : حقت ، ولا بد منها بوعده الصادق. وفي ذلك بشارة عظيمة لزوار قبره الشريف وهي أن من زاره محتسبا مات على التوحيد ، وهذه البشارة العظيمة من ثمرة زيارة قبره المكرم. وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «وجبت له شفاعتي» تحقيق لما قلته لأجل إضافة الشفاعة إليه ولأنه عليه الصلاة والسلام مشفع لا ترد شفاعته لا في حياته ولا بعد وفاته ولا في عرصات القيامة. __________________ (1) لعلك في دهشة مما مر مفصلا من تعمد كذب هذا الرجل في نقوله وأحكامه حتى تعدى كذبه الخلق إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، اه مصححه. (2) لا أدري أهو إيجاف كما ذكره أم إتحاف ، اه مصححه.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:07 pm | |
| وقال عليه الصلاة والسلام : «من زار قبري حلّت له شفاعتي» رواه الحافظ البزار في مسنده ، وهو بهذا اللفظ في نسخة معتمدة. وسمعها الحافظ أبو الحسين الصدفي على الإمام أبي عبد الله مورتش (1) سنة ثمانين وأربعمائة. ومعنى «حلّت» وجبت ، وقد عزّى عبد الحق هذا الحديث إلى البزار والدار قطني. وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدار قطني في سننه وغيرها. وفي رواية «ومن مات بأحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة» ورواه غير واحد وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وروي من طرق. ورواه الحافظ ابن عدي في كتابه الكامل بزيادة : قال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني» وذكر البيهقي في سننه أنه ذكره ابن عدي وخرجه هو بدون هذه الزيادة وخرجه الحافظ ابن عساكر. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» زاد السهمي «وصحبني». ورواه الحافظ ابن الجوزي بهذه الزيادة : وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عدي في كتابه الكامل وغيره وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وخرجه الدار قطني في أحاديث مالك التي ليست في الموطأ وهو كتاب ضخم. وقال ابن الجوزي : إن هذا الحديث موضوع ، وقد نسب ابن الجوزي في ذلك إلى السرف فاعرف ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام : «من زار قبري أو زارني كنت له شفيعا أو شهيدا» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ورواه البيهقي وابن عساكر من جهة الطيالسي. وروي بزيادة : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سوار بن ميمون أبو الفرج العبدي قال : حدثني رجل من آل عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من زار قبري» أو قال : «من زارني كنت له شفيعا» أو «شهيدا». «ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة». __________________ (1) هو فرتس كما في الأصل ، اه مصححه. وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة» رواه أبو جعفر العقيلي وغيره ، ومنهم الحافظ ابن عساكر. وفي رواية السحاي (1) قال : حدثنا هارون بن قرعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة» ومن هو في جواره فهو في الآمنين لا محالة صلىاللهعليهوسلم. وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلّى في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه». ورواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في فوائده ، وهذا أبو الفتح اسمه محمد بن الحسين وكان حافظا من أهل العلم والفضل ، وصنّف كتابا في علم الحديث. ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن السمعاني في الأنساب وأثنى عليه محمد بن جعفر بن غيلان وذكره في الحفاظ وحسن المعرفة بالحديث. وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني محتسبا كنت له شفيعا أو شهيدا» وفي رواية «من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» وهو من رواية أنس رضي الله عنه ورواه غير واحد. وممن ذكره ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن وهو من طريق ابن أبي الدنيا ، وروي من طرق. وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني ميتا فكأنما زارني حيا ومن زارني وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار في كتابه (الدرة اليتيمة في فضائل المدينة). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زار قبري حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا» خرجه العقيلي. ورواه ابن عساكر من جهته إلا أنه قال : «من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي» وهي فائدة جليلة. __________________ (1) في الأصل السحامي ، اه مصححه. وعن علي كرّم الله وجهه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني» رواه الحسين بن يحيى بن جعفر في كتاب أخبار المدينة. ورواه الحافظ أبو عبد الله ابن النجار في كتابه الدرة اليتيمة «من لم يزرني فقد جفاني». ورواه الحافظ أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى صلىاللهعليهوسلم وهذا الكتاب في ثمان مجلدات. وأبو سعيد هذا له مصنفات في علوم الشريعة ، توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور وقبرهن بها مشهور ويتبرك به ، وكان ينتفع بكلامه وبوعظه وتنجلي بكلامه القلوب قدّس الله روحه ونوّر ضريحه. وقال عليه الصلاة والسلام : «من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة». وفي رواية «من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي» رواه غير واحد من الأئمة الحفاظ المشهورين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ومنهم الطبراني في معجمه الكبير ومنهم الدار قطني في أماليه ومنهم أبو بكر ابن المقري في معجمه ومنهم العلامة الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن. ذكره في كتابه المسمى بالصحاح المؤثرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. يا هذا انتبه لما أذكره. قال في خطبة كتابه هذا : أما بعد فإنك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة التي نقلها الأئمة من أهل البلدان الذين لا يطعن فيهم طاعن مما نقلوه فتدبرت ما سألتني عنه فوجدت جماعة من الأئمة قد تكلفوا ما سألتني من ذلك وقد وعيت جميع ما ذكروه وحفظت عنهم أكثر ما نقلوه واقتديت بهم وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك وجعلته أبوابا في جميع ما يحتاج إليه في أحكام المسلمين ، فأول من نصب نفسه لطلب الصحيح البخاري وتابعه مسلم وأبو داود والنسائي ، وقد تصفحت ما ذكروه وتدبرت ما نقلوه فوجدتهم مجتهدين فيما طلبته ، فما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته ، وما ذكرته بعد ذلك مما اختاره أحد الأئمة الذين سميتهم فقد ثبتت حجته في قبول ما ذكره ونسبته إلى اختياره دون غيره ، وما ذكرته فيما ينفرد به أحد أهل النقل للحديث فقد بينت علته ودللت على انفراده دون غيره ، وبالله التوفيق ، اه. فانظر أرشدك الله تعالى هذا الاتفاق من هذا الإمام والحرص على تحقيق ما وضعه في كتابه لم يقنع بوضع البخاري ومسلم وغيرهما مع جلالتهم بل تتبع ما وضعوه حتى وضع في كتابه وهذا شأن الأئمة الخائفين من الله عزوجل من أن يقع منهم زلل في الإخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم إنه رضي الله تعالى عنه ذكر في هذا الكتاب في كتاب الحج في باب ثواب من زار قبر النبي صلىاللهعليهوسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من جاءني زائرا لم ينزعه إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعا يوم القيامة» ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث. وهذا حكم منه بأن هذا الحديث مجمع على صحته بمقتضى الشرط الذي شرطه في الخطبة وهو رضي الله عنه إمام جليل حافظ متقن كثير الحديث واسع الرحلة سمع بالعراق وخراسان وما وراء النهر وسمع بالشام ومصر وسمع من خلائق من أئمة الحديث والأجلاء أهل الدين وهو من القدماء ، أصله بغدادي ، وسكن مصر ومات بها في نصف المحرم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة رحمة الله تعالى عليه وعلى أمثاله ، وإذا كان هذا حديث صحيح (1) فكيف يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجعله ضعيفا فضلا عن أن يجعله كذبا وأقل درجات الثقة الخائف أن يقول صححه فلان ، وأما القول بوضعه وبتكذيب هذا الإمام وأمثاله فلا يصدر إلا من زنديق محقق الزندقة بهذه القرينة وغيرها عائذا بالله عزوجل من ذلك. وإذا تقرر لك ذلك فانظر أرشدك الله تعالى وعافاك هذا الخبيث الطوية كيف طعن في هذه الأئمة الأعلام في علوم الحديث الذين بهم يقتدى وعليهم يعوّل وعند ذكرهم تتنزل الرحمة ، ورماهم بالوضع على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وطعن في هذه الأخبار المروية عن هذه الأئمة. وهذا شأنه قاتله الله تعالى كلما جاء إلى شيء لا غرض له فيه طعن فيه وإن كان مشهورا ومعمولا به بين الأئمة ولا عليه لا من الله عزوجل ولا من رسوله صلىاللهعليهوسلم ولا من الناس وتنبه لشيء عظيم رمى به هذه الأئمة وهو أن من قاعدته أن من كذب على النبي صلىاللهعليهوسلم متعمدا كفر فعليه من الله عزوجل ما يستحقه ، وهذا وغيره يدل على أن عنده ضغينة للنبي صلىاللهعليهوسلم ولصاحبيه وكذا لأمته ليفوت عليهم هذا الخير الذي رتبه على زيارة قبره عليه أفضل الصلاة والسلام فاحذروه واحذروا تزويق مقالته المطوي تحتها أخبث الخبائث فإنها لا تجوز إلا على عامي أو بليد الذهن كالحمار يحمل أسفارا أو خال من العلوم وأخبار الناس وبالله تعالى التوفيق ، والله أعلم. __________________ (1) يكتب حديثا صحيحا لأنه خبر كان ، اه مصححه. قال عليه الصلاة والسلام : «إن بين يدي الساعة دجاجلة (1) فاحذروهم» رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. وقوله : وفي الصحيحين عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» قالت عائشة : ولو لا ذلك لأبرزوا قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا ويتخذ قبره وحدثنا ، الخ. تأمّل بصّرك الله تعالى وفهّمك كيف بعد تضليل هذه الأئمة وفجوره بادعاء أن هذه الأحاديث المتعلقة بالزيارة كذب كيف أردف ذلك بهذا الحديث محتجا به على منع زيارة القبر الشريف وفيه من أقوى الأدلة على تدليسه وسوء فهمه ، إذ الحديث ليس فيه تعرض للزيارة البتة وإنما فيه منع اتخاذ القبور مساجد ، ونحن لم نتخذ قبره المكرّم المعظّم مسجدا ولا نصلي فيه ولا إليه بل نزوره وندعوا مع الأدب والخشوع والسكينة ورؤية العظمة لعلمنا بأنه يسمعنا ويجيبنا ، وعلى ذلك جرت عادة المؤمنين. قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتى قبر النبي صلىاللهعليهوسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه قد افتتح الصلاة فسلّم على النبي صلىاللهعليهوسلم ثم انصرف ، وقوله : فهم دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا فيتخذ قبره وحدثنا. هذا أيضا من التدليس منه وسوء الفهم على عادته ، وما قاله باطل يموه به على الضعفاء من الطلبة وغوغاء الناس ، وإنما دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها لما روي لهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون حيث يقبضون وكان ذلك بعد اختلافهم أين يدفن فقال بعضهم : يدفن في مسجده ، وقال بعضهم : مع إخوانه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : عندي من ذلك علم ، فذكر لهم أن النبي يدفن موضع يقبض ، فلما روي لهم الحديث دفنوه موضع قبضه ، وهذا من القضايا المشهورة في غاية الشهرة ، ولا نعلم أن أحدا قال إنهم دفنوه موضع قبضه للمعنى الذي ذكره وهذا شأنه إن وجد شيئا يوافق هواه وخبث طويته ذكره ووسع الكلام فيه وزخرفه وإن وجد شيئا عليه أهمله أو حمله على محمل يعرف به أهل النقل جهله وتدليسه عند تأمله في بعض المواضع يعرف من غير تأمل. __________________ (1) هذا إخبار من المصنف إلى أن هذا الرجل دجال وهو يؤيد ما سبق لنا من أن أفعاله أفعال دجاجلة ، اه مصححه. وقوله : وكانت الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد لا يدخل للصلاة هناك ولا يتمتع بالقبر ولا دعاء هناك ، هذا أيضا من الجسارة التي يزخرف بها على العوام وأشباههم من سيئ الأفهام من الطلبة ، فإن هذا لا يدل على مراده من منع الزيارة بل كلامه يدل على الزيارة بلا هذه الأفعال إلا الدعاء ، فليس كما قال ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ومع ذلك ليس مجمعا عليه كما زعمه وأوهمه كلامه فإن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه زار والتزم القبر فأنكر عليه مروان بن الحكم فوبخه أبو أيوب. وقال في كلامه ما معناه ابكوا على هذا الأمر إذا وليه غير أهله (1) ذكر ذلك أبو الحسين في كتابه أخبار المدينة. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه وضع يده على موضع مقعد النبي صلىاللهعليهوسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه (2) وكان رضي الله عنه يتردد إلى الأماكن التي كان يتردد إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبراحلته لأجل التبرك ، وقد تقدمت قصة بلال رضي الله عنه لما شدّ رحله لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام فلما وصل الضريح المكرم جعل يمرغ وجهه عليه ويبكي (3). وقوله : ولا دعاء هناك ، قضية سياقه أن الإجماع على أنه لا يدعو عند القبر وهي دعوى عريضة ، ثم أكد ذلك بقوله : إنما يفعلونه في المسجد ، ثم أردف ذلك بقوله : وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا __________________ (1) في ذلك جواز ضم قبور الصالحين وأبو أيوب الأنصاري الذي ضم ضريح سيد الوجود صلىاللهعليهوسلم هو أبو أيوب وكفى ، اه مصححه. (2) في ذلك جواز التبرك بآثار الصالحين أيا كانت حتى الخشب الذي كانوا يجلسون عليه وابن عمر هو ابن عمر ، اه مصححه. (3) انظر تمريغ سيدنا بلال وجهه على ضريح خير الخلق وبلال هو بلال تجده صورة طبق الأصل لما يحصل من كثير من الزائرين اليوم والزائرات للصالحين من أهل البيت وغيرهم ويقوم ويقعد كثير من المتنطعين لذلك ولا يرضون لفاعله غير الشرك بالله ليحكموا بذلك على بلال الذي يعد من أجلاء الصحابة وهو مؤذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليعلم أولئك المتنطعون أن ذلك أثر وجد في النفوس لا يشعرون هم به يحمل أهله على التبرك بما يجاور حبيب ربهم وهو من باب قول القائل : أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا هذا قصد أولئك المؤمنين في لمسهم ضريح الصالح من العباد لا العبادة كما يتوهم مظلمو القلوب مسيئو الظن بالمؤمنين فليعلم ، اه مصححه. الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر ، ثم قال : وأما وقت السلام فقال أبو حنيفة : يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة : يستقبل القبر عند السلام خاصة ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا يستقبل القبلة عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة عن مالك ومذهبه بخلافها ثم أردف هذا بأمور يجسر بها على الأغمار يتخيل الواقف عليها من العوام حسم باب الزيارة لقبره عليه الصلاة والسلام. والحاصل من كلامه أنه لا يدّعي عند القبر بالاتفاق ولا يستقبل القبر عند الدعاء بالإجماع ، وأن الحكاية التي وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور كذب ، سبحانك هذا بهتان عظيم. وهذا من الفجور الذي لا أعلم أحدا فاه به ولا رمز إليه لا من العلماء ولا من غيرهم. أما قضية مالك مع المنصور فقد ذكرتها في الكلام على التوسل فإنها صحيحة بلا نزاع ، وأما الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق ومنهم الإمام مالك ، وقد نصّ على أنه يقف عند القبر ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء. وقد ذكره ابن المواز في الموازية فأفاد ذلك أن إتيان قبر النبي صلىاللهعليهوسلم والوقوف عنده والدعاء عنده من الأمور المعلومة عند مالك وأن عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه ، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره فضلا عن أن يفتي به أو يقره عليه. وقال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلّم على النبي صلىاللهعليهوسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلّم ولا يمس القبر بيده ، نعم في المبسوطة لا أرى أنه يقف عنده ويدعو ولكن يسلّم ويمضي. وإنما ذكرت كلام المبسوطة لأن من حق العالم الذي يؤخذ بكلامه أن يذكر ما له وما عليه لأن ذلك من الدين. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله السامري في كتاب المستوعب في باب زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم : وإذا قدم مدينة رسول الله صلىاللهعليهوسلم استحب له أن يغتسل لدخوله ثم يأتي مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويقدم رجله اليمنى في الدخول ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره. ثم ذكر كيفية السلام والدعاء وأطال ومنه : اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه الصلاة والسلام (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : 64] الآية ، وإني قد أتيتك مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حال حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك» وذكر دعاء طويلا ثم قال : وإذا أراد الخروج عاد إلى القبر فودّع ، وهذا أبو عبد الله من أئمة الحنابلة ، وساق هذا الكلام سياق المتفق عليه. ومن جملة ما أفاد أنه يتوسل بالنبي صلىاللهعليهوسلم ويتوجه به بعد وفاته كما في حياته وأن الآية عامة وشاملة للحياة وبعد الوفاة فتنبّه لذلك. وكذلك ذكره أبو منصور الكرماني من الحنفية أنه يدعو ويطيل الدعاء عند القبر المكرم. وقال الإمام أبو زكريا النووي في مناسكه وغيره فصل في زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوسلم : وذكر كلاما مطولا ثم قال : «فإذا صلّى تحية المسجد أتى القبر فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر وسلّم مقتصدا لا يرفع صوته» وذكر كيفية السلام ثم قال : «ويجتهد في إكثار الدعاء ويغتنم هذا الموقف الشريف» الخ. فهذه نقول الأئمة بتطويل الدعاء عند القبر المكرّم وقد خاب من افترى ، وكل أحد تلحقه الخيبة على قدره. وقوله : وهذا كله محافظة على التوحيد فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح : 23] وقد أضلّوا كثيرا. قالوا : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اعتكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها ، وقد ذكر ذلك المعنى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما وذكره ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره عن غير واحد من السلف ، الخ. وأنت أيها اللبيب أرشدك الله عزوجل وزادك بصيرة وفهما إذا تأملت هذا الاستدلال منه قطعت بجهله وبخلطه في خبطه وعلمت بذلك سوء فهمه وخيالاته الفاسدة ، ومن نفس الدليل تعلم ذلك ، فإنه تخيل بذهنه الجامد وخياله الفاسد أن منع الزيارة والسفر إليها من المحافظة على التوحيد ، وأن الزيارة تؤدي إلى الشرك وعبادة الأوثان ، وهذا خيال فاسد لأن اتخاذ الصور مساجد وعيدا ، والعكوف وتصوير الموتى فيها هو المحذور والمؤدي إلى الشرك عند تطاول الزمان ، وهذا هو الممنوع منه كما هو مصرّح به في الأحاديث الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لما أخبر بكنيسة بأرض الحبشة قال : «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل» فهذا هو الذي حذّر منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأما الزيارة والسلام على الميت والدعاء له وعنده فلم يؤدّ إلى ذلك ولا له تعلق بتلك الأمور ، ومن تخيل ذلك فهو من سوء فهمه في هذا الأمر الواضح ولو كان يؤدي إلى ذلك لما شرعه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبلغ من ذلك لما أمره الله عزوجل بالخروج إلى قبور الشهداء الذين أكرمهم بالشهادة حين نزل عليه جبريل عليهالسلام وأمره بأمر الله تعالى بالخروج إلى بقيع الغرقد بل كان نهاه أن لو أراد الخروج ، وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام قال : «زوروا القبور» كما رواه مسلم وغيره بزيادة إلى غير ذلك مما علمهم عليه الصلاة والسلام كيفية الزيارة كما جاء في الأحاديث في زيارتها قولا وفعلا. وتواتر ذلك وأجمع عليه المسلمون حتى أن منهم من أوجب زيارتها لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : «زوروا القبور» فلو كانت الزيارة من الأمور التي تؤدي إلى الشرك كاتخاذها مساجد وعيدا والتصوير ونحو ذلك لم يشرعه الله عزوجل لنبيه صلىاللهعليهوسلم ولا شرعها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله وبفعله ، وقد أطلعه الله عزوجل على ما أراد من غيبه وبعثه بدينه القويم وهو الصراط المستقيم ، ولا فعلها الصحابة رضي الله عنهم الذين هم من أصفياء الله تعالى ، بل كانوا أحرص الناس على ذلك خوفا من إعادة ما جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم بإماتته ودفنه واندراس أثره ، والله أعلم. وأنت أيها العاقل الفطن إذا تصورت ما نقلته لك وتعقلته بذهنك الصحيح علمت وتحققت أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما حرم الله تعالى ورسوله وأنه لا يحل له التهجم على موارد الشرع ومصادره بخيالاته الفاسدة وأنه بذهنه الجامد أدرك ما لم يدركه الصحابة رضي الله عنهم ولو فتحنا هذا الباب وتتبعنا هذه الخيالات الفاسدة لهدمنا أمورا كثيرة من الدين ولا نحلت عراه عروة عروة وتبدلت بعد الجهالة ولمات الدين ، وذلك من الخسران المبين ، شعر : فالقول ما قال النبي وصحبه فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدى
واعلم أن من جملة ما احتج به على منع زيارة قبره عليه الصلاة والسلام حديث «اللهم لا تجعل قبري وحدثنا وعيدا اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وهذا من أظهر الأمور على عمى قلبه وطمس بصيرته كيف يتخيل متخيل فضلا عن أن يعتقد معتقد أن قبره المكرّم المعظّم يصير وثنا ، كلا والذي رفع ذكره وأعلى قدره وعظّمه وملأ كتابه بذلك لا يمكن تصور ذلك ، وكيف يتصور وهو لا ترد له دعوة ولو في حق غيره فكيف بما هو في حقه ، وهذا من المعلوم الشائع الذائع عند المتسع الباع ، ولو عددت لك نقطة من ذلك مع الاقتصاد لضاقت القراطيس والألواح ، ولما أدرك غبار مباديه ولما لاح. دعا عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد إلا استجيب له. وإذا كان هذا قد ناله ببركة دعوته فكيف بدعائه لنفسه لا سيما في هذا الأمر الفظيع. ومرض أبو طالب فعاده عليه الصلاة والسلام فقال : ادع ربك أن يعافيني ، فقال : «اللهم اشف عمي» فقام في الحال كأنما نشط من عقال ، فقال له : يا ابن أخي أيطيعك ربك؟ فقال : «يا عماه لئن أطعت الله عزوجل ليطعنك». ودعا عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها أن لا يجيعها ، قالت رضي الله عنها : فما جعت بعد. ودعا عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه أن يكفيه الحر والبرد فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حر ولا برد. ودعا عليه الصلاة والسلام لابن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلم التأويل» فكان كذلك ، وكان بعد ذلك يسمى الحبر وترجمان القرآن. ودعا لعبد الرّحمن بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا عليه الصلاة والسلام لعروة بن أبي الجعد فكان لو اشترى التراب لربح فيه. ودعا عليه الصلاة والسلام لعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه بالبركة ، قال عبد الرّحمن : فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا. وندت له عليه الصلاة والسلام ناقة فدعا بردها فجاءها إعصار ريح حتى ردها عليه. فانظر كيف من كساه خلع القرب والمنزلة عنده أن جعلها سائسة بعيره. والإعصار أحد الأعاصير وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود. وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس» قالت أسماء رضي الله عنها : فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبال وذلك بالصهباء بخيبر. وقيل : رجعت حتى بلغت نصف المسجد. ومثل هذا كثير جدا وقد ذكرت جملة من ذلك في فصل الحج في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك). يا من أمد أبا هر بمزودة فأوقرت منه للغادين أحمال جئناك نطوي الفجاج المقفرات على عيسى لها في السرى وجد وإرقال قال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هل من شيء؟» فقلت : نعم شيء من التمر في المزود ، قال : «فأتني به» فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة ثم قال : «ادع عشرة» فأكلوا حتى شبعوا ثم عشرة كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا ، ثم قال : «خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكفئه» فقبضت على أكثر ما جئت به فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه فانتهب مني فذهب. وفي رواية : فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا أوسقا في سبيل الله تعالى ، فقد تحققت بهذا فضلا عن غيره وهو مثل الرمال كثرة يا صحيح الذهن وقوي الإيمان به أنه لا يكون قبره وثنا البتة ، بل في الحديث الصحيح قد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب أو مثل هذا السيد المعظم المكرم لا يتوسل به ولا تشد الرحال إليه ، قاتل الله العزيز من قاله وضاعف العذاب عليه. جدير بنا نسعى إليه وندلج فذاك الذي يسعى إليه ويدلج جعلنا إليه في الحياة احتياجنا ونحن إليه في القيامة أحوج جميع الورى والرسل تحت لوائه ومن ذا له عن جاه أحمد مخرج أو لهذا السيد الجليل المبجل لا يشد إليه رحل ولا يتوسل به قائل الله قائله وجعله على رضف جهنم يتمايل.
زكا قدره من ذا يجاريه في العلا وأعلامه في ذروة العز تركز زحاما ترى للرسل تحت لوائه وكل نبي باللوا يتعزز زعيم بتعجيل الشفاعة عند ما أولو العزم عنها في القيامة تعجز زفير لظى عنا يرد بجاهه إذا هي من غيظ علينا تميز زكاة على الأبدان تسعى لقبره فسيروا وزوروا فالغنائم تحرز فمن زاره نال السعادة كلها ومن مات عجزا ذاك والله أميز فمن توسل به عليه الصلاة والسلام إنما توسل به لعلو قدره ورتبته ، وارتفاع منزلته وكمالها عند ربه وعظيم إجلاله وفضله على جميع خلقه ، كما أخبر هو عن نفسه ، فإنه سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين وأحب الخلق إليه أجمعين. ذلك شائع وذائع في الأقدمين والآخرين حتى في أعدائه المبطلين. قديما بدا قبل النبيين فضله وإن قدموا بعثا ففي الفضل أسبق قضى الله أن لا يلحق الرسل لاحق ولا أحد منهم بأحمد يلحق قطعنا بأن لا يخلق الله شبهه قديما ولا في آخر الخلق يخلق قل الحق هل تدري لأحمد مشبها فبادر وقل لا لا فإنك تصدق قرأنا أحاديثا صحاحا بأنه عليه لواء الحمد في الحشر يخفق قياما له الأملاك والرسل تحته ومن حوله صفوا وحفوا وأحدقوا قوي ولكن لين في أناسه رفيق ولكن بالمساكين أرفق قريب لأرباب الحوائج ما ترى لأحمد حجابا ولا الباب يغلق وكيف لا يكون كذلك وهو كما قيل فيه : أكرم العالمين أصلا وفصلا وجلالا وسيد البطحاء خص بالحوض والشفاعة في الحشر لكل الورى ورفع اللواء والمقام المحمود والسبق للنا س دخولا في الجنة الفيحاء ثم يعطي وسيلة هي أعلى درجات الجنان ذات البقاء هو جاري وعدتي ونصيري وعمادي في شدتي ورخائي وليس هذا خاصا بي وبفقري بل هو كما قيل فيه : له المقام الذي ما ناله أحد والفخر والمجد والإحسان والحسب
وهو الشفيع الذي تنجى شفاعته كل الأنام إذا ما مسها العطب محمد خير خلق الله قاطبة وهو الذي لفخار المجد يكتسب نوّه به يا منادي الحي إن به تزول عن قلبي الآلام والكرب عان له مقلة تشتاق تنظره ومهجة بلهيب الشوق تلتهب وكيف لا تلتهب وقد شاهدت ما شاهدت مما لا يمكن النطق به ولا أفوه ، وكيف كيف أسلوه. رعى الله بالبطحاء أيامنا التي مضت كوميض البرق ثم تولت وحيا قبابا بين سلع إلى قبا لعزتها يحلو خضوعي وذلتي نعمت بها لكن كأحلام نائم كأن لم تزرها العيس حتى تولت فهل لي إلى تلك العوالم عودة ولو دونها بيض الصوارم سلت وألثم إجلالا ثراها وأجتلي شموسي في أرجائها وأهلتي سقى الله ذات الظل من دارة الحمى حتى نهلت منه رباها وعلت وسحت على أعلام سلع مديمة غمائم بالنوء الروى استهلت فتلك لعمر الله دار أحبتي وسكانها كل المراد وبغيتي ألا ليت شعري هل أزور قبابها فتحمد فيها العيس شدي ورحلتي وأنشد في أكنافها مترنما لمن نظم مدحي فيه بيت قصيدتي ألا يا رسول الله أنت وسيلتي إلى الله إذ ضاقت بما رمت حيلتي وإن شئت قلت إلى الله في غفران ذنبي وزلتي فالتوسل به عليه الصلاة والسلام لم يزل منذ آدم عليهالسلام لا يتوقف فيه أحد ولا يطعن إلى أن ظهر بعض زنادقة اليهود وغلاتهم في بغضه عليه الصلاة والسلام ، قال : وإنه بموته بطلت حرمته وجاهه فلا يتوسل به ولا يقال يا جاه محمد ، وتم ذلك بتوارث سلالتهم معتقدين ذلك مصرّين عليه. ثم زاد هذا الخبيث أن التوسل به شرك وقرره بتقرير ألحقه بقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر : 3] وذلك يدل على أن من أجهل الجهلة ، فإن التوسل به عليه الصلاة والسلام معناه : أسأل الله عزوجل برسوله وأتشفّع إليه به فهو سائل لله عزوجل لا لغيره ولا يلزم من التوسل به أو بشخص والتشفع إليه به أن يكون عبده ولا اتخذه إلها وربا من دون الله ولا جعله شريكا في الإلهية ، ومن جعل التوسل بشخص مثل هؤلاء (1) فهو من جهله وسوء فهمه وعدم تعقله ما يقول ، ومثل هذا لا يحل لأحد أن يقلده ولا ينظر في كلامه إلا من له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر. وقد قال عليه الصلاة والسلام : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم» قالوا : يا رسول الله قد عرفنا أن حياتك خير لنا فكيف وفاتك خير لنا؟ قال : «أما حياتي فإنكم كلما أحدثتم حدثا أحدث الله لكم المخرج منه بي فإذا متّ فلا أزال أنادي من قبري ربي أمتي حتى ينفخ في الصور ثم لا أزال أجاب أربعين سنة حتى ينفخ الأخرى وتعرض علي أعمالكم فما كان من حسن شكرت الله عليه وما كان من سيئ دعوت الله أن يغفره» رواه الإمام العلامة هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان ، ورواه غيره. فهو عليه الصلاة والسلام رحمة لنا في حياته وبعد وفاته فكيف لا يتوسل به إليه ولا نعمل البزل القناعيس نحوه وإليه ، وذلك مما أجمع أهل التوحيد عليه ، وأجمعوا على تكفير من قال بخلاف ذلك. صرح به أئمة الأمة وأولهم مالك. وكان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وجاء بريدي من مصر باعتقاله على ذلك فاعتقل وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني فاتفق أن ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم ووعظ ، وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة وقال : ها أنا راجع ولا أزور الخليل ، ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ ، وذكر المسألة بعينها حتى قال : فلا يزور قبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس ، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل ابن تيمية. ولما كان يوم الجمعة رابع شعبان جلس القاضي جلال الدين بعد العصر بالمدرسة العادلية وأحضر جماعة من جماعة ابن تيمية كانوا معتقلين في سجن __________________ (1) هنا محذوف هو المفعول الثاني لجعل تقديره شركا ليستقيم الكلام ، اه مصححه. الشرع فادّعى على إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ أنه قال : إن التوراة والإنجيل ما بدلا وإنهما بحالهما كما أنزلا وشهدوا عليه بذلك وثبت في وجهه فعزر في المجلس بالدرة وأخرج وطيف به ونودي عليه بما قاله ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشرف وفي نابلس فأنكر فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ، ثم أعيدوا في السجن ، ولما كان يوم الأربعاء أحضر ابن قيم الجوزية إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه (1) فما كان جوابه إلا أن قال : إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعذر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ولم يزل هذا في أتباعه. وحضر شخص إلى دمشق يقال له أحمد الظاهري وكان قد حفظ آيات المتشابه وأحاديثه فكان يسردها على العوام وآحاد الناس من الفقهاء فعظّمه أتباع ابن تيمية وأكرموه. ثم إنه توجه إلى القاهرة فشرع يسرد الإياب والأحاديث لعلم به الإمام العلامة الشيخ سراج الدين البلقيني فطلبه وأعلم به برقوق فأخذوه وقيّدوه وكانوا يضربونه بالسياط أول النهار ثم يستعملونه في العمارة ، فإذا كان آخر النهار أعادوا عليه الضرب ، ثم بلغني أن آخر الأمر أن ضربوا عنقه. وكان الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد ، وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس : معذور السبكي ـ يعني في تكفيره ـ والحاصل أنه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم والازدراء بالنبي صلىاللهعليهوسلم وبغيض الشيخين وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء ولهم دواهي أخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة ، فنسأل الله تعالى العافية ودوامها إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير. (وجرسوا) ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق ، والله أعلم. واعلم أني اقتصرت على الكلام على هذه الفتوى لإشاعتها بين العوام وفيها __________________ (1) هذه قيمة ابن قيمة يراها القارئ مجسمة أمامه في هذا السياق فليعرفها ولا يغتر ، اه مصححه.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: دفع شبهة التشبيه الثلاثاء أكتوبر 15, 2024 11:09 pm | |
| التعرض لمنع الوسيلة ومنع شد الرحال إلى قبر سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستدلاله لما قاله بالتجسير والتمويهات التي بيّنّا بطلانها وفسادها ، وأن ذلك من أظهر الأمور على فجوره في النقل والإغراء ، وأن لا يحل أن يقلده ولا يأخذ عنه ولا ينظر في كلامه ولا يسمعه إلا من يكون له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر (1). ثم من الأمور المهمة المقرّبة إلى الله عزوجل وإلى رسوله وإلى وزيريه رضي الله عنهما بسط الألسن والأيدي فيهم جريا على ما درج عليه العلماء والسلاطين منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث ، وأن يعلن بالتوسل بسيد الأولين والآخرين ، وأن يعتني بإظهار شد الرحال وإعمال المصلى والأقدام إلى خير خلقه وحبيب القلوب ، ومن بذكره تنجلي الكروب ، ويهتز الطروب ، وبالصلاة والسلام عليه تذهب الذنوب ، التي بسببها حصل الإبعاد عن المزار وبعد الدار. روى زيد بن أسلم أن عمر خرج ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول : على محمد صلاة الأبرار صلّى عليه الطيبون الأخيار قد كنت قوّاما بكّاء في الأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيب (2) الدار تعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : فجلس عمر رضي الله عنه يبكي شوقا إلى حبيبه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتتصعد أنفاسه من نار الشوق لو لا دموع المحبين تطفئ نار الشوق لاحترقت أكبادهم بأنفاسهم. __________________ (1) هذا حكم من هذا الإمام الكبير على كل من يتبع ابن تيمية بأنه هالك في دينه وانظر معنى الهلاك في مثل هذا المقام ومن هنا نحن نرثي لإخواننا الموجودين والغابرين الذين اغتروا بهذا الرجل المسكين ووراءه ساروا وكان بودنا أن يرى إخواننا الموجودون هذا الكتاب ليعرفوا منه قيمة هذا الرجل ثم بعد ذلك ينظروا لأنفسهم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به كثيرا من خلقه ، اه مصححه. (2) وحبيبي ، اه مصححه.
يا خليليّ قد بلغت القصدا وعرفت الغرام هزلا وجدا خلياني من ذكر سلمى ونجد ودعاني من حب سلمى وسعدى أنا لي في حشاشتي حب بدر أقسم الدهر أنه لا يبدي نار وجدي بحبه في ازدياد وغرامي به تزايد جدا كلما رمت أن نفسي عنه نتسلى أبت ولا تتهدى وتراها إذا ترنم حاد برباها تذوب شوقا ووجدا لا تلمها إذا بدت بحنين وأنين يقد ذا القلب قدا فلها معهد وأنس قديم ليس يفنى وإن تطاول عهدا كان الصديق رضي الله عنه من المشغوفين بمحبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال سيف بن عمرو : كان سبب موت الصديق رضي الله عنه وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم كمدا عليه فما زال جسمه يتحرق حتى مات ، والكمد : الحزن المكتوم. كنت (1) السواد لناظري وعليك كنت أحاذر من شاء بعدك فليمت فعليك يبكي الناظر والحمد لله أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين ورضي الله عن الصديقين والصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، آمين آمين. __________________ (1) أحفظ هذين البيتين هكذا : كنت السواد لناظري فعمي عليك الناظر من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد سيد العالمين وعلى آله خير أمة أخرجت للناس وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. انتهت هذه التعليقات في اليوم الثامن عشر من شهر رجب سنة 1350 ه على يد كاتبها الذي يرجو قارئها دعوة صالحة إن رأى فيها خيرا ونحن جميعا نبتهل إلى ربنا الغفور الرّحيم الشكور الكريم أن يفرغ غيوث رحماته وكراماته على جدث يضم هذا الرجل الغيور على دينه القائم في نصره كالأسد يذود عن عرينه الإمام أبي بكر تقي الدين الحصني وأن يجمعنا معه في دار كرامته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين. بسم الله الرّحمن الرّحيم ترجمة السبكي هو : علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو الحسن تقي الدين شيخ الإسلام في عصره ، وأحد الحفّاظ المفسرين المناظرين ، وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات. مولده : ولد في «سبك من أعمال المنوفية» سنة 683 ه ـ 1284 م. رحلاته العلمية : انتقل من سبك إلى القاهرة ، ثم إلى الشام وولي قضاء الشام سنة 739 ه واعتل فعاد إلى القاهرة فتوفي فيها. من تصانيفه : «الدر النظيم في التفسير ـ لم يكمله» ، «مختصر طبقات الفقهاء» ، «إحياء النفوس في صنعه إلقاء الدروس» ، «الإغريض في الحقيقة والمجاز والكنية والتعريض» ، «التمهيد فيما يجب فيه التحديد ـ ط. في المبايعات والمقاسمات والتمليكات وغيرها» ، «السيف الصقيل ـ ط. رأيته بخطه في 25 ورقة في المكتبة الخالدية بالقدس في الرد على قصيدة نونية تسمى الكافية في الاعتقاد منسوبة إلى ابن القيم» ، «المسائل الحلبية وأجوبتها ـ خ. في فقه الشافعية» ، «السيف المسلول على من سبّ الرسول ـ خ» ، «مجموع فتاوى ـ ط» ، «شفاء السقام في زيارة خير الأنام ـ ط» ، و «الابتهاج في شرح المنهاج ـ فقه». ورأيت مجموعة ـ خ ـ بخطه في مجلد ضخم تشتمل على رسائل كثيرة له ، منها : الأدلة في إثبات الأهلة ، والاعتبار ببقاء الجنة والنار ، وفتاوى وغير ذلك. ورأيت مجموعة أخرى كلها بخطه «في الرباط 6 ، 3 أوقاف» تشتمل على تسع رسائل منها : المجاورة والنشاط في المجاورة والرباط .. الخ وقد استوفي ابنه تاج الدين أسماء كتبه ، وأورد ما قاله العلماء في وصف أخلاقه ، وسعة علمه. وفاته : توفي بالقاهرة سنة 56 / 1 ه ـ 1355 م (1). __________________ (1) انظر : الأعلام للزركلي 4 / 2 ، 3 طبعة : دار العلم للملايين ـ بيروت ، الخطط التوفيقية لابن المبارك 12 / 7 طبعة : الأميرية ببولاق سنة 1305 ه ، غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري 1 / 551 طبعة : السعادة بمصر سنة 1933 ، الدرر الكامنة 3 / 63 ـ 64 الطبعة الأولى ـ الهند سنة 1349 ه ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6 / 42 ـ 44 طبعة عيسى الحلبي الأولى سنة 1386 ه ـ سنة 1967 م ، 5 / 366 ـ 368 نفس الطبعة.
| |
|
| |
| دفع شبهة التشبيه | |
|