الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
اهل البيت
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:46 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     المحكم في أصول الفقه [ ج2

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:28 am

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة والسّلام
    على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيبّين
    الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
    أجمعين ، إلى يوم الدين.






    المقصد الرابع
    في العام والخاص
    جرى الأصحاب المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن مباحث المطلق والمقيد.
    وكأنّ مبنى الفرق بينهما عندهم على أنّ العام ما يفيد الشمول والسريان في الأفراد وضعا ، والمطلق ما يستفاد فيه ذلك من مقدمات الحكمة.
    كما قد يظهر من بعض كلمات متقدميهم إطلاق العام على ما يكون حكمه شموليا ، والمطلق على ما يكون حكمه بدليا.
    لكن الظاهر تداخل جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق ، كمباحث الجمع بين العام والخاص ، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، وتعقب الاستثناء لجمل متعددة وغيرها ، حيث يكون البحث فيها عن العام من حيثية ظهوره في تساوي الأفراد أو الأحوال من حيثية الحكم ، الذي لا يفرق فيه بين القسمين.
    ولذا كان المناسب تعميم هذا المقصد لكلا القسمين ، بجعل موضوعه العموم والخصوص من الحيثية المذكورة ، وعقد فصل فيه لبيان منشأ ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنه أولى مما جروا عليه من البحث في مقصدين مع تداخل جملة من مباحثهما ، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق على السريان


    لمقدّمات الحكمة دون الوضع ليس اتفاقيا ، وكذا دلالة بعض ما عدّ من ألفاظ العموم على ذلك بالوضع ، كالنكرة في سياق النفي والنهي ، على ما يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
    بل لا إشكال في عموم المباحث المذكورة لما إذا استندت الدلالة على العموم لقرائن خارجية خاصة ، دون الوضع ومقدمات الحكمة ، من دون أن يجعل له عنوان يخصّه ، بل يطلق عليه عنوان العام عندهم في مقام البحث والاستدلال.
    ومن هنا كان المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه : «ما دل على سريان الحكم في أفراد متعلّقه أو أحواله ، بحيث تتساوى فيه» مهما كان منشأ الدلالة.
    وكثيرا ما جروا على ذلك في مقام الاستدلال والنظر في النسبة بين الأدلة وبيان حالها ، حيث يغافلون منشأ الدلالة على العموم عند إطلاق عنوان العام على الدليل.
    نعم ، يخرج عن ذلك ما إذا كان الاستيعاب مأخوذا في مفهوم المتعلّق ، كالعشرة والشهر في قولنا : أضف عشرة رجال شهرا ، لوضوح أن نسبة الأجزاء له حينئذ ليست نسبة الفرد أو الحال للمتعلق ، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه. ومجرد إمكان قصره عن بعضها بالاستثناء ـ كالعام بالإضافة للأفراد ـ لا يوجب عموم مفهوم العام له اصطلاحا بعد عدم شمول المهم من مباحث العموم والخصوص له.
    أما الخاص فلا يراد به إلا «ما دلّ على حكم موافق أو مناف لحكم عام أوسع منه شمولا» سواء كان الموضوع فيه جزئيا أم كليا ، كقولنا : لا تكرم زيدا ، أو : لا تكرم النحويين ، بالإضافة لقولنا : أكرم العالم ، أو : كل عالم ، أو : أكرم عالما ، فهو عنوان إضافي ، حيث لا يصدق على الدليل عنوان الخاص في محل الكلام

    مع قطع النظر عن عام أوسع منه شمولا ، وبلحاظه يصدق عليه وإن كان هو عاما في نفسه. وذلك هو المراد بالمقيّد ، وإن افترقا عندهم بأن الخاص في مقابل العام ، والمقيّد في مقابل المقيّد.
    وحيث عرفت عموم العام للمطلق في محل الكلام يتعين عموم الخاص للمقيّد. وعلى ذلك جرى كثير من إطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة النسبة بين الأدلة ، نظير ما ذكرناه في العام.
    هذا ، وينبغي الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول ..


    الفصل الأول
    في أقسام العموم
    لا يخفى أنّ تعلق الحكم بالطبيعة بنحو يشمل جميع أفرادها ، إما أن يكون بنحو الانحلال ، بأن يرجع إلى أحكام متعددة بعدد أفرادها ، لكل منها أثره من إطاعة ومعصية وغيرهما. وإما ألا يكون كذلك ، بل يكون حكما واحدا متعلقا بالطبيعة ذات الأفراد.
    وهو تارة : يقتضي الجمع بين الأفراد فعلا أو تركا.
    وأخرى : يقتضي فردا واحدا منها بدلا بنحو يستلزم التخيير بينها عقلا.
    والأول هو العموم الاستغراقي ، والثاني المجموعي ، والثالث البدلي.
    وحيث كان صدق العموم على الجميع وانقسامه لها مبنيا على تعريفه بنحو يشملها كان مبنيا على محض الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
    فلا وقع مع ذلك لما ذكره بعض الأعاظم من أن في عدّ العموم البدلي من أقسام العموم مسامحة ، لمنافاة البدلية للعموم بلحاظ أن متعلق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فردا واحدا ، وإن كانت البدلية عامة. فتأمل.
    هذا ، وإن علم أحد الأقسام بعينه فلا إشكال ، وإلا لزم النظر فيما هو مقتضى الظهور النوعي.
    والظاهر عدم الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه ، بل الوضع والقرائن العامة والخاصة وافية بتمييز موارده عن مواردهما. ولو فرض الاشتباه بينهما فلا يظهر لنا فعلا طريق لتعيين أحدهما.

    وإنما الكلام في الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.
    وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل في العموم أن يكون استغراقيا ، لاحتياج العموم المجموعي إلى مئونة زائدة ، وهي مئونة اعتبار الأمور الكثيرة أمرا واحدا ، ليحكم عليها بحكم واحد ، وهو خلاف الأصل.
    ويشكل بعدم وضوح لزوم ملاحظة الامور المتكثرة أمرا واحدا في العموم المجموعي ، بل يكفي لحاظها في أنفسها وجعل حكم واحد لها ، بنحو يكون واردا عليها بتمامها ، لا بنحو يكون واردا على أمر واحد منتزع منها ، ليرجع إلى لحاظ الوحدة بينها ويكون خلاف الأصل ، في قبال ما إذا جعل لكل منها حكم مستقل به ، الذي يكون العموم معه استغراقيا انحلاليا.
    وذلك جار في تعاطف المفردات ، كما لو قيل : أكرم زيدا وعمرا وبكرا ، حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية والارتباطيّة.
    بل الظاهر أن العموم الاستغراقي هو المبني على نحو من العناية ، وهي ملاحظة الحكم الذي تضمنته القضية منحلا إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فإن ذلك إن لم يكن خلاف الظهور الأولي فلا أقل من كونه خلاف الأصل.
    هذا ، وقد يقرب أصالة الانحلال في العموم بأن العموم المجموعي مستلزم لتقييد حكم كل فرد بإطاعة أحكام بقية الأفراد ، وهو خلاف الإطلاق.
    لكنه يندفع : بأن إطلاق حكم الفرد بالنحو المقتضي لعدم دخل إطاعة أحكام بقية الأفراد فيه فرع كونه استقلاليا وكون العموم انحلاليا ، أما إذا كان ضمنيا لكون العموم مجموعيا فلا إطلاق فيه ، ليمنع من البناء على التقييد المذكور ، فلا مجال للاستدلال بالإطلاق على الانحلالية. وكذا الحال في تعاطف المفردات.
    نعم ، يتجه الإطلاق في حكم الفرد مع تعدد الجمل ، كما في قولنا أكرم

    زيدا ، وأكرم عمرا ، وأكرم بكرا.
    فالعمدة في وجه البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف العرف إليه من الإطلاق تبعا للمرتكزات الاستعمالية ، حيث تبتني المجموعية على الارتباطية الّتي تحتاج عندهم إلى مئونة بيان.
    وقد سبق في آخر الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في حكم النهي لو خولف ما ينفع في المقام فراجع.


    الفصل الثاني
    في ما يدل على العموم
    اختلفت كلمات أهل الفن من قدماء ومتأخرين في تحديد ما وضعت له أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على المفاهيم الكلية الذاتية والعرضية ، وأنه هل هو المطلق الساري في تمام الأفراد بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازا ، أو ما يعمّه والمقيد.
    وقد أطال المتأخرون تبعا لذلك في أقسام الماهية واعتباراتها ، واختلفوا في تعداد الأقسام وتحديدها ونسبة بعضها إلى بعض.
    والظاهر أن الكلام في ذلك راجع الى تحديد المصطلحات وتشخيصها ، هو أمر لا يترتب عليه كثير فائدة ، بل لا أثر له فيما هو محل الكلام في المقام ، ليحسن إطالة الكلام فيه ومحاكمة آرائهم ، ولا سيما مع كثرة كلامهم وشدة الخلاف بينهم ، كما يظهر بالنظر في كلماتهم في المقام.
    ولعل الأولى أن يقال : لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها ..
    تارة : يرجع إلى لحاظها بنفسها بما لها من حدود مفهومية مقومة لها من دون أن يسري إلى ما في الخارج من أفرادها ، فيكون الحكم مقصورا عليها بما هي كلي ذهني لا يسري إلى ما في الخارج كما في قولنا : الإنسان نوع ، وكما في موارد الحمل الأولي الذاتي الذي يقصد به شرح المفهوم وتحديده ، ولعل ذلك هو المراد بالماهية الذهنية.
    واخرى : يرجع إلى لحاظها عبرة إلى ما في الخارج من أفرادها ، بحيث

    يكون الحكم منصبا على الأفراد الخارجية وجاريا عليها حقيقة. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الخارجية في كلماتهم.
    وهي تارة : تلحظ بنفسها مع قطع النظر عما هو خارج عنها ، فيعبر عنها بالماهية لا بشرط ، كما في قولنا : أكرم العالم.
    واخرى : تلحظ مع ما هو خارج عنها مقيدة بوجوده ، كما في قولنا : أكرم العالم العادل ، ويعبر عنها بالماهية بشرط شيء ، أو بعدمه ، كما في قولنا : أكرم العالم غير الفاسق ، ويعبر عنها بالماهية بشرط لا.
    وبهذا يظهر أن انقسام الماهية إلى الأقسام المذكورة من الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ليس كسائر الانقسامات راجعا إلى تباين الأقسام بخصوصياتها مع رجوع اشتراكها في المقسم إلى تماثل ما به الاشتراك بينها ، بل هو راجع إلى تبادل حالات الأمر الواحد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية المحكية باللفظ التي يختلف لحاظها باختلاف الوجوه المتقدمة ، فهو نظير انقسام زيد إلى القائم والقاعد ، لا كانقسام الإنسان إلى الرجل والمرأة.
    وإن كان قد يظهر من بعض كلماتهم أن التقسيم المذكور ونحوه حقيقي ، وأن الأقسام متباينة في أنفسها.
    والأمر سهل ، إذا المهم معرفة الأقسام لا حال التقسيم.
    هذا ، ولا إشكال ظاهرا في أن استعمال الألفاظ الموضوعة للماهية في القسم الأول ـ وهو الماهية الذهنية ـ حقيقة ، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على العناية التي لا بد منها في المجاز ، وكذا القسم الثاني ، وهو الماهية الخارجية الملحوظة بنحو اللابشرط ، لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن الماهية بحدودها المفهومية ، وسوقها عبرة للأفراد مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.
    وإنما الإشكال في القسم الثالث ، وهو الماهية الخارجية المقيدة بشرط شيء أو بشرط لا ، فقد حكي عن القدماء أن استعمالها فيه مجازي.

    وعن السلطان ومن تأخر عنه أنه حقيقي ، وهو الأظهر ، لقضاء التأمل بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ في حالتي الإطلاق والتقييد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيدا او الحكاية عن التقييد بدال آخر لا يوجب خروج اللفظ الحاكي عن الماهية عما هو الموضوع له ، نظير الإخبار والتوصيف اللذين لا يوجبان خروج اللفظ الدل على الموضوع عن معناه الحقيقي.
    وتوهم : أخذ السريان والإطلاق فيها قيدا في الموضوع له ، فيكون التقييد مستلزما للتصرف في الموضوع له ويلزم المجاز.
    مدفوع : بقضاء التأمّل بأن السريان أمر زائد على المفهوم عرفا ، حيث قد يؤخذ بدال آخر ، كأدوات العموم ، فلو كان مأخوذا في مدلول اللفظ كانت الأدوات المذكورة متمحضة في التأكيد ، وهو بعيد عن المرتكزات الاستعمالية جدا.
    ودعوى : أن السريان وإن لم يؤخذ في الموضوع له إلا أن التقييد مستلزم لأخذ أمر زائد على الموضوع له في مدلول اللفظ ، وهو الخصوصية المتقومة بالقيد الزائدة على الماهية ، فيلزم المجاز.
    مدفوعة : بأن خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ الموضوع للماهية المقيدة ، ليلزم أخذ أمر خارج عن الموضوع له في المستعمل فيه ، بل ليس المستعمل فيه إلا الماهية بحدودها المفهومية ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، وهو التقييد ، الذي هو مطرد ولا يبتني الاستعمال في مورده على العناية ، والذي هو نحو نسبة بين ذات المقيّد ـ وهو الماهية بحدودها المفهومية الموضوع لها اللفظ ـ والقيد تقتضي قصر الحكم على خصوص ما قارن القيد من الذات.
    ولو كان الاستعمال معه مبنيا على الخروج باللفظ عن مدلوله إلى المقيّد

    بما هو مقيّد لم يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحيالها ومؤدى بها ، بل كانت ألفاظا مهملة لا غرض من الإتيان بها إلا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى اللفظ ، من دون أن تفيد معنى زائدا عليه ، وهو غير معهود في الاستعمالات العرفية.
    ولا مجال لتنظيرها بقرينة المجاز والمشترك ونحوهما ، لأن تلك القرائن ذات مدلول خاص مباين للمعنى المراد من اللفظ ، وقرينتها إنما هي بلحاظ ملائمتها له ، لا لتمحضها للإشارة لاستعمال اللفظ فيه.
    ويتضح ما ذكرنا فيما لو اريد بيان شجاعة زيد تارة : بقولنا زيد رجل. واخرى : بقولنا : زيد رجل شجاع ، حيث لا إشكال ظاهرا في وضوح الفرق في معنى الرجل بين الوجهين ، وابتناء الأول على الخروج به عن معناه ، واستعماله في خصوصية الشجاع زائدا عليه ، نظير : يا أشباه الرجال ولا رجال ، وعدم الخروج به في الثاني عن معناه ، وإنما افيدت الشجاعة بالتقييد زائدا عليه.
    وبالجملة : ليس المستعمل فيه عند إرادة الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة إلا الماهية بحدودها المفهومية التي وضع لها اللفظ ، وليس مفاد التقييد إلا نسبة زائدة على الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ ، ليلزم المجاز ، غايته أن مفاد النسبة المذكورة قصر الحكم على خصوص واجد القيد من أفراد الماهية ، وهو لا يستلزم المجاز ، كما هو الحال في سائر النسب ، حيث لا تستلزم تبدل المستعمل فيه في أطرافها والخروج بها عن معناها ، بل إضافة معنى زائد عليها خارج عن المستعمل فيه.
    ثم إن هذا إنما يقتضي عدم المجازية مع التقييد المتصل ، ولا ينهض بدفع المجاز مع ثبوت التقييد المنفصل الكاشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع فرض نسبة الحكم للماهية لا بشرط من دون أخذ نسبة التقييد زائدا عليها ، ليجري ما تقدم في وجه عدم المجاز.

    وقد حاول غير واحد توجيه عدم المجاز في الاستعمال المذكور ، بدعوى : أن الموضوع له هو القدر المشترك بين الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ، الذي قد يعبر عنه باللابشرط المقسمي.
    لكن لا يخفى أن القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه ، لانحصار الماهية الملحوظة بأحد الوجوه المتقدمة.
    ومن ثمّ قيل : انه ليس اعتبارا للماهية في قبال الاعتبارات الأخر ، بل هو موجود في ضمنها ، فهو جامع انتزاعي بينها ، لا جامع حقيقي مفهومي يمكن لحاظه بنفسه بنحو يشملها ، فليس مرجع الوضع له إلى تصور الماهية بنحوه حين الوضع وتعيين اللفظ بإزائه ، بل إلى الوضع لأقسامه الثلاثة بنحو الترديد ، نظير الاشتراك وتعدد الوضع ، وهو مما يقطع بعدمه ، لما فيه من التكلف.
    بل التحقيق ما سبق من كون الموضوع له هو الماهية بما لها من حدود مفهومية قابلة للتحديد والتصور ، التي عرفت أنها تقبل اللحاظ على أحد الوجوه المذكورة.
    وحينئذ يرجع الإشكال مع التقييد المنفصل ، لفرض عدم تقييد الماهية عند الحكم عليها ، فإن ابتنى ذلك على إرادة المقيد من اللفظ الموضوع للماهية لزم المجاز ، للخروج به عما وضع له ، وهو الماهية بنفسها الشاملة له ولغيره.
    فالظاهر أن الأمر يبتني على أمر آخر ، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على الماهية الخارجية بحدودها المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام أفرادها ، بحيث لو كان مختصا ببعض أفرادها لم يصح نسبته إليها إلا مع التقييد المتصل بما يطابق تلك الأفراد ـ الذي سبق عدم لزوم المجازية ـ أو استعمال اللفظ في المقيد خروجا به عما وضع له ـ المستلزم للمجاز ـ أو لا؟ بل يكفي في نسبة الحكم لها بما لها من المعنى ثبوته لبعض أفرادها من دون حاجة للتقييد.
    إذا عرفت هذا ، فالظاهر هو الثاني ، ومرجعه إلى صحة الاستعمال بنحو

    القضية المهملة الراجعة إلى ثبوت الحكم للماهية في الجملة بالنحو المردد بين تمام الأفراد وبعضها ، من دون أن يبتني الاستعمال مع ثبوت الحكم للبعض على قصده بنحو التقييد المبتني على أخذ الخصوصية المعينة له ، ولا بنتيجته المبتنية على ملاحظته بذاته ، بل على ملاحظة الماهية بذاتها ونسبة الحكم إليها في الجملة.
    ويشهد بما ذكرنا عدم العناية في الاستعمال المذكور ارتكازا ، الذي يبتني على كثير من القضايا الشائعة بين أهل اللسان ، كقولنا : قد رأيت الأسد ، وركبت الفرس ، وأكلت اللحم ، وشربت اللبن ، وغيرها ، وكما في القضايا المتضمنة للأحكام عند عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات ، حيث لا إشكال في عدم ذلك على العناية باستعمال اللفظ في المقيد.
    كيف وقد لا يحيط المتكلم عند الاستعمال بالخصوصيات والقيود الدخيلة في الحكم ليتسنى له الاستعمال في المقيد بها أو المقارن لها. فلو لا صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية بمجرد ثبوته لبعض أفرادها لم تصح الاستعمالات المذكورة.
    والفرق بين ما ذكرنا وما سبق من المتأخرين من دعوى الوضع للجامع بين المطلق والمقيد : أن التوسع ـ على ما ذكروه ـ في مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، و ـ على ما ذكرنا ـ في مفاد الحمل والحكم على الماهية.
    ولعل ارتكازية صحة الاستعمال المذكور وعدم مجازيته هو الذي أوهم سعة ما وضع له لفظ الماهية بالنحو المتقدم ، الذي ذكرنا عدم إمكان الالتزام به ، وأنه يتعين توجيه هذا الاستعمال بما سبق.
    نعم ، لا يتعين ما ذكرنا في التقييد المنفصل ، بل كما يمكن ذلك فيه ، يمكن أن يبتني على قيام قرينة متصلة حالية أو مقالية على التقييد وإن خفيت ، أو على استعمال المطلق في المقيد مجازا ، كما سبق من القدماء. لأنه بعد أن

    فرض انعقاد الظهور في العموم والإطلاق كما تكون جميع الوجوه المذكورة مخالفة للأصل ، فلا بد في تعيين أحدها من معين.
    ولعله يتضح بعض الكلام في ذلك عند الكلام في الجمع بين العام والخاص.
    كما أن ما ذكرنا من صحة إرادة المهملة إنما يتجه في القضية الموجبة ونحوها ، أما السالبة ونحوها فلا إشكال في عدم صحتها مع الإهمال وتوقفها على استيعاب السلب لتمام الأفراد فلا بد من أحد الوجهين الآخرين أو نحوهما لو ثبت الخصوص.
    وتمام الكلام في ذلك عند الكلام في مفاد النكرة في سياق النفي والنهي إن شاء الله تعالى.
    ثم إن ما ذكرنا من صحة الحمل على الماهية ..
    تارة : بنحو الإطلاق ..
    واخرى : بنحو التقييد المتصل ، وأن الأول يكفي فيه ثبوت الحكم في الجملة بنحو الإهمال الذي يناسب التقييد المنفصل ، يجري نظيره في النسبة التي إليها يرجع العموم الأحوالي ، فنسبة الحكم للموضوع قد تبتني على ثبوته له في خصوص حال يستفاد من تقييده بشرط أو غاية أو غيرهما من القيود المتصلة ، كما تبتني على ثبوته له في الجملة بنحو الإهمال الذي يجتمع مع ثبوته له دائما ، وثبوته له في خصوص حال ، وعلى الثاني قد يبتني التقييد المنفصل ، من دون أن يخرج في شيء منها عن مفاد النسبة وضعا.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن مفاد الوضع في المفردات والهيات مع عدم التقييد ليس إلا ثبوت الحكم للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة بالإضافة إلى الأفراد والأحوال.
    ومن هنا لا بد من الكلام في ما يدل على العموم وضعا أو عقلا أو بقرائن

    عامة ، ليترتب عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام ، وله عقدنا هذا الفصل. ويكون ذلك في ضمن مباحث ..

    المبحث الأول
    لا إشكال في دلالة بعض الأدوات على العموم الأفرادي أو الأحوالي وضعا ، مثل : (كل) و (جميع) و (أي) في مثل : أكرم كل رجل ، أو جميع الرجال ، أو أي رجل ، ودائما في مثل : الخمر نجسة دائما ، ونحوها ، لأن ذلك هو المتبادر منها.
    ومعه لا مجال لما حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم والخصوص ، أو اختصاصها بالخصوص.
    كما لا مجال لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في كتاب المعالم وغيره.
    هذا ، ويظهر من غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم لتمام أفراد الماهية الداخلة عليها ، حيث لا إشكال في عدم دلالتها على العموم لها مع تقييدها ، ففي مثل : أكرم كل عالم عادل لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم ، بل لخصوص أفراد العادل منه ، ومرجع ذلك إلى أن مفاد الأداة هو عموم الحكم لأفراد ما يراد من مدخولها مطلقا كان أو مقيدا ، فلا بد في استفادة العموم منه لتمام افراد المدخول من إحراز كون المراد به الماهية المطلقة المرسلة ، وهو إنما يكون بضميمة مقدمات الحكمة ، ومع عدم تماميتها لا مجال لإحراز العموم لتمام أفرادها من الأداة.
    لكنه يبتني على كون اللفظ الدال على الماهية موضوعا للقدر المشترك بين المطلقة المرسلة والمقيّد ، حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى إلى قرينة

    الحكمة.
    وقد سبق ضعفه ، وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية ، والتقييد نسبة زائدة عليها ، غاية الأمر أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضي بنفسه استيعاب أفرادها به ، بل يكفي ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، فمع فرض دلالة الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد ما أريد من مدخولها ـ وهو الماهية بحدودها المفهومية ـ يتعين خروجها عن الإهمال ، والبناء على العموم لتمام الأفراد بلا حاجة لمقدمات الحكمة.
    ولا ينافي ذلك قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل ، واختصاصه بأفراد المقيد ، لأن نسبة التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي قصر العموم عليها ، ومع عدمه لا بد من سعة العموم.
    نعم ، لو احتمل التقييد المتصل بقرينة حالية أو مقالية قد اختفت علينا فاستفادة العموم لتمام الأفراد تبتني على أصالة عدم القرينة ، وهي مباينة لمقدمات الحكمة مفادا وموردا ، كما هو ظاهر.
    أما لو لم يحتمل التقييد المتصل فأداة العموم بنفسها تقتضي سعته لتمام أفراد المدخول وضعا ، من دون ضميمة مقدمات الحكمة ، وإلا خرجت أدوات العموم في إفادته عن التأسيس ، للتأكيد ، إذ مع عدم تمامية المقدمات المذكورة لا تصلح لإفادة العموم لأفراد المدخول ، بسبب احتمال إرادة المقيد منه ، ومع تماميتها تستند إفادة العموم لها ، غاية الأمر أنها قد تنفع في تبدل نحو العموم من البدلية للاستغراقية أو المجموعية ، كما لو كان مدخولها نكرة.
    وهو كما ترى بعيد عن المرتكزات الاستعمالية ، لقضاء التأمل فيها بإفادة الأدوات أصل العموم تأسيسا ، لا تأكيدا. ومعها لا تتم مقدمات الحكمة ، لأن منها عدم البيان. فلاحظ.

    المبحث الثاني
    لا إشكال في دلالة النكرة في سياق النفي والنهي العموم ، لأن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها كما يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهي إلا بانتفاء تمام الأفراد.
    ومن ثمّ كانت الدلالة على العموم في ذلك عقلية متفرعة على دلالة اللفظ على الماهية ذات الوجود الواسع بما لها من حدود مفهومية.
    وبذلك ظهر عدم اختصاص ذلك بالنكرة ، بل يجري في كل ما يدل على الماهية إذا وقع في سياق النفي والنهي.
    وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في الفصل الخامس من مقصد الأوامر والنواهي عند الكلام في الفرق بين الأمر والنهي في مقام الامتثال.
    هذا ، وقد استشكل في ذلك بعض المحققين رحمه الله ، قال في أوائل مبحث النهي : «لا يخفى عليك أن الطبيعة توجد بوجودات متعددة ، ولكل وجود عدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها ، فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ، ونتيجة المهملة جزئية ، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها. وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة ، فلكل وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وأعدام ، وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة ، أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذ عنه وجود ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثرة ، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم ... فما

    اشتهر من أن تحقق الطبيعة بتحقق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل له ، حيث لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها».
    لكنه كما ترى! لأنه إذا كان وجود الطبيعة المهملة بوجود بعض الأفراد وعدمها بعدم بعضها لزم اجتماع الوجود والعدم المضافين لها بوجود بعض الأفراد دون بعض ، وإذا كان وجود الطبيعة بنحو الكثرة ـ الراجعة إلى ملاحظة كل فرد فرد بنحو العموم الانحلالي ـ أو بنحو السعة ـ الراجعة إلى ملاحظة مجموع الأفراد شيئا واحدا بنحو الارتباطية والمجموعية ـ بوجود تمام الأفراد وعدمها بأحد النحوين بعدم كل منها ، لزم ارتفاع الوجود والعدم المضافين لها بأحد النحوين المذكورين ، بوجود بعض الأفراد دون بعض.
    ولازم ذلك عدم التناقض بين الوجود والعدم مع وحدة موضوعهما ، لإمكان اجتماعهما في الأول ، وارتفاعهما في الأخيرين ، مع أن التناقض بينهما من أول البديهيات.
    ومن ثمّ كانت الطبيعة المهملة المفروض وجودها بوجود فرد واحد لا تنعدم إلا بعدم جميع الأفراد ، ولذا كان نقيض المهملة ـ التي هي في قوة الجزئية ـ سالبة كلية. كما أن الطبيعة الملحوظة بنحو الكثرة والتي توجد بوجود تمام أفرادها تنعدم بعدم بعض أفرادها. ولذا كان (ليس كل) سورا للسالبة الجزئية.
    وكذا الملحوظة بنحو السعة في الوجود التي يتحد وجودها مع وجود تمام أفرادها بنحو المجموعية والارتباطية ، لوضوح أنه يكفي في صدق نقيض الكل أو المقيد عدم جزئه أو قيده.
    والذي ينبغي أن يقال : الوجود والعدم عارضان حقيقة على الفرد ، دون الماهية ، بل هي أمر اعتباري انتزاعي لا يصح نسبة الوجود له إلا اعتبارا بلحاظ وجود أفراده ، إلا أن سعة مفهومها بنحو تنطبق على تمام الأفراد ـ على ما هي

    عليه من الاعتبار والانتزاع ـ مستلزم لصحة نسبة الوجود إليها بوجود فرد واحد ، وتوقف نسبة العدم إليها على عدم تمام الأفراد ، وتقابل وجود كل فرد إنما يكون مع عدمه اذا نسب الوجود والعدم للفرد ، دون ما إذا نسب للماهية المنطبقة على كل فرد فرد ، لما ذكرنا.
    هذا ، وقد سبق أن الإهمال في القضية ليس لسعة مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، بل ليس الموضوع له اللفظ إلا الماهية بحدودها المفهومية ، وليس الإهمال إلا من شئون النسبة ، حيث يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها ، أما سلبه فيتوقف على عدم ثبوته لشيء من أفرادها ، كما سبق.
    ثم إن لازم ما ذكره عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم إلا مع إحراز كون المراد بها الماهية غير المهملة ، بل المطلقة السارية في تمام الأفراد بأحد النحوين الأخيرين المذكورين في كلامه. ولذا التزم بتوقف دلالتها على العموم على تمامية مقدمات الحكمة فيها.
    وهو الذي ذكره غيره أيضا ، لا لاحتمال صدق السلب على الماهية ببعض أنحائها بعدم بعض أفرادها ، كما سبق منه قدّس سرّه ، بل للبناء منهم على أن الموضوع له هو القدر المشترك بين المطلق والمقيّد ، ووقوع المقيّدة في سياق النفي والنهي لا يقتضي العموم إلا لأفرادها ، فاستفادة العموم لتمام أفراد المدخول موقوف على كون المراد به المطلقة الذي يحرز بالمقدمات المذكورة.
    وأما ما ذكره بعضهم من أن النفي قرينة عند العرف على إرادة الشياع بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة.
    فغير ظاهر ، إذ لم يتضح وجه خصوصية النفي في ذلك لأنه كسائر النسب الطارئة على الموضوع لا تقتضي بيان المراد منه زائدا على مدلوله اللفظي ، وأنه قد لحظ بنحو السريان والشياع.
    فالعمدة في وجه الاستغناء عن المقدمات المذكورة ما تقدم منا من عدم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:29 am

    الوضع للقدر المشترك بين المطلق والمقيد ، بل ليس الموضوع له إلا الماهية بحدودها المفهومية ، التي ذكرنا أن لازم سعة وجودها بتكثر أفرادها هو صدق الوجود عليها بوجود بعضها ، وتوقف عدمها على عدم تمام الأفراد.
    كما ذكرنا آنفا أنه يكفي في إثبات الحكم لها ثبوته لبعض أفرادها ، ولا يصح سلبه عنها إلا بعدم ثبوته لشيء من أفرادها.
    نعم ، لو شك في العموم الأحوالي الراجع للشك في إطلاق النسبة نفسها فالظاهر عدم جريان ما تقدم ، لعدم الفرق بين النسبة الإيجابية والسلبية في الصلوح للإهمال ، فمع عدم إحراز إطلاقها من مقدمات الحكمة أو نحوها يتعين التوقف ، وعدم البناء على العموم الأحوالي. فتأمل جيدا.
    تنبيه
    ذكر غير واحد أن مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد.
    لكن الظاهر أنه يختلف ـ مع قطع النظر عن خصوصية النسبة ـ باختلاف أقسامها ، فهي ...
    تارة : تدل على الماهية بنفسها مع قطع النظر عن القلة والكثرة ، فتنطبق على الكثير بعين انطباقها. على القليل ، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد المشتقات. ولذا تقدم أن الأمر لا يدل على المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس الإفرادي ، كماء وتراب وحنطة.
    واخرى : تدل على الماهية المتشخصة بواحد. كالمصدر الذي على وزن فعلة ، ومثل رجل وامرأة وثوب ، وما يقترن بالتاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجرة ، وثمرة ، وحبة وتمرة ، وما يتجرد عنها من عكسه ككمء.
    وثالثة : تدل على الماهية المتكثرة ، وهو اسم الجنس الجمعي ، كالمجرد عن التاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجر وثمر ، وحب ، وتمر ، والمقترن

    بها من عكسه ، ككمأة ، بناء على أنه ليس جمعا ، بل اسم جنس.
    هذا ، وربما يجمع بين ما ذكرنا وما ذكروه من إطلاق دلالة النكرة على الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد بأن مرادهم بما ذكروه دلالة النكرة على الفرد المردد بالنحو المدلول للنكرة المأخوذ فيها من إطلاق أو تقييد بالوحدة أو التكثر ، فمثل شجر وإن كان يدل على أشجار كثيرة ، إلا أنه يدل على فرد واحد شايع في أفراد الشجر الكثير ، كما يدل لفظ شجرة على فرد شايع في أفراد الشجرة الواحدة ويدل لفظ حنطة على فرد شايع في أفراد الحنطة الصادقة على القليل والكثير ، فأخذ الكثرة في القسم الثالث لا تنافي دلالة النكرة على الفرد الواحد ، والذي تكون الكثرة مقومة لفرديته.
    إذا عرفت هذا ، فلا يخفى أن ما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم من توقف انتفاء الطبيعة على انتفاء تمام أفرادها كما يجري في القسم الأول يجري في القسم الثاني ، لأن انتفاء المتشخص بالواحد لا يكون مع وجود الأفراد المتكثرة ، وكما ينافيه انحصار الوجود بالواحد ينافيه وجود المتكثر.
    نعم ، لو كان مفاد نفيها انتفاء التشخص بالواحد وانتفاء وحدة التشخص لم يناف التشخص بالمتكثر. لكن من المعلوم أن مفاد النكرة ليس هو التشخص بالواحد ووحدة التشخص ، الذي لا يصدق مع التكثر ، بل المتشخص بالواحد الذي يصدق معه ، فلا يصح نفيه إلا مع نفيه.
    وأما مثل : لا رجل في الدار بل رجلان ، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود المنفي بالانفراد بقرينة الاستدراك ، ولولاه يكون المفهوم نفي الرجل مطلقا ولو مع الكثرة ، فكأنه قيل : لا رجل فقط في الدار بل رجلان ، نظير قولنا : ليس بعض العلماء في الدار بل كلهم ، وليس زيد في الدار ، بل الزيدان معا.
    وإليه يرجع ما ذكره بعض النحويين من أن (لا) لنفي الوحدة ، لا لنفي

    الجنس ، وإلا فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائما لنفي الجنس.
    وأما الثالث فقد يشكل جريان ما تقدم فيه ، لعدم توقف انتفاء الطبيعة المتكثرة على انتفاء الفرد الواحد أو الفردين ، فيلزم عدم دلالة وقوع هذا القسم في سياق النفي والنهي على انتفاء الطبيعة رأسا ، بل على انتفاء المتكثر منها.
    لكن الرجوع للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك ، فمثل : لا شجر في الدار ، ولا ثمر في الشجرة ، ولا بقر في المرعى ، يدل على انتفاء الماهية رأسا ، كما عن بعض النحويين التنبيه على ذلك.
    وليس هو كنفي الجمع أو المثنى ، حيث لا يدل قولنا : ليس في الدار شجرتان ، أو أشجار ، على انتفاء الشجرة الواحدة في الأول ، والشجرتين في الثاني.
    ولعله ناشئ عن شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهي في نفي الطبيعة فأوجب الانصراف إلى ذلك وفهمه عرفا منه حتى في هذا القسم ، وإن لم يقتضه الجمود على المعنى اللغوي له.
    كما ربما يبتني على أن استعمال هذا القسم في خصوص المتكثر ليس لأخذ التكثر قيدا في مفهومه لغة ، بل هو موضوع لغة للطبيعة بما هي كالقسم الأول ، وإن كان ينصرف إلى المتكثر بسبب كثرة الاستعمال فيه عرفا ، كما احتمله أو جزم به بعض النحويين.
    ولذا يتجرد عن قيد التكثر عند دخول لام الجنس عليه ، ويراد به الطبيعة من حيث هي ، كما في مثل قولنا : الشجر نبت له ساق مرتفع وأغصان متكثرة ، وقولنا : رأيت الشجر ، وأكلت التمر والثمر ، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهي يستعمل في معناه ومدلوله اللغوي المذكور ، الذي لا يكون انتفاؤه إلا بانتفاء تمام الأفراد.
    ولعل الأول أقرب ارتكازا.

    هذا ، ومن الظاهر اختلاف مفاد النكرة ، حيث يراد بها ..
    تارة : الكلي القابل ثبوتا للانطباق على كل فرد فرد من دون تعيين ، كما في قولنا : أكرم رجلا. ولك علي درهم.
    واخرى : الفرد المعين ثبوتا المردد إثباتا بين أفراد ، كما في قولنا : أكرمت رجلا ، أو : يدخل الدار غدا رجل.
    والظاهر أن الاختلاف ليس في مفاد النكرة وضعا ، لبعد الاشتراك جدا ، بل هي موضوعة للأول : وهو الكلي القابل للانطباق على كل فرد من دون تعين له ثبوتا ، لأن ذلك هو المتبادر منها مع قطع النظر عن خصوصيات النسب ، ولبعد الاشتراك جدا.
    والتعيين ثبوتا في الثاني ناشئ عن خصوصية النسبة ، لأن النسبة الخبرية قد يتعين مطابقها ثبوتا ، وإن كان قد لا يتعين ، كما لو كان الحاصل في الخارج أكثر من فرد واحد ، حيث لا يتعين فرد بعينه لمطابقة النسبة الخبرية حتى ثبوتا ، لعدم المرجح.
    أما النسبة الطلبية ونسبة التمليك الواردة على الكلي فهما لا يتعلقان إلا بالكلي على ما هو عليه من الشياع والسريان ، وليس التشخّص والتعيّن إلا من لوازم تحقيق مقتضاها في مقام الامتثال أو الوفاء المتأخرين عن مقام الخطاب والجعل رتبة ، ولذا لا تعيّن لو فرض عدم الوفاء أو الامتثال.
    ثم إن الظاهر عدم الإشكال في أن شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضي العموم المجموعي أو الاستغراقي لأفراد الطبيعة في مثل الأوامر مما يقتضي إيجاد المتعلق ، بل غايته العموم البدلي ، إذ بعد ما سبق من تحقق الطبيعة بتحقق فرد واحد يتعين موافقة الحكم به.
    نعم ، استفادة سعته لتمام الأفراد ، بحيث يجزئ أي منها تتوقف على قرينة خارجية ، ولو كانت هي مقدمات الحكمة ، لإمكان نسبة الحكم للطبيعة

    بنحو الإهمال ، نظير ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس.
    لكن القرينة المذكورة إنما تقتضي السعة للطبيعة على النحو الذي تضمنه الكلام من إطلاق أو تقييد ، فمع تقييدها بمتصل لا تقتضي القرينة المفروضة سعته لغير المقيد.

    المبحث الثالث
    لا إشكال في دلالة اللام على التعريف في الجملة ، وإنما الإشكال في اختصاصها به أو دلالتها على غيره ، وفي سنخ التعريف الذي تدل عليه.
    وقد ذكر غير واحد أنها تدل ..
    تارة : على التعريف العهدي ، الذي يراد به الإشارة لفرد معهود بسبب تقدم ذكره ، وهو العهد الذكري ، نحو قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(1) ، أو انس الذهن به وهو العهد الذهني ، نحو قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)(2).
    واخرى : على الاستغراق لتمام أفراد المدخول نحو قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(3).
    وثالثة : لتعريف الجنس نحو : الرجل خير من المرأة ، و : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، ورأيت الأسد ، حيث لا عهد.
    ورابعة : للتزيين أو للمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ ، كما في الأعلام الشخصية (كالحسن) و (الحسين) و (الفضل).
    هذا ، والظاهر بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في الجميع عن التعريف ، وحقيقته الإشارة لما اريد من المدخول بما أنه متعين ذهنا
    __________________
    (1) سورة المزمل : 15 ، 16.
    (2) سورة القصص : 15.
    (3) سورة العصر : 1 ، 2 ، 3.

    وحاضر عند العقل. لكن لا على أن يكون الوجود الذهني هو تمام المراد من المعرف ، أو جزءاً منه ، كما قد توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام التعريف ، ليمتنع كون المعرف طرفا للنسبة ذات المطابق الخارجي ، لعدم انطباق الوجود الذهني على ما في الخارج ، إلا بالتجريد والعناية اللذين لا مجال للبناء عليهما في الاستعمالات العرفية الشائعة.
    بل على أن يكون مقارنا للاستعمال مع كون المراد نفس المفهوم ـ في التعريف الجنسي ـ أو الفرد ـ في التعريف العهدي ـ المفروض حضوره ذهنا.
    فطرف النسبة هو المفهوم أو الفرد بنفسه من دون دخل لحضوره ذهنا حتى بنحو التقييد ، من دون أن يلزم التجريد أو العناية. وليس حضوره ذهنا المستفاد من اللام إلا مقارنا للاستعمال.
    فالتعريف نظير الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في طرفيته للنسبة بوجه.
    ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في وجه كون التعريف الجنسي في علم الجنس ولامه لفظيا من استلزام كونه حقيقيا تعذّر حمل المعرف على الأفراد ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في الخارج ، على ما أوضحناه في تعقيب كلامه وشرحه. فراجع.
    ثم إن تمحض اللام في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف مفاد الكلام في ما سبق ذكره من الأقسام لاختلاف خصوصيات الموارد.
    فحيث يكون هناك ما يقتضي تعيّن فرد بخصوصيته من تقدّم ذكره أو أنس الذهن به ينصرف التعريف للماهية من حيثية تشخصها في الفرد المذكور ، فيشار بها إليه من حيثية تعيّنه ذهنا ، دون بقية الأفراد ، ويكون التعريف عهديا.
    ومع عدمه ينصرف التعريف للماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو مدلول المدخول المتعين ذهنا ، من دون صارف عنه ، فيكون التعريف جنسيا ، ويراد

    بالمدخول مفهومه من حيثية تعيّنه ذهنا.
    ودعوى : أن مفهومه مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهنا بلا حاجة إلى اللام ، ومع الجهل به لا تصلح اللام لتعيينه ، فلا بد من كون التعريف صوريا لفظيا ، لا حقيقيا معنويا ، بخلاف التعريف العهدي ، حيث تكون فائدة اللام رفع الشياع في الفرد الحاصل لو لا اللام ، وتعيّنه بالفرد المعهود ، فيكون تعريفا حقيقيا معنويا.
    مدفوعة : بأن فائدة اللام ليست هي التعيين ذهنا بل الإشارة للمتعين بما هو متعين ، مع استناد التعين الذهني لغيرها ، فهي تقتضي التنبيه لتعيّن المراد ذهنا ، من دون فرق بين الفرد الذي يكون تعريفه عهديا ، والمفهوم الذي يكون تعريفه جنسيا ، وإنما يقتضي التعريف العهدي رفع الشياع وانحصار المراد بالفرد المعهود لأن المدخول بنفسه لا يصلح لتعيين الفرد ، وإنما يصلح لبيان إرادة الفرد الشائع في الأفراد المردد بينها ، فمع اقتضاء اللام التنبيه على تعيين المراد وفرض انحصار التعين في الذهن بالفرد الخاص يتعين انصراف المراد إليه واختصاصه به ، فيرتفع الشياع والتردد فيه.
    أما مع عدم تعين فرد خاص في الذهن وتساوي الأفراد فيه ولزوم كون التعريف والتعيين المفروض من مفاد اللام للمفهوم نفسه ، فحيث لا شياع في المفهوم بنفسه يتعين عدم استفادة رفع الشياع ، لعدم الموضوع له ، من دون أن ينافي إفادتها التعريف الذي هو عبارة عن الإشارة لتعين المراد ومعهوديته في الذهن ، ولا ملزم بكون التعريف حينئذ لفظيا صوريا.
    ولذا كان دخول اللام في مثل ذلك موجبا لفهم عدم إرادة الفرد الشائع بين الأفراد ، كما يكون هو المراد مع التجرد عنها ، بل الماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو المتعين دون الفرد المفروض عدم تعينه ، ولو كانت اللام في ذلك منسلخة عن التعيين والتعريف الحقيقي لم يكن وجه لاختلاف مفاد النكرة عن

    مفاد اللام في مثل ذلك.
    وأما ما ذكره بعضهم من أن المدخول في مثل قولنا : ادخل السوق ، واشتر اللحم ، مع عدم العهد في معنى قولنا : ادخل سوقا واشتر لحما.
    فهو مخالف للوجدان ، لأن المستفاد مع التنكير نسبة الحكم رأسا للفرد الواحد الشائع في الأفراد والمردد بينها ، وإن أمكن ثبوته لما زاد عليه ، والمستفاد مع التعريف باللام نسبته رأسا للجنس ، وثبوته للفرد بتبعه ، لعدم صحة نسبة الحكم المذكور للماهية إلا بلحاظ ثبوته لأفرادها.
    ولذا لا نظر فيه لكمية الأفراد ، لأن ثبوت الحكم للماهية يصح بلحاظ ثبوته لأفرادها في الجملة.
    وبالجملة : وضوح الفرق ارتكازا ـ مع عدم العهد ـ بين المعرف باللام والمجرد عنها مانع من البناء على كون التعريف صوريا لفظيا.
    ومجرد عدم إفادة اللام رفع الشياع والترديد لا يستلزم ذلك ، لعدم تقوّم التعريف برفع الشياع ، بل بالإشارة للمتعين ذهنا بما هو متعين ، ورفع الشياع إنما يستلزمه في تعريف الفرد القابل له ، دون المفهوم الكلي غير القابل له.
    وبذلك يظهر أن مؤدى اللام العهدية والجنسية واحد ، وأن خصوصية العهد تابعة لخصوصية المورد ، لا لاختلاف مؤدى اللام.
    ثم إن اللام حيث تكون للجنس مع عدم العهد ، ويكون طرف النسبة هو الجنس والماهية ، فإن كان الحكم من شئون الماهية بحدودها المفهومية مقصورا على ذاتها وذاتياتها من دون نظر للخارج لم يقبل العموم ولا الخصوص ، كما في القضايا الذهنية ، مثل : الانسان نوع ، أو الواردة للتحديد ، مثل : الإنسان حيوان ناطق.
    وإن كان من شئون الماهية الخارجية ، لكونه لا حقا للأفراد ، فهو يقبل العموم والخصوص ، وحيث تقدم أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته

    لبعض أفرادها ، فليس مفاده إلا قضية مهملة ، ولا يستفاد عمومها إلا بقرينة عامة ، كمقدمات الحكمة ، أو خاصة ، كالاستثناء الذي هو فرع العموم. وإليه ترجع اللام الاستغراقية المتقدمة في كلماتهم.
    وليس العموم معه مستفادا من نفس اللام ، بحيث يكون مؤدى لها في مقابل التعريف ، وتكون في قبال الجنسية قسيمة لها ، لاستبعاد الاشتراك في الأدوات ، وعدم الفرق في معنى اللام ارتكازا.
    وقد يشهد بما ذكرنا من استناد استفادة العموم للاستثناء أنه لو تعذر العموم الحقيقي في مورده يستفاد العموم الإضافي بالنحو المناسب له ، ففي مثل : أكلت اللحم إلا لحم البقر أو : إلا اللحم المشوي حيث يعلم بعدم إرادة العموم الحقيقي بلحاظ تمام أفراد اللحم يتعين الحمل على العموم الإضافي بلحاظ أنواعه في الأول ، لتقوّم المستثنى بالنوع ، وبلحاظ حالاته في الثاني ، لتقوّم المستثنى بالحال.
    ولو كانت الدلالة على العموم مستندة للام لزم إما البناء على أن اللام للاستغراق التام إلا فيما علم بخروجه ، أو أنها جنسية ليست للاستغراق مع التسامح والتوسع في نسبة الاستثناء بجعل متعلقها القضية المهملة التي لا عموم فيها. فلاحظ.
    نعم ، لا يبعد ظهور تعريف المبتدأ أو ما هو بمنزلته ـ كاسم كان ـ في عموم الحكم لتمام الأفراد ، بخلاف تعريف غيره من أطراف النسب كالفاعل والمفعول به ونحوهما.
    ولذا نجد الفرق الواضح بين قولنا : أكلت اللحم ، وقولنا : اللحم مأكول ، حيث يتعين حمل الثاني على العموم وإرادة القابلية للأكل ، دون القضية المهملة وإرادة فعلية الأكل ، كما في الأول. ومنه مثل قولنا : الرجل خير من المرأة ، والعالم خير من الجاهل. حيث يراد به أن كل رجل خير من المرأة ، وكل عالم خير من

    الجاهل ، لكن لا من جميع الجهات ، بل من حيثية الرجولة والانوثة ، والعلم والجهل ، لا أن الرجل والعالم خير من المرأة والجاهل في الجملة لا بنحو العموم.
    ومن هنا كان على من يرى وجود لام الاستغراق عدّ اللام في ذلك منها ، لا جنسية. لكن ربما يكون ذلك لخصوصية في هيئة الجملة ، لا لخصوصية في اللام.
    كما ربما يكون مستندا لمقدمات الحكمة على ما قد يتضح عند الكلام فيها وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.
    وبالجملة : الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية عدم دلالة اللام بنفسها وضعا على الاستغراق ، بل هي في مورده متمحضة في التعريف الجنسي ، والاستغراق مستفاد من خصوصيات الموارد المختلفة.
    كما أن الظاهر رجوع لام التزيين في الأعلام الشخصية إلى لام العهد التي هي لتعريف الفرد وتعيينه ، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى المعنى الأصلي الكلي القابل للانطباق على كثيرين ، والذي يمكن أن يراد به ـ بضميمة اللام ـ خصوص الفرد المعهود.
    ولذا تكون الإشارة بها للمسمى من حيثية ذلك المعنى ، فتشعر بواجديته له ، وليست متمحضة في الدلالة على الذات ، كما هو حال الأعلام الشخصية ، لتكون اللام لمحض التزيين اللفظي ، بل هي لتزيين البيان ، بلحاظ تضمنه معنى زائدا على الذات ، أو لتزيين المراد بها إذا كان المعنى الأصلي حسنا ، ولو كان ذما كانت للتهجين والذم.
    ويناسب ما ذكرنا أنهم ذكروا أن اللام المذكورة للمح المعنى المنقول عنه اللفظ ، واعتبروا في جواز دخولها قابلية المعنى المذكور لها.
    نعم ، ربما يغافل عن ذلك في مقام الاستعمال في أعرافنا المتأخرة للبعد

    عن اللغة والجهل بخصوصيات البيان.
    وبهذا تم ما ذكرناه آنفا من تمحض اللام في التعريف ، وأن الأقسام المذكورة لها لا تخرج عنه. واختلافها إنما يكون لاختلاف خصوصيات الموارد من دون أن يرجع إلى تعدد مؤداها واختلافه.
    كما ظهر أن إفادة المعرف باللام العموم يحتاج إلى قرينة عامة ـ كمقدمات الحكمة أو تعريف المبتدأ ـ أو خاصة ، كالاستثناء.
    هذا كله في تعريف المفرد ، وأما تعريف الجمع فالظاهر عدم الإشكال في إفادته العموم مع عدم العهد لخصوص بعض الأفراد. وإنما الكلام في وجهه بينهم.
    والظاهر أن منشأه ظهور اللام في التعريف وفرض المراد بمدخولها المتعين ذهنا. لكن لا بلحاظ تعريف الماهية بنفسها ، على أن يكون التعريف جنسيا ، كما في تعريف المفرد ، لما هو الظاهر من أن هيئة الجمع تقتضي كون المراد بالمدخول الأفراد ، لأنها القابلة للتكثر ، دون الطبيعة بنفسها.
    ولا بلحاظ تعريف نفس مرتبة الجمع المدلولة لهيئته ، لما هو المعلوم من صلوح الهيئة لجميع المراتب من دون مرجح لأحدها في التعيين والحضور الذهني.
    ومجرد كون المرتبة العليا المستغرقة لتمام الأفراد طرفا للمراتب ليس فوقه طرف لا يقتضي ترجيحها ، لأن ذلك ليس بأولى من ترجح المرتبة السفلى بكونها طرفا ليس دونه طرف ، والوسطى بكونها وسطا بين الطرفين.
    مضافا إلى أن الجمع بمراتبه مستفاد من الهيئة ، فيكون معنى حرفيا غير قابل للتعريف.
    بل الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية كون استفادة العموم بسبب كون التعريف للأفراد المحكية بالجمع ، فيكون التعريف عهديا. بتقريب :

    أنه حيث لا مرجح لبعض الأفراد على بعض ـ لفرض عدم ما يوجب العهد لبعضها بخصوصه ـ يتعين إرادة جميعها ـ بعد فرض دلالة اللام على التعريف والتعين الذهني ـ بلحاظ تعينها في الذهن من حيثية كونها فردا للماهية ، فيراد باللام الإشارة للأفراد المتميزة عن غيرها من الذوات بالحيثية المذكورة ، فيلزمه كون المراد بالجمع المرتبة العليا وإن لم تكن هي موضوع التعريف. بخلاف ما لو اريد بعض الأفراد ، لفرض عدم المميز لها عن غيرها من الأفراد ، ليمكن فرض التعيين لها.
    نعم ، لو كانت هناك جهة تصلح لترجيح بعض الأفراد ذهنا كانت هي المتيقن من الجمع المعرف وتعين حمله عليها.
    ومنه يظهر أنه لا ملزم بما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من ابتناء دلالة الجمع المحلى باللام على العموم إما على وضعه بهيئته له ابتداء ، أو على كون اللام فيه للاستغراق.
    على أن الوجه الأول يشكل ..
    تارة : بعدم معهودية اختصاص المركب بمجموعه بوضع لمعنى لا تؤديه مفرداته بأنفسها.
    واخرى : بأن لازمه كون دلالة الجمع المعرف على الخصوص في موارد العهد الذكري أو الذهني لخصوص بعض الأفراد مبنيا على الاشتراك أو المجاز ـ كما نبه له بعض مشايخنا ـ وهو بعيد في نفسه مخالف للمرتكزات الاستعمالية جدا.
    كما يشكل الوجه الثاني ..
    تارة : بأن اللام إذا كانت مشتركة بين الاستغراقية وغيرها احتاج تعيين الاستغراقية في الداخلة على الجمع للقرينة الخاصة كما يحتاج إليها في الداخلة على المفرد ، مع أنه لا إشكال عندهم في عدم توقف فهم العموم منه عليها.

    واخرى : بما تقدم من استبعاد الاشتراك في مفاد اللام ، بل لا ينبغي التأمل في عدمه بعد ملاحظة ما ذكرنا.
    تنبيهان :
    الأول : ما ذكرناه كما يجري في المعرّف باللام يجري في المعرّف بالإضافة ، نحو أكرم علماء بلدك ، أو أكرم عالم بلدك ، لما أشرنا إليه في ذيل الكلام في تعريف المسند من أن الإضافة بمقتضى الأصل تقتضي العهد والتعريف زائدا على الاختصاص ، للفرق الواضح بين قولنا : غلام زيد ، وغلام لزيد.
    فإذا كان المضاف جمعا كعلماء المدينة اقتضى الاستغراق والعموم بالتقريب المتقدم ، وإذا كان مفردا حمل غالبا على العهد الذهني ، فيراد من مثل : عالم المدينة ، أظهر علمائها ، وقد يراد به الجنس المقيد ، كما لو اريد به ما يقابل عالم القربة ، كما في قولنا : عالم المدينة أعلم من عالم القرية ، فيلحقه ما تقدم في تعريف الجنس باللام.
    نعم ، أشرنا هناك إلى أن الإضافة للمعرفة قد تتمحض في الاختصاص من دون تعريف وعهد. وهو الحال في الإضافة للنكرة لأن شيوع المضاف إليه مستلزم لشيوع المضاف ، كعالم بلد ، أو علماء بلد ، وحينئذ يكون كسائر المطلقات التي تحتاج استفادة العموم منها إلى قرينة خارجية. فلاحظ.
    الثاني : كما اختلفوا في تعريف الجنس وأنه حقيقي معنوي أو صوري لفظي ، اختلفوا في علم الجنس ، كاسامة للأسد ، وثعالة للثعلب.
    وحيث لا يتعارف استعماله في عصورنا فلا مجال للرجوع فيه للتبادر والمرتكزات الاستعمالية.
    نعم ، الظاهر إطباقهم على كونه بمعنى المعرف بلام الجنس ، ولذا كان

    اختيارهم فيهما متفقا ، ويناسبه صحة استعمال أحدهما في مورد الآخر ، فكما يقال : هذا الأسد مقبلا ، والأسد أشجع من الثعلب ، يقال : هذا اسامة مقبلا ، واسامة أشجع من ثعالة. وحينئذ يجري فيه ما تقدم في المعرف بلام الجنس من تقريب كون تعريفه حقيقيّا.
    نعم ، أشرنا آنفا إلى أن حمل مدخول اللام على الجنس ناشئ عن كون تعريفها حقيقيا ، إذ لو كان لفظيا لزم كون مفاده مفاد النكرة المجردة عبارة عن الفرد الشائع بين الأفراد ، أما علم الجنس فالظاهر عدم الإشكال في أن مفاده الجنس والطبيعة بنفسها لا الفرد الشائع بين الأفراد وإن كان تعريفه لفظيا. وحينئذ يجري على الحكم الوارد عليه ما يجري على الحكم الوارد على الجنس من احتمال العموم والخصوص ، وأن المتيقّن منه المهملة.

    المبحث الرابع
    بعد أن سبق أنه يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، وأن استفادة العموم الأفرادي والأحوالي تحتاج إلى قرينة خارجية خاصة أو عامة ، فعدم انضباط القرائن الخاصة ملزم بإيكال النظر فيها للفقه عند الابتلاء بالأدلة والظهورات الشخصية وتشخيص مفاداتها ، ولا مجال للبحث عنها في الاصول ، لأن موضوع البحث فيها الظهورات النوعية.
    وأما القرينة العامة فهي عبارة عن مقدمات الحكمة التي يبتني عليها استفادة الإطلاق الأفرادي والأحوالي عندهم ، وقد اختلفوا في عددها وتحديدها.
    ولا بد من التعرض لجميع ما ذكروه على اختلافهم فيه ، والنظر في توقف الظهور في الإطلاق على كل مقدمة مقدمة بعد تحديدها.
    الاولى : إمكان التقييد. فلو امتنع ، لاستحالة لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم ، لكونه متفرعا عليه ، يمتنع انعقاد الظهور في الإطلاق ، كما في تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله ، وتقييد الحكم بالعلم به ، على ما ذكره غير واحد وأطالوا الكلام في وجهه ، أولهم ـ في ما عثرت عليه ـ شيخنا الأعظم رحمه الله ، على ما في التقريرات.
    وقد تعرضنا لذلك في مبحث التعبدي والتوصلي في تقريب أصالة التوصلية ، وذكرنا هناك أنه ..
    تارة : يراد بذلك ما يظهر من بعض الأعاظم رحمه الله من أن امتناع التقييد

    يستلزم امتناع الإطلاق ويلزم الإهمال ثبوتا.
    واخرى : يراد به ما يظهر من جماعة أولهم شيخنا الأعظم ـ على ما يظهر من التقريرات ـ من أن امتناع التقييد بقيد ما مانع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق من حيثيّة ، فلا يكون بيانا عليه في مقام الإثبات ، بل يكون مجملا ، وإن كان دائرا بين الإطلاق والتقييد ثبوتا غير خارج عنهما ، لامتناع الإهمال.
    وذكرنا هناك أنه لا مجال للأول ، بل يمتنع الإهمال ثبوتا مطلقا.
    وأما الثاني فقد سبق توجيهه بأن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الفرض منافيا للحكمة ، وهو إنما يتم مع إمكان التقييد ، إذ مع تعذره لا يكون الإخلال به منافيا للحكمة.
    كما سبق دفع ذلك بأن تعذر التقييد لا يستلزم تعذر بيان إرادة خصوص واجد القيد بطريق آخر ، فعدم بيانه مع إمكانه يستلزم ظهور المطلق في الإطلاق ، كعدم التقييد مع إمكانه. ولا أقل من قدرته على ترك بيانه بالوجه المنافي لغرضه ، أو على إحاطته بما يوجب إجماله من حيثية القيد المذكور ، فإقدامه على بيان المطلق مع ذلك موجب لظهور كلامه في إرادة الإطلاق.
    وقد أشرنا هناك إلى أن تعذر البيان والتقييد لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق ، وأحلنا في توضيحه على ما نذكره هنا.
    وحاصله : أن عدم منافاة الإخلال بالتقييد للحكمة مع التعذر لا يختص بالتعذر الذاتي العقلي الناشئ من امتناع اللحاظ ـ والذي هو محل الكلام ـ بل يجري في التعذر بالعرض لخوف أو ضرر ، أو غفلة عن القيد كما في الموالي العرفيين بالإضافة إلى بعض القيود التي لا يقع منشأ انتزاعها موردا لابتلائهم ليلتفتوا إليها ، كما يجري في سائر الجهات المصحّحة للإخلال بالبيان التام بنظر العقلاء ، ولو كانت أمرا غير التعذر ، كعدم استيعاب السامع لتمام ما يلقى إليه مع

    عدم ابتلائه بفاقد القيد ، حيث لا يخل ترك التقييد في خطابه بالغرض ، بل قد يستوجب ذكر القيد فوته.
    بل مقتضى ذلك التوقف عن الرجوع للإطلاق بمجرد احتمال وجود الجهات المصححة لترك التقييد من تعذر أو غيره ، لاحتمال استناد ترك التقييد لها ، فلا يكون منافيا للحكمة لو كان القيد دخيلا في الغرض ، ولا أصل يدفع الاحتمال المذكور.
    ولازم ذلك عدم الرجوع للإطلاق إلا مع العلم بانحصار سبب عدم التقييد بعدم دخل القيد في الغرض ، بحيث لو كان دخيلا كان ترك التقييد منافيا للحكمة.
    وحينئذ يكون الإطلاق موجبا للعلم بالمراد مع فرض حكمة المتكلم ، وهو خلاف المقطوع به من محل كلامهم ـ تبعا لأهل اللسان ـ في حجية الإطلاق ، لما هو المعلوم من أنه من صغريات حجية الظهور ، الذي قد لا يوجب الظن ، فضلا عن العلم.
    فلا بد من البناء على أن وجود الجهات المصحّحة بنظر العقلاء لترك التقييد مع دخله في الغرض إنما يكون عذرا للمتكلم في ترك البيان والتقييد من دون أن يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق ، الذي هو حجة للمتكلم وعليه ، كما هو محل الكلام.
    وإن شئت قلت : اقتصار المتكلم في شرح مراده على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها ظاهر في وفائها بغرضه ، من دون فرق بين الخصوصيات المقارنة لأفرادها وأحوالها ، بنحو يصح أن يعتمد عليه وإن لم تف بغرضه واقعا لاعتبار بعض القيود فيه مما كان له عذر عقلائي في ترك بيانه.
    ومن هنا يتعين على المتكلم الحكيم تجنب البيان بالنحو المذكور الظاهر في الإطلاق ، لئلا يكون مفوّتا لغرضه ، إما بتركه البيان رأسا ، أو بإحاطته بما يمنع

    من ظهوره في الإطلاق ، أو بغير ذلك مما تقدم.
    فلو فرض وجود الملزم العقلائي له بالبيان بالنحو الظاهر في الإطلاق ، على خلاف غرضه ، كان عذرا له من دون أن يخل بظهور كلامه ، ويكون الظهور حجة ما لم يبتل بما يسقطه عن الحجية.
    وأما ما ذكروه من أن منشأ ظهور المطلق في إرادة الإطلاق لزوم الإخلال بالحكمة في ترك التقييد مع إرادته. فالجمود على ظاهره مستلزم لما تقدم مما عرفت تعذّر الالتزام به.
    ولا يبعد أن يراد به أن تعلق الغرض بالمقيّد لما كان مقتضيا لبيانه ـ بأي صورة ـ من الحكيم لو لا المانع كان ذلك قرينة عامة بنظر العقلاء يصح الركون إليها في معرفة مراد المتكلم موجبة لظهور اقتصاره على بيان الماهية ونسبة الحكم إليها في عدم دخل أي قيد يحتمل ، وإرادة الإطلاق ، ولا يعتنى باحتمال استناد عدم التقييد للجهات المانعة في ظهور كلامه المذكور وحجيته.
    فمحذور الإخلال بالحكمة جهة ارتكازية لاحظها العقلاء وأهل اللسان بلحاظ المقتضيات الأولية ، فكانت عندهم قرينة عامة موجبة لظهور المطلق في الإطلاق ، وليست علة شخصية فعلية بلحاظ تمام الجهات يدور انعقاد الظهور مدارها.
    ولذا لا إشكال في انعقاد الظهور المذكور حتى مع احتمال عدم حكمة المتكلم ، وعدم تقيده باستيفاء مراده ببيانه ، أو العلم بذلك ، كما يصح الاحتجاج له وعليه بظاهر الكلام المستند لقرينة الحكمة النوعية وإن احتمل خروجه في بيانه عليها ، لعدم حكمته.
    هذا كله بناء على ما هو الظاهر من أنه يكفي في الإطلاق عدم أخذ القيد في موضوع الحكم أو متعلّقه ، فهو أمر عدمي مقارن للبيان ، والتقابل بينه وبين التقييد تقابل العدم والملكة ، كما سبق في مبحث التعبدي والتوصلي الإشارة

    إليه.
    أما بناء على أنه عبارة عن رفض القيود ، وأنه أمر وجودي مقابل للتقييد تقابل الضدين ، فقد يدعى توقفه على إمكان لحاظ القيد في مرتبة جعل الحكم ، لأن رفضه فرع لحاظه ، كما قد ينزّل عليه ما في التقريرات.
    لكنه يندفع .. أولا : بضعف المبنى المذكور ، لوضوح أنه يكفي في الإطلاق ثبوتا إدراك الحاكم وفاء الماهية بالغرض المقتضي لجعل الحكم أو إناطته بها بلا حاجة إلى مئونة رفض القيود ، ومع عدم توقف الإطلاق في مقام الثبوت على رفضها لا موجب لتوقف الإطلاق في مقام الإثبات عليه ، فضلا عن توقفه على إحرازه.
    وثانيا : بأن المراد من رفض القيود ليس إلا رفضها إجمالا ، الراجع إلى لحاظ تجرد الماهية في موضوعيتها للحكم ووفائها بالغرض وحدها من دون حاجة إلى انضمام أمر آخر إليها بلا ملاحظة للقيود بمشخصاتها وخصوصياتها تفصيلا ، لما هو المعلوم من عدم إحاطة الموالي العرفيين بتمام القيود الفرضية ، لعدم تناهيها ، بل قد يعلم بغفلتهم عن بعض القيود تفصيلا لعدم الابتلاء به أو لعدم مناسبته للحكم ، أو لغير ذلك ، ومع ذلك يبنى على انعقاد الظهور لإطلاقاتهم بلحاظ كل قيد يفرض ، وإن علم غفلتهم عنه حين الخطاب إجمالا أو تفصيلا ، وحينئذ لا يخل بالإطلاق تعذّر لحاظ القيد بخصوصيته ، لتأخره عن الحكم رتبة وتفرعه عليه ، لكفاية رفضه في جملة القيود الملحوظة إجمالا.
    والمتحصل من جميع ما تقدم عدم توقف الإطلاق ثبوتا ولا إثباتا ـ الذي هو محل الكلام هنا ـ على إمكان التقييد ذاتا ، فضلا عن إمكانه بلحاظ الجهات العرضية أيضا. فلا مجال لعدّ ذلك من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها انعقاد الظهور في الإطلاق.
    ويتضح ما ذكرنا بأدنى ملاحظة لسيرة أهل اللسان ومرتكزاتهم ، حيث

    يستفيدون بطبعهم العموم بلحاظ القيود المذكورة من الإطلاق من دون التفات لهذه الخصوصيات.
    ولذا بنى من منع من الإطلاق في الفرض على نتيجته ، فأصرّ في التقريرات على ظهور الأمر في التوصلية ، كما أصر بعض الأعاظم رحمه الله على استفادتها بمتمّم الجعل ، وغيره على وفاء الإطلاق المقامي بها ، من دون أن يتضح وجه تقريبها في كلماتهم بعد فرض عدم انعقاد الإطلاق اللفظي.
    بل الظاهر عدم الإشكال في عدم تماميتها لو صرح في الخطاب بثبوت الحكم بنحو القضية المهملة الصالحة للإطلاق والتقييد ، مع أن مرجع إنكار الإطلاق اللفظي إلى ذلك. وقد تعرّضنا لذلك في الجملة في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع.
    الثانية : عدم وجود البيان على التقييد ، سواء كان بلسان الحصر وثبوت نقيض الحكم لفاقد القيد ، كالقيود ذات المفهوم ، مثل الشرط والاستثناء ، ام بلسان آخر لا يقتضي إلا قصور شخص الحكم عن الفاقد للقيد ، كالوصف والظرف.
    ولا إشكال في اعتبار هذه المقدمة ومانعية البيان من الظهور في الإطلاق ، وإنما الإشكال في أنها تعم البيان المنفصل بحيث يكون وروده رافعا لموضوع الإطلاق ومانعا من تمامية مقتضي الظهور فيه ، أو تختص بالمتصل ، فلا يكون العثور على المنفصل مانعا من تمامية مقتضي الظهور الإطلاقي ، بل يكون منافيا له ، كسائر الظهورات المتنافية التي يعالج تنافيها بالجمع العرفي المبتني على تنزيل أضعف الظهورين على أقواهما.
    صرّح في التقريرات بالأول ، قال في بيان ما يتوقف عليه الإطلاق : «انه موقوف على أمرين أحدهما : انتفاء ما يوجب التقييد داخلا وخارجا ... فلو دل دليل على التقييد لا وجه للأخذ بالإطلاق ، لارتفاع مقتضي الإطلاق ، لا لوجود

    المانع عنه ، وإن كان الدليل الدال على التقييد أيضا مما يحتمل فيه التصرف بحمل الوارد فيه على الاستحباب ، إلا أن أصالة الحقيقة يكفي في رفع ذلك الاحتمال ، ولا تعارض بأصالة الحقيقة في المطلق ، لعدم لزوم مجاز فيه ، وإنما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدليل. فالإطلاق حينئذ بمنزلة الاصول العملية في قبال الدليل ، وإن كان معدودا في عداد الأدلة دون الاصول ، فكأنه برزخ بينهما». ويظهر من بعض الأعاظم رحمه الله في مبحث التعارض الجري على ذلك.
    لكن التأمل في المرتكزات الاستعمالية قاض بعدم تمامية ما ذكره ، وأن مقتضي الظهور في الإطلاق لا يرتفع بورود البيان المنفصل ، بل هو من سنخ المعارض للإطلاق مع تمامية مقتضي ظهوره بمجرد عدم البيان المتصل ، وأن الإطلاق كسائر الظهورات الكلامية التابعة لفراغ المتكلم عن كلامه ، لابتناء طريقة أهل اللسان على أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء ، وظهور كلامه تابع لفراغه منه ومتحصل من مجموعه ، وبهذا يفترق البيان المتصل عن المنفصل في مانعية الأول من الظهور الإطلاقي ، دون الثاني ، بل هو مناف له.
    ولذا كان احتفاف الكلام بما يصلح للبيان والقرينية على التقييد من دون أن يكون ظاهرا فيه مانعا من انعقاد ظهوره في الإطلاق ـ على ما يأتي في المقدمة الثالثة إن شاء الله تعالى ـ مع عدم الإشكال في عدم مانعية البيان المنفصل بالنحو المذكور من حجية الظهور في الإطلاق ، فضلا عن انعقاده.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم رحمه الله من خروج الشارع الأقدس عن طريقة العقلاء وأهل اللسان في البيان لاعتماده على القرائن المنفصلة فهو ـ مع عدم اختصاص الإطلاق به ، بل يجري في الظهورات الوضعية أيضا ـ غير تام في نفسه ، على ما يأتي في مبحث التعارض عند الكلام في الجمع العرفي.
    وعلى ذلك يلزم النظر في وجوه الترجيح بين الظهور الإطلاقي والبيان

    المنفصل من دون أن يكون الثاني رافعا لموضوع الأول ، كما هو الحال في سائر موارد تعارض الظهورين.
    ومجرد عدم لزوم المجاز من التصرف في المطلق ولزومه من التصرف في البيان المنفصل ـ مع عدم تماميته في التصرف بالحمل على الاستحباب المفروض في كلامه المتقدم ، على ما تقدم في بحث الأوامر ـ لا يصلح لترجيح ظهور البيان المنفصل ، فضلا عن كونه رافعا لموضوع الظهور الإطلاقي ، لأن الرجوع لأصالة الحقيقة بملاك الرجوع لأصالة الظهور ، ولذا يختص بما إذا كان المعنى الحقيقي هو الظاهر ، فمع فرض تمامية ظهور الإطلاق وعدم ارتفاع موضوعه يشتركان في تحقق ملاك الحجية ، ويبقى الترجيح منوطا بأقوائية أحد الظهورين ، الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الظهورات المتنافية ، على ما ذكرناه في مبحث التعارض.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم رحمه الله هنا من أن البيان المنفصل وإن لم يمنع من الدلالة التصديقية للكلام ، بمعنى انعقاد الظهور في ما قاله المتكلم ، بحيث يكون قابلا للنقل بالمعنى ، كما يمنع منه البيان المتصل ، إلا أنه يمنع من الدلالة التصديقية على مراد المتكلم الواقعي.
    فهو مسلم في الجملة ، إلا أنه لا يصلح وجها لعدّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الحكمة التي يبتني عليها الإطلاق ، لما هو المعلوم من أن الظهور الإطلاقي الذي هو محل الكلام هو الدلالة التصديقية الاولى ، التي هي الموضوع للدلالة التصديقية الثانية الراجعة إلى الحكم بحجية الظهور على مراد المتكلم.
    وإنما ينهض البيان المنفصل بالمنع من حجيته إذا كان قرينة عرفا على شرح المراد من الإطلاق لأقوائيته منه ظهورا ، كما هو الحال في رافعيته لحجية سائر الظهورات المستقرة التابعة للوضع أو القرائن العامة أو الخاصة.
    فلو كان ذلك كافيا في عدّ عدم البيان المنفصل من مقدمات الإطلاق لزم

    عدّه مقدمة لسائر الظهورات ، حتى الوضعية ، ولم يعهد ذلك منهم.
    ومن ثمّ كان كلامه قدّس سرّه مضطربا ، بل لا يتناسب مع ما ذكره في مبحث التعارض ، وإن كان الظاهر منه هناك التحويل على ما ذكره هنا.
    الثالثة : عدم وجود القدر المتيقن في مقام المتخاطب ، فلو وجد لا مجال للبناء على الإطلاق ، بل يقتصر على القدر المتيقن ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه.
    وتوضيح الكلام في ذلك : أن أفراد المطلق أو أحواله ..
    تارة : تتساوى في احتمال شمول الحكم لها ، من دون مرجح لبعضها على الآخر ، لا بلحاظ مقام الخطاب ، ولا بلحاظ مقام آخر.
    واخرى : لا تتساوى فيه ، بل يكون شمول الحكم لبعضها أظهر من شمولاه للآخر.
    إما بلحاظ أمر خارج عن الخطاب لا يكون من القرائن المحيطة به عرفا ، كما لو كان الحكم تعبديا لا مناسبة ارتكازية بينه وبين الموضوع ، ثم علم من الخارج وجه المناسبة بينهما ، وكان ذلك الوجه في بعض الأحوال أو الافراد أظهر منه في غيرها ، أو ثبت بدليل آخر ورود الحكم على بعض الأفراد أو الأحوال ، ولم يثبت في غيرها ، أو نحو ذلك.
    وإما بلحاظ مقام الخطاب وما يحيط به من قرائن عرفية حالية ، كما لو كانت المناسبة ارتكازية ينسبق إليها الذهن من الخطاب بالحكم ، وكانت في بعض الأفراد أو الأحوال أظهر منها في الآخر ، أو مقالية ، كما لو كان بعض الأفراد أو الأحوال موردا للإطلاق ، أو وقع التمثيل به من المتكلم ، أو نحوهما. والجمود على عبارة المحقق الخراساني قدّس سرّه يناسب إرادة هذا القسم.
    ومرجع استدلاله عليه إلى أن المفروض من حال المتكلم ـ بمقتضى المقدمة الآتية ـ أنه في مقام بيان تمام مراده ، فمع عدم وجود المتيقن مطلقا لو لم

    يكن في مقام بيان إرادة تمام الأفراد أو الأحوال بالإطلاق بلحاظ صلوحه لإرادة كل منها ، بل كان مريدا بعضها ، كان مخلا بغرضه ، لعدم صلوح الإطلاق لبيان إرادة خصوص ذلك البعض بعد فرض تساوي الأفراد بالإضافة إليها وحيثية صلوحه لها مشتركة بينها.
    وكذا لو كان هناك متيقن لا بلحاظ مقام التخاطب ، لفرض أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده بخطابه ، لا مطلقا ولو بطريق آخر ، والمفروض عدم صلوح الخطاب لإرادة خصوص ذلك المتيقن.
    بخلاف ما لو كان هناك متيقن في مقام التخاطب ، حيث يكون الإطلاق صالحا لبيانه بخصوصه بعد فرض ترجحه على بقية الأفراد ، فلا يكون مخلا بغرضه لو أراده بخصوصه ، ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة غيره بالإطلاق.
    وهذا الوجه إنما يتجه لو كان المراد بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ـ الذي يأتي في المقدمة الرابعة ـ كونه في مقام بيان تمام الأفراد والأحوال التي يشملها حكمه ، بحيث لو قصر بيانه عن بعضها كان مخلا بغرضه ، إذ عليه يكون وجود المتيقن في مقام التخاطب مستلزما لصلوح الإطلاق لأن يكون بيانا لتمام المراد لو كان المراد مختصا به.
    لكن الظاهر عدم إرادتهم به ذلك ..
    أولا : لعدم الطريق لإحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بالمعنى المذكور في غالب الإطلاقات ، إذ غاية ما يقتضيه الأصل في حال المتكلم أنه بصدد كون ما بيّن مرادا له ، لا أنه تمام مراده ، بل هو محتاج لعناية خاصة ، كوروده في مقام التحديد ونحوه.
    وثانيا : لأن لازمه ثبوت المفهوم للإطلاق ، فمثلا ، إذ احرز أن المتكلم في مقام بيان تمام الأفراد التي ثبت لها الحكم في قوله : أكرم العالم ، لزم كون أفراد العالم تمام من يجب إكرامه ، ولا يثبت وجوب الإكرام لغيرها ، مع أنه ليس

    بناؤهم على ذلك في الإطلاقات.
    ومنه يظهر أنه لو كان الوجه في استفادة العموم ما ذكره كفى في تصوير المقدمة الآتية بكون المتكلم في مقام بيان مراد له وإن لم يكن تمامه ، مع أنهم مطبقون على أخذ التمامية فيها.
    وثالثا : لأنه بعد فرض عدم صلوح الإطلاق في نفسه لبيان العموم ، وصلوحه لإرادة كل فرد وحده ، لعدم ظهوره في نفسه إلا في الإهمال ، فمجرد كونه في مقام البيان بالنحو المذكور لا يتضح عرفا كونه مصححا على قرينية الصلوح المذكورة في بيان إرادة تمام الأفراد بالإطلاق.
    ومن هنا يتعين حمل مرادهم من كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد على ما تقتضيه أكثر كلماتهم ، وهو كونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض وما يؤخذ في موضع الحكم ، الذي كلما زاد كان موضوع الحكم أضيق وافراده أقل ، لا الاقتصار على بيان بعض ما يؤخذ فيه ، فإذا كان موضوع الحكم هو العالم العادل يكون بيان تمام المراد ببيان دخل العدالة زائدا على العلم ، ولا يكتفى ببيان دخل العلم الذي هو جزء الموضوع ، إذ بناء عليه يكون اقتصار المتكلم على بيان الماهية ظاهرا في كونها تمام الموضوع الذي يفي بالغرض ، المستلزم لثبوت الحكم لتمام أفرادها من دون فرق بين خصوصياتها ، لأن اختصاص الحكم ببعضها مستلزم لدخل خصوصيتها في الموضوع والغرض زائدا على الماهية.
    وهذا المعنى قد يتيسر إحرازه من المتكلم في جملة من الموارد على ما يأتي في المقدمة الرابعة إن شاء الله تعالى.
    كما أنه لا يستلزم ثبوت المفهوم للإطلاق ، لأن كون الماهية تمام الموضوع للحكم بحيث لا يحتاج إلى انضمام شيء آخر إليها في ثبوته لا ينافي كون ماهية اخرى موضوعا له أيضا ، بأن يثبت الحكم لهما معا.

    وحينئذ فوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يكفي في كون الكلام بيانا لتمام المراد لو اختص المراد بالمتيقن المذكور ، لأن كون الكلام بيانا لشمول الحكم للمتيقن المذكور لا يستلزم كونه بيانا لدخل خصوصيته في الحكم ، بل هو موقوف على ذكر ما يدل على التقييد بها ، والمفروض عدمه ، وأن التقييد محتمل واقعا ، لا مدلول للكلام.
    ومن ثم لا يتم ما ذكره في وجه توقف الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بالمعنى المتقدم.
    بل لا مجال للبناء عليه بعد ملاحظة سيرة أهل الاستدلال للمرتكزات الاستعمالية ، ولذا اشتهر أن المورد لا يخصص الوارد ، بل الظاهر المفروغية عن عدم اختصاص الإطلاق بموارد التمثيل ولا بأظهر الأفراد ونحوها مما يكون متيقّنا بلحاظ مقام التخاطب.
    نعم ، يتجه اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لو اريد منه ما يمنع من انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق مما لا يبلغ مرتبة الظهور في التقييد ، كما في مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية عرفا من دون أن يتعين لها ، لما تقدم في المقدمة الثانية من أن للمتكلم ما دام مشغولا بكلامه أن يلحق به ما شاء ، وأن انعقاد ظهور كلامه تابع لتمام ما يشتمل عليه ويحيط به من قرائن حالية ومقالية.
    فوجود ما يصلح للقرينية بالوجه المذكور يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق ، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الوضعية وغيرها.
    ومرجعه إلى عدم بيان تمام المراد بالكلام ، لعدم صلوحه له بسبب وجود المتيقّن بالمعنى المذكور ، لا إلى بيانه به لو كان المراد خصوص المتيقن ، كما تقدم من المحقق الخراساني قدّس سرّه.
    ولذا يتعذر حمل كلامه عليه ، ويتعين حمله على ما تقدم مما عرفت عدم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:32 am

    تماميته.
    الرابعة : كون المتكلم في مقام البيان. من الظاهر أن الغرض من الكلام هو البيان والإفادة للمقاصد ، وعدم كون المتكلم في مقام البيان أصلا إما أن يكون لخروجه عن مقتضى طبيعة الكلام ، الذي هو خلاف الأصل فيه ، أو لغافلته عن صدور الكلام منه ، التي يدفعها أصالة عدم الغافلة ، المعوّل عليها في جميع تصرفات الإنسان وأفعاله. ومن هنا كان بناء العقلاء على كاشفية الكلام عن مقاصد المتكلم وأغراضه.
    إلا أن ذلك بمجرده لا ينفع في محل الكلام ، لوضوح أنه إنما يقتضي كونه بصدد إفادته لمؤداه الذي يصلح لبيانه ويكون قالبا له ، دون غيره مما يخالفه أو يزيد عليه ، وحيث فرض في محل الكلام أن مفاد المطلق وضعا ليس إلا القضية المهملة فاستفادة العموم منها يحتاج إلى مزيد عناية ، ولا يكفي فيها إحراز كون المتكلم في مقام البيان بالوجه المتقدم.
    ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله في تقريب أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو الذي ينفع في التمسك بالإطلاق ورفع احتمال كون القضية مهملة ، قال : «ولو شك في أن المتكلم في مقام البيان أو الإهمال فإن الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان ، فإن العقلاء كما يحملون المتكلم على أنه ملتفت غير غافل ، وجادّ غير هازل ، عند الشك في ذلك ، كذلك يحملونه على أنه في مقام البيان والتفهيم ، لا في مقام الإهمال والإيهام».
    إذ فيه : أن الإهمال إذا لم يكن منافيا لمفاد الكلام ، بل الكلام صالح له بمقتضى وضعه وطبعه ، فلا وجه لجعله في سياق الإيهام الذي هو خلاف طبع الكلام بالتقريب المتقدم. إلا أن يريد بالإهمال ما يساوق الإيهام ، لا مفاد القضية المهملة. لكن نفيه لا يستلزم إرادة العموم بوجه.

    وبالجملة : لا مجال لإرجاع البيان في المقام إلى البيان الذي يقتضيه طبع الكلام ، والذي لا إشكال في أنه مقتضى الأصل عند العقلاء ، كما يظهر من الكلام المتقدم وقد تشعر به بعض كلماتهم الأخر.
    ومن هنا كان مرادهم من هذه المقدمة أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ما يكون دخيلا في موضوع الحكم وترتب الغرض ، لا بمعنى ما ينحصر الموضوع به ويتوقف الغرض عليه ، ليستلزم المفهوم ، بل بمعنى ما يتم به الموضوع ويتحصل به الغرض ـ في مقابل ما يحتاج تمامية الموضوع وتحقق الغرض به إلى انضمام غيره إليه ـ وإن أمكن تحقق الموضوع بغيره ، كما ذكرناه في المقدمة الثالثة.
    وحينئذ فاقتصار المتكلم على بيان الماهية لا يرجع إلى مجرد دخلها في الموضوع والغرض وحصولهما معها في الجملة ولو بانضمام غيرها من القيود إليها ، كما هو لازم القضية المهملة ، بل إلى بيان كونها تمام ما هو الدخيل فيه المستلزم لعموم الحكم وثبوته لتمام أفرادها وفي جميع أحوالها.
    وحيث كان ذلك زائدا على مفاد الإطلاق وضعا ـ بناء على من سبق ـ فقد وقع الكلام في وجه البناء عليه.
    وقد ذكر أو يذكر لذلك وجوه ..
    الأول : ما في التقريرات ، قال : «وهل هناك أصل يرجع إليه عند الشك في ورود المطلق في مقام البيان؟ قد يقال : إن أغلب موارد استعمال المطلقات إنما هو ذلك ، فعند الشك يحمل عليه. وليس بذلك البعيد. فتأمل».
    وفيه : أن الغلبة ـ مع عدم الدليل على حجيتها ـ غير ظاهرة ، إذ لا قرينة في أكثر المطلقات على ذلك ، وغاية ما ثبت ببناء العرف جواز التمسك بها والرجوع إليها في استفادة العموم ـ كما سيأتي ـ فلو كان التمسك بها عندهم مبنيا على هذه المقدمة كشف عن بنائهم على هذه المقدمة بمقتضى الأصل ، لا

    عن غلبة وجودها.
    الثاني : بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام البيان بالنحو المذكور ، لما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن العقلاء كما يحكمون بمطابقة مراد المولى الجدي لاستعماله ، وعدم إرادته خلافه ، كذلك يحكمون بأنه إذا كان له مراد جدي يكون بصدد بيانه ، وكونه بصدد إظهار أمر آخر يحتاج إلى التنبيه ، وحيث كان المراد له غير مهمل بل إما مطلق أو مقيد ، فمع فرض عدم التقييد يتعين كونه هو المطلق ، ولا يبنى على الإهمال.
    وفيه : أن مخالفة المراد الجدي للاستعمال لما كانت على خلاف مقتضى الطبع حسب ما أودعه الله سبحانه من غريزة البيان وجعله يدركه من وظيفة الكلام ، توجه دعوى بناء العقلاء على أصالة عدمها.
    أما القضية المهملة فليست مخالفة للمراد الجدي ، سواء كان هو الإطلاق أم التقييد ، بل مفادها جزؤه الأعم المشترك بين الأمرين ، فالحمل عليها ـ بعد كونها المفاد الوضعي للكلام ـ لا يخالف مقتضى طبع الاستعمال. غاية ما يلزم منه كون المبين بعض المراد ، وليس هو مخالفا للأصل ، إذ كما كان للمتكلم أن لا يبين شيئا من مراده له أن يقتصر على بيان بعضه ، ولم يتضح بناء العقلاء على أنه لو تصدى لبيان مراده في الجملة لزمه استيعابه بالبيان.
    ولذا لو سيق غير الإطلاق لبيان دخل شيء في الحكم واحتمل دخل غيره معه فلا يظن من أحد البناء على عدم دخل غيره للأصل المدعى ، فلو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ، لا يستفاد منه عدم توقفه على غيره ، ولو قيل : لا صلاة إلا بطهور ، لم يستفد عدم دخل غير الطهارة في الصلاة وخصوصية الإطلاق في الأصل المذكور عين المدعى.
    الثالث : بناء العقلاء على أن الأصل في الكلام أن يترتب عليه العمل ، لأن الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل ، ومن الظاهر أن

    القضية المهملة غير صالحة لأن يترتب عليها العمل ، وكذا بيان جزء الموضوع الدخيل في الغرض ، وإنما يترتب العمل مع بيان تمام الموضوع وتمام ما هو الدخيل في الغرض ، وهو لا يكون إلا بحمل القضية على الكلية الذي هو المدعى.
    وفيه .. أولا : أنه لو كان ذلك هو الوجه في بالبناء على كون المتكلم في مقام البيان لزم عدم حمل الإطلاق على العموم في القضايا التي لا يترتب عليها العمل أو يعلم بعدم كون المقصود من بيانها ترتبه ، بل مجرد الإعلام بمضمونها ، كالأخبار التاريخية والقضايا العملية والواقعية الصرفة ، كقولنا : أسلم من في المدينة المنورة قبل الفتح ، ويتبخر الماء إذا كانت حرارته بدرجة كذا ، وتكثر الأمطار في الشتاء ، ونحوها ، مع أن الظاهر عدم الفرق في ظهور المطلق في العموم بين أقسام القضايا.
    كما يلزم عدم حمل الإطلاق على العموم في القضايا التي يقصد من بيانها العمل مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ـ بالمعنى الذي تقدم ظهور كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه فيه ـ كالمورد والتمثيل ونحوهما من القرائن المتصلة الكاشفة عن إرادة بعض أفراد المطلق أو أحواله ، لأن عدم حمل المطلق معه على السريان في تمام الأفراد والأحوال لا يستلزم عدم صلوحه لترتب العمل عليه ، إذ يكفي ترتبه في مورد القدر المتيقن ، وإرادة ما زاد عليه تحتاج إلى قرينة أخرى.
    وقد سبق أنه لا مجال لذلك ، حيث لم يعهد منهم التوقف عن حمل المطلق على العموم لوجود القدر المتيقن المذكور.
    وثانيا : أن كون الغرض من الكلام هو بيان المقاصد مقدمة لاستيفائها بالعمل ليس بنحو يمنع عرفا من الحمل على القضية المهملة ـ المتكلفة ببيان دخل شيء في الموضوع في الجملة ـ إذا كان هو مقتضى الكلام وضعا ، إذ كثيرا

    ما يكون غرض المتكلم مقصورا على ذلك ، إما لعدم كون غرضه من البيان ترتب العمل عليه ، بل مجرد الإعلام بالمضمون اكتفاء ببيان آخر يكفي في ترتب العمل ، أو لعدم إحاطته حين الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في الغرض ـ كما في الموالي العرفيين الذين يمكن في حقهم الجهل ـ أو لتعلق الغرض بتأخير بيان الخصوصيات لوقت آخر ، أو لغير ذلك مما لا يكون الغرض معه من البيان استقلاله بترتب العمل عليه ، ولم يتضح بناء العرف وأهل اللسان على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة ، بنحو يكون الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان الذي يستقل بترتب العمل عليه ، المستلزم لكونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض والموضوع ، فيلزمه حمل الإطلاق على القضية الكلية.
    ولذا لا إشكال في عدم بنائهم على ذلك في غير الإطلاق مما يتضمن دخل شيء في موضوع الحكم والغرض في الجملة ، كما لو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ، نظير ما تقدم في رد الوجه السابق.
    نعم قد يحتفّ بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يترتب عليه العمل فعلا ، فيتعين وروده لبيان تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض ، وحمله على القضية الكلية دون المهملة. كما لو ورد الخطاب بالإطلاق أو غيره مما يدل على دخل شيء في موضوع الحكم عند طلب المكلف من المولى بيان ما يعمل عليه حال فراقه له وعدم توقعه بيانا آخر منه ، أو نحو ذلك. لكن من الظاهر أن حمل الإطلاق على العموم لا يختص بالمورد المذكور.
    الرابع : بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في خصوص الإطلاق.
    وقد استشهد له غير واحد ببناء العرف في محاوراتهم على التمسك بالاطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام صدوره في مقام بيان أصل التشريع من

    دون نظر لبيان ما هو المشروع نظير قول الطبيب للمريض : لا بد لك من استعمال الدواء ، أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(1) ، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الأكل من حيثيتها ، لا من جميع الجهات بحيث لا يجب تطهير محل الإمساك ، ولا يفرق بين أقسام الحيوان المصيد ، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.
    وفيه : أن السيرة المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان إلا إذا ثبت توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في ذلك المقام ، نظير توقفه على عدم التقييد المتصل ، حيث يكشف بناؤهم على التمسك بالإطلاق مع الشك في القرينة على التقييد عن بنائهم على أصالة عدم القرينة. لكن بناءهم على توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد غير ثابت ، بل قد يكون مبنيا على وجه آخر ، ومجرد صحة التمسك به مع إحراز كون المتكلم في المقام المذكور أعم منه ، لإمكان صحته مع عدم إحرازه أيضا للوجه الآخر.
    ومن هنا لا يبعد عدم ابتناء التمسك بالإطلاق على المقدمة المذكورة ، بل هو مبتن على أن الإهمال كالتقييد خلاف الأصل لا يحمل عليه المطلق عرفا إلا بدليل.
    فإن ما تقدم من صحة إرادة المهملة من الإطلاق وإن كان تاما ، إلا أن مصححه لما كان هو الرجوع لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة ، فاللازم النظر في كيفية سيرتهم ، وحيث تقدم أن بناءهم على التمسك بالإطلاق وحمله على العموم ، لظهوره فيه ، ما لم يحتفّ بما يقتضي صدوره لبيان أصل التشريع من دون نظر لخصوصياته أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، تعين
    __________________
    (1) سورة المائدة : 4.

    متابعتهم في ذلك من دون حاجة إلى دعوى ابتنائه على إحراز كونه في مقام البيان من جميع الجهات وبيان تمام المراد ، ثم النظر في وجه إحراز ذلك والتشبث له بما لا ينهض به.
    بل التأمل في المرتكزات العرفية الاستعمالية قاض بأن ورود المطلق في مقام البيان بالنحو المذكور مقتضى ظهوره في العموم والسريان وتابع له ، كالعام الوضعي ، لا من مقدمات الظهور في العموم التي يلزم إحرازها في رتبة سابقة على الظهور فيه من دون أن تستفاد منه ، نظير عدم وجود القيد المتصل الذي هو مقتضى أصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من نفس الكلام.
    ولذا لو ثبت من الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان من دون قرينة على ذلك محتفّ بها الكلام لم ينكشف عدم ظهور المطلق في السريان ، بل الظهور باق وإن سقط عن الحجية.
    بخلاف ما لو ثبت احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد ، حيث ينكشف بذلك عدم الظهور في السريان ، وكذب أصالة عدم القرينة ، لا أن الظهور باق وإن سقط عن الحجية.
    والذى تحصل من جميع ما تقدم : أن حمل الإطلاق على العموم وظهوره فيه لا يتوقف إلا على مقدمات ثلاث ..
    الاولى : عدم اشتماله على التقييد المتصل.
    الثانية : عدم احتفافه بما يصلح للقرينة على التقييد ، وإن لم يكن ظاهرا فيه عرفا ، بل يكون موجبا لإجماله. ويكفي في إحرازهما في فرض الشك أصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان في جميع الموارد من دون خصوصية للإطلاق.
    الثالثة : عدم احتفافه بما يناسب وروده في مقام البيان من خصوص بعض الجهات غير الجهة التي يراد التمسك بالإطلاق من حيثيتها ، وإلا تعين

    الإهمال من تلك الجهة.
    وأما ما عدا ذلك مما عدّ من مقدمات الإطلاق فليس دخيلا فيه.
    كما ظهر مما سبق في المقدمة الاولى أن ما ذكروه من ابتناء اقتضاء مقدمات الإطلاق العموم على قرينة الحكمة ـ حتى سميت بمقدمات الحكمة ـ ليس بلحاظ منافاة عدم إرادة العموم معها للحكمة فعلا ، بل بلحاظ خصوص المقتضيات الأولية بحسب طبع الكلام.
    ومما ذكرنا يظهر حال الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد الذى كثيرا ما يذكرون مانعيته من التمسك بالإطلاق ، فإنه إنما يمنع منه إذا كان مانعا من تمامية إحدى المقدمتين الاوليين ، إما لكونه عرفا بمنزلة القرينة الحالية الظاهرة في التقييد ، أو لكونه صالحا للقرينية عليه وإن لم يكن ظاهرا فيه ، بل يكون موجبا للإجمال. سواء كان ناشئا من كثرة الاستعمال أم غيرها ، كمناسبة الحكم والموضوع.
    أما لو لم يكن بأحد النحوين المذكورين فهو بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق ، كالناشئ من كثرة الابتلاء بالفرد أو من كونه أظهر الأفراد أو نحوهما.
    وأما كثرة الاستعمال في بعض الأفراد الموجبة للاشتراك أو ما يقاربه بنحو يكون كالمجاز المشهور فهي موجبة لإجمال لفظ المطلق وتردده بين الماهية الواسعة والضيقة ، فيلزم الاقتصار على المتيقن.
    وليس ذلك من الانصراف في شيء ، لأنه عبارة عن قصور ظهور دليل الحكم عن بعض أفراد الموضوع ، والمفروض في محل الكلام عدم إحراز عموم مفهوم الموضوع بما هو معنى إفرادي مع قطع النظر عن الحكم ، كسائر موارد إجمال مفردات الكلام.

    الفصل الثالث
    في العام المخصّص
    ذكرنا في مباحث التعارض أنه مع تنافي الدليلين بدوا لو كان أحدهما أظهر من الآخر تعين العمل بالأظهر وتنزيل الآخر عليه من باب الجمع العرفي.
    وعلى هذا يبتني تقديم الخاص على العام مع التنافي بينهما ، لأن الخاص أظهر في مورده من العام ، على كلام تعرضنا له هناك.
    ومحل الكلام في المقام العام والخاص المتنافيان بعد الفراغ عما ذكرنا من تقديم الخاص في مورده على العام بنحو يمنع من البناء على عمومه له ، ولذا كان عنوان البحث العام المخصّص.
    نعم ، محل كلامهم يعم ما إذا كان المخصّص متصلا ، كالوصف والاستثناء ، ولا يختص بما إذا كان منفصلا ليكون من موارد الجمع العرفي الذي أشرنا إليه بسبب تنافي الدليلين.
    إذا عرفت هذا ، فالمعروف عدم سقوط العام عن الحجية رأسا بالتخصيص ، بل يبقى حجة في الباقي غير مورد التخصيص قال في الفصول : «كما عزي إلى أصحابنا ، وعليه المحققون من مخالفينا» ،
    وفي المعالم : «ولا أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا. نعم ، يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه».
    وعن بعضهم أنه أنكر حجيته مطلقا ، أو مع تفصيلات لا مجال لاستقصائها ، والمهم منها التفصيل بين ما إذا كان المخصّص متصلا وما إذا كان

    منفصلا ، فالعام في الأول حجة في الباقي ، دون الثاني.
    وقد احتج منكر الحجية في الباقي مطلقا أو مع التفصيل ..
    تارة : بأن اللفظ حقيقة في العموم ، وهو غير مراد منه بقرينة التخصيص ، وما دونه من المراتب مجازات ، واللفظ صالح لكل منها ، ولا قرينة على تعيين اللفظ المستعمل فيه ، فيبقى اللفظ مجملا.
    واخرى : بأن العام بعد التخصيص غير ظاهر في الباقي ، وما لا يكون الكلام ظاهرا فيه لا يكون حجة فيه.
    هذا ، وقد تقدم في أول الفصل السابق أن التخصيص المتصل نحو نسبة تقتضي قصور الحكم عن مورد التخصيص ، من دون أن تستلزم استعمال العام الوضعي أو الإطلاقي في غير المعنى الموضوع له ، ليلزم المجاز فيه.
    على أنه لو فرض لزوم المجاز فلا إشكال في ظهور العام في إرادة تمام الباقي بعد التخصيص ، وهو كاف في الحجية ، بل المدار عليه لا على الحقيقة.
    ولذا لم يقع الكلام في دلالة القضايا ذات القيود الخاصة كالاستثناء والتوصيف وغيرهما على المنطوق ، ولا في حجيتها فيه ، وإنما وقع الكلام في دلالتها على المفهوم. فتأمل.
    وبالجملة : لا إشكال في أن ثبوت الحكم لتمام ما عدا مورد التخصيص مقتضى الظهور الحجة ، وضعيا كان أو إطلاقيا أو عرفيا.
    هذا ، والظاهر عموم ذلك لما إذا كان التخصيص بقرينة حالية غير لفظية ، قد احتفّ بها الكلام بسبب ظهورها حين صدوره ، بنحو يصلح للمتكلم الاعتماد عليها في البيان ، فإن العام معها ظاهر في إرادة الباقي بلا إشكال.
    غاية الأمر أن الاستعمال معها ..
    تارة : يبتني على حذف التخصيص وتقديره اعتمادا على القرينة ، الذي هو كسائر موارد الحذف والتقدير ليس من المجاز في شيء.

    واخرى : يبتني على التوسع في استعمال الكلام الدال في نفسه على العموم ، لتنزيل التخصيص منزلة العدم ، فيلزم المجاز.
    ولا أهمية لتشخيص موارد كل من القسمين بعد اشتراكهما فيما هو المهم ، وهو ظهور العام في إرادة الباقي ، وحجية الظهور المذكور ومن هنا يلزم صرف الكلام لما إذا كان المخصص منفصلا ، فنقول :
    العمدة في تقريب الإشكال فيه : أن العام في نفسه ظاهر في إرادة العموم ، وحيث كان الخاص منافيا لذلك ، وفرض تقديمه على العام ، فلا بد من رفع اليد به عن ظهور العام في إرادة العموم. ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة تمام الباقي لا من العام بنفسه ، لعدم ظهوره في نفسه إلا في إرادة العموم بتمامه ، دون تمام ما عدا مورد التخصيص ، ولا بضميمة دليل التخصيص ، لأنه إنما يتضمن عدم إرادة مورده من العام ، من دون أن يتضمن شرح المراد من العام.
    نعم ، لو فرض نظره للعام وشرحه للمراد منه تعين البناء على مفاده ، كما لو أمر المولى بإكرام جيرانه ، ونبه بعد ذلك على أنه أراد من عدا زيد منهم.
    لكن الخاص يكون حاكما على العام حكومة بيانية ، وهو خارج عن محل الكلام.
    ثم إنه لا يهم مع ذلك تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص المنفصل حقيقي أو مجازي ، إذ لو كان ظاهرا بنفسه أو بضميمة المخصص في إرادة الباقي كان حجة وإن كان مجازا ، وإن لم يكن ظاهرا فيه لم يكن حجة وان كان حقيقة ، لإمكان إرادة ما دونه الذي هو حقيقة أيضا. وإن كان ربما يتضح الحال فيه من هذه الجهة تبعا للكلام في وجه الحجية الذي هو المهم في المقام.
    هذا ، وقد حاول غير واحد دفع الإشكال في حجية العام في الباقي ، وما ذكر في كلماتهم أو يمكن أن يذكر وجوه :
    الأول : أن الاستعمال في ما دون العموم من المراتب وإن كان مجازا إلا أن

    الترجيح لتمام الباقي بعد التخصيص ، لأنه أقرب للعام مما دونه ، فيتعين الحمل عليه بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي ، وهو العموم.
    وفيه : أنه لا اعتبار في الترجيح لبعض المجازات بالأقربية بحسب المقدار ، بل المعيار فيه الأقربية الذهنية عرفا ، إما لتعارف الاستعمال فيه وكثرته عند عدم إرادة الحقيقة ، أو لقوة المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي ، بحيث ينتقل الذهن منه إليه ، فمثلا إرادة خصوص المنافع من عموم العالم بلحاظ مناسبة العلم للنفع أقرب عرفا من إرادة كل من عدا زيد منه ، وإن كان الثاني أكثر أفرادا أو أقرب مقدارا للعام.
    الثاني : ما في التقريرات من دعوى ظهور العام في تمام الباقي بعد التخصيص ، لأن دلالة العام على أفراده انحلالية ، فدلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على بقية الأفراد. وحينئذ فصرف دليل التخصيص للعام عن دلالته على مورده لا ينافي ظهوره في غيره من افراده ودلالته عليه ، فيلزم العمل به فيه بعد فرض عدم الصارف عنه.
    وفيه : أن دلالة العموم على حكم الأفراد ليست انحلالية ، بل ارتباطية ، لأن العموم ان كان وضعيا فأداة العموم لها مدلول واحد ، وهو العموم ، وإن كان إطلاقيا فمقتضى مقدمات الحكمة كون الماهية تمام الموضوع ، المستلزم لعموم الحكم لتمام أفرادها. وتحليله في القسمين إلى حكم كل فرد فرد عقلي لا عرفي يبتني على استقلال كل منها في كونه مدلولا للكلام ، بنحو يكون للكلام دلالات متعددة ، نظير تعدد المضامين تبعا لتعدد الكلام.
    إلا أن يرجع إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من التفكيك بين الدلالات الضمنية في الحجية.
    بتقريب : أن العام وإن كان له دلالة واحدة على حكم جميع الأفراد بنحو الارتباطية ، إلا أنها لا ترتفع بالمخصّص بعد فرض كونه منفصلا.

    غايته أن المخصص ينافي دلالة العام الضمنية على حكم مورد التخصيص ، فيلزم رفع اليد عنها بعد فرض تقديمه ، ولا ملزم معه برفع اليد عن بقية دلالاته الضمنية على حكم بقية الأفراد ، لأن دلالات الكلام الواحد الضمنية وإن كانت ارتباطية حدوثا وارتفاعا ، إلا أنه لا ارتباطية بينها في الحجية.
    بل هي أولى بعدم الارتباطية في الحجية من الدلالة الالتزامية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية ، حيث تقرر عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية بسقوط الدلالة المطابقية عنها ، وإن كانت تابعة لها ومتفرعة عليها ثبوتا ، وليست كالدلالات التضمنية التي ليس بينها إلا مجرد التلازم من دون تفرع لبعضها على بعض.
    لكن الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدّس سرّه من عدم الارتباطية في الحجية بين الدلالة الالتزامية والمطابقية ، على ما ذكرناه في مبحث التعارض عند الكلام في دلالة المتعارضين على نفي الثالث ، بل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالمعارضة مستلزم لسقوط الدلالة الالتزامية عنها.
    ونظيره المقام ، الراجع إلى الارتباطية في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية ، لا بين الدلالات التضمنية فقط ، لوضوح أن الخاص كما ينافي دلالة العام التضمنية على ثبوت حكمه في مورد التخصيص ينافي دلالته المطابقية على العموم ، فلو بني على بقائه حجة في دلالاته التضمنية على ثبوت حكمه في بقية الأفراد لزم التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية ، الذي هو كالتفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية ، لا أهون منه.
    ومنه يظهر عدم نهوض ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه بدفع الإشكال ، فإنه ذكر أن تخصيص العام بالمنفصل لا يستلزم مجازيته ، لأنه إنما يكشف عن أن المراد بمدخول أداة العموم هو المقيد لا المطلق ، وذلك لا يوجب المجاز ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

    أما الأداة فلأنها موضوعة لعموم ما يراد من المدخول ، فاذا اريد منه المقيد لم تقتض وضعا إلا عموم أفراده.
    وأما المدخول فلأنه موضوع للماهية المهملة الصادقة مع الإطلاق والتقييد ، وإنما تحمل على المطلقة بمقدمات الحكمة ، وغاية ما يلزم من التخصيص هو انكشاف عدم مطابقة مقتضى مقدمات الحكمة لمراد المتكلم ، وأن مراده الماهية المقيدة ، وإن أخل بذكر القيد غفلة أو لمصلحة في إهماله.
    للإشكال فيه : بأنه لما كان مقتضى مقدمات الحكمة كون المطلق تمام المراد من دون دخل أي قيد فيه ، فمع قيام الدليل المنفصل على دخل قيد خاص يكون منافيا لمقتضى المقدمات المذكورة ، وإثبات كون تمام الموضوع هو خصوص واجد القيد الخاص بلا حاجة إلى انضمام قيد آخر مما لا ينهض به الخاص ، ولا العام إلا بناء على التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية ـ وهي الدلالة على كون المطلق تمام المراد ـ والدلالة الالتزامية ـ وهي الدلالة على عدم دخل بقية القيود غير القيد الخاص ـ فتبقى الثانية حجة مع سقوط الأولى ، لمنافاتها للخاص ، وقد سبق المنع منه.
    على أن ما ذكره من الوجه يبتني على أن استفادة العموم لتمام أفراد. المدخول من الأدوات الموضوعة له يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل السابق المنع منه.
    كما سبق هنا أن المهم تحقيق الظهور في إرادة الباقي ، ولا يهم تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص حقيقي أو مجازي.
    الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن العام في مورد التخصيص لا يلزم استعماله في الخصوص ، ليكون مجازا مرددا بين مراتب الخصوص ، بل يمكن استعماله في العموم من باب ضرب القاعدة مع كون الخاص مانعا من حجية ظهوره تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا مصادما لأصل ظهوره في

    العموم ، فيقتصر في الخروج عنه على مورد المزاحمة ، وهو مورد التخصيص ، ويرجع إلى ظهوره في الباقي.
    ودعوى : أن ذلك مجرد احتمال لا يرتفع به إجمال العام ، لاحتمال عدم استعماله في العموم بقرينة الخاص ، بل في بعض مراتب الخصوص التي يلزم بسبب عدم تعيينها الإجمال.
    مدفوعة : بأن مجرد احتمال الخروج بالعام عما وضع له من العموم لا يمنع من الرجوع لأصالة الحقيقة فيه بعد فرض استقرار ظهوره في العموم المطابق لها ، بل يتعين البناء عليه والاقتصار في الخروج عنه على مورد مزاحمته بالخاص ، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه قدّس سرّه.
    ولا يخلو المراد به عن إجمال ، لأن القاعدة إذا كانت مجعولة حقيقة بنحو العموم لبيان الحكم الواقعي امتنع مخالفتها بالتخصيص ، إلا أن يرجع إلى النسخ الذي هو خلاف الفرض.
    ومن هنا فقد يوجه ما ذكره بوجهين ..
    أحدهما : أن العام لم يرد لبيان الحكم الواقعي ، بل الظاهري الذي يكون قاعدة يرجع إليها عند الشك ، فإنه كثيرا ما لا يتسنى بيان الحكم الواقعي بوجه تفصيلي إما لكثرة الخصوصيات المأخوذة فيه بنحو لا مجال معه للمتكلم لاستيعابها بالبيان ولو لخوف ضياعها على المخاطب ، أو لمحذور خارجي في بيان الخصوصيات المأخوذة فيه ، فيبين الحكم الظاهري بوجه عام ثم يبين خلافه في مورد الحاجة.
    مثلا : لو علم المولى أن أكثر الواردين عليه يستحق الإكرام ، وأن من لا يستحقه منهم قليل يعسر ضبطه أو لا يحسن بيانه بعنوان جامع له ، فقد يوجه الخطاب لوكيله بدوا بأن عليه ظاهرا أن يكرم كل من يرد عليه ، منبها له على أنه إذا راى أحدا منهم لا يستحق ذلك أعمله به.

    غايته أن القرينة على ورود العام بالنحو المذكور قد لا تضيع ، وقد تضيع فيحمل العام بدوا على بيان الحكم الواقعي ، وبورود الخاص ينكشف حال العام ويحمل على بيان الحكم الظاهري من باب الجمع العرفي.
    ويشكل : بأن ذلك وان كان وجها للجمع يرفع به التعارض بين الدليلين ، كما أنه يفي بحجية العام في الباقي ، لوجوب الرجوع للحكم الظاهري عند الشك في الحكم الواقعي.
    إلا أنه خلاف الظاهر جدا ، لما فيه من التصرف في موضوع حكم العام بتقييده بالشك في حكمه الواقعي ، وفي نفس حكمه بحمله على التعبد بالحكم ظاهرا في مقام العمل ، لا على جعل نفس الحكم ، كما أن لازمه عدم التنافي بين حكمي العام والخاص وتحكيم الثاني عملا بأقوى الدليلين ، بل شرح الخاص للمراد من العام مع التباين بين حكميهما سنخا ، على وجه يكون ورود الخاص رافعا لموضوع العام.
    وكل ذلك مما تأباه المرتكزات العرفية في الجمع بين الأدلة.
    ومنه يظهر أن هذا الوجه لا يرجع إلى استعمال العام في العموم ، ليكون مقتضى أصالة الظهور والحقيقة ، لأن تقييد الموضوع بالجهل نحو من التخصيص ، كاستعمال العام في الخاص ، ويزيد عليه بأن حمل القضية على إرادة التعبد بالحكم ظاهرا ، لا على جعله واقعا نحو من الخروج بها عما هي موضوعة له وظاهرة فيه.
    ومن هنا كان هذا الوجه خلاف المقطوع به من مرتكزات أهل اللسان ، ولا سيما أهل الاستدلال ، حيث لا إشكال عندهم في أن العام المخصّص من الأدلة الواقعية ، دون الأصول الظاهرية العملية.
    ثانيهما : أن العام وإن تضمن بيان الحكم الواقعي التابع لواقع العنوان المأخوذ في العام مع قطع النظر عن الجهل به ، إلا أنه لم يرد لبيان المراد الجدي

    الذي يجب العمل عليه ، كما هو مقتضى الأصل العقلائي في كلام المتكلم المعبر عنه بأصالة الجهة ، بل لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ، ويخرج عنها في مورد دليل أقوى منها ، تسهيلا لبيان المراد الجدي فيما لو لم يتسن للمتكلم استيعابه بتمام خصوصياته ببيان واحد ، لما تقدم في الوجه السابق ، إذ كما يكون للمتكلم مخالفة بيانه مراده الجدي لتقية أو لمصلحة الامتحان ، كذلك يكون له مخالفته لمصلحة يتعلق بالبيان نفسه.
    وبذلك يظهر الفرق بين هذا الوجه وما قبله ، لابتناء الوجه السابق على ورود العام لبيان المراد الجدي ، وإن كان هو الحكم الظاهري عند الشك ، وابتناء هذا الوجه على تضمن العام الحكم الواقعي من دون أن يكون مرادا جديا ، بل لضرب القاعدة.
    كما أن الرجوع لحكم العام ظاهرا عند احتمال التخصيص على الأول مقتضى نفس الحكم المؤدى بالعام ، أما على الثاني فليس هو مقتضى نفس الحكم المؤدى ، لفرض أن المؤدى هو الحكم الواقعي ، بل مقتضى الغرض من بيان القضية ، وهو ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخصص.
    ودعوى : أنه مع عدم ورود العام لبيان المراد الجدي لا مجال لحجيته في الباقي ، لأن الخاص وإن لم يصلح لبيان عدم إرادة غير مورده بالإرادة الجدية ، إلا أنه لا طريق لإحراز إرادة الباقي بإرادة جدية بعد فرض عدم صدور العام لذلك.
    والتفكيك في أصالة الجهة بالإضافة لأفراد العام مما لا مجال له مع وحدة الاستعمال والبيان. نظير : ما لو علم بصدور العام تقية واحتمل إرادة بعض أفراده بارادة جدية ومطابقة مضمونة فيه للحكم الواقعي.
    مدفوعة بأن مبنى ضرب القاعدة ـ الذي فرض في هذا الوجه ـ على ذلك ، وإلا لم يصلح العام لأن يكون قاعدة يرجع إليها في مقام العمل عند فقد المعارض.

    هذا حاصل ما قد يوجه به كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه. ولعله أقرب إلى كلامه من الوجه السابق ، لظهور كلامه في أن تقديم الخاص لأنه أقوى الدليلين ، لا لأنه رافع لموضوع حكم العام. كما شيد هذا الوجه غير واحد من مشايخنا على اختلاف منهم في بيانه.
    لكنه يشكل ..
    أولا : بأن مرجع ذلك إلى رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ، وليس هو بأولى من رفع اليد عن أصالة الظهور والحقيقة فيه بحمله على الاستعمال في الخصوص.
    بل لعل العكس هو الأولى ، وأن أصالة الجهة مقدمة على أصالة الظهور ، ولذا كان بناء أهل الاستدلال على عدم حمل أحد الدليلين على التقية إلا مع تعذر الجمع عرفا بينهما بالتصرف في ظهور أحدهما أو ظهورهما معا ولو بنحو يلزم المجاز.
    على أن رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ليس بأولى من رفع اليد عنها في الخاص ، بحمله على التقية أو نحوها ، لأن أقوائية الخاص ليست من حيثية جهة ، بل من حيثية ظهوره ، وذلك إنما يقتضي تقديمه على العام من حيثية الظهور مع المحافظة على أصالة الجهة فيهما معا ، لا تقديمه على العام من حيثية الجهة مع المحافظة على أصالة الظهور فيهما معا ، كما هو مقتضى هذا الوجه.
    وثانيا : بأن هذا الوجه لا يصلح لتوجيه الرجوع للعام المخصّص عند الشك في زيادة التخصيص بعد فرض منافاة الخاص له ، لأنه قد اخذ فيه مفروغا عنه ، حيث كان غرضا من العام لم ينظر في وجه ترتبه عليه ، لما تقدم من أن ترتبه عليه بعد البناء على هذا الوجه مقتضى فرض كون الغرض من العام ضرب القاعدة. فهو أشبه بالقضية بشرط المحمول لا تتكفل ببيان وجه ترتب المحمول.

    وهذا بخلاف الوجه السابق ، لأن ابتناءه على حمل العام على الحكم الظاهري مستلزم لعدم التنافي بين العام والخاص الوارد لبيان الحكم الواقعي ، فيكون الرجوع للعام مع الشك في وجود الخاص الآخر مقتضى عموم العام غير المخصص في الحقيقة والذي لا منافي له ، الذي هو حجه بلا إشكال.
    وبالجملة : لا يصح كون الغرض من العام ـ المفروض تضمنه الحكم الواقعي ـ ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في زيادة التخصيص إلا بعد الفراغ عن حجية العام المخصّص ، فلا يصلح لأن يكون توجيها لحجية العام المذكور الذي هو محل الكلام.
    بل لا أثر للبناء عليه مع ذلك بعد عدم وقف الأثر العملي عليه.
    نعم ، لو ابتنى هذا الوجه على مجرد رفع اليد عن أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى مورد التخصيص من دون أن يبتني على كون الغرض منه ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ـ كما قد يظهر من بعض تقريباته في كلماتهم ـ كان بنفسه صالحا لبيان وجه الرجوع للعام المخصص بعد فرض الاستعمال في العموم وجريان أصالة الجهة فيه بالإضافة إلى بقية الأفراد.
    لكن يتوجه عليه حينئذ ما سبق من أنه لا مجال للتفكيك في أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى أفراده مع وحدة الاستعمال والبيان.
    وربما يظهر من بعض كلماتهم تقريب هذا الوجه بأن الخاص لا يقتضي رفع اليد عن ظهور العام في الاستعمال في العموم ، ولا عن أصالة الجهة فيه ، بل عن حجيته في الفرد بإرجاع أصالة الجهة إلى الحجية ، وحيث كان منشأ رفع اليد بالخاص عن حجية العام معارضته له وأقوائيته منه لزم الاقتصار على مورد المعارضة ، دون غيره.
    ويشكل : بأن حجية الكلام متفرعة عن كاشفيته عرفا ـ بمقتضى سيرة أهل اللسان ـ عن مراد المتكلم الجدي التابع للملاك والمستتبع للعمل ، وحيث يمتنع إرادة المتنافيين بالوجه المذكور كان الخاص منافيا للعام لو كان مستعملا في

    العموم بداعي المراد الجدي.
    فإن كان المدعى كاشفيته عن عدم استعمال العام في العموم امتنع العمل بالعام مع عدم تعيين ما استعمل فيه ـ كما قرر في أصل الإشكال ـ
    وإن كان المدعى كاشفيته عن عدم صدور العام بداعي بيان المراد الجدي رجع لهذا الوجه الذي عرفت الكلام فيه.
    وأما رافعيته لحجيته في الفرد من دون أن يكشف عن أحد الأمرين فلا نتعقله.
    الرابع : ما أشار إليه بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه حجية العام المخصص من أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه ، لإمكان أن يراد العموم منه إرادة تمهيدية ، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه.
    وفيه : أن المراد إن كان هو التمهيد بضرب القاعدة التي يرجع إليها تسهيلا للبيان رجع للوجه السابق ، وجرى فيه ما تقدم.
    وإن كان هو التمهيد البياني ، نظير التمهيد بذكر عموم الحكم للمستثنى منه او الموصوف لذكر التقييد بالمستثنى أو الوصف.
    فهو إنما يتم في التخصيص المتصل بهيآت خاصة ويكون المحصل معه من مجموع الكلام مضمونا واحدا عرفا ، وهو إرادة تمام أفراد الباقي ، ولا مجال لذلك في التخصيص المنفصل الذي يكون المحصل منه مضمونا مباينا لمضمون العام عرفا ومنافيا له بنحو لا بد من الجمع بينهما.
    وصحة اتكال المتكلم أو خصوص الشارع على القرائن المنفصلة كالمتصلة لا يصحح التمهيد لها بالنحو المذكور بعد خروجه عن طريقه أهل المحاورة في الاستعمال.
    غاية الأمر أنها تكون صالحة لرفع اليد بها عن مقتضى الظهور المنعقد للكلام الآخر ، ومن الظاهر أنها كما قد تكون قرينة عرفا على تعيين المراد به على خلاف مقتضاه الأول ، كذلك قد تكون موجبة للتوقف في مفاده وصيرورته

    بحكم المجمل ، فلا بد في بيان وجه عدم إجمال العام في المقام بعد النظر في حجة القائلين به.
    ولعل الأولى أن يقال : الوجه في حجية العام المخصّص في الباقي بناء أهل المحاورة على ذلك وسيرتهم القطيعة الارتكازية التي جرت على طبقها سيرة العلماء في مقام الاستدلال من صدر الإسلام إلى يومنا هذا بمقتضى طبعهم من غير نكير منهم ولا توقف.
    ولا يعتنى بخلاف من تقدم لشبهة حصلت له بعد شذوذه وخروجه عن سيرتهم وسيرة أهل المحاورة ، التي لولاها لاختل نظام الاستدلال واستنباط الأحكام ، لكثرة التخصيص في العمومات ، حتى قيل : ما من عام إلا وقد خص.
    وكفى بسيرة أهل المحاورة وارتكازياتهم حجة في المقام ، لأنها الدليل على حجية الظواهر الكلامية في جميع الموارد.
    والظاهر ابتناء حجية العام في الباقي عندهم على صرف العام للباقي بعد تعذر إبقائه على عمومه بسبب الخاص ، لا لكون الخاص ناظرا له وشارحا للمراد منه ، ولا لكون الباقي أقرب المجازات ، ولا لكون دلالة العام على أفراده انحلالية ، ولا لبقية الوجوه المتقدمة ، لما سبق من الإشكال فيها.
    بل لكون العام بنظر العرف من سنخ المقتضي للكشف عن إرادة المتكلم لأفراده وأحواله ، فلا يرفع اليد عنه فيها إلا في مورد المزاحمة بالخاص ، عملا بالمقتضي ما لم يثبت المانع ، بناء منهم على التفكيك بين الأفراد والأحوال في استكشاف مراد المتكلم من العام ، لخصوصية في العام ، لا لعموم التفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية.
    نعم ، لا بد من كون الباقي صالحا لأن يحمل العام عليه عرفا ، ولا يكون سوقه لأجله مستنكرا عند أهل المحاورة ومستهجنا لديهم ، وإلا امتنع حمل العام عليه ، ولزم الجمع بوجه آخر إن أمكن ، وإلا كان التعارض بين العام والخاص مستحكما ، كما لو لزم تخصيص الأكثر أو أظهر الأفراد أو المورد أو

    غيرها. كما لا بد من تعيين الخاص للتقديم عرفا في مقام الجمع بينهما ، فلو كان هناك وجه آخر صالح لأن يبنى عليه في مقام الجمع تعين اختياره ان كان أقرب عرفا ، ولزم التوقف مع عدم المرجح لأحدهما.
    وحيث لا ضابط لذلك تعين إيكاله لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة ومحاولة الجمع بينها. إلا أن المفروض في محل الكلام تقديم الخاص ورفع اليد به عن عموم العام ، كما سبق في أول الفصل.
    هذا ، وبعد الفراغ عن تقديم الخاص على العام ، وحجية العام في الباقي معه ، فالعام المخصص يبتني صدوره ثبوتا ..
    تارة : على التسامح والتوسع في العموم بتنزيل الأفراد الخارجة بالتخصيص منزلة العدم لقلتها أو عدم الاعتداد بها ، أو في اللفظ الدال على الماهية بارادة المقيد منها مجازا ، لقرينة اختفت علينا.
    واخرى : على وجود قرينة على التخصيص المتصل ، الذي تقدم أنه لا يبتني على المجاز ، وقد اختفت تلك القرينة أيضا ، وعلى الوجهين لا يكون العام ظاهرا في العموم حين صدوره ، وإن ظهر فيه بعد ذلك بسبب اختفاء القرينة والتعويل على أصالة عدمها.
    وثالثة : على كون الداعي من بيان العام الظاهر في العموم حين صدوره ضرب القاعدة التي يرجع إليها في مقام العمل اعتمادا على البيان المنفصل وقت الحاجة ، وإن لم يكن العموم مرادا جديا ... إلى غير ذلك مما يمكن ثبوتا ، وإن لم يدركه العرف في مقام الجمع بين العام والخاص ، بل لا يدركون إلا مجرد صرف الخاص للعام عن مورده إلى الباقي ، وحجيته فيه لأجل ذلك ، لأن ذلك هو المهم الذي يناط به العمل ، فيقتصر نظر العرف عليه ، وما سواه امور واقعية لا دخل لها في العمل قد تدرك بدليل خارج وقد لا تدرك.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:34 am

    الفصل الرابع
    في إجمال الخاص واشتباهه
    لا إشكال في أن التمسك بالدليل في مورد فرع إحراز موضوعه فيه ، فلا يتمسك به مع عدم إحرازه للشبهة الموضوعية أو لإجمال الدليل بنحو الشبهة المفهومية أو غيرها.
    ومن هنا لا إشكال في عدم حجية كل من العام والخاص مع عدم إحراز عنوانه. وإنما الإشكال والكلام بينهم في حجية العام بعد إحراز عنوانه في مورد إجمال الخاص والشك في تحقق عنوانه.
    هذا ، وحيث سبق أن المخصّص المتصل مانع من انعقاد ظهور العام في العموم تعين عدم حجية العام في مورد اشتباه الخاص المتصل وإجماله مطلقا لسريان إجمال الخاص المذكور للعام ، ويكون العام مجملا بالإضافة إليه حقيقة ، كما لو كان الإجمال والاشتباه في عنوان العام بنفسه.
    ومن هنا ينبغي جعل موضوع الكلام اشتباه الخاص المنفصل الذي لا يسري إجماله إلى العام حقيقة ، ولا يمنع من انعقاد ظهوره في العموم الذي عرفت أنه المقتضي للحجية.
    إذا عرفت هذا ، فإجمال الخاص واشتباهه في بعض الموارد ..
    تارة : يكون للشبهة المفهومية.
    واخرى : للشبهة المصداقية ، بسبب اشتباه الامور الخارجية مع وضوح المفهوم وعدم إجمال معنى الخاص.

    فيقع الكلام في مقامين ..
    المقام الأول
    في الشبهة المفهومية.
    والمعيار فيها خفاء المراد بالخاص ، إما لإجمال مفهوم عنوانه لغة أو شرعا أو عرفا ، أو لاحتفافه بما يمنع من انعقاد ظهوره ويوجب إجماله.
    بل يكفي إجماله حكما مع انعقاد ظهوره بدوا ، بسبب القرائن المنفصلة الكاشفة عن عدم إرادة ظاهره به ، وأن المراد به أمر آخر مورد للإجمال.
    ولا يخفى أن الإجمال بأحد الأنحاء المذكورة ..
    تارة : يكون للتردد بين الأقل والأكثر ، حيث يكون الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كما لو تردد الفاسق بين مطلق العاصي وخصوص مرتكب الكبيرة ، حيث يكون مرتكب الصغيرة فقط موردا للاشتباه ، وكما لو تردد المسافر بين مطلق من خرج عن بلده وخصوص قاطع المسافة بنحو يوجب التقصير شرعا.
    واخرى : يكون للتردد بين المتباينين ، لاشتراك أو غيره ، كما لو تردد زيد بين رجلين.
    ومنه ـ إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، كما لو تردد الشريف بين العلوي وذي الشأن والمقام الاجتماعي ، لأن مورد الاجتماع وإن كان متيقنا من الخاص ـ نظير صورة التردد بين الأقل والأكثر ـ إلا أن تباين موردي افتراق كل منهما ، والعلم بارادة أحدهما إجمالا كاف في جريان حكم المتباينين ، إذ لا أثر لوجود المتيقن في محل الكلام ، حيث لا إشكال في حجية الخاص دون العام فيه ، وإنما الإشكال في حجية العام في مورد الشك ، الذي قد يختلف حاله مع العلم الإجمالي.

    أما في الصورة الاولى ـ وهي التردد بين الأقل والأكثر ـ فالظاهر ـ تبعا لما صرح به جماعة ـ هو حجية العام في مورد الإجمال والاشتباه.
    لما تقدم من أن سقوط العام عن الحجية في مورد الخاص المنفصل ليس لارتفاع ظهوره فيه ، ولا لكشفه عن عدم استعماله في العموم ، بل لمزاحمة ظهوره فيه بما هو أقوى منه ، وما يكون عرفا من سنخ الرافع لمقتضي حجيته.
    وذلك لا يتم بالإضافة إلى مورد إجمال الخاص ، لأن الخاص لا يكون حجة إلا فيما هو ظاهر فيه ، وهو الأقل المتيقن ، دون مورد الإجمال والاشتباه ، فلا يصلح لمزاحمة العام ، الذي تقدم أنه المقتضي للحجية ، بل يتعين العمل فيه بالعام ، لعدم جواز رفع اليد عن المقتضي في المقام ، إلا مع ثبوت المانع. فمورد الإجمال في المقام كسائر موارد الشك في التخصيص الزائد ، الذي تقدم حجية العام المخصص فيها. ومجرد احتمال شمول التخصيص المعلوم له لا يصلح فارقا بينه وبينها بعد فرض عدم حجية الخاص فيها.
    ودعوى : أن الخاص وإن كان مجملا يكشف عن عدم إرادة أفراده من العام ـ وإن كان العام ظاهرا في إرادتها ـ فمع فرض إجماله لا يعلم بإرادة مورد الإجمال من العام ، فلا وجه لحجيته فيه.
    مدفوعة : بأن كشف الخاص عن عدم إرادة أفراده من العام بنحو يلزم برفع اليد عن ظهور العام فيها لما كان بملاك تقديم أقوى الحجتين كان متفرعا على حجيته في أفراده ، فمع فرض عدم حجيته في مورد الإجمال لا يصلح للكشف عن عدم إرادته من العام ، ليرفع به اليد عن مقتضى الحجية فيها.
    نعم ، لو كان الجمع بين العام والخاص مبتنيا على كون الخاص قرينة على استعمال العام في ما عداه ، خروجا به عن معناه الموضوع له فقد تتجه الدعوى المذكورة ، حيث يلزم إجمال المعنى المستعمل فيه العام وعدم وضوح شمولاه لمورد الاشتباه بعد فرض عدم استعماله في ما هو ظاهر فيه في نفسه ، فلا أثر

    لشمولاه للمورد المذكور ، نظير : ما لو وجب إكرام العالم ، ثم قامت القرينة الخارجية على عدم استعمال العالم في معناه الحقيقي ، بل اريد منه مجازا معنى مرددا بين خصوص العامل به في نفسه النافع به لغيره ، ومطلق العامل به وإن لم ينفع به غيره.
    لكن سبق عدم ابتناء الجمع بينهما على ذلك ، بل على تقديم الخاص بملاك تقديم أقوى الحجتين ، فيقصر عن مورد الإجمال ، كما تقدم ، وينفرد به العام.
    بل قد يدعى أن العام يكون بيانا للخاص وشارحا له ، لأن العام حيث يكون حجة في مورد الإجمال وصالحا للكشف عن كونه مرادا جديا منه فاللازم عدم إرادته من الخاص وقصوره عنه.
    لكن الظاهر عدم تمامية ذلك ، لعدم نظر العام للخاص ، ليكون بيانا شارحا للمراد منه ورافعا لإجماله.
    وأصالة العموم وإن اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك ، إلا أنها لا تنهض بشرح المراد من الخاص وتعيين مفهومه ، وإن كان لازما له ، لعدم وضوح بناء العقلاء على ذلك الذين هم المرجع في تحديد مقتضى أصالة العموم ، وقد تقرر في محله أن حجية الأمارة في لازم مؤداها سعة وضيقا تابع لبناء العقلاء الذي هو المعيار في حجيتها.
    وإن شئت قلت : المتيقن من بناء العقلاء على أصالة العموم هو الرجوع إليها في إجراء حكم العام في مورد الشك في التخصيص ، دون ترتيب جميع لوازم ذلك بما فيها شرح مفاد الأدلة الأخر ورفع إجمالها ، وبيان مفاهيم العناوين المأخوذة فيها.
    كيف ولازم ذلك ارتفاع الإجمال في عنوان الخاص بلحاظ جميع أحكامه ، حتى غير حكم الخاص! ولا يظن من أحد البناء عليه.

    ولعله يأتي نظير ذلك في بعض المباحث المتعلقة بالمقام.
    وأما في الصورة الثانية ـ وهي الدوران بين المتباينين ـ فالظاهر سقوط العام عن الحجية في كل طرفي الترديد بخصوصه ، للعلم الإجمالي بإرادته من الخاص ، فيكون الخاص حجة فيه إجمالا ، بنحو يمنع من جريان أصالة العموم في كل منهما بخصوصه ، للعلم الإجمالي بكذبها معه ، مع عدم المرجح لأحدهما بعد كون نسبتهما لكل من العام والخاص بنحو واحد.
    ولا مجال لقياسه بالعلم الإجمالي بكذب الأصل العملي في أحد الموردين إجمالا ، حيث تقرر في محله جريان كل منهما وترتب الأثر عليه ما لم يلزم مخالفة عملية لعلم إجمالي منجز.
    للفرق بينهما بأن لأدلة الاصول العملية إطلاقا يشمل أطراف العلم الإجمالي من دون محذور في التعبد الظاهري على خلاف العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزا ، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.
    بل لا يلزم التكاذب بين التطبيقين حقيقة بلحاظ ذلك.
    أما أصالة العموم فليس الدليل عليها إلا بناء العقلاء ، وهو يقصر عن صورة العلم الإجمالي بالكذب بعد كون مفاد العام حكما واقعيا ، وثبوته في أحد طرفي الترديد بمقتضى عموم العام مستلزم لانتفائه في الآخر ، فيلزم التكاذب بين تطبيقي العام في كلا طرفي الترديد بلحاظ المدلول الالتزامي المذكور.
    ولا أقل من الشك في بناء العقلاء على الرجوع لأصالة العموم حينئذ ، حيث يلزم التوقف عنها بعد انحصار الدليل عليها به.
    نعم ، الظاهر أنها إنما تقصر عن كل منهما بخصوصيته ، لا عن أحدهما إجمالا ، لأن الخاص إنما يكون حجة في أحدهما إجمالا ، لا في كليهما ، والتوقف في كل منهما بخصوصه إنما هو لعدم المرجح ، لا بنحو يمنع من حجية العام في أحدهما إجمالا ، لأصالة العموم.

    فيلزم البناء على ثبوت حكم العام كذلك وترتيب أثره من وجوب الاحتياط ـ لو كان تكليفا ـ وغيره.
    وعلى ذلك يلزم الرجوع إلى قواعد العلم الإجمالي في طرفي الترديد ، فإن كان حكم الخاص إلزاميا دون العام ، أو بالعكس ، أو كلاهما إلزاميا من دون تناف عملي بينهما ـ كما لو تضمّن أحدهما وجوب الإكرام بديا نار والآخر وجوب الإكرام بثوب ـ لزم الاحتياط في الفردين على طبق الحكم الإلزامي المفروض ، وان كان كلاهما إلزاميا مع التنافي بينهما عملا ـ كما لو تضمن أحدهما وجوب الإكرام والآخر حرمته ـ امتنع الاحتياط ، وكان كلا الطرفين موردا للدوران بين محذورين ، الذي تحقق في محله أن حكمه التخيير.
    إلا أن يكون هناك دليل أو أصل آخر مانع من منجزية العلم الإجمالي ، وشارح للوظيفة في كل من الفردين بنحو لا ينافي العلم الإجمالي المذكور. على ما يذكر في محله من مباحث العلم الإجمالي.
    ونظير ذلك ما لو علم إجمالا بالتخصيص في أحد فردين من عام واحد أو عمومين ، لا لإجمال المخصص الواحد ـ كما هو محل الكلام ـ بل للعلم الإجمالي بصدور أحد الخاصّين أو حجيته ، لعين الوجه المتقدم.
    بل الظاهر جريانه أيضا فيما لو دار الأمر بين التخصيص في أحدهما المردد والتخصيص في كليهما ، فإن التخصيص المعلوم إجمالا واحد ، وهو وإن لم يحرز تعينه واقعا ، لاحتمال ثبوت التخصيصين معا ، ولا مرجح لأحدهما في انطباق التخصيص المعلوم عليه ، إلا أن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم إجمالا وإن لم يكن له تعين واقعي.
    ولازمه البناء على ثبوت حكم العام في أحد طرفي الترديد ، فيجري فيه ما سبق من مقتضى العلم الإجمالي. فلاحظ.

    تنبيه :
    قد يكون الدليل المجمل مرددا بين معنيين يلزم تخصيص العام من أحدهما دون الآخر ، كما لو ورد : يجب إكرام كل فقيه ، وورد : لا يجب إكرام زيد ، وتردد زيد بين شخصين أحدهما فقيه والآخر نحوي ، أو ورد : لا يجب إكرام أولاد عمرو ، وورد : يجب إكرام زيد ، وتردد زيد بين أحد أولاد عمرو وغيره.
    وحينئذ لا إشكال في أن الدليل المجمل المذكور لا ينهض بتخصيص العام ، بل مقتضى أصالة العموم في العام إرادة فرده الذي هو طرف الترديد.
    نعم ، إن كان ثبوت الحكم للفرد الآخر منافيا لعموم آخر ، كما لو ورد المثال الأول عموم وجوب إكرام النحوي أيضا ، لزم العلم الإجمالي بتخصيص أحد العمومين الذي تقدم الكلام فيه.
    وأما إن كان منافيا لأصل عملي ، كما في المثال الثاني المتقدم ، لأن مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب إكرام الشخص المذكور ، فلا يبعد لزوم رفع اليد عن الأصل المذكور ، لأن الدليل المذكور وإن لم ينهض بنفسه لرفع اليد عن الأصل بسبب إجماله ، كما أن العام لا يصلح لشرح المراد منه بنحو يرفع إجماله ، لما سبق من قصور العموم عن ذلك ، إلا أن الخاص لما كان بنفسه حجة على ثبوت حكمه لمورده على إجماله ، والعام حجة على ثبوت حكمه لفرده الذي هو طرف الترديد ، وكان لازم ثبوت حكمه لفرده المذكور ثبوت حكم الدليل المجمل للفرد الآخر ، كان العام حجة بمدلوله الالتزامي على ذلك ، لأن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في مثل هذا من لوازم مؤداه ، فيكون حاكما على الأصل الجاري في الفرد المذكور.
    ومن هنا لا مجال للبناء على التوقف عن عموم العام في فرده المذكور وعن الأصل العملي في الفرد الآخر ، لدعوى : مخالفة مؤداهما للعلم الإجمالي بثبوت التكليف في أحد الفردين من دون مرجح لأحدهما. فتأمل جيدا.

    المقام الثاني
    في الشبهة الموضوعية
    وقد اختلف كلماتهم في حجية العام في مورد الاشتباه بين القول بحجيته مطلقا ، وبعدمها كذلك ، وبالتفصيل بوجوه مختلفة يأتي الكلام فيها.
    ومحل كلامهم ـ حسبما يظهر من حججهم ـ هو صورة الشبهة البدوية.
    أما مع العلم الإجمالي بفردية أحد فردين للخاص فالظاهر عدم الإشكال بينهم في جريان حكم العلم الإجمالي بالتخصيص الذي تقدم الكلام فيه في المقام الأول ، لعدم الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية فيه ، وإنما لم يتعرضوا لذلك لوضوحه ، وليس الإشكال إلا من حيثية الشك بنفسه مع قطع النظر عن الخصوصيات الزائدة عليه ، لاختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية فيه.
    نعم لو دار الأمر بين فردية فرد واحد للخاص وفردية فردين فالشك في فردية الثاني من صغريات الشبهة البدوية التي هي محل الكلام ، ولا مجال للجزم فيها بحجية العام ، كما تقدم في المقام الأول ، لابتنائه هناك على المفروغية عن حجية العام مع الشك في التخصيص بنحو الشبهة الحكمية.
    إذا عرفت هذا ، فالظاهر عدم حجية العام في الشبهة المذكورة مطلقا ، وأن ما قيل بحجيته فيها من الموارد إما غير تام أو خارج عنها حقيقة.
    والوجه في ذلك : أن التمسك بالعام ـ بل بكل دليل ـ في مورد إنما هو بعد الفراغ عن تعيين المراد الجدي به ، بحيث ينقح به موضوع الحكم المستلزم له ثبوتا ، ثم إحراز تحقق ذلك الموضوع في ذلك المورد بالوجدان أو بدليل آخر.
    فالتمسك بالعام يبتني على قياس اقتراني مؤلف من كبرى حملية تتضمن موضوع الحكم الملازم له ثبوتا يستفاد من الدليل كون مضمونها مرادا بالإرادة

    الجدية ، وصغرى حملية تتضمن ثبوت الموضوع المذكور في الموارد الذي يراد الرجوع للدليل فيه.
    فإذا ورد : أكرم كل عالم ، فلا بد في التمسك به لوجوب إكرام زيد أن يحرز ..
    أولا : المراد الجدي منه ، لينقح به موضوع الحكم الواقعي.
    وثانيا : تحقق الموضوع المستفاد من ذلك في زيد. ولا يكفي إحراز أن زيدا عالم في وجوب إكرامه إذا لم يحرز تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، فضلا عما إذا احرز عدم تعلقها به. ولذا لو كان العموم مخصصا واحرز دخول زيد في الخاص لم ينهض العموم بإثبات وجوب إكرامه بلا إشكال.
    وحينئذ حيث كان مقتضى العام والخاص عدم تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، بل بما عدا مورد الخاص منه ، لا وجه للاكتفاء بإحراز عنوان العام في مورد الشك في تحقق عنوان الخاص ، لعدم إحراز موضوع الحكم الواقعي المستلزم له ثبوتا بذلك.
    ولا أثر لإحراز عنوان العام بعد ثبوت عدم كونه تمام الموضوع ، إذ لا يكفي في ترتب الحكم إحراز جزء الموضوع قطعا.
    وبعبارة اخرى : التوقف عن حكم العام في الفرد ليس لحجية الخاص فيه ، بل لحجيته بعد فرض عدم الإجمال فيه في شرح المراد من العام وتحديد موضوع حكمه وتخصيصه بما عدا أفراد الخاص الواقعية ، فمع فرض عدم ظهور حال الفرد من هذه الجهة يتعين التوقف فيه عن حكم كل من العام والخاص بعد عدم إحراز موضوعه الواقعي المتحصل بعد الجمع بين الأدلة.
    نعم ، لو كان الخارج عن العام واقعا خصوص ما علم كونه من أفراد الخاص اتجه حجية العام في مورد الشك وخرج عن محل الكلام ، لرجوعه إلى اليقين بعدم فردية مورد الشك من الخاص.

    لكن ذلك إن ابتنى على ظهور الخاص في نفسه في الاختصاص ، فهو مخالف لإطلاق دليله.
    وان ابتنى على تنزيل الخاص على ذلك في مقام الجمع بينه وبين العام ، فلا وجه له بعد فرض إطلاق الخاص وكون الفرد المذكور كسائر أفراد الخاص موردا للتنافي بينه وبين العام المفروض تقديمه عليه.
    كما أنه لو احرز خروج الفرد عن الخاص بدليل آخر أو بأصل فالمتجه البناء على ثبوت حكم العام على ما يأتي الكلام فيه في ذيل الكلام في المسألة. لكنه خارج عن محل الكلام.
    وربما يوجه المدعى بوجه آخر يرجع لما تقدم ، حاصله : أن العام كسائر الأدلة إنما يكون حجة على مضمونه المراد منه جدا ، المستكشف به باستقلاله أو بضميمة القرائن الخارجية ، ومنها الخاص ، وهو في المقام الحكم التابع للموضوع بما له من حدود مفهومية ، ولا يكون بنفسه حجة على ثبوت الحكم للفرد ، لعدم تعرضه له بوجه ، وانما يبني على ثبوت حكمه في الفرد لأن ذلك مقتضى طبيعة نفس الحكم المستفاد منه والمضمون المؤدى به ، الذي هو حجة فيه ، فإن ثبوت الحكم للموضوع بضميمة تحقق الموضوع في الفرد يقتضي ثبوت الحكم للفرد.
    وحينئذ بعد فرض كون مقتضى الجمع بين العام والخاص قصور موضوع حكم العام عن بعض أفراد عنوانه ـ وهو الداخل في الخاص واقعا ـ واختصاصه بما عداه ، فملازمة الحكم للموضوع إنما تنفع في إثبات الحكم للفرد بعد إحراز الموضوع الحقيقي فيه ، وهو المتحصل بعد التخصيص ، ولا يكفي فيه إحراز عنوان العام الذي ثبت عدم كونه تمام الموضوع.
    ولا مجال لقياسه بصورة إجمال مفهوم الخاص ، لأن كلا من العام والخاص لما كان متعرضا للحكم ، وكانا متنافيين في تحديد موضوعه ، فمع

    فرض عدم حجية الخاص في مورد الإجمال يتعين حجية العام في إحراز عموم موضوع الحكم له ، لظهوره فيه من دون معارض ، فمع إحراز تحققه في الفرد يتعين ثبوت الحكم له.
    هذا ، ويظهر من التقريرات الاستدلال لعدم حجية العام في المقام بأن العام لا يصلح لرفع الشك في المصداق المشتبه ، ولا يكون بيانا على خروجه عن أفراد الخاص ، لعدم سوق الكلام له ، وعدم كون بيانه وظيفة للمتكلم.
    ولا يخفى أن الاستدلال بذلك إنما يتجه بعد الفراغ عن توقف الرجوع للعام في الفرد المشتبه على رفع الشك المذكور فيه.
    وبعد تسليم ذلك لا يظن من أحد التوقف في عدم حجية العام ليحتاج للاستدلال المذكور ، وإن كان قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه نهوض العام برفع الاشتباه ، كما يأتي.
    والظاهر أن عمدة أدلة القائلين بحجية العام ترجع إلى حجيته مع بقاء الاشتباه في الفرد ، نظير حجيته مع إجمال المخصص مفهوما ، حيث تقدم أن العام حجة وإن لم ينهض بشرح حال الخاص ، وأنه شامل لمورد الشك أولا.
    ومن ثمّ كان الأنسب في الاحتجاج على المدعى ما ذكرنا. فلاحظ.
    لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه العكس ، فقد ذكر أن العمدة في المنع عن التمسك بالعام ما سبق من التقريرات ، وأنه لولاه تعين حجية العام في مورد الاشتباه ، لأن دليل التخصيص لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع للحكم ، بل يبقى عنوان العام على ما هو عليه من الموضوعية والتخصيص لا يكشف إلا عن خروج مورده عن حكم العام ، دون أن يقتضي إضافة جزء آخر متمم للموضوع ، وذكر أن هذا هو الفرق بين التخصيص والتقييد ، فإن تقييد الإطلاق يوجب رفع اليد عن ظهور المطلق في كون عنوانه تمام الموضوع ، ويكشف عن كون عنوان القيد متمما لموضوع

    حكم المطلق ، بخلاف التخصيص ، فإنه لا يقتضي إلا رفع اليد عن عموم الحكم مع بقاء عنوان العام تمام الموضوع لحكمه.
    وحينئذ لا مانع من التمسك بالعام في الفرد المشتبه بعد فرض إحراز عنوان العام فيه الذي هو تمام الموضوع لحكمه ، وعدم إحراز خروجه بالتخصيص ، لعدم إحراز عنوانه. وإنما يتجه ذلك في المطلق إذا ثبت تقييده وشك في دخول أفراده تحت المقيد ، لما تقدم من عدم كون المطلق حينئذ تمام الموضوع.
    وكأن مبنى الفرق الذي ذكره بين التخصيص والتقييد على ما قد يدعى من أن أداة العموم تكشف عن كون مدخولها الماهية المطلقة ، وحيث كان التخصيص منافيا لسريان الحكم في أفرادها تعين حمل الخاص على الإخراج من دون أن يكشف عن إرادة الماهية المقيدة من الدخول ، لمنافاته للأداة. أما في المطلق فاستفادة إرادة الماهية المطلقة لما كان بسبب مقدمات الحكمة ، وكان ورود المقيد مانعا من التعويل على المقدمات المذكورة ، تعين كشف المقيد عن إرادة الماهية المقيدة من المطلق المستلزم لدخل القيد في موضوع الحكم.
    هذا ، ولا يهم الكلام في تمامية الفرق المذكور ، وإنما المهم تحقيق حال ما ذكره في التخصيص ، فانه لا يخلو عن غموض.
    إذ المراد بالموضوع في كلامهم ما يكون بمنزلة العلة التامة للحكم ، بحيث يستلزمه ولا يحتاج ثبوت الحكم معه إلى امر آخر. وحينئذ يكون الجمع بين كون عنوان العام تمام الموضوع للحكم وعدم ثبوت الحكم لأفراد الخاص كالجمع بين النقيضين.
    إلا أن يريد بكون العام تمام الموضوع أنه تمام الموضوع العنواني بمعنى أن دليل التخصيص لا يقتضي إضافة عنوان لموضوع الحكم غير عنوان العام يكون قيدا فيه ، بل مجرد خروج مورده المستلزم لعدم ثبوت الحكم لتمام أفراد

    الموضوع العنواني ، وعدم كونه تمام الموضوع بالمعنى الأول المتقدم منهم.
    وهو حينئذ أمر معقول في نفسه يأتي الكلام فيه في ذيل المسألة ، إلا أنه لا ينفع في حجية العام في ما نحن فيه ، لأن إحراز الموضوع العنواني في الفرد إنما يقتضي ثبوت الحكم له إذا احرز كونه موضوعا بالمعنى الأول المتقدم ، بحيث يثبت الحكم لجميع أفراده ـ ليترتب معه شكل قياسي بالنحو المتقدم ـ لا في مثل المقام مما فرض فيه خروج بعض الأفراد منه ، واحتمل كون الفرد من القسم الخارج.
    ثم إنه قدّس سرّه قد أشار في مقالاته إلى دفع الإشكال الذي ذكرناه بقوله : «كما أن مجرد كون المخصص موجبا لتضييق دائرة حجية العام بغير ما انطبق عليه مفهومه ـ ومع الشك في مصداق المخصص يشك في انطباق الحجة من العام عليه أيضا ـ لا يوجب رفع اليد عن العام بالمرة ، إذ العام إنما خرج عن الحجية من جهة الشبهة الحكمية. وأما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فلا قصور للعام بعد صدقه على هذا الفرد أن يشمله ، وبالملازمة يستكشف بأن المشكوك خارج عن مصداق الخاص ...».
    وهو كما ترى! لوضوح أن الملازمة لو كانت كافية في مثل ذلك ـ وغض النظر عما تقدم في نظير المقام ـ فمن الظاهر أن الخروج عن مصاديق الخاص ليس ملازما لعنوان العام المفروض إحرازه في الفرد المشتبه ، بل لحكمه المفروض الشك فيه ، وقد سبق أن العام إنما يكون حجة على إثبات حكمه في الفرد بعد حجيته على تحديد الموضوع الواقعي للحكم ، وإحراز ذلك الموضوع في الفرد ، وحيث كان العام قاصرا عن أفراد الخاص الواقعية ـ بمقتضى فرض التخصيص واعترف به في الإشكال ـ لم يكن حجة في إثبات حكمه للفرد المشتبه ، ليتعدى منه للازمه ، وهو خروجه عن مصاديق الخاص.
    وبعبارة اخرى : حجية العام في الشبهة الموضوعية فرع حجيته في الشبهة

    الحكمية ، لما تقدم من أن التمسك به في الفرد إنما هو بعد إحراز كونه من مصاديق موضوع الحكم الذي يكون العام حجة فيه ، وحيث فرض قصور موضوع الحكم المتحصل بعد التخصيص وعدم إحرازه في الفرد لا وجه لحجيته العام فيه على إثبات حكمه ، ليتعدى من ذلك إلى إحراز خروجه عن الخاص بضميمة الملازمة المذكورة.
    على أنه إذا كانت حجية العام في حكم الفرد المشتبه موقوفة على إحراز خروجه عن الخاص لزم إحرازه في مرتبة سابقة على حجيته فيه ، وإحرازه في مرتبة لاحقة بضميمة الملازمة دوري ، وإن لم تكن موقوفة عليه فلا أهمية لإثبات نهوض العام بإحرازه بضميمتها ، لأن المهم إنما هو إثبات الحكم في الفرد المشتبه.
    وبالجملة : الظاهر عدم الإشكال في عدم نهوض العام بإثبات خروج الفرد عن عنوان الخاص ، لعدم تعرض العام إلا لثبوت حكمه في فرض ثبوت موضوعه ، من دون نظر لتنقيح موضوعه ، فضلا عن تنقيح عنوان الخاص ونفيه. وعليه يبتني ما سبق من التقريرات ، وسبق أنه قدّس سرّه قد عول عليه. ومن ثم كان كلامه في غاية الاضطراب والإشكال.
    بقي الكلام في وجه القول بحجية العام في مورد اشتباه الخاص في المقام ، فاعلم أنه قد يستدل عليه بوجهين :
    الأول : أن الخاص إنما يزاحم العام في ما هو حجة فيه ، وحيث لا يكون حجة في مورد الاشتباه لا وجه لرفع اليد عن العام فيه ، إذ لا ترفع اليد عن الحجة إلا بالحجة.
    ويظهر اندفاعه مما سبق ، إذ الخاص بعد أن لم يكن مجملا كان حجة في تمام أفراده حتى ما كان منها موردا للاشتباه ، وصالحا لمزاحمة العام فيها ، بنحو يكشف حكمه عنها بتمامها ، وحيث كان العمل بالدليل في الفرد متفرعا على

    إحراز تحقق موضوع حكمه فيه ، لا يكفي في العمل بالعام في مورد الاشتباه إحراز عنوانه بعد أن كان مقتضى الجمع عدم كونه تمام الموضوع للحكم ، بل لا بد من إحراز تمام الموضوع المتحصل منه بعد الجمع ، وبعد فرض عدم إحرازه فيه لا مجال للبناء على ثبوت حكمه فيه ، وإن لم يكن الخاص حجة فيه أيضا.
    الثاني : أن عنوان العام مقتض لثبوت حكمه ، وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، فمع إحراز المقتضي في الفرد المشتبه والشك في المانع يتعين البناء على عدم المانع والعمل على طبق المقتضي ، ومرجع ذلك إلى عدم تعويل العقلاء على احتمال المانع وهو الخاص بعد إحراز المقتضي وهو العام في المقام ، بل يبنون معه على ثبوت المعلول ، وهو حكم العام.
    ويندفع بما ذكره غير واحد من منع الكبرى والصغرى. حيث لم يتضح من بناء العقلاء عموم الرجوع لقاعدة المقتضي ، سواء اريد بها مجرد عدم الاعتناء باحتمال المانع في مقام العمل ، أم التعبد ظاهرا بعدمه عند احتماله ، وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد وليس منها المقام.
    كما أنه لا يطرد كون عنوان العام من سنخ المقتضي للحكم وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، بل قد يكون عنوان العام جزء المقتضي أو من سنخ ارتفاع المانع ، والتخصيص متضمنا بيان المقتضي أو متممه أو شرطه.
    وهو لا ينافي ما سبق منا في وجه حجية العام في الباقي من أن العام من سنخ المقتضي للحجية والخاص من سنخ المانع ، فإن كون دليل العام من سنخ المقتضي للحجية لا يستلزم كون عنوانه من سنخ المقتضي للحكم ، كما لا يلزم من كون دليل الخاص من سنخ المانع من حجية العام كون عنوانه من سنخ المانع من حكمه ، لعدم السنخية بين مقامي الإثبات والثبوت.
    وحيث اتضح وجه الاستدلال للقول بحجية العام في الشبهة المصداقية

    وبعدمها يقع الكلام في الأقوال المفصلة ، وقد أشرنا آنفا إلى أن ما قيل فيه بحجية العام من موارد الشبهة المصداقية إما غير تام أو خارج عنه حقيقة.
    ومن ثم يتعين النظر في الأقوال المفصلة وفي أدلتها.
    فاعلم أن النظر في كلماتهم يشهد بعد التأمل بتداخل التفصيلات في كلماتهم ، حيث قد يظهر منهم الاستدلال والتمثيل لكل منها بما يناسب الآخر. ولعل الأولى إرجاعها إلى وجوه أربعة ..
    الأول : ما يظهر من التقريرات في عنوان كلامه ـ وإن لم يناسبه تمامه بلحاظ الأمثلة ووجه الاستدلال ـ من أن الخاص إذا كان عنوانيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن لم يكن عنوانيا كان العام حجة فيه.
    وتوضيح ذلك أن الخاص ..
    تارة : يكون مسوقا لبيان دخل عنوانه في الحكم ، بحيث يكون ثبوته للأفراد من حيثيته. كما هو الظاهر في العنوان الذي له منشأ انتزاع في الخارج كالعالم والجار ونحوهما ، دون مثل (هؤلاء) مما يحكى عن الأفراد رأسا.
    واخرى : يكون مسوقا لمحض الحكاية عن الأفراد والإشارة إليها مع كونها بخصوصياتها المتباينة موضوعا للحكم ، سواء كانت الأفراد جزئيات خارجية ، كما لو سبق من المتكلم ذكر مجموعة أشخاص للمخاطب ، ثم قال : لا تكرم من سبق ذكره ، لوضوح أن سبق الذكر لا دخل له في الحكم ، أم عناوين كلية ، كما في قوله تعالى :
    (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)(1) ، لوضوح أن موضوع التحريم هو العناوين الخاصة من الخنزير والميتة وغيرهما بخصوصياتها المتباينة ، لا بعنوان كونها مما يتلى.
    أما الأول فمقتضاه ثبوت الحكم لعنوانه المستلزم لقصور حكم العام عن
    __________________
    (1) سورة المائدة : 1.

    مورده تبعا لقصور موضوعه عنه ، من دون فرق بين أن يكون العام عنوانيا وأن يكون غير عنواني.
    ولازم ذلك امتناع الرجوع للعام في مورد الشك في الخاص ، لعدم إحراز موضوع حكمه ، كما تقدم. من دون فرق في ذلك بين أن يكون العنوان دخيلا في الملاك ثبوتا ، وأن يكون ملازما لعنوان آخر هو الدخيل فيه لا يتيسر تشخيصه من غير طريقه ، لأن الفرق المذكور لا يوجب الفرق في إناطة الحكم بالعنوان في مقام الاحتجاج والإلزام ، إذا إناطة الحاكم حكمه بالعنوان إنما هو لتحديد مورد الملاك ، وهو حاصل في المقام.
    نعم ، لو صرح بأن ذكر العنوان إنما هو لملازمته لعنوان أو عناوين أخر لم يبعد ظهور حاله في إناطة الحكم بذلك العنوان أو العناوين الأخر على إجمالها.
    لكن حيث كان الشك في العنوان المذكور ملازما للشك الذي هو موضوع الحكم جرى فيه ما سبق من لزوم التوقف عن العام في مورد الشك في عنوان الخاص ، لعدم الفرق بينهما في الجهة المتقدمة.
    نعم ، قد يظهر الفرق بينهما عند الرجوع للاصول الموضوعية ، حيث يلزم هناك تنقيح الأصل للعنوان المذكور في دليل التخصيص ، وهنا تنقيحه للعنوان الآخر على إجماله ، وهو خارج عن محل الكلام. فتأمل.
    وأما الثاني فهو حجة على ثبوت الحكم للأفراد المتعددة بخصوصياتها المستلزم لتخصيصات متعددة بعدد الأفراد تبعا لتعدد الخصوصيات التي لا يثبت حكم العام معها. ولازم ذلك أن يرجع الشك في انطباق عنوان الخاص على بعض الأفراد إلى الشك في تخصيص العام بذلك الفرد بخصوصيته استقلالا زائدا على التخصيص بالأفراد المعلومة ، من دون فرق بين أن يكون العام بنفسه عنوانيا وكونه غير عنواني ، فيتعين حجية العام فيه بعد فرض عدم حجية الخاص فيه ، لأصالة العموم مع الشك في زيادة التخصيص بلا إشكال.

    وبعبارة اخرى : وضوح العنوان مفهوما لا أثر له بعد فرض عدم كونه بنفسه موردا للتخصيص ، وإنما المهم وضوح أفراده التي هي مورد التخصيص ، والتي سبق لمحض الحكاية عنها ، ومع فرض الاشتباه في بعضها وعدم المنجز للفرد المشتبه من غير طريق العنوان يتعين الرجوع فيه لأصالة العموم.
    فهو في الحقيقة خارج عن محل الكلام من الشك في مصداق الخاص إلى الشك في مقدار التخصيص.
    ودعوى : أن ظاهر حال الحاكم أنه أو كل تشخيص موضوع حكمه إلى المكلف ، فمع فرض تقييده بقيد لم يحرزه المكلف في مورد الاشتباه لا مجال لإحرازه الحكم.
    مدفوعة : بأنه بعد فرض دوران القيد بين الأقل والأكثر ، وكون نفي الزائد مقتضى أصالة العموم يحرز موضوع الحكم في مورد الاشتباه ، فيحرز الحكم بتبعه.
    ومن هنا كان الظاهر تمامية التفصيل المذكور. لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام حقيقة وإن أوهمه.
    هذا ، وقد احتج عليه في التقريرات بما يناسب التفصيل الثاني الذي يأتي الكلام في وجهه.
    الثاني : أنه إذا كان العام ظاهرا في إحراز عنوان المشتبه ـ المفروض إناطة الحكم به زائدا على عنوان العام ـ في تمام أفراده تبعا لتحقق الحكم فيها كان حجة في الفرد المشتبه وتعين البناء على ثبوت حكمه فيه ، وإن لم يكن ظاهرا في ذلك تعين عدم حجيته في الفرد المشتبه والتوقف عن ثبوت حكمه فيه.
    وتوضيح ذلك : أنه لما كان ظاهر العام بدوا ثبوت حكمه في تمام أفراده ، كان مقتضاه بدوا ثبوت تمام ما يتوقف عليه الحكم من الملاك وما يستلزمه فيها ، فإذا قال المولى : أكرم كل من يدخل بيتي ، وعلم من الخارج توقف وجوب

    الإكرام بنظره على العلم والعدالة كان ظاهر العموم المتقدم كون كل من يدخل بيته عالما عادلا ، كما يكون مقتضاه تمامية ملاك وجوب الإكرام في جميعهم ، ومقتضاه عدم التنافي بينه وبين ما دل على اعتبار العلم والعدالة في من يجب إكرامه.
    لكن البناء على ذلك مما لا يمكن في أكثر عمومات الأحكام ـ الشرعية وغيرها من الأحكام العامة في القوانين ونحوها ـ مع أدلة اعتبار بعض الامور في موضوعاتها ، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في العمومات والعناوين المأخوذة في تلك الأدلة ، بنحو لا مجال عرفا معه لحمل العام على تحقق تلك الأمور والعناوين في أفراده ، بل يتعين البناء على التنافي بين الدليلين.
    ومن ثمّ يبنى على أن أدلة اعتبار تلك الامور في حكم العام مخصّصة للعام وكاشفة عن أن المراد الجدي بالعام إثبات حكمه في بعض أفراد موضوعه أو أحواله ، وهو مورد تحقق ما دلت تلك الأدلة على اعتباره في الحكم. ومرجعه إلى اختصاص موضوع حكم العام بصورة تحقق ذلك الشيء.
    ولذا تقدم منا في الاستدلال للمدعى أن إحراز عنوان العام في الفرد لا يكفي في جريان حكمه فيه ، بل لا بد من إحراز موضوعه الحقيقي المتحصل منه بعد الجمع بينه وبين الخاص.
    لكن كثيرا ما يكون ظاهر العام ـ في القضايا الشرعية وغيرها ـ تحقق ذلك الأمر المعتبر في الحكم في تمام أفراد ، وأنه ملازم لعنوان العام كحكمه ، لعدم المانع من ذلك بسبب عدم وضوح الانفكاك بينهما عند العرف. بل لا إشكال في دلالته على ذلك لو كان ذلك الأمر ظاهر الملازمة للحكم عقلا ، كالملاك ، أو عرفا ، كالطهارة اللازمة عرفا وارتكازا للمطهرية ، حيث يكون وضوح لزومها فيها مستلزما لدلالة عموم مطهرية الشيء على عموم طهارته ، فيما لو لم يتضح

    عدم التلازم بينهما ، على ما فصلنا الكلام فيه في مباحث المياه من الفقه.
    وفي مثل ذلك لا مجال لدعوى تقييد موضوع حكم العام بصورة وجود ذلك الشيء ، إذ لا معنى للتقييد به مع الحكم بوجوده تبعا لعموم الحكم الملزوم له ، بل يكون مقتضى عمومه ثبوته في تمام أفراده ، حتى أنه لو فرض عدم ثبوته في فرد كان منافيا للعموم المذكور وكاشفا عن تخصيص موضوع حكم العام بالإضافة إلى ذلك الفرد بخصوصيته.
    ومثل ذلك ما لو كان المستفاد من العام ـ بنفسه أو بقرائن خارجية ـ أنه وارد لتحديد مفهوم ذلك الأمر المعتبر في الحكم أو مصداقه أو بيان مورده ، وأن ما تضمنه من جعل الحكم مترتب على ذلك ومتفرع عليه.
    فالأول : مثل ما لو دل الدليل على جريان حكم التوارث بالشهادتين ، ودل آخر على اعتبار الاسلام فيه ، حيث يفهم من الأول أن مفاد الشهادتين مطابق لمفهوم الإسلام ، وأن الدليل الأول شارح لموضوع الثاني.
    والثاني : ما دل على ترك المرأة الصلاة إذا رأت الدم ثلاثة أيام مع ما دل على اعتبار الحيض في جواز ترك الصلاة ، حيث يفهم من الأول تحديد مصاديق الحيض ، وأنها تتحقق بالدم المذكور.
    والثالث : مثل ما لو دل الدليل على الأمر بلعن بني أمية قاطبة مع ما دل على حرمة لعن المؤمن ، حيث يستفاد من الأول أنهم مستحقون للعن ، لأنهم غير مؤمنين.
    وفي جميع ذلك لا ينبغي التأمل في عدم التنافي بين الدليلين ، ليكون أحدهما مخصصا للآخر ، بل يكون العام واردا على الآخر ومنقحا لموضوعه.
    ولو فرض ثبوت عدم تحقق ذلك الأمر ـ المعتبر في الحكم ـ في بعض أفراد العام المستلزم لعدم ترتب حكمه ـ كما لو ثبت كفر منكر الضروري ، وإن شهد الشهادتين ، وعدم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام إذا لم يفصل بينه وبين

    الحيض السابق عشرة ، أو إيمان بعض بني أمية المعين ـ لم يرجع إلى تخصيص عموم العام بصورة وجوده ـ بأن يبنى في الأمثلة المتقدمة على تخصيص عموم جريان حكم التوارث بالشهادتين بما إذا كان قائلهما مسلما ، وعموم ترك الصلاة مع استمرار الدم ثلاثة أيام بما إذا كان حيضا ، وعموم الأمر بلعن بني أمية بما إذا لم يكونوا مؤمنين ـ لأن ذلك خلاف فرض سوق العموم لبيان وجوده.
    بل لا بد من البناء على تخصيص العموم المذكور بذلك الفرد بخصوصيته ، فيبنى مثلا على تخصيص عموم إسلام من أقر بالشهادتين المستفاد من عموم جريان حكم التوارث معهما بغير منكر الضروري ، وتخصيص عموم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام المستفاد من عموم ترك الصلاة معه ، بما إذا فصل بينه وبين الحيض السابق عشرة أيام ، وتخصيص عموم عدم إيمان بني امية المستفاد من الأمر بلعنهم بغير الشخص الخاص الذي ثبت إيمانه.
    ومنه يظهر أن المرجع مع الشك في حال بعض أفراد العام المذكور وأنه واجد للأمر المفروض اعتباره في الحكم أو فاقد له هو عموم ذلك العام ، لصلوحه لأن يكون بيانا على ثبوته فيه اقتصارا في تخصيصه على الفرد المتيقن عدم ثبوته فيه ، لما ذكرناه من كون التخصيص به بخصوصيته لا بعنوانه المشكوك ثبوته في الفرد الآخر. ومن هنا يتم التفصيل المذكور.
    لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام ، لعدم الشك في دخول الفرد تحت عنوان يعلم بتخصيص العام بالإضافة إليه ـ كما هو محل الكلام ـ بل في التخصيص بالفرد بخصوصيته زائدا على التخصيص المتيقن الذي لا إشكال في حجية العام معه ، وصلوحه لأن يكون بيانا لجهة الشك وإحراز ما يعتبر في الحكم.
    وكأن بعض الأعاظم قدّس سرّه نظر إلى ما ذكرنا حين ذكر أن الشك إذا كان في

    الملاك كان العام صالحا لبيان ثبوته في تمام أفراده ، فلا يعتنى بالشك في ثبوته في بعضها ، بل يتمسك فيه بعموم الحكم ، وأن ذلك ليس من صغريات محل الكلام ، لعدم كون الملاك قيدا في موضوع الحكم ، ليكون الشك فيه شكّاً في المخصص.
    ولعله لذا مثل له بمثال اللعن المتقدم ، مع وضوح أن ذلك ليس من الشك في الملاك ، فإن عدم الإيمان ليس ملاكا لجواز اللعن ، بل موضوع له كما ذكره بعض مشايخنا. غايته أنه الموضوع الذي يستفاد من العام بيان مورده ، أو مما يستفاد من العام ثبوته للملازمة الذهنية بينه وبين حكمه نظير ملازمة المطهرية للطهارة.
    الثالث : ما ذكره غير واحد من أن المخصص إن كان لفظيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن كان لبيا كان العام حجة فيه.
    وربما نسب ذلك للتقريرات. لكن ما في التقريرات ظاهر في إرادة التفصيل الأول. غاية الامر أنه ذكر أن أغلب ما يكون المخصص عنوانيا إذا كان لفظيا ، وأغلب ما يكون غير عنواني إذا كان لبيا. وهو أمر آخر غير التفصيل في حجية العام بين المخصص اللفظي واللبي ، الذي نحن بصدده.
    على أنه غير ظاهر ، وإنما الذي يكثر في المخصص اللبي إجمال مورد التخصيص وتردده مفهوما بين الأقل والأكثر أو نحوهما.
    وكيف كان ، فقد استدل عليه بوجوه ..
    أحدهما : ما ذكره المحقق الخراساني من أن المخصص إذا كان لفظيا فقد ألقى المولى حجتين يجب اتباع كل منهما ، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما تقديم الخاص بنحو يكشف عن عدم إرادة مورده من العام وقصور موضوع حكم العام عنه لزم التوقف في مورد الشك ، لعدم العلم بدخوله في ما اريد من العام.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:35 am

    أما إذا كان المخصص لبيا فالملقى من المولى ليس إلا العام الظاهر في إرادة العموم بتمامه ، فلا بد من اتباعه إلا فيما يعلم بعدم إرادته منه ، لأن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه.
    واليقين بعدم إرادة الخاص إنما يكون حجة فيما يعلم باضافة عليه وخروجه عن العام.
    ويشكل : بأن مجرد الفرق بين المخصصين بإلقاء اللفظي من قبل المولى دون اللبي لا يصلح فارقا بعد اشتراكهما في صحة احتجاج المولى بهما على العبد ، وفي الكشف عن مراده من العام ، وأنه يقصر عن موردهما وعن تمام أفرادهما الواقعية التي يحتمل كون الفرد المشتبه منها ، حيث سبق منا ومنه أن ذلك هو المعيار في عدم حجية العام في الفرد المذكور ، وإن كان الخاص غير حجة فيه أيضا ، لعدم إحراز موضوعه.
    وما ذكره في وجه التمسك بالعام في الفرد المذكور مع المخصص اللبي من أن على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه إنما ينفع لو لم ينكشف بالخاص مخالفة ظهور العام لمراده ، وقصوره عن أفراد الخاص الواقعية ، كما ذكرنا.
    إلا أن يرجع إلى ما ذكرناه في التفصيل الثاني من أن ظاهر العام بدوا لما كان هو ثبوت حكمه في تمام أفراده كان مقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم فيها ، من دون أن يكون موضوعه مقيدا بها ، فإذا شك في ثبوت بعض ما يعتبر في الحكم في بعض الأفراد لزم البناء على ثبوته وترتب الحكم عليه ، عملا بعموم العام ، واقتصارا في الخروج عنه على ما علم بفقده لشيء مما يعتبر في الحكم.
    وقد يناسبه قوله قدّس سرّه بعد ذلك : «بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه عن حكمه ، فيقال في مثل : لعن الله

    بني أمية قاطبة : إن فلانا وإن شك في إيمانه يجوز لعنه ، لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج : انه ليس بمؤمن».
    وبما تقدم يظهر حال ذلك ، وأنه لو تم يجري في المخصص اللفظي ، كالأمثلة المتقدمة ، ومنها المثال الذي ذكره ، لوضوح أن عدم جواز لعن المؤمن يستفاد بالمطابقة والالتزام من الأدلة اللفظية المتضمنة تحريم لعن غير المستحق (1) ، وسب المؤمن (2) ، وتعييره وتأنيبه (3) ، وإيذائه (4) ، وإهانته (5) ، وإذلاله واحتقاره (6) ، والطعن عليه (7) وغير ذلك ، مما يتضمن حرمة نفسه وعرضه.
    كما أن لعن المعصوم أو أمره باللعن في حق شخص يفيد بالملازمة عدم إيمانه ، كافادة دليل المطهرية الطهارة أو نحو ذلك مما تقدم.
    وحينئذ يتعين ألا يكون عدم الإيمان قيدا لموضوع العموم المذكور ـ ليكون مما نحن فيه ـ بل العموم منقح له ، فلو ثبت إيمان بعضهم كان التخصيص به بخصوصيته ، ورجع احتمال إيمان غيره إلى احتمال زيادة التخصيص المدفوع بأصالة العموم ، وخرج عن محل الكلام ، وهو الشك في مصداق الخاص المحدد المفهوم.
    ولو لا ذلك لم يتجه التمسك بعموم اللعن حتى لو كان دليل حرمة لعن المؤمن لبيا ، وتم التفصيل المذكور ، لأن حرمة لعن المؤمن من الوضوح في
    __________________
    (1) راجع الوسائل ج 8 باب : 160 من ابواب أحكام العشرة.
    (2) راجع الوسائل ج 8 باب : 158 من ابواب أحكام العشرة.
    (3) راجع الوسائل ج 8 باب : 150 من ابواب أحكام العشرة.
    (4) راجع الوسائل ج 8 باب : 145 من ابواب أحكام العشرة.
    (5) راجع الوسائل ج 8 باب : 146 من ابواب أحكام العشرة.
    (6) راجع الوسائل ج 8 باب : 147 من ابواب أحكام العشرة.
    (7) راجع الوسائل ج 8 باب : 159 من ابواب أحكام العشرة.

    ارتكازيات المتشرعة بنحو تلحق بالتخصيص المتصل المانع من انعقاد ظهور العام في العموم ، فلا يصح التمسك معه بالعموم في مورد الشك مطلقا ، وإن كان المخصص لبيا ، كما اعترف به قدّس سرّه وأشرنا إليه في أول هذا الفصل.
    ثانيها : ما حكاه بعضهم عن التقريرات من أن إلقاء المولى للخاص اللفظي كاشف عن أنه أحال معرفة أفراده وتمييزها عن بقية أفراد العام على المخاطب ، فلا يكون دخول المشكوك في الباقي تحت العام بأولى من دخوله في الخاص الخارج عنه ، وأما إذا كان الخاص لبيا فالمتكلم لم يلق لبيان حكمه إلا حجة واحدة ، وهي العام ، وظاهره أنه بصدد بيان مصاديق حكمه بنفس عنوان العام وأنه كلما يصدق عليه فهو محكوم بحكمه ، وأنه ليس في أفراده عنوان مناف لحكمه ، فيكون حجة في كل ما لم يعلم بخروجه من الأفراد.
    وفيه : أنه إن استفيد من العام بعد الجمع بينه وبين الدليل الدال على اعتبار شىء ما في موضوع حكمه كون أفراد العام واجدة لذلك الشيء ، فلا تنافي بين العام وذلك الدليل ، ليكون مخصصا له ، بل يكون العام واردا عليه ومنقحا لموضوعه.
    وحينئذ يتجه التمسك بالعام في الفرد المشكوك واجديته للأمر المعتبر في الحكم وإن كان الدال على اعتبار ذلك الشيء لفظيا ، لأن ظاهر حال المتكلم في الدليل اللفظي وإن كان هو الإحالة على المخاطب في معرفة أفراده وتمييزها ، إلا أنه يكفي المخاطب الرجوع للعام المذكور في التمييز بعد فرض نهوضه به.
    على أن الإحالة على المخاطب في تشخيص موضوع الخاص إنما هو لترتيب حكمه ، لا لترتيب حكم العام ، فلا ينهض برفع اليد عن ظهور العام المفروض قطعا.
    وإن لم يستفد من العام بعد الجمع ذلك ، بل لا ظهور للعام إلا في كون

    عنوانه تمام موضوع الحكم ، كان الدليلان متنافيين ، وبعد فرض تخصيص العام بذلك الدليل يقصر عن أفراد الخاص الواقعية ، فلا يصح التمسك به فيما احتمل كونه منها وإن كان ذلك الدليل لبيا ، لما تقدم من أنه يكشف أيضا عن قصور موضوع حكم العام وتقييده بغير أفراده.
    فليس معيار الفرق بين الأمرين كون الخاص لفظيا وكونه لبيا ، بل ما تقدم في التفصيل السابق.
    ويأتي في الوجه الثالث تقريب عدم نهوض العام بنفي المنافي لحكمه في أفراده ، كما يأتي أن لازم ذلك عدم التمسك بالأصل الموضوعي المنقح لعنوان الخاص.
    ثالثها : ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن العام لما كان دالّا على ثبوت حكمه الفعلي لأفراده ، دون الاقتضائي ، كان دالّا بالملازمة على عدم منافاة أي عنوان تتصف به أفراده لحكمه ، وعلى عدم وجود العناوين المنافية له فيها.
    وحينئذ يكون الخاص اللفظي منافيا له في الأمرين معا ، فهو يدل بالأصل على كون عنوانه منافيا لحكم العام ، ويدل تبعا على كون العنوان المذكور موجودا أو متوقعا بين الأفراد وإلا كان بيانه عبثا ، لعدم الفائدة ، وحيث فرض تقديم الخاص لزم رفع اليد به عن دلالة العام على كلا الأمرين ، فلا رافع للشك في الفرد المشتبه ، أما الخاص اللبي فهو ينافي العام في الأمر الأول ، لمشاركته للفظي في الدلالة على عدم ثبوت حكم العام مع عنوانه ، دون الثاني ، لعدم كونه ملقى من المولى ، ليكون إلقاؤه مع عدم وجوده أو توقعه عبثا منه ، بل هو حاصل بسبب إدراك المنافاة بين حكم العام وعنوان الخاص وإن لم يكن موجودا في أفراد العام. فيبقى العام حجة في الدلالة على عدم وجود المنافي لحكمه في أفراده ، فيرتفع به الشك في الفرد المشتبه ويحرز به خروجه عن الخاص ، المستلزم لثبوت حكم العام له.

    ويشكل : بأن العام في الشرعيات حيث كان غالبا أو دائما بنحو القضية الحقيقية كان مفاده نفي منافاة كل عنوان يمكن طروؤه على أفراده لحكمه وإن لم يوجد ولا يتوقع فيها ، لأن موضوع القضية الحقيقية لما كان هو العنوان بما له من أفراد موجودة أو فرضية فمقتضى عموم العام ثبوت الحكم لأي فرد يفرض وإن اتصف بالعنوان غير المتوقع ، المستلزم لعدم منافاة العنوان المذكور لحكم العام. ولا مجال مع ذلك لدلالته على نفي العنوان المنافي لأفراده ، حيث لا منافي حتى يدل على انتفائه فيها. وإنما يثبت المنافي بالخاص الكاشف عن عدم مطابقة ظهور العام للواقع ، وأن موضوع حكمه ليس مطلق عنوانه ، بل خصوص الحصة الفاقدة لعنوان الخاص منه ، وحينئذ لا مجال للرجوع إليه في الفرد المشتبه ، لعدم احراز موضوع حكمه فيه وعدم الرافع لاشتباهه بعد ما ذكرناه من عدم نهوض العام بنفي المنافي لحكمه عن أفراده.
    وأما القضية الخارجية فهي لا تدل على عدم منافاة كل عنوان لحكم العام ، بل عدم منافاة خصوص العناوين الموجودة في الأفراد ، فإذا فرض العلم بوجود العنوان الخاص ولو في فرد واحد لم يكن للعام ظهور في نفسه عن بقية الأفراد ، لا بنفسه مع قطع النظر عن الخاص ، ولا بعد الجمع بينه وبين الخاص ، لأن مقتضاه في نفسه عدم منافاة العنوان المذكور لحكمه ـ لان مقتضاه ثبوت حكمه للفرد الواجد له ـ فلا ينهض بنفيه عن بقية الأفراد ، ومقتضاه بعد الجمع قصور موضوعه عن الحصة الواجدة للعنوان من دون نظر لتعيينها.
    وإن فرض عدم العلم بوجود العنوان في فرد فقد يكون مقتضى العموم عدم وجود العنوان على تقدير منافاته المفروض ثبوتها بالدليل الآخر. وحينئذ يخرج ذلك الدليل عن كونه مخصصا ويخرج عن محل الكلام على ما يتضح في التفصيل الرابع إن شاء الله تعالى.
    وهو غير مهم في محل الكلام ، لما ذكرناه من أن العمومات الشرعية بنحو

    القضية الحقيقية التي ذكرنا عدم دلالة العموم معها على نفي العنوان المنافي ، بل على عدم منافاة أي عنوان يفرض.
    هذا ، ولو غض النظر عن ذلك ، وسلم ما ذكره من دلالة العام على عدم وجود المنافي في أفراده ، ومنافاة الخاص اللفظي له دون اللبي ، لأشكل الاستدلال بذلك على التفصيل المذكور ..
    تارة : بأن ظهور الخاص اللفظي في وجود المنافي بين أفراد العام حيث كان لدفع محذور العبث واللغوية فهو مختص بما إذا كان الخاص أخص مطلقا ، دون ما لو كان أخص من وجه ـ وفرض تقديمه على العام ـ إذ يكفي في رفع اللغوية حينئذ وجوده في الأفراد الأخر الخارجة عن العام ، فلا يعارض العام في الدلالة على عدم وجوده في أفراده ، مع عدم الفرق عندهم ظاهرا بين نوعي الخاص المذكورين في محل الكلام.
    واخرى : بأن دلالة الخاص المطلق على وجود المنافي بين أفراده لما كان بمعنى وجوده فيها في الجملة ، لا في تمامها ، تعين الاقتصار فيه على المتيقن ، ولم يرفع به اليد عن حجية العام في الدلالة على عدم وجود المنافي بالإضافة إلى الفرد المشتبه لو زاد على المتيقن. ولو فرض عدم التفكيك في حجية العام بين الأفراد ، لابتنائها على الارتباطية فلا وجه لتقديم الخاص على العام في الدلالة على وجود المنافي بين أفراده ، لاستحكام التعارض بينهما حينئذ بعد امتناع الجمع العرفي بالتخصيص.
    على أنه لو سلم تقديم الخاص حينئذ وسقوط الخاص رأسا عن الحجية لزم رفع اليد عن العام في الدلالة على عدم وجود المنافي بين أفراده لو علم بوجود المنافي فيها في الجملة ، ولو كان المخصص لبيا ، واختص هذا الوجه بما إذا لم يعلم بوجود عنوان الخاص اللبي أصلا في أفراد العام.
    وثالثة : بأن لازم ذلك عدم الرجوع في المخصص اللبي للأصل

    الموضوعي المنقح لكون المشتبه واجدا لعنوان الخاص ومحكوما بحكمه ، لكون الأصل المذكور محكوما للعام المفروض نهوضه بنفي عنوان الخاص في أفراده ، ولا يظن منهم البناء عليه.
    رابعها : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أنه إذا كان المخصص لفظيا فحيث كان موضوع الحجية فيه مدلوله بماله من مفهوم محدود فالفرد المشتبه يحتمل كونه موضوعا للحجة على خلاف العام بسبب احتمال انطباق مفهوم الخاص وعنوانه عليه.
    أما إذا كان لبيا فحيث كان المخصص فيه هو العلم امتنع حصوله في الفرد المشتبه ، للتضاد بين العلم والشك ، وبذلك يكون الفرد المشتبه معلوم الخروج عن الحجة المخالفة للعام ، فتتعين حجية العام فيه ، لانفراده فيه.
    وفيه .. أولا : أنه حيث كان المفروض في محل الكلام ورود التخصيص على العنوان ، لا على الفرد ابتداء فاحتمال دخول الفرد المشتبه في موضوع الحجية في المخصص اللفظي ليس لاحتمال حجية المخصص فيه ابتداء ، بل لكون المخصص بيانا وحجة على العنوان المحتمل انطباقه على الفرد المذكور ، ومثل هذا جار في المخصص اللبي إذا كان عنوانيا.
    وثانيا : أن منشأ سقوط العام عن الحجية في الفرد المشتبه ليس هو احتمال دخوله في موضوع الحجة ، إذ لا يتجه رفع اليد عن الحجة في مورد لاحتمال دخوله في حجة أخرى معارضة لها ، بل يتعين العمل بالحجة ما لم يثبت المعارض ، وانما المنشأ له هو صلوح الخاص لبيان المراد من العام عرفا ، بحيث يكشف عن قصوره عن الأفراد الواقعية للخاص ، فلا يحرز دخول الفرد المذكور في المراد الواقعي منه.
    وإن شئت قلت : العام والخاص ليسا متعارضين في الأفراد ابتداء ، وإلا تعين تقديم العام في الفرد المشتبه ، بل هما متعارضان في تعيين مراد المتكلم

    من العموم ، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما حمل العام على ما عدا الخاص لا يحرز تحقق موضوع الحجية في الفرد المشتبه ، وذلك كما يجري في المخصص اللفظي يجري في المخصص العنواني اللبي.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم عدم تمامية التفصيل بين المخصص اللفظي واللبي.
    ولعل نظر المفصلين إلى ما إذا كان العام بيانا لحال أفراده ، وأنها خارجة عما دل الدليل اللبي على منافاته لحكم العام من دون أن يكون انتفاؤه قيدا في موضوعه ، كما يناسبه بعض أمثلتهم والوجهان الثاني والثالث للاستدلال على التفصيل المذكور. مع الغافلة عن أن ذلك خارج عن محل الكلام ، حيث لا يكون الدليل اللبي مخصصا بالإضافة إلى العنوان المحتمل انطباقه على الفرد ، بل لو كان هناك تخصيص كان موضوعه الفرد بخصوصيته ، وليس العنوان إلا مرآة للأفراد ، أو جهة تعليلية للتخصيص بالإضافة إليها ، ويكون مرجع الشك في انطباقه على الفرد إلى الشك في زيادة التخصيص بالإضافة إليه ، الذي لا إشكال معه في حجية العام. كما يتضح بملاحظة ما تقدم.
    الرابع : من التفصيلات في المقام : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
    وبيانه ، أنه تارة : يكون العام والخاص بنحو القضية الحقيقية.
    واخرى : يكونان بنحو القضية الخارجية.
    وثالثة : يكون العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.
    ورابعة : بالعكس.
    فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في الصور الثلاث الاول ، للتكاذب بين العام والخاص ، بسبب العلم بكون أفراد الخاص أفرادا للعام ، فيلزم الجمع بينهما ، وحيث فرض أن الجمع بتقديم الخاص والبناء على

    اختصاص موضوع العلم بما عدا مورده امتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، لعدم إحراز دخوله في موضوع حكم العام وإن كان واجدا لعنوانه ، على ما تقدم مكررا.
    أما في الصورة الرابعة فلا يعلم بالتكاذب بينهما لإمكان كون تمام أفراد العام الخارجية غير متصفة بعنوان الخاص ، فلا ملزم بالخروج عن ظاهر العام ، بل يجعل دليلا على عدم انطباق الخاص على أفراده.
    لكن ما ذكره من عدم التكاذب في الصورة الرابعة انما يتم مع عدم العلم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص ، أما مع العلم باتصاف بعضها به وتردده بين الأقل والأكثر فلا بد من التكاذب بين الدليلين ، فيجري فيه ما يجري في بقية الصور.
    كما أن ما ذكره من التكاذب في الصور الثلاث الاول إنما يتم في الخاص المطلق مفهوما ، كما لو ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم النحويين. أما في الخاص من وجه المفروض التقديم في مورد الاجتماع ـ كما لو ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم الفساق ، وفرض تقديم الثاني في مورد الاجتماع وتخصيصه الأول ـ فقد لا يعلم بالتكاذب بين الدليلين ، لإمكان مباينة أفراد العام الخارجية لأفراد الخاص لو كانا معا بنحو القضية الخارجية ، وملازمة عنوان أحدهما لعدم الآخر في الخارج ـ ولو اتفاقا ـ لو كانا بنحو القضية الحقيقية ، وعدم اتصاف شيء من أفراد الخاص الخارجية بعنوان العام لو كان العام بنحو القضية الحقيقية والخاص بنحو القضية الخارجية.
    ومن الظاهر عدم الفرق في محل الكلام بين الخاص المطلق والخاص من وجه المفروض التقديم على العام. وعليه يبتني دخول الصورة الرابعة في محل الكلام ، لوضوح أن الخاص فيها لما كان بنحو القضية الحقيقية الشاملة لأفراد عنوانه الفرضية يكون أعم من وجه من العام المختص بأفراد عنوانه

    الخارجية.
    ودعوى : أن ذلك خارج عن فرض العموم والخصوص حتى من وجه ، لرجوع الاحتمال المذكور إلى احتمال التباين الموردي ، الذي لا تنافي معه بين الدليلين.
    مدفوعة : بأن فرض العموم والخصوص في المقام إنما هو بلحاظ مفهوم كل من العنوانين ، لا بلحاظ الخارج ، وإلا لم يتجه فرضه في الصورة الرابعة ، لأن احتمال عدم اتصاف شيء من أفراد العام الخارجية بعنوان الخاص فيها مساوق لاحتمال التباين الموردي بين الدليلين وعدم التنافي بينهما أيضا.
    وبالجملة : مجرد كون القضية حقيقية أو خارجية لا يصلح بنفسه معيارا في التكاذب بين الدليلين وعدمه اللذين يبتني عليهما التفصيل المذكور.
    نعم ، ذكرنا في أول التفصيل الثاني أن العام لما كان ظاهرا بدوا في ثبوت حكمه لتمام أفراده فمقتضاه ثبوت تمام ما يعتبر في الحكم في جميعها ، المستلزم لعدم التنافي بينه وبين دليل اعتبار ذلك الشيء في الحكم ، بل يكون واردا على ذلك الدليل ومحرزا لثبوت موضوعه في أفراد العام ، فإذا قال : أكرم كل من يدخل بيتي ، وقال : لا يكرم الفاسق ، يكون مقتضى الأول أن كل من يدخل بيته غير فاسق ، فلا ينافي الثاني ، بل يكون واردا عليه.
    كما ذكرنا هناك أنه لا مجال للبناء على ذلك في غالب عمومات الأحكام الشرعية ونحوها من الأحكام العامة ، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في عمومات الأحكام المذكورة والامور المستفاد من الأدلة الأخر دخلها في تلك الأحكام ، بل لا بد من البناء على التنافي بين الدليلين والجمع بينهما بالتخصيص أو غيره ، إلا في بعض الموارد التي ذكرنا بعض الضوابط لها في ما تقدم فراجع.
    أما عمومات الأحكام غير العامة فقد يمكن فيها ذلك ، من دون فرق بين

    أن تكون بنحو القضية الخارجية ، كما لو قال : أكرم من في الدار ، أم الحقيقية ، كما لو قال : أكرم من اجالسه ، حيث لا مجال للبناء على تخصيصهما بمثل : لا يكرم الفاسق ، مع احتمال أن كل من في الدار ليس بفاسق ، وأنه لا يجالس الفاسق ، بل حيث لا يحرز التنافي بين العمومين المذكورين وذلك الدليل يتعين العمل بالعمومين في تمام أفرادهما ، ويكونان دليلا على عدم اتصاف شيء منها بالفسق.
    غاية الأمر أن الحكم في القضية الخارجية لما لم يكن عاما بسبب انحصار موضوعه بالأفراد الموجودة فكثيرا ما يتجه فيه ما سبق ، بخلاف الحكم في القضية الحقيقية ، فإنه كثيرا ما يكون عاما فلا يتجه فيه ما سبق.
    كما أنهما يفترقان فيما لو علم باتصاف بعض أفراد العام بعنوان الخاص ، الذي يعلم معه بتخصيص العام في الجملة وعدم بقائه على عمومه ، حيث لا مجال غالبا لاحتمال تخصيص العام لو كان بنحو القضية الحقيقية بالإضافة لخصوصيات الأفراد المتصفة بعنوان الخاص ، لعدم انحصارها ، بل يكون التخصيص بالإضافة لعنوان الخاص الجامع لها على ما هي عليه من الكثرة وعدم الانحصار ، فيمتنع التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، لما تقدم.
    نعم ، لو كانت الأفراد المذكورة قليلة منضبطة فالأمر كما لو كان العام بنحو القضية الخارجية المنحصرة الأفراد ، التي كثيرا ما يتجه فيها احتمال التخصيص بالإضافة لخصوصيات الأفراد ، ويكون عنوانها المنافي للحكم تعليليا ، فيتجه التمسك بالعموم في الفرد المشتبه ، لرجوع الشك فيه للشك في زيادة التخصيص.
    كما أنه لو تردد الأمر بين الوجهين تعين البناء على الثاني اقتصار على المتيقن من التخصيص.
    لكن كثيرا ما يستفاد التخصيص بالنحو الأول حتى مع كون العام بنحو

    القضية الخارجية أو الحقيقية غير العامة ، كما لو ورد التخصيص في المثالين السابقين بلسان : لا يكرم منهم من كان فاسقا ، أو : إنما يكرم منهم العادل.
    وبالجملة : لا مجال لجعل الضابط في الفرق كون العام بنحو القضية الخارجية وكونه بنحو القضية الحقيقية ، بل الضابط فيه ما تقدم في التفصيل الثاني من صلوح العام لبيان عدم ثبوت المنافي للحكم في أفراده ، المستلزم لعدم التنافي بين الدليلين ، وعدم العلم بتخصيص العام ، أو العلم بتخصيصه في الجملة ولو بخصوصيات الأفراد ، من دون أن يحرز تخصيصه بالعنوان المنافي للحكم ، فيرجع الشك في اتصاف الفرد بالعنوان المنافي للشك في أصل التخصيص أو في زيادته بالإضافة إلى الفرد بخصوصيته ، الذي يصح فيه التمسك بالعام بلا كلام ، ويخرج عن الشك في مصداق الخاص الذي هو محل الكلام في المقام.
    غاية الأمر أن العام إذا كان بنحو القضية الخارجية فكثيرا ما يحرز فيه ذلك. ولعل هذا هو الذي أوهم التفصيل المذكور.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم : أنه لا يتجه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا ، وأنه لا يصح من التفصيلات المتقدمة إلا الأولان اللذان لا يرجعان حقيقة إلى التفصيل في ذلك ، بل إلى لزوم التمسك بالعام مع الشك في أصل التخصيص أو زيادته ، الذي هو خارج عن محل الكلام. وأن التفصيلين الأخيرين لا يتجهان إلا إذا رجعا إلى أحد الأولين. فلاحظ وتأمل جيدا. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

    وينبغي التنبيه على امور ..
    الأمر الأول : حيث ظهر مما تقدم أن المتجه من التفاصيل المتقدمة هو الأول والثاني فمن الظاهر اشتراكهما في أمر واحد ، وهو كون التخصيص المعلوم أو المحتمل ليس بالإضافة للعنوان الذي يشك في ثبوته للفرد ، بل بالإضافة إلى خصوصيات الأفراد ، بحيث يرجع الشك في حال الفرد للشك في التخصيص بالإضافة إليه بخصوصيته ، الذي يكون نفيه مقتضى أصالة العموم ، لا إلى الشك في انطباق عنوان الخاص عليه.
    ومن هنا كان تشخيص موضوع التخصيص وأنه العنوان أو الفرد مهما جدا ، إذ كثيرا ما يغافل عن رجوع التخصيص للفرد ويتخيل رجوعه للعنوان بسبب اطراده في أفراده.
    ولا مجال لإعطاء الضوابط العامة التامة له ، إذ كثيرا ما يخضع للقرائن الخاصة غير المنضبطة ، والتي يختلف تشخيصها باختلاف الموارد والأنظار ، وكثيرا ما يلتبس الحال في موردين ..
    أحدهما : ما إذا كان العنوان تعليليا ، بأن يكون هو المنشأ للتخصيص بالإضافة إلى الفرد من دون أن يكون بنفسه موردا للتخصيص.
    فإن الدخيل في موضوع الحكم وإن كان هو العنوان ، تبعا لدخل منشأ انتزاعه في الملاك ، وأخذ الفرد ليس إلا لاتصافه بالعنوان ، إلا أن المتكلم قد يأخذ الفرد موردا للتخصيص دون العنوان ، لأنه ليس بصدد بيان موضوع الحكم مع إيكال تشخيصه للمخاطب ، بل بصدد تشخيص الموضوع بنفسه ـ إما لأنه مما يرجع إليه فيه ، أو لتيسر تشخيصه عليه أو لغير ذلك ـ فلا بد له من بيان مورد العنوان الدخيل في الحكم ، وهو الفرد وجعله بنفسه طرفا للتخصيص ، ولا معنى مع ذلك لأخذ العنوان ، بكون العنوان تعليليا ، كما ذكرنا.

    ومن هنا التبس الأمر على غير واحد فادعى تخصيص عموم لعن بني أمية بغير المؤمن ، وعموم إكرام الجيران بغير الأعداء ، ونحو ذلك ، مع الغافلة عن أن مورد التخصيص في ذلك هو الأفراد ، دون العناوين ، على ما تقدم توضيحه في التفصيل الثاني.
    ثانيهما : ما إذا كان العنوان انتزاعيا متفرعا على ثبوت الحكم لموضوعه ، على ما أطال الكلام فيه في التقريرات ، حيث لا مجال مع ذلك لأن يكون بنفسه دخيلا في متعلق الحكم المذكور ، كعنوان الصحيح والفاسد المجزي والمشروع وغيرها مما ينتزع من مطابقة الفعل للتشريع وعدمها ، وإن غفل عن ذلك غير واحد. فقد تقدم في أوائل مبحث الصحيح والأعم التعرض لتوهم بعضهم تقييد إطلاقات التشريع بناء على الأعم بالصحيح ، وأنه يمتنع لأجل ذلك التمسك بها مع الشك في الصحة ، وتكرر نظيره من صاحب الحدائق.
    وقد سبق دفعه بما ذكرناه هنا من امتناع التقييد بالصحيح ، بل مقتضى الإطلاق صحة كل ما يحتمل فساده ما لم يدل الدليل على عدم مشروعيته بخصوصيته تقييدا لإطلاق دليل المشروعية.
    نعم ، يمكن أخذها قيدا في غير أدلة التشريع مما يتضمن ترتيب الآثار على المسميات ، كتقييد ما تضمن أن تزويج البنت محرم لامها بالتزويج الصحيح ـ لو قلنا بأن المسمى هو الأعم ـ لعدم لزوم محذور أخذ المتأخر في المتقدم منه ، لأن العنوان المذكور متأخر رتبة عن تشريع العقد وتنفيذه ومنتزع منه ، لا عن ترتب الآثار الأخر عليه ، كما لعله ظاهر.
    ثم إنه يترتب على عدم أخذ العنوان طرفا للتخصيص أنه لا مجال لإحراز دخول الفرد في التخصيص أو خروجه عنه بالأصل المحرز للعنوان أو لعدمه ، بل لا بد من إحرازه بطريق آخر ، ولو كان هو العموم نفسه ـ لو كان صالحا لإثباته ، على ما تقدم تقريبه في بعض الموارد ـ أو كان هو الأصل المحرز المنشأ انتزاعه

    لو كان انتزاعيا. فلاحظ.
    الأمر الثاني : لا يخفى أن المخصص متصلا كان أم منفصلا ..
    تارة : يتضمن تحديد موضوع حكم العام بحدود مفهومية. فالمتصل كالتخصيص بالوصف في مثل قولنا : أكرم العالم العادل. والمنفصل كتخصيص قولنا : أكرم العلماء بقولنا : إنما يكرم العالم العادل.
    واخرى : لا يتعرض لحكم العام ولا لتحديد موضوعه ، بل لتحديد ما يخرج عنه ويكون موضوعا لحكم الخاص.
    فالمتصل كالتخصيص بالاستثناء في مثل قولنا : أكرم العلماء إلا النحويين ، حيث لا يتضمن تحديد الباقي المحكوم بحكم العام ، بل تحديد الخارج عنه ، وهو المستثنى المحكوم بحكم الخاص.
    والمنفصل كتخصيص عموم قولنا : أكرم العلماء بقولنا : لا يكرم النحوي ، ولا إشكال في أن هذا القسم يوجب تعنون موضوع حكم العام بالعنوان الخاص بنحو يمنع من ظهور العام في تعنونه بعنوانه لو كان متصلا ويوجب رفع اليد عن ظهوره في ذلك لو كان منفصلا.
    لكن يظهر من استدلال بعض المحققين قدّس سرّه لعدم نهوض المخصص المنفصل ببيان تعنون موضوع حكم العام على خلاف مقتضى العام عموم ذلك لهذا القسم من المنفصل ـ وإن ذكره في القسم الثاني ـ قال : «لما أشرنا إليه سابقا من أن الواقع لا ينقلب عما هو عليه ، فما هو الموضوع لحكم العام بحسب الظهور المنعقد له يستحيل أن ينقلب عما هو عليه بسبب ورود كاشف أقوى ، بل يسقط عن الحجية في القدر المزاحم. لا يقال : يكشف المخصص عن أن الموضوع الحقيقي للحكم ما عدا الخاص ، لا أنه يوجب انقلاب الظهور ، ليقال : إنه محال.
    لأنا نقول : ليس للموضوعية للبعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ

    انتزاعه مقام إلا مقام تعلق البعث الإنشائي بشيء ، وجعل الداعي إلى غير ما تعلق به البعث الإنشائي محال ، لأنه مصداق جعل الداعي ، والمفروض تعلقه بهذا العنوان ، فصيرورته داعيا إلى غير ما تعلق به خلف محال ، فليس شأن المخصص إلا إخراج بعض أفراد العام وقصر الحكم على باقي الأفراد من دون أن يجعل الباقي معنونا بعنوان وجودي أو عدمي».
    وكأنه يريد بذلك ـ على غموض في كلامه ـ أن البعث الحقيقي لما كان تابعا للبعث الإنشائي فموضوعه هو موضوع البعث الإنشائي المستفاد من الكلام ، وحيث كان المفروض تعلق البعث الإنشائي بعنوان العام وكان الغرض من تعلقه به داعويته له فلا مجال معه لفرض كونه داعيا إلى غيره ، لأنه خلف محال فيتعين البناء على بقائه على ما هو علة من داعويته إلى نفس عنوان العام ، كما هو مقتضى ظهوره ، فيكون عنوان العام هو الموضوع للبعث الحقيقي ، وإن لم يكن حجة في المقدار الخارج بالتخصيص ، عملا بأقوى الحجتين.
    ومنه يتضح عدم الفرق بين أدلة التخصيص المنفصل وعدم اختصاص ذلك بالقسم الثاني منه بعد اشتراك القسمين في انعقاد ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع.
    وفيه : أن البعث الحقيقي وإن كان تابعا للبعث الإنشائي ، وكان الغرض من البعث الإنشائي جعل الداعي على طبقه ، إلا أن تبعية البعث الإنشائي لظهور العام متفرع على حجية العام في الكشف عن مراد المتكلم ، فمع فرض معارضة ظهور الخاص له في ذلك وتقديمه عليه يتعين رفع اليد عن ظهور العام في تحديد موضوع البعث الإنشائي ، فإن كان الخاص وافيا به كان هو الحجة في تعيينه ، ولا مجال معه للرجوع فيه للعام.
    بل كيف يمكن الجمع بين فرض موضوعية عنوان العام لحكمه مع خروج بعض أفراده عنه ، إذ من المعلوم أن مرادهم بالموضوع ما هو كالعلة التامة

    للحكم بحيث لا ينفك عنه ، وقد تقدم منا نظير ذلك في رد نظيره الذي تقدم من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه عند الاستدلال لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
    نعم ، لو لم يكن مقتضى الجمع بين العام والخاص عدم مطابقة العام لمراد المتكلم ، بل يبقى ظهوره حجة عليه ، غايته أنه يحمل مراد المتكلم به على ضرب القاعدة الظاهرية عند عدم الدليل المخرج ، فيكون حكم العام ظاهريا لا واقعيا ، يتجه حينئذ البناء على كون عنوان العام تمام الموضوع لحكمه الظاهرى المذكور ، فيطابق ظاهره من كونه صادرا بداعي جعل الداعي ، ولا ينافيه الحكم الثابت في مورد الخاص ، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.
    لكن مرادهم بتعنون موضوع حكم العام هو موضوع حكمه الواقعي المستفاد بعد التخصيص ، الظاهري المذكور.
    ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من صلوح الخاص في هذا القسم لبيان تعنون موضوع حكم العام بعنوانه بما له من حدود مفهومية.
    وأما القسم الثاني فقد اختلفوا في مقتضى الجمع بينه وبين العام على أقوال واحتمالات ..
    الأول : أنه يوجب تعنون موضوع حكم العام بعنوان وجودي مضاد لعنوان الخاص. ولعله المتراءى من بعض عبارات التقريرات ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
    الثاني : أنه يوجب تعنونه بكل عنوان مناف لعنوان الخاص ، كما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه. وأما حمل كلامه على أن كل عنوان مباين لعنوان الخاص لا ينافي حكم العام. فهو بعيد عن ظاهر كلامه غير مناسب للثمرة التي رتبها عليه.
    الثالث : أنه يوجب تعنونه بعنوان عدمي نقيض لعنوان الخاص. وبه

    صرح بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    الرابع : أنه لا يقتضي تعنون موضوع الحكم بعنوان آخر غير عنوان العام ، بل يوجب خروج مورده عن عموم الحكم. وإليه ذهب بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما ويناسبه ما تقدم من بعض المحققين من المحشين في القسم الأول.
    لكن لا ينبغي التأمل في بطلان الأول ، لمخالفته للمرتكزات في فهم الأدلة ، لوضوح أن المدلول المطابقي للتخصيص في هذا القسم ليس إلا إخراج مورده عن حكم العام ، وهو لا يستلزم أخذ العنوان المضاد للخاص في موضوع حكم العام بنحو يكون دخيلا في ثبوته واقعا وفي التعبد به ظاهرا.
    ولا سيما وأن العناوين المضادة للخاص قد تتعدد مع تلازمها ، والترجيح بينها في الموضوعية بلا مرجح ، والجمع بينها بلا فائدة ، فيمتنع للزوم اللغوية.
    ومنه يظهر ضعف الثاني ، ومجرد ثبوت حكم العام مع أي عنوان يفرض لا يستلزم دخلها فيه ، كما هو الحال في جميع العناوين الملازمة لموضوع الحكم.
    وأما الثالث فقد استدل عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنه حيث كان الإهمال في موضوع الحكم ممتنعا فموضوع حكم العام بالإضافة إلى عنوان الخاص إن كان ملحوظا بشرط شيء أو لا بشرط لزم التناقض والتهافت بين حكم العام وحكم الخاص ، فتعين لحاظه بشرط لا ، وهو المدعى ، لرجوعه إلى تقييد موضوعه بعدم عنوان الخاص.
    وقد يجاب عن ذلك : بإمكان اشتمال ذات المطلق المحفوظة في أفراد عنوان العام على ملاك مقتض لحكمه ، مع اشتمال الواجد منها لعنوان الخاص على ملاك مقتض لحكم الخاص أيضا ، ومع أقوائية الثاني يثبت حكم الخاص للمقيد بما هو مقيد ، وإن كانت الذات المحفوظة فيه بما هي هي مشتملة على

    الملاك المقتضي لحكم العام. ومن هنا لا مانع من كون تمام موضوع حكم العام هو عنوانه مع ثبوت حكم الخاص لمورده.
    لكنه كما ترى! فإن ذلك إنما يتم في العناوين الثانوية التي لا يكون موضوع الحكم وملاكه قاصرا عن موردها ، بل يكون طروها مانعا من فعلية الحكم مع تمامية مقتضبة ، وموردها خارج عن المتيقن من باب التخصيص وداخل في التزاحم الملاكي.
    على أنه انما يقتضي إطلاق موضوع حكم العام الاقتضائي ، لا الفعلي الذي هو محل الكلام ، وإلا فعموم موضوع الحكم الفعلي لا يجتمع مع التخصيص. بل لا بد في مثل ذلك من الالتزام بأخذ عدم عنوان الخاص في موضوع حكم العام ، لأن عنوان الخاص لما كان من سنخ الرافع أو المانع كان عدمه متمما لموضوع الحكم ، كما يكون عدم المانع متمما للعلة في التكوينيات ، كما لا يخفى.
    ويختص الإشكال بما إذا كان عنوان العام قاصرا عن الاقتضاء في مورد الخاص ، الذي هو المتيقن من باب التخصيص.
    والذي ينبغي أن يقال : أنه لا إشكال في أن التخصيص يكشف عن عدم إطلاق موضوع حكم العام واختصاصه بفاقد القيد ، إلا أنه لا يستلزم أخذ عنوان نقيض الخاص قيدا في موضوع الحكم ، بحيث يكون سورا له ودخيلا فيه ، بل يمكن كون قصر الحكم عنه بنتيجة التقييد. فما هو الدخيل في موضوع حكم العام في مورد فقد عنوان الخاص ليس إلّا عنوان العام وإن لم يكن صالحا للتاثير في مورد عنوان الخاص. وليس ذلك لأخذ عنوان عدم الخاص متمما لموضوع حكم العام ، بل هو محض لازم مقارن مع كون تمام الموضوع في مورده المأخوذ من الشارع هو عنوان العام لا غير.
    وحينئذ لا ملزم باستفادة تقييد موضوع حكم العام بعدم عنوان الخاص

    بعد أن لم يكن مفاد التخصيص المطابقي ولا الالتزامي إلا خروج مورد الخاص عن حكم العام وقصور ، عنوان العام عن تأثير حكمه في مورده ، بل يتعين اختصاص الموضوع العنواني بعنوان العام ، وإن لم يكن تمام الموضوع الحقيقي الذي هو بمنزلة العلة التامة يدور الحكم مداره وجودا وعدما ، لفرض قصوره في مورد الخاص. ولا يبعد رجوع ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه لذلك.
    بقي الكلام في ثمرة الأقوال في المقام ، وهي تظهر في التمسك بالاصول الموضوعية لإحراز حكم العام في الفرد المشتبه ، لوضوح أنه لا بد في ترتب الحكم الذى تضمنه الدليل عملا من إحراز موضوع حكمه ، ولا ينفع فيه إحراز غيره من العناوين ، وإن كان لازما للموضوع إلا بناء على الأصل المثبت.
    وحينئذ يلزم في ترتيب حكم العام في المقام على الأول إحراز العنوان الوجودي المضاد للخاص ، وعلى الثالث إحراز العنوان العدمي ، وعلى الثالث يكفي إحراز أي عنوان مناف له وجوديا كان أو عدميا.
    وهذا كله واضح ، إنما الإشكال على القول الرابع ، فقد صرح بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما بامتناع التمسك بالأصل الموضوعي وجوديا كان أو عدميا ، وأن الأصل العدمي وإن كان ينفع في نفي حكم الخاص إلا أنه لا يقتضي إثبات حكم.
    نعم ، لو لم يتضمن العام حكما ، بل مجرد نفي حكم الخاص ـ كما لو قيل : لا يجب إكرام العالم إلا العادل ـ لزم ترتبه ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
    لكن يصعب البناء على ذلك بالنظر للمرتكزات الاستدلالية ، فإذا قيل : يجب صلة كل فقير ، ثم ورد : يستحب صلة الفقير المكفي المئونة. فالتوقف عن وجوب صلة زيد مع استصحاب عدم كونه مكفي المئونة بعيد جدا ، ولا يظن منهما ولا من غيرهما البناء على ذلك في نظائره من الفقه.
    بل قد جرى سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه على خلاف ذلك في جملة

    من الفروع ، فقوّى وجوب تغسيل من شكّ في شهادته ، لأصالة عدم شهادته المحرزة لدخوله في عموم وجوب تغسيل الميت ، والعفو عن قليل الدم المشكوك كونه دم الحيض أو نحوه ، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم العفو عما دون الدرهم ، وعدم العفو عن الدم المشكوك كونه من القرح أو القرح ، لأصالة عدم كونه منهما المحرزة لدخوله في عموم مانعية النجاسة من الصلاة.
    بل قال عند الكلام في الأخير : «بناء على ما هو الظاهر من أن نفي عنوان الخاص بالأصل يكفي في ثبوت حكم العام له». وهو صريح في مخالفته لما ذكره هنا من عدم الاكتفاء بالأصل المذكور.
    نعم ، قال في وجه ذلك عند الكلام في الثاني : «وقد عرفت أن الجمع بين الخاص والعام يقتضي عرفا كون موضوع حكم العام عنوان العام الذي ليس بخاص».
    وهو صريح في عدوله عن أصل مبنى المنع من التمسك بالأصل ، وبنائه على الوجه الثالث دون الرابع.
    لكن لم يتضح بناء العرف على ذلك في غير ما إذا كان عنوان المخصص ثانويا بعد ما ذكرنا. كما لم يتسن لي عاجلا العثور على توضيح ذلك منه لينظر فيه.
    ولا يبعد كون استيضاحه له ناشئا عما أشرنا إليه من قضاء المرتكزات الاستدلالية بالاكتفاء في ثبوت حكم العام للفرد بالأصل المحرز لعدم دخوله في عنوان الخاص ، لدعوى التلازم بينهما.
    لكن الظاهر عدم التلازم بينهما ، بل يكفي الأصل المذكور حتى بناء على ما ذكرنا من عدم تعنون موضوع حكم العام بالعنوان العدمي النقيض للخاص. لأن العنوان العدمي وإن لم يكن مأخوذا في موضوع حكم العام ولا دخيلا

    في ترتبه ، إلا أن إحرازه يقتضي إحراز عدم خروج مورده عن عموم حكم العام ، بل إحراز بقائه تحته محكوما بحكمه.
    إن قلت : كون المورد محكوما بحكم العام ليس مفادا للأصل المذكور ، ولا أثر لمفاده بعد فرض عدم أخذ القيد العدمي في موضوع حكمه ، بل هو لازم له ، فالتمسك به فيه لا يخرج عن الأصل المثبت.
    قلت : التخصيص وإن لم يقتض تعنون موضوع العام بعنوان عدم الخاص ، إلا أنه يقتضي تحديد موضوعه بما يطابقه ، لما أشرنا إليه من أنه يكشف عن عدم كون عنوان العام تمام الموضوع الحقيقي ، بل هو مقيد بخصوصية ما ، وهذه الخصوصية وإن لم تحدد من قبل الشارع الأقدس مفهوما بعنوان صالح لأن يكون سورا للموضوع ، إلا أنها قد حدّدت من قبله مصداقا ببيان عدم خروج غير موارد عنوان الخاص عنه ، فمع إحراز أن الفرد من القسم الباقي لا الخارج بالأصل الموضوعي يحرز واجديته لحدّ الموضوع المأخوذ من قبل الشارع.
    وذلك كاف في الخروج عن الأصل المثبت ، لأن المعيار فيه ليس على إحراز عنوان موضوع الحكم الدخيل فيه ، بل على إحراز مورده ، تبعا للحدّ المستفاد من الشارع الأقدس الإناطة في مقام العمل وبيان الحكم وإن كان من طريق اللازم ، كما ذكرناه في بحث الأصل المثبت.
    وإلا فأخذ العنوان في الأدلة اللفظية لا ظهور له إلا في ترتب الحكم عند ترتب العنوان وتحديد مورده ، لا في دخل العنوان في الحكم ، لإمكان أن يكون العنوان ملازما لما هو الدخيل فيه ، غايته أنه قد يشعر بدخله فيما لو كان مناسبا للحكم ارتكازا. فلو لا الاكتفاء بإحراز ذلك في التعبد بالحكم والخروج عن الأصل المثبت لم يكن وجه للاكتفاء بإحراز العنوان إلا مع العلم بدخله في الحكم بمعنى دخل منشأ انتزاعه ، ومن المعلوم من المرتكزات الاستدلالية

    خلافه.
    ويظهر وجه ذلك بملاحظة ما ذكرناه في مبحث الأصل المثبت من أن منشأ عدم الرجوع إليه هو انصراف أدلة التعبد الظاهري إلى التعبد بالكبريات الشرعية موضوعا أو حكما ، ولا تشمل الملازمات الخارجية. وهو مختص عرفا بما إذا لم تكن الملازمة مستفادة من الشارع الأقدس في مقام تحديد الحكم وبيان مورده من دوم خصوصية للعنوان في ذلك.
    وقد يتضح ما ذكرنا بملاحظة ما إذا نسخ حكم العام في مورد عنوان الخاص ، فإن استفادة تعنون الباقي بعنوان عدم الخاص بعيد جدا ، وعدم الاكتفاء بأصالة عدم الخاص لإحراز حكم العام أبعد.
    وأما عدم الاكتفاء بإحراز العنوان الانتزاعي ـ وإن كان مذكورا في كلام الشارع الأقدس ـ فليس هو لعدم دخل العنوان المذكور في الحكم ، بل لسوقه في كلام الشارع لمحض الحكاية عما هو الحد للحكم من دون أن يراد به تحديد الحكم وبيان موارده.
    وبما ذكرنا يتضح أنه لا فرق بين القول الثالث والرابع في مقام العمل. ومن ثم لا يهم تحقيق الحق منهما مع وضوح بطلان القولين الأولين ، وكون الثمرة المشتركة بين القولين الأخيرين ارتكازية. فلاحظ.
    الأمر الثالث : قال المحقق الخراساني قدّس سرّه : «ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقا للنذر ، بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء بالنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك».

    ثم تعرض لرد ذلك. وسبقه إلى ذلك في التقريرات.
    وحاصل ما ينبغي أن يقال في وجه رده : أن الاستدلال بعموم الحكم الثانوي ـ كوجوب الوفاء بالنذر وبالشرط ، وإطاعة المولى والزوج والوالدين ـ فرع إحراز موضوعه ، وحيث فرض تقييده بالحكم الأولي ـ كالرجحان في الوفاء بالنذر ، وعدم مخالفة الكتاب في الوفاء بالشرط وعدم معصية الله سبحانه في إطاعة المخلوق ـ فإن كان التقييد به مستفادا من قرينة متصلة كان التمسك بالعموم مع الشك في القيد تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام الذي لا يصح بلا كلام. وإن كان تقييده به مستفادا من قرينة منفصلة كان التمسك به مع الشك المذكور تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي سبق أن التحقيق عدم جوازه. وإذا لم يصح التمسك بعموم الحكم الثانوي : لا مجال للانتقال للازمه ، وهو الحكم الأولي المذكور.
    على أنه لو صح التمسك بالعموم المذكور لم يصح إثبات اللازم المذكور إلا إذا كان لزومه عقليا ، أما إذا كان شرعيا ـ تبعا لعموم الدليل ـ مع إمكان التخلف خارجا ـ تخصيصا للعموم ـ فالتمسك به مبني على ما يأتي في الأمر الرابع من الكلام في حجية العام في عكس نقيضه ، وهكذا الحال لو دل الدليل بالخصوص على ثبوت الحكم الثانوي المذكور في مورد.
    نعم ، لو كان ذلك الدليل مسوقا لبيان اللازم المذكور والكناية عنه من باب بيان اللازم ببيان الملزوم ، أو كان مستفادا منه بسبب ملازمة عرفية بينهما فلا إشكال.
    هذا ، وأما ما تضمن صحة الإحرام قبل الميقات والصيام في السفر مع نذرهما كذلك فهو أجنبي عما نحن فيه ، لأن مقتضاه سببية النذر لرجحان المنذور في الفرض وإن لم يكن راجحا في نفسه ، لا كشف وجوب الوفاء بنذره عن رجحان الفعل في نفسه مع الشك في رجحانه كذلك ، كما هو المدعى في

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:36 am

    المقام.
    هذا ، وقد تعرض المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره لبيان وجه صحة نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بما لا مجال لإطالة الكلام فيه لخروجه عن محل الكلام.
    الأمر الرابع : لا إشكال في جواز التمسك بالعام لإثبات حكمه بعد إحراز موضوعه ، وإنما الإشكال في جواز التمسك به لإثبات حال الموضوع بعد إحراز الحكم.
    وقد ذكر في التقريرات لذلك موردين :
    الأول : ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد معين وشك في كون خروجه عنه تخصيصا مع واجديته لعنوانه ، أو تخصصا مع عدم واجديته لعنوانه ، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء ، وعلم بعدم وجوب إكرام زيد واحتمل كونه عالما.
    الثاني : ما لو علم بعدم جريان حكم العام في مورد مردد بين ما هو من أفراد العام ليلزم التخصيص ، وما هو خارج عنه فيلزم التخصص ، كما لو ورد عموم وجوب إكرام العلماء ، وورد عدم وجوب إكرام زيد ، وكان زيد مشتركا بين شخصين أحدهما عالم دون الآخر. وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه المفروغية عن حجية العام فيهما ، كما صرح به في التقريرات ، ويقتضيه ما ذكره في الرسائل ، وحكي عنه في بعض الموارد. فيبنى في الأول على أن زيدا ليس بعالم ، وفي الثاني على أن المراد بزيد هو زيد غير العالم.
    بل قال في التقريرات : «وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ، كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنها «بأنها. ظ» لا تنجس المحل ، فإن كان نجسا غير منجس يلزم تخصيص قولنا : كل نجس منجس».
    هذا ، ولا إشكال ظاهرا في أنه لا نظر للعام في نفسه إلى حال

    الموضوعات ، بل هو متكفل بإثبات الحكم بعد الفراغ عن حال الموضوع.
    وغاية ما يقال في وجه ما في التقريرات : أن ثبوت الحكم لتمام أفراد العام الذي هو مقتضى أصالة العموم ـ لشرح حال الموضوع لزم البناء عليه ، لأن العام من سنخ الأمارة التي هي حجة في لازم مؤداها ، وليس كالأصل يقصر عن ذلك. فمثلا قضية : كل عالم يجب إكرامه ، تستلزم أن كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، لأنه عكس نقيضها الملازم لها في الصدق ، فيترتب عليه ما تقدم في المثالين.
    لكنه يندفع بما ذكره غير واحد : من أن الدليل على حجية العموم لما كان هو سيرة أهل اللسان الارتكازية لزم الاقتصار في حجيته على مقتضاها ، والمتيقن منها الرجوع للعام في تسرية حكمه لأفراده ، لا في شرح حال الموضوع من غير هذه الجهة.
    وما اشتهر من أن الأمارة حجة في لازم مؤداها ليس على إطلاقه على ما ذكرناه عند الكلام في الأصل المثبت من مباحث الاستصحاب. ولذا لا يظن منه قدّس سرّه البناء على رفع إجمال الخاص بالعام وإن كان العام حجة في مورد إجماله ، كما نبهنا عليه في أوائل هذا الفصل.
    نعم ، لو كان بيان الحكم المخالف للعام في مورد مسوقا لبيان عدم ثبوت حكم العام فيه أو مستفادا منه بسبب الملازمة العرفية الذهنية بينهما من باب بيان الموضوع ببيان الحكم فلا إشكال في البناء على عدم التخصيص.
    لكنه ليس لأصالة العموم في العام ، بل لظهور الدليل المفروض في نفي عنوان العام ، كما في ما تضمن عدم وجوب غسل ملاقي بعض الامور ، كالجاف والمذي ، أو عدم وجوب الوضوء أو الغسل من بعض الامور كالقبلة وخروج المذي والاحتلام من دون خروج شيء وغيرها ، فإنه ظاهر في عدم تنجس الملاقي وعدم سببية الامور المذكورة للحدث ، ولا مجال معه لاحتمال التنجس وتحقق الحدث من دون أن يجب التطهير من الخبث أو التطهر من الحدث

    تخصيصا لعموم مانعيتهما.
    ولعل هذا هو الذي أوهم صحة الاستدلال بأصالة العموم في المقام ، كما نسبه في التقريرات للأصحاب في استدلالاتهم.
    ثم إنه لا إشكال في البناء في المثال الثاني المتقدم على ثبوت حكم العام في الفرد الواجد لعنوانه من طرفي التردد ، فيجب إكرام زيد العالم في الفرض لأصالة العموم بعد فرض الشك في التخصيص بالإضافة إليه بسبب إجمال الدليل. بل لا يبعد ـ بعد التأمل في مرتكزات أهل اللسان ـ البناء على انتفاء على حكم العام في الطرف الآخر ، للعلم الإجمالي بانتفائه في أحد الطرفين الراجع لاستلزام ثبوته في أحدهما لانتفائه في الآخر ، فإذا دل العام على ثبوته في الطرف الواجد لعنوانه دل على انتفائه في الطرف الآخر ، للملازمة بين الأمرين ، وإن لم يكن دالا على أنه هو المراد من الدليل المفروض الإجمال ، الذي هو ملازم أيضا لثبوت حكم العام في الطرف الواجد لعنوانه ، إذ لا مانع من حجية العام في إثبات أحد اللازمين دون الآخر ، تبعا للمرتكزات التي عرفت دوران حجية العام سعة وضيقا مدارها. وبذلك ينحل العلم الإجمالي المسبب عن إجمال الدليل المذكور ، فلا يهم النظر في مقتضاه الذي يختلف باختلاف نحو الحكم الذي تضمنه من حيثية كونه إلزاميا أو غيره. فلاحظ.


    الفصل الخامس
    في عموم الحكم لغير المخاطبين
    لا إشكال في عموم الأحكام التي تتضمنها الخطابات الشرعية لمن لم يوجد حين الخطاب ، فضلا عمن لم يحضر مجلسه من الموجودين حينه ، لما هو المعلوم من عموم الشريعة الإسلامية واستمرار أحكامها إلى يوم القيامة.
    وإنما الإشكال في أن ذلك مقتضى ظهور الكلام نفسه ـ إما لعموم الخطاب به أو بدونه ـ أو مستفاد من أدلة اخرى تقتضي اشتراك الكل في الأحكام المذكورة ، كما يظهر من جملة من عباراتهم ، فقد تكرر في كلماتهم الاستدلال على العموم بالإجماع على الاشتراك.
    ومن الظاهر أن محل الكلام هو الأحكام المستفادة من الأدلة اللفظية.
    وأما ما يستفاد من الأدلة اللبية ، فعمومه تابع لعموم الموضوعات المأخوذة في تلك الأدلة ، إذ لا محذور في نهوض الدليل اللبي بإثبات الحكم لمن لم يوجد حين تحقق الدليل على نحو يكون حجة عليه بعد وجوده وصلوحه للتكليف ، لتمحض الدليل اللبي في الكشف ، ولا مانع من انكشاف الحكم المذكور بهذا النحو وإن لم يوجد صاحبه بعد.
    إذا عرفت هذا فنقول : لا إشكال في ظهور الكلام في عموم الحكم لغير الموجودين إذا تضمن جعله على موضوعه بنحو القضية الحقيقية التي هي في قوة الشرطية من دون أن يتضمن جعل الموضوع طرفا للخطاب ، كما في قوله

    تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(1) ، وقوله صلّى الله عليه وآله : «رفع عن امتي تسعة ...» (2) وغيرهما ، ومثله في ذلك ما كان بنحو القضية الشرطية صريحا نحو قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)(3).
    وامتناع ثبوت الحكم لغير الموجود إنما هو بمعنى امتناع فعلية الحكم في حقه ، والدليل المذكور غير متضمن للحكم الفعلي ، بل لمجرد جعل الحكم على موضوعه وإنشائه ، بحيث لا يكون فعليا إلا بفعليته ، فكما يشمل الموجودين غير المتصفين بعنوان الموضوع إذا اتصفوا به بعد ذلك ، كذلك يشمل غير الموجودين إذا وجدوا واتصفوا به بعد ذلك.
    ولا يخل بذلك توجيه الخطاب بالقضية لجماعة خاصة أو لشخص واحد كالنبي صلّى الله عليه وآله ، لأن خطابهم لمجرد الإعلام أو لطلب التبليغ ، لا لاختصاص الحكم بهم ، ولذا قد لا يكونون واجدين لموضوع الحكم.
    وأما ما ورد بلسان خطاب الموضوع ، كما في كثير من آيات الأحكام والنصوص المتضمنة لخطاب السائلين أو الحاضرين بأحكامهم ، فقد يمنع العموم فيه لمن لم يحضر مجلس الخطاب من الموجودين فضلا عن غيرهم ، لامتناع الخطاب الحقيقي مع غير المواجه به.
    وقد حاول المحقق الخراساني قدّس سرّه دفع ذلك بأن أدوات الخطاب كضمائره وأدوات النداء ونحوها ليست موضوعة للخطاب الحقيقي ، بل الإيقاعي الإنشائي ، وإن كان بداع آخر غير التفهيم من التحسر والتأسف وغيرهما ، كما في خطاب العجماوات والجمادات وغيرها مما لا يصلح للخطاب الحقيقي.
    __________________
    (1) سورة آل عمران : 97.
    (2) راجع الوسائل ج 5 باب : 30 من ابواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : 2 وكذا الجزء 11.
    باب : 56 من ابواب جهاد النفس.
    (3) سورة الإسراء : 33.

    وكذا الحال في الخطاب بتوجيه الكلام وإن لم يكن بأدواته الخاصة. غاية الأمر أن المنصرف من الجميع إرادة الخطاب الحقيقي ، نظير ما ذكره في أدوات وصيغ المعاني الإنشائية من الاستفهام والطلب والتمني وغيرها. ولا مجال لذلك في خطابات الشارع الأقدس ، للمفروغية عن عدم اختصاص مضمونها بمن حضر مجلس الخطاب.
    ويشكل : بأن الخطاب يفترق عن غيره من المعاني الإنشائية ، فإن للمعاني الإنشائية واقعا نفسيا حقيقيا مباينا لمقام الإنشاء ، فتتجه دعوى وضع الأدوات والصيغ لمحض الإنشاء والإيقاع ، إما بداعي بيان ذلك الواقع النفسي أو بداع آخر.
    أما الخطاب فهو قائم بنفس الكلام ونحوه من أدوات البيان ، كالكتابة والإشارة وغيرها ، وليس له واقع وراء ذلك ، يكون هو المراد بالخطاب الحقيقي لتتجه دعوى وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي ، وأنه تارة يكون بداعي الخطاب الحقيقي ، واخرى بداع آخر. بل ليس في المقام إلا أمر واحد ، وهو الخطاب الحقيقي الذي هو مقتضى الكلام.
    ولذا قد يدعى تجريد الكلام عن معناه في مورد خطاب من لا يقبل الخطاب ، ويكون مجازا. لكنه بعيد جدا عن المرتكزات الاستعمالية والبيانية ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لها.
    ومن هنا فالظاهر أنّه اريد بخطاب من لا يقبل الخطاب خطابه حال عدم قابليته ، كخطاب الأموات والرسوم والأطلال وغيرها ، فهو مبني على ادعاء أنه صالح للخطاب بإعمال قوة التخييل.
    ولذا قد ينسب إليه ما يناسب الخطاب مما هو من شأن ذي الإحساس والشعور ، كالجواب والعتاب والبكاء والضحك والفرح والحزن وغيرها.
    وإن اريد به خطابه بعد قابليته للخطاب وتفهيمه حينئذ ، كخطاب الغائب

    أو غير الموجود بالكتابة والتسجيل في مقام الوصية أو نحوها ، كان مبنيا على ملاحظة الحال الذي يصلح معه للخطاب كأنه حالّ حاضر ، ولذا لا يترتب على الخطاب في القسم الأول أي أثر ويتمحض في التخييل ، أما في هذا القسم فيترتب الأثر في وقته ، لقصد التفهيم حينه بالخطاب ، كما يقصد بخطاب الحاضر القابل للخطاب.
    لكن من الظاهر أن جميع ما تقدم في توجيه الخطاب في حق من هو غير قابل له مبني على عناية تحتاج إلى قرينة.
    وما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن عموم الحكم واستمراره يصلح قرينة على ذلك. في غير محله ، لإمكان قصر الخطاب بالحكم العام على بعض المكلفين وتبليغ غيرهم به من غير طريق الخطاب المذكور ، كخطاب آخر أو الإجماع على الاشتراك في المقام أو غيرهما. بل هو المقطوع به في البيانات الخاصة الواردة في النصوص المتضمنة لخطاب الحاضرين أو السائلين بأحكامهم. ولذا قد تشتمل تبعا على بعض الخصوصيات الزائدة على الحكم مختصة بهم دون غيرهم ، حيث لا مجال مع ذلك لعموم الخطاب لغيرهم. ومن ثمّ لا يكون دالا بالمطابقة إلا على حكم المخاطب.
    غاية الأمر أنه قد يستفاد عموم الحكم من الكلام بضميمة إلغاء خصوصية مورده عرفا ولو للمفروغية عن عموم أحكام الشريعة واستمرارها التي هي من سنخ القرينة الحالية المحيطة بالكلام. ولذا قد يتعدى في غير مورد الخطاب أيضا لو تضمن الكلام بيان حكم شخص خاص غير مخاطب.
    وحينئذ لا بد في تحديد الموضوع من الاقتصار في الخصوصيات الملغية على المقدار المتيقن إلغاؤه عند العرف ، بلحاظ القرائن المقالية والحالية ، ومنها المناسبات الارتكازية ، دون ما لم يستظهر إلغاؤه ، ولا ضابط لذلك.
    لكن ذلك غير عموم الخطاب لغير من يحضر مجلسه أو يوجه له بأحد

    الوجوه المتقدمة التي عرفت احتياجها للقرينة.
    نعم ، قد يتجه ذلك في الخطابات القرآنية الموجهة للعناوين كالناس والمؤمنين والعباد ، وذلك لما هو المعلوم من عدم خطابه تعالى لهم في مجلس خاص وبنحو المشافهة ، ليمكن حمله على ظاهره من دون تنزيل ولا عناية ، وإنما هو منزل على النبي صلّى الله عليه وآله للتبليغ به ، فلا بد أن يكون المخاطب به كل من أريد تبليغه سواء كان موجودا أو صالحا للتبليغ حين التنزيل أم لا ، لأنه صلّى الله عليه وآله مرسل للكل ، كل في وقته.
    ويتعين حمله على ما سبق منا من تنزيل حال الصلوح للتبليغ والخطاب منزلة الحال الحاضر.
    ومثله في ذلك ما يوجه في الكتب ونحوها للعامة ، نظير كتب الأئمة عليه السّلام إلى شيعتهم ، وكتب الامراء لرعاياهم ، من طريق الولاة أو الرسل.
    وأما ما تضمن في القرآن المجيد خطاب النبي صلّى الله عليه وآله بضمير الجمع نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(1) ، فالخطاب فيه وإن اختص به صلّى الله عليه وآله ، إلا أن موضوع الحكم المبين بالدليل يعم جميع المسلمين حتى غير الموجودين حين الخطاب ، لوضع أدوات الخطاب بالجمع لما يعم خطاب الواحد وإرادة غيره معه في الحكم ، وحيث لا معين لمقدار الجمع ، وكان خطابه صلّى الله عليه وآله بلحاظ كونه مبلغا لغيره ، ينصرف لعموم من وظيفته صلّى الله عليه وآله تبليغه بالأحكام وإن لم يكن موجودا.
    نعم ، ما تضمّن خطابه صلّى الله عليه وآله بشخصه بضمير المفرد نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(2) ، يجري فيه ما سبق في الخطابات التي تضمنتها النصوص من أن مدلولها المطابقي خصوص حكم المخاطب ، ويكون التعميم
    __________________
    (1) سورة الطلاق : 1.
    (2) سورة الضحى : 9.

    لغيره بإلغاء خصوصية المورد ، أو بقرينة حالية أو مقالية تقضي بأن مبنى خطابه على ارادة تفهيم غيره ، من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).

    الفصل السادس
    في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
    قد وقع الكلام بينهم في أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يمنع من البناء على عموم حكمه فيقتصر فيه على خصوص الأفراد المرادة بالضمير ، أو لا ، بل يبقى العام على عمومه.
    والظاهر أن محل الكلام ما إذا كان حكم العام مباينا لحكم الضمير ، ليتجه احتمال التفكيك بينهما في العموم والخصوص ، دون ما لو كان الحكم واحدا ، كما في قولنا : أثم أعداء زيد بشتمهم له ، حيث لا إشكال ظاهرا في اختصاص حكم العام ، وهو الإثم بمن شتم زيدا ، دون غيرهم من أعدائه ، وإن أمكن إثمهم أيضا لا من جهة الشتم الذي هو حكم آخر لم يتضمنه العام.
    إذا عرفت هذا ، فالظاهر التفصيل بين أن يكون اختصاص حكم الضمير ببعض الأفراد مقتضى قرينة متصلة ، وأن يكون مقتضى دليل منفصل.
    فالأول : نحو قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1) ، فإن الإيلاء وإن كان هو الحلف على ترك الوطء ، فلا يمنع من عموم النساء للمتمتع بها ، إلّا أن قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) مختص بمن يشرع طلاقهن ، وهن الدائمات.
    وفي مثل ذلك يتعين التوقف عن عموم حكم العام ، فلا يبنى على عموم
    __________________
    (1) سورة البقرة : 226 ، 227.

    حكم الإيلاء في الآية للمتمتع بها ، لأن ذلك من القرائن المحيطة بالكلام المانعة من انعقاد الظهور في عمومه. وجميع ما ذكر في كلماتهم في وجه عدم رفع اليد عن العموم ولزوم التصرف في الضمير لو تم إنما يتوجه مع انعقاد الظهور في العموم وبلوغه مرتبة الحجية.
    والثاني : نحو قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ...
    (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ...)(1) ، فإن ظاهر الصدر عموم العدة للمطلقات ، وظاهر الذيل المشتمل الضمير جواز الرجوع بكل مطلقة ذات عدة. وتخصيصه ببعض الأقسام إنما استفيد من أدلة أخرى خارجة عن الكلام.
    والفرق بينه وبين الآية الاولى أنه وارد لتشريع الرجعة ، فيكون ظاهرا في عموم تشريعها للمطلقات بمقتضى إسناده لضمير هن. أما الآية الاولى فهي غير واردة لتشريع ، لتكون ظاهرة في عموم تشريعها للمؤالي منهن ، بل لبيان أن الطلاق يحل مشكلة الإيلاء عملا بعد الفراغ عن تشريعه ، فلا يكون لها ظهور في عموم تشريعه.
    وكيف كان ، ففي هذا القسم حيث لا إشكال في انعقاد الظهور في عموم حكم العام ـ كثبوت العدة للمطلقة في الآية ـ الذي هو حجة في نفسه ، لا ملزم برفع اليد عنه بالدليل الخارج المتضمن تخصيص حكم الضمير ، لعدم التلازم بينهما ، فلا مجال للبناء عليه والخروج عن أصالة العموم.
    إن قلت : لما كان ظاهر الكلام التطابق بين الضمير ومرجعه فبعد قيام الدليل الخارج على اختصاص حكم الضمير ببعض أفراد العام يدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على خصوص الأفراد الباقية المحكومة بحكم الضمير ، والتصرف في الضمير بالبناء على عدم التطابق بينه وبين مرجعه من باب الاستخدام ، أو على التوسع في إسناد الحكم عليه على عمومه مع ثبوت
    __________________
    (1) سورة البقرة : 228.

    حكمه لبعض أفراده ، وليس التصرف في الضمير بأحد الوجهين بأولى من التصرف في العام بالتخصيص ، بل لعل الثاني أولى. ولا أقل من التوقف عن عموم العام بعد عدم المرجح.
    ودعوى : أن التصرف في عموم المرجع تصرف في الضمير أيضا ، والتصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في عموم المرجع ، فالتصرف في الضمير معلوم على كل حال ، ولا تجري فيه أصالة الضمير ، والتصرف في العام مشكوك ، فتجري فيه أصالة الظهور.
    مدفوعة : بأن مقتضى الظهور في الضمير ليس هو حمله على ما يظهر من مرجعه مطلقا ، بل حمله على ما يراد من مرجعه ، فإذا فرض كون المراد بمرجعه بعض الأفراد ، فإرادة خصوصها بالضمير لا تنافي ظهوره ، بل هي على طبق أصالة الظهور فيه ، وإنما يكون إرادة خصوصها منافية لظهوره إذا اريد من مرجعه العموم الذي هو على طبق ظهوره. ومن ثم لا يكون في المقام إلا تصرف واحد في الضمير أو في المرجع.
    وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من عدم نهوض أصالة الظهور في الضمير بمعارضة أصالة الظهور في العموم ، لأن أصالة الظهور إنما تكون حجة في تعيين المراد ، لا في تعيين كيفية الاستعمال مع العلم بالمراد ، والمفروض في المقام العلم بالمراد من الضمير وهو الخصوص ، والشك في المراد بالمرجع ، فلا تجري أصالة الظهور في الضمير لتعيين كيفية الاستعمال لتعارض أصالة الظهور في المرجع لتعيين المراد به وحمله على العموم.
    فيشكل : بأن ذلك إنما يتم مع تعدد الكلام ، وأما مع وحدته ولزوم التصرف فيه تبعا للقرينة الخارجية ـ وهي في المقام القرينة الدالة على تخصيص حكم الضمير ـ فلا بد من ملاحظة جميع خصوصيات الكلام في مقام التصرف فيه ، وتنزيله على مقتضي القرينة.

    وبعبارة اخرى : ليس التعارض في المقام بين أصالة الظهور في المرجع وأصالة الظهور في العام ، ليتجه ما تقدم من حجية أصالة الظهور في تعيين المراد دون كيفية الاستعمال ، بل بين الكلام الظاهر في عموم حكمي الضمير ومرجعه معا والقرينة الخارجية الدالة على تخصيص حكم الضمير ، وبعد فرض تقديم القرينة يتعين التصرف في الكلام وتنزيله بمجموعه على ما يناسبها ، وليس التصرف فيه بتخصيص حكم الضمير وحده مع استلزامه التصرف فيه بأحد الوجهين المتقدمين بأولى من التصرف فيه بتخصيص كلا الحكمين وحمل المرجع على خلاف ظاهره الذي لا يستلزم التصرف في الضمير. بل لعل الثاني أولى ، كما تقدم.
    قلت : إنما يتم ذلك لو كان مرجع الجمع بين العام والخاص بالتخصيص إلى حمل العام على كونه مستعملا في بعض أفراده ، حيث يلزم مع تخصيص حكم الضمير دون حكم مرجعه التصرف في الضمير بالوجه المتقدم ، وقد سبق أن الجمع بينهما لا يبتني على ذلك ، بل على مجرد رفع اليد عن ظهور العام في إرادة العموم لمورد الخاص تقديما لأقوى الحجتين في الكشف عن مراد المتكلم ، وإن أمكن أن يكون العام مستعملا في العموم لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ، أو مع قرينة متصلة على الخصوص قد خفيت علينا.
    ومن الظاهر أن ذلك يقتضي الاقتصار في المقام على مورد المزاحمة ، وهو حكم الضمير دون حكم مرجعه. بل لا مخرج فيه عن ظهور العام في العموم المفروض انعقاده وحجيته في نفسه.
    وأما ما يظهر من التقريرات من الإشكال في ذلك : بأن الضمير ليس من صيغ العموم ليدعى أنه هو المعارض لدليل التخصيص ، ويلزم الاقتصار في التخصيص عليه ، بل هو من سنخ الكنايات ، فتارة يكون كناية عن جماعة

    محصورة وأخرى عن غيرها ، والمعارض للتخصيص هو المرجع.
    فيندفع : بأن الضمير وإن لم يكن من صيغ العموم اصطلاحا إلا أنه كالعام في إمكان الحكم عليه وإرادة الخاص منه بقرينة متصلة حالية أو مقالية ـ كالاستثناء والشرط ـ أو منفصلة مع وروده لضرب القاعدة أو غير ذلك مما تقدم عند الجمع بين العام والخاص. ومن ثمّ لا مانع من معارضة دليل التخصيص له وتحكيمه عليه وحده.
    تنبيه :
    ما ذكرناه في معيار التفصيل يجري في جميع موارد اشتمال الكلام على عمومات متعددة ثبت التخصيص في بعضها بقرينة متصلة أو منفصلة واحتمل سريانه لجميعها. ومنه الجمل أو المفردات المتعددة المتعقبة باستثناء واحد ، كما في قولنا : أكرم العلماء وأكرم الأشراف إلا الفساق منهم ، وقولنا : أكرم العلماء والأشراف إلا الفساق ، وقولنا : أكرم العلماء وأضفهم إلا الفساق ، وقولنا : أكرم العلماء وجالس الأشراف إلا الفساق ، ونحوها.
    فيتوقف عن العموم في الأمثلة المذكورة بالإضافة إلى غير الأخير المتيقن التخصيص ، لأن التخصيص المذكور من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد الظهور في العموم في بقية المتعلقات والجمل.
    نعم ، لا يبعد أقربية الرجوع للأخير وحده مع اتحاد متعلق الحكم وتكراره لفظا ، كما في المثال الأول ، ليكون فائدة التكرار اللفظي وعدم الاكتفاء بعطف المفرد استقلال الجملة الأخيرة بمتعلقها ـ وهو الاستثناء ـ وانفرادها به.
    كما لا يبعد أقربية الرجوع للكل مع تعاطف المفردات ـ كما في المثال الثاني ـ أو الجمل المتضمنة لتكرار الموضوع بوجه تبعي وهو الضمير ـ كما في المثال الثالث ـ لاحتياج الاستثناء من المفرد والجملة المذكورة لعناية وكلفة.

    لكن في بلوغ ذلك حدّ الظهور النوعي الحجة إشكال ، بل قد يكون من سنخ النكت البلاغية التي لا توجب إلا الإشعار.
    وقد أطالوا الكلام في ذلك بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد ما ذكرناه من المعيار للظهور النوعي المتبع لو لا القرائن الخاصة التي لا تنضبط ، بل توكل لنظر الفقيه عند النظر في الأدلة.

    الفصل السّابع
    في الجمع بين المطلق والمقيد
    لقد جرى أهل الفن على تحرير هذه المسألة في مبحث المطلق والمقيد الذي هو بحسب تبويبهم مباين لمبحث العام والخاص.
    وحيث سبق ما في أول مبحث العام والخاص أن موضوعه يعم المطلق والمقيد تعين إلحاق هذه المسألة بالمبحث المذكور ، كما جرينا عليه هنا.
    هذا ، وقد سبق في أول فصل العام المخصص أن الكلام فيه بعد فرض تقديم الخاص على العام من باب الجمع العرفي الذي ذكرنا في مبحث التعارض ضوابطه ولزوم الجري عليه ، وهو مبني على فرض التنافي بين العام والخاص بحسب ظهورهما البدوي ، وعلى كون ظهور الخاص أقوى بحيث يصلح قرينة عرفا على تنزيل العام على غير مورده ، والأول مما يسهل تشخيصه بعد الإحاطة بالضوابط العامة للظهورات النوعية وملاحظة القرائن الخاصة المحيطة بالكلام ، والثاني مقتضى العام والخاص بطبعهما ، لأن الخاص في مورده كالنص بالإضافة إلى العام ، وإن أمكن أقوائية العام بلحاظ جهات أخر ، بحيث يكون التصرف في الخاص وتنزيله على ما لا ينافي العام أقرب من تخصيص العام به ، ولا ضابط لذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة.
    وذلك كما يجري فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ليكون من صغريات العموم يجري فيما لو كانت بمقدمات الحكمة ، ليكون من صغريات الإطلاق باصطلاحهم.

    غير أنه وقع الكلام بينهم في الجمع بين المطلق والمقيد بلحاظ بعض الجهات التي أوجبت تنبههم لتحرير الكلام في ذلك ، دون الكلام في الجمع بين العام والخاص.
    ونحن نتابعهم في ذلك ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير المطلق والمقيد. ومن هنا فحيث كان الجمع بين المطلق والمقيد فرع التنافي بدوا بينهما فالتنافي بينهما يتوقف على أمرين.
    أحدهما : وحدة الحكم الكبروي الذى يردا لتحديده ، فلو كان ظاهر كل منهما بيان حكم خاص به فلا تنافي بينهما ، لأن الإطلاق والتقييد من سنخ الضدين اللذين يتوقف التنافي بينهما على وحدة الموضوع ، وذلك ظاهر مع اختلاف موضوعيهما ، كما لو ورد : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، و : إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، أو : إن أفطرت فلا تعتق رقبة غير مؤمنة.
    ومنه ما لو اطلق أحدهما وعلق الآخر على موضوع خاص. وأما في غير ذلك فلا إشكال فيما لو صرح فيهما بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما.
    بل لا يبعد البناء على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين غير معلقين على شيء أو معلقين على أمر واحد ، حيث لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما ، لبعد اقتصار المتكلم في كل دليل على بيان أحد التكليفين ، وإهمال الآخر مع وحدة الموضوع.
    نعم ، الظاهر عدم الفرق بين الاحتمالين في لزوم الاتيان بالمقيد ، بناء على ما يأتي من حمل المطلق على المقيد مع وحدة التكليف ، وفي جواز الاقتصار على فرد منه ، بناء على ما سبق في مسألة التداخل من أن مقتضى القاعدة تداخل التكليفين في الامتثال مع اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد.
    وإنما يختلفان في أنه بناء على وحدة التكليف لا يكون الإتيان بالفاقد للقيد مع القدرة على المقيد مشروعا ، لعدم التكليف به بعد فرض حمل المطلق

    على المقيد ، بل وكذا مع تعذر القيد إلا بدليل خارجي يقتضي الاكتفاء بالميسور. وأما بناء على تعدده فيكون الإتيان بالفاقد مشروعا امتثالا لأمر المطلق ، كما يجب عند تعذر القيد ، لأن تعذر امتثال أحد التكليفين لا يسقط الآخر ، كما هو ظاهر.
    ثانيهما : أن يتنافيا بحسب ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد ، كما لو كان المطلق بدليا ، ظاهرا في الاكتفاء بأصل الماهية وكان المقيد ظاهرا في مطلوبية خصوصية منها ، أو عدم الاكتفاء بخصوصية منها ، كما في قولنا : اعتق رقبة ، مع قولنا : اعتق رقبة مؤمنة ، أو : لا تعتق رقبة كافرة.
    وأما لو كان المطلق شموليا ، وكان المقيد متضمنا ثبوت الحكم لبعض الأفراد أو في بعض الأحوال. فإن كان المقيد ظاهرا في الحصر فلا إشكال في التنافي بينهما. من دون فرق بين أن تكون دلالته نوعية وضعية أو سياقية ، كما في المفاهيم المتقدمة ، كقولنا : أكرم العالم ، مع قولنا : إنما يكرم العالم العادل ، أو : أكرم العالم إن نفع ، وأن تكون شخصية لخصوصية خاصة في الكلام ، كما لو ورد مورد التحديد. والظاهر وضوح لزوم تنزيل المطلق على المقيد عندهم ، لأن ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، بل كثيرا ما يكون أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.
    وأظهر من ذلك ما لو دل المقيد على نفي الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال صريحا أو ظاهرا ، كما في قولنا : أكرم العالم ، مع قولنا : لا يكرم العالم الفاسق ، أو : لا يكرم العالم إن لم ينفع.
    وإن لم يكن المقيد ظاهرا في الحصر فلا تنافي بين الدليلين ، لأن ثبوت الحكم لبعض الأفراد لا ينافي ثبوته لجميعها.
    ومن ثمّ يختص الكلام في المقام بالقسم الأول. بل مقتضى فرضهم

    الكلام الإثباتيين كون محل كلامهم بعض أقسامه ، وأن تحكيم المقيد مع كونه نافيا ليس موردا للإشكال ، كما صرح به بعضهم.
    إذا عرفت هذا ، فالمعروف بينهم حمل المطلق على المقيد. والوجه فيه ما أشار إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن ظهور المقيد في الأمر التعييني الإلزامي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد ، فيتعين تحكيم المقيد ورفع اليد عن الإطلاق. دون العكس وتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري ، بأن يراد به في المقام بيان أحد أفراد الواجب ، أو على الاستحباب التعييني ببيان أفضل الأفراد. لأن حمل الأمر بالشيء على كونه تخييريا لبيان أحد افراد الواجب بعيد عن ظاهره جدا ومحتاج إلى عناية خاصة.
    وحمله على بيان أفضل الأفراد وإن لم يكن كذلك ، إلا أنه أبعد من حمل المطلق على المقيد ، ولذا لا إشكال عندهم في تقديم المقيد المنفي مع أنه يمكن أيضا حمله على الكراهة ببيان الفرد المرجوح وإن كان مجزيا تحكيما للمطلق.
    نعم ، قد يحتفّ المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية تقتضي أقوائية المطلق ، فيلزم تحكيمه وحمل المقيد عليه بأحد الوجهين المتقدمين ، ولا سيما الثاني منهما ، كما لا يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي لقوة دلالته على العموم ، بنحو قد لا يسهل تنزيله على المقيد.
    لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام ، وأن مورد البحث المطلق المستفاد عمومه من مقدمات الحكمة مع المقيد في نفسيهما ، مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجري ذلك في بقية الأقسام ، التي عرفت عدم الإشكال بينهم في تقديم المقيد فيها ، كما لو كان المقيد منفيا أو مثبتا دالا على الحصر ، فيحكم المطلق للقرينة المذكورة ، ويحمل المقيد المنفي على بيان الفرد المرجوح ، والمثبت على أفضل الأفراد.

    هذا ، وقد استدل في كلماتهم على تقديم المقيد في محل الكلام ..
    تارة : بأنه جمع بين الدليلين ، وهو أولى من الطرح كما عن المشهور.
    واخرى : بأن المقيد يكشف عن عدم صدور المطلق في مقام البيان الذي هو شرط في انعقاد الإطلاق ، فلا إطلاق معه كي يرفع به اليد عن ظهور المقيد في الوجوب كما يظهر من التقريرات.
    وثالثة : بأنه مقتضى مفهوم الوصف ، كما عن البهائي ، ولذا أورد على المشهور بالتناقض ، لعدم بنائهم على ثبوت مفهوم الوصف.
    ورابعة : بالاحتياط ، كما يظهر مما عن المحقق القمي.
    والكل كما ترى! لاندفاع الأول : بعدم انحصار الجمع بالوجه المذكور ، كما يظهر مما سبق.
    والثاني : بأنه يكفي في انعقاد الإطلاق عدم البيان المتصل ، كما سبق عند الكلام في مقدمات الحكمة.
    والثالث : بأن موضوع المقيد قد لا يكون وصفا ، فلا مفهوم له إجماعا ، ولو كان له مفهوم خرج عن محل كلامهم من فرض الدليلين مثبتين ، كما نبه له في التقريرات.
    والرابع : بأن الكلام في مفاد الجمع بين الدليلين عرفا ، لا في مقتضى الأصل العملي الذي هو مورد للكلام في مسألة الدوران بين المطلق والمقيد. فالعمدة ما سبق.
    نعم ، قد يستشكل فيه بعدم بنائهم عليه في المستحبات ، بل يغلب بناؤهم فيها على حمل المقيد على أفضل الأفراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه تحكيما للإطلاق. ولعل ذلك هو الموجب لتحرير المسأله في كلماتهم والمنبه لخصوصيتها من بين فروض العام والخاص ، حتى افردت بالبحث والكلام.
    وقد حاول في التقريرات تقريب الفرق بين الواجبات والمستحبات ..

    تارة : بغلبة العلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، فلا يصلح المقيد للكشف عن عدم ورودها في المقام المذكور ، ليمنع من انعقاد الإطلاق على مسلكه المتقدم. ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.
    واخرى : بغلبة العلم باختلاف مراتب المحبوبية في المستحبات ، ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.
    وزاد عليه المحقق الخراساني قدّس سرّه بأن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة السنن استحباب المطلق على إطلاقه.
    ويشكل الكل : بعدم المنشأ للعلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، وعدم صلوح المقيد المنفصل للمنع من انعقاد الإطلاق حتى في الواجبات كما سبق. كما أن غلبة اختلاف مراتب المحبوبية ـ مع قرب استناد إحرازها ولو ببعض مراتبها لبنائهم على الجمع المذكور ، فلا تكون مستندا له ـ لا تختص بالمستحبات ، لما هو المعلوم من كثرة اختلاف أفراد الواجبات في الفضيلة. مضافا إلى الإشكال فيه وفي ما قبله بعدم وضوح كون الغلبة من القرائن الموجبة لتبدل مقتضى الجمع العرفي.
    وأما قاعدة التسامح في أدلة السنن فهي ـ على التحقيق ـ إنما تنهض بحسن الإتيان بالفعل بالرجاء المطلوبية ، لا بالاستحباب الشرعي ، كما هو مبناهم في المستحبات في المقام.
    على أنه لما كان موضوعها بلوغ الثواب على العمل فالمطلق وإن كان في نفسه دليلا على استحباب ما عدا أفراد المقيد فيصدق به بلوغ الثواب عليه ، إلا أنه إذا كان مقتضى الجمع العرفي حمله بقرينة المقيد على ما عدا فاقد القيد خرج عن كونه دليلا على ذلك ولم يتحقق به موضوع القاعدة. فتأمل.
    مضافا إلى أنه لو تم كون مقتضى القاعدة استحباب فاقد القيد فلا يتضح وجه البناء على كون فاقد القيد أفضل الأفراد. وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا

    المحقق الخراساني قدّس سرّه.
    فالذي ينبغي أن يقال أنّه : إن كان إطلاق دليل المستحب شموليا ، كدليل استحباب قراءة القرآن ، وزيارة المعصومين عليهم السّلام ، والدعاء ، والصدقة ، والإحسان ، وغيرها مما هو كثير ، فلا إشكال بلحاظ ما سبق من عدم التنافي بين المطلق الشمولي والمقيد ، ليلزم رفعه بالتقييد ، لأن ثبوت الحكم لبعض أفراد الماهية لا ينافي ثبوته لتمامها.
    نعم ، لا ينهض دليل المقيد حينئذ بإثبات كون واجد القيد أفضل الأفراد ، بل لا بد في البناء على ذلك من التشبث بإشعار أخذ العنوان في المتعلق في كونه علة للحكم ، حيث يكون مقتضى ذلك عليه كل من عنوان المطلق والمقيد للحكم المستلزم لتأكد الحكم في أفراد المقيد بتعدد مقتضيه ، أو الاستعانة بالمناسبات الارتكازية أو القرائن الخارجية المقتضية لأفضلية المقيد لو تمت ، وبدونها لا يبنى على ذلك.
    وأما إن كان بدليا فالمقيد وإن كان ظاهرا في التعيين وعدم امتثال أمره بغير واجد القيد ، إلا أن أمره كما يمكن أن يكون هو عين الأمر بالمطلق المستلزم للتنافي بين الدليلين ـ لامتناع اختلاف متعلق متعلق الأمر الواحد بالإطلاق والتقييد ـ فيلزم الجمع بتنزيل المطلق على المقيد ، والالتزام بعدم إرادة فاقد القيد من المطلق وعدم تحقق الامتثال به ، كذلك يمكن أن يكون أمرا آخر متعلقا بالخصوصية زائدا على الماهية المطلوبة بأمر المطلق ، من دون أن ينافي المطلق ليلزم حمله عليه ، بل يبقى المطلق على إطلاقه متعلقا أمره بأصل الماهية دون الخصوصية ، فيصلح فاقد القيد لامتثاله ، ومرجعه إلى أن المقيد أفضل الأفراد.
    ولا مجال للبناء على الأول بعد منافاته لمقتضى الإطلاق إلّا بقرينة خاصة.
    وأما ما سبق عند الكلام في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين ، من استبعاد تعدد الحكم مع إطلاقه في الدليلين او تعليقه على شرط واحد ، فهو

    مختص بالحكم الإلزامي ، الذي يهتم ببيانه والقيام بمقتضاه ، حيث يبعد اهتمام الحاكم ببيان أحد الحكمين الإلزاميين دون الآخر مع وحدة موضوعهما واتحاد سنخهما بمجرد اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد ، بخلاف الحكمين غير الإلزاميين ، حيث قد يهتم الحاكم ببيان بعض المطلوب لإحداث الداعي له ، دون بعض ، لعدم كونه إلزاميا وعدم مناسبة المقام لبيانه.
    على أن الأثر المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد ، وفي المستحبات هو مشروعية فاقد القيد.
    وقد سبق أن الأول كما لا يترتب مع وحدة الحكم لا يترتب مع تعدده ، ولا ينفع الإطلاق في الواجبات في ترتبه إما لتقييده مع كون الحكم واحدا ، أو للزوم امتثال أمر المقيد مع كون الحكم متعددا ، ومن هنا لا يهم إثبات وحدة الحكم هناك.
    وأما الثاني فيترتب مع تعدد الحكم لا مع وحدته ، وحيث كان مقتضى الإطلاق ترتبه المستلزم لتعدد الحكم ، فلا بد في الخروج عنه من قرينة ملزمة بوحدة الحكم.
    وبعبارة اخرى : حمل المقيد على بيان أفضل الأفراد في الواجبات مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في الإلزام وهو أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق غالبا ، فيلزم رفع اليد به عن الإطلاق ، أما في المستحبات فحيث فرض عدم إرادة الإلزام منه لا ينافي المطلق ، فلا بد في الخروج فيها عن مقتضى الإطلاق من قرينة خاصة تقضي بوحدة الحكم ، كما ذكرنا.
    نعم ، ذلك إنما يتم إذا كان المقيد بلسان محض الأمر بعنوانه ، أما إذا كان الأمر فيه واردا لشرح الماهية المستحبة ، كما ورد السؤال عن زيارة الحسين عليه السّلام فاجيب بالأمر باستقبال القبلة فيها فمقتضاه وحدة الحكم وانحصار الماهية المذكورة بالمقيد ، فيلزم تنزيل المطلق عليه ورفع اليد عن الإطلاق به. وحمله

    حينئذ على أفضل الأفراد مخالف للظاهر ومحتاج للقرينة. هذا وقد أشار في التقريرات لبعض ما ذكرنا في توجيه مبنى المشهور على مسلكهم من عدم مانعية البيان المنفصل من انعقاد الإطلاق. فراجع.
    هذا كله إذا كان المقيد بلسان الأمر ، وأما إذا كان بلسان النهي عن بعض الأفراد ، فإن أمكن إبقاؤه على ظاهره من كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا فلا إشكال في كونه أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، فيقيد به المطلق لو كان شموليا ، بل لو كان بدليا أيضا على ما يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.
    وان كان للإرشاد لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره امتناع امتثال المستحب بمورده إلا بقرينة تقضي بحمله على بيان الفرد المرجوح والأقل فضيلة. وكذا لو كان بلسان تحديد الموضوع إثباتا ، نحو قولنا : إنما النافلة بعد الفريضة ، أو نفيا ، نحو قلنا : لا نافلة لمن لا يؤدي الفريضة ، حيث يكون حاكما على إطلاق الاستحباب حكومة عرفية.
    هذا ما تيسر لنا في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبيعة الأدلة المفروضة ، وكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة بما فيها مناسبات الحكم والموضوع في كيفية الجمع بين الأدلة بنحو تؤكد ما ذكرنا أو تلزم بالخروج عنه ، ولا ضابط لذلك.


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:38 am

    الفصل الثامن
    في تخصيص العام بالمفهوم
    لما كان المعيار في التخصيص على قوة الخاص ظهورا من العام ـ كما سبق ـ فقد وقع الكلام في تخصيص العام بالمفهوم بلحاظ أن دلالة الكلام على المفهوم ليست كدلالته على المنطوق ، وحيث كانت دلالة العام على العموم بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وإن كان أضعف منه من حيثية العموم والخصوص.
    ومن ثمّ اختلفوا في تخصيص العام بالمفهوم.
    لكن لا يبعد غلبة أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له ، وإن كان اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في كيفية الجمع العرفي بينهما ، والتي لا ضابط لها ، بل توكل لنظر الفقيه.
    هذا في مفهوم المخالفة ، وأما مفهوم الموافقة فلا إشكال بينهم في تخصيص العام به ، لأن وضوح ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفا ، فعدم تخصيص العام لا ترجع إلى رفع اليد عن المفهوم وحده ، بل عن المنطوق أيضا ، فلا يجري فيه الوجه السابق للتوقف.
    ثم إن أهل الفن قد حرروا في مبحث العام والخاص بعض المسائل الاخرى ، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، ومسألة الدوران بين التخصيص والنسخ ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.
    ويظهر الحال في المسألة الاولى مما يأتي في استدلال المانعين من

    حجية خبر الواحد بمخالفته بكثرة مخالفته لظواهر الكتاب.
    وفي الثانية مما يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض عند الكلام في الدوران بين النسخ والجمع العرفي بين الدليلين.
    وفي الثالثة مما يأتي في خاتمة علم الاصول من الكلام في وجوب الفحص عن الأدلة.
    ولا مجال مع ذلك لتحرير الكلام هنا في هذه المسائل ، لأن البحث في تلك المواضع أوسع وأشمل.
    كما أنهم عقدوا بحثا للمجمل والمبين وأطالوا الكلام في تعريفهما ، وفي بعض صغرياتهما بما لا مجال لصرف الوقت فيه ، بعد كون مفهومهما بالمقدار الذي يحتاج إليه في مقام العمل من المفاهيم العرفية الجلية ، وعدم انضباط صغرياتهما ، لأنها كما تتبع الظهورات النوعية المنضبطة تتبع القرائن الشخصية غير المنضبطة ، لو تعارضت ، كما تتبع تحديد مفاهيم المفردات وعدمه. ومن هنا كان الأنسب إيكال تشخيصها لنظر الفقيه عند ممارسة النظر في الأدلة.

    خاتمة مباحث الألفاظ
    ما ذكرناه من الكبريات في هذه المباحث مبتن على ملاحظة الظهورات النوعية المنضبطة التي تكون مرجعا لو لا القرائن الخاصة. وعلى الفقيه أن لا يتسرع في استنباط الأحكام تبعا لها ، بل يلزمه التأمل في خصوصيات الموارد وفي ما يكتنف بالكلام من القرائن ، ولا سيما الحالية منها التي كثيرا ما يغافل عنها.
    كما عليه أن يتحفظ ويتروى كي لا يخرج في فهم الكلام اعتمادا على ما عنده من مقدمات الاستظهار عما تقتضيه السليقة العرفية والذوق السليم في خصوصيات الاستعمالات ، فإن مؤدى الكلام هو المفهوم هو المفهوم العرفي منه ، وليست الكبريات المتقدمة ونحوها مما يذكر في علوم اللغة إلا لتسهيل فهمه وإدراكه من دون أن تستقل به وحدها ، فلا ينبغي أن يكتفي بها ، بل ينبغي عرض نتائجها على المفهوم العرفي وتحكيم الذوق والسليقة فيها ، فإن خالفتها كشف ذلك عن قرينة مغفول عنها يلزم التأمل لتحديد مفادها ، أو خطأ بعض الكبريات التي اعتمدها فلا بد من النظر في حالها.
    ومن ثمّ كان الفقه من أشق العمليات العلمية ، لعدم انضباط مقدماته ، وعدم تحديد نتائجه ومحصلاته ، بخلاف غالب العلوم الاخرى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    انتهى الكلام في مباحث الألفاظ ضحى الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الأول ، من السنة الثانية بعد الألف والأربعمائة ، للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم

    المشرف على مشرفه الصلاة والسلام ، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلّامة الجليل حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
    والحمد لله في البدء والختام ، وبه الاعتصام ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام.
    وانتهى تبييضه بعد تدريسه ضحى الاثنين ، التاسع والعشرين من الشهر المذكور ، بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.




    الباب الثاني
    في الملازمات العقلية
    أشرنا في المقدمة إلى أن الاصول النظرية التي يكون مضمونها أمرا واقعيا مدركا لا يتضمن العمل بنفسه ، بل بخصوصية متعلقة ـ لكونه حكما شرعيا عمليا أو ملازما له ـ تنحصر في مباحث الألفاظ المتضمنة تشخيص الظهورات الكلامية ـ والتي تقدم الكلام فيها ـ ومباحث الملازمات العقلية المتضمنة للكلام في إدراك العقل أمرين لينتقل من أحدهما للآخر. وهي التي عقد البحث في هذا المقام لها.
    ويفترقان في أن الظهورات اللفظية ، حيث لا تستلزم العلم بمضمونها ، توقف العمل بها على ثبوت كبرى حجية الظهور التي هي من مسائل الاصول ، فهي ترجع إلى تنقيح صغريات الكبرى المذكورة.
    أما الملازمات العقلية فحيث كانت وجدانية قطعية فترتب العمل عليها لا يتوقف على حجية شيء غير العلم الذي لا يكون البحث عن حجية من مسائل الاصول ، بل يكون البحث في مسائل الاصول بعد الفراغ عن لزوم العمل به ، حيث لا يترتب العمل عليها لولاه.
    وأما ما جرى عليه بعض المعاصرين في اصوله من جعل مسائل الملازمات صغريات لكبرى مسألة اصولية ، وهي مسألة حجية الدليل العقلي.
    فهو خروج عما يقتضيه نظم البحث في المسائل الاصولية. وربما جرّه اضطراب كلماتهم في المقام.

    ثم إن الملازمات العقلية المبحوث عنها في علم الاصول في نتائجها وكيفية الاستدلال بها ، فغالبها يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، بخلاف مسألة الإجزاء فإنها تقع في طريق تشخيص الوظيفة العملية العقلية.
    كما أن غالبها ينتج بواسطة صغرى شرعية ، فمسألة مقدمة الواجب التي يبحث فيها عن ملازمة وجوب الشيء لوجوب مقدمته ـ لو بني عليها ـ لا تكون نتيجتها وجوب كل مقدمة لشيء إلا بعد فرض وجوبه شرعا ، ومثلها غيرها ، بخلاف مسألة ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ، فإنها لو تمّت لا تنتج حكم الشارع في مورد إلا بعد فرض حكم العقل في ذلك المورد ، بلا حاجة إلى فرض حكم الشارع.
    ومن هنا يكون الدليل على الحكم الشرعي المبتني عليها عقليا محضا ، بخلاف ما قبلها. ولذا قسم بعض المعاصرين بحث الملازمات العقلية إلى قسم المستقلات العقلية ، وقسم غير المستقلات العقلية. وإلا فالملازمات ـ التي هي موضوع هذا الباب ـ بنفسها عقلية محضة في الجميع ، فهو أشبه بالتقسيم بلحاظ حال المتعلق ، ومن ثمّ لا نرى داعيا لهذا التقسيم.
    إذا عرفت هذا ، فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول ..




    الفصل الأول
    في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
    قد وقع الخلاف واضطربت كلماتهم من عصور الإسلام الاولى إلى العصور المتأخرة في ثبوت حكم العقل الذي هو موضوع الملازمة ، ثم في حقيقته ، ثم في ملازمة حكم الشارع له.
    بل قد يظهر من بعض كلماتهم الكلام بعد ذلك في حجية الدليل العقلي المبتني على ذلك على الحكم الشرعي المنكشف به ، ومرجعه إلى الكلام في حجية القطع الحاصل من دليل العقل المذكور.
    وقد أشرنا إلى خروجه عن علم الاصول ، لأن الكلام في مسائل الاصول بعد الفراغ عن حجية القطع التي يأتي الكلام فيها في مقدمة بحث الاصول المبتنية على العمل إن شاء الله تعالى.
    ولطول مدة البحث في ذلك وكثرة اضطرابهم فيه لا يسعنا متابعة كلماتهم فيه ، بل نحاول اختصار البحث والاقتصار على ما نصل إليه في تحقيقه وما يتعلق بذلك من كلماتهم التي لا بد من التعرض لها.
    ونسأله أن يمدنا بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد ، إنه ولي الامور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    هذا ، وقد أشرنا إلى أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم الشرعي في مورد إلا بضميمة حكم العقل في ذلك المورد.
    ومن هنا ينبغي البحث عن ذلك وإن كان خارجا عن مسألة الملازمة ، لأن

    الملازمة لا تتضح إلا بعد اتضاح أطرافها ، وحيث لا يكون البحث في حكم العقل تحت متناول الناظر في علم الاصول ، يتعين البحث عنه وبيان حقيقته هنا.
    وهو وإن كان من سنخ المقدمة للكلام في الملازمة إلا أن أهميته تناسب عقد بحث مستقل له. وعلى هذا يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين ..

    المبحث الأول
    في ثبوت الحكم للعقل في الوقائع وعدمه
    من الظاهر أن صدور الفعل الاختياري لا بدّ له من داع في الفعل يدركه الفاعل فينبعث عنه ، كما لا إشكال في وجود الدواعي الفطرية ـ كطلب النفع ودفع الضرر ـ والعاطفية ـ كالحب والرحمة والبغض والقسوة والشهوة والغضب ـ والتأديبية ـ الشرعية والخلقية ـ والعاديات ـ العرفية والشخصية ـ.
    وإنّما الإشكال في وجود الدواعي العقلية التي تصلح لداعوية العقل بما هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن الفعل ، وهي دواعي الحسن والقبح ، فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك ، فادعى العدلية وجود الحسن والقبح في الأشياء في الجملة ـ لا بمعنى أن كل شيء إما حسن أو قبيح ، بل في مقابل السلب الكلي ـ بحيث لو أدركت جهاتهما كانت صالحة للداعوية العقلية. وأنكر ذلك الأشاعرة مدعين أن الحسن ما حسنه الشارع ، والقبيح ما قبحه ، وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبح.
    والحق الأول ، وقد استدل عليه بوجوه متعددة ، ولعل الأولى الاقتصار على وجهين :
    أولهما : الرجوع للوجدان ، فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام والمنزه عن الدواعي الخارجية الشهوية والغضبية وغيرها يرى أن هناك أمورا حسنة ينبغي فعلها ويمدح فاعلها ، كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار ، وأخرى قبيحة لا ينبغي فعلها ويذم فاعلها ، كالكذب والخيانة والإيذاء والتعدي. وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها قد تبتني على

    شبهات تخرج بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.
    نعم ، لا إشكال في أن جهات الحسن والقبح في هذه الامور قد تزاحم بجهات تضادها ، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية ، على ما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد أو داع واحد (1) ، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة لا يخرج في الحقيقة عن قبحه ، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن حسنه ، بل تسقط داعوية قبح الأول وحسن الثاني ويسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.
    ولعل هذا هو مرادهم بأن الحسن والقبح في مثل هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين ، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه من الحسن أو القبح الاقتضائي بطروء الجهة المزاحمة.
    لكنه في غير محله ، لأنه لو كان طروء الجهة المزاحمة رافعا للجهة الأولية الاقتضائية لكان الكذب الذي تندفع به المفسدة المهمة في مورد كغيره مما لا قبح فيه إذا اندفعت به تلك المفسدة ، مع أنه ليس كذلك ارتكازا.
    ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين.
    كما أن جهات الحسن والقبح العقلية قد تزاحم بدواع خارجية عاطفية أو غيرها تمنع من تأثيرها في فعلية الاندفاع عنها ، كما هو الحال في جميع الدواعي.
    بل الدواعي المذكورة المزاحمة قد تمنع من الاعتراف بالحسن والقبح ، حيث قد لا يهون على الإنسان الاعتراف بجريمته ، بل يفرض عليه كبرياؤه
    __________________
    (1) أما لو اختلف سنخ الداعوية ـ كما لو تزاحم الداعي العقلي والداعي الشهوي ـ أو تعدد الداعي ـ كما لو تزاحم مطلوب الأب ومطلوب الأمّ ـ بقي كل من الداعيين على ما هو عليه من فعلية الداعوية ، وإن امتنع تأثيرهما معا ، ولزم اختصاص التأثير في الاندفاع بأحدهما أو سقوطهما معا عن التأثير.

    الانكار والمباهتة.
    لكن ذلك لا يغير الحق عما هو عليه ولا يقوم بعذر في مقابل المرتكزات العقلية التي بها تقوم الحجة عند الله تعالى والناس.
    ثانيا : أنه بعد صدور الممكنات منه تعالى من التكوينيات والتشريعيات ، فحيث يمتنع صدور الإرادة من غير داع ، وامتنع في حقه عزّ شأنه الداعي الفطري ـ كطلب النفع ودفع الضرر ، لاستلزامها الحاجة ـ وغيره من الدواعي غير العقلية المتقدمة ـ لاستلزامها النقص ـ فضلا عن الدواعي غير العقلائية ـ لاستلزامها العبث المنزه عنه تعالى ـ يلزم البناء على ثبوت الداعي العقلي ـ الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي المعلوم له جل شأنه في رتبة سابقة على تعلق إرادته تعالى به ، لا أن حسنه تابع لإرادته.
    غاية الأمر أنا لا نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنهما ، وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور واقعا والعلم به إجمالا بسبب العلم بجريان الإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه ، خلافا لما عليه الأشاعرة.
    هذا وقد احتج الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع النظر عن حكم الشارع بوجوه ..
    أحدها : أن الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه والاعتبارات ، حيث قد يكون الصدق مثلا قبيحا ، كما لو ترتبت عليه مفسدة مهمة ، والكذب حسنا ، كما لو اندفعت به مفسدة مهمة ، وكذا غيرهما.
    ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن الاختلاف إنما يكون في داعوية الحسن والقبح بسبب المزاحمة وعدمها ، لا في أصل ثبوتهما.
    ولو سلم فهو إنما يمنع من كون الامور المذكورة عللا تامة للحسن والقبح ، لا من ثبوتهما لها في الجملة ولو عند عدم المزاحم ، لأنها من سنخ المقتضي لأحدهما بذاتها مع قطع النظر عن حكم الشارع الأقدس.

    هذا ، وأما ما تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين من أن بعض الأمور علل تامة للحسن أو القبح ، ولا تنفك عن أحدهما ، كما لا تقبل المزاحمة ، كالعدل والإحسان والظلم والعدوان.
    فيتضح الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.
    ثانيها : ما قيل إنه أهم أدلتهم ، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء ، مع وضوح الفرق بنيهما ، فإن الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع الاختلاف في الأول.
    وفيه : أن الملازمة ممنوعة ، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية بالوضوح والخفاء ، بل تختلف باختلاف القضايا ، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها كانت من الأوليات التي يكون التصديق بها لازما لمفهوم طرفيها ، بخلاف قضية التحسين والتقبيح ، فإنها وإن كانت قطعية ، إلا أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها ، بل يحتاج التصديق بها إلى شيء من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه ، وإلى التمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات النفسية المتقدمة ، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والإشكالات عليها حتى قد يلتبس الأمر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.
    وأما ما يظهر من بعضهم ـ فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم المذكور ـ من أن القضية المذكورة من القضايا التأديبيّة التي لو خلي الانسان وعقله المجرد لم يذعن بها ، بل لا بد في إذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف بها تبعا لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق آرائهم المحمودة عليها.
    فهو غير ظاهر بعد الرجوع للمرتكزات ، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه العقل إليها وتمييز الدواعي العقلية عن غيرها في إذعان النفس بها ما لم تمنع

    الشبهات من ذلك.
    ثالثها : أنه لو حسن الفعل أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون الباري مختارا في تشريع الأحكام ، لأن قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه تعالى يستلزم امتناع مخالفته ، فلا يكون مختارا فيه.
    وفيه : أن امتناع صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه ، كي ينافي اختياره ، بل لأن كماله لا يناسب اختياره للقبيح ، ويلزم باختياره للحسن ، فهو مبتن على الاختيار ، وليس منافيا له.
    وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لوضوح ضعفها ، أو لابتنائها على مبان ظهر بطلانها في محله المناسب.
    ولا سيما مع أن ثبوت الحسن والقبح من الوضوح بنحو لا يحتاج معه للنقض والإبرام ، بل الوجوه المستدل بها على عدمهما لو كات متينة بحسب الصورة فهي لا تخرج عن كونها شبهة في مقابل البديهة لا ملزم بالتطويل فيها والتعريج عليها.
    بقي الكلام في حقيقة الحكم بالحسن والقبح وكيفية ادراك العقل لهما. والظاهر بعد التأمل في المرتكزات أن العقل يدرك أولا حسن الشيء أو قبحه على أنه أمر واقعي كسائر المدركات الواقعية ، ثم يدعو لفعل الحسن وترك القبيح.
    والداعوية المذكورة وإن كانت نحوا من الحكم إلا أنه لا يعتمد على قوة وسلطان لتكون أمرا ونهيا ، إذ لا حول للعقل ولا سلطان ، بل محض إرشاد ونصح مبتن على نحو من التشجيع والتأنيب نابع من صوت الحس والوجدان والضمير الذي أودعه تعالى في الإنسان واحتج به عليه.
    وإليه يرجع حكم العقلاء باستحقاق المدح أو الذم وأهلية الثواب أو العقاب.

    والحكمان المذكوران مختلفان سنخا ومترتبان في أنفسهما ترتب الحكم والموضوع.
    ونظير ذلك إدراك الإنسان اللذات ثم دعوة النفس لتحصيلها ، وغير ذلك من الداعويات المختلفة.
    وتحقيق أن الحاكم بهما العقل النظري أو العملي يرجع ـ على الظاهر ـ يبتني على محض اصطلاح لا مشاحة فيه. والمهم ما ذكرنا.
    هذا ، وقد ذكر بعض المعاصرين في اصوله أنه ليس للحسن والقبح واقعية إلا إدراك العقلاء ، وتطابقهم على أن الشيء ينبغي أن يفعل أو يترك ، وأن ذلك من التأديبات الصلاحية الداخلة في القضايا المشهورة التي ليس لها واقع وراء تطابق العقلاء. قال : «فمعنى حسن العدل أن العلم عندهم أو فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم. ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة ، وأنها ليست من قسم الضروريات ـ ما قاله الشيخ الرئيس في منطق الإشارات ، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة. وربما خصصناها باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة ، وهي آراء لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه ، مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح ، وأن الكذب قبيح ، لا ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي».
    ومرجع ذلك إلى إنكار الحكم الأول الذي ذكرناه آنفا ، وأن الحسن والقبح عبارة عن الحكم الثاني مما سبق.
    ولا مجال للبناء عليه ، لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الفعل ليس اعتباطيا ، بل لإدراكهم أمرا فيه يقتضي فعله أو تركه ، تكون الداعوية العقلية

    متفرعة عليه تفرع الحكم على الموضوع ، وذلك الأمر هو الحسن أو القبح.
    فالحسن والقبح أمران واقعيان لا يتوقفان ثبوتا على إدراك العقلاء ، ولا على مدحهم وذمهم. ولذا يصح عرفا أن يقال : ينبغي للإنسان أن يصدق ولا ينبغي له أن يكذب ، لأن الصدق حسن والكذب قبيح. وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه آنفا من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن والقبح لا يخرج الحسن عن حسنه والقبيح عن قبحه ، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية لو لم يكونا أهم من المزاحم.
    أما لو قيل بأن الحسن والقبح عبارة عن نفس الحكم بأن الشيء مما ينبغي فعله أو لا ينبغي ، وأنه يستحق عليه المدح أو الذم ـ الذي هو عبارة عن نفس الداعوية ـ لزم البناء على تأثير المزاحم في نفس الحسن والقبح ورفعه لهما ، بل يخرج عن كونه مزاحما بل يكون عدمه من قيود الموضوع ، كما هو ظاهر.
    ولعل ما تقدم من الاشارات مسوق لبيان أن الشهرة هي العمدة في إثبات الحسن والقبح وإدراكهما لا في ثبوتهما ، فلا ينافي ما ذكرناه هنا.
    كما قد يناسبه أن المحقق الطوسي ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة يجوز ارتكاب أقل القبيحين ، وهو يبتني على ما ذكرناه من عدم خروج القبيح المرجوح عن قبحه بالمزاحمة. فلاحظ.
    على أنه لو سلم أن مدح العقلاء وذمهم لا يستند إلى إدراكهم حسن الشيء أو قبحه ، بل ليس الحسن والقبح إلا استحقاق المدح والذم وكون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه ، إلا أن الظاهر أن كون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه مستند للداعوية العقلية التي يستقل كل أحد بها بنفسه ، لا بسبب تطابق آراء العقلاء ، بحيث لو فرض عدم وجود غير عاقل واحد لحكم عقله بذلك ، وليس تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.

    تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.
    وبالجملة : لا دخل لتطابق آراء العقلاء في ثبوت الحسن والقبح ، ولا في الداعوية لفعل الحسن وترك القبيح ، كما تقدم أنه غير دخيل في إثبات التحسين والتقبيح وإقرار الإنسان بهما.
    هذا ، ولبعض المعاصرين قدّس سرّه في منطقه عند شرح حقيقة الخلقيات من المشهورات كلام يقارب ما ذكرنا لو لم يطابقه ، قال : «والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالى خلق في قلب الإنسان حسا وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها ، وذلك الحسّ هو الضمير بمصطلح علم الأخلاق الحديث ، وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي أو العقل المستقيم أو الحسّ السليم عند قدماء علماء الأخلاق وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم. فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ، ويقرّ عين فاعل الفضيلة ، وهو موجود في قلب كل إنسان ، وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الأفعال ، فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة والرذيلة ، وإن اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه ، كسائر قوى النفس ، إذ تتفاوت في الأفراد قوة وضعفا. ولأجل هذا كانت الخلقيات من المشهورات وإن كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر ، بل هي من خاصة الخاصة. نعم الإصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل إنسان إلا بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه ...».
    وهو ـ كما ترى ـ صريح في أن إقرار عين فاعل الفضيلة وتأنيب مرتكب الرذيلة متفرع على إدراك حسن الأشياء وقبحها ، وأن قوة الإدراك مودعة في الإنسان غير مكتسبة من تطابق العقلاء ، بل تطابقهم هو المسبب عن واجديتهم للقوة المذكورة.

    وهو وان ذكر ذلك في الخلقيات ، دون التأديبات الصلاحية ، التي خصها بما تطابق عليه العقلاء من أجل قضاء الصالح العام لأن بها انحفاظ النظام وبقاء النوع ، إلا أن الظاهر أن حسن الحفاظ على النظام والسعي لبقاء النوع يختص بما يبتني على الفضيلة واجتناب الرذيلة كما يناسبه تمثيله له بحسن العدل وقبح الظلم ، وإلا فلا يدعو العقل إليه ولا يراه حسنا. غاية الأمر أن تدعو إليه الفطرة لو لازم دفع الضرر ، أو جلب النفع للنفس ، أو تدعو إليه العاطفة وغير ذلك من الدواعي غير العقلية.
    على أنه لا إشكال في كون الخلقيات من صغريات التحسين والتقبيح العقلين ، فما ذكره فيها لا يناسب ما ذكره في حقيقتهما في كلامه المتقدم وغيره من اصوله.
    ومن الغريب أنه في اصوله قد حول على ما ذكره في منطقه بنحو قد يظهر منه جريه فيهما على نهج واحد.


    المبحث الثاني
    في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل
    لعل المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الامور شرعا بالأدلة الأربعة ، لابتناء الاستدلال بحكم العقل عليها على إدراك قبحها ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.
    وربما ابتنى عليها عدهم للأدلة أربعة ، وأرادوا برابعها حكم العقل ، وإن اختلفوا في تعيينه.
    وكيف كان ، فقد استدل عليها بوجوه تعرض لجملة منها في الفصول وأطال الكلام فيها ، ولعل أمتنها ما جعله ثالث الوجوه ، وإليه يرجع ما اعتمده بعض المعاصرين في اصوله ، وذكره بقوله : «فإن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء ، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ، أو على قبحه ، لما فيه من الإخلال بذلك ـ فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم ، لأنه منهم ، بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء لا بد أن يحكم بما يحكمون ، ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع ، وهذا خلاف الفرض».
    ومقتضاه كون الملازمة في المقام من صغريات الملازمة بين الكل والجزء ، نظير الملازمة بين الإجماع المصطلح بين الأصحاب وقول الإمام عليه السّلام.
    وفيه : أن محل الكلام ليس هو إدراك الشارع حسن الشيء أو قبحه

    وداعوية العقل على طبقهما ، واستحقاق المدح والذم بمتابعة الداعوية المذكورة ومخالفتها ، فإن ذلك حكم العقل نفسه وليس إدراك الشارع له إلا كإدراك غيره من العقلاء لا يصحح نسبة الحكم إليه بنحو تكون موافقته ومخالفته طاعة له مستتبعة لاستحقاق ثوابه ومعصية له مستتبعة لاستحقاق عقابه.
    وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن المراد باستحقاق المدح والذم المفروض في حكم العقل بالتحسين والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب والمكافأة بالشر الشامل للعقاب.
    فهو كما ترى! لوضوح أن الموافق للداعي العقلي لا يستحق على سائر العقلاء الثواب ، كما لا يستحق المخالف له العقاب منهم ، مع أنهم يشاركون الشارع في إدراك حكم العقل المذكور ، بل لا يصح منهم إلا المدح والذم المساوقان لمفاد (نعم)و (بئس).
    وإنما يصح من الشارع العقاب لتميزه عنهم بكونه المنعم المالك الذي له حق الطاعة على عبده ، ويترتب على ثبوت الحق المذكور مقتضاه من استحقاق حسن الجزاء على أدائه وسوء العقاب على التفريط فيه.
    ومن الظاهر أن حق الطاعة فرع نسبة الحكم للمولى زائدا على حكم العقل به ، وهو لا يكون إلا بجعل الحكم المولوي منه زائدا على إدراكه مقتضى حكم العقل.
    ودعوى : أنه يكفي في نسبة الحكم إليه حكمه به بما هو عاقل كسائر العقلاء ، وإنما يفترق عنهم بأنه يستحق الطاعة على العبيد ، فينبغي منه ثوابه عليها ، ويستحق عقابه بالتفريط فيها ، بخلافهم ، وإذا لم يستحقوا الطاعة لم ينتظر منهم الثواب عليها ولا يصح منهم العقاب على التفريط فيها ، وإن كان الحكم منسوبا لهم بمجرد حكمهم به بما هم عقلاء ، كما ينسب للشارع.
    ممنوعة ، وإلا لزم انقلاب الأحكام الإرشادية إلى أحكام مولوية ، لإدراك

    الشارع حكم العقل فيها ، فيكون منسوبا إليه ومنشأ لاستحقاق الثواب والعقاب منه.
    وهو مما لا يمكن البناء عليه.
    كما لا يصح عند العقلاء عقاب من له حق الطاعة من الناس شرعا ـ كالمولى المالك ـ أو عرفا ـ كالرئيس الصالح المعترف برئاسته ـ أو ادعاء ـ كالسلطان القاهر ـ بمخالفة مقتضى الداعوية العقلية ، بل لا بد من صدور الحكم المولوي منه على طبقها ، بحيث يعلم منه الإلزام بمقتضاها زائدا على إلزام العقل.
    بل لو حكم على خلاف مقتضى الداعوية العقلية ـ كما لو أمر بالكذب ـ نسب إليه الحكم المذكور وكان موضوعا للطاعة والمعصية دون مقتضى الداعوية العقلية وإن كان مدركا له كالشارع.
    على أن عدم استحقاق العقلاء الطاعة انما يمنع من استحقاق العقاب منهم بمعصيتهم ، لا من استحقاق الثواب عليهم بإطاعتهم ، فلو كان الحكم العقلي منسوبا لكل منهم بمجرد إدراكهم له لزم استحقاق الثواب عليهم بموافقته.
    وبالجملة : محل الكلام هو حكم الشارع المولوي المجعول منه زائدا على حكم العقل المدرك له ، ولا بد في دعوى ملازمته لحكم العقل المذكور من الدليل.
    ولم يتضح لنا عاجلا ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه التي ذكرها في الفصول.
    والتحقيق : أن لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل يبتني على وجوب اللطف منه تعالى عقلا بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعا ، وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في الجري على مقتضى حكم العقل ،

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:39 am

    لمزاحمتها بالدواعي الاخرى التي هي أقوى منها في حق أكثر الناس ، فيجب على الشارع لحفظ مقتضيات الأحكام العقلية جعل الحكم على طبقها ، للتأكد الداعوية العقلية بالداعوية الشرعية ، حيث يتسنى بجعل الحكم الشرعي الجري على مقتضاه لأجله تعالى والعمل لحسابه ، لكونه المنعم المالك الكامل القادر ، إما لأنه اللازم الشكر لإنعامه ، أو الذي هو أهل لأن يعبد بالطاعة لكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بمثله ، أو لأنه المحبوب لإنعامه وكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي العاطفي ، أو لأنه المرجوّ المرهوب ، لمالكيته وقدرته ، المستلزمين لاستحقاق الثواب ورجائه ، واستحقاق العقاب ورهبته ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر ، الذي هو أقوى الدواعي عند العامة.
    لكن ذلك لا يكون لمجرد حكم العقل بحسن الحسن وقبح القبيح ، وداعويته لفعل الأول وترك الثاني ، بل هو تابع لحكم عقلي آخر متفرع على الحكم المذكور ، وهو وجوب حفظ مقتضى حكم العقل المذكور بالتشريع على طبقه ، نظير تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتفرع ثبوت المعروف والمنكر تشريعا.
    وذلك الحكم مختص بالشارع الأقدس ، لاختصاص القدرة على مقتضاه به ، بلحاظ علمه المطلق التام بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد تزاحمها ، وقدرته على حفظها بالدواعي المذكورة آنفا بسبب التشريع ، لواجديته لجهاتها ، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم وجه ، وكل ذلك مما ينفرد به جل شأنه وعزّ اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه.
    هذا ، ولكن وجوب حفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع لا بد فيه من أمرين ..
    أحدهما : عدم المزاحم للمقتضيات المذكورة بما يمنع من فعلية تأثيرها

    في الداعوية العقلية.
    ثانيهما : عدم المانع من التشريع على طبقها وإن كانت فعلية التأثير في الداعوية العقلية ، حيث قد يكون في جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية ، وتلزم بجعل الحكم منه على نحو آخر. نظير رفع القلم عن الصبي المميز ، فإن الداعي العقلي في حقه وإن كان فعليا ـ فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلا ـ إلا أن الشارع الأقدس حيث أدرك المفسدة في إلزامه بمقتضاه شرعا تعين رفع القلم عنه من قبله الراجع في ترخيصه بمخالفته.
    ولعل كثيرا من المستحبات والمكروهات إنما لم يكن حكمها إلزاميا للمانع من إلزام الشارع فيها ، لا لقصور مقتضي الداعوية العقلية فيها عن الإلزام ، كما فيما لو كان المانع من الإلزام مصلحة التسهيل والامتنان ، لوضوح عدم كون المنة والتسهيل من المصالح المترتبة على الفعل أو الترك والصالحة لمزاحمة مقتضي الداعي العقلي بنحو تمنع من كون داعويته إلزامية ، بل من الجهات المانعة من نفس الإلزام والتكليف ، مع بقاء الفعل على ما هو عليه من الداعوية العقلية ، نظير مصلحة رفع الإلزام عن الصبي المميز.
    وأما ما تضمن اهتمام شريعة الاسلام بالفضائل ومحاسن الاخلاق كالنبوي المشهور : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فهو محمول على كون الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولي فيه ، في مقابل الشرائع الباطلة المهملة لذلك ، أو المبنية على انتهاك الحرمات وترويج الرذائل والتشجيع ، فلا ينافي ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع المذكور والوقوف عندها.
    ومن هنا يمتنع البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه ، بنحو ينتقل من الثاني للأول ، وينفع في الاستنباط ، لما هو المعلوم من عدم إحاطة العقل بكثير من المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية التي لو

    اطلع عليها لم تكن الداعوية فعلية.
    والداعوية مع الجهل المذكور وإن كانت فعلية ، لعدم الخروج عن المقتضي المعلوم باحتمال المزاحمة ، إلا أن الاحتمال المذكور يمنع من العلم بالجعل الشرعي على طبق المقتضي المذكور ، لاحتمال اطلاع الشارع الأقدس على ما لم يطلع عليه من المزاحمات.
    كما أن العقل لا يحيط أيضا بكثير من موانع التشريع غير المانعة من الداعوية العقلية ، فلا يتسنى له العلم بالتشريع على طبقها أيضا ، كي ينفع ذلك في الاستنباط الذي هو محل الكلام.
    وأما ما تكرر في كلماتهم من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح وللداعوية العقلية ، ولا تقبل المزاحمة بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها ، وأنه لا بد من حكم الشارع على طبق الداعوية العقلية المذكورة فيها ، كعنوان العدل والإحسان والظلم والعدوان. فهو وإن كان مسلما في الجملة إلا أنه لا ينفع في المقام ، لأن تشخيص مصاديق العناوين المذكورة تابع للتشريع ، لما هو المعلوم من أن العدل الذي هو محل الكلام هو وضع الشيء في موضعه ، والإحسان هو فعل ما هو حسن ، وأن الظلم والعدوان عبارة عن هضم حق الغير والتصرف على خلاف مقتضى حقه ، ولا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة التي هي موضوع الحسن والقبح العقليين التشخيص العرفي لأفرادهما ، بل ليس موضوعها إلا الفرد الحقيقي المتحصل بتشخيص الشارع ، ولذا لا يكون قتل المؤمن بالكافر عدلا ، ولا إعانة المرتد إحسانا ، ولا ذبح الحيوان ولا قتل الحربي ولا أكل المارة من ثمر الشجر الذي في الطريق المملوك للغير ظلما وعدوانا إلى غير ذلك.
    وبعد فرض أخذ التشخيص من الشارع يكون الحكم معلوما في رتبة سابقة على إحراز كون الفرد حسنا أو قبيحا ، فلا ينفع العلم بالحسن والقبح في

    الاستنباط.
    بل مرجع ذلك إلى ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع الأقدس هو المالك المطلق والمنعم المفضل الذي يجب عقلا متابعته والجري على مقتضى حكمه ، وإن لزم كون حكمه أيضا على طبق الموازين العقلية التي يحيط بها أكمل إحاطة ، لأن كماله يمنع من اختياره ما يخالفها.
    ولأجل ذلك قد يحمل الأمر والنهي الواردان على العناوين المذكورة على الإرشاد ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(1) ، وقوله سبحانه : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(2) ، وقوله عزّ اسمه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)(3) ، ونحو ذلك.
    لأن فرض كون الشيء عدلا وإحسانا عند الشارع متفرع على أمره به ، وفرض كونه فاحشة ومنكرا وبغيا وإثما متفرع على نهيه عنه ، فلا معنى للأمر بالأول والنهي عن الثاني مولويا ، بل لا بد من حمل الأمر والنهي على الإرشاد ، نظير الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية.
    لكنه مخالف للظاهر ، لاستلزامه عدم ترتب العمل على الأوامر والنواهي المذكورة ، فيتعين إبقاؤها على ظهورها في المولوية ، غاية الأمر الرجوع في تشخيص أفراد العناوين المذكورة للعرف ، كما هو مقتضى الإطلاقات المقامية ، ما لم يثبت من الشارع الأقدس خلافه.
    وهذا لا ينافي ما ذكرنا من أن المرجع في تشخيص موضوع القضية العقلية هو الشارع دون العرف.
    __________________
    (1) سورة النحل : 90.
    (2) سورة الاعراف : 157.
    (3) سورة الأعراف : 33.

    لأن المعيار في البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع والقرائن الخاصة والعامة ، ومنها الإطلاق المقامي ، أما في القضايا العقلية فالمعيار على ما يعلم من العقل ، ولا دخل للظهور العرفي.
    ومن جميع ما سبق يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، بل بين حكم العقل بحسن الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه ـ مع عدم المزاحم والموانع ـ ونفس الحكم.
    بل يكفي حسن الحكم لمصلحة فيه ، لا في المتعلق ، كمصلحة الامتحان أو التأديب والعقاب ، حيث يمكن ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق ، كما لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم عليه السّلام بذبح ولده ، وفي تحريم بعض الامور على اليهود ، كما قد يظهر من قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(1) وغيره.
    وعلى ذلك جرى في الفصول بعد التعرض لجملة ما ذكرنا وغيره مما لا مجال لإطالة الكلام فيه.
    وإليه يرجع ما ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين من أن ما صدر من الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر في حقه.
    ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية ، لعدم إحاطة العقل بالملزوم بجميع خصوصياته ، ليتسنى تشخيص موارده ، بل هو مما ينفرد به الشارع الأقدس ، وإن أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.
    ولعله عليه يحمل ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.
    __________________
    (1) سورة الأنعام : 146.

    نعم ، قد يدرك العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف ، وأنه ظلم ينزه عنه تعالى ، كالتكليف واقعا بما لا يطاق ، وظاهرا مع الجهل المطلق ـ لا عن تقصير ـ حتى بوجوب الاحتياط ، الذي هو مرجع البراءة العقلية.
    وذلك ينفع في معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعية ، ومعرفة الوظيفة الظاهرية العملية.
    إلا أن ذلك خارج عن محل كلامنا ، للتسالم على عدم التكليف بما لا يطاق ، بنحو لا يهتم بإثباته من طريق الملازمة ، ولعدم نهوض البراءة العقلية بمعرفة الحكم الواقعي ، لتكون من الأدلة التي هي مورد البحث ، وإنما هي أصل عملي يبحث عنه في محل آخر.
    نعم ، يتجه دخولها في محل الكلام لو كان المراد من الأدلة ما يعم دليل الوظيفة الظاهرية العملية. ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.
    بقي شيء ، وهو أن صاحب الفصول وإن نفى الملازمة الواقعية بين حكم العقلي بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، كما تقدم ، إلا أنه ذهب إلى الملازمة بينهما ظاهرا ، بمعنى أنه يبنى ظاهرا على حكم الشرع بما حكم به العقل ما لم يثبت خلافه من قبل الشارع الأقدس.
    مستدلا على ذلك بوجهين :
    أولهما : إطلاق الآيات المتقدمة.
    ثانيهما : أن العقل بعد أن يدرك مقتضي الحكم لا يعتد باحتمال المانع.
    لكن الوجه الأول حيث لا يرجع لحكم العقل ، بل لظهور الأدلة النقلية فهو خارج عن مورد البحث ، ولا يسعنا إطالة الكلام في ذلك ، لأن نتيجته أحكاما فرعية لا قاعدة اصولية ، ولعدم اختصاص الأدلة المناسبة بالآيات المذكورة ، واستقصاء الكلام في جميعها وفي مقتضى الجمع بينها في أنفسها وبينها وبين غيرها يحتاج إلى جهد كثير ووقت طويل.

    فالأولى إيكاله إلى مورد الحاجة إليه من الفقه ، وبحثه بالمقدار الذي يقتضيه المورد.
    وأما الثاني فهو يبتني على قاعدة المقتضي التي لم تثبت كلية ، كما لم يتضح التعويل عليها في خصوص المورد ، وإنما ثبت الرجوع إليها في بعض الموارد لخصوصيتها.
    ولا مجال لقياس المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن وقبح القبيح ، حيث لا يعتد به العقل في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن أو القبح المعلوم ، فلا ينبغي بنظره الكذب لاحتمال ترتب مصلحة مهمة عليه ، ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.
    للفرق بأن الشك في المزاحم إنما هو بعد إحراز تمامية موضوع الداعوية العقلية ، نظير ما لو شك في وجود المزاحم للتكليف الشرعي المعلوم.
    أما في المقام فالشك في تمامية موضوع الداعوية الشرعية ، حيث لم يحرز إلا المقتضي للملاك ، وهو الحسن أو القبح العقليين ، مع احتمال وجود المانع من تأثيره في لزوم الجعل الشرعي ، فينحصر الأمر فيه بقاعدة المقتضي الذي ذكرنا عدم تماميتها.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن التحسين والتقبيح العقليين وإن كانا ثابتين ، بمعنى إدراك العقل الحسن والقبح في بعض الموارد وداعويته على طبقهما ، إلا أنهما لا يستلزمان حكم الشارع الأقدس على طبقهما ، لإمكان اطلاعه على ما يزاحم مقتضياتهما ، أو على ما يمنع من جعل الحكم من قبله على طبقهما. كما لا يستتبعان لزوم البناء ظاهرا على جعل الحكم الشرعي ، لينفع ذلك في مقام الاستنباط.
    نعم ، لو حسن جعل التكليف من قبله إما لحسن متعلقه أو قبحه ـ من دون مزاحم يوجب قصور داعويتهما عقلا ، ولا مانع من جعل الحكم الشرعي على

    طبقهما ـ أو لمصلحة في نفس الحكم لا دخل للمتعلق فيها ، فلا بد من جعله الحكم ، لكماله المانع من تخلفه عن الداعي العقلي.
    إلا أنه لا يتسنى للعقل غالبا إدارك حسن الجعل ، لعدم إحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك. فلا تنفع الملازمة المذكورة في الاستنباط.
    غاية الأمر أنه قد يتسنى له إدراك قبح التكليف الواقعي أو الظاهري في بعض الموارد ، كالتكليف بما لا يطاق ، والتكليف مع الجهل المطلق حتى بوجوب الاحتياط ، الذي ترجع اليه البراءة العقلية التي يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله تعالى.
    والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق.





    الفصل الثاني
    في الإجزاء
    اختلفوا في أن الإتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الأمر ويدعو إليه هل يقتضي الإجزاء أو لا يقتضيه؟
    وقد وقع الكلام منهم في تحديد معنى الإجزاء الذي هو محل الكلام ، وأنه عبارة عن الامتثال وإسقاط الأمر أو إسقاط القضاء. والظاهر ـ كما ذكره في التقريرات في الجملة ـ عدم خروج الإجزاء عن معناه اللغوي والعرفي ، وهو الكفاية ، وحيث كان المعنى المذكور إضافيا يختلف باختلاف ما يكفي الشيء عنه أو فيه فهو يختلف باختلاف الأمر المهم الذي يراد البحث عنه ، وأنه الامتثال أو سقوط القضاء ، ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب ، قد يكون منشؤه اختلاف الأمر الذي هو موضوع كلامهم بين الواقعي الأولي والاضطراري والظاهري.
    ولا ينبغي إطالة الكلام في تحقيق ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله تعالى بالجميع. وإن لم يبعد رجوع الجميع لأمر واحد ، وبسبب تلازمها.
    وينبغي التمهيد لمحل الكلام ببيان أمر ، وهو أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار المتقدمة ، أن البحث في تلك المسألة عما يقتضيه ظهور إطلاق الأمر من تحديد المأمور به ، وأنه مطلق الماهية ، أو المقيد منها بالمرة ، أو بالتكرار. وهنا في تحقق الإجزاء بالفعل المطابق للمأمور به بعد فرض تحديده بإطلاق الأمر او غيره.

    ومن ثمّ كان البحث في تلك المسألة إثباتيا موضوعه ظهور الأمر ، وهنا ثبوتيا موضوعه فعل المأمور به ، وكانت تلك المسألة من مسائل الظهورات اللفظية ، أما هذه المسألة فهي على بعض وجوهها عقلية ، وعلى بعضها الآخر تبتني على مقتضى الظهور أو الأصل.
    وبلحاظ الأول حررناها في مباحث الملازمات العقلية تغليبا.
    ولا ينبغي إطالة الكلام هنا في تفصيل ذلك بعد ظهوره عند الدخول في المسألة ، ولا في وجه التغليب المذكور ، بعد خلوه عن الفائدة ، وكونه أشبه بتوجيه الاصطلاح ، إذ المهم نفس البحث ، لا موضعه وبابه.
    وقد تعرضوا في تمهيد المسألة لبعض الامور الاخرى مما يرجع لتحديد محل النزاع رأينا الإعراض عنها أحرى ، لظهور حالها ، فالبحث فيها أشبه بالبحث اللفظي.
    إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الأمر بالنحو الذي يدعو إليه تقتضي الإجزاء ، بمعنى امتثاله وسقوط داعويته ، لأن الأمر لا يدعو إلا إلى موافقته بتحقيق المأمور به ، فمع موافقته لا يبقى موضوع للداعوية ، وذلك عبارة اخرى عن عدم لزوم الإعادة ، التي هي عبارة اخرى عن تكرار الامتثال بتحقيق المأمور به التام في الوقت ، فضلا عن القضاء الذي هو عبارة عن تدارك فوت المأمور به في وقته بالإتيان به خارج الوقت محافظة على أصل الواجب دون خصوصية الوقت.
    إذ لا فوت مع موافقته ليتحقق موضوع القضاء. من دون فرق بين كون القضاء بالأمر الأول وكونه بأمر جديد ، إذ على كلا المبنيين لا بد فيه من الفوت.
    ومنه يظهر أن التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامح ، إذ السقوط فرع المقتضي للثبوت.
    ووضح ما ذكرنا يغني عن إطالة الكلام فيه ، وإن حكي عن بعضهم

    الخلاف فيه ، قال في الفصول : «ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الأمر يستلزم الإجزاء. وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار في ما نقل عنه : لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب ، ويلزم القضاء مع ذلك. هذا كلامه ...». وهو من الشذوذ ومخالفة الضرورة بمكان ظاهر.
    نعم ، يمكن وجوب الإتيان بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه من دون أن يكون إعادة أو قضاء ، بل على أن يكون مأمورا من أول الأمر بالتعدد ، فلا يكون الإتيان بمرة واحدة موافقة للأمر ولا أداء للواجب. لكنه خارج عن مفروض الكلام.
    هذا ، وقد ذكر غير واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر ، وذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن ذلك وإن أمكن في مقام الثبوت إلا أنه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وجعل منه ما ورد في تبديل الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة جماعة.
    أما المحقق الخراساني قدّس سرّه فقد خصه بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض وإن كان يفي به بعد ذلك لو اكتفى به ، قال : «كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا. ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ـ كما كان له قبل إتيانه الأول ـ بدلا عنه ... ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة ، وإن الله يختار أحبهما إليه».
    وكأن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من إمكان عدم مطابقة المأمور به للغرض. وحيث سبق منا امتناعه في حق المولى

    الملتفت لما يطابق الغرض تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيدا لبا بما يترتب عليه الغرض ، ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الماهية بصرف الوجود ، بل يكون مراعى بترتبه عليه ، فتبديله بفرد آخر قبل حصوله لا يكون من تبديل الامتثال ، بل من العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره ، كما لو عدل عن ذلك قبل الإتيان بالفرد.
    وهذا هو الوجه في ما ذكره من أن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، وإلا ففرض الامتثال بالفرد الأول لا يناسب عدم سقوط الأمر.
    نعم ، لا إشكال في احتياج ذلك للدليل الخاص ، وإلا فمقتضى الإطلاق كون المأمور به الماهية بنفسها لا بشرط ، بنحو تنطبق على الوجود الأول ولا تنسلخ عنه ، المستلزم لترتب الغرض على أول وجود منها ، ولتحقق الامتثال به وسقوط الأمر ، وعدم مشروعية العدول لغيره بعد حصوله. والتقييد اللبي المذكور يحتاج للدليل على عدم مطابقة المأمور به للغرض.
    وأما مسألة إعادة الصلاة جماعة التي دلت عليها جملة من النصوص (1) ، فهي لا تبتني على تبديل الامتثال بالمعنى الذي هو محل الكلام ، حيث لا إشكال في تحقق الامتثال بالصلاة الاولى ، وسقوط الأمر ، الذي لا موضوع معه للامتثال الآخر ، بل على مشروعية الإعادة أو استحبابها بملاك زائد على ملاك الأمر الممتثل ، إما أن يقتضي استحباب الإعادة والتكرار زائدا على أصل الماهية ، كما يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلاة اخرى (2) ، وقد يستفاد من غيره (3) ، أو يقتضي التفاضل بين الأفراد في مقام الامتثال ، كملاك الجماعة ونحوها.
    غاية الأمر أن ظاهر دليل تشريع التفاضل المذكور بدوا اختصاص
    __________________
    (1) راجع الوسائل ج 5 باب : 54 من ابواب صلاة الجماعة.
    (2) راجع الوسائل ج 5 باب : 54 من ابواب صلاة الجماعة : حديث : 2.
    (3) راجع الوسائل ج 5 باب : 6 من ابواب صلاة الجماعة.

    موضوعه بامتثال أمر الماهية ، فلا موضوع له مع امتثاله بفرد آخر ، إلا أن الأدلة الخاصة دلت على إمكان استيفائه معه بالإتيان بفرد آخر واجد للخصوصية ، فيترتب ملاك الفرد الأفضل عليه كما يترتب لو كان امتثال أمر الماهية به ابتداء.
    وعليه يحمل ما تضمن من نصوص المسألة أن الله يختار أحبهما إليه (1) ونحوه ، بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل ، وإن كان الامتثال بغيرها ، وإليه يستند سقوط أمر الواجب.
    نعم ، في صحيحي هشام بن سالم وحفص بن البختري : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة» (2) ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره ، لسقوط الفرض بالفرد الأول ، فلا بد من حمله على أن المأتي به من سنخ الفريضة ماهية فهو ظهر اخرى مثلا ، لا صلاة مباينة للصلاة المأتي بها ماهية ، وإن لم تكن فريضة بالفعل ، غاية الأمر أنه يقصد أنها تحسب في مقام الثواب كما لو امتثل الفرض بها ، نظير ما ذكرناه فيما تضمن أن الله يختار أحبهما إليه.
    وأما ما ذكره بعض مشايخنا من حمله على قصد القضاء بها ، كما هو صريح قوله عليه السّلام في حديث إسحاق : «صل واجعلها لما فات» (3).
    فهو بعيد جدا ، لأن ظاهر تعريف الفريضة معهوديتها ، ولا معهود عرفا إلا الفريضة التي أداها.
    ومجرد تضمن حديث إسحاق نية القضاء لا يلزم بذلك ، نظير ما تضمن جعلها (4) نافلة بل الظاهر الجمع بجواز الكل.
    وبالجملة : يمتنع تبديل الامتثال ، لأن الامتثال الأول مستلزم لسقوط الأمر ،
    __________________
    (1) الوسائل ج 5 باب : 54 من ابواب صلاة الجماعة : حديث : 10.
    (2) الوسائل ج 5 باب : 54 من ابواب صلاة الجماعة : حديث : 11.
    (3) الوسائل ج 5 باب : 55 من ابواب صلاة الجماعة : حديث : 1.
    (4) الوسائل ج 5 باب : 54 من ابواب صلاة الجماعة : حديث : 8.

    ومعه لا يبقى موضوع الثاني. وإنما يمكن تقييد المأمور به بنحو ينطبق على الفرد الثاني على تقدير وجوده دون الأول ، نظير ما تقدم فيما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، فيكون الإتيان بالثاني عدولا عن الامتثال بالأول ، لا تبديلا في الامتثال ، كما تقدم في نظيره.
    ثم إن ما ذكرنا من أن موافقة الأمر تستلزم امتثاله وسقوطه الراجع لعدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء ، بل عدم مشروعيتهما كما يجري في الأمر الواقعي الأولي يجري في الأمر الاضطراري الثانوي وفي الأمر الظاهري ، بمعنى أن موافقة كل منهما تمنع من التعبدية به ثانيا بالإعادة أو القضاء على طبقه ، لعين الوجه المتقدم من أن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.
    وقد وقع الكلام بينهم في امرين ..
    أولهما : إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري ، بمعنى أن موافقة الأمر الاضطراري هل تقتضي الإجزاء بعد ارتفاع التعذر ، فلا تجب الإعادة ولا القضاء على طبق الأمر الاختياري؟
    ثانيهما : إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، بمعنى أن موافقة الأمر الظاهري هل تقتضي الإجزاء عن الأمر الواقعي ، فلو انكشف الخطأ لا تجب الإعادة على طبق الأمر المذكور؟
    وعمدة الكلام في مبحث الإجزاء في هذين الأمرين ، لما فيهما من النقض والإبرام الكلام فيهما على المباني المختلفة.
    وأما إجزاء موافقة الأمر عن امتثاله ثانيا فقد سبق أن وضوحه مغن عن إطالة الكلام فيه.
    ومن هنا يقع الكلام في مقامين ..

    المقام الأول
    في إجزاء الأمر الاضطراري
    والكلام في إجزائه عن الإعادة لو ارتفع التعذر في أثناء الوقت إنما يكون بعد الفراغ عن مشروعية الأمر الاضطراري بمجرد تعذر المأمور به الاختياري في أثناء الوقت وإن لم يستوعبه.
    وإلا فلو فرض اختصاص مشروعيته بالتعذر المستوعب للوقت يكون ارتفاع التعذر في أثناء الوقت مستلزما لعدم مشروعيته من أول الأمر ، فيخرج عن موضوع الكلام من إجزاء الأمر الاضطراري.
    غاية الأمر أنه لو فرض القطع باستمرار التعذر أو التعبد به ظاهرا مع احتماله فأتى بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع التعذر قبل خروج الوقت يكون ارتفاعه كاشفا عن خطأ القطع أو التعبد الظاهري بمشروعية البدار ، فيبتني اجزاؤه على إجزاء الفعل الخطائي أو الأمر الظاهري ، الذي يأتي الكلام فيه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
    إذا عرفت هذا ، فقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن مشروعية المأمور به الاضطراري في الوقت مستلزمة لإجزائه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت ، لأن تعذر القيد في الوقت إن أوجب سقوط قيديته حال التعذر كان فاقد القيد وافيا بالملاك ، فلا يصدق مع الإتيان به الفوت هو موضوع القضاء ، وإن لم يوجب سقوط قيديته ـ لعدم حصول ملاك الواجب بدونه ـ امتنع الأمر بفاقد القيد ـ كما في فاقد الطهورين ـ ففرض الأمر بفاقد القيد حال التعذر

    ووجوب القضاء متناقضان.
    ولا مجال لوجوب القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وإن حصلت مصلحة أصل الواجب بالمأمور به الاضطراري.
    لأن مصلحة القيد إنما يمكن تحصيلها حال كونه قيدا في المأمور به ، فمع فرض عدم قيديته فيه ، لحصول أصل المأمور به وسقوط أمره بفعل الاضطراري في الوقت لا يبقى موضوع لاستيفاء مصلحة القيد وإن كانت لازمة التحصيل في نفسها.
    وبالجملة : فرض مشروعية الاضطراري ووفائه بملاك أصل المطلوب مانع من مشروعية القضاء ، لا لتدارك ملاك أصل المطلوب ، لفرض حصوله بالاضطراري ، ولا لتدارك مصلحة القيد ، لتعذر تحصيلها بعد اختصاص مشروعية القيد بما إذا كان قيدا في المطلوب المفروض سقوط أمره.
    وأما إيجاب الفعل خارج الوقت بعنوان آخر غير عنوان القضاء فهو وإن كان ممكنا ، إلا أنه خارج عن محل الكلام في المقام.
    وفيه .. أولا : أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافيا بملاك أصل الواجب دون قيده ، بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب بعض أو تمام المفسدة الحاصلة من تأخير المأمور به الاختياري عن الوقت ، من دون أن يؤدي شيئا من مصلحته ، كما لو وجب غسل المسجد يوم الجمعة أو دفع عشرة دنانير لزيد ، فإن تعذر الغسل وجب سدّ باب المسجد ، وإن تعذر المال وجب الاعتذار من زيد بالعجز ، وكان مصلحة الغسل التطهير ومصلحة دفع المال وفاء دين في الذمة ، وكان إيجاب سدّ باب المسجد عند تعذر الغسل لتجنب صلاة الناس في موضع نجس ، والاعتذار من زيد عند تعذر المال لتطييب خاطره ، وفي مثل ذلك يتعين تدارك المأمور به الاختياري بالقضاء عند ارتفاع العذر ، لعدم وفاء المأمور به الاضطراري بشيء من مصلحته.

    ودعوى : خروج ذلك عن المأمور به الاضطراري اصطلاحا ، كما قد يظهر منه قدّس سرّه.
    ممنوعة ، إذ ليس المراد به إلا ما يجب بدلا عن الواجب المتعذر ، ولا طريق لتشخيصه إلا ذلك ، حيث لا يتيسر لنا تشخيص حال الملاكات وكيفية ترتبها ، وأنها بالنحو الذي فرضه قدّس سرّه ، بل يمكن أن تكون بالنحو الذي ذكرنا أو غيره وإن كان الاضطراري من سنخ فاقد القيد عرفا ، لا من سنخ آخر كالمثالين المتقدمين.
    وثانيا : أنه لو سلم لزوم وفاء المأمور به الاضطراري بملاك المأمور به الاختياري بذاته دون ملاك قيده ـ كما فرضه هو قدّس سرّه فلا ملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء ، بل يمكن وفاء القيد بملاكه إذا حصل في العمل ثانيا وإن كان ملاك أصل العمل قد استوفي سابقا ، فلا يجب العمل لملاكه الأصلي ـ لغرض استيفائه ـ بل لأجل استيفاء ملاك القيد لا غير ، كما لو وجب الغسل بالماء الحار لأجل التطهير والتدفئة ، فتعذر الماء الحار فوجب أصل الغسل لأجل التطهير ، حيث يمكن وجوب الغسل بالماء الحار عند القدرة عليه لأجل التدفئة ، لا لأجل التطهير المفروض الحصول.
    ودعوى : أن ذلك لا يناسب فرض الارتباطية بين القيد والمقيد.
    ممنوعة ، لأن فرض الارتباطية إنما كان في حال القدرة ، لا في حال التعذر الذي هل محل الكلام ، إذ لا إشكال في عدم الارتباطية بينهما في الجملة ، ولذا شرع الفاقد للقيد حال التعذر.
    هذا ، ولا يخفى أن الوجه الذي ذكره ـ لو تمّ ـ كما يجري في القضاء يجري في الإعادة ـ في فرض ارتفاع العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع الأمر الاضطراري مطلق التعذر وإن لم يستوعبه ـ لتوقف الإعادة على عدم استيفاء الملاك وإمكان استيفائه ، إلا أنه ذكر لنفي وجوب الإعادة وجها آخر

    يرجع إلى أن مشروعية البدار للمأمور به الاضطراري في محل الكلام تستلزم ، بعد فرض الإجماع على عدم وجوب صلاتين على المكلف في اليوم الواحد ، وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري الملزم ، إذ مع عدم وفائه بها يكون تشريعه مفوتا لغرض المولى ، وهو ممتنع ، وإذا كان وافيا بتمام ملاك الاختياري لم تشرع الإعادة.
    لكنه يشكل : ـ مضافا إلى اختصاصه بالصلاة التي قام الإجماع على عدم وجوبها مرتين دون غيرها مما لا إجماع فيه ـ بأن الإجماع إنما يقتضي عدم وجوب الجمع بين المبادرة للاضطراري حال التعذر والإعادة بعد ارتفاع التعذر ، وليس هو محل الكلام حتى على القول بعدم إجزاء الاضطراري عن الإعادة ، لأن مشروعية الاضطراري مع عدم إجزائه عن الاعادة لا ترجع إلى وجوب المبادرة إليه ، بل إلى عدم لغويته لو أتى به لترتب بعض الملاك عليه وإن جاز عدم الإتيان به وانتظار ارتفاع العذر والاقتصار على الاختياري ، فلا تنافي الإجماع المذكور.
    كما لا مانع منه ولا محذور في التخيير بين الاقتصار على الاختياري في آخر الوقت والجمع بينه وبين الاضطراري في أوله ، لعدم وفاء الاضطراري إلا ببعض الملاك الملزم ، وإمكان استيفاء الباقي منه بالإتيان بالاختياري ، نظير ما تقدم في مثال التطهير بالماء الحار.
    وأما ما ذكره بعض مشايخنا من امتناع التخيير المذكور لرجوعه إلى وجوب الاختياري في آخر الوقت على كل حال ، ولا مجال معه لوجوب الاضطراري في أول الوقت تخييرا ، لأن لازمه أن يكون واجبا على تقدير المبادرة إليه وغير واجب على تقدير عدم المبادرة إليه ، وهو باطل.
    فهو كما ترى! لأن الوجوب التخييري للزائد ثابت قبل وقوعه ، والتعييني غير ثابت له حتى بعد وقوعه ، وإنما التابع لوقوعه هو تعينه خارجا للامتثال ، كما

    هو الحال في سائر موارد امتثال التكاليف الوجوبية والاستحبابية.
    ولو تمّ ما ذكره لزم امتناع التخيير بين الأقل والأكثر مطلقا حتى لو كان الزائد دخيلا في ترتب الملاك على تقدير وجوده ، مع أنه قد اعترف بإمكانه حينئذ ، وإنما يمتنع التخيير المذكور لو كان الأقل مستقلا بالملاك ولم يكن للزائد دخل فيه على تقدير وجوده ، ولا مجال له في المقام ، لأن المفروض ترتب بعض الملاك على الاضطراري وكون الإعادة لاستيفاء الباقي منه بالاختياري ، لا لاستيفائه بتمامه.
    وقد تحصل مما تقدم : أنه لا مجال للبناء على لزوم إجزاء المأمور به الاضطراري عن الإعادة أو القضاء بعد ارتفاع التعذر على ما يطابق المأمور به الاختياري ، بل يمكن فرض عدم إجزائه عنهما ، فلا مانع من الالتزام به لو اقتضته الأدلة.
    هذا كله في مقام الثبوت ، وأما مقام الإثبات ومفاد الأدلة بعد فرض إمكان كل من الإجزاء وعدمه ..
    فالذي ينبغي أن يقال : المأمور به الاضطراري ـ سواء كان فردا من الماهية المأمور بها ووجدا لعنوانها ، كالصلاة من جلوس والطهارة الترابية ، أم بدلا عنها ، كما لو وجب الاستغفار على من لم يجد الكفارة ـ لما كان تشريعه معلقا على تعذر الاختياري فالمستفاد من دليله عرفا عدم وفائه بتمام الملاك ـ الذي هو مورد الغرض ـ حال التعذر ، وليس هو كسائر الأفراد أو الأبدال المشروعة في حال خاص ، فالصلاة من جلوس حال تعذر القيام ـ مثلا ـ ليست كالصلاة قصرا حال السفر ، بل هي نظير الميسور من المطلوب الذي لا يسقط بالمعسور منه ، ويجتزأ به للضرورة. ولذا لا يجوز ـ ارتكازا ـ تعجيز النفس عن المأمور به الاختياري لتحقيق موضوع الاضطراري كما يجوز السفر لتحقيق موضوع القصر. ولازم ذلك عدم الاكتفاء بها بالمأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب

    التعذر للوقت ، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك الذي هو مورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في الوقت بانتظار ارتفاع العذر.
    وحينئذ إن دل الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق التعذر وإن لم يستوعب الوقت ، فإن كان المراد به مجرد المشروعية في مقابل لغويته وعدم ترتب شيء من الملاك عليه ، لم يناف ما ذكرنا من عدم وفائه بتمام الملاك المذكور.
    ويتعين حينئذ عدم الاجتزاء به عن الإعادة بعد ارتفاع التعذر ، عملا بإطلاق دليل المأمور به الاختياري المقتضي لفعلية الأمر به بالقدرة عليه في بعض الوقت ، من دون أن ينافيه دليل مشروعية الاضطراري بعد كون المراد به المشروعية بالمعنى المذكور.
    وإن كان المراد به الاجتزاء به في أداء الخطاب المتوجه في الوقت كان مسوقا لبيان إجزائه عن الإعادة الذي هو محل الكلام في المقام ، وكشف عن وفائه في حال التعذر بتمام الملاك الذي يفي به الاختياري في حال القدرة أو ببعضه مع عدم فعلية الغرض بتحصيل الباقي ، لمصلحة التسهيل أو غيرها ، على خلاف ما سبق أنه المستفاد عرفا من إطلاق دليل تشريع البدل الاضطراري ، ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.
    هذا ، ومن الظاهر أن المفهوم عرفا من تشريع البدل الاضطراري هو المعنى الثاني ، لأنه المهم لعامة المكلفين ، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة والبيانات الشرعية ، وإرادة المعنى الأول تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام عليها إلا بقرينة. ومن ثم كان الأول هو المفهوم حتى من الدليل اللبي المتفرع على مدلول الكلام وتشخيص المراد به ، كالإجماع المستفاد من كلام أهل الفتوى.
    وعلى هذا يبتني ما تكرر منا ومن غير واحد من أن قرينة الاضطرار ـ

    المناسبة لعدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري ، كما تقدم ـ تقتضي اختصاص مشروعية المأمور به الاضطراري بالتعذر في تمام الوقت.
    لوضوح أن القرينة المذكورة إنما تقتضي ذلك لو استفيد من دليل مشروعيته إجزاؤه ، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك ومورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في آخر الوقت عند ارتفاع العذر ، أما لو استفيد منه مجرد المشروعية في مقابل اللغوية فالقرينة المذكورة لا تمنع من مشروعيته بالتعذر في بعض الوقت ، لما عرفت من عدم ملازمة المشروعية بالمعنى المذكور للاجتزاء عن الإعادة المستلزم لفوت بعض الملاك.
    وقد ظهر مما ذكرنا أن استفادة الإجزاء من دليل مشروعية الاضطراري بمطلق التعذر ـ وإن لم يكن مستوعبا للوقت ـ إنما هو لأجل أن الدليل المذكور مسوق نوعا لبيان ذلك ، لا لكون المشروعية مستلزمة للإجزاء عقلا ، كما يظهر مما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    هذا كله في الإعادة ، وأما القضاء فعدم وجوبه في فرض كون موضوع الاضطراري مجرد التعذر وإن لم يستوعب الوقت مستفاد عرفا مما دل على عدم وجوب الإعادة ، لأن عدم وجوب الإعادة حيث كان مستلزما لوفاء الاضطراري بتمام الملاك أو ببعضه مع عدم فعلية تعلق الغرض بالباقي فهو مستلزم لعدم تحقق موضوع القضاء مع الإتيان بالاضطراري في وقته ، لأن موضوع القضاء إن كان هو الفوت فهو لا يصدق عرفا بالإضافة للمطلوب بعد حصول تمام ما هو مورد الغرض من ملاكه. وإن كان هو عدم الاتيان بالواجب فالمراد منه خصوص ما يلازم فوت غرضه ، لفعلية تعلق الغرض به تعيينا حين فوته ولو مع عدم فعلية الخطاب به لمانع من نوم أو نحوه ، لا مطلق عدم الإتيان به ولو مع حصول غرضه ببدله المجزي عنه.
    وإن شئت قلت : المأمور به الاضطراري إن كان واجدا لعنوان الماهية

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:43 am

    المأمور بها حال الاختيار والتي يكون فوتها أو عدم الإتيان بها موضوعا للقضاء ـ كالصلاة من جلوس عند تعذر الصلاة من قيام ـ كان دليل تشريعه واردا على دليل القضاء ، لأنه منقح لفرد المأمور به حال الاضطرار.
    وإن كان فاقدا لعنوانها كان مرجع تشريعه إلى بدليته عن الماهية المذكورة ، ومن الظاهر حكومة دليل للبدلية على دليل الواجب ، حيث يكون مفاده قيامه مقامه ، فلا يترتب معه أثر فوته أو عدم الإتيان به وبذلك يكون حاكما على دليل القضاء أيضا. مضافا إلى أن سقوط القضاء أولى عرفا من سقوط الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت. كما لا يخفى.
    وأما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري التعذر في تمام الوقت فإجزاؤه عن القضاء ليس بذلك الوضوح لعدم المخرج عما هو المرتكز ـ بسبب أخذ التعذر في موضوعه ـ من عدم وفائه بتمام ملاك الاختياري الذي هو مورد الغرض الفعلي ، لإمكان كون تشريعه لأهمية مصلحة الوقت الملزمة بتحصيل ما يمكن تحصيله من ملاكه فيه ، مع كون الباقي ممكن التحصيل بالقضاء عند ارتفاع التعذر بعد الوقت ، كما أنه لازم ، فيتحقق موضوع القضاء.
    إلا أنه لا يبعد ظهور أدلة تشريعه في الاجتزاء به عن القضاء عند ارتفاع العذر وورودها لبيان الخروج به عن الخطاب المتوجه في الوقت من أصله بلحاظ تمام الملاك الذي هو مورد الغرض الفعلي ، لا بلحاظ خصوصية الوقت منه مع بقاء شيء منه يطالب به المكلف خارج الوقت ، لأن ذلك هو مقتضى ما سبق في القسم الأول من ورود دليل الاضطراري أو حكومته على دليل القضاء.
    ومجرد عدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري لا ينافي ذلك ، لإمكان كون الإتيان بالمأمور به الاضطراري ـ المشروع والمحصل لبعض الملاك ـ في الوقت مانعا من فعلية تعلق الغرض بالباقي من الملاك ، إما لتعذر تحصيله بالقضاء ، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل رفع اليد عنه.

    ولا أقل من كون ذلك مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة تشريع الاضطراري ، للغافلة عن وجوب القضاء معه جدا.
    ولعله لأن مقتضى القاعدة الارتكازية في تعذر المطلوب الارتباطي في الوقت ـ ولو بتعذر قيده ـ هو تعذر تحصيل شيء من الملاك المستلزم لسقوط الأمر رأسا وعدم وجوب الميسور الاضطراري ، بل انتظار القضاء عند ارتفاع التعذر لتحصيل الملاك بتمامه إذا كان العمل مما يقبل القضاء ، فدليل تشريع المأمور به الاضطراري كما يكون ردعا عن مقتضى القاعدة من سقوط الأمر في الوقت يكون عرفا ردعا عن وجوب القضاء لتحصيل الملاك بتمامه ، لكونه مترتبا على ذلك ، ووجوب القضاء لتتميم الملاك الحاصل بالاضطراري وإن كان ممكنا إلا أنه مغفول عنه ، لعدم اقتضاء القاعدة له ، فعدم التنبيه عليه في أدلة تشريع الاضطراري موجب لظهورها في عدمه بمقتضى إطلاقاتها المقامية.
    ومرجع ذلك إلى عدم تعلق الغرض الفعلي بعد الوقت بتحصيل الملاك الفائت الذي لم يستوف بالاضطراري إما لتعذره ، أو لرفع اليد عنه ولو لمصلحة التسهيل ، وإن كان مهما في نفسه لازم التحصيل في ضمن الوقت ، ولذا اختص تشريع الاضطراري والاكتفاء به بالتعذر المستوعب لتمام الوقت ، كما هو مفروض الكلام.
    على أنه لو فرض إجمال دليل تشريع المأمور به الاضطراري من هذه الجهة ، ولو لكونه لبيا لا ينهض المتيقن منه بإثبات سقوط القضاء فلا أقل من كون نفيه مقتضى الأصل ، لاختصاص أدلة القضاء بفوت الفريضة أو عدم الإتيان بها رأسا بالنحو المستلزم لفوت ملاكها رأسا ، ولا يشمل فرض الإتيان بالفرد أو البدل الاضطراري المحصل لبعض ملاك الفريضة. فوجوب القضاء في محل الكلام يحتاج إلى دليل خاص.
    نعم ، لو كان لدليل الأمر الاختياري بالعمل التام إطلاق يقتضي عدم

    التوقيت ، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في قيدية الوقت ودخله في مصلحة الماهية المأمور بها ، بل في مجرد مطلوبية إيقاع العمل فيه ولو بنحو تعدد المطلوب ، يكون وجوب الإتيان به بعد ارتفاع التعذر خارج الوقت مقتضى الإطلاق المذكور ، الذي يخرج به عن الأصل المتقدم ، واحتاج إجزاء المأمور به الاضطراري عن القضاء للدليل ، كالتشبث له بما سبق.
    لكن في صدق القضاء حينئذ إشكال ، لما سبق في مبحث الموقت من اختصاصه بما إذا كان الوقت قيدا في المطلوب ودخيلا في مصلحته. فراجع وتأمل جيدا.
    تنبيه
    حيث ذكرنا ظهور أدلة تشريع الاضطراري في بيان الاجتزاء به عن الإعادة والقضاء ، وكان ذلك ـ بضميمة ارتكاز عدم وفائه بتمام الملاك ـ منشأ لانصراف إطلاقاته إلى التعذر المستوعب للوقت ، فلا مجال لأن يستفاد من الإطلاقات المذكورة مشروعيته بمعنى عدم لغويته بالتعذر غير المستوعب للوقت وإن لم يكن مجزئا ، بل لا بد فيه من دليل خاص ، هو مفقود غالبا.

    المقام الثاني
    في إجزاء الأمر الظاهري
    ولا فرق فيه بين أن يكون أوليا اختياريا ، وأن يكون ثانويا اضطراريا ، غايته أن إجزاء الثاني يراد به إجزاؤه عن الأمر الاضطراري الواقعي ، ويبتني إجزاؤه عن الأمر الاختياري الواقعي على ما سبق في المقام الأول.
    ومحل الكلام في المقام هو مقتضى الحكم الظاهري بمقتضى ظاهر دليله أو دليل خارج بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الأمر للواقع.
    أما لو فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في أن موضوعه الأعم من الواقع والظاهر أو خصوص الظاهر فلا إشكال في الإجزاء ، ويدخل في إجزاء موافقة الأمر الواقعي عن امتثاله والتعبد به ثانيا ، الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل.
    ومن هنا لزم البناء على الإجزاء بناء على التصويب المنسوب للأشاعرة ، الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق ، والتصويب المنسوب للمعتزلة المبني على جعل الأحكام الواقعية في مرتبة سابقة على التعبد الظاهري مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعا لها ، لكونه سببا لحدوث الملاكات المزاحمة لملاكاتها والمانعة من فعلية تعلق الغرض بها ، بل يتعلق الغرض الفعلي بالملاكات الناشئة من قيام الطرق بنحو يستتبع جعل الحكم على طبقها ورفع اليد عن الحكم الواقعي.
    أما على الأول فظاهر ، لعدم وجود واقع تفرض مخالفته ، بل ليس الواقع

    إلا ما أدى إليه الطريق الذي فرض العمل على طبقه.
    غاية الأمر أن قيام الطريق المخالف للطريق الذي عمل على طبقه يوجب تبدل الواقع ، وهو إنما يقتضي تبدل الوظيفة في حق المكلف إذا لم يعمل على طبق الطريق الأول ، أما مع عمله على طبقه فقد سقط الأمر ، نظير ما لو سافر بعد أن صلى تماما.
    وأما على الثاني فلأن الواقع لما لم يكن فعليا ، لعدم فعلية تعلق الغرض بملاكه فلا أثر لموافقته ومخالفته ، بل الأثر للحكم الفعلي المفروض موافقته.
    ومن هنا كان الإجزاء بناء على التصويب ـ بكلا وجهيه ـ خارجا في الحقيقة عن محل الكلام من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي ، حيث لا أمر واقعي حين العمل وراء الظاهر ، ليقع الكلام في إجزاء الظاهر عنه.
    نعم ، هذا مختص بما إذا اختلف الطريقان في كيفية العمل المطلوب ، كما لو أدى الأول إلى عدم اعتبار الطهارة في الصلاة على الميت ، والثاني إلى اعتبارها ، أو أدى الأول إلى وجوب صلاة الجمعة ، والثاني إلى وجوب صلاة الظهر.
    أما لو اختلفا في ثبوت الوظيفة وعدمه ، كما لو دل الأول على عدم وجوب صلاة الكسوف والثاني على وجوبها ، فإن كان قيام الثاني في الوقت فلا إشكال في وجوب الأداء على طبقه ، لتمامية موضوعه ، وإن كان خارج الوقت فالظاهر عدم وجوب القضاء ، لأنه فرع فعلية ملاك الأداء ، كما سبق ، والمفروض عدم فعليته.
    كما أن الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد الشرعي الظاهري الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية ، دون ما إذا كان موضوعه الموضوعات الجزئية المستلزمة لأحكام جزئية ، حيث ادعي الإجماع على عدم التصويب فيها.

    وإن كان تحقيق مقتضى التصويب بوجهيه سعة وضيقا موقوفا على الإحاطة بمباني القائلين بها وحججهم ، وهو مما لا يسعه الوقت ، كما أنه غير مهم بعد ظهور بطلان التصويب ، والمهم إنما هو الكلام بناء على التخطئة التي ادعي اتفاق أصحابنا عليها.
    وقد ظهر مما سبق في محل الكلام أن مقتضى الأصل الأولي عدم الإجزاء ، لأن مقتضى فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في لزوم متابعته عدم ترتب الأثر مع مخالفته ، فلا بد في دعوى الإجزاء من إقامة الدليل المخرج عن ذلك ، إما لاستفادته من نفس دليل الحكم الظاهري أو من دليل آخر.
    إذا عرفت هذا ، فقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في كفايته أن الحكم الظاهري إن ابتنى على تعبد الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله ظاهرا ـ كما هو مفاد قاعدة الحل والطهارة ، بل الاستصحاب ، بناء على أنه يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، لا تنزيل الشك منزلة اليقين ـ اقتضى الإجزاء ، لحكومة دليله على دليل الأمر الواقعي ، حيث يكون موسعا للموضوع ومبينا أنه أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح العمل ويجزي لواجديته لجزئه أو شرطه ، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان العمل لجزئه أو شرطه ، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل.
    بخلاف ما يبتني منه على التعبد بوجود الشرط واقعا ، كما في موارد الأمارات ، فإنه حيث لا يبتني على جعل الموضوع في قبال الواقع ، بل على إحراز ثبوت الموضوع في الواقع ـ كما هو مقتضى لسان الأمارة بضميمة دليل حجيتها ـ فبانكشاف الخطأ ينكشف عدم تحقق الموضوع واقعا ، وفقد العمل لجزئه أو شرطه ، فلا يجزي.
    أقول : الحكم بثبوت عنوان الموضوع في مورد ..
    تارة : يبتني على التطبيق الحقيقي لاشتباه المصداق أو المفهوم ، كما في

    قوله عليه السّلام في الفقاع : «هو خمر مجهول» (1) ونحو : كل دين جر نفعا فهو ربا.
    واخرى : يبتني على الجعل الحقيقي فيما لو كان الموضوع أمرا جعليا ، مثل ما تضمن الحكم بالملكية مع الحيازة بالإضافة إلى أحكام الملك.
    وثالثة : يبتني على التطبيق الادعائي التنزيلي بلحاظ الاشتراك في الأحكام ، نحو : المطلقة رجعيا زوجة.
    والأولان لا يبتنيان على توسيع موضوع الحكم ، بل على بيان مفهومه أو مصداقه أو جعل مصداقه ، ويكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان بمعونة دليل التطبيق في الجملة.
    وأما الثالث فحيث كان مصحح الادعاء فيه هو الاشتراك في الأحكام كان كناية عن عدم اختصاص موضوع الحكم بعنوانه الذي تضمنه دليله ، وأنه يعم مورد التطبيق ، فهما يشتركان في الحكم الواحد ، وهو راجع إلى توسيع موضوع الحكم ، ولذا يكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى دليل التطبيق ، لا دليل الحكم.
    وحيث ظهر ذلك فإن كان مبنى كلامه قدّس سرّه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية ونحوهما في أنفسها كون الجزء أو الشرط هو الأعم من الأمر الواقعي والظاهري من الطهارة والحلية ونحوهما ، فدليل الحكم الظاهري وإن تضمّن جعل الحل والطهارة حقيقة لا يكون حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، ولا موسعا لموضوعهما ، بل يكون واردا عليه ، لتضمنه جعل الموضوع حقيقة ، كما تقدم في الوجه الثاني. ويكون الإجزاء حينئذ مقتضى دليل الحكم الواقعي ، كالإجزاء مع الطهارة أو الحل الواقعيين.
    وإن كان مبنى كلامه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية كون الجزء
    __________________
    (1) الوسائل ج 17 باب : 27 من ابواب الأشربة المحرمة : حديث : 11.

    والشرط خصوص الأمر الواقعي من الطهارة أو الحلية أو نحوهما فدليل الحكم الظاهري إنما يكون حاكما عليه لو كان مفاده الحكم بالطهارة والحل ونحوهما ادعاء وتنزيلا من دون أن يتضمن جعلا حقيقيا ، على ما سبق في الوجه الثالث. وهو خلاف مفروض كلامه.
    أما لو كان مفاده الحكم بهما ظاهرا بنحو يتضمن الجعل الحقيقي ـ كما هو مقتضى كلامه ـ. فإن كان الحل والطهارة الظاهريان من أفراد الحل والطهارة الواقعيين ، وليس الفرق بينهما إلا في الموضوع ، حيث يكون موضوع الواقعيين الذات بنفسها ، وموضوع الظاهريين الذات بعنوان كونها مجهولة الحال ، لم يكن دليلهما حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، بل واردا عليه ، نظير ما تقدم على المبنى الأول.
    وإن كانا مباينين للحل والطهارة الواقعيين لم يكن الحكم بهما مقتضيا لترتب حكم الحل والطهارة الواقعيين ظاهرا ، فضلا عن ترتبه واقعا بنحو يقتضي الإجزاء حتى لو انكشف الخطأ ، لعدم كونهما حينئذ من أفراد الموضوع.
    إلا أن يثبت بدليل آخر تنزيلهما منزلة الحل والطهارة الواقعيين في الأحكام. ولا تنهض به أدلة جعلهما لأن جعل الموضوع في مرتبة سابقة على جعل حكمه ، فلا يتكفل بهما معا دليل واحد متضمن لجعل واحد. ومن هنا لم يكن كلامه خاليا من الاضطراب.
    على أن لازمه تأسيس فقه جديد ، فإن مفاد أدلة الاصول المذكورة ـ ومنها الاستصحاب ـ لو كان حاكما على أدلة الأحكام الواقعية وموسعا لدائرة الجزء والشرط بنحو يقتضي الإجزاء واقعا في المأمور به الذي هو موضوع الصحة والفساد والإجزاء لجرى في شروط وأجزاء غيره مما يكون مردا للآثار ، كالعقود والإيقاعات وموضوعات الأحكام الأخر ، فإذا تم التعبد الظاهري ـ الذي تتضمنه تلك الاصول ـ بتلك الشروط صحت العقود والإيقاعات وترتبت تلك الأحكام

    واقعا ولو مع خطأ التعبد المذكور ، فيصح بيع ووقف مستصحب الملكية ، وتستحق مستصحبة الزوجية النفقة ، ويكون عقد الغير عليها محرّما لها عليه مؤبدا ، وينجس الجسم بملاقاة مستصحب النجاسة ، كما يطهر المتنجس بغسله بماء مستصحب الطهارة ، إلى غير ذلك ، لأن دليل التعبد الظاهري كما يكون حاكما على دليل الشرطية في المأمور به يكون حاكما على سائر أدلة الشرطية ، لأن نسبته للجميع على نحو واحد.
    كما لا يختص ذلك بما اذا كان موضوع التعبد أمرا مجعولا شرعا ـ كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وغيرها ـ بل يجري فيما إذا كان موضوعة أمرا خارجيا مأخوذا في موضوع أحكام شرعية ، ككون المرأة في العدة المستلزم لتحريمها مؤبدا بالعقد عليها ، وكونها حائضا المستلزم لوجوب الكفارة بوطئها ، وكونها طاهرا المستلزم لصحة طلاقها ، ونحو ذلك ، إما للتعبد بنفس الأمر الخارجي أو بأحكامه على ما يذكر في محله. ووهن اللازم المذكور غني عن البيان. بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب.
    ومنه يتضح أنه لا مجال للبناء على أن موضوع الشرطية والجزئية ـ للمأمور به وغيره من العقود والايقاعات ـ وغيرهما من الأحكام الأعم من الظاهر والواقع ، ولا على كون موضوعها خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري من أفراد الواقع ، لأن المبنيين معا مستلزمان للمحذور المتقدم وهو ترتب الأثر واقعا ولو مع خطأ التعبد.
    كما أن البناء على أن الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري مباينا له وليس من أفراده مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى ظاهرا حال الجهل ، لعدم كون مؤدى التعبد من أفراد موضوع الحكم الشرعي ، ليترتب عليه الحكم. وهو أوهن مما سبق ، لاستلزامه لغوية جعل الحكم الظاهري ، كما لا يخفى.

    فالتحقيق : أن مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير جعل الحكم الواقعي ، ليقع الكلام في أنه من سنخه وأفراده أو مباين له ، بل ليس في المقام إلا أمر واحد حقيقي كالموضوعات الخارجية أو جعلي اعتباري كالأحكام الشرعية يكون بنفسه موضوعا للاثر العملي الشرعي أو العقلي.
    وتحققه في مقام الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجيا حقيقيا ، ولجعله من قبل الشارع إذا كان جعليا اعتباريا ، وهو الذي تتضمنه أدلة الأحكام الواقعية.
    كما أن البناء عليه في مقام الإثبات والعمل تابع للقطع به ، ومع عدمه فللتعبد الظاهري ، فالتعبد الظاهري لا يتضمن جعل الحكم في عرض الحكم الواقعي ، بل جواز البناء في مقام العمل عليه إثباتا وفي طوله. غايته أن البناء عليه بمقتضى التعبد الشرعي ..
    تارة : يتفرع على قيام الحجة عليه ، لصلوحها شرعا لإثباته.
    واخرى : لا يتفرع عليها ، بل يكون التعبد به ابتدائيا لمحض الجهل به أو مع سبق اليقين به أو لغير ذلك ، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مسألة قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي إن شاء الله تعالى.
    ومنه يظهر أن ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد ، وإن كان موضوع الأثر ثبوتاً هو الواقع بنفسه ، لا ما يعمه والظاهر ، وأن عدم الإجزاء بانكشاف الخلاف إنما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان العمل لجزئه أو شرطه بعد سقوط دليل التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل المفروض ارتفاعه.
    ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه الأمر الواقعي من عدم الإجزاء بعد انكشاف وقوع العمل على خلاف ما أخذ فيه.
    هذا ، وقد يدعى أنه يلزم الإجزاء بناء على أن الطرق والاصول مجعولة

    بنحو السببية لا الطريقية ، بمعنى أن جعلها ناش عن مصلحة في متابعتها. إذ عليه يتدارك الواقع الذي اخطأه بتلك المصلحة ، ومع تداركه يتعين البناء على الإجزاء.
    ويشكل : بأن مصلحة جعل الطريق إن كانت في قبال الملاك الواقعي بنحو تصلح لمزاحمته وتدارك فوته بنحو يستلزم الإجزاء لزم التصويب المنسوب للمعتزلة الذي هو خارج عن الفرض.
    بل يلزم التصويب الباطل حتى لو لم يلزم الإجزاء من التدارك ، لكون المتدارك ، خصوص مفسدة تاخير الواجب عن وقته إذا استلزمه العمل بالطريق ، على ما يأتي في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إن شاء الله تعالى. كما ربما يأتي هناك وفي مبحث قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي ما ينفع في المقام. فلاحظ.
    بقي في المقام امور ..
    الأول : لا ينبغي التأمل في عدم الإجزاء لو كان العمل مخالفا للأمر الواقعي من دون أمر ظاهري ، بل لنسيان أو غفلة أو اعتقاد خاطئ في الموضوع أو الحكم ، لأن مجرد العذر العقلي لا ينافي بطلان العمل المستلزم لوجوب التدارك بمقتضى الأصل.
    نعم ، يمكن دلالة الدليل الخاص فيه على الإجزاء الواقعي خروجا عن مقتضى الأصل ، كما قد يدل على إجزاء الأمر الظاهري كذلك ، على ما يأتي في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
    الثاني : حيث ذكرنا أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفة الأمر الواقعي فالمخالفة ..
    تارة : تثبت بالعلم الوجداني. ولا إشكال حينئذ في لزوم ترتيب أثرها المذكور ، وهو عدم الإجزاء. وهو المتيقن مما سبق.

    واخرى : تكون مقتضى التعبد الشرعي ، لتبدل الاجتهاد في حق المجتهد أو عدول المقلد عن فتواه السابقة أو تقليد غيره في حق المقلد ، أو لابتناء العمل على أصل قامت الأمارة بعد العمل على خلاف مقتضاه ، أو تبدل مفاد الأمارة ، كما لو عدلت البينة عن الشهادة بوجه إلى غيره ، وغير ذلك مما لا يبلغ العلم. وقد وقع الكلام بينهم في الإجزاء في هذا القسم في الجملة وعدمه.
    ولا يخفى أنه بعد فرض اختلاف مؤدى التعبد الشرعي حين العمل عنه بعد العمل لا يعقل حجيتهما معا في واقعة واحدة ، لامتناع التعبد بالنقيضين.
    وحينئذ حيث فرض حجية التعبد الثاني ، فإن اختص دليل حجيته بالوقائع اللاحقة مع بقاء التعبد الأول حجة في الوقائع السابقة فلا إشكال في إجزاء العمل السابق بمقتضى حجية التعبد الأول وعدم انكشاف مخالفته للأمر الواقعي بالتعبد الثاني.
    نعم ، قد يلزم من ذلك مخالفة علم إجمالي منجّز ، فيسقط كلا التعبدين عن الحجية في الوقائع المختصة به ، كما لو قلد من يقول بوجوب التقصير بالسفر ثمانية فراسخ ملفقة ، وعمل عليه مدة ، ثم قلد من يقول بوجوب الإتمام في ذلك ، وأنه لا بد في التقصير من السفر ثمانية فراسخ امتدادية. فلو فرض حجية كل من التقليدين في الوقائع المقارنة له فحيث يعلم اتحاد جميع الوقائع في الحكم الواقعي يعلم إجمالا إما بخطإ مقتضى التقليد الأول ، فيجب قضاء ما وقع على طبق التقليد الأول تماما ، أو بخطإ الثاني ، فيجب القصر في الوقائع اللاحقة.
    وإن كان دليل حجيته يعم الوقائع السابقة بنحو ينهض بإثبات وجوب التدارك فيها بالإعادة والقضاء المستلزم لسقوط التعبد الأول عن الحجيّة فيها واختصاصه بصورة عدم قيام التعبد الثاني تعين عدم الإجزاء ولزوم التدارك ، كما لو استندت فتوى المجتهد أو عمل المكلف للأصل الترخيصي الجاري في

    الشبهة الموضوعية أو الحكمية ، ثم عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على خبر معتبر ، أو قامت بينة عند المكلف ، على خلاف مقتضى الأصل المفروض الذي وقع العمل على طبقه.
    وإن فرض الشك في حال التعبدين بنحو لا يحرز عموم الثاني للوقائع السابقة وسقوط الأول عنها ، ولا قصور عنها وبقاء الأول حجة فيها ، لإجمال دليلهما ، كان العمل السابق غير محرز الصحة والإجزاء ، لأن الحكم بصحة العمل وإجزائه وترتيب أثرهما في كل زمان موقوف على حجية التعبد بهما في ذلك الزمان ، ولا يكفي حجيته عليهما في زمان صدور العمل ، كما هو الحال في القطع.
    وحينئذ إن كانت الشبهة موضوعية ـ كما لو شك في الطهارة الحديثة فيما اعتبر فيه الطهارة ـ فلا ينبغي التأمل في لزوم الإعادة ، لأصالة الاشتغال بالتكليف المتيقن المفروض الشك في امتثاله.
    بل لا يبعد وجوب القضاء لأصالة الاشتغال ـ أيضا بناء على ما هو الظاهر من أن القضاء وإن احتاج إلى دليل إلا أنه بعد فرض ثبوته متحد مع الأداء ، وأن الوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب ، فسقوطه بالتعذر لا ينافي جريان قاعدة الاشتغال في أصل المكلف به.
    ولو فرض مباينته للأداء ، بحيث يسقط التكليف بالأداء ويخلفه التكليف بالقضاء كفت أصالة عدم الإتيان بالواجب في وقته في وجوب القضاء ، بناء على ما هو الظاهر من أن موضوعه ذلك ، لا عنوان الفوت الذي لا يحرز بالأصل.
    ويأتي بعض الكلام في ذلك في ذيل التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة ، كما ذكرناه في الفقه في المسألة الحادية والثمانين من مباحث الوضوء من شرح منهاج الصالحين. فراجع.
    نعم ، لو كان هناك محرز آخر لصحة العمل غير التعبد الأول ، كقاعدة

    الفراغ ، وقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت جاز التعويل عليه. ولا مجال لإطالة الكلام في صغريات ذلك ، بل يوكل لمورد الحاجة من الفقه ، لخروجه عن محل الكلام ، إذ الكلام في الإجزاء من حيثية التعبد الأول لا غير.
    وإن كانت الشبهة حكمية فإن كان مفاد التعبد الأول عدم التكليف أصلا ومفاد الثاني ثبوته ووجوب القضاء بالتخلف عن مقتضاه ، كما لو قلد من يفتي بعدم وجوب صلاة الكسوفين وعمل على ذلك مدة ثم قلد من يفتي بوجوبهما ووجوب قضائهما ، كان مقتضى أصالة البراءة عدم التكليف في الوقائع السابقة بعد فرض كون المتيقن من حجية فتوى الثاني الوقائع اللاحقة.
    وكذا لو اختلفا في اعتبار خصوصية مفقودة في العمل السابق ، كما لو صلى بدون سورة مقلدا لمن يقول بعدم وجوبها ثم قلد من يقول بوجوبها ، بناء على ما هو الظاهر من جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين فيبنى على الاجزاء في الفرض.
    إلا أن يلزم مخالفة علم إجمالي ، كما لو صلى قصرا تبعا لتقليد من يفتي به ، ثم قلد من يفتي بالتمام ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب قضاء ما صلاه قصرا أو وجوب القصر في الصلوات اللاحقة.
    وأما لو اختلفا في إحراز المكلف به مع الاتفاق على تحديده فيجري ما سبق في الشبهة الموضوعية ، كما في موارد الاختلاف في المحصل ، مثل ما لو قلد من يقول بكفاية المسح بماء جديد في الوضوء وترتب الطهارة المطلوبة عليه ، ثم قلد من يقول ببطلان الوضوء معه.
    ومثلها موارد الاختلاف في التعبد الظاهري ، كما لو عمل تبعا لتقليد من يقول بجريان قاعدة الفراغ مع عدم الالتفات لمنشا الشك حين العمل ، أو من يقول بأصالة العدالة في المسلم ، ثم قلد من يخالف في ذلك.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن المدار في الإجزاء على بقاء التعبد

    الأول حجة في الوقائع السابقة ، ليحرز به مطابقة العمل فيها للأمر الواقعي ، لا على مجرد عدم حجية التعبد الثاني فيها ، كي لا يحرز به مخالفة العمل للأمر الواقعي ، إلا فيما إذا كانت الشبهة حكمية وكان الشك في أصل التكليف أو في جزء المكلف به أو شرطه مع عدم لزوم مخالفة علم إجمالي منجز ، فيكفي في الإجزاء مجرد عدم حجية التعبد الثاني في الوقائع السابقة وإن لم يثبت بقاء حجية التعبد الأول فيها ، لإجمال دليله.
    إذا عرف هذا ، فاعلم أنه لم يتضح منهم الخلاف في أصالة عدم الإجزاء مع تبدل مقتضى التعبد إلا في اختلاف مقتضى الاجتهاد ، حيث يظهر من جملة منهم أن الأصل فيه الإجزاء وعدم وجوب تدارك ما وقع من الأعمال على طبق الاجتهاد الأول.
    وقد استدل له في كلامهم بوجوه ..
    أولها : ما ذكره في الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ، ولو بحسب زمانين ، لعدم الدليل على ذلك.
    ومرجعه إلى أنه بعد فرض سبق حجية الاجتهاد الأول في الوقائع السابقة ، لا دليل على حجية الاجتهاد الثاني فيها بعد حدوثه ، ليجب العمل على مقتضاه بالبناء على عدم الإجزاء.
    وفيه .. أولا : أنه ظهر مما تقدم أن مجرد عدم الدليل على حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة لا يكفي في الإجزاء في كثير من الموارد ، بل لا بد فيه من بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في تلك الوقائع ، وهو محتاج إلى الدليل.
    وثانيا : أن حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة مقتضى عموم أدلة حجية الأدلة التي ابتنى عليها ، لعدم الفرق في حجية الظواهر وخبر الواحد والاصول وغيرها بين الوقائع.
    ومجرد العمل على خلافها في بعضها اعتمادا على حجة اخرى قد ظهر

    لزوم رفع اليد عنها لا يخرجها عن موضوع الحجية ، بل هي كما لو لم يعمل فيها بتلك الحجة السابقة بعد فرض تقديم الحجة اللاحقة عليها ورفع اليد بها عنها.
    ثانيها : ما حكاه في التقريرات عن بعض الأجلة من أن تبدل الاجتهاد وقيام حجة اخرى على خلاف الحجة الاولى ليس إلا نظير النسخ ، فإنه بوصول الحجة الثانية ينقضي زمان الحجة الاولى ، من دون أن ترتفع حجيتها في ما كانت حجة فيه.
    وفيه : أنه بعد فرض عدم تبدل الواقع باختلاف الحجج لا مجال لقياس المقام بالنسخ ، لا بالإضافة للواقع ، كما هو ظاهر ، ولا بالإضافة للحجة السابقة ، لأنه إن اريد بذلك بقاء حجيتها في الوقائع السابقة فهو موقوف على ثبوت الإطلاق لها وقصور إطلاق دليل الحجة الثانية عن شمول تلك الوقائع ، وقد سبق أنه لا مجال لذلك في الأدلة التي يبتنى عليها الاجتهاد.
    وإن اريد به الاكتفاء في الإجزاء بمطابقة العمل للحجة السابقة حين صدوره ولو بعد سقوطها عن الحجية ، فهو أوهن ؛ لوضوح أن البناء عملا على الإجزاء في كل زمان موقوف على قيام الحجة عليه في ذلك الزمان ، ولا يكفي قيامها عليه سابقا بعد فرض سقوطها عن الحجية بعد ذلك ، نظير القطع.
    ثالثها : أن الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع السابقة دون الأولى ترجيح من غير مرجح بعد كونهما معا ظنيتين ، فعن كاشف الغطاء بعد كلام له في المقام : «على أنه لا رجحان للظن على الظن السابق حين ثبوته».
    ويظهر ضعفه مما تقدم ، فإنه بعد فرض سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ـ بمقتضى أدلة الأمارتين ـ يتعين التعويل على الثانية دون الآلي ، وإنما تكون الآلي كالثانية بالثانية ما دامت حجة ، كما هو الحال قبل قيام الثانية ، لا مطلقا ولو بعد سقوطها عن الحجية بها.
    رابعها : أنه مقتضى الاستصحاب.

    وفيه : أنه إن اريد به استصحاب الحكم الظاهري التابع للأمارة الاولى فهو معلوم الارتفاع بعد سقوطها عن الحجية ، لما تقدم.
    وإن أريد به استصحاب الحكم الواقعي المحكي بالأمارة الاولى ، فهو ـ مع اختصاصه بما إذا كان التعبد بلسان الأمارة او الأصل التعبدي ، على كلام في الثاني ـ غير متيقن الحدوث بعد سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ، بل هو بمنزلة متيقن العدم بعد حجية الثانية.
    على أن الشك ليس في استمراره بعد حدوثه الذي هو مفاد الاستصحاب ، بل في أصل ثبوته وهو موضوع الأثر ، وإن كان استمراره على تقدير ثبوته معلوما.
    خامسها : أنه لو بني على عدم الإجزاء يلزم الحرج ويرتفع الوثوق بالاجتهاد ، لكثر التعرض للاختلاف فيه ، وهو خلاف الحكمة الداعية إليه.
    وفيه : ـ مع أن لزوم الحرج غير مطرد ، وقاعدة نفيه لا تنهض بتشريع حجية التعبد السابق ونحوه من الأحكام التي يتدارك بها الحرج ، وأنه لا طريق لإحراز أن الحكمة من الاجتهاد هو الوثوق بالنحو المذكور ، كما يأتي في الأمر الثالث توضيحه ـ أن ذلك إن رجع إلى كون الجهتين المذكورتين كاشفتين عن بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في الوقائع السابقة ، واختصاص سقوطه وحجية الاجتهاد الثاني بالوقائع اللاحقة.
    فهو مخالف للمرتكزات جدا بعد النظر في أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما ذكرناه آنفا ، ويبتني على عناية خاصة لا مجال للبناء عليها لأجل الجهتين المذكورتين.
    نعم ، قد يدعى كشف الجهتين المذكورتين عن كون موافقة العمل للاجتهاد الأول موجبة للإجزاء ثبوتا ولو مع مخالفة الأمر الواقعي ، بحيث يبني على الإجزاء بالمخالفة ، فضلا عما لو كانت مقتضى الاجتهاد الثاني غير قطعي ،

    وهو أمر آخر خارج عن مقتضى الأصل المتقدم ، يأتي الكلام فيه في الأمر الثالث كما يأتي الكلام في حال الجهتين المذكورتين ، ومحل الكلام هنا في ما يقتضيه الأصل والقاعدة الظاهرية بعد الفراغ عما سبق من أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفه الحكم الواقعي. ولذا صرح بعضهم بعدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، وتقدم أنه المتيقن من محل الكلام.
    هذا كله مع أن ما عدا الوجه الأول ـ لو تمّ ـ لا يختص بتبدل الاجتهاد ، بل يجري في غيره من مورد تبدل مقتضى التعبد في الشبهة الموضوعية والحكمية.
    بل لا يبعد ذلك في الوجه الأول أيضا ، لعدم الفرق غالبا بين ألسنة أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد وألسنة غيرها مما يبتني عليه التعبد في الموارد الاخرى. بل قد يرجع التعبد الذي يبتنى عليه الاجتهاد في الشبهة الحكمية والتعبد في الشبهة الموضوعية إلى دليل واحد ، كما هو الحال في الاصول.
    لكن من البعيد جدا بناؤهم على مقتضى الوجوه المتقدمة في غير تبدل الاجتهاد ، بل الظاهر مفروغيتهم فيه عن رفع اليد عن الإجزاء الذي هو مقتضى التعبد السابق بالتعبد اللاحق المخالف له وإن كانت بعض كلماتهم قد لا تناسبه ..
    ثم إنهم ذكروا عدم الفرق في البناء على الإجزاء اعتمادا على الاجتهاد السابق بين المجتهد نفسه والمقلد ، لعموم الوجوه المتقدمة.
    والظاهر أن ما سبق منا في وجه المنع عن ذلك كما يجري في حق المجتهد نفسه يجري في حق المقلد ، سواء عدل مقلده عن فتواه السابقة أم اجتهد هو على خلاف مقتضى تقليده السابق ، حيث لا إشكال في عموم حجية الاجتهاد الثاني منه أو من مقلده للوقائع ، تبعا لعموم حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما تقدم.
    وأما لو عدل عن تقليد المجتهد إلى تقليد غيره ممن يخالفه في الاجتهاد

    ويرى بطلان العمل السابق ، فعموم حجية اجتهاد الثاني للوقائع السابقة موقوف على عموم دليل العدول لها ، وهو يختلف باختلاف موارد العدول ، ولا يسع الوقت استقصاء ذلك ، بل يوكل لمباحث الاجتهاد والتقليد الآتية في محلها.
    كما أنا قد استوفينا الكلام في هذا المقام في الفقه في المسألة السادسة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد من شرح منهاج الصالحين. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
    الثالث : لا يخفى أن عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري مع مخالفته للواقعي وإن كان مقتضى الأصل ـ كما تقدم ـ إلا أنه لا إشكال في إمكان حكم الشارع بالإجزاء بنحو يرجع إلى أن موضوع الحكم الواقعي أعم من الوجود الواقعي والظاهري ، بل هو يخرج في الحقيقة عن موضوع الأصل المتقدم ، لرجوعه إلى موافقة الحكم الواقعي ، الذي لا بد معه من الإجزاء كما تقدم.
    كما يمكن حكمه بالإجزاء مع تبعية الحكم الواقعي للواقع وفرض تحقق المخالفة له بمتابعة الحكم الظاهري ، على خلاف مقتضى الأصل المتقدم ، من باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره ، إما لوفائه بغرضه في ظرف الإتيان به خطأ ، أو لسقوط غرضه معه عن الفعلية ، لمصلحة الامتنان والتسهيل أو لتعذر استيفاء غرضه معه ، أو لغير ذلك.
    وقد ثبت ذلك في جملة من موارد الخطأ في الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي ، كموارد : «لا تعاد الصلاة ...» وغيرها مما لا ضابط له ، ولا مجال لاستقصائه ، فلا مجال للكلام فيه هنا ، بل يوكل لمباحثه المناسبة في الفقه.
    نعم ، ينبغي الكلام هنا في ما وقع الكلام فيه بينهم من الإجزاء وعدمه مع استناد العمل لاجتهاد أو تقليد سابق يلزم رفع اليد عن مؤداه ، لأنه أمر عام منضبط في الجملة ، ومورد للابتلاء الكثير.
    وهو وإن كان من شئون الاجتهاد والتقليد ، ولذا حرره غير واحد في

    مباحثهما ، إلا أنه لابتناء بعض الكلام فيه على مباني مسألة الإجزاء ومناسبته لها يحسن التعرض له هنا.
    فنقول : لا يخفى أن المراد بالإجزاء ..
    تارة : هو الإجزاء الظاهري ، لاحتمال إصابة مقتضى الاجتهاد أو التقليد السابق الواقع.
    واخرى : هو الإجزاء الواقعي حتى مع فرض المخالفة للواقع ، لاجتزاء الشارع بالعمل المذكور عن الواقع لإحدى الجهات المتقدمة.
    ولازم الأول عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، بخلاف الثاني. وقد يظهر من جملة كلماتهم إرادة الأول ، ويظهر حاله مما تقدم في التنبيه السابق.
    والذي يناسب البحث المعقود له هذا التنبيه هو الثاني. وقد يستدل عليه بوجوه ..
    الأول : أنه لو لاه يلزم العسر والحرج ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد بالإضافة لعمل نفسه ، وتعرض المقلد لاختلاف الفتاوى عليه لأجل ذلك ، ولأجل العدول في التقليد أو حدوث الاجتهاد له بعد العمل على التقليد مدة طويلة ، ومقتضى قاعدة نفي العسر والحرج البناء على الإجزاء وسقوط التكليف الواقعي حينئذ.
    وفيه : أن لزوم الحرج من عدم الإجزاء في غير موارد (لا تعاد) ونحوها مما دل الدليل على الإجزاء فيه بالخصوص لا يطرد في جميع الموارد ، بل يختلف باختلاف التكاليف ومدة العمل على الاجتهاد الخاطئ ، وغاية ما يدعى لزوم الحرج نوعا ، وهو لا ينفع في جريان القاعدة ، لأن موضوعها الحرج الشخصي.
    مع أن ذلك منتقض بما إذا تفرعت المخالفة على تعبد شرعي غير الاجتهاد والتقليد في الشبهات الموضوعية كاستصحاب عدم البلوغ وأصالة

    الطهارة والتذكية وغيرها. وكذا لو لم يتفرع على تعبد شرعي ، بل على خطأ أو نسيان ، وكذا لو تعمد ترك الواجب مدة طويلة ، مع أنه ليس البناء على سقوط التكليف في ذلك ، بل غايته رفع وجوب المبادرة لو كانت واجبة بالأصل ونحوها.
    الثاني : أن حكمة تشريع الاجتهاد والتقليد هو الوثوق بهما في العمل على طبقهما والركون إليهما فيه ، ومع عدم الإجزاء لا تترتب الحكمة المذكورة ، بسبب كثرة التعرض للاختلاف ، كما اشير إليه في الوجه الأول ، لأن صعوبة القضاء تمنع من الركون بالوجه المذكور وتحمل على الاحتياط مهما أمكن.
    وفيه : ـ مع عدم اختصاص الحكمة المذكورة بالاجتهاد ، بل هي لو تمت تجري في غيرهما من موارد التعبد الظاهري التي لم يظهر منهم البناء فيها على الإجزاء ـ أنه لا دليل على كون الحكمة هو الوثوق بالنحو المذكور ، بل لعلها رفع التحير حال الجهل لا غير. فالوجه المذكور كسابقه استحساني لا ينهض بالاستدلال. نعم ، قد ينهضان بالتأييد على ما يأتي في تقريب الاستدلال بالسيرة.
    الثالث : الإجماع المدعى في كلام بعض ، ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم : أنه ظاهر المذهب ، وعن آخر : أنه مقتضى الإجماع ، بل الضرورة.
    نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن المتيقن منه العبادات ، بل ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن المتيقن منه الصلاة ، وأن عهدة دعوى الإجزاء مطلقا على مدعيها.
    وفيه : أنه لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير ، ولا سيما مع إنكار مثل شيخنا الأعظم قدّس سرّه له ، حتى نسب في التقريرات دعوى الإجماع والضرورة إلى بعض من لا تحقيق له. مضافا إلى إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات والطرق الظاهرية بعد انكشاف خطئها بنحو يشمل

    المقام ، قال في التقريرات : ـ في بيان القول بعدم الإجزاء فيها ـ «وفاقا للنهاية ، والتهذيب ، والمختصر وشروحه ، وشرح المنهاج ، على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم ، بل وفي محكي النهاية الإجماع عليه ، بل وادعى العميدي قدّس سرّه الاتفاق على ذلك ...».
    الرابع : سيرة المتشرعة لابتلائهم بذلك كثيرا ، خصوصا بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.
    لكن أنكرها غير واحد ، وذكر بعض مشايخنا أنها ـ لو تمت ـ مستندة في أمثال عصرنا إلى فتاوى المجتهدين ، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين).
    ثم إن هذه الوجوه قد سيقت في كلماتهم لبيان الإجزاء أو عدمه مع تبدل التعبد بتعبد مثله غير علمي ، لاختلاف الاجتهاد أو التقليد بنحو قد يظهر منهم اختصاص الكلام بذلك ، بل صرح غير واحد ممن بنى على الإجزاء بعدم الإجزاء مع ظهور المخالفة بالعلم الوجداني ، حتى حكى بعض الأعاظم قدّس سرّه دعوى جماعة الإجماع عليه.
    ولازم ذلك كون الإجزاء ظاهريا مبتنيا على قصور الاجتهاد الثاني عن شمول الوقائع السابقة وبقاء الاجتهاد الأول حجة فيها ، وقد سبق في رد الوجه الخامس للاستدلال على الإجزاء الظاهري في آخر التنبيه الثاني استبعاد ذلك جدا. ولذا قد تساق الوجوه المذكورة للاستدلال على الإجزاء الواقعي الذي هو محل الكلام في هذا التنبيه ، كما جرينا عليه هنا.
    وحيث ظهر ضعف تقريباتها المتقدمة فربما توجه بنحو آخر ترجع إلى الاستدلال عليه بالسيرة.
    وحاصله : أنه لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام الشرعية في عصور المعصومين عليهم السّلام على الخطأ كثيرا ، لأن ظهور اختلافنا مع العامة في الفقه ـ المنبه

    للزوم أخذ أهل الحق أحكامهم من أئمتهم وأصحابهم الذين على نهجهم ـ قد بدأ في عصر الصادقين عليهما السّلام أو قريبا منه ، وقبل ذلك كان الأمر مختلطا على المسلمين بجميع فرقهم ، فلا امتياز لفقه كل فرقة عن فقه غيرها.
    ثم لما تنبه الشيعة للاختلاف ووسّع الأئمة عليهم السّلام الكلام وبدءوا يرجعون إليهم في فقههم ابتلوا بأسباب الاختفاء والالتباس ، حيث كثر اختلاف الأحاديث من جهة التقية والخطأ والكذب ، حتى تضمنت بعض النصوص أنهم عليهم السّلام بصدد إحداث الخلاف بين الشيعة محافظة عليهم حتى لا يتميزوا بقول فيأخذوا به.
    وكان صدور الروايات منهم عليهم السّلام تدريجيا تبعا لتنبه السائل أو حاجته الشخصية غالبا ، ولم يكن وصولها لجميع الشيعة متيسرا ، بل كانت تصل تدريجيا لأشخاصهم. وذلك بطبعه مستلزم لاطلاع أفراد الشيعة بوجه شايع على خطأ ما وصل إليهم وجروا عليه في مقام العمل ـ في الصدر الأول قبل رجوعهم لأئمتهم عليهم السّلام وبعده ـ على اختلاف أسباب اطلاعهم على ذلك من سؤالهم عليهم السّلام مباشرة أو بسماع الأحاديث المروية عنهم أو بالاستفتاء ممن يتصدى للفتوى من أصحابهم المنتشرين تدريجا في أقطار الأرض ، كما تشير إلى بعضه النصوص.
    فلو كان البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد ظهور الخطأ لزم الهرج والمرج وكثر الوقوع في العسر والحرج ، ولكان شيوع الابتلاء به مستلزما لظهوره المانع لهم عادة من الركون الى النصوص وفتاوى الأصحاب ، بل فتاوى الأئمة عليهم السّلام أنفسهم بسبب احتمال التقية فيها أو عدم فهمها ، لأن لزوم مثل هذه المشكلة ينبه للاحتمالات المغفول عنها بدوا ، ويرفع الوثوق الطبيعي.
    وبذلك يضطرب نظامهم ويرتبك أمر الفقه عليهم. ولو كان الأمر على ذلك لظهر وبان ، وكثر السؤال عن حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها ، وما

    يترتب على ذلك من فروع متشعبة ، فإهمال ذلك ظاهر في المفروغية عن الإجزاء.
    وهو المناسب لما هو المرتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج والضيق ، وما تضمنته جملة من النصوص من أنهم عليهم السّلام لا يوقعون شيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمة لهم تداركا للمشاكل التي أحاطت بهم من جراء سلطان الظلمة واستضعافهم في الأرض حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وعصفت بهم أعاصير الفتن والمحن. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهو المعين على ما ناب من خطب.
    بل لا يبعد كون ذلك موجبا لظهور بعض النصوص الدالة على اختلاف الأحاديث وصدور بعضها للتقية في الإجزاء ، ولو بإطلاقاتها المقامية ، حيث يحتاج لزوم التدارك للتنبيه فعدمه ظاهر في عدمه.
    بل لعل النظر في النصوص وسيرها بعد التنبيه لما ذكرنا يوجب القطع به. ولا سيما مع تأيده بسيرة المتشرعة في العصور القريبة المعتضدة بما عرفت من دعوى الإجماع على الإجزاء التي لا يبعد عدم استنادها لتصريحاتهم ، لما أشرنا إليه من استحداث تحرير المسألة ، بل للسيرة المذكورة بعد إحراز اتصالها بعصور المعصومين عليهم السّلام لما ذكرنا ، الذي لا يبعد رجوع جميع الوجوه المتقدمة إليه ، كما يظهر بملاحظته وملاحظتها.
    ودعوى : أن المتيقن من ذلك ما دلت الأدلة الخاصة على اغتفار الخطأ فيه ، كما في موارد : «لا تعاد الصلاة» ونحوها ، ولم يعلم بناؤهم على الإجزاء في غير ذلك.
    مدفوعة .. أولا : بأن الإجزاء في الموارد المذكورة مع الخطأ في الحكم الشرعي الكلي وإن كان مقتضى إطلاق بعض هذه الأدلة وصريح بعضها ، إلا أن الإجزاء في مواردها لما لم يكن ارتكازيا ، لعدم خصوصيتها ، ولم تكن الأدلة

    عليه كثيرة مشايعة فهو لا يستغنى فيه عن السؤال عند ظهور الخطأ في الحكم ، فعدم السؤال شاهد بالمفروغية لخصوصية الجهل بالحكم الناشئ عن خطأ الدليل الذي يعتمد عليه ، التي لا يفرق فيها ارتكازا بين مورد وأخر.
    وبعبارة اخرى : ليس الاستدلال بمجرد عدم البيان من الشارع الأقدس ، كي يدعى أنه يكفي في بيان الإجزاء في هذه الموارد الأدلة المشار إليها ، وفي بيان عدمه في غيرها أنه مقتضى القواعد العامة ، وعدم وضوح سيرة على خلافها ، بل بعدم ورود السؤال عن حكمها من المتشرعة عند الالتفات للخطإ الذي لا وجه له ـ بعد ما أشرنا إليه من استلزام عدم الإجزاء العسر والحرج ، والهرج والمرج ـ إلا المفروغية عن العفو والإجزاء مع استناد الخطأ والبطلان للبيان الواصل ، لا للمكلف نفسه ، ولا خصوصية للموارد المذكورة ارتكازا في المفروغية المذكورة ، فالجهة الارتكازية التي عليها تبتني السيرة لا تختص بالموارد المذكورة وإن اختص المتيقن من السيرة بها.
    وثانيا : بأنه لا خصوصية للموارد المذكورة في وقوع الخطأ من المتشرعة تبعا لاختلاف النصوص والفتاوى عليهم ، بل هو جار في غيرها ، كتحديد الكر ، وكيفية التطهير ، والنجاسات ، والوضوء والتيمم ونواقضهما ، والقصر والتمام ، والتذكية وغيرها مما يوجب الخطأ فيه رأسا أو بالواسطة بطلان العمل وما يترتب عليه من قضاء وضمان وغيرهما. فعدم الاهتمام بتمييز الموارد المذكورة عن غيرها عند الالتفات للبطلان شاهد بالمفروغية عن الإجزاء في الكل للجهة التي أشرنا إليها.
    ومثلها دعوى : أن ذلك يكشف عن الإجزاء الواقعي ، بل يكفي فيه الإجزاء الظاهري المبتني على عدم التعويل في الوقائع السابقة على احتمال المخالفة للحكم الواقعي.
    لاندفاعها .. أولا : بأن الإجزاء الظاهري لما كان مبنيا على قصور حجية

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج2   المحكم في أصول الفقه [ ج2 Emptyاليوم في 10:46 am

    الحجة اللاحقة عن شمول الأعمال السابقة ، وبقاء حجية الحجة السابقة فيها ، وقد سبق أنه بعيد عن المرتكزات جدا ، فلا مجال لابتناء السيرة المتقدمة عليه ، لظهور حالها في أنها ارتكازية مبنية على المفروغية عن مقتضاها ، بنحو يستغنى معها عن السؤال ، كما تقدم.
    وثانيا : بأن عثورهم على الخطأ في عصور المعصومين عليهم السّلام كثيرا ما يكون بطرق تفيد العلم بطبعها ، كسؤال الأئمة عليهم السّلام بأنفسهم ، أو الرجوع لخلّص أصحابهم في رواياتهم أو فتاواهم ، فإن الالتفات لاحتمال مخالفة ذلك للواقع لتقية أو نحوها في تلك العصور يحتاج إلى منبه غالبا ، وبدونه كثيرا ما يحصل العلم ، فلولا البناء على الإجزاء الواقعي لم تتم السيرة المذكورة. كيف ولازم الإجزاء الظاهري للبناء على بقاء حجية الحجة السابقة حصول العلم الإجمالي بالمخالفة في كثير من الموارد الملزم بالاحتياط بالجمع بين الوظيفتين! كما تقدم ، ومن المعلوم عدم ابتناء السيرة عليه.
    نعم ، لا يبعد اختصاص السيرة بالأوامر ونحوها مما يكون مقتضى البطلان فيها عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء ونحوهما مما هو من سنخ التدارك أو الجزاء كالكفارة.
    أما غيرها من موارد الخطأ كالمعاملات ونحوها فيشكل البناء على الصحة فيها ، لعدم شيوع الاطلاع على الخطأ فيها ، لجري المتشرعة بطبعهم فيها غالبا على ما يغلب جري الشارع عليه ، وهو الطرق العرفية ، وليست هي كالامور المأخوذة من الشارع الأقدس التي يستند فيها لما ينسب للشارع من بيانات يكثر فيها الخطأ ، على ما تقدم.
    مع أنه لو فرض الاطلاع على الخطأ فيها فلا يبعد بناؤهم معه على البطلان ولو لاحتمال اختصاص الجهة الارتكازية بما يرجع للشارع الأقدس ، تنازلا منه عماله تسهيلا على المكلفين ، دون ما يرجع إلى غيره كالضمانات

    ونحوها.
    وعدم ترتيبهم أثر البطلان قد يكون للضياع والاختلاط وعدم تيسر المراجعة ، وإلا فلم يتضح بناؤهم على عدم المراجعة مع تيسرها.
    وأظهر من ذلك ما لا يكون من سنخ التدارك ، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق وترتيب آثار صحته ، فمن ذكى بغير الحديد ـ مثلا ـ لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له ، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل بعد ذلك على عدم مشروعيته ، لم يبعد توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية عليها ونحو ذلك.
    ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة ، لأن المتيقن منها عدم تدارك بطلان العمل بالقضاء ونحوه ، لا البناء على صحة العمل أو ترتيب جميع آثار صحته.
    ولعله إليه يرجع ما قيل من اختصاص الإجماع بالعبادات ، وإلا فلم يظهر وجه خصوصيتها. بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الاعادة في الوقت ، لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.
    ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة لندرة الابتلاء بانكشاف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت ، وعدم وضوح بنائهم على عدم وجوب الإعادة معه بعد عدم أهميته ، فلا حرج ولا ضيق في الإعادة ليلتفت إليها ويسأل عنها ، ليكشف عدم السؤال عن المفروغية عن الإجزاء.
    كما أن المتيقن أيضا ولو بلحاظ الارتكاز الذي لا يبعد ابتناؤها عليه ما لو كان خفاء الحكم مستندا لقصور البيان ، إما لعدم وصوله أو لوصول خلاف الواقع ، لا لخطأ المكلف في الاستفادة من الأدلة الواصلة له أو نسيانه للدليل أو نحوهما مما يعود للمكلف نفسه ، وإن كان معذورا ، لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور أيضا ، لقربهم من زمان الخطاب بالحكم المناسب لإحاطتهم

    بالقرائن المكتنفة له وتيسر فهمهم له غالبا وعدم ضياع مؤداه عليهم.
    ولو فرض ابتلاؤهم به فلا يتضح بناؤهم على الإجزاء معه ، لاحتمال كون منشأ الاجزاء عندهم ارتكازا التخفيف تداركا لما يقع على المكلفين بسبب محنتهم ، دون ما يحصل بسبب المكلف نفسه.
    ومنه يظهر عدم الإجزاء في حق المجاهد نفسه عند تبدل اجتهاده في أمثال عصورنا ، لابتناء تبدل رأيه غالبا على انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها أو عن كيفية الجمع بينها ، لا لعدم تيسر الوصول إليها ، بخلاف العامي لو بقي على تقليد المجتهد بعد عدوله عن فتواه ، أو عدل لغيره ممن يخالفه في فتواه ، أو اجتهد على خلاف رأيه ، لعدم استناد خطئه في العمل لأمر يعود له ، بل الفتوى المجتهد التي هي الطريق الشرعي المتيسر في حقه مع تعذر الوصول للواقع من طريق آخر.
    نعم ، لو كان ناشئا من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه ، أو كان مقصرا في الرجوع للمجتهد المذكور اتجه عدم الإجزاء في حقه ، لاستناد الخطأ له كالمجتهد ، لا لقصور الأدلة.
    هذا ، وأما ما سبق من دعوى الإجماع على عدم الإجزاء ، بل سبق عن غير واحد دعواه مع ظهور الخطأ بالعلم الوجداني وأنه المتيقن من كلامهم. فلا يبعد حمل ما اطلق فيه عدم الإجزاء على إرادة بيان مقتضى الأصل في الأحكام الظاهرية في مقابل التصويب الذي عليه العامة ، فهو راجع إلى الإجماع على التخطئة ، أو بيان عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه ، أو في المعاملات ونحوها ، بنحو يرجع إلى عدم ترتيب أثر الصحة على العمل بعد ظهور بطلانه بالاجتهاد الثاني ـ كما هما مورد كلام العميدي ـ حيث سبق عدم وضوح السيرة على الإجزاء في الموردين.

    وأما الإجماع على عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالخطإ ، المستلزم لعدم الإجزاء الواقعي ، فلا مجال للتعويل عليه بعد ظهور ذهاب جماعة للإجزاء في صورة اختلاف الاجتهاد. لما عرفت من أن حمله على الإجزاء الظاهري لا يناسب المرتكزات جدا ، مع استلزامه حدوث علم إجمالي منجز يقتضي وجوب الاحتياط الذي ليس بناؤهم عليه ، حيث يناسب ذلك إرادتهم الإجزاء الواقعي.
    وإلا كانت مبانيهم مضطربة ، ومع ذلك لا مجال للتعويل على دعوى الإجماع المذكورة والتوقف لأجلها عن السيرة التي سبق تقريبها.
    هذا ، وبقي في المقام بعض الجهات تخص الاجتهاد لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا ، بل توكل لمبحث الاجتهاد والتقليد من الاصول أو الفقه.
    الرابع : الأمر الظاهري كما لا يقتضي الإجزاء في حق المخاطب به ثبوتا مع مخالفته للواقع ، وإثباتا مع ظهور خطئه له ، كذلك لا يقتضي الإجزاء في حق غيره ممن يترتب الأثر في حقه على عمل المخاطب بالحكم الظاهري ، فلا يترتب الأثر في حق ذلك الغير ثبوتا مع خطأ الحكم الظاهري الذي اعتمد عليه المخاطب به ، كما لا يجوز له ترتيب الأثر ظاهرا مع ظهور الخطأ له ولو بمقتضى التعبد الظاهري الثابت في حق نفسه ، فمن صلى متعبدا ظاهرا بالطهارة ـ مثلا ـ لا يجوز الائتمام به لمن يرى خطأ التعبد المذكور وإن لم يستند في البناء على الخطأ للعلم الوجداني ، بل لتعبد آخر ثابت في حقه ، عملا بعموم حجية ذلك التعبد ، لأن المدار في عمل كل شخص التعبد الثابت في حقه ، لا الثابت في حق غيره.
    نعم ، لو كان موضوع جواز الائتمام بالمصلي صحة صلاته ولو ظاهرا في حقه ـ ولو مع بطلانها في حق المؤتم به ـ اتجه الائتمام به في الفرض ، لثبوت الموضوع له ، وهو تابع لدليل الحكم المذكور ، ولسنا بصدد تحقيق ذلك هنا.

    لكن في التقريرات بعد أن ذكر ذلك قال : «والمسألة في غاية الإشكال ، نظرا إلى بعض اللوازم ، إذ على تقديره يجوز العقد على المعقود بالفارسية لمن لم يجوّز ذلك ، وأمثاله».
    ولا يخفى أن ذلك ليس محذورا يوجب الإشكال في ما تقتضيه القاعدة وجرى عليه الأصحاب ، على ما نبه له بعد ذلك بذكر جملة من تصريحاتهم. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.





    الفصل الثالث
    في مقدمة الواجب
    قد حررت هذه المسألة في كلام قدماء الاصوليين أهل الاستدلال ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب مقدمة الواجب تبعا لوجوبه وعدمه.
    ويظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والاصول المفروغية عن عدم خصوصية الواجب في موضوع الكلام ، بل يعم المستحب ، وأن مقدمته هل تكون مستحبة تبعا لاستحبابه أو لا؟. بل الظاهر عموم ملاك النزاع للحرام والمكروه ، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.
    ومن هنا يكون موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم الاقتضائي للشيء وثبوت مثله لمقدمته. وبهذا يكون البحث المذكور في قسم الملازمات العقلية.
    كما أنه قد تعرض المتأخرون بتبع الكلام المذكور لبعض ما يتعلق بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في ضمن مباحث عقدت تمهيدا لمحل الكلام ، أو من لواحقه التابعة له.
    هذا ، والظاهر أن موضوع كلامهم ـ وهو الملازمة المذكورة ـ ليس موردا للأثر العملي ، وأن جميع ما يترتب من الآثار العملية على تقدير الملازمة يترتب على تقدير عدمها ، كما سيتضح عند الكلام فيها.
    كما أن الامور التي بحثت في كلامهم تبعا هي المهمة في مقام العمل ، ولا يترتب الكلام فيها على ثبوت الملازمة ، كما يتضح أيضا.

    ومن هنا لا يحسن تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في الامور المذكورة تابعا له ، كما جروا عليه.
    بل ينبغي بحث كل من الامور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل عن بحث الملازمة.
    وإنما تبحث الملازمة مع ما عرفت من عدم الأثر لها في مقام العمل ..
    أولا : لمتابعتهم في ما جروا عليه من الاهتمام بالبحث فيها.
    وثانيا : ليظهر من مطاوي البحث المذكور إلى ما ذكرناه من عدم الأثر العملي للملازمة المذكورة.
    وينبغي التمهيد للمباحث المذكورة بأمرين لهما تمام الدخل في تنقيح محل الكلام ، وتحديد موضوع الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.
    الأمر الأول : لا إشكال ظاهرا في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من الدواعي لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته ، على أن يكون الدعي الثاني في طول الداعي الأول ، تابعا له ، فانيا فيه ، مرتبطا به ، غير مستقل عنه ، لوحدة الغرض الموجب لهما ، فلا يكون الثاني صالحا للحركية ما لم يصلح الأول لها ، بل محركية الأول إنما تكون بالجري على طبق الثاني ، كما أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول ، ولا يكون متعلقه موضوعا للداعوية إلا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من إنكاره ، ويغني عن إطالة الكلام فيه. وإنما الكلام في ما يلحق ذلك ..
    تارة : في تحديد موضوع الداعوية المقدمة ، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها ، وهي التي يترتب ذوها عليها ، المعبر عنها بالمقدمة الموصلة ، أو التي يقصد بها التوصل إليه أو نحو ذلك.
    واخرى : في سعة الداعوية المذكورة ، وأنها مطلقة أو مقيدة.

    وثالثة : في أن المقدمة التي هي موضوع الداعوية بالنحو المذكور هل يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل ، أو لا؟ فإذا وجب أو استحب شيء شرعا لزم وجوب أو استحباب مقدمته كذلك ، أو لا؟ بل ليست المقدمة إلا موردا للداعوية للعقلية تبعا للداعوية الثابتة لذيها بسبب الحكم الشرعي الثابت له ، من دون أن تكون موردا لحكم شرعي آخر.
    وإليه يرجع البحث في الملازمة التي هي موضوع البحث في مقدمة الواجب في كلامهم ، حتى جعلوا البحث في الأمرين من لواحقه. ولا وجه له بعد عدم تفرع البحث فيهما عليه ، كما سبق.
    نعم ، قد يحسن لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما ، لأنه أقرب لا تساق الكلام فيهما مع كلامهم.
    هذا ، وبما ذكرنا من وضوح تبعية المقدمة لذيها في الداعوية يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ وأقرّه عليه غيره ـ من إمكان عدم اقتضاء التكليف بذي المقدمة تحصيل المقدمة ، بل يكفى حصولها من باب الاتفاق ، حيث ظهر امتناع ذلك.
    ولو كان هناك مقدمة لا يلزم تحصيلها لزم البناء على كونها شرطا لأصل التكليف بذيها ، فلا يكون التكليف به قبل حصولها فعليا ليقتضي الاتيان به وبها تبعا له ، على ما تقدم التعرض له في مبحث الواجب المشروط من فصل تقسيمات الواجب من المقصد الثاني من مباحث الألفاظ. فراجع.
    الأمر الثاني : من الظاهر أن المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود الواجب ويكون له الدخل فيه ، ولذا تكون الداعوية للواجب مستلزمة للداعوية إليه.
    وقد قسمت في كلماتهم بتقسيمات كثيرة ، بعض الأقسام فيها خال عن

    الأثر المصحح للتقسيم ، وبعضها خارج عن محل الكلام. كمقدمة الوجوب ، وهي التي يتوقف عليها وجوب الشيء ، بحيث لا يجب إلا في رتبة متأخرة عن وجودها ، كالبلوغ بالإضافة إلى جميع الواجبات ، وكالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج ، فإنه وإن أمكن أن يتوقف عليها الواجب بذاته ـ كالاستطاعة في الجملة بالإضافة للحج ـ إلا أنه لا يتوقف عليها بما هو واجب وبعد فرض وجوبه ، ليدعو إليها وتدخل في محل الكلام ، لفرض وجودها في رتبة سابقة على وجوبه وثبوت الداعوية إليه. وكمقدمة العلم التي يراد بها ما يتوقف عليه إحراز امتثال الواجب ، وإن كان مباينا له غير دخيل في وجوده.
    ولعل الأولى الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في تحديد محل الكلام ..
    الأول : تقسيمها إلى داخلية وخارجية.
    والداخلية : هي عبارة عن الأجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها معه.
    والخارجية : هي ما يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه ، كالشروط الشرعية وأجزاء العلة التكوينية.
    وقد وقع الكلام بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام ، فمنع بعضهم من دخولها ، لعدم المقدمية بينها وبين الواجب ، لفرض كونها عينه ومتحدة معه حقيقة ولا اثنينية بينهما ، فليس في المقام إلا الداعوية النفسية نحو المركب المنبثة على أجزائه بنحو ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمنا بنحو الارتباطية.
    وقد حاول بعضهم دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار. وقد اطيل الكلام في ذلك بما لا مجال لاستقصائه.
    والعمدة في الإشكال فيه : أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام ، لأن

    الداعوية للمقدمة لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة عنها ، بحيث يكون الجري عليها شروعا في الجري عليها ـ كما تقدم ـ فهي مختصة لبا بصورة تحقق تمام المقدمات ، على ما يظهر مما يأتي في بحث المقدمة الموصلة ، فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية للأجزاء لكانت مختصة بصورة تحقق تمامها ، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي هو موضوع الداعوية النفسية ، ولا فرق بينهما ، ليمكن تعدد الداعوية ، بحيث تكون إحدى الداعويتين في طول الاخرى.
    ودعوى : أنه يمكن اجتماع الداعويتين النفسية والغيرية في الشيء الواحد ، كما لو كان مطلوبا في نفسه وشرطا في مطلوب آخر ، كصلاة الظهر مع صلاة العصر ، غاية الأمر أن تكون إحداهما مؤكدة للاخرى.
    مدفوعة : بالفرق بأن الداعوية الغيرية في الفرض المذكور ليست في طول الداعوية النفسية ، بل هي مستقلة عنها وإن كانت في طول داعوية نفسية اخرى ، وهي الداعوية الثابتة للمطلوب الآخر المشروط بذلك الشيء.
    أما في المقام فهي ـ لو ثبت ـ في طول الداعوية النفسية ولأجل تحقيق متعلقها ، ومع اتحاد متعلقهما لا موضوع للغيرية ، ولا أثر لها في مقام العمل. ولا مجال لفرض التأكد بينهما لو فرض إمكان تعددهما ، لتعدد متعلقهما ، إذ مع فعلية تأثير الداعوية النفسية في مقام العمل لا يحتاج للداعوية الغيرية ، ومع عدم فعليته لا تصلح الداعوية الغيرية للتأثير ، لأنها في طول الداعوية النفسية ، كما سبق.
    ومن هنا لا تتأكد الداعوية الغيرية في المقدمة الواحدة لو تعددت جهة دخلها وتوقف ذيها عليها ، كما لو توقفت الطهارة الحديثة والخبثية للصلاة على إيصال الماء المتنجس بالمادة ليطهر ، فإن الداعوية النفسية للصلاة وإن اقتضت داعوية غيرية للإيصال المذكور ؛ لتوقفها عليه من جهتين ، إلا أن داعويته الغيرية

    المذكورة واحدة لا تأكد فيها ، كالداعوية للمقدمة التي يتوقف عليها من جهة واحدة ، كالستر للصلاة ، لوحدة الداعوية النفسية التي تنتهي إليها الداعوية الغيرية وتناط بها وتكون في طولها. فلاحظ.
    وبالجملة : لا ينبغي التأمل في خروج المقدمة الداخلية عن محل الكلام ، بل ليست هي مقدمة في الحقيقة. وربما يظهر أثر ذلك في مسألة دوران التكليف بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    الثاني : تقسيمها إلى تكوينية وشرعية.
    فإن توقف الواجب على شيء ..
    تارة : يبتني على علاقة تكوينية بينهما يدركها المكلف بحكم العقل أو بعادة أو نحوهما ، كتوقف الحج على قطع المسافة.
    واخرى : يبتني على تقييد الواجب بذلك الشيء شرعا ، كتوقف الصلاة على الستر أو الطهارة أو نحوهما.
    ولا إشكال في دخول الاولى في محل النزاع.
    وأما الثانية فقد قال بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله : «ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إلى أن الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب الغيري ـ وسماه مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ـ باعتبار أن التقييد لما كان داخلا في المأمور به وجزءاً له فهو واجب بالوجوب النفسي ، ولما كان انتزاع التقييد إنما يكون من القيد ـ أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه ، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشأ انتزاعه ، فيكون الأمر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالقيد ، وإذا كان القيد واجبا نفسيا فكيف يكون مرة اخرى واجبا بالوجوب الغيري؟!».
    وكأن مراده بشيخه المذكور بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لتعارف التعبير عنه بمثل

    العبارة المذكورة ، ولأنه صرح بأن الشروط الشرعية مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ، بلحاظ دخول التقييد بها في المأمور به ، وخارجية بالمعنى الأعم بلحاظ خروج ذواتها عن المأمور به ، وجعل الداخلية بالمعنى الأخص الأجزاء ، لدخولها في المأمور به بذواتها وبالتقييد بها ، والخارجية بالمعنى الأخص المقدمات التكوينية ـ التي عبروا عنها بالمقدمات العقلية ـ لعدم دخولها في المأمور به ، لا بذواتها ولا بالتقييد بها. لكنه قدّس سرّه لم يشر ـ على ما في تقرير درسه لبعض مشايخنا ـ إلى احتمال خروج الشروط الشرعية عن محل النزاع. بل ظاهره اختصاص الكلام في ذلك بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأخص ـ التي هي الجزء ـ بل صرح بذلك وبدخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل الكلام على ما في تقرير درسه للكاظمي.
    وكيف كان ، فيشكل ما ذكر : بأن التقييد ليس من أفعال المكلف ، ليدخل في المأمور به ، بل هو كالإطلاق من شئون جعل التكليف الذي هو فعل المولى ، وليس مفاده إلا اختصاص المأمور به بالحصة المقارنة للقيد ، وذلك لا يقتضي دخول شيء في المأمور به غير الأجزاء ، وليس القيد إلا ملازما للمأمور به ، غاية الأمر ظهور التقييد في كون القيد دخيلا في ترتب الغرض على المأمور به ، من دون أن يكون بنفسه وافيا بالغرض في جملة الأجزاء ، وهو لا يقتضي دخول التقييد ولا القيد في المأمور به.
    اللهم إلا أن يراد بالتقييد حفظ القيد حال الإتيان بالمأمور به الذي هو فعل المكلف ، والذي هو عبارة اخرى عن نفس وجود القيد ومنتزع من القيام به وفعله ، كالتستر حال الصلاة.
    لكن البناء على دخوله في المأمور به مستلزم لكونه مقدمة داخلية بالمعنى الأخص ، ودخل الشرط بذاته في المأمور به ، وانقلاب الشروط أجزاء. ولا يظن من أحد البناء على ذلك ، لوضوح الفرق بينهما ثبوتا ، بأن الجزء ما

    يكون مقوما للمأمور به ويستند الغرض إليه ، والشرط ما يخرج عن المأمور به وإن كان دخيلا في ترتب الغرض عليه ، بحيث لا يكون المركب وافيا بالغرض إلا في ظرف واجديته له.
    وإثباتا باختلاف ألسنة أدلة الجعل ، ولازم ذلك عدم دخول القيد في المأمور به ، لعدم وجوب حفظه لنفسه ، بل لأجل تحقيق الحصة المقارنة له والتي هي موضوع الأمر النفسي ، وبذلك يكون موضوعا للداعوية الغيرية ، ويدخل في محل الكلام.
    بقي شيء ، وهو أن المقدمة التكوينية لا بد أن تكون متصلة بذيها ، بحيث لا يكون بينهما إلا التقدم الرتبي ، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، لامتناع تأثير المعدوم قبل وجوده وبعده.
    وأما تقدم بعض أجزاء العلة في بعض الموارد ، وهو ما يسمى بالمعد ، فليس لكون المؤثر بلا واسطة هو الوجود المتقدم ، بل إما لكون المؤثر هو الوجود المذكور بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه ، أو أثر أثره ، الذي يستند إليه المعلول مباشرة ، كما في تأثير الحديد المحمي في النار في كيّ الجسم بعد إخمادها ووضعه على الجسم ، فإن المؤثر للكي ليس هو النار السابقة عليه ، بل أثرها ، وهو حرارة الحديد الباقية بعد إخماد النار ، وإما لكون المؤثر هو الوجود الاستمراري المتصل بالمعلول ، كما في تأثير النار في إحراق الثوب المبتل الملقي فيها بعد جفافه ، فان الإحراق لا يستند للنار بحدوثها السابق على الجفاف بل ليس أثرها إلا تجفيف الثوب ، وإنما يستند الإحراق للنار بوجودها الاستمراري بعد الجفاف ومرجع الأمرين إلى اتصال العلة بالمعلول ، وإن تقدمت عليه صورة.
    ومنه يظهر امتناع تأخرها عنه حتى صورة ، إذ قبل وجودها لا أثر لها ولا استمرار.

    لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ على طول في الكلام المنقول عنه في تقرير درسه ـ اختصاص امتناع التقدم والتأخر عن المعلول بالمقتضي الذي يستند إليه المعلول ويترشح منه ، دون الشرط ، بتقريب : أن الأثر لا يستند للشرط ، بل ليس المؤثر إلا الحصة الخاصة من ماهية المقتضي ، وهي المضافة للشرط ، وليس دخل الشرط إلا بلحاظ كونه طرفا للإضافة مع الحصة المؤثر من المقتضي ، وكما يمكن كون الشيء طرفا للإضافة مع المقارن يمكن كونه طرفا للإضافة مع المتقدم والمتأخر.
    ويشكل : بأن اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي المضافة للشرط إن كان من جهة دخل الشرط في فعلية تأثير المقتضي ، بحيث يقتضي تميز الحصة المضافة له عن غيرها بميزة تكوينية خارجية تستلزم فعلية الأثر ، كان اللازم مقارنة الشرط ـ كالمقتضي ـ للتأثير والأثر ، إذ حيث كانت تلك الخصوصية والميزة مستندة للشرط استحال انفكاكها عنه. إلا أن تكون مستندة إليه بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه ، فيمكن تقدم الشرط حينئذ ويكون معدا ، وإن امتنع كونه متأخرا ، كما تقدم.
    وإن كان اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي لمحض الإضافة للشرط من دون أن يستند للشرط بوجوده جهة دخيلة في فعلية التأثير ، فالإضافة المذكورة أمر انتزاعي صرف لا يعقل توقف التأثير عليه في العلل التكوينية ذات الآثار الحقيقية الخارجية التي هي محل الكلام ، لعدم السنخية ، كما لعله ظاهر.
    ومنه يظهر ضعف دعوى : أن المتأخر يكون شرطا بوصف تأخره ، لا بذاته ، وعنوان التأخر يصدق قبل وجود المتأخر بذاته ، فالشرط في الحقيقة مقارن لا متأخر.
    إذ فيها : ـ مضافا إلى خروجها عن مفروض الكلام من تأخر الشرط ، وإلى

    عدم وضوح صدق عنوان التأخر قبل وجود المتأخر ـ أن التأخر بنفسه عنوان انتزاعي متقوم بالإضافة التي هي أمر اعتباري محض ، لا يستند إليه الأثر التكويني ، ولا يكون جزءاً من علته ، وليس الأثر إلا للذات المفروض تأخرها وعدم اتصالها بالمعلول ، فلا يعقل تأثيرها فيه ، لما تقدم.
    وأضعف من ذلك ما قد يدعى : من أنه لا مانع عندهم من كون العدم حافظا لقابلية المحل ، بشهادة أن عدم المانع من أجزاء العلة ، كالشرط ، فإذا جاز فيه جاز في الشرط.
    إذ فيه : أن دخل العدم في المعلول وإن كان ممكنا ، إلا أنه مختص بعدم المانع الذي يكون بوجوده دخيلا في عدم المعلول ، ولا يكون وجوده ـ المقارن أو المتقدم أو المتأخر ـ دخيلا في وجود المعلول ، ولا يجري في عدم الشرط المفروض كون وجوده دخيلا في وجود المعلول.
    لوضوح أنه مع كون الشيء شرطا ووجوده دخيلا في وجود المعلول فتحقق المعلول قبل وجوده أو بعد ارتفاعه. إن ابتنى على استناد المعلول لوجوده المتقدم أو المتأخر ، لزم تأثير الشيء حال عدمه الذي عرفت امتناعه.
    وإن ابتنى على استناد المعلول للعدم المقارن ـ كما يناسبه قياسه بعدم المانع ـ فهو ـ مع استلزامه عدم الحاجة للوجود المتقدم أو المتأخر ، وخروجه عن محل الكلام من فرض الشرط المتأخر أو المتقدم ـ ينافي فرض كون الشيء شرطا ، لرجوعه إلى كون الشرط هو الجامع بين الوجود والعدم ، وهو محال.
    فالإنصاف : أن بداهة امتناع الشرط المتقدم ـ في غير المعد بالتوجيه المتقدم ـ والمتأخر تغني عن إطالة الكلام فيه وفي الاستدلال عليه لو لا ظهور القول بإمكانه أو احتماله ممن لا ينبغي تجاهل كلامه.
    هذا كله في العلل التكوينية ، وأما العلل والمقدمات الشرعية فحيث سبق أن منشأ عليتها ومقدمتيها أخذها قيدا في المأمور به شرعا فمن الظاهر أن

    التقييد ـ كسائر الإضافات الاعتبارية ـ كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن يكون بالمتقدم والمتأخر.
    نعم ، لما كان الأمر تابعا للفرض سعة وضيقا فتقييد المأمور به لا بد أن يكون لاختصاص الغرض بالمقيد.
    وحينئذ قد يشكل : بأن المتأخر والمتقدم كيف يكون دخيلا في فعلية ترتب الغرض على المأمور به مع عدم وجوده حينه ، نظير ما تقدم في العلل التكوينية ، لأن ترتب الغرض على المأمور به ليس تابعا للجعل الشرعي ، بل لخصوصيات تكوينية.
    ولا بد من توجيهه بأحد وجهين ..
    أولهما : أن القيد ملازم للحصة المؤثرة للغرض ، فيكون كاشفا محضا عنها من دون أن يكون دخيلا في فعلية الغرض.
    ثانيهما : أن الشرط المتقدم يبتني على ما تقدم في المعدّ في التكوينيات ، والمتأخر يبتني على كون المأمور به غير مؤثر لفعلية الغرض الأقصى بل لقابلية تحققه ، وفعليته تابعة لوجود الشرط ، نظير ما تقدم في المعدّ ، فإن ذلك ممكن عقلا وواقع عرفا ، نظير إكرام الضيف بالطعام القليل ، الذي لا يترتب عليه الغرض ـ وهو حسن الضيافة ـ إلا بضميمة الاعتذار بعده بأنه تمام الميسور وإن لم يناسب حق الضيف ومقامه.
    هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه الشرط المتأخر في المأمور به أن الشرط لا يزيد في المعنى على الجزء الدخيل في المأمور به ، فكما لا إشكال في إمكان تأخر أجزاء المأمور به بعضها عن بعض كذلك لا ينبغي الإشكال في جواز تأخر شرط المأمور به عنه ، لكون الشرط بنفسه موردا للتكليف كالجزء ، لما سبق منه من دخول التقييد بالشرط في المأمور به ، وحيث كان التقييد منتزعا من القيد ، وكان التكليف بالأمر الانتزاعي راجعا إلى التكليف بمنشإ انتزاعه ، لزم كون الشرط بنفسه داخلا في المأمور به ، كالجزء ، فيجري فيه ما يجري فيه من

    جواز تأخره. لكن سبق أنه لا مجال للبناء على رجوع الشرط للجزء. بل الأمر بالعكس ، لأن أخذ الجزء في المركب راجع إلى أمرين ..
    أحدهما : وجوب الجزء في ضمن الكل.
    ثانيهما : تقييد بعض الأجزاء ببعض ـ الذي هو مقتضى الارتباطية ـ بحيث لا يترتب الغرض من كل منهما ولا يدخل في حيز المأمور به إلا بوجود الباقي وانضمامه إليه. والتقييد المذكور كالتقييد بالشرط يرجع إلى اختصاص مورد الغرض والأمر بالحصة الخاصة من الماهية.
    وحينئذ يشكل تأخر الأجزاء بعضها عن بعض بما سبق في الاشكال على الشرط المتأخر ، وينحصر الجواب عنه بما سبق. ولولاه لامتنع أخذ الأجزاء التدريجية في المركب ، ولزم كون التكليف به بنحو الانحلال ، دون الارتباطية ـ التي إليها يرجع التقييد ـ واختصت الارتباطية في المركب بما إذا كانت أجزاؤه دفعية. ووضوح بطلانه كاشف عن تمامية ما ذكرنا.
    تتميم
    كما وقع الكلام في الشرط المتقدم والمتأخر للمأمور به كذلك وقع في الشرط المتقدم والمتأخر للحكم الشرعي التكليفي والوضعي.
    والظاهر إمكانه ، لنظير ما سبق في وجه إمكانه في المأمور به ، لوضوح تبعية شرطية شيء للحكم لأخذه فيه قيدا ، وقد سبق أن التقييد كما يمكن بالمقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر.
    غاية الأمر أن أخذ الشيء قيدا في الحكم إنما يحسن مع دخله في فعلية تعلق الغرض الداعي لجعله ، بحيث تتوقف فعليته على ثبوت الشرط في ظرفه ، بخلاف شرط المأمور به ، فإن أخذه موقوف على دخله في تحقق الغرض من المأمور به وترتبه في الخارج ، على ما تقدم توضيحه في مبحث الواجب المشروط.

    لكنه ليس فارقا في محل الكلام ، إذ كما يمكن توقف تعلق الغرض على أمر مقارن للحكم ـ كدخل المرض في حسن استعمال الدواء ـ كذلك يمكن توقفه على أمر متقدم أو متأخر عنه ، كما في توقف حسن إكرام زيد ـ بملاك الشكر ـ على سبق حسن الصنيع منه ، وتوقف حسن إعداد الطعام في يوم على مجيء الضيف في غده ، ولازم ذلك جعل الحكم منوطا بالشرط على نحو دخله في الغرض ، لتبعية الحكم للغرض سعة وضيقا.
    لكن بعض الأعاظم قدّس سرّه منع من كون شرط الحكم متأخرا ، بتقريب : أن شرطية شيء للحكم وإن لم ترجع إلى عليته له حقيقة ، لوضوح كون تمام علة الحكم جعل الحاكم له ، إلا أنها راجعة إلى أخذه فيه مفروض الوجود ، كما هو مفاد القضية الشرطية والحملية الحقيقية الراجعة إليها ، ومع أخذه فيه مفروض الوجود تمتنع فعلية الحكم قبل وجوده ، لأنه خلف.
    ويشكل : بأنه لا يراد بأخذ الشرط مفروض الوجود تعليقه على وجوده فعلا ، بحيث لا يكون الحكم فعليا حتى يوجد ، بل تعليقه على وجوده في ظرفه المعتبر في الحكم مقارنا أو سابقا أو لا حقا ، فلا بد من فرض وجوده في الظرف المذكور ، وهو الظرف الذي تصدق بوجوده فيه النسبة التي تتضمنها جملة الشرط في الشرطية او تستفاد من عنوان الموضوع في القضية الحقيقية الحملية ، فإذا كان مطابق النسبة هو وجود الشرط فعلا لزم مقارنة الشرط للحكم ، كقولنا : إن كنت مسافرا فقصر ، أو : المسافر يقصر ، وإن كان مطابقها وجود الشرط سابقا أو لا حقا لزم تقدم الشرط أو تأخره ، كما لو قيل : إن سافرت أول الشهر ، أو : إن تسافر آخر الشهر ، وجب عليك في وسطه الصدقة ، أو قيل : المسافر أو الشهر أو آخره يجب عليه في وسطه الصدقة.
    وحيث كان الكل ممكنا ثبوتا تبعا لنحو دخل الشرط في الغرض ـ كما سبق ـ فلا مجال للمنع من بعض ذلك لو ساعدت عليه الأدلة إثباتا.
    ودعوى : أن مرجع ذلك إلى كون الشرط مقارنا مطلقا ، لأن الشرط على

    ذلك هو النسبة الماخوذة في الحكم المفروض لزوم مقارنة صدقها له وإن كان ظرف مقتضاها متقدما أو متأخرا.
    مدفوعة : بأن النسبة معنى حرفي انتزاعي لا تصلح لأن تكون دخيلة في الغرض ولا موضوعا للحكم بنفسها ، بل بلحاظ مطابقها الخارجي الحقيقي الذي يكون هو الدخيل في الغرض وفي موضوع الحكم ، وهو القابل للوجود والعدم ، دون النسبة ، فانها إنما تتصف بالصدق والكذب دون الوجود والعدم.
    ولو بني على كون الشرط مقارنا بلحاظ مقارنة صدق النسبة المأخوذة في الحكم وإن كان مطابقها متقدما أو متأخرا لم يبق في المقام شرط متقدم أو متأخر ليقع الكلام في إمكانه وامتناعه ، وانقلب النزاع لفظيا.
    ومما ذكرنا يظهر اندفاع دعوى : أن الشروط الشرعية للأحكام دخيلة في موضوعاتها ، ويستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه بحيث يتقدم عليه.
    إذ فيها : أن الممتنع هو انفكاك الحكم عن تحقق موضوعه في ظرفه المعتبر في الحكم والذي يستفاد من النسبة التي يتضمنها دليله ، لا عن تحقق موضوعه في الخارج حينه.
    ولو لا ما ذكرنا لأشكل الشرط المتقدم أيضا ، لوضوح أن استحالة انفكاك الحكم عن موضوعه تقتضي تقارنهما. بل يجري ذلك على ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه أيضا ، لوضوح أن مقتضى أخذ الشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم وجوده حينها ، لا قبلها مع انعدامه حينها.
    ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من إمكان الشرط المتقدم والمتأخر في الأحكام كما يمكن في المأمور به.
    وبذلك ينتهي الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة ، ويقع الكلام في المباحث المقصودة بالأصل ، وهي ثلاثة ..

    المبحث الأول
    في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته
    قد اختلفت كلماتهم في تحرير مورد النزاع في المقام ، فحرر في كلام جماعة من المتأخرين بالوجه الذي ذكرناه ، وهو البحث في الملازمة بين الوجوبين ، وبذلك لا تكون المسألة فرعية فقهية ، لعدم البحث فيها عن نفس الحكم الشرعي ، بل اصولية لوقوعها في طريق استنباط الحكم المذكور في الموارد المتفرقة التي يفرض فيها وجوب شيء ما له مقدمة.
    وأما القدماء ، فقد حررها جملة منهم بعنوان البحث في وجوب مقدمة الواجب. وذلك قد يوهم كونها فرعية ، للبحث فيها عن نفس الحكم الشرعي الفرعي ، وهو وجوب المقدمة. وقد منع جماعة من ذلك ، لوجوه لا تخلو عن إشكال أو كلام لا يسع المقام استقصاءه.
    ولعل الأولى في تقريب عدم كونها فرعية أن يقال : وحدة المسألة الفرعية موقوفة على وحدة الحكم الفرعي الذي يبحث عنه فيها ، ووحدة الحكم تابعة لوحدة الموضوع بعنوانه الذي اخذ فيه عند جعل الحكم ، ومن الظاهر أنه لا حكم للشارع بوجوب المقدمة بما هي مقدمة ، لأن العنوان المذكورة تعليلي لا تقييدي ، لعدم تضمن الأدلة الشرعية له ، وإنما استفيد الحكم ـ على تقدير ثبوت وجوب المقدمة ـ من حكم العقل ، والعقل لا يرى لهذا العنوان دخلا في الحكم بنفسه ، بل تمام الموضوع ذات المقدمة على اختلاف مواردها ، لأن الواجب يتوقف عليها بذواتها وخصوصياتها ، لا بالعنوان المذكور ، فموضوع الحكم الشرعي هو مصاديق المقدمة المختلفة بخصوصياتها ، ولازم ذلك تعدد الأحكام الشرعية بعددها.

    فهذه المسألة تشير إلى تلك الأحكام ، لا إلى حكم واحد ، فلا تكون مسألة فرعية واحدة ، بل مشيرة إلى مسائل فرعية كثيرة.
    وحيث كان البحث هنا عن الجهة الجامعة بين المسائل ، ـ وهي الملازمة ـ خرجت عن كونها مسألة فرعية ، لعدم البحث فيها عن الحكم الشرعي ، بل عن أمر عقلي. وتعين كونها اصولية لو كان المعيار في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي مطلقا وإن لم يكن للحكم المذكور أثر عملي ، أما إذا اختصت بما إذا كان للحكم المستنبط بها أثر عملي خرجت عن كونها اصولية أيضا ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا ، ويأتي توضيحه إن شاء الله تعالى من أن الأمر الغيري لا يترتب عليه أثر في مقام العمل ، بل الأثر الثابت معه ثابت بدونه ـ وحينئذ تكون المسألة علمية محضة. فلاحظ.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنهم اختلفوا في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها على أقوال ، من الإثبات مطلقا ، والنفي مطلقا ، والتفصيل.
    واللازم النظر في الوجوه التي استدل بها القائلون بثبوت الملازمة ، ثم النظر في حجة المفصلين.
    وأقدم الوجوه فيما يظهر هو ما نسب لأبي الحسين البصري ومن تبعه من أنها لو لم تجب لجاز تركها ، فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.
    وقد أطالوا في بيان هذا الوجه ومناقشته ، إلا أن ظهور وهنه يغني عن ذلك ، لوضوح أن عدم وجوب المقدمة شرعا لا ينافي وجوبها عقلا ـ كما يأتي ـ فضلا عن أن يستلزم امتناعها ، ليلزم سقوط التكليف بذيها أو كون التكليف به تكليفا بما لا يطاق.
    ومن هنا يلزم النظر فيه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد سطر في الفصول والتقريرات وجوها كثيرة لعل أهمها وجهان ، لأن باقي الوجوه بين ما

    هو ظاهر الضعف ، وما هو راجع للوجهين المذكورين أو يظهر الحال فيه من الكلام فيهما ..
    أحدهما : ما عن المحقق السبزواري من أنها لو لم تجب لم يستحق العقاب مع ترك المقدمات المفوتة ، وهي التي يكون التفريط فيها قبل وقت الواجب مستلزما لتعذر الواجب في وقته ، كقطع المسافة للحج ، لأن التفريط حينئذ ليس إلا بالمقدمة المفروض عدم وجوبها ، دون نفس الواجب ، لفرض عدم حضور وقته ، ومع عدم استحقاق العقاب بتركها لا مجال للعقاب على ترك الواجب في وقته ، لفرض تعذره.
    لكنه إن بني على داعوية التكليف عقلا قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه ، بامتثاله كفت داعويته في العقاب عليه مع ترك المقدمة المؤدي في الفرض لتركه وإن بني على عدم داعوية التكليف قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه في وقته فلا مجال للبناء على داعوية وجوب المقدمة بنحو يستحق العقاب بتركها ، لأن داعويته في طول داعوية التكليف بذي المقدمة.
    ومن هنا لا مجال لابتناء استحقاق العقاب في الفرض على وجوب المقدمة غيريا تبعا لوجوب ذيها الذي هو محل الكلام في المقام ، بنحو يستدل به عليه.
    ومن ثمّ يأتي في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى توجيه العقاب في الفرض بأن التكليف يدعو قبل وقته لحفظ نفسه في وقته بلا حاجة للبناء على وجوب المقدمة. ولو لا ذلك تعين البناء على وجوب المقدمة نفسيا. وتمام الكلام هناك.
    ثانيهما : ما ذكره جماعة من المتأخرين كصاحب الفصول وشيخنا الأعظم وجماعة ممن تأخر عنهما وحكي عن المحقق السبزواري أيضا ما قد يرجع إليه ، وتقريبه : ـ بعد النظر في كلمات جملة منهم على اختلاف يسير بينها ـ

    أن الوجدان السليم يقضي بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه ، إذ ليس المدعى في المقام هو الطلب الفعلي للمقدمة على نحو طلب ذيها ، لوضوح أن الطالب قد يغافل عن المقدمات ، بل يعتقد عدم توقف على بعضها ، بل هو طلبها تبعا إجمالا بمقتضى الارتكازيات الكامنة في النفس ، على نحو لو توجه إليها تفصيلا لوجه الطلب بها كذلك ، وذلك نحو من أنحاء الطلب الذي يترتب عليه آثاره ، بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب المقدمة في التكاليف الشرعية ، فاستحالة الغافلة في حق الشارع الأقدس تستلزم الطلب الفعلي التفصيلي منه بعد ثبوت هذا النحو من الملازمة بين التكليف بالمقدمة والتكليف بذيها.
    أقول : الظاهر رجوع دعوى الوجدان المذكورة إلى ما تقدم في الأمر الأول من التمهيد لمباحث المقدمة من أن ، حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته ، فإن ذلك لا يختص بالمكلف ، بل يجري في المولى أيضا ، ففرض حصول الإرادة والداعي له لفعل المكلف بنحو يطلبه منه ويكلفه به لا بد أن يستلزم حدوث ذلك بالإضافة لمقدمته.
    لكن ذلك وحده لا يكفي في إثبات تعلق الطلب الغيري بالمقدمة والتكليف بها ، لأمرين ..
    أولهما : أنه لما كان الغرض من الطلب والتكليف إحداث الداعي لفعل الشيء ـ وإن لم يندفع عنه المكلف ـ فإن كان التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي المذكور نحوه لزم ـ بمقتضى الملازمة المتقدمة ـ حدوث الداعي المسانخ له نحو المقدمة نفسها أيضا بلا حاجة إلى تعلق الطلب والتكليف المولوي الغيري بها ، فيكون طلبها والتكليف بها لغوا لا فائدة فيه ، وإن لم يكن التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي نحوه لم يصلح التكليف بالمقدمة لإحداث الداعي نحوها ، وكذا الحال في التحرك عن الداعي

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    المحكم في أصول الفقه [ ج2
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » المحكم في أصول الفقه [ ج4
    » المحكم في اصول الفقه ج3
    »  مختصر أصول العشائر العراقية
    » تاريخ الفقه الجعفري
    » كتاب الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا ( عليه السلام

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 49- منتدى-أصول الفقه-
    انتقل الى: