سمعت رسول الله 9 يقول الإسلام يزيد ولا ينقص ، فورث المسلم من اخيه اليهودي ) وهذه الرواية مذكورة في مسند احمد (1) ، والمستدرك للحاكم (2) ، ونقلت عن سنن ابي داود والبيهقي (3) ، وقد أوردها السيد المرتضى في الانتصار (4) ، وقال ( علىٰ ان هذه الاخبار معارضة بما يرويه مخالفونا وقال : حدثني ابو الاسود الدؤلي : ان رجلاً حدثه ان معاذاً قال سمعت رسول الله 9 يقول ( الإسلام يزيد ولا ينقص فورث المسلم ) ، ومنه يظهر أن نقل ابي الاسود عن معاذ مرسل ، ولا اشكال في ان الصدوق (قده) إنما نقل هذا الحديث من مصادر العامة ، أو من كتب بعض قدمائنا ممّن الّف في الرد عليهم كالفضل بن شاذان وغيره.
فظهر مما تقدّم ان الصدوق (قده) إنما نقل حديث ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) من كتب العامة وأورده احتجاجاً به عليهم ، وذلك لقرينتين :
الأُولى : انه نقل هذا الخبر في مقام الاحتجاج علىٰ العامة في مسألة خلافية بيننا وبينهم.
الثانية : ان سائر الروايات التي نقلها في هذا المقطع من كلامه ، انما نقلها عن العامة ولا توجد في شيء من كتبنا ، بل ان سائر الادلة التي ذكرها انما هي من قبيل الاجتهاد بالرأي من القياس والاستحسان ونحوهما مما لا حجية له لدى الإماميّة ، وقد استعملها في مقام الالزام ، فهذا يكشف عن أن منهجه الاستدلالي في هذا الموضع ، انما كان علىٰ البحث مع العامة وفق مبادئهم واسسهم ، ولا ينفع في هذا السياق ذكر خبر مروي من طرق
__________________
(1) مسند أحمد بن حنبل 5 / 230.
(2) المستدرك علىٰ الصحيحين 4 : 345.
(3) سنن أبي داود 3 : 126 / 2913.
(4) الانتصار : 304.
الامامية ، كما هو واضح.
فبهاتين القرينتين يحصل الوثوق بان الصدوق (قده) قد أورد خبر ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) من طرق العامة وانما احتج به عليهم في مسألة خلافية ، كما فعل من بعده كالشيخ الطوسي في الخلاف والعلامة في التذكرة.
وبذلك يظهر عدم تمامية دعوىٰ انجبار الحديث مع الزيادة بعمل الاصحاب ، فلا دليل علىٰ ثبوت هذه الزيادة واعتبارها.
المقام الثاني : في تحقيق زيادة ( علىٰ المؤمن ) في آخر الحديث ، إن هذه الزيادة قد وردت في رواية ابن مسكان ، عن زرارة في قضية سمرة ، لكنها لم ترد في معتبرة ابن بكير ، عن زرارة ، التي نقلت نفس القضية ، كما لم ترد في سائر موارد نقل الحديث ، من طرق الخاصة والعامة ، فهل تثبت هذه الزيادة في الحديث برواية ابن مسكان ، كما ذهب اليه العلاّمة شيخ الشريعة (1) وغيره أم لا ؟ كما اختاره المحقق النائيني (2) وآخرون ؟
والقول بثبوت هذه الزيادة يتوقّف علىٰ الالتزام بامرين :
الأَوّل : حجية رواية ابن مسكان في نفسها.
الثاني : تقديمها ـ بعد حجيتها ـ علىٰ ما لا يتضمن تلك الزيادة.
أمّا الامر الأَوّل : فيشكل الالتزام به من جهة ان الرواية مرسلة ، ولا سيّما أن مرسلها البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء ، ولكن مع ذلك فقد يقال بحجيتها لاحد وجهين :
الوجه الاول : وجود الرواية في الكافي فلا يضرها الارسال بعد ذلك ، وذكر هذا المحقق النائيني 1 (3) وقد حكي عنه انه قال ( ان الخدشة
__________________
(1) رسالة لا ضرر 15.
(2 و 3) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 19.
في اسناد روايات الكافي من حرفة العاجز ) (1) ، ويبدو أن العلاّمة شيخ الشريعة أيضاً اعتمد علىٰ هذا الوجه ، ولعل تأثره بالوجوه التي ذكرها المحدث النوري في خاتمة المستدرك في تصحيح احاديث الكافي.
ولكن تلك الوجوه ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها كما اوضحنا ذلك في بعض ابحاثنا الرجالية.
الوجه الثاني : ان يقال إن اصل هذه القضية التي ذكرت في رواية ابن مسكان عن زرارة قد ثبتت أيضاً برواية ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر 7 ، وبرواية أبي عبيدة عنه 7 أيضاً ، فمطابقة رواية ابن مسكان في اصل القضية لتلك الروايتين مما يوجب الوثوق بصدورها.
ويرد عليه :
أوّلاً : إنّه إذا كان مبنىٰ الاعتماد علىٰ رواية ابن مسكان توافقها في المضمون مع روايتي ابن بكير وأبي عبيدة ، فاللازم الاقتصار في ذلك علىٰ موارد الاتفاق فيما بينها ، ولا يمكن التعدي عنها إلىٰ موارد الاختلاف ، فإن قضية سمرة بنقل ابن بكير عن زرارة لم تتضمن زيادة ( على مؤمن ) وان تضمنت أصل حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) كما أنها بنقل أبي عبيدة لم تتضمن اصل الحديث ، فكيف يمكن الالتزام باعتبار رواية ابن مسكان في مورد الاختلاف بينها وبين تلك الروايتين بسبب التوافق بينها في اصل القضية ؟!
وثانياً : إن رواية ابن بكير غير متضمنة لهذه الزيادة ، ولا يمكن توجيه عدم تضمنها لها بأنه من باب الاختصار ـ مع أنه حذف لما يخل بالمعنى حذفه ـ لان الاختصار في مثل ذلك لا يوافق اصول الاختصار المعمولة في باب الروايات كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا فالقول
__________________
(1) معجم الرجال 1 : 87.
باعتبار رواية ابن مسكان في هذا الموضع ، مع منافاتها مع مصدر اعتبارها ، وهو خبر ابن بكير ممّا لا محصل له ، لأنّ مرجعه إلىٰ انّه إذا كان هناك خبران متعارضان يشتركان في جزء من مضمونهما ، وكان احدهما حجة في نفسه دون الآخر ، فإنّ الثاني يكون حجة في جميع مضمونه بملاحظة اشتراكه مع الاول في جزء من مضمونه ، ثم يتعارضان في نقطة الاختلاف بينهما ، وربما يتقدم الثاني علىٰ الاول ـ الذي اكتسب منه الحجية ـ ببعض الوجوه والاعتبارات ، ! وهذا أمر لا ريب في بطلانه.
فتحصل مما تقدّم ان رواية ابن مسكان لم يثبت اعتبارها في نفسها لتكون حجة علىٰ ثبوت زيادة ( علىٰ مؤمن ) في آخر الحديث.
وأمّا الامر الثاني : وهو تقديم هذه الرواية المتضمنة للزيادة ـ علىٰ تقدير حجيتها ـ علىٰ ما لا يتضمن الزيادة وهي رواية ابن بكير ، فربما يحتج له : بأن مقتضىٰ الاصل في دوران الامربين الزيادة والنقيصة هو البناء علىٰ الزائد والاخذ به واعتبار الخلل في مورد النقص.
وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي البحث في مقامين :
المقام الأَوّل : في ثبوت الاصل المذكور وهو بحث مهم جداً ، لانه يتضمن مسألة سيّالة كثيرة الدوران في الفقه.
والمقام الثاني : فيما يقتضيه الموقف علىٰ تقدير عدم ثبوت هذا الاصل.
أما المقام الأَوّل : فيلاحظ ان مقتضىٰ القاعدة الاولية هو اعمال قواعد المتعارضين من الترجيح أو التساقط ، لان الدليلين هنا من قبيل المتعارضين بالنسبة إلىٰ كيفية النقل فيجري فيهما القواعد العامة في باب التعارض وهي تقتضي ملاحظة المزايا في الجانبين فإن اقتضت رجحان احدهما أو أوجبت الوثوق به ـ علىٰ القولين في باب التعارض من كفاية الرجحان في الترجيح أو
اعتبار الوثوق كما هو المختار ـ أُخذ بالجانب الراجح ـ سواءاً كان هو الزيادة أو النقيصة وإلاّ تساقط الدليلان ولم يمكن الاعتماد علىٰ أي منهما. هذا بحسب الأَصل الأَولي.
وأمّا الأصل الثانوي المقتضي لتقديم جانب الزيادة علىٰ جانب النقيصة كقاعدة عامة في موارد دوران الامر بينهما ففي حقيقته احتمالان :
الاحتمال الأَوّل : أن يكون صغرى وتطبيقاً للقاعدة العامة للترجيح الصدوري ـ لا أصلاً موضعياً يرجح جانب الزيادة مستقلاً عن تلك القاعدة ـ وذلك بان يكون المقصود به التعبير عن وجود مزية نوعية قائمة في طرف الزيادة دائماً أو غالباً بحيث توجب أقربية الزيادة إلىٰ الصدور من النقيصة ، في فرض عدم رجحان طرف النقيصة في القيمة الاحتمالية للصدور ، وإلاّ لم يرجح جانب الزيادة ولم يؤخذ بها.
وبناءاً علىٰ تفسير القاعدة المذكورة بهذا الاحتمال فيمكن الاستدلال عليها بوجهين.
الوجه الأَوّل : أن يقال إنّ احتمال الغفلة في جانب الزيادة أبعد من احتمالها في جانب النقيصة فيلزم الاخذ به ، ولعل وجه الابعدية أن الغفلة ـ بمعنىٰ الذهول ـ إنما تتناسب بحسب طبيعتها لأَن تكون سبباً لترك شيء ثابت لا لإثبات شيء غير واقع كما هو مشاهد وجداناً.
ويرد عليه :
أوّلاً : بأن الأَمر لا يدور بين الغفلتين ، ليرجح احتمال عدم الغفلة في جانب الزيادة علىٰ احتمال عدم الغفلة في جانب النقيصة ، فإن لكل من الزيادة والنقيصة مناشئ أُخرى غير ذلك ، فقد تتحقق الزيادة لاجل النقل بالمعنى على اساس أن الراوي يستفيد قيداً للكلام من القرائن المحتفة به حسب فهمه فيتبعه ولا يثبته غيره لأنّه لم يستفده منها ، وقد تتحقق النقيصة
من جهة الاختصار في النقل ، أو تصور كون القيد توضيحياً لا احترازياً مثلاً ، فلا بُدّ من ملاحظة مجموع الاحتمالات ودرجة كل احتمال بحد ذاته ثم الحكم علىٰ ضوء ذلك.
وثانياً : بانّه لو فرض دوران الامر بين الغفلتين فإن أبعدية الغفلة في جانب الزيادة لا تقتضي إلا أرجحية احتمال الغفلة في جانب النقيصة بمعنىٰ الظن بوقوعها ولكن قد حقق في محله انّه لا يكفي الرجحان بمعنىٰ الظن في تقديم أحد المتعارضين علىٰ الآخر ، لعدم الدليل علىٰ حجية الظن بالصدور لا تعبداً ولا عقلاً ، بل العبرة في ذلك بالوثوق بأحد الطرفين ، بنحو يوجب انصراف الريبة الحاصلة من العلم الاجمالي بخطأ احدهما إلىٰ الطرف الآخر دون هذا الطرف.
الوجه الثاني : أن يقال : إنّ الزيادة ليس لها تفسير ـ علىٰ تقدير صدق الراوي ـ إلا الغفلة فينفى هذا الاحتمال بأصالة عدم الغفلة ، وأما النقيصة فيمكن تفسيرها بوجوه أُخر ، من قبيل الاختصار في النقل أو توهم تساوي وجود الزيادة وعدمها في المعنىٰ وغير ذلك ، ومن هنا يرجح احتمال وقوع النقيصة في الناقص ويبنى علىٰ ثبوت الزيادة.
ويرد عليه :
أوّلاً : أن سبب الزيادة ـ كما تقدّم ـ لا ينحصر بالغفلة ، بل قد تكون الزيادة من جهة النقل بالمعنى بعد فهم الزائد من لحن الكلام ومناسبات الحكم والموضوع ، أو بلحاظ ما اعتقده الراوي من القرائن المقامية المحتفة بالكلام او لغير ذلك ، فالنسبة بين مناشئ الزيادة والنقيصة ليست عموماً وخصوصاً مطلقاً بأن تكون مناشئ الزيادة مناشئ للنقيصة أيضاً ولا عكس كما ذكره بعض الاعاظم (1).
__________________
(1) الإمام الخميني (قده) في الرسائل 26 ـ 27 نحوه.
وثانياً : انّه لا عبرة بمجرد زيادة المحتملات في احد الجانبين بالنسبة إلىٰ الجانب الآخر ، بل لا بُدّ من ملاحظة درجة الاحتمال في كل واحد منهما علىٰ ضوء جهات اخرى من قبيل وحدة الراوي وتعدده أو قرب الاسناد وبعده ، أو اوثقية رواة احد النقلين بالنسبة إلىٰ رواة الآخر وهكذا ، فمجرد زيادة المحتملات في جانب النقيصة لا يوجب أرجحية احتمال وقوعها في مقابل احتمال وقوع الزيادة.
وثالثا : لو سلمنا أرجحية احتمال وقوع النقيصة من احتمال وقوع الزيادة إلا أنه لا يستوجب الاخذ به لعدم حجية الظن في هذا الباب كما تقدّم آنفاً.
الاحتمال الثاني : في تفسير الاصل المذكور : أن يكون أصلاً موضعياً يرجح جانب الزيادة علىٰ النقيصة من جهة الصدور ـ مستقلاً عن القاعدة العامة للترجيح ـ بمعنىٰ لزوم الاخذ بالزيادة والبناء علىٰ صحتها بغض النظر عن تكافؤ الاحتمالين أو أرجحية جانب الزيادة أو أرجحية جانب النقيصة ما لم تصل إلىٰ درجة الاطمئنان والوثوق ، وإلاّ كان العمل بالخبر الموثوق به دون الآخر وإن كان متضمناً للزيادة أو النقيصة.
وقد يستظهر هذا الاحتمال من كلام العلامة شيخ الشريعة (قده) حيث قال (1) بعد نقل اختلاف الروايات في هذه الزيادة : وبناءً على القاعدة المطردة المسلمة إنّ الزيادة إذا ثبتت في طريق قدمت على النقيصة ، وحكم بوجودها في الواقع وسقوطها عن رواية من روى بدونها ، وانّ السقوط إنما وقع نسياناً أو اختصاراً أو توهماً بأنه لا فرق بين وجودها وعدمها إلاّ التأكيد ، أو غير ذلك من وجوه ما يعتذر به للنقص في قضية شخصية ثبتت في طريق آخر مع
__________________
(1) رسالة لا ضرر 15.
الزيادة ، فينتج ما ذكر أن الثابت في قضية سمرة هو قوله ( لا ضرر ولا ضرار علىٰ مؤمن ) لا هما مجردين. انتهى.
ولكن يرد عليه ـ على تقدير تمامية الاستظهار المذكور ـ :
أولاً : انّه لم يثبت هناك اصل عقلائي في خصوص المقام يقتضي البناء على صحة الزيادة ، وإنّما العبرة عند العقلاء بقيام القرائن الموجبة للوثوق بأحد الطرفين ، كما في سائر الموارد الأخرى ، فمتى حصل الوثوق باحدهما بعد تجميع القرائن في كل واحد منهما بنوا عليه ، سواء أكان هو ثبوت الزيادة أو عدم ثبوتها ، وإلا تساقطا معاً ، ودعوى اطراد تقديم الزيادة في تعارض الطرق ممنوعة جداً ، فهل ترى أنّ احداً إذا كان في مقام استلام الف دينار من غيره ، فأمر اثنين بعد المبلغ فعدّه احدهما ألفاً ، والآخر ألفاً وخمسة وعشرين ، فهل تراه يقدّم قول الاول بالبناء علىٰ اصالة ثبوت الزيادة ويرجع خمسة وعشرين ديناراً إلى صاحب المال ؟!
وثانياً : انّ ما ذكره 1 من كون ذلك مسلماً عند الكل في غير محله ، بل وقع الاختلاف فيه بين العامة والخاصة ، ونقتصر على الاشارة إلى آراء بعضهم ، فالمحقق النائيني 1 مثلاً يرى أن مبنى الاصل المذكور هو ابعدية احتمال الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن احتمالها بالنسبة إلى النقيصة ، وهذه الأَبعدية لا تتم فيما لو كان الراوي للزائد واحداً وللناقص متعدداً (1) ، فهذا يدل على أنّه (قده) لا يرى البناء على الزيادة أصلاً برأسه ، بل يراه مبنياً على محاسبة الاحتمالات واختلاف درجتها في الجانبين.
والزيلعي من محدثي العامة ذكر في كلام له في نصب الراية (2) ما نصّه
__________________
(1) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 192.
(2) نصب الراية 1 / 336.
( إن قيل إن الزيادة من الثقة مقبولة ، قلنا ليس ذلك مجمعاً عليه بل فيه خلاف مشهور ، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً ، ومنهم من لا يقبلها والصحيح هو التفصيل : وهو أنّها تقبل في موضع دون موضع فتقبل اذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً ، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الوثاقة وتقبل في موضع آخر بقرائن تحفّها ومن حكم حكماً عاماً فقد غلط ).
وهكذا اتضح مما تقدّم أنه لا وجه لترجيح جانب الزيادة علىٰ جانب النقيصة علىٰ اساس قاعدة عامة تقتضي ذلك ، سواءاً كانت تطبيقاً للقاعدة العامة للترجيح الصدوري أو أصلاً مستقلاً برأسه ، وعلىٰ ضوء ذلك فلا يمكن اثبات زيادة ( علىٰ مؤمن ) في الحديث استناداً إلىٰ هذا الاصل.
هذا تمام الكلام في المقام الأَوّل.
وأمّا المقام الثاني : وهو فيما يقتضيه الموقف بعد عدم تمامية الاصل المذكور ، ففيه وجهان :
الوجه الأول : أن يرجح ثبوت الزيادة في هذه الحالة أيضاً بتقريب : أن من لاحظ رواية ابن مسكان المتضمنة لزيادة ( علىٰ مؤمن ) ، وقارن بينها وبين روايتي ابن بكير وأبي عبيدة يجد انّ سياقها قائم علىٰ التفصيل وذكر خصوصيات ما دار بين الرجل الانصاري وبين سمرة ، ثم ما دار بينهما وبين رسول الله 9 ، بينما الروايتان الأخريان ليس سياقهما في ذكر تمام الخصوصيات ، فرواية ابن مسكان ليست في مستوى الروايتين اجمالاً وتفصيلاً حتىٰ يتوقع تضمنهما لما تضمنته ، ليكون عدم تضمنهما لشيء جاء فيها موجباً للتشكيك في ثبوته ، بل إنها تمثل الصورة التفصيلة للقضية بينما هما يتضمنان الصورة الاجمالية لها فعدم ذكر كلمة ( على مؤمن ) فيهما لعدم كونهما في هذا السياق.
ويرد عليه : أنّ للاختصار اصولاً وقواعد لا تأتي في جميع الموارد ،
فربما يصح الاختصار ويكون مناسبأ في مورد لخلو التفصيل عن أي فائدة مهمة ، ولا يكون كذلك في مورد آخر ، والمقام من هذا القبيل فإنّ الاختصار في نقل التفاصيل الدائرة في القضية مما ليس لها اثر فقهي لا يقارن بالاختصار في نقل كلام النبي 9 الذي هو في مقام القاء كبرى كلية بحذف بعض كلماته ، فالاجمال من الجهة الأولىٰ موافق لاصول الاختصار ، بخلافه من الجهة الثانية فلا يمكن قياس الثاني بالأَوّل.
الوجه الثاني : أن يرجح عدم ثبوت الزيادة ، ويخرّج ورودها في رواية ابن مسكان علىٰ انها كانت اضافة من الراوي لفهمه من مناسبات الحكم والموضوع ـ كما ذكره المحقق النائيني (قده) ـ وذلك بتصوّر أن المنع من الاضرار بالغير يمثل رحمة بالنسبة اليه ، ولا يناسب شمول ذلك للكافر الذي امرنا بالشدة معه كما في قوله تعالىٰ ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (1) ، فلا محالة تختص كبرى لا ضرر ولا ضرار بالمؤمن فيزاد لفظ ( علىٰ مؤمن ).
وهذا الوجه هو الاقرب في النظر لرجحان رواية ابن بكير ، الخالية عن الزيادة المذكورة من عدة جهات يمكن بملاحظة مجموعها ترجيح الوجه المزبور وهذه الجهات هي :
الأولى : قرب الاسناد في رواية ابن بكير ، فإن بين الكليني وبين الامام 7 في رواية ابن بكير ، عن زرارة خمس وسائط وبينه وبين الامام في رواية ابن مسكان ست وسائط ومعلوم أنّه كلما قلّ عدد الوسائط يقلّ معه احتمال مخالفة النقل للواقع ، لأنّ احتمال المخالفة يجيء في كل واحد من الرواة فيقل بطبيعة الحال فيما كان اقرب اسناداً إلىٰ الامام 7.
الثانية : تعدد الرواة في رواية ابن بكير دون رواية ابن مسكان ، فإن
__________________
(1) سورة الفتح 48 / 29.
الرواة عن عبد الله بن بكير في كل طبقة لا تقل عن رجلين ، بملاحظة ضم طريق الصدوق في المشيخة إلىٰ طريق الكليني ، وأما في رواية إبن مسكان فالراوي في كل طبقة رجل واحد فقط.
هذا مضافاً إلىٰ انّ كتاب ( عبد الله بن بكير ) كان كثير الرواة كما ذكر ذلك النجاشي ، وأما كتاب ( عبد الله بن مسكان ) فلم يذكر ذلك بشأنه ، فلو استظهرنا أن مصدر الكلينى أو الصدوق فيما روياه عن عبد الله بن بكير نفس كتابه ، فلا تقاس حينئذٍ روايته برواية ابن مسكان ، من حيث الاعتبار.
ولكن لا سبيل إلىٰ هذا الاستظهار بالنسبة إلىٰ نقل الكليني كما هو واضح ، وقد يقال بثبوته بالنسبة إلىٰ نقل الصدوق لأنّه ابتدأ باسم ابن بكير وله طريق اليه في المشيخة ، فيعلم بذلك انّه اخذ رواياته من كتابه ، ولكن هذا ليس بصحيح ـ كما تقدمت الاشارة اليه ـ لأن الصدوق (قده) لم يتقيد في الفقيه بالابتداء باسم صاحب الكتاب الذي اخذ الحديث من كتابه بل يبتدأ باسم غيره كثيراً ، فمجرد الابتداء باسم شخص وإنّ كان له سند اليه في المشيخة ، أو كان كتابه مشهوراً لا يقتضي كون مصدره في النقل عنه نفس كتابه.
الثالثة : إنّ رواة الحديث في سند الصدوق إلىٰ ابن بكير اعظم شأناً وأجل قدراً من رواته في سند الكليني إلىٰ ابن مسكان ، فمن رواة الاوّل ( الحسن بن علي بن فضال ) الذي قال عنه الشيخ : كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهداً ورعاً ثقة في الحديث ، ومنهم ( احمد بن محمّد بن عيسى ) الذي قال عنه النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، ومن رواة الثاني ذلك المجهول الذي روى عنه محمّد بن خالد البرقي ولم يذكر اسمه ، وقد ذكر في شأن البرقي انّه كان ضعيفاً في الحديث يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، ومنهم احمد بن محمّد بن خالد الذي
قال عنه ابن الغضائري طعن عليه القميون وليس الطعن فيه وإنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن يأخذ علىٰ طريقه اهل الاخبار ، وقال الشيخ : كان ثقة في نفسه غير انّه اكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل. ونحوه كلام النجاشي.
الرابعة : إن الكليني قد فرق بين روايتي ابن بكير وابن مسكان في كيفية النقل من وجهين يقتضيان أرجحية رواية ابن بكير وهما :
1 ـ إنّه نقل رواية ابن بكير في اوائل الباب ونقل رواية ابن مسكان في اواخره ، وفصل بينهما بجملة احاديث تختلف عنهما موضوعاً ، فهذا قد يدل علىٰ ان ذكر الثانية كان علىٰ سبيل الاستشهاد والتأييد لا علىٰ سبيل الاعتماد علىٰ ما هو دأبه ـ فيما عرفناه بالتتبع في كتابه ـ من ترتيب الروايات علىٰ حسب مراتبها عنده في الصحة والاعتبار ، وقد تنبه لهذا بعض المحققين أيضاً (1).
2 ـ إنّه نقل رواية ابن بكير بتوسط العدة عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، ولكنه نقل رواية ابن مسكان بتوسط علي بن محمّد بن بندار عنه ، ولا يبعد أن يكون منشأ ذلك انّه قد نقل الرواية الأولىٰ عن النسخة المشهورة أو الاجزاء المشهورة من كتاب المحاسن للبرقي ، ولذا نقلها بتوسط العدة ، وأمّا الثانية فنقلها من غير كتاب المحاسن أو غير النسخة أو الاجزء المشهورة منه فلذا كان الراوي لها واحداً.
وتوضيح ذلك انّ كتاب المحاسن للبرقي وإن عدّ من الكتب المشهورة ـ كما في مقدمة الفقيه ـ إلا أن جميعه لم يكن كذلك ، وقد ذكر الشيخ والنجاشي : انّه قد زيد في المحاسن ونقص وقد اختلفت الرواة في عدد
__________________
(1) روضات الجنّات 6 / 116.
كتبه ، ومما يدل علىٰ عدم اشتهار جميعه ما في ترجمة محمّد بن عبد الله الحميري من انّه قال : كان السبب في تصنيفي هذه الكتب ـ اشارة إلىٰ بعض كتبه ـ اني تفقدت فهرست كتب الخاصة التي صنفها احمد بن ابي عبد الله البرقي ، ونسختها ورويتها عمن رواها عنه وسقطت هذه السنة عني فلم اجد لها نسخة ، فسألت إخواننا بقم وبغداد والري فلم اجدها عند أحد منهم فرجعت إلىٰ الأصول فاخرجتها والزمت كل حديث منها كتابه وبابه الذي شاكله.
وكيف كان فلا اشكال في ان كتب المحاسن لم يكن كلها علىٰ مستوىٰ واحد من الشهرة والنقل ، فلو كانت رواية ابن بكير مروية من الكتب المشهورة دون رواية ابن مسكان ، كما يومي اليه توسط العدة في نقل الأولىٰ ، وعلي بن محمّد بن بندار فقط في نقل الثانية ، كانت الأولىٰ اوثق واقرب إلىٰ الاعتبار.
الخامسة : إنّ زيادة ( علىٰ مؤمن ) لم ترد في سائر موارد نقل حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) في كتب العامة والخاصة سواء ما جاء في ضمن قضية خاصة وغيره ، وهذا مما يقرّب احتمال كونها من قبل الراوي.
فتحصل مما تقدّم انّ الاصح عدم ثبوت زيادة ( علىٰ مؤمن ) في ذيل حديث لا ضرر.
المقام الثالث : ممّا يتعلق بمتن الحديث : في تحقيق حال القسم الثاني منه وهو لفظ « لا ضرر » وقد اختلفت فيه مصادر العامة والخاصة ، امّا باختلاف الروايات أو باختلاف النسخ ـ وهذا هو الاكثر ـ.
أما في ( مصادر العامة ) فقد نقل الحديث فيها علىٰ انحاء :
1 ـ ما لا يتضمن القسم الثاني أصلاً كالمروي عن جامع الصنعاني باسناده عن الحجاج بن ارطأة ، عن أبي جعفر 7 في حديث قال :
قال النبي 9 : ( لا ضرر في الإسلام ). وهذا يحتمل فيه السقوط للجملة الثانية.
2 ـ ما يتضمه بصيغة ( لا ضرورة ) كرواية أبي هريرة المروية في سنن الدارقطني ، اذ جاء فيها ( لا ضرر ولا ضرورة ) وكرواية عبادة بن الصامت علىٰ ما في كنز العمال نقلاً عن زيادات عبد الله بن احمد بن حنبل في مسند أبيه ، وصحيح أبي عوانه والمعجم الكبير للطبراني ، ولكن سائر مصادر رواية عبادة ـ ممّا اطلعنا عليه ـ نقلت حديثه بصيغة ( لا ضرار ) وهي الموجودة في مسند احمد بن حنبل.
3 ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا إضرار ) كرواية ابن عباس بنقل احمد بن حنبل ، والدارقطني ورواية أبي سعيد الخدري بنقل الدارقطني أيضاً ، ورواية عائشة بنقل الزيلعي عن معجم الطبراني.
4 ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا ضرار ) وهذا هو الاكثر شيوعاً في مصادرهم الحديثية والفقهية.
وامّا ( مصادر الخاصة ) وما يلحق بها ككتاب دعائم الإسلام ، فهي مختلفة علىٰ النحوين الاخيرين : ( لا ضرار ) و ( لا إضرار ) كما يلي :
1 ـ رواية ابن بكير عن زرارة : ورد فيها في بعض نسخ الكافي ـ وهي النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول ـ بصيغة ( لا إضرار ) (1) ، ولكن ورد في الطبعة القديمة والحديثة من الكافي وكذا التهذيب بطبعتيه والفقيه بطبعته النجفية والوسائل والوافي جميعاً بصيغة ( لا ضرار ) (2).
__________________
(1) في النسخة التي بين ايدينا من المرآة 19 / 394 ـ 395 ح 2 لا ضرار. ولكن في الطبعة الحجرية 3 / 433 فيها : لا إضرار.
(2) الكافي ط قديم 1 / 414 ، ط حديث 5 / 292 ح 2 ، التهذيب ط قديم 2 / 158 ، ط حديث 7 / 146 ، الفقيه 3 / 147 ، ح 648 ، الوسائل 25 / 428 ـ 429 ح 32281 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10 / 10.
2 ـ رواية ابن مسكان عن زرارة : ورد فيها بصيغة ( لا إضرار ) في الكافي المطبوع بهامش مرآة العقول ، وكذا في الوافي (1) ولكن في الطبعتين القديمة والحديثة من الكافي وكذا في الوسائل بصيغة ( لا ضرار ) (2).
3 ـ رواية عقبة بن خالد في الشفعة : ورد فيها بصيغة ( لا اضرار ) في الفقيه ـ الطبعة الحديثة ـ وكذا في الوافي نقلاً عن الكافي والتهذيب والفقيه (3) ، ولكن في غيرهما من المصادر ورد بصيغة ( لا ضرار ) (4).
4 ـ رواية عقبة بن خالد في منع فضل الماء : ورد فيها في الوافي بصيغة ( لا إضرار ) (5) ولكن في غيره ورد بصيغة ( لا ضرار ) (6).
5 ـ مرسلة الصدوق : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في المطبوعة النجفية من الفقيه (7) ، ولكن في الوسائل بصيغة ( لا ضرار ) (
.
6 ـ مرسلة ابن أبي جمهور : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في النسخة المخطوطة التي اطلعنا عليها من عوالي الللآلي (9).
7 ـ مرسلة دعائم الإسلام في حديث هدم الحائط : ورد فيها بصيغة
__________________
(1) الكافي ط قديم 1 / 414 ، مرآة العقول 3 / 433 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10 / 143.
(2) الكافي ط حديث 5 / 294 ح 8 ، الوسائل 25 / 429 ح 32282.
(3) الفقيه 3 : 45 / 154 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10 / 103 ، الكافي ط قديم 1 / 410.
(4) الكافي 5 : 28 / 4 ، التهذيب 7 : 164 / 727 ، التهذيب ط قديم 2 / 162 ، الوسائل 25 : 399 ـ 400 ح 32217.
(5) الوافي المجلد 3 الجزء 10 / 136 ، مرآة العقول 3 / 434 وط قديم 1 / 414.
(6) الوسائل 25 : 420 / 32257 ، الكافي 5 / 293 ـ 294 ح 6 ، الكافي المطبوع في المرآة 19 : 397 ـ 398.
(7) الفقيه 4 / 243 ح 777.
(
الوسائل 26 / 14 ح 32382.
(9) وهي من موقوفات مقبرة فقيه عصره السيد ابو الحسن الاصفهاني (قده) في النجف الأَشرف.
( لا إضرار ) ـ علىٰ ما في مطبوعته المصرية ، ـ ولكن في المستدرك عنه بصيغة ( لا ضرار ) مع جعل ( لا إضرار ) نسخة بدل عنها (1).
8 ـ مرسلة دعائم الإسلام الأُخرىٰ : ورد فيها بصيغة ( لا إضرار ) في جملة من نسخها المخطوطة التي اعتمدها محقق الطبعة المصرية ، وفي واحدة منها بصيغة ( لا ضرار ) كما هو كذلك في المستدرك أيضاً (2).
9 ـ المصادر الفقهية وغيرها كالخلاف والتذكرة والتبيان والغنية (3) ونحوها : ورد فيها بالصيغتين تارة ( لا ضرار ) وأُخرى ( لا إضرار ) والاكثر هي الاولى.
وبعد ملاحظة اختلاف لفظ الحديث باختلاف النسخ أو الروايات فما هو الارجح من بينها ؟!
الظاهر انّ الأمر دائر بين صيغتي ( لا ضرار ولا إضرار ) ، وأمّا ما ورد في بعض مصادر العامة من حذف القسم الثاني من الحديث رأساً أو ثبته بصيغة ( لا ضرورة ) فلا يمكن الاعتماد عليه أصلاً كما هو واضح ، والارجح في النظر من الصيغتين المذكورتين هي الأولىٰ منهما أي ( لا ضرار ) ـ كما استقربه في مجمع البحرين أيضاً ـ وذلك لوجوه.
الأَوّل : إنّه ورد في عنوان الكافي ( باب الضرار ) (4) وهو يناسب كون الصيغة المستعملة في الحديث ( لا ضرار ) لا لفظ ( لا إضرار ) كما لا يخفى.
الثاني : إنّه قد جاء في قضية سمرة توصيف النبي 9
__________________
(1) دعائم الإسلام 2 / 504 ح 1805 ، مستدرك الوسائل 17 / 118 ح 20927.
(2) دعائم الإسلام 2 / 499 ح 1881 ، مستدرك الوسائل 17 / 118 ح 20928.
الخلاف 3 / 42 ذيل المسألة 60 وص 81 ذيل المسألة 131 وص 83 ذيل المسألة 136.
(3) التبيان 1 / 379 والغنية الطبعة ألحجرية غير مرقمة.
(4) الكافي ط حديث 5 / 292.
لسمرة بانّه رجل مضار ـ كما تضمن ذلك خبر ابن مسكان وخبر أبي عبيدة وبعض اخبار العامة ، ـ ولفظ ( مضار ) صفة من باب المفاعلة كلفظ ( ضرار ) ، فيناسب أن تكون الكبرىٰ المذكورة في القضية بصيغة المفاعلة أيضاً ليسانخ الصفة المذكورة فيه.
الثالث : إنّ الشهيد في القواعد (1) اعتنى بضبط الكلمة وذكر انّها بكسر الضاد وحذف الهمزة.
الرابع : إنه ورد في رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة قوله 7 ( هذا الضرار ) وهو يناسب أن تكون الكبرىٰ التي يبدو ان الامام 7 كان بصدد تطبيقها بهذا اللفظ أيضاً دون غيره.
الخامس : إن كتب اللغة اتفقت علىٰ ضبط الكلمة بصيغة ( ضرار ) وضبطها للالفاظ اكثر اعتباراً من ضبط كتب الحديث والفقه لتركيزها علىٰ هيئة الكلمة بحسب طبعها مما يبعدها عن التحريف اكثرمن غيرها.
فبمجموع هذه الوجوه يطمئن بأن لفظ الحديث هو ( لا ضرار ) لا لفظ ( لا إضرار ).
فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الصيغة الثابتة للحديث إنّما هي ( لا ضرر ولا ضرار ) كما هو المعروف دون نقص أو تغيير أو زيادة وبذلك يتم الكلام في الفصل الاول وهو البحث عن سند الحديث ومتنه.
__________________
(1) القواعد والفوائد 1 / 123.
( الفصل الثاني في تحقيق مفاد الحديث )
وقبل الدخول في البحث لا بأس بذكر بعض كلمات اللغويين في شرح معنىٰ الحديث وتوضيح المراد به.
قال أبو عبيد كما في النهاية : وفيه ـ أي في الحديث ـ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّاً وضراراً ، وأضرّ به يضر إضراراً ، فمعنى قوله ( لا ضرر ) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه ، والضرار فعال من الضرّ : أي لا يجازيه علىٰ إضراره بادخال الضرر عليه. والضرر : فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار : الجزاء عليه ، وقيل الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به انت ، والضرار أن تضرّه من غير أن تنتفع به وقيل هما بمعنىٰ وتكرارهما للتأكيد.
وقال الازهري : روي عن النبيّ 9 إنّه قال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، ولكل واحدة من اللفظتين معنىٰ غير الآخر ، فمعنى قوله ( لا ضرر ) اي لا يضر الرجل أخاه فينقص شيئاً من حقه أو مسلكه ، وهو ضد النفع ، وقوله ( لا ضرار ) أي لا يضار الرجل أخاه مجازاة فينقصه ويدخل عليه الضرر في شيء فيجازيه بمثله ، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد ، ومعنى قوله ( ولا ضرار ) أي لا يدخل الضرر والنقصان علىٰ الذي ضرَّه ولكن يعفو عنه كقول الله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (1).
هذا والكلام في تحقيق معنىٰ الحديث يقع تارة في مفاد المادة اللغوية
__________________
(1) سورة فصّلت 41 / 34.
للضرر والاضرار والضرار ، وأُخرى في مفاد هيئتها الافرادية ، وثالثة في مفاد الهيئة التركيبية للجملتين فهنا ثلاثة مقامات.
المقام الأَوّل : في مفاد مادة ( ض ر ر ) وقد ذكر اللغويون لها معان كثيرة ، كالنقص والضيق وسوء الحال والزمانة والعمىٰ والمرض والهزال والحاجة والقحط والايذاء والعلة وغير ذلك.
ولكن لا اشكال في انّ هذه المادة ليس لها هذه الكثرة من المعاني ، بل المفهوم منها بحد ذاتها ليس إلا معنىٰ واحداً أو اثنين أو ثلاثة وأما البواقي فليست معان للمادة وتوضيح ذلك :
إنّ المعاني المذكورة تنقسم باعتبار سعتها وضيقها إلىٰ فئتين : فئة المعاني العامة ، وفئة المعاني الخاصة. أمّا فئة المعاني العامة فهي المفاهيم التي تكون ابعد عن الخصوصيات واكثر تجرداً عنها واقرب إلىٰ الشمول والسعة بالنسبة إلىٰ سائرها ، وهي ثلاثة معاني من بين المذكورات ( النقص ـ ضد النفع ـ ، والضيق ، وسوء الحال ) وأمّا فئة المعاني الخاصة فهي سائر المعاني المذكورة التي هي ذات حدود ضيقة وتعتبر مصاديق للفئة الأولىٰ كالعمى والزمانة والمرض.
وهذه الفئة لا اشكال في انّها ليست من معاني المادة ، لأن المفهوم. من المادة بحسب طبيعة معناها إنّما هو مفهوم عام لا يدخل فيه شيء من تلك الخصوصيات ، فمفهوم الضرر ومشتقاته لا يرادف العمى والزمانه والمرض والهزال ونحوها بل هي مصاديق له جزماً ، وإنّما ذكرت في كلمات اللغويين في عداد معافي المادة بسببين أمّا خلطاً للمفهوم بالمصداق بمعنىٰ خلط المعنىٰ الوضعي المدلول عليه بنفس اللفظ بالمعنى التأليفي المستفاد من الكلام علىٰ نحو تعدد الدال والمدلول ، وأمّا بغرض بيان ما اطلق عليه اللفظ سواء أكان معنىٰ له أو مصداقاً لمعناه ، لأن ذكر المصاديق يعين علىٰ معرفة
معنى المادة وحدوده.
وكيف كان فلا اشكال في أن فئة المعاني الخاصة المتقدمة خارجة عما يحتمل أن يكون ، معنىٰ لمادة ( ض ر ر ) ، ولكن المعاني الثلاثة العامة وهي النقص والضيق وسوء الحال هل هي جميعاً معاني لمادة تطلق عليها بالاشتراك اللفظي أو ان للمادة معنىٰ واحداً فقط ، وان المذكورات مرشحات لتمثيل هذا المعنىٰ العام ؟!
ربما يستظهر الوجه الاول من كلمات كثير من اللغويين ، ولكن الصحيح هو الوجه الثاني ، لأن المنساق من هذه المادة علىٰ اختلاف مشتقاتها وفى مختلف موارد استعمالها ليس إلا معنىٰ عاماً واحداً ، لا يختلف باختلاف الموارد فينبغي طرح المعاني الثلاثة المتقدمة كاقتراحات في تعيين هذا المعنىٰ العام الوحداني فههنا عدة اقتراحات :
الأول : أن يجعل المعنىٰ الاصلي ، ( سوء الحال ) ويرجع المعنيان الآخران اليه ، وهذا هو الذي اختاره الراغب في مفرداته قال ( الضر سوء الحال امّا في نفسه كقلة العلم والفضل والفقه وامّا في بدنه لعدم جارحة ونقص ، أو في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه ).
والملاحظ عليه انّ سوء الحال من المفاهيم المعنوية المحضة ـ بخلاف الضيق والنقص فإنّهما من المعاني المحسوسة ، وفرض الامور المعنوية المحضة معنىٰ اصيلاً للفظ يخالف طبيعة اللغة ، فإنّ أُصول اللغة معاني محسوسة وإنما ارتبطت الالفاظ بالمفاهيم غير المحسوسة ـ متاصلة كانت أو اعتبارية ـ بالتطور في المفاهيم الاصلية المحسوسة ، ولذلك قلنا في محله في الأصول إنّ الاعتبارات المتأصلة كالاعتبارات القانوية مثل الملكية والزوجية متأخرة في حدوثها عن الاعتبارات الادبية كالاستعارات والمجازات ، كما انّ الاعتبارات الادبية متأخرة عن المعافي الحسية ، فالمعاني الحسية هي بمثابة رأس ، المال