لا ريب في الرجوع إليها لو فرض تزلزل القطع بالتكليف وانقلابه إلى الشك ، فإن ذلك ملازم لاحتمال كون القطع السابق علما.
مع أن ذلك لو تم جرى في غير الفوائت أيضا مما يحتمل العلم به ، كالدين ونحوه ، ولا يظن منهم البناء على لزوم الاحتياط فيها ، وإن حكي عنه الجزم به فيها أيضا حينئذ.
ومنه يظهر وهن ما في الجواهر من عدم الإشكال في الرجوع للاشتغال لو فرض سبق العلم بكمية الفائت ثم طرأ النسيان له ، لبقاء الخطاب واقعا بذلك المنسي ولو من جهة الاستصحاب ، فلا مجال للرجوع للبراءة.
لظهور اندفاعه : بأن الخطاب بالواقع التابع للعلم به هو عبارة عن تنجزه ، وبارتفاع العلم يعلم بارتفاعه ، فلا مجال لاستصحابه. مع أنه من الامور العقلية التي يمتنع استصحابها.
وأما الخطاب الشرعي الواقعي بالفائت الواقعي فيعلم ببقائه بلا حاجة للاستصحاب ، إلا أنه لا يتنجز إلا بالإضافة إلى المعلوم ، وهو الأقل ، ولا يجدي في وجوب الأكثر بعد عدم العلم به حتى يستصحب. فلاحظ.
الرابع : ما أشار إليه شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن الرجوع للقواعد الظاهرية إنما هو حيث يكون جريانها موجبا للأمان من العقاب ، ولا مجال لذلك في المقام لو احتمل التفويت العمدي ، لأن تعمد الفوت موجب لاستحقاق العقاب ، ولا يرتفع بجريان البراءة بعد ذلك لو فرض طروء النسيان.
نعم ، لو علم بعدم تعمد التفويت ، وإنما احتمل حصوله عن عذر فلا مانع من التمسك بالأصل ، للأمن معه من العقاب.
ويندفع : بما أشار إليه أيضا من أن البراءة ونحوها من الطرق الظاهرية ، إنما ترفع عقاب ترك القضاء المفروض تحقّق الشك في وجوبه ، وأما تفويت الفريضة عمدا فلا يرتفع عقابه حتى لو فرض الاحتياط بالقضاء ، بل لا يرفعه إلا
التوبة ونحوها من ماحيات الذنوب التي يمكن فرض تحققها في المقام بالتوبة من كل ذنب إجمالا. مع ترك القضاء ، اعتمادا على الطرق الظاهرية.
وبالجملة : لا يتضح الوجه في فتوى المشهور بوجوب الاحتياط في المقام ، بل مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت هو عدم وجوب القضاء إلا لما يتيقن فوته.
التنبيه الثالث : في حكم الشك في حلية اللحوم
لا ريب في أن أصل البراءة والحل كسائر الاصول إنما يكون مرجعا في مقام العمل إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه موضوعي كاستصحاب النجاسة في الطعام المقتضي لحرمة أكله ، أو حكمي كاستصحاب الحرمة. والكلام في ضابط حكومة الاصول بعضها على بعض موكول إلى مباحث الخاتمة للاصول ، حيث يأتي الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
وقد رتب على ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن استصحاب عدم التذكية في الحيوان مقدم على أصالة البراءة والحل في أكله ، كما أشار إلى بعض ما يتفرع على ذلك.
وقد أطال غير واحد ممن تأخر عنه في صور ذلك ، وفصلوا الكلام في أحكامها ، كما تعرضوا الأحكام الشك في حلية اللحوم من غير جهة التذكية.
وذلك وإن كان خارجا عن محل الكلام ، إلا أن أهمية الآثار المرتبة عليه ألزمنا بمتابعتهم فيه ، فنقول بعد الاستعانة به تعالى وطلب التوفيق منه :
الشك في حلية الحيوان .. إما أن يكون بنحو الشبهة الحكمية ، أو بنحو الشبهة الموضوعية ، وحيث كان ملاك الكلام مختلفا فيهما فالمناسب الكلام فيهما في مقامين ..
المقام الأول : في الشبهة الحكمية
اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الحكمية ..
تارة : يكون للشك في حل الحيوان المأخوذ منه من غير جهة التذكية ، كالشك في حلية لحم الأرنب.
واخرى : يكون للشك في تذكيته ، إما للشك في ما يعتبر في التذكية شرعا ، كما لو شك في اعتبار كون آلة الذبح حديدا ، أو للشك في قابلية الحيوان لها ، كما في الحيوان المتولد من طاهر العين ونجس العين ، ولا يلحق عرفا بحيوان خاص معلوم الحال ، إذ لو الحق بحيوان معلوم الحال كان مشمولا لأدلته المقتضية لقابليته للتذكية أو لعدمها ، فيستغنى به عن النظر في مقتضى الأصل.
أما الاولى فالظاهر أنه لا مانع فيها من أكل اللحم عملا بأصالة البراءة والحل.
ودعوى : أنه يمكن الرجوع لاستصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو اللحم ، وليست الحياة إلا من حالاته الخارجة عنه ..
هذا ، بناء على حرمة الحيوان حال الحياة ، فيحرم ابتلاع العصفور حيا مثلا ، أما لو قيل بجوازه أمكن استصحاب الحرمة الثابتة قبل أن يشعر أو يوبر ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
مدفوعة : بأن موضوع الحرمة هو الأكل لا اللحم ، ومن الظاهر اختلاف الأكل باختلاف قيوده من الحياة والموت وغيرهما ، لأنه أمر كلي قابل للتقييد ، فلا مجال للاستصحاب حينئذ لتبدل الموضوع ، كما هو الحال في غالب الأحكام التكليفية ، بخلاف النجاسة والطهارة ونحوهما مما يكون متعلقا بنفس الأمر الخارجي الخاص ومحمولا عليه ، كاللحم الذي لا يتبدل عرفا باختلاف العوارض المذكورة ، فإنه يجري الاستصحاب فيها على ما يأتي توضيحه في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
هذا ، وقد يدعى أن عمومات الحل حاكمة على استصحاب الحرمة لو كان جاريا ، وعلى أصالة الحل والبراءة لو لم يجر ، مثل قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ...)(1) ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(2) ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(3) ، وما في الصحيحين : «وإنما الحرام ما حرم الله في القرآن» (4) ، وقريب منهما غيرهما (5).
وفيه : أن العمومات المذكورة لا تنهض بالاستدلال ، لما هو المعلوم من كثرة التخصيص في الآية الاولى بنحو قد يلزم بحملها على الحصر الإضافي.
وإن كان قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام : «أنه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمر والبغال والخيل ، فقال : ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه ، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم خيبر عنها ، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ، وليست الحمر بحرام ، ثم قال : اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...)» (6).
لكن لا بد من رفع اليد عنه ، لمنافاته للنصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب الدالة على تحريم كثير من الامور ، بنحو يلزم كثرة التخصيص المستهجن ، كما ذكرناه في الآية ، فلا بد من حمله على المحرمات المغلظة ـ كما عن الشيخ قدّس سرّه وذكره الطبرسي في الآية ـ أو على التقية في الجواب والاستدلال.
نعم ، ربما يجمع بين الآية وأدلة المحرمات بالنسخ ، لأن سورة الأنعام مكية ـ كما في مجمع البيان ـ وحينئذ فلا مانع من الاستدلال بها في غير مورد
__________________
(1) سورة الأنعام : 145.
(2) سورة المائدة : 4.
(3) سورة المائدة : 5.
(4) الوسائل ، ج 16 باب 4 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 ، 7.
(5) الوسائل ، ج 16 باب 5 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.
(6) الوسائل ، ج 16 باب 5 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.
ثبوت النسخ.
لكنه لا يخلو عن إشكال ، لعدم كون ذلك جمعا عرفيا. ومنه يظهر حال النصوص المشار إليها. وأما الآية الثانية فسيأتي الكلام فيها.
وأما الآية الثالثة فالاستدلال بها موقوف على كون الطيب أمرا يدركه العرف ، وأنه عبارة عما لا يستقذر ويستخبث عندهم. وحينئذ فيشكل الحل فيها بكثرة التخصيص أيضا.
فلا بد من حملها على الإشارة إلى طيبات معهودة ، فتكون مجملة ، أو على أن الطيب أمر لا يدركه إلّا الشارع ، بحيث يكون تحريم شيء كاشفا عن عدم كونه طيبا ، لا أنه مخصص للعموم المذكور ، أو على ما يأتي في الآية الثانية. فتأمل جيدا.
والحاصل : أنه لا مجال لاستفادة عموم حل الحيوانات ، ليكون حاكما على الاصول الجارية في المقام ، من استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة ، أو أصالة الحل التي عرفت التعويل عليها.
ومثل ذلك ما عن شارح الروضة من أن اللازم البناء على الحرمة ، لأن المحللات محصورة ، فإذا لم يدخل الحيوان في المحصور منها كان الأصل حرمة لحمه.
للإشكال فيه بأنه ..
إن اريد من عدم دخوله في المحصور العلم بعدم دخوله فيه ، بأن يفرض كون الحل محصورا بعناوين خاصة ، كالبقر ، والغنم ونحوهما ، ويعلم بعدم دخول الحيوان الخاص فيها ، فيعلم بحرمته ، ويراد من الأصل حينئذ هو عموم الحرمة المستفاد من الحصر المذكور ، لا الأصل المقابل للدليل الجاري مع الشك.
ففيه : أنه لا دليل على الحصر بالنحو المذكور ، وأدلة تحليل الامور
المذكورة لا ظهور لها فيه ، بل ظاهر أدلة تحريم كثير من الامور أن تحريمها لجهة تخصها ـ كالمسخ ـ لا لعدم دخولها في العناوين التي حصر بها التحليل.
وإن اريد من عدم دخوله في المحصور الشك في دخوله فيه ، فقد يوجه بأن ظاهر قوله تعالى اسمه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...) حصر المحلل في الطيبات ، فالشك في حلية الحيوان راجع إلى الشك في كونه طيبا ، فيحرم ظاهرا.
لكنه يندفع .. أولا : بأن عطف صيد الجوارح على الطيبات شاهد بعدم كون المراد بالطيب الطيب بذاته في مقابل الخبيث بذاته ـ كالخنزير ـ ليمكن الشك في صدقه على بعض الحيوانات ـ كالأرنب ـ بل الطيب العرضي ، وهو المذكى بالذبح ، كما يشهد به ما في مجمع البيان قال : «وعن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالا : إن فينا رجلين لهما ستة أكلب ، تأخذ بقرة الوحش والظباء ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت ، وقد حرم الله الميتة ، فما ذا يحل لنا من هذا؟ فانزل الله
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ...).
ولا أقل من إجمال الطيبات على ذلك المانع من الاستدلال بالآية ، ولا سيما مع أشرنا إليه من الاشكال في عموم حل الطيبات.
وثانيا : بأن الشك في صدق الطيب ـ لو تم الحصر ـ لا يقتضي البناء على التحريم ظاهرا ، بل على الحل ، لأنه مقتضى الأصل.
ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم كون الحيوان طيبا ، إذ لا يبعد كون الطيب من لوازم الماهية ، فلا يحرز سبق عدمه في الحيوان ولو كان أزليا. فتأمل. نعم ، بناء على أن تعليق الحل على أمر وجودي يقتضي البناء على عدمه عند عدم إحرازه ، كما تقدم في التنبيه الأول من بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد يتجه البناء على الحرمة.
وإن استشكل فيه بعض الأعاظم على ذلك أيضا بوجه لا يهم الكلام فيه بعد ما تقدم من ضعف المبنى المذكور.
وثالثا : بأن ذلك لو تم اقتضى البناء على الحرمة في غير اللحوم ، ولا يظن من أحد الالتزام به.
ودعوى : اختصاص الحصر في الآية باللحوم. غير ظاهرة المأخذ.
وبالجملة : كما لا مجال للرجوع إلى عموم الحل في اللحوم لا مجال للرجوع إلى عموم الحرمة فيها ، بل المرجع فيها أصالة الحل بعد ما تقدم من عدم جريان استصحاب الحرمة. فلاحظ.
هذا تمام الكلام في الصورة الاولى.
وأما الثانية ، فالكلام فيها يبتني على امور ينبغي التعرض لها في المقام ..
الأول : اختلفوا في حقيقة التذكية ، فذهب المحقق الخراساني وبعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما إلى أنها أمر مركب من الذبح والتسمية وغيرهما مما يجب شرعا ، فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها وتردد مفهومها بين الأقل والأكثر.
وذهب سيدنا الأعظم قدّس سرّه وشيخنا الاستاذ وبعض مشايخنا إلى أنها أمر بسيط مترتب على فعل المكلف المذكور ، فالذبح وغيره مقدمة توليدية ، وليس متحدا مع التذكية مفهوما ، فلا يكون الشك في اعتبار شيء فيها موجبا لإجمالها بل لإجمال سببها.
وقد استدل بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما على ما ذكراه بقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، لأن نسبة التذكية للفاعلين تدل على أنها من فعلهم.
وفيه : أن ذلك إنما يدل على أن التذكية مصدر فعل متعد مستند للمكلف ، وهو مما لا يظن بأحد إنكاره بملاحظة هيئتها ، لكنه لا ينفع في كون مفهومها
مركبا ، لإمكان كونها فعلا توليديا للمكلف ينطبق على الذبح ونحوه مما يكون فعلا له بالمباشرة بلحاظ ترتب أثره وهو الذكاة ، فيكون مفهومها بسيطا منتزعا من الأثر المذكور ، نظير : التطهير ، والاحراق ، والتحسين.
وبعبارة اخرى : لا إشكال في أن التذكية فعل للمكلف يقتضي استناد الذكاة إليه ، وإنما الإشكال في أنها متحدة مفهوما مع الذبح ونحوه بحيث تكون الذكاة هي الانذباح ، وهو فعل المكلف بالمباشرة ، فتكون أمرا مركبا ، كغسل الثوب من البول مرتين ، أو أن صدقها على الذبح ونحوه بلحاظ كونه سببا للذكاة فهي فعل المكلف بالتسبيب ، وتكون أمرا بسيطا مفهوما ، كالتطهير المترتب على غسل الثوب ، والآية الكريمة ونحوها من الاستعمالات الشرعية لا تنهض بإثبات الأول ، لصحة النسبة في الثاني أيضا بلا تجوز.
نعم ، قد يستشهد لما ذكروه بما في كلام غير واحد من اللغويين من أنها الذبح ، كما في الصحاح ، ولسان العرب ، والقاموس وغيرها ، أو الذبح والنحر ، كما في نهاية ابن الأثير ، ومجمع البحرين.
لكن من القريب تسامحهم في التعريف المذكور بأن يكون ذكرهم الذبح والنحر من حيث كونهما موجبين للتذكية وسببا لها ، لا لاتحادهما معها مفهوما ، كما يشهد به ما في مفردات الراغب : «وذكيت الشاة ذبحتها ، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه ، دون وجه» فإنه صريح في أن اطلاق التذكية على الذبح من حيث كونه سببا لها.
ويؤيده عدم مناسبة الذبح والنحر مفهوما لبقية المعاني المذكورة لمادة التذكية ، من ذكاء النار ، وذكاء الفهم وذكاء الرائحة ونحوها ، لبعد الاشتراك جدا.
ويشهد بما ذكرنا أيضا ما في لسان العرب عن بعضهم : «وأصل الذكاة في اللغة كلها إتمام الشيء ، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم ، وهو تمام السن. قال : وقال الخليل : الذكاء في السن أن يأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استتمام
القوة ...» ، وقريب منه في مجمع البيان.
وكأن إطلاق التذكية على الذبح والنحر بلحاظ ذلك ، كما يشهد به ما في لسان العرب : «يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها. وكذلك قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ذبحه على التمام» ، وقريب منه ما عن ابن الأنباري ، وحيث أنه لا معنى لتمامية الذبح إلا بلحاظ ترتب الأثر المطلوب عليه ، تعين كون إطلاق التذكية عليه بلحاظ ترتب أثره المطلوب منه من رفع خباثة الموت وقذارته المرتكزة في أذهان العرف والمتشرعة.
وبالجملة : لا مجال للاستشهاد بما ذكره اللغويون على أن التذكية مفهوما نفس الذبح والنحر مع تمام ما يعتبر شرعا ، بل تنزيل كلامهم على كون هذه الامور سببا لها قريب جدا.
بل مقتضى الجمود على ما تقدم منهم كون جميع ما اعتبر شرعا من القيود زيادة على الذبح والنحر خارجا عن التذكية زائدا عليها ، لا مقوما لها ـ كما ادعاه من عرفت ـ بل يلزم كون إطلاق التذكية والذكاة في غير مورد الذبح والنحر ـ كما في صيد البر والبحر والجراد وقتل الحيوان الممتنع ـ شرعيا تنزيليا لا حقيقيا ، ولا يمكن الالتزام بذلك.
فلا بد إما من تنزيل كلام اللغويين على ما تقدم ، أو البناء على تصرف الشارع في معنى التذكية والخروج بها عما ذكروه.
فالذي ينبغي أن يقال : الظاهر أن الذكاة عند الشارع نحو من الطهارة ، كما يشهد به التأمل في الاستعمالات الشرعية الكثيرة ، مثل ما في غير واحد من النصوص من إطلاق الذكي على ما لا تحله الحياة من أجزاء الحيوان (1) ، وما عن الباقر عليه السّلام : «ذكاة الأرض يبسها» (2) ، وما عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «غسل الصوف
__________________
(1) الوسائل ، ج 16 باب 33 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.
(2) راجع نهاية ابن الاثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة (ذكا).
الميت ذكاته» (1) ، وما في صحيح الحلبي ، سألته عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال : «إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون ذكية» (2) ، وما في غير واحد من النصوص من إطلاق الذكي على الجلد ، مثل ما ورد في الكيمخت والخفاف والفراء المأخوذة من المسلمين (3) ، وما ورد من إنكار ما عليه بعض العامة من أن دباغ جلد الميتة ذكاته (4) ، ومثلها ما تضمن إطلاقه على المسك (5) ، وغير ذلك مما يظهر منه أن الذكاة نحو من الطهارة والنظافة.
وكأن إطلاق الذكاة على المعنى المذكور بلحاظ تشبيهه بالنور الذي هو كالنار يوصف لغة بالذكاء ، ومن ثمّ سميت الشمس (ذكاء) ، كما أشار إليه في الجملة شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) ، أو بلحاظ ملازمة الطهارة للنمو والبركة ، فيناسب التمام الذي تقدم رجوع الذكاة إليه في أصل اللغة.
نعم ، ليست الذكاة خصوص الطهارة المقابلة للنجاسة المعروفة ، بل قد يراد بها الطهارة المذكورة ، كما في ما تقدم في الصوف والسن ، ولعله إليه يرجع ما تقدم في اليبس ، ولو مجازا من حيث مشابهة اليابس للطاهر في عدم التنجيس.
كما قد يراد بها عند مقابلتها بالموت أمر آخر ، وهو الخلوص من خبث الموت وقذره المرتكز في أذهان العرف والمتشرعة ، وهو يختلف باختلاف الحيوانات ، فحيث كان الموت في ما له نفس سائله موجبا لنحو من الخبث يستلزم تنجسه كانت ذكاته ملازمة لخلوصه من التنجس ، وحيث كان في غيره
__________________
(1) الوسائل ، ج 2 باب 56 ، من أبواب النجاسات ح 5.
(2) الوسائل ، ج 2 باب 68 ، من أبواب النجاسات ح 5.
(3) الوسائل ، ج 2 باب 50 ، من أبواب النجاسات وباب : 55 من أبواب لباس المصلي.
(4) راجع الوسائل ، ج 2 باب 61 ، من أبواب النجاسات.
(5) الوسائل ، ج 3 باب 41 ، من أبواب لباس المصلي ح 2.
موجبا لنحو آخر من الخبث يقتضي الاجتناب عنه في بعض الامور ، كالأكل أو اللبس أو الصلاة أو نحوها كانت ذكاته ملازمة لعدم ترتب الآثار المذكورة ، وليس هذا لاختلاف مفهوم الذكاة ، بل لاختلاف خصوصياتها ، وليست هي إلا الطهارة والنظافة ، كما ذكرنا.
الأمر الثاني : اختلفوا في قبول بعض الحيوانات للتذكية ، كالمسوخ والحشرات ، وربما قيل : إن الأصل قبول كل حيوان لها إلا ما خرج بالدليل ، كالإنسان ونجس العين ، بل عن الحدائق : «لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في ما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة يقع عليه الذكاة».
وقد يستدل عليه ..
تارة : بما دل على حلية ما أمسك الكلاب أو ذكر اسم الله عليه وما يصطاد بالسيف أو الرمح أو نحوهما ، وغير ذلك مما ورد في بيان كيفية التذكية ، فان مقتضى إطلاقها تأثيرها للتذكية في كل حيوان.
واخرى : بعموم حلية الحيوانات ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...)(1) لتوقف الحلية على التذكية.
لكن الإجماع لم يثبت بنحو معتد به بعد معروفية الخلاف في كثير من الحيوانات ، فقد ذهب في الشرائع إلى عدم وقوع التذكية على المسوخ ـ كالفيل والدب والقرد ـ والحشرات ـ كابن عرس والفأرة ـ وحكى في الجواهر الثاني عن المشهور ، بل ربما حكي الأول عنهم أيضا ، وعن المفيد والشيخ في الخلاف وسلار وابن حمزة عدم وقوعها على السباع ، كالأسد والنمر.
وأما ما ورد في شرح التذكية فلا ينهض بإثبات المطلوب ، إذ لم أعثر على دليل شارح لكيفية التذكية من جميع الجهات ليكون إطلاقه نافيا لخصوصية
__________________
(1) سورة الأنعام : 145
بعض الحيوانات ، بل غالب الأدلة وارد لبيان اعتبار بعض الامور فيها ، كالتسمية وفري الأوداج ونحوها ، وهو إنما يقتضي عدم تحقق التذكية بدونها لا تحققها معها في كل حيوان.
بل ما تضمن جواز الأكل مما ورد عليه بعض الأسباب ـ كالأدلة المشار إليها ـ وارد في كيفية التذكية بعد الفراغ عن حلية الحيوان ، فضلا عن قبوله للتذكية ، فلا يدل على قابليّة شيء من غير المأكول لها ، فضلا عن عموم قابلية الحيوانات لها.
وأما عموم حلية الحيوانات فقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه بأنه مقيد بما دل على اعتبار التذكية في حل الحيوان ، مع أن الآية الشريفة قد استثني فيها الميتة ، وهي غير المذكى ، كما يفهم من جملة من النصوص ، فلا ينهض العموم بإحراز التذكية مع الشك في القابلية ، لأن العام لا يحرز عنوان الخاص.
ويندفع : بظهور العموم في المفروغية عن قبول جميع الحيوانات للتذكية ، وأن صيرورتها ميتة من حالاتها غير اللازمة ، ولذا احتاج الخنزير إلى الاستثناء بالخصوص.
وبعبارة اخرى : المستفاد بعد الجمع بين العموم المذكور وأدلة التقييد أن التخصيص بالتذكية من سنخ التخصيص الأحوالي لا الافرادي بلحاظ بعض أنواع الحيوان. فتأمل.
فالعمدة في الإشكال ما تقدم من أن كثرة التخصيص في العموم المذكور مانعة من الاستدلال به.
مع أنه لا ينفع في غير المأكول ، لخروجه عن العموم تخصيصا ، فكما لا يكون العموم حجة في حلية أكله لا يكون حجة في إثبات قابليته للتذكية ، إلا بناء على أن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ـ بسبب التخصيص أو غيره ـ لا يوجب سقوط الدلالة الالتزامية عنها ، وهو خلاف التحقيق.
هذا ، وقد يستدل ببعض النصوص في المقام ..
منها : موثق ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السّلام : «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره ، وبوله ، وشعره ، وروثه ، وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح ، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه» ، لظهوره في قابلية ما لا يؤكل لحمه للتذكية وأنه قد يتصف بها بالفعل وقد لا يتصف.
وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه : بأن الجمود على العبارة يقتضي أن يكون الذبح موجبا للذكاة تارة وغير موجب له اخرى ، وهو ملازم لعدم قابلية بعض الحيوانات للتذكية.
بل ذكر شيخنا الاستاذ أنه ظاهر في ذلك ، لظهوره في أن الذبح مفروض الوجود في حالي التذكية وعدمها.
وفيه : أن ظاهر الحديث كون حصول التذكية بالذبح وعدم حصوله به حالتين متبادلتين على الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كتبادلهما على الحيوان الذي يؤكل لحمه ، وذلك إنما يكون بأن يراد من عدم التذكية بالذبح عدم ذبحه بالوجه الشرعي بل يموت بوجه آخر ، لا عدم تذكية الذبح له مع حصوله ، وإلا كان ذلك لازما في بعض الحيوانات ، وكان المناسب أن يقال : كان مما يذكيه الذبح أولا ، أو يقال : كان الذبح مذكيا له أو لا.
وبعبارة اخرى : الظاهر أن المقابلة بين فعلية التذكية في الحيوان وعدمها ، المستلزم للمفروغية عن قابليته لها ، لا بين قابليّة التذكية وعدمها ، الراجع إلى عدم قابلية بعض الحيوانات لها.
هذا ، ولا يفرق في دلالة الحديث بين النسخة المتقدمة والنسخة الاخرى المتضمنة لابدال (الذبح) ب (بالذابح) ، لأن فرض الذابح ملازم لفرض الذبح ، فالتفريق بينهما ـ كما يظهر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه وصرح به شيخنا الاستاذ (دامت
بركاته) (1) ـ في غير محله فراجع وتأمل.
نعم ، يشكل الاستدلال بالحديث بأنه وإن كان ظاهرا في المفروغية عن قابلية غير المأكول للتذكية ، إلا أنه لا ينهض بالعموم ، لعدم وروده في مقام البيان من هذه الجهة ، وإنما ذكرت عرضا ، وليس المقصود بالبيان إلا مانعية غير المأكول للصلاة وتعميمها لحال التذكية.
مع أنه مختص بما يكون له لحم ، دون غيره كالحشرات. فلاحظ.
ومنها : صحيح علي بن يقطين ، سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود. قال : «لا بأس بذلك» (2) ، ونحوه صحيح الريان بن الصلت عن الرضا عليه السّلام (3) ، فإن جواز لبس جميع الجلود ملازم لقابليتها للتذكية بناء على ما هو المشهور من عدم جواز لبس الميتة مطلقا.
وقد استشكل سيدنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك : بأنه لو ثبت عدم جواز لبس الميتة كان ذلك مخصصا للصحيحين بالمذكى ، فلا يصح التمسك بهما في مورد الشك في التذكية ـ ولو للشك في القابلية ـ بناء على ما هو التحقيق من عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ويندفع : بظهور الصحيحين بقرينة الأمثلة في العموم الإفرادي بلحاظ أنواع الحيوانات ، وهو يقتضي جواز لبسها في الجملة. واستفادة التعميم من حيث التذكية وعدمها لو تمت فهي بالإطلاق. وحينئذ فلو دل الدليل على عدم جواز لبس الميتة فالمتيقن رفع اليد به عن الإطلاق المذكور ، ويكشف عن صدور الكلام للبيان من هذه الجهة ، لا عن العموم الإفرادي ، بل مقتضى الجمع
__________________
(1) كما ذكره في اصوله ـ على ما في تقريرنا لدرسه ـ فقد صرح بأنه يمكن الاستدلال بالحديث على العموم المدعى بناء على نسخة «الذابح» بخلاف نسخة «الذبح» لما تقدم. لكن يظهر منه العدول عن ذلك في الفقه ـ في تقرير درسه شرحا للعروة الوثقى في فروع مسألة نجاسة البول والغائط المطبوع ـ فقد صرح بإمكان الاستدلال حتى على نسخة «الذبح» بل عليها أولى. وإن ظهر منه في آخر كلامه التردد فيه. فراجع (منه ، عفي عنه).
(2) و (3) الوسائل ، ج : 3 باب : 5 من أبواب لباس المصلي ح : 1 و 2.
بينهما هو قابلية جميع الجلود للتذكية ، لظهور العموم في جواز لبسها في الجملة المستلزم لذلك بعد فرض اعتبار التذكية فيه. فتأمل جيدا.
فالعمدة في الإشكال في الاستدلال ـ مع اختصاصه بالحيوانات ذات الجلد القابل للبس ـ عدم ثبوت حرمة لبس الميتة وغيره من الاستعمالات والانتفاعات غير المشروطة بالطهارة ، بل الظاهر عدمه.
نعم ، من القريب جدا كون السؤال عن اللبس بالنحو المتعارف المستلزم للمساورة والمترتب على الشراء المختص بالمذكى ، فعدم التنبيه على نجاسة بعض الجلود وعدم جواز شرائها لعدم قابليتها للتذكية ظاهر في قابلية الجميع للتذكية. إلا أن في بلوغ ذلك حدّ الاستدلال إشكالا.
ومنها : خبر علي بن أبي حمزة ، سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما السّلام عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال : «لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا». قلت : أو ليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال : «بلى ، إذا كان مما يؤكل لحمه». قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال : «لا بأس بالسنجاب ، فإنه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب» (1).
وفيه : أن ظاهره الإشارة إلى ما هو المعهود من سبب التذكية وتقريره من دون تعرض لشرحه ، ولذا قال : «ما ذكي بالحديد» ولم يقل : ما ذبح به ، كما لم يتعرض لبقية ما يعتبر في التذكية ، فلا إطلاق له من حيث السبب ، فضلا عن أن يكون له إطلاق من حيث الحيوان المذكى ، ليكشف عن قابلية كل حيوان لها. مضافا إلى ضعف سنده بجهالة عبد الله بن إسحاق العلوي ومحمد بن سليمان الديلمي.
هذا ما عثرنا عليه في كلماتهم في الاستدلال على العموم المذكور.
وقد عرفت عدم نهوض دليل يعتد به في إثباته.
__________________
(1) الوسائل ، ج 3 باب 3 ، من أبواب لباس المصلي ح 3.
نعم ، ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه وجها لا يخلو عن قوة ، وحاصله : أن التذكية ليست من مخترعات الشارع الأقدس ، بل هي من المفاهيم العرفية ، وهي عبارة عما يرفع قذر الموت وخبثه المرتكز في أذهان العرف ، وقد جرى الشارع على المفهوم المذكور ، كما تقدم. ومخالفته للعرف فيها ليست لمخالفته لهم في مفهومها ، بل لمخالفته لهم في بعض مصاديقها.
وحينئذ فحيث كان للعرف طرق خاصة لتحقيق مصاديقها من حيث الموضوع القابل لها والأفعال المحصلة لها ـ من الذبح ونحوه ـ ولم يصدر من الشارع الأقدس شرح تام وتحديد كامل لمصاديقها ، فمقتضى الإطلاقات المقامية جري الشارع فيها على ما عند العرف ، إلا في المورد الذي يثبت خلافه منه وردعه عنه.
ويشهد بجميع ذلك عدم تعرض أدلة أحكام التذكية من الآيات والروايات على كثرتها لشرح مفهومها ولا لتحديد مصاديقها تحديدا كاملا ، بل التحديد من خصوص بعض الجهات ، إما لخروج الشارع عما عند العرف فيها ، كما في اعتبار التسمية والاستقبال ونحوهما ، أو لعدم وضوح ما عند العرف ، أو لاحتمال ردعه عما عندهم وغير ذلك.
بل التعبير بالتذكية في الآية الكريمة مع نزولها في صدر التشريع ظاهر في المفروغية عن التذكية مفهوما ومصداقا ، ولا يكون ذلك إلا بالجري على ما عند العرف ، ومتابعتهم.
والظاهر أن العرف يرى قابلية كل حيوان ذي نفس سائلة قابل للذبح للتذكية. وخروج نجس العين إنما هو لأن التذكية بنظر العرف والشرع مختصة برفع القذارة العرضية والخبث المسبب عن الموت ، دون الخبث الذاتي.
نعم ، لازم ذلك تخفيف التذكية لقذارته ، بحيث يكون الميت منه أشد نجاسة وخبثا من المذبوح ، فيلزم ترجيح المذبوح منه عند الاضطرار ، ولا بأس
بالالتزام بذلك. إلا أن يقوم الإجماع على خلافه ، فيكون رادعا عما عند العرف. فتأمل جيدا.
الأمر الثالث : لو شك في التذكية للشك في قابلية الحيوان لها ، أو للشك في سببها بعد الفراغ عن قابلية الحيوان لها ، فإن كان هناك دليل يقتضي حصولها عمل به وإن كان هو الإطلاق المقامي المتقدم ، بناء على تماميته. وإلا تعين الرجوع للاصول.
وحينئذ فحيث تقدم في الأمر الأول أن إطلاق التذكية على الذبح ونحوه بلحاظ ترتب الأثر الخاص عليه فلا يكون الشك في السبب أو القابلية موجبا لإجمال التذكية ، لأنها منتزعة من أمر بسيط لا إجمال فيه ، وهو الأثر الخاص ، فلا مانع من الرجوع لاستصحاب عدم التذكية ، لليقين به حال حياة الحيوان ، فيستصحب بعد موته.
ودعوى : أنه ان قيل بطهارة الحيوان قبل الذبح تعين استصحابها واحرزت الذكاة حينئذ ، لما تقدم من أنها عبارة عن الطهارة.
مدفوعة : بما تقدم أيضا من أن الذكاة ليست هي الطهارة المصطلحة المقابلة للنجاسة ، بل هي طهارة خاصة لا موضوع لها حال الحياة كي تستصحب ، بل لا تحصل في الحيوان إلا بعدها ، فمقتضى الاستصحاب عدمها.
هذا ، وأما على القول الآخر الراجع إلى كون التذكية أمرا مركبا من فعل الذابح مع الشرائط المعتبرة فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها المانع من جريان الاستصحاب فيها نفيا وإثباتا ، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع. من دون فرق بين الشك في ما يعتبر في السبب ـ كالحديد ـ والشك في القابلية ، لرجوعهما معا إلى إجمال مفهوم التذكية المانع من الاستصحاب.
وأما ما قد يظهر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه في حقائقه من التمسك عند الشك
في القابلية بأصالة عدم التذكية ، بمعنى عدم الذبح في المحل القابل ، نظير استصحاب عدم الغسل بالكر عند الغسل بماء مشكوك الكرية.
فهو مندفع : بأن القابلية ليست أمرا معتبرا في التذكية شرعا كسائر شروطها ، بل هي منتزعة من حكم الشارع بأن ذبح الحيوان ذكاته ، فما حكم الشارع عليه بأن ذبحه ذكاته يكون قابلا لها ، وما لم يحكم عليه بذلك لا يكون قابلا لها.
وإلا فعنوان قابلية الحيوان للتذكية ـ كقابلية الذابح والآلة لها ـ متفرع على التذكية ومتأخر عنها رتبة ، فكيف يكون مأخوذا في موضوعها شرعا؟! وحينئذ فمرجع الشك في قابلية الحيوان للتذكية إلى إجمال التذكية ، وأنها الذبح المطلق الصادق على ذبحه أو المقيد بغيره ، ولا مجال مع ذلك للاستصحاب.
ومنه يظهر أن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في نفس القابلية وعدمها هو عدم جريان الاستصحاب في الامور الانتزاعية غير المجعولة ، لا ما ذكره غير واحد من عدم العلم بالحالة السابقة للقابلية وعدمها ، لعدم جريان استصحاب العدم الأزلي إما مطلقا أو في خصوص المقام. لأن القابلية من لوازم الماهية ، كالكلبية والكرية ، فتأمل جيدا.
نعم ، لو اريد بالقابلية معنى في الحيوان زائد على ذاته ـ كطهارة العين ـ أمكن أخذه شرعا في التذكية. فلو علم بأخذه كان الشك في وجوده في الحيوان شكا في مصداق التذكية لا يوجب إجمال مفهومها ، وأمكن جريان استصحاب عدم التذكية حينئذ بالتقريب الذي ذكره قدّس سرّه.
بل قد يجري استصحاب عدم القابلية ولو بنحو العدم الأزلي لو فرض كون الأمر المذكور من لوازم الوجود ـ كالبياض ـ لا من لوازم الماهية التي لا يحرز عدمها في الحيوان حتى بلحاظ ما قبل وجوده ـ كالسبعية ـ.
كما أنه قد تحرز القابلية بالأصل ، كما لو فرض أنها عبارة عن طهارة
العين التي هي مقتضى الأصل.
لكن لا يخفى أنه لا مجال للوجه المذكور لتوقفه على العلم بتقييد موضوع التذكية بقيد ما والشك في وجود القيد بنحو الشبهة الموضوعية ، نظير ما لو علم بتقييد آلة التذكية بكونها حديدا مع الشك في كون السكينة حديدا ، وهو خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام في الشبهة الحكمية.
ومما ذكرنا يظهر حال ما لو علم بقابلية حيوان للتذكية ثم طرأ عليه ما يوجب الشك في بقاء قابليته لها كالجلل ، فإنه لو فرض رجوع القابلية الى أمر خاص معتبر شرعا أمكن التمسك باستصحاب القابلية ، لأنها مأخوذة شرعا في موضوع التذكية ، وكان حاكما على استصحاب عدم التذكية.
أما على ما ذكرنا فلا مجال لاستصحاب القابلية ، لأنها أمر انتزاعي ، ولا لاستصحاب عدم التذكية لإجمال المستصحب.
نعم ، لو قيل باعتبار الاستصحاب التعليقي أمكن التمسك به في المقام ، فيقال : كان لو ذبح لذكي فهو باق على ما كان. لكن التحقيق عدم اعتباره.
هذا كله بناء على أن التذكية أمر مركب ، وقد عرفت أن التحقيق أنها أمر بسيط منتزع من الأثر المترتب على الأفعال الخارجية ، وأنه مع ذلك يجري استصحاب عدم التذكية مطلقا.
ثم إنه لو فرض عدم جريان استصحاب عدم التذكية تعين الرجوع للاصول الحكمية الاخرى ، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الحيوان ، وأصالة الحل في أكله ، وغير ذلك.
الأمر الرابع : لو فرض إحراز عدم التذكية بالدليل فلا إشكال ظاهرا في ترتب حرمة الأكل والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة ، إذ لا إشكال في أن كل ما لم يذك فهو متحد مع الميتة مفهوما أو مصداقا. وأما لو احرز عدم التذكية بالأصل ففي ثبوت حرمة الأكل والنجاسة معا به ، أو عدم ثبوتهما معا به ، أو
ثبوت الحرمة دون النجاسة وجوه أو أقوال.
فذهب شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجماعة إلى الأول. إما لأن موضوع الحرمة والنجاسة ليس خصوص الميتة ، بل غير المذكى ، كما يشهد به قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، بل الإجماع على كون غير المذكى بحكم الميتة والنصوص به متظافرة.
أو لأن المراد من الميتة ، في لسان الشارع الأقدس هو ما لم يذك ـ كما يشهد به مقابلة الميتة بالمذكى في النصوص الكثيرة ـ فهي أمر عدمي يكفي في إحرازه أصالة عدم التذكية ، ولا تكون من الأصل المثبت.
ولو تم هذا فلا مجال لدعوى معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، والرجوع بعد تساقطهما لأصالة الحل والطهارة ، كما هو مبنى القول الثاني على ما قيل.
لاندفاعها : بأن الميتة بمعنى غير المذكى مقتضى الأصل ، وبمعنى آخر ليست موضوعا للأثر ليجري الأصل فيها وينهض بمعارضة أصالة عدم التذكية المفروض اقتضاؤها الحرمة والنجاسة.
بل لا مجال لفرض المعارضة المذكورة أصلا ، لأن موضوع الحرمة أو النجاسة أو غيرهما إن كان هو الميتة بما هي عنوان وجودي جرى أصالة عدم كون الحيوان ميتة ولم تجر أصالة عدم التذكية ، لعدم الأثر لها ، وإن كان هو غير المذكى ـ ولو لرجوع الميتة إليه ـ جرى أصالة عدم التذكية لا غير. فتأمل.
وذهب بعض مشايخنا إلى الثالث بدعوى : أن موضوع الحرمة هو غير المذكى ، كما يشهد به الاستثناء المشار إليه ، وكذا عدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان (1).
__________________
(1) لم يذكر هنا الوجه فيه. وكأنه لما في غير واحد من النصوص من أخذ الذكاة في جواز اللبس في الصلاة ، كموثق ابن بكير وخبر علي بن أبي حمزة المتقدمين في الأمر الثاني وغيرهما.