الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
اهل البيت
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 10:46 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     المحكم في أصول الفقه [ ج4

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:08 am

    الرَّحِيمِ
    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. ربّ اشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، أنت حسبي ونعم الوكيل ، ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه انيب.



    المقصد الثّاني
    فى الأصول العمليّة



    المقصد الثاني
    في الاصول العملية
    وهي الوظائف المقررة عقلا او شرعا للجاهل بالأحكام الذي لا حجة له عليها.
    وقد تقدم في التمهيد لهذا القسم أن الرجوع إليها مع عدم الحجة مشروط بأن لا يدل دليل على وجوب الفحص عن الحجة أو الواقع ، وإلا كان اللازم الفحص أولا ثم الرجوع إليها بعد اليأس عن الظفر بهما ، لأن دليل وجوب الفحص يكون واردا على الأصل العقلي ومخصصا لدليل الأصل الشرعي ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
    وينبغي التمهيد لمحل الكلام بتقديم امور ..
    الأمر الأول : أنه تقدم في الفصل الثالث من مباحث القطع التعرض لحقيقة الاصول الشرعية.
    وأما الاصول العقلية فهي متقومة بحكم العقل بالتنجيز والتعذير ، ومرجع الأول إلى تحسين العقاب على مخالفة التكليف الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لاحتمال الضرر المقتضي للحذر ، ومرجع الثاني إلى تقبيح العقاب عليه المستلزم للأمن منه بضميمة العلم بعدم خروج الشارع عن مقتضى الحكم المذكور ، فلا يبقى معه موضوع للحذر.
    نعم ، حكم العقل بالتعذير والتنجيز ..


    تارة : يكون بسبب الجعل الشرعي لما يستتبعهما من الحجة أو الأصل.
    واخرى : يكون استقلالا منه لمحض الشك وعدم البيان الشرعي.
    والمراد بالأصل العقلي هو الثاني. ومن ثم كان الأصل الشرعي واردا على الأصل العقلي رافعا لموضوعه.
    هذا ، ولو كان مفاد البيان الشرعي محض الإرشاد لحكم العقل والجري عليه كان مؤكدا له ، لا رافعا لموضوعه. ولا يكون البيان الشرعي حينئذ متعرضا لأصل شرعي ، لينافي ما ذكرنا من ورود الأصل الشرعي على العقلي.
    الأمر الثاني : أنه لا ريب عندهم في تقديم الطرق والامارات على الاصول عقلية كانت أو شرعية ، وأن الرجوع للاصول مختص بصورة عدم الحجة في الواقعة.
    كما لا إشكال في أن تقديم الحجج على الاصول العقلية بالورود الراجع إلى ارتفاع موضوعها بها ، كما أشرنا إليه في الأمر الأول.
    والكلام إنما هو في أن تقديم الحجج على الاصول الشرعية بالورود أو الحكومة أو التخصيص. والكلام في ذلك موقوف على النظر في أدلة الاصول ، ومن ثمّ كان المناسب لذلك بعد الكلام في الاصول والنظر في أدلتها.
    وأما ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سرّه من أن مؤديات الطرق والحجج لما كانت هي الأحكام الواقعية ، ومؤديات الاصول هي الأحكام الظاهرية ، فحيث تقدم في أول مباحث الحجج عدم التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، لتقدم الاولى رتبة على الثانية ، لأن موضوع الأحكام الظاهرية هو الجهل بالاحكام الواقعية تعين تقديم الطرق على الاصول ، لارتفاع موضوع الاصول بالطرق.
    فهو لا يخلو عن إشكال ، لأن مدعي التعارض والتنافي بين الاصول والطرق لا يدعي التنافي بين الأصل ونفس الطريق ، الذي يكون مؤدّاه حكما

    واقعيا ، بل التنافي بين دليل الأصل ودليل حجية الطريق ، ومن الظاهر أن مفاد دليل حجية الطريق ليس حكما واقعيا ، بل ظاهري ، كمؤدى دليل الأصل.
    وبالجملة : عدم التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية لا يستلزم تقديم الطرق على الاصول ، إذا المعيار في تقديم الطريق على الأصل تقديم دليل حجية الطريق على دليل الأصل ، ومن الظاهر أن مفاد الدليلين معا حكم ظاهري لا واقعي ولذا لو فرض أخذ عدم جريان الأصل في موضوع حجية الطريق ، بحيث يكون جريان الأصل رافعا لموضوعها لزم تقديم الأصل عليه ، وإن كان مؤدى الأصل حكما ظاهريا ومؤدى الطريق حكما واقعيا ، كما تقدم في أواخر الكلام في المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد.
    الأمر الثالث : الاصول العملية التي اهتم المتأخرون بتنقيح مجاريها وتبويبها أربعة : البراءة ، والاشتغال ، والتخيير ، والاستصحاب. وهي تشترك في الجريان في الأحكام التكليفية. ولم يتعرضوا لأصالة الطهارة ، مع أنها تجري في الشبهات الحكمية أيضا ، فهي من المسائل الاصولية.
    إما لما قيل من أنها من الاصول المتفق عليها ، فلا تحتاج إلى الاستدلال.
    أو لانصراف اهتمامهم بالشك في الأحكام التكليفية ، لأهميتها وكثرة الابتلاء بها ، بخلاف الطهارة ونحوها من الأحكام الوضعية ، فإنه يقل الابتلاء بها.
    أو لتخيل كون الطهارة كسائر الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، فهي راجعة إليها ، فيكون الشك فيها شكا في الأحكام التكليفية ، التي هي مجرى الاصول المتقدمة. ولعله إليه يرجع ما عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه من رجوع أصالة الطهارة إلى أصالة البراءة.
    أو لتخيل كونها من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، لا من الأحكام الشرعية ، فالشبهة فيها موضوعية لا حكمية.
    ولعل الأقرب في وجه إعراضهم هو الثاني.

    هذا ، والمقصود بيان وجه إعراضهم عن تحريرها ، لا تصحيح الإعراض المذكور ، فلا يهم كون هذا الوجه كأكثر الوجوه أو كلها موردا للإشكال ، كما تعرض لذلك غير واحد بما لا يسعنا إطالة الكلام فيه.
    ثم إن قاعدة : (ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسده) ، وإن كانت تنفع في كثير من الشبهات الحكمية وتقع في طريق الاستنباط ، إلا أنها إما أن تكون قاعدة اجتهادية واقعية ، أو ظاهرية راجعة إلى استصحاب عدم الضمان ، وليست أصلا برأسه ، وكذا أصالة اللزوم في العقود.
    الأمر الرابع : تقدم في أوائل الفصل الثالث من مباحث القطع أن عموم الأحكام الواقعية لحال الجهل بها هو مقتضى إطلاق أدلتها أو عمومها ، خلافا لما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من قصور إطلاقها عن ذلك ، وان ثبوتها أو ارتفاعها محتاج إلى جعل آخر متمم للجعل الأول تابع لعموم ملاكها وقصوره.
    هذا كله في ثبوتها واقعا. واما الحكم الظاهري الثابت في حال الجهل بها ، الذي هو مفاد الأصل فهو حكم آخر أجنبي عن الحكم الواقعي ، محتاج الى جعل آخر غير جعله ، لا دخل له به ، وليس متمما له ، لأنه من سنخ آخر غير سنخه ، ومجرّد تبعيته لأهمية ملاكه فى الجملة ـ كما فى الاحتياط والبراءة ـ إنما يقتضي كونه حكما طريقيا. لا أنه مجعول بجعل متمم لجعل الحكم الواقعي بعد ما أشرنا إليه من اختلاف سنخهما.
    فما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن امتناع عموم جعل الأحكام الواقعية لحال الجهل بها يقتضي جعل الحكم الظاهري بجعل آخر متمم للجعل الأول ، نظير جعل الأمر بقصد التقرب ، بناء على مسلكه ، خلط بين ثبوت الحكم الواقعي حال الجهل وجعل الحكم الظاهري حاله. فراجع ما ذكره في حديث الرفع وتأمل جيدا.
    الأمر الخامس : أشار غير واحد إلى مسألة : (الأصل في الأشياء الحظر

    أوالإباحة) ، ولا يخلو المراد بها عن إجمال ، ويستفاد منهم حملها على أحد وجوه ..
    الأول : أن يكون النزاع في أنه مع قطع النظر عن جعل الحكم الشرعي ، فهل يحكم العقل بإباحة الأفعال أو المنع عنها؟ بمعنى : أن الفعل هل يكون منشأ لاستحقاق العقاب عقلا ما لم يرخص فيه الشارع ، أو لا يكون كذلك ما لم يمنع عنه الشارع.
    الثاني : أنه بعد فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة فهل الأصل كون الحكم هو الإباحة أو الحظر ، على أن يكون المراد بالأصل هو الوجه الواقعي الذي يكون عليه الشيء لو خلي وطبعه ، فتكون هذه القاعدة من القواعد الاجتهادية الواقعية. وربما يظهر هذا مما عن المحقق القمي قدّس سرّه.
    الثالث : أنه مع فرض ورود الأحكام من الشارع والجهل بها فهل يحكم العقل بجواز الإقدام على الفعل ما لم يثبت المنع الشرعي ، أو بالمنع ما لم يثبت الترخيص الشرعي؟ فتكون من القواعد الظاهرية العقلية الجارية مع الجهل بالحكم الشرعي. وهذا هو الظاهر من الفصول.
    أما على الأول ، فتكون القاعدة أجنبية عما نحن فيه من النزاع في البراءة والاشتغال ، لكون موضوع النزاع المذكور الشك في الحكم الشرعي ، والقاعدة واردة في ظرف عدمه.
    إلا أنه لا يبعد حينئذ ملازمة القول بالحظر للقول بالاشتغال العقلي ، إذ من البعيد جدا الالتزام بعدم جواز الإقدام مع فرض عدم الحكم الشرعي ، وجوازه مع فرض الشك ، بل منع الإقدام مع عدم الترخيص الشرعي يناسب المنع منه مع الشك فيه جدا.
    نعم ، لا ينافي القول بالحظر الالتزام بالبراءة الشرعية ، كما أن القول بالإباحة في القاعدة المذكورة لا يلازم البراءة العقلية ، فضلا عن الشرعية فى

    المقام بعد فرض ورود الحكم الشرعي ، إذ لا بعد في الالتزام بالاحتياط فيه شرعا أو عقلا ، مع الإباحة والسعة في فرض عدم وروده.
    وأما على الثاني ، فالتباين بين المسألتين ظاهر جدا ، لكون الاولى واقعية والثانية ظاهرية ، إلا أنه لا يبقى للثانية موضوع مع الاولى ، إذ لا موضوع للأصل مع الدليل الاجتهادي ، فيكون النزاع في الثانية مع البناء على أحد الوجهين في الاولى علميا محضا ، من دون فرق بين الاحتياط والبراءة الشرعيين والعقليين.
    نعم ، لو فرض اختصاص القاعدة الاولى بالشبهة التحريمية يظهر أثر الثانية في غيرها.
    وأما على الثالث ، فالمسألة المذكورة عين مسألة البراءة والاحتياط العقليين ، وإنما تباين مسألة البراءة والاحتياط الشرعيين لا غير. كما أنه لو فرض اختصاصها بالشبهة التحريمية كانت مسألة البراءة والاحتياط العقليين أعم منها.
    هذا ، وحيث كانت هذه المسألة على الوجهين الأولين مما له الدخل في ما نحن فيه كان المناسب التعرض لما هو الحق عليهما.
    فنقول : لا ينبغي الريب في أن الحق على الوجه الأول هو الإباحة ، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع الشرعي.
    ومجرد ملكه تعالى للمكلف ولأفعاله لا يقتضي عقلا إلا سلطانه على منعه ونفوذ تشريعه في حقه ، لا امتناعه عما لم يرخصه فيه. ومن ثمّ كان المرتكز عرفا احتياج المنع إلى الجعل والبيان.
    ولا مجال لقياس ذلك بالملكية الاعتبارية ، حيث أنها تقتضي ارتكازا حرمة التصرف في المملوك ما لم يرخص فيه المالك ، بل ما لم يثبت الترخيص منه. لأن مصحح اعتبار الملكية عرفا ترتب أحكام الملك الارتكازية شأنا ، ومنها استقلال المالك بالتصرف في الملك وتوقف تصرف غيره فيه على إذنه ، كما هو الحال في جميع الأحكام الوضعية ، فإنها وان كانت مستقلة بالجعل غير

    منتزعة من الأحكام التكليفية ، إلا أن مصحح اعتبارها ترتب بعض الأحكام المناسبة لها شأنا واقتضاء ، وهذا بخلاف الملكية الثابتة له تعالى ، فإنها سنخ آخر لا تقتضي عقلا إلا ما ذكرنا من سلطانه تعالى على المنع.
    على أن الوجه المذكور مبتن على فرض خلو الواقعة عن الحكم ، وهو فرض لا واقع له.
    وأما على الوجه الثاني ، فالظاهر هو التوقف ، ولا طريق لإثبات أحد الحكمين.
    ومجرد ملكه تعالى للعبد وأفعاله لا يقتضي الحرمة الواقعية الشرعية ..
    أولا : لعدم الدليل على حرمة التصرف شرعا مع مثل هذه الملكية الحقيقية منه تعالى ، وإنما ثبتت حرمة التصرف من غير إذن المالك مع الملكية الاعتبارية بدليل خاص.
    وثانيا : لاحتمال ترخيصه تعالى واقعا.
    كما لا مجال للاستدلال على الإباحة بأنها منفعة خالية عن أمارات المفسدة ، كما عن القوانين. لعدم كفاية ذلك ـ لو تم ـ في إثبات الاباحة الواقعية.
    وأما الوجه الثالث ، فحيث كان راجعا إلى محل الكلام فيظهر الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.
    الأمر السادس : عرفت أن المهم في المقام هو الكلام في الاصول الأربعة. وقد اهتم غير واحد بتحديد مجاريها قبل البحث عنها ، وهو تكلف لا داعي له ، لأن التحديد المذكور يبتني على الكلام فيها وفي أدلتها ، وهو يختلف باختلاف الأنظار ، فالأنسب الإعراض عن ذلك ، وإيكاله إلى ما يظهر بعد الكلام فيها والانتهاء منها ، إن شاء الله تعالى.
    نعم ، ينبغي التعرض هنا لمنهج البحث وتبويبه ...
    فنقول : بعد فرض عدم قيام الحجة في الواقعة ..

    فتارة : لا تؤخذ الحالة السابقة في الوظيفة العملية ، بل لا يلحظ فيها إلا الشك المفروض.
    واخرى : تؤخذ الحالة السابقة زيادة على الشك. فالقسم الأول هو مجرى البراءة أو الاحتياط أو التخيير ، والثاني هو مجرى الاستصحاب.
    ثم الشك في القسم الأول ..
    تارة : يكون في أصل التكليف الإلزامي ، أعني الوجوب أو الحرمة.
    واخرى : يكون في تعيينه مع وحدة المتعلق ، وهو الدوران بين وجوب شيء وحرمته.
    وثالثة : في تعيينه مع اختلاف المتعلق ، سواء اتحد سنخه ، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام ، أم اختلف ، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.
    فهذه صور ثلاث للقسم الأول.
    وهناك صورة وقع الكلام في رجوعها للصورة الاولى أو الثالثة ، وهي الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فالمناسب إفرادها بالكلام ، فتكون صور هذا القسم أربعة.
    هذا ، وشيخنا الأعظم قدّس سرّه قد جرى في البحث في كل من هذه الصور على تقسيم البحث ..
    تارة : من حيث اختلاف موضوع الشك بلحاظ خصوصيتي الوجوب والحرمة.
    واخرى : من حيث اختلاف منشأ الشك ، حيث أنه قد ينشأ من عدم النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصّين ، أو اشتباه الموضوع الخارجي. ولذا تكثرت المسائل في كلامه حتى بلغت أربعا وعشرين.
    لكن الجهة الاولى لا تقتضي تكثير الأقسام بعد اتحاد الخصوصيتين في

    ملاك البحث ، وفي أهم أدلة المسألة ، ومجرد شيوع الخلاف في الشبهة التحريمية لا يكفي في ذلك.
    نعم ، قد يختلفان في بعض الجهات الاخرى الخارجة عما هو المهم في المقام ، لكن ذلك يقتضي التعرض لها استطرادا من دون حاجة إلى تكثير المسائل.
    وكذا الحال في الجهة الاخرى ، فإن عدم النص وإجماله وتعارض النصّين تشترك في ما هو المهم في المقام بعد فرض تحقق موضوع الأصل ، وما يمتاز به تعارض النصين من احتمال حجية أحدهما المانع من جريان الأصل ينبغي إيكاله إلى مباحث التعارض ، ولا وجه لذكره هنا ، كي يحتاج لتكثير الاقسام.
    وأما الاشتباه في الموضوع فمن الظاهر خروجه عن محل الكلام ، إذ همّ الاصولي تشخيص الوظيفة في الشبهة الحكمية الراجعة إلى الشك في الحكم الشرعي الكلي ، حيث أنها هي التي تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية.
    نعم ، ملاك البحث غالبا يعم الشبهات الموضوعية ، وإن كانت قد تنفرد ببعض الخصوصيات ، فينبغي التعرض لها استطرادا تتميما للفائدة من دون حاجة لتكثير الأقسام.
    ومن ثمّ كان ما صنعه المحقق الخراساني قدّس سرّه من اختصار أقسام البحث هو الأولى. ولذا فسيكون البحث في كل صورة من صور هذا القسم الأربعة في فصل واحد إن شاء الله تعالى.
    هذا ، والكلام في هذا القسم بفصوله الأربعة مختص بالشك في التكليف الإلزامي ، أعني الوجوب أو الحرمة ، دون بقية الأحكام التكليفية ، وإن كان ربما يلحقها الكلام في بعض الجهات الاستطرادية ، على ما قد ننبه عليه إن شاء الله تعالى.
    أما الكلام في القسم الثاني وهو ما يؤخذ فيه الحالة السابقة فإنه يجري

    في جميع الأحكام التكليفية ، بل الوضعية أيضا ، بل الموضوعات الخارجية ، وإن لم تكن مورد البحث بالأصالة.
    وحيث عرفت هذا ، فيقع الكلام في قسمين ..

    القسم الأوّل
    فى البراءة والاحتياط والتّخيير


    القسم الأول
    في البراءة والاحتياط والتخيير
    وفصوله أربعة ..
    الفصل الأول
    في الشك في أصل التكليف
    والمشهور المعروف الرجوع فيه للبراءة ، ونسب لقاطبة الاصوليين.
    وعن معظم الأخباريين أو قاطبتهم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، وعن المحدث الاسترابادي وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية أيضا ، وفي محكي كلام المحدث البحراني موافقته فيها مع إجمال النص.
    لكن في محكي كلام آخر له إطلاق الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، ونفى عنه الخلاف في الوسائل (1).
    كما أن الظاهر عدم الخلاف في الرجوع للبراءة في الشبهة الموضوعية مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية ، وإن ذهب غير واحد إلى وجوب الاحتياط في
    __________________
    (1) ج 18 ، في ذيل الحديث : 28 من باب : 12 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

    بعض الموارد ، مثل الشك في عدد الفوائت ، لتخيل كون الشك فيها في الفراغ ، لا في أصل التكليف.
    وكيف كان ، فالحق الرجوع للبراءة العقلية والشرعية مطلقا.
    وينبغي الكلام هنا في مقامين ..
    الأول : في مقتضى الأصل الأولي مع فرض عدم البيان الشرعي حتى بالإضافة للوظيفة العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.
    الثاني : في الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي.
    ولا ينبغي الخلط بينهما مع اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام.
    أما الأول : فلا ينبغي الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام ، الراجع إلى حكمه بقبح العقاب من غير بيان ، وهو المراد بالبراءة العقلية ، فإن هذا يقتضي السعة في باب التكاليف المبنية على الإلزام والاحتجاج والمؤاخذة وهو لا ينافي لزوم الاحتياط مع الاحتمال فيما لو تعلق الغرض بإصابة الواقع ، كما في الأضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.
    هذا ، ولا يبعد كون الحكم المذكور مسلما عند الكل.
    نعم ، لو فرض كون مراد القائلين بأن الأصل في الأشياء الحظر هو الأصل الظاهري ، بعد ورود الحكم الشرعي ـ الذي هو مرجع الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة عند الكلام في الأصل المذكور ـ كان ذلك منهم إنكارا للحكم العقلي المذكور. لكنه في غير محله قطعا ، لأن الحكم العقلي المذكور قطعي ارتكازي.
    والاستدلال للحظر : بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدم تصرف العبد مع الشك في إذنه ، إذ لا يجوز التصرف بملك الغير بمجرد احتمال إذنه.
    في غير محله ، كما يظهر مما سبق من أن ملكيته تعالى الحقيقية لا تقاس بالملكية الاعتبارية ، بل هي لا تقتضي إلا سلطانه تعالى على العبد بتكليفه له ،

    ولا بد في تنجز التكليف عقلا من بيان شرعي ، وإن كان بوجوب الاحتياط ، ومع عدمه فالعبد في سعة من أمره ، يقبح عقابه ومؤاخذته بمجرد الاحتمال.
    ومثله ما عن شيخ الطائفة قدّس سرّه من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الحظر ، أو الوقف : بأن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من مفسدته ، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته.
    لاندفاعه : بأن الحكم المذكور إن رجع إلى حكمه بقبح الإقدام على احتمال الضرر ، فهو لا يقتضي احتمال العقاب ، لينافي حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. وإن رجع إلى التقبيح المستلزم للحكم الشرعي المستتبع للعقاب فهو ممنوع. وقد تقدم في الوجه الأول للاستدلال على حجية مطلق الظن ما ينفع في المقام.
    وكيف كان ، فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الأخباريين ، وأن نزاعهم في المقام لا يبتني على إنكاره ، بل على دعوى المخرج عنه ، من بيان شرعي وارد عليه ، رافع لموضوعه ، على ما يأتي الكلام فيه.
    ومن ثمّ استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالإجماع من المجتهدين والأخباريين على أن الحكم في ما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ولا من حيث أنه مجهول الحكم هو البراءة ، وعدم العقاب على الفعل.
    وإن كان الاستدلال على الأحكام العقلية بالأدلة الشرعية لا مجال له ، إلا أن يكون لمجرد الاستظهار لسوق الأدلة الشرعية مساق الإرشاد للحكم العقلي المذكور.
    أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور ، كأصل شرعي أولي ، فلا يكون مرجع الاجماع إلى قبح العقاب ، ليكون إرشادا لحكم العقل ، بل إلى مجرد تأمين الشارع منه.

    لكن الاستدلال بالإجماع لا يخلو عن إشكال ، لقرب استناد المجمعين لحكم العقل المذكور ، أو لغيره مما يأتي الكلام فيه ، فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن الحكم الشرعي.
    وأما ما يأتي من الاستدلال بسيرتهم في مقام الاستدلال على الرجوع للبراءة فلعله إجماع منهم على الأصل الثانوي ، لمثل حديث الرفع ، لا على الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.
    ثم إنه قد يستدل على الأصل المذكور ـ بعد حكم العقل والإجماع المتقدمين ـ بأدلة من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1) بناء على أن بعث الرسول كناية عن وصول البيان ، لا مجرد البعث وإن لم يصل البيان ، فإن ذلك هو المناسب لظهور كون القضية ارتكازية ـ كما هو المناسب لسياقها ـ لما هو المرتكز عرفا من توقف العقاب على البيان.
    نعم ، لو كانت بصدد بيان لزوم بعث الرسل على الله تعالى لحفظ الملاكات الواقعية وإيصالها للمكلفين ، من باب اللطف الذي لا ينافي اختفاء البيان لطوارئ خارجية ناشئة من المكلفين أنفسهم ، كانت أجنبية عما نحن فيه ، إلا أنه لا يناسب إناطة العقاب به ارتكازا.
    فالإنصاف ظهورها في عدم العقاب من دون بيان ، كما هو مفاد حكم العقل في المقام.
    وقد أورد شيخنا الأعظم قدّس سرّه على الاستدلال المذكور : بأن ظاهر الآية الشريفة الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.
    __________________
    (1) سورة الإسراء : 15.

    وكأنه لما اشتهر من دلالة (كان) على النسبة في الزمان الماضي. لكن الظاهر انسلاخها فى المقام ونحوه عن ذلك ، وتمحضها لبيان أصل النسبة ، فيدل هذا التركيب على نفي النسبة المذكورة ، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع ، نظير قوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(1) ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(2) ، وقوله عزّ وجل : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(3) ، وقوله جل شأنه : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(4) ، إلى غير ذلك مما سلط فيه النفي على (كان) واريد به بيان لزوم النفي ، فيناسب المقام.
    نعم ، لو سلطت (كان) على النفي كانت ظاهرة في الزمان الماضي ، كما في قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)(5) ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)(6) ، ومنه لو قيل في المقام : «كنا لا نعذب حتى ...».
    هذا ، مع ظهور العذاب في ما يعم العذاب الاخروي أو يخصه ، ولا سيما بملاحظة سوق الآية في سياق آيات استحقاق العذاب الاخروي ، لبيان قضايا ارتكازية ، قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ...)(7).
    __________________
    (1) سورة الكهف : 51.
    (2) سورة الانفال : 33.
    (3) سورة الإسراء : 20.
    (4) سورة مريم : 64.
    (5) سورة المائدة : 79.
    (6) سورة النبأ : 27.
    (7) سورة الإسراء : 13 ـ 16

    على أنه لو تم ما ذكره قدّس سرّه فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الإخبار ، بل لبيان جريانه تعالى في العذاب على طبق الموازين العقلائية العامة الراجحة أو اللازمة من توقفه على إقامة الحجة ، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الاخروي بتنقيح المناط ، بل بالأولوية ، لأهمية العقاب الاخروي ، بلحاظ شدته ، وتمحضه في الجزاء ، الذي هو أولى بالاحتياج للحجة ، بخلاف العذاب الدنيوي ، حيث أنه قد يكون من سنخ الآثار الوضعية للأفعال وإن كانت عن عذر ، أو يكون للامتحان ، أو نحوهما مما لا يكون من سنخ الجزاء ولا يتوقف على إقامة الحجة ارتكازا. فالإنصاف أن دلالة الآية وافية جدا.
    ثم إنه ربما يقرب دلالتها على نفي الاستحقاق بما أشرنا إليه من ظهور التركيب المذكور في أنه ليس من شأن النسبة الوقوع ، بل هي لازمة الانتفاء.
    لكنه أعم من عدم الاستحقاق ، لإمكان أن يكون اللزوم بلحاظ التزامه تعالى بمقتضى اللطف وإن لم يكن واجبا ، نظير قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(1) مع وضوح الاستحقاق ، كما يشهد به قوله تعالى بعد ذلك : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...)(2)
    وكيف كان ، فيكفي في الاستدلال بالآية دلالتها على نفي فعلية العقاب وإن لم تدل على نفي استحقاقه لكونها حينئذ مؤمّنة من العقاب ، فلا يحتمل الضرر المقتضي للحذر والمستلزم لتنجز التكليف المحتمل. غايته أنها إن دلت على نفي الاستحقاق كانت إرشادا لحكم العقل المتقدم بقبح العقاب من غير بيان ، وإلا كانت دليلا على الأصل الأولي المذكور في قباله.
    بقي شيء ، وهو أنها حيث كانت دالة على الأصل الأولي ، فلا تنافي
    __________________
    (1) سورة الانفال : 33.
    (2) سورة الانفال : 34.

    وجوب الاحتياط في التكليف المجهول لو فرض دلالة الأدلة الشرعية عليه ، لأن العقاب على التكاليف حينئذ يكون بعد إرسال الرسول ، فيكون دليل وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها.
    نعم ، لو كان مفادها توقف العقاب على إرسال الرسول ببيان نفس التكليف المعاقب عليه كانت منافية كذلك ، لأن دليل وجوب الاحتياط وإن كان بيانا لوجوب الاحتياط إلّا أن العقاب ليس عليه ، لأنه حكم طريقي ، وليس العقاب إلا على التكليف الواقعي المجهول ودليل وجوب الاحتياط لا يكون بيانا له ، فينافي الآية.
    إلا أنها غير دالة على ذلك ، بل على اشتراط العقاب بالبيان في الجملة وإن كان على وجوب الاحتياط.
    ثم إن هناك بعض الآيات الأخر ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، ويظهر ضعف الاستدلال بها مما ذكره قدّس سرّه وذكرناه في تعقيب كلامه ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيها ، وإن كانت هي لا تخلو عن إشعار وتأييد للمطلب ، ككثير من الآيات الواردة في إقامة الحجة على العباد ، يضيق المقام عن استقصائها.
    وأما السنة فقد يستدل منها بأحاديث ..
    الأول : ما روي من قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (1) ، بناء على أن (ما) مصدرية ظرفية. إذ تكون الرواية حينئذ مسوقة لبيان الأصل الأولي المذكور ، الذي لا ينافي وجوب الاحتياط لدليل شرعي موجب للعلم ، لإطلاق العلم فيها لما يشمل ذلك ، ولا تدل على عدم ارتفاع السعة إلا بالعلم بخصوص الحكم الواقعي الذي هو مورد العقاب.
    نعم ، لو كانت (ما) موصولة قد اضيفت إليها السعة كانت دالة على ثبوت
    __________________
    (1) لم نعثر عليه ، سوى ما في عوالي اللئالي ج 1 ، ص 424 ، وقال النبي صلّى الله عليه وآله : «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».

    السعة بلحاظ نفس التكليف المجهول ، الذي هو مورد الأصل الثانوي ، فينافي وجوب الاحتياط المقتضي لعدم السعة بالإضافة إلى التكليف المجهول ، ولا يصلح دليل وجوب الاحتياط لرفع موضوعه ، لعدم كونه موجبا للعلم بالتكليف الواقعي ، كما تقدم قريبا عند الكلام في الآية.
    ولعل هذا هو الأقرب ، لما ذكره بعض مشايخنا من أن (ما) الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل المضارع ، وإنما تدخل على الماضي ، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الأول وجه متين ، لكنه خلاف الواقع.
    ولو سلم دخولها على فعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته ، فلا يصار إليه في غير الضرورة ، فحمل (ما) على الموصولة هو الأنسب. وإن كان في بلوغ ذلك حدّ الظهور إشكال.
    ولا سيما مع عدم خلو إضافة السعة للموصول عن تكلف ، بل نحو من الركاكة. فإجمال الرواية ودورانها بين الأصل الأولي والثانوي هو المتعين.
    نعم ، ورد في بعض نسخ الرسائل المطبوعة التي لا تخلو عن ضبط ذكر الحديث هكذا : «الناس في سعة ما لم يعلموا» ومن الظاهر أن مدخول (لم) بمنزلة الفعل الماضي ، فيتعين معه كون (ما) زمانية مثلها في قولهم عليهم السّلام : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (1) ، وغيره مما هو كثير. إلا أنه لا طريق لتعيين أحد الوجهين بعد ما قيل من عدم العثور على الحديث في كتب الأخبار.
    ومنه يظهر قصوره عن مقام الاستدلال لضعف السند. نعم ؛ في رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السّلام الواردة في سفرة وجدت مطروحة في الطريق كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها قال عليه السّلام : «فقيل يا أمير المؤمنين عليه السّلام :
    __________________
    (1) الوسائل : ج 12 ، الباب 5 من أبواب الخيار.

    لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتى يعلموا» (1) ، وهو مختص بمورد خاص من الشبهة الموضوعية ، ولعله راجع إلى أمارية أرض المسلمين على تذكية اللحم ، فيكون أجنبيا عما نحن فيه.
    الثاني : قوله عليه السّلام : ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (2) ، فإنه ظاهر في الجهالة من جميع الجهات التي هي موضوع الأصل الأولي فلا ينافي وجوب الاحتياط لدليل رافع للجهل به.
    نعم ، استشكل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو الغافلة عن الواقع ، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام.
    وكأن وجهه ظهور الباء في قوله عليه السّلام : «بجهالة» في السببية لا محض المصاحبة ، ولا يكون الجهل سببا للعمل الا مع الغافلة أو اعتقاد الصواب ، أما مع الشك والتردد فالجهل لا يقتضي الإقدام ، بل التوقف ، والإقدام يستند إلى أمر آخر من أصل أو نحوه مما يعتمد عليه الشاك في مقام العمل.
    مضافا إلى الإشكال في استعمال الجهالة بمعنى محض عدم العلم ، بل هي تناسب القصور الحاصل من الغافلة أو اعتقاد الخلاف ، كما تقدم التنبيه له في آية النبأ. فتأمل.
    الثالث : ما رواه في البحار عن الكافي عن حمزة بن الطيار ، بسند لا يخلو عن اعتبار ، عن أبي عبد الله عليه السّلام : «ان من قولنا : ان الله يحتج على العباد بما اتاهم وعرفهم ، ثم أرسل اليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ...» (3) ، فإن المنسبق منه الحصر الراجع إلى عدم الاحتجاج عليهم بما لم يعرفهم. وهو لا يدل إلا على الأصل الأولي ، إذ لو فرض دلالة الدليل على وجوب الاحتياط كان
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 17 ، باب : 23 من أبواب اللقطة ح : 1.
    (2) في الوسائل : «أي رجل ...» ج 5 ، باب : 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
    (3) الكافي ج : 1 ص 164.

    مما اتاهم وعرفهم ، فيكون موردا للاحتجاج منه تعالى عليهم بمقتضى الحديث.
    الرابع : ما عن كتاب التوحيد بسنده عن عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السّلام عمن لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : «لا» ، فانه ظاهر في بيان الأصل الأولي المذكور الذي لا ينافي وجوب الاحتياط للدليل الموجب لمعرفته. من دون فرق بين كون المراد بالشيء الأول فردا مرددا أو فردا معينا مفروضا في الخارج ، وكون المراد به العموم لأنه نكرة في سياق النفي.
    وما ذكره شيخنا الاعظم قدّس سرّه من أنه على الثاني يكون ظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا.
    مدفوع : بأن ظاهر الحديث السؤال عمن لم تتحقق له المعرفة ، لا عمن لا قابلية له للمعرفة.
    نعم ، من لا يعرف شيئا أصلا قاصر غالبا ، إلا أن ظاهر الحديث كون الجهة المسئول عنها هي عدم معرفته لا قصوره.
    الخامس : ما في ثواب الأعمال (1) ، وعن كتاب التوحيد ، بسنده عن حفص بن غياث ، سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (2) ، فإنه صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم.
    نعم ، يكفي العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه الحديث ، كما هو مفاد الأصل الأولي المذكور.
    هذا حاصل ما تيسر لنا عاجلا من الأدلة على كون مقتضى الأصل الأولي البراءة. وقد عرفت أن عمدتها ـ بعد حكم العقل ـ الآية الشريفة والأحاديث
    __________________
    (1) باب ثواب من عمل بما علم ص : 133 ، طبع النجف.
    (2) الوسائل ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 30.

    الثلاثة الأخيرة.
    وأما المقام الثاني : وهو مقتضى الأصل الثانوي ، فالظاهر أنه لا حكم للعقل فيه ، بل هو مما يختص به الشارع ، فكما يمكن عقلا جعل الشارع للبراءة يمكن جعله لوجوب الاحتياط. ولو تم وجوب الاحتياط كان رافعا لموضوع حكم العقل في المقام الأول.
    لا لكون العقاب معه عقابا على ما يعلم وورد به البيان ، إما من حيث كون دليله موجبا للعلم بوجوب الشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ أو من حيث كونه بيانا للتكليف المجهول في ظرف وجوده ـ كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ.
    لاندفاع الأول : بأن وجوب الاحتياط طريقي لا يكون موضوعا للعقاب والثواب ، بل مصححا للعقاب على التكليف الواقعي المجهول في ظرف وجوده ، وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من كونه نفسيا تكلف مخالف لظاهر أدلته جدا.
    واندفاع الثاني : بعدم صلوح دليل الاحتياط لبيان الواقع ، بل الوجه في ارتفاع موضوع حكم العقل بدليل وجوب الاحتياط أن حكم العقل مختص بما إذا لم يهتم الشارع الأقدس بحفظ التكليف الواقعي في ظرف الجهل به بايجاب الاحتياط.
    وقد تقدم تمام الكلام في ذلك في مبحث قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع. فراجع.
    وكيف كان ، فالأصل في المقام شرعي محض لا دخل للعقل به. ومن ثم ينبغي أن يستدل عليه بالأدلة الشرعية ، وقد استدل على البراءة بالأدلة الثلاثة ..
    المحكم في أصول الفقه [ ج
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:12 am

    أما الكتاب ، فبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(1) ، فقد يستدل به على البراءة بناء على أن المراد بالإيتاء في التكاليف الإعلام بها وإيصالها للمكلف فتدل على عدم التكليف بما لم يصل للمكلف ، وتكون معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية للتكليف بالواقع والمؤاخذة به مع الجهل به ، من دون أن توجب العلم به ليخرج عن موضوع الآية.
    ومجرد اقتضائها العلم بوجوب الاحتياط لا ينفع بعد عدم كونه موردا للمؤاخذة ، لكونه طريقيا ، كما تقدم.
    نعم ، لو كانت بصدد بيان توقف المؤاخذة على قيام الحجة في الجملة وإن لم تتعلق بنفس التكليف المؤاخذ به كانت مساوقة للآية المتقدمة في الأصل الأولي ، كما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    لكنها بعيدة عن ذلك ظاهرة في لزوم ايتاء نفس التكليف المؤاخذ به.
    ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن مفاد الآية إنما هو نفي الكلفة من قبل التكاليف المجهولة ، بمعنى عدم صلوحها بنفسها لإيجاب المؤاخذة ، لا نفي الكلفة عليها مطلقا ولو من قبل جعل إيجاب الاحتياط.
    لاندفاعه : بأن ظاهر الآية ليس مجرد عدم صلوح التكاليف المجهولة لتسبيب الكلفة ، كي لا تنافي تسبيب إيجاب الاحتياط لها ، بل عدم تحقق الكلفة بالإضافة إلى التكاليف المجهولة مطلقا ، فينا في مقتضى أدلة الاحتياط من تحقق الكلفة بالاضافة إليها.
    وأشكل منه ما ذكره قدّس سرّه من أن إيتاءه تعالى لما كان عبارة عن إعلامه ، وكان المراد منه إعلامه بالطرق المتعارفة التي هي عبارة عن إرسال الرسل وأمرهم بتبليغ الأحكام ، كان مقتضى الآية عدم ثبوت مسئولية التكليف مع عدم أمر
    __________________
    (1) سورة الطلاق : 7.

    الرسل بتبليغه الراجع إلى كونه مما سكت الله عنه الملازم لعدم فعليته ، ولا تدل على عدم المسئولية بالتكليف لو فرض فعليته والأمر بتبليغه ، وإنما كان اختفاؤه بسبب الطوارئ الموجبة للضياع كظلم الظالمين ونحوه.
    إذ فيه : أنه مخالف للظاهر جدا ، فإن ظاهر الإعلام هو الإعلام الفعلي ، ولا سيما مع إضافته لكل مكلف بشخصه ، لا لنوع المكلفين. ومجرد كون ذلك هو المراد بوجوب الإعلام على الله تعالى من باب اللطف ، لا يقتضي الحمل عليه في المقام.
    فالإنصاف قوة دلالة الآية بناء على أن المراد من الايتاء هو الإعلام في المقام.
    لكنه غير ظاهر ، لأن حقيقة الإيتاء الإعطاء ، فلا بد إما من حمله على حقيقته مع حمل الموصول على المال ويكون التكليف به بمعنى التكليف بإنفاقه. أو حمله على الاقدار مجازا مع حمل الموصول على الفعل ويكون التكليف به حقيقيا. وكلاهما مناسب لورود القضية مورد التعليل لقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ).
    ولعل الأول أقرب ، لما يستلزمه الثاني من اختلاف معنى الايتاء ومتعلقه في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي ظهور القضية فيه مع كون الأول ارتكازيا مثله.
    نعم ، الظاهر أن منشأ اشتراط التكليف بإنفاق المال بإعطائه هو عدم التكليف بغير المقدور ، بقرينة وروده مورد التعليل الظاهر في كونه ارتكازيا ، فيكون عدم التكليف بغير المقدور علة للقضية المذكورة ، لا أنه مؤدى بها.
    وكيف كان ، فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم التكليف بما لا يعلم.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن إيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال بإعطائه ، وإيتاء الشيء فعلا أو تركا بالإقدار عليه ، وإيتاء التكليف بايصاله

    والاعلام به.
    فيندفع : بأن الإيتاء لغة وعرفا الإعطاء ، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من الامور المذكورة موجب لحمله على غير معناه فيها ، فلا وجه للحمل عليها من دون قرينة ملزمة.
    ومن الغريب ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من صدق الإعطاء ـ الذي هو معنى الإيتاء ـ في الفعل والترك بالإقدار ، وفي التكليف بالإعلام.
    فإن أدنى تدبر في معنى الإعطاء شاهد ببطلانه.
    هذا ، مع أنه لو فرض إمكان شمول الإيتاء للإعلام بالتكليف فلا مجال له في المقام ، فإن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول ليس كعدم تعلقه بالمال أو الفعل غير المقدور ، إذ المراد بالأول عدم التعلق ظاهرا بلحاظ المؤاخذة ، لوضوح عدم كون الجهل رافعا للتكاليف واقعا ، وبالثاني عدم التعلق واقعا لامتناع التكليف بغير المقدور.
    مع أن الأول شرعي تعبدي ، والثاني إرشادي عقلي ، وحيث لا إشكال في شمول القضية للثاني بقرينة المورد كانت منصرفة عن الأول الذي هو محل الكلام.
    وأما ما قيل في وجه امتناع العموم : من أن تعلق التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول المطلق ، لأنه عينه ، وتعلق التكليف بالمال أو الفعل من باب تعلق الفعل بالمفعول به ، ولا جامع بين النسبتين ، ليمكن العموم لها.
    فقد يندفع : بإمكان تصور التكليف بالتكليف من باب تعلق الفعل بالمفعول به ، بأن يراد بالتكليف في الآية محض الكلفة المتقومة بالمسئولية والعقاب ـ التي ذكرنا انها ظاهرية ـ وبالتكليف المجهول هو الحكم الواقعي الذي يتعلق به الجعل ، ويكون موضوعا للعقاب والثواب. فتأمل جيدا.
    ثم إنه قد يتوهم صحة الاستدلال بالآية لما نحن فيه بضميمة رواية عبد

    الأعلى عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قلت له : هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال : «لا ، على الله البيان ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لا يكلف الله نفسا إلا ما اتاها».
    ويندفع : بأن المعرفة بنفسها غير مقدورة للإنسان قبل تعريف الله سبحانه ، فلا يحتاج إلى إرادة الإعلام من الإيتاء ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    فالمراد من البيان ليس بيان وجوب المعرفة ، بل بيان ما يراد معرفته بنصب الأدلة الكافية عليه ، لتتيسر المعرفة لمن يريدها ، ويكون مراد السائل أنه هل يحتاج التكليف بالمعرفة إلى نصب الأدلة من قبله تعالى على ما يراد معرفته؟ لا أنه هل كلف الناس بالمعرفة من دون أن يعلمهم بوجوبها ، ليكون مما نحن فيه ، إذ لا شاهد على ذلك ، بل المناسبة تقتضي الأول.
    نعم ، الرواية تقتضي سوق الآية لبيان عدم التكليف بغير المقدر مطلقا ولو في غير المال ، إما لدلالتها عليه بالمطابقة ، او لاستفادته منها بضميمة كون التعليل ارتكازيا ، كما ذكرناه آنفا.
    هذا ، وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه آيات أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لوضوح قصور دلالتها ، كما يظهر بمراجعة ما ذكره قدّس سرّه وذكرناه في تعقيب كلامه ، فالاقتصار على ما سبق هو الأنسب بالمقام.
    وأما السنة ، فقد استدل منها بأحاديث ..
    الأول : حديث الرفع المروي بطرق مختلفة ، ومتون مختلفة ـ أيضا ـ زيادة ونقصانا.
    منها : الصحيح المروي عن الخصال ، عن حريز عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : رفع عن امتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق [الخلوة خ. ل] ما لم ينطقوا [بنطق] بشفة».
    وعن التوحيد روايته بنفس السند مع اختلاف في المتن يسير ، وعن

    الفقيه روايته مرسلا بتفاوت لا يضر في ما نحن فيه ، ونحوه ما عن محمد بن عيسى في نوادره عن اسماعيل الجعفي. وروي بمتون آخر لا شاهد فيها (1).
    ووجه الاستدلال به : أن ظاهره بدوا كون الجهل والخطأ والنسيان سببا في رفع التكليف واقعا ، حيث تقدم في أوائل الفصل الأول من مباحث القطع إمكان ذلك في الجملة ، ولا سيما مع كون الرفع في بقية الفقرات واقعيا ، إلا أنه حيث كان ذلك منافيا لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، فلا بد من صرفه عن ظاهره بحمله على الرفع الظاهري الراجع إلى عدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لعدم وجوب الاحتياط فيه.
    بل قد يقال : إنه حيث كان الحديث واردا مورد الامتنان ، ولا امتنان في رفع التكليف الواقعي في حال الجهل أو النسيان أو الخطأ ، بل يكفي فيه الرفع الظاهري بالوجه المذكور ، فلا ظهور له في نفسه في الرفع الواقعي ، بخلاف الرفع في بقية الفقرات المذكورة ، إذ بعد عمومها للعلم بالحكم لا يتم الامتنان فيها إلا برفعه واقعا.
    نعم ، قد يشكل ذلك بصعوبة التفكيك بين الفقرات عرفا ، بل امتناعه ، لإسناد الرفع في صدر الحديث إلى التسعة بإسناد واحد ، فإما أن يراد به الواقعي أو الظاهري.
    فالأولى أن يقال : مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة الحاصلة بسببها ، والثقل الناشئ منها من العقاب ونحوه مما يترتب فعلا على الحكم ولو بضميمة وصوله ، وبيان خلاص المكلف من التبعة في الامور المذكورة.
    __________________
    (1) راجع الوسائل ج : 5 ، باب : 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، وج : 11 ، باب : 56 من أبواب أبواب جهاد النفس ، وج : 16 ، باب : 16 من كتاب الايمان.

    إلا أن ذلك مع العلم بالتكليف الواقعي أو موضوعه مستلزم عرفا لارتفاعه ، لأن بيان عدم العقاب على الشيء وعدم التبعة فيه صالح عرفا لبيان عدم التكليف واقعا ، لما هو المعلوم من تقوم التكليف بالتبعة المذكورة الراجعة إلى استحقاق العقاب ونحوه ، لتقوم التكليف بذلك وعدم صحة انتزاعه بدونه.
    أما مع فرض الجهل أو الخطأ أو النسيان فالرفع المذكور لا يستلزم عرفا ارتفاع الحكم الواقعي ، بل يقتضي التأمين من التبعة لا غير ، المستلزم لعدم وجوب الاحتياط مع الشك ، وعدم وجوب التحفظ من الخطأ والنسيان والغافلة ، ولا ملزم برفع الحكم الواقعي ، إذ لا يلغو بقاؤه في عالمه ، فإن عدم ترتب البعث والزجر عليه حينئذ لعدم الشرط وهو المنجز ، لا لقصور في الحكم.
    ودعوى : أن الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، بلا حاجة إلى رفع شرعي وراء ذلك ، وظاهر الحديث كون الرفع شرعا.
    مدفوعة : بأن سلطان الشارع على رفع موضوع حكم العقل بإيجاب الاحتياط والتحفظ من الغافلة عن التكليف الواقعي بالفحص مصحح لنسبة الرفع إليه ، فإن الرفع بالمعنى المذكور وإن لم يستند للشارع في المرتبة الاولى ، إلا أنه يستند إليه في المرتبة الثانية بعد فرض سلطانه عليه بقاء.
    وبما ذكرنا يظهر أنه لا حاجة الى إضمار المؤاخذة أو بقية الآثار ، لما في الاضمار من العناية والتعسف ، فلا مجال لتكلفه من دون ملزم به ، بل الظاهر أن ارتفاعها مصحح لإسناد الرفع للتسعة المذكورة من دون حاجة للتقدير.
    كما لا حاجة إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط ، وأن نسبة الرفع إلى الحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز ، من حيث كون منشأ رفع وجوب الاحتياط دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيره ، لأن وجوب الاحتياط هو الذي يكون رفعه ووضعه بيد الشارع ، دون المؤاخذة ونحوها من

    اللوازم العقلية.
    إذ فيه : أن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم الواقعي عرفا ولو مجازا ، بل ما ذكرناه هو الأظهر في وجه النسبة وإن كان يلزمه عدم وجوب الاحتياط ، وعدم وجوب التحفظ عن الغافلة بالفحص ، كما تقدم.
    ثم إنه قد يستشكل في الاستدلال بالحديث بدعوى : اختصاصه بالشبهة الموضوعية لوجوه ..
    الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» بقرينة بقية الموصولات هو الموضوع ، وهو فعل المكلف غير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو شرب الخل فلا يشمل الحكم غير المعلوم ، كحرمة شرب التتن.
    وفيه : أن تعلق الاضطرار وأخواته بالموضوع ليس كتعلق العلم والنسيان به ، فإن تعلق الأولين بالموضوع من حيث هو بذاته ، من دون دخل للعنوان أصلا ، غاية الأمر انه قد يكون جهة تعليلية له ، بخلاف العلم والجهل والنسيان ونحوها ، فإنها لا تتعلق بالذوات بأنفسها ، بل بها من حيثية كونها ذات عناوين ، فالعلم إنما يتعلق بأن الشيء خمر ، أو حرام ، أو مضر ، أو نحوها مما هو مفاد القضية.
    وحينئذ فاللازم ملاحظة العنوان المناسب للرفع في المقام ، وهو خصوص العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه هو الذي يكون منشأ الضيق والتبعة ، وبقية العناوين الموضوعية ـ كالخمرية والميتة ونحوهما ـ لا تكون منشأ للضيق إلا من حيث ملازمتها له ، فلا مجال لملاحظتها بأنفسها ، خصوصا مع كون العناوين الموضوعية لا جامع لها عرفا إلا من حيث اشتراكها في كونها منشأ للتكليف ، فملاحظة عنوان التكليف بنفسه أظهر وأشمل.
    فالمراد حينئذ ما لا يعلمون التكليف به إيجابا أو تحريما ، فيشمل الشبهة

    الحكمية ، إذ كما يصدق مجهول الحرمة على السائل الخاص المجهول الخمرية ، كذلك يصدق على الكلي ـ كالتبغ ولحم الأرنب ـ بل على أفراده الجزئية أيضا ، وإن اختلف منشأ الجهل ، فهو في الشبهة الموضوعية ناشئ من اشتباه الامور الخارجية وفي الشبهة الحكمية ناشئ من عدم البيان الشرعي.
    بل حيث عرفت اختلاف الامور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا مجال للاعتماد على قرينة السياق ، بل الأقرب حمل الموصول في «ما لا يعلمون» على العنوان ابتداء ، لانه الذي يصح أن يسند إليه العلم والجهل عرفا ، وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد القضية ، وحينئذ يتعين لحاظ العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المناسب للرفع كما تقدم ، وهو راجع إلى حمل الموصول على الحكم. فتأمل جيدا.
    الثاني : ما ذكره هو قدّس سرّه من أنه لو فرض تقدير المؤاخذة فالظاهر نسبتها للمذكورات بأنفسها ، كما هو مقتضى قرينة السياق مع بقية الموصولات ، فكما يقدر المؤاخذة على ما لا يطيقون يقدر المؤاخذة على ما لا يعلمون ، فيكون المراد بما لا يعلمون الموضوعات التي لا تعلم ، لأنها هي التي تكون المؤاخذة عليها ، أما الأحكام فليست المؤاخذة عليها ، بل على متعلقاتها ، وهي الموضوعات الخارجية ، فيختص الرفع بالشبهة الموضوعية.
    ويظهر الجواب عنه مما تقدم ، لما سبق من عدم ابتناء الكلام على التقدير والإضمار ، وأن رفع المؤاخذة مصحح لنسبة الرفع لنفس المذكورات من دون حاجة إلى إضمارها ، ليتعين تقدير نسبتها إلى نفس المذكورات ، مضافا إلى ما تقدم من أن تعلق العلم بالموضوعات إنما هو من حيث كونها ذات عناوين ، وأن ملاحظة عنوان التكليف حينئذ أظهر وأشمل. على أنه لا يبعد صحة نسبة المؤاخذة لنفس التكاليف بلحاظ كونها منشأ لها. فافهم.
    الثالث : ما أشار إليه غير واحد من أنه لا جامع بين الشبهة الموضوعية

    والحكمية ، لكون الجهل في الاولى متعلقا بالموضوع ، وفي الثانية بالحكم ، وإسناد الرفع إلى الأول من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، وإلى الثاني من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، والثاني في نفسه وإن كان أظهر ، إلا أن قرينة السياق تقتضي الأول.
    ويظهر الجواب عنه ـ أيضا ـ مما تقدم من أن الجهل في الشبهة الموضوعية ـ أيضا ـ يرجع إلى الجهل بالحكم وإن اختلفت مع الشبهة الحكمية في منشأ الجهل ، فهما يرجعان إلى جامع واحد.
    مضافا إلى أن الرفع حتى لو اسند إلى الحكم لا يكون حقيقيا ، لما عرفت من أن رفعه مناف لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين الجاهل والعالم ، وليس رفعه إلا ادعائيا بلحاظ رفع التبعة الناشئة منه ، وبلحاظ ذلك يصح نسبة الرفع للموضوع في بقية الفقرات.
    هذا تمام الكلام في الاستدلال بالحديث الشريف. وقد تصدى غير واحد في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطرادا ، ولا بأس بمتابعتهم في ذلك ، فيقع الكلام في امور ..
    الأمر الأول : ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى تنزيل الامور المذكورة منزلة العدم شرعا ، لعدم ترتب الأحكام والآثار الشرعية.
    وهو غير ظاهر من الحديث الشريف ، بل الظاهر ما تقدم من أن مصحح إسناد الرفع رفع تبعة الفعل أو التكليف وما يكون من شئون المسئولية المترتبة عليهما ، فيختص بالآثار التي هي من سنخ التبعة والكلفة المترتبة على الفعل أو التكليف ، كالمؤاخذة في الأحكام التكليفية ، وكوجوب الكفارة ، والحد ، ونفوذ العقد ، والإقرار ونحوها ، دون بقية الآثار ، كالنجاسة ، وتحريم الحيوان مع الخطأ في التذكية ونحوهما. من دون فرق بين الفقرات.
    غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة يستلزم في الجهل والخطأ والنسيان عدم

    وجوب التحفظ وعدم وجوب الاحتياط ظاهرا مع بقاء الحكم الواقعي ، أما في بقية الفقرات فهو مستلزم لرفع الحكم واقعا كما تقدم ، بخلاف رفع غير المؤاخذة من التبعات الشرعية ، فإن رفعه في الحديث مستلزم لتخصيص دليله واقعا ، وان كان بلسان الحكومة ، لكون الامور المذكورة من الامور الثانوية الطارئة ، فهي من سنخ الرافع ، وعلى كل حال فهي لا تثبت واقعا من دون فرق بين الفقرات ، فكما لا يجب الحد واقعا على من اكره على الزنا ، كذلك لا يجب على من وقع منه الزنا خطأ أو نسيانا أو جهلا.
    ومنه يظهر أنه لا فرق بين الجهل والخطأ والنسيان ، خلافا لما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الرفع في الأول ظاهري وفي الأخيرين واقعي ، بل هي مشتركة في ارتفاع التبعات الشرعية واقعا ، وفي ارتفاع التبعة العقلية المستلزمة لارتفاع حكم نفس الفعل ظاهرا مع بقائه واقعا ، كما تقدم.
    وعلى ما ذكرنا تنزل صحيحة صفوان بن يحيى والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام ، في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق ، والعتاق ، وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال : «لا ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : وضع عن امتي ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا» (1) ، فإن نفوذ اليمين المذكورة لما كان من سنخ التبعات الشرعية كان مرفوعا بالإكراه بمقتضى الحديث.
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «فإن الحلف بالطلاق ، والعتق ، والصدقة وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا ، إلا أن استشهاد الإمام عليه السّلام على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة».
    وبما ذكرنا يظهر الوجه في عدم سقوط الإعادة والقضاء بالإخلال ببعض
    __________________
    (1) الوسائل ج : 16 باب : 12 من كتاب الايمان حديث : 12.

    الاجزاء أو الشروط جهلا أو نسيانا أو خطأ ، فإن وجوبهما ليس من سنخ التبعة المترتبة على الاتيان بالناقص ، بل هو من باب لزوم امتثال التكليف الواقعي بوجهه الواقعي ، وعدم سقوطه بدونه عقلا أو شرعا.
    وقد أطال غير واحد في المقام بما لا حاجة إليه بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل.
    الأمر الثاني : الظاهر اختصاص الحديث بما إذا كان الرفع امتنانيا ، لأنه المنصرف منه ، خصوصا مع ظهوره في الاختصاص بالامة المرحومة ، فلا يشمل ما لو كان منافيا للامتنان في حق بعض الامة ، كما لو اكره على الإضرار بالغير ، بل يبقى التحريم في مثله.
    ولعله لأجل ذلك لا يرتفع الضمان بالاتلاف مع الخطأ ، فإنه وإن لم يبعد كون الضمان من سنخ التبعات الشرعية ، إلا أن رفعه عن المتلف مناف للامتنان في حق المالك ، فيقصر الحديث عن شمولاه.
    الأمر الثالث : الظاهر أن الحديث قابل للتخصيص ، فلا مانع من عدم الرفع في بعض الموارد للدليل الخاص ، كما ثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص في الشبهة الحكمية ، ووجوب التحفظ عن النسيان في الأحكام الكلية ، ووجوب الكفارة في بعض موارد الخطأ ، كالقتل ، فان أدلة المذكورة تكون مخصصة لعموم الحديث الشريف.
    وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من قصور الحديث عن الرفع مع التقصير في الجهل والنسيان ، لعدم منافاة فعلية التكليف للامتنان ، إذ لا يأبى العقل حينئذ عن ذلك. نعم ، لو كان التحفظ حرجيا كان مقتضى الحديث الشريف الرفع ، لأن الوضع حينئذ خلاف الامتنان.
    فهو كما ترى! لأن عدم إباء العقل حينئذ عن فعلية التكليف لا ينافي كون رفعه امتنانيا لما فيه من السعة ، كما هو الحال فيما لو كان التحفظ حرجيا ، لان

    العقل لا يمنع من التكليف الحرجي أيضا.
    ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن مثل وجوب كفارة الخطأ خارج عن موضوع الحديث الشريف ، لاختصاصه بالآثار الثابتة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الخطأ والنسيان ونحوهما مما تضمنه الحديث ، دون ما ثبت بتوسط أحد العناوين المذكورة بحيث تكون دخيلة فيه ، كما هو الحال في المقام ، وفي مثل وجوب سجود السهو.
    لاندفاعه : بأن ثبوت الكفارة المذكورة مناف للحديث ، بناء على ما تقدم من دلالته على عدم التبعة مع الخطأ.
    نعم ، بناء على دلالته على رفع الفعل تعبدا بلحاظ آثاره الثابتة له ، يتعين اختصاصه بالآثار الثابتة له بذاته في رتبة سابقة على طروء العناوين المذكورة ، لأن العناوين المذكورة تكون من سنخ الرافع ، فلا ترفع إلا ما تم مقتضيه مع قطع النظر عنها ، ويقصر عما كانت العناوين المذكورة دخيلة فيه.
    لكن عرفت الإشكال في حمل الحديث على المعنى المذكور ، فالمتعين ما ذكرنا من أن خروج هذه الموارد بالتخصيص.
    هذا ، وأما وجوب سجود السهو فالظاهر أن الوجه في خروجه تخصصا عدم كونه من سنخ التبعة الشرعية ، بل يظهر من دليله كون الإتيان به لإرغام الشيطان ، فهو حكم تعبدي ، كالنجاسة والتذكية.
    ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الحديث الشريف. والله سبحانه ولي العون والتوفيق.
    الثاني من النصوص المستدل بها في المقام : خبر زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه السّلام قال : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (1) ، فإنه ظاهر
    __________________
    (1) الوسائل ج : 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 28.

    في أن الحكم الواقعي المجهول موضوع عن المكلفين ، فيدل على عدم وجوب الاحتياط الراجع إلى تنجز الحكم الواقعي المجهول ، كما تقدم.
    نعم ، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينه وبينها بحمله على الأصل الأولي ، بأن يحمل حجب العلم على حجب العلم بما يعم الوظيفة الفعلية الظاهرية ، فتكون أدلة الاحتياط واردة عليه. فتأمل جيدا.
    هذا ، ومما تقدم في حديث الرفع يظهر عمومه للشبهة الحكمية والموضوعية.
    وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى في كتمان الحق ، فهو مساوق لما عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلفوها ، رحمة من الله لكم فاقبلوها» (1).
    وفيه : أن منشأ الظهور المذكور ..
    إن كان هو نسبة الحجب إلى الله تعالى ، فيكون كناية عن عدم إيصال الحكم للرسل أو عدم أمرهم بتبليغه ، فالظاهر أنه يكفي في النسبة المذكورة استناد الفعل إليه سبحانه تكوينا بتقدير أسبابه ولو بطريق الناس ، كما هو الحال في نسبة الرزق والابتلاء إليه تعالى ، فهو نظير قولهم عليهم السّلام : «ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر».
    وإن كان منشؤه نسبة الحجب للعباد الظاهر في إرادة جميعهم المستلزم لعدم تصدي الشارع الأقدس لبيانه ، فالظاهر أن العموم في «العباد» ليس مجموعيا ، بل انحلاليا راجعا إلى وضع التكليف عن كل من حجب عنه ، نظير
    __________________
    (1) الوسائل ج : 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 61.

    العموم في حديث الرفع والسعة ، فان ذلك هو المناسب لكون القضية ارتكازية.
    على أن ظاهر الحديث كون الحكم المحجوب تام الفعلية وصالحا للمحركية لو لا الحجب المقتضي لوضعه ، فلا يناسب حمله على الأحكام المسكوت عنها ، لقصوره عن مرتبة الفعلية وعدم صلوحها للمحركية في أنفسها.
    وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في دفع الإشكال المذكور من شمول الحديث للأحكام الواصلة للنبي صلّى الله عليه وآله التي لم يؤمر بتبليغها ، لاستناد الحجب فيها إلى الله تعالى ، فيمكن تعميم الحكم لغيرها مما بلغ به النبي صلّى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السّلام واختفى بسبب المكلفين أنفسهم بعدم الفصل ، لاشتراكها في الفعلية.
    ففيه : أن الظاهر عدم بلوغ الأحكام التي لم يؤمر النبي صلّى الله عليه وآله بتبليغها مرتبة الفعلية ، ولذا لا تتنجز لو فرض العلم بها إجمالا. ولو فرض بلوغها المرتبة المذكورة بمعنى فلا طريق لإثبات عدم الفصل بينها وبين الأحكام التي بلّغها واختفت.
    كيف! ولا يظن من الأخباريين أو غيرهم الالتزام بوجوب الاحتياط مع العلم بعدم تبليغ النبي صلّى الله عليه وآله للحكم.
    ومن ثمّ كان ظاهر المحدث الاسترابادي عدم وجوب الاحتياط في ما تعم به البلوى ، بحيث لو كان هناك حكم مخالف للأصل لظهر ، لأن عدم الدليل دليل العدم ، على ما حكاه عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في التنبيه الأول من تنبيهات المسألة الاولى من مسائل الشبهة التحريمية ، وهو ظاهر الحر العاملي في الوسائل في تعقيب الحديث الستين من الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي ، مع ظهور أن الاستدلال المذكور إنما يتم في ما فرض تبليغ النبي صلّى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السّلام له على تقدير وجوده ، لا في ما لم يؤمروا بتبليغه.


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:14 am


    الثالث : المرسل عن الفقيه : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (1). وذكر غير واحد من محشي الرسائل أن في بعض طرق الحديث : «حتى يرد فيه أمر أو نهي» : أو : «حتى يرد أمر أو نهي» كما عن أمالي الشيخ قدّس سرّه ، وعن العوالي : «قال الصادق عليه السّلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص».
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد ذكر مرسل الفقيه : «ودلالته على المطلوب أوضح من الكل ، وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم. فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ...».
    وما ذكره قريب جدا.
    نعم ، لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد الجمع بينها وبين الروايات المذكورة بحمل هذه الروايات على ما يعم ورود النهي الثانوي.
    هذا ، وقد يستشكل في دلالة الرواية بوجهين :
    الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه من انه يكفي في ورود النهي وروده إلى بعض المكلفين وإن خفي على غيرهم ، وحينئذ لا مجال للاستدلال بالحديث لاحتمال ذلك في مورد الشك بالتكليف ، إلا في الامور المستحدثة التي يعلم بعدم ابتلاء المكلفين المعاصرين لدور تبليغ الاحكام بها ، بحيث يعلم بعدم ورود النهي لأحد من المكلفين فيها.
    ولو اريد من المكلفين ما يعم المعصومين عليهم السّلام امتنع الاستدلال حتى في المسائل المذكورة. نعم ، قد يستدل بضميمة أصالة عدم ورود النهي ، وهو أمر آخر.
    __________________
    (1) الوسائل ج 18 : باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 60.

    وفيه : أن الورود والإطلاق لما كانا أمرين إضافيين فالظاهر من إطلاقهما كون غاية الإطلاق في حق كل شخص ورود النهي له ، واحتمال كون ورود النهي لبعض المكلفين رافعا للإطلاق في حق غيره ، خلاف الظاهر جدا ، خصوصا في مثل هذه القضية الارتكازية.
    هذا ، مع أن ظهور القضية في ضرب القاعدة العملية ظاهر في تيسر الاطلاع على موضوعها ، والمتيسر لكل شخص إدراك ورود النهي له لا لغيره.
    الثاني : أن ورود النهي لا يتوقف على وصوله للمكلف ، بل يكفي صدوره واقعا ، لا لأن الورود بمعنى الصدور ـ كما قد يوهمه كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ لوضوح التقابل بينهما ، بل لأن التكليف لما كان أمرا قائما بين المولى والعبد ، فهو بالإضافة إلى المولى صادر منه ، وبالإضافة إلى العبد وارد عليه ، فصدق وروده على العبد لا يتوقف على وصوله إليه ، بل يكفي فيه صدوره من المولى وجعله في ذمة العبد ، حتى كأنه أمر حمل عليه.
    ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من صدق الورود على الصدور ، وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من إمكان كونه مقابل السكوت. وحينئذ فيكون مفاد الحديث أن الأشياء في أنفسها على السعة ما لم يرد فيها نهي شرعي رافع لها.
    نعم ، لو كان المراد من الورود الورود للمكلف لا الورود عليه كان المتعين حمله على الوصول له ، لأن مجرد ثبوت النهي في ذمة المكلف لا يصحح نسبة وروده له ما لم يصل.
    ولعل هذا هو المتعين في مرسل العوالى ، لان النص مما لا ثبوت له في ذمة المكلف ، ليصدق وروده له قبل العلم به ووصوله.
    إلا أنه لا مجال له في مرسل الفقيه ، لحذف المتعلق وصلوح التكليف للأمرين ، فبلحاظ كونه أمرا ثابتا في ذمة المكلف وموجبا لمسئوليته والتثقيل

    عليه يصدق وروده وطروؤه عليه بمجرد صدوره ، وبلحاظ كونه حادثا من الحوادث الخارجية يصدق وروده بالعلم به ووصوله للمكلف ، نظير قولنا : وردني موت زيد.
    هذا ، وقد يرجح إرادة الوصول من الورود في المقام بأنه لو كان المراد من الورود ما يلازم الصدور كان الإطلاق قبله عقليا ، فيكون حكم الشارع به إرشاديا ، وهو خلاف الأصل في الحكم الشرعي ، إذ الأصل فيه كونه مولويا ، فيتعين حمله على إرادة الإطلاق الظاهري الشرعي عند الشك في ورود النهي ، وهو لا يرتفع إلّا بوصول النهي ، فيكون قرينة على أن المراد من الورود الوصول.
    وكأن هذا هو مراد بعض مشايخنا في مناقشة بعض الأعاظم قدّس سرّه في المقام. فراجع.
    وفيه : ... أولا : أن أصالة كون الحكم الشرعي مولويا مختصة بما إذا انعقد للكلام ظهور في معنى ودار الأمر فيه بين الوجهين ، بخلاف ما إذا تردد الكلام بين معنيين أحدهما لا يصلح إلا للمولوية ، والآخر لا يصلح إلا للإرشاد ـ كما في المقام ـ فإن إثبات الظهور بالأصل المذكور حينئذ لا يخلو عن إشكال أو منع.
    نعم ، لو فرض كون الحكم العقلي جليا لا يحتاج إلى بيان وإرشاد كان ذلك قرينة على صرف الكلام عن الإرشاد إليه ، إلا أنه لم يتضح بعد كون الحكم العقلي بالإطلاق في المقام بالنحو المذكور. كيف وقد وقع الكلام فيه؟! كما سبق عند الكلام في أصالة الحظر أو الاباحة.
    اللهم إلا أن يدعى عدم الفائدة ببيانه بعد فرض ورود الشرع وعدم خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية ، فلا ينبغي الحمل عليه ، كما نبه له غير واحد من مشايخنا. فلاحظ.
    وثانيا : أن ثبوت الإطلاق العقلي قبل البيان الشرعي لا يستلزم كون حكم الشارع بالاطلاق إرشاديا ، لإمكان كونه مولويا راجعا إلى الحكم بعموم إباحة

    الأشياء شرعا ما لم يرد النهي عنها ، فيكون مؤكدا لحكم العقل ، بل مغنيا عنه لا ارشادا له ، كسائر موارد الحكم بالاباحة.
    إن قلت : لا يمكن جعل النهي الواقعي غاية للإباحة الواقعية ، لاستلزامه جعل أحد الضدين رافعا للآخر ، نظير أن يقال : كل شيء ساكن إلى أن يتحرك.
    قلت .. أولا : جعل الشيء غاية لشيء لا يستلزم كونه رافعا له ، وقبح جعل أحد الضدين غاية للآخر إنما هو لوضوح التنافر بينهما الموجب لوضوح ارتفاع أحدهما عند حدوث الآخر بنحو يكون بيانه لغوا ، أما إذا كان المقصود بيان أن أحد الضدين هو مقتضى الطبع الأولي والآخر هو المحتاج إلى علة تقتضيه فلا قبح ، لأنه مزيد فائدة تحتاج إلى البيان ، والمقام من ذلك ، فإن المقصود بيان أن إباحة الأشياء هي مقتضى طبعها الأولي. فتأمل.
    وثانيا : ورود النهي من سنخ العلة للحرمة والضيق ، التي هي ضد للإباحة والإطلاق ، وليس بنفسه ضدا للاباحة والإطلاق ، فهو نظير أن يقال : كل شيء ساكن حتى يحرك ، ولا بأس به.
    فالإنصاف : أن البناء على إجمال الرواية من هذه الجهة لا يخلو عن قرب.
    هذا ، وقد تقدم عند الكلام في مقتضى الأصل الأولي إجمال حديث السعة أيضا وتردده بين الأصل الأولي والثانوي الذي هو محل الكلام ، فلا مجال للاستدلال بكلا الحديثين في المقام.
    نعم ، قد يستدل بحديث الاطلاق بضميمة الاستصحاب ، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    الرابع : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه السّلام : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال : «لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم ذلك. فقلت : بأي الجهالتين يعذر بجهالته أن ذلك محرم عليه أم

    بجهالته أنها في عدة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت : وهو في الاخرى معذور؟ قال : نعم ، إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها ...» (1) ، بناء على أن قوله عليه السّلام : «فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» إشارة إلى القضية الارتكازية المقتضية لعموم العذر حتى بالإضافة إلى العقاب وعدم اختصاص العذر بعدم الحرمة المؤبدة ، فيكون واردا لبيان الأصل الثانوي ودليلا على عدم وجوب الاحتياط ، لوضوح كون الجهالة المفروضة فيه هي الجهالة بالحكم الواقعي ، وهو حرمة التزويج بالمرأة ، لا ما يعم الحكم الظاهري ليكون لبيان الأصل الأولي الذي يكون دليل وجوب الاحتياط رافعا لموضوعه.
    كما أنه لا ريب في عمومه للشبهة الموضوعية والحكمية معا.
    وفيه : أنه منصرف إلى الجهالة بمعنى الغافلة أو اعتقاد الحل خطأ ـ كما ذكرناه في الحديث الثاني الذي تقدم الاستدلال به للأصل الأولي ـ ولا سيما مع التعليل فيه بأنه لا يقدر على الاحتياط ، ضرورة القدرة على الاحتياط مع الالتفات والشك.
    ثم إن الصحيحة لم تتضمن تخصيص التعليل المذكور بالجهالة بحرمة التزويج في العدة دون الجهالة بأنها في العدة ، ليستشكل في الرواية بلزوم التفكيك بين الجهالتين ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ بل مجرد ذكره في الاولي دون الثانية ، وهو لا يدل على عدم وروده في الثانية.
    بل لعل التنبيه على التعليل في الاولى لكون المعذورية فيها أخفى ، لما هو المرتكز من أهمية الشبهة الحكمية ، فيكون ذكر التعليل فيها دفعا لذلك ، وتأكيدا لقوله عليه السّلام : «إحدى الجهالتين أهون من الاخرى» الظاهر في أنهما معا غير
    __________________
    (1) الوسائل : ج 14 باب : 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة حديث : 4.

    مهمتين.
    نعم ، لو كان التعليل مسوقا لبيان أن الشبهة الحكمية أهون من الشبهة الموضوعية كان ظاهرا في الاختصاص ولزم محذور التفكيك بين الجهالتين.
    لكنه لا قرينة عليه ، بل هو مناف لقوله : «إحدى الجهالتين أهون من الاخرى». فلاحظ.
    الخامس : صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السّلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (1) ، ونحوه خبر عبد الله بن سليمان الوارد في الجبن ، ومرسل معاوية بن عمار (2).
    وعن الشهيد في الذكرى الاستدلال بذلك على ما نحن فيه.
    وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأن ظاهر صدره فرض انقسام الشيء فعلا إلى الحلال والحرام ، وأن الانقسام هو منشأ الاشتباه الذي هو موضوع الحكم بالحلية الظاهرية ، وهو إنما يتم في الشبهات الموضوعية ، حيث قد يكون الانقسام فيها سببا للاشتباه ، كالجبن الذي يعلم أن قسما منه محرم ، لأن فيه ميتة ، وقسما منه حلال لا ميتة فيه ، فيشتبه حال بعض أفراده بسبب ذلك.
    أما الشبهات الحكمية فلا يتصور فيها ذلك ، إذا الشك فيها ناشئ عن فقد الدليل ، لا عن الانقسام المذكور. فالحيوان وإن كان منقسما إلى ما هو حلال وحرام ، كالضأن والخنزير ، إلا أن الانقسام المذكور لا يكون سببا للاشتباه في المشكوك كالأرنب ، بل الشك فيه ناشئ من فقد الدليل عليه ولو مع فرض عدم الانقسام المذكور.
    ولا مجال لتوهم أن ذكر الانقسام في الخبر ليس لكونه منشأ للاشتباه ، بل
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 12 باب 4 ، من أبواب ما يكتسب به ح 1.
    (2) الوسائل ، ج 17 باب 61 ، من أبواب الاطعمة المباحة ح 1 ، 7.

    هو مقارن صرف. لاستهجان ذكره حينئذ جدا ، ولا سيما مع كون ذكره موجبا لقصور الحديث عن بعض أفراد الشبهة وهو ما لا يدخل تحت كلي منقسم للقسمين ، كشرب التتن ، فيحتاج تعميم الحكم له للتمسك بعدم الفصل ، كما أوضحه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    وأوهن منه توهم كون المراد بالتقسيم المذكور في الخبر هو الترديد والشك ، فمرجع قوله عليه السّلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو ...» إلى قولنا : كل شيء مشتبه الحال مردد بين الحلال والحرام فهو ...
    لأنه خروج عن ظاهر الخبر ، بل صريحه المستفاد من صدره وذيله ، كما أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توضيحه. فراجع.
    نعم ، يندفع ما ذكره قدّس سرّه بما نبه له بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الاشتباه في الشبهة الحكمية قد يكون ناشئا من الانقسام المفروض لو فرض إجمال القسمين ، لإجمال دليلهما ، كما لو فرض العلم بأن بعض أجزاء الذبيحة محرم شرعا ، وشك في مقدار الحرام وأنه يشمل الكبد مثلا أولا ، فإن انقسام الذبيحة إلى الحرام والحلال هو السبب في اشتباه حكم الكبد حينئذ ، ومقتضى إطلاق الحديث كونه حلالا ظاهرا ، لعدم العلم بأنه الحرام بعينه ، فيعم الحكم غير ذلك من موارد الاشتباه ـ كالتبغ ـ بعدم الفصل.
    ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من ظهور قوله عليه السّلام : «بعينه» في هذا الحديث وغيره ـ مما يأتي الكلام فيه ـ في الشبهة الموضوعية ، إذ لا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه.
    وجه الاندفاع : أن كلمة : «بعينه» لو فرض ظهورها في إرادة التمييز بعد الاشتباه فهو مما يمكن فرضه في الشبهة الحكمية ، كما في ما تقدم من المثال.
    على أنها إنما يؤتى بها لمحض التأكيد لدفع توهم عدم ثبوت الحكم لموضوعه ، وهو يجري في الشبهة البدوية ، ولا يتوقف على الاشتباه والترديد

    في ما هو معلوم الثبوت ، واستفادة التمييز بعد الاشتباه في خصوص الحديث المتقدم إنما هو من جهة فرض التقسيم ، ومن اللام في «الحرام» الظاهرة في العهد ، والإشارة إلى الحرام المفروض المشتبه.
    فالعمدة في الخدشة في الاستدلال بالحديث في الشبهة الحكمية : أنه في نفسه ظاهر في عدم منجزية العلم الإجمالى ، فمن القريب جدا حمله على الشبهة غير المحصورة التي تخرج بعض أطرافها بسبب كثرتها عن محل الابتلاء ، كما يشير إليه خبر أبي الجارود ، سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة ، فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الارضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ...» (1) ، وذلك إنما يكون خارجا في الشبهات الموضوعية ، حيث تكون العناوين المشتملة على الحرام ـ كالجبن واللحم ـ ذات أفراد كثيرة لا يبتلى بجميعها عادة ، بخلاف الشبهات الحكمية. فلاحظ.
    السادس : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السّلام : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة» (2). ودلالتها على الأصل الثانوي ظاهرة ، ولا سيما بملاحظة الأمثلة.
    ولكن لا عموم فيها للشبهة الحكمية ، لا من جهة كلمة «بعينه» لما تقدم ، بل من جهة الأمثلة ، لإمكان سوقها مساق الشرح للقاعدة لا لمجرد التمثيل ،
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 17 باب 61 ، من أبواب الاطعمة المباحة ح 5.
    (2) الوسائل ، ج 12 باب 4 ، من أبواب ما يكتسب به ح 4.

    خصوصا مع قوله عليه السّلام : «وذلك مثل ...» الظاهر في حصر مفاد القاعدة بما يكون مثل هذه الامور ، وحينئذ فيمكن أن يكون الاشتباه في الموضوع مأخوذا في المماثلة الملحوظة في المقام ، واحتفاف مثل ذلك بالكلام مانع من ظهوره في العموم للشبهة الحكمية.
    بل ذكر البينة في ذيل الرواية ظاهر في اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، لوضوح كونها المرجع فيها ، لا في الشبهة الحكمية ، فإن المرجع فيها هو خبر الثقة الذي يلغو معه ذكر البينة ، كما أشرنا إليه في مسألة عدم حجية خبر الثقة في الموضوعات من الفقه.
    ثم إنه قد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى الإشكال في الأمثلة المذكورة : بأن الحل فيها ليس مستندا إلى أصالة الحلية ، بل إلى اليد في الأولين ، وإلى أصالة عدم تحقق النسب والرضاع في الثالث ، ومع قطع النظر عنها فالأصل يقتضى الحرمة ، لأصالة عدم التملك في الثوب ، والحرية في الإنسان ، وعدم تحقق الزوجية في المرأة.
    ويندفع : بأن نسبة الامارة أو الأصل الحاكم إلى الأصل المحكوم نسبة الحكم الثانوي إلى الحكم الأولي ، فإن الحكم الثانوي وإن كان هو الحكم الفعلي الذي يكون مورد العمل ، إلا أنه لا يوجب قصور موضوع الحكم الأولي ذاتا عن شمول المورد ، بل هو حافظ لحيثيته ، فهو ثابت من الحيثية المذكورة وإن لم يكن فعليا بسب طروء حيثية الحكم الثانوي ، التي هي من سنخ المانع عن تأثير الحيثية الأولية للحكم الأولي.
    ففي المقام التصرف في الثوب ـ مثلا ـ من جهة كونه أمرا مشكوك الحرمة يكون مجرى لأصالة الحل ، ومن جهة كون الثوب مجرى لاستصحاب عدم التملك يكون محكوما ظاهرا بالحرمة ، ومن جهة كونه مورد اليد يكون محكوما ظاهرا بالحل.

    وحينئذ فلا مانع من إغفال الامارة أو الأصل الحاكم والتنبيه للأصل المحكوم ، لكونه مورد الحاجة ، أو لكون تفهيمه للمخاطب أيسر أو لنحو ذلك من الأغراض ، وفي المقام حيث كان المطلوب توضيح أصالة الحل بالتمثيل احتيج للتنبيه في مورد الأمثلة المذكورة على الأصل المذكور ، دون الامارات او الاصول الحاكمة عليه. خصوصا مع صعوبة فرض مثال لا يكون مجرى لامارة أو أصل حاكم موافق أو مخالف.
    نعم ، إذا كانت الامارة أو الأصل جاريين فعلا ، ومخالفين عملا للأصل المحكوم امتنع إغفالهما والاقتصار في التنبيه على الأصل المحكوم ، لئلا يلزم الإغراء بالجهل والإيقاع في خلاف الوظيفة الفعلية ، وذلك لا يجري في المقام ، لان الاصل الحاكم على أصالة الحل المخالف لها عملا محكوم لاصول وقواعد أخر جارية فعلا موافقة لأصالة الحل عملا ، فلا يلزم من عدم التنبيه عليها الاغراء بالجهل ، كما لا يخفى.
    ثم إنه لو فرض عدم نهوض ما ذكرنا بدفع الإشكال المذكور عن الرواية فهو لا يمنع من الاستدلال بها ، لقوة ظهورها في إرادة أصالة الحل ، بنحو لا توجب الأمثلة ظهورها في غيره ولا إجمالها ، وغاية ما يلزم إجمال الامثلة.
    وأما دعوى : أنها تكون بقرينة الأمثلة المذكورة ظاهرة في إرادة الحلية المستندة لليد او الاستصحاب ، لا المستندة لأصالة الحل.
    فيدفعها .. أولا : أنه لا جامع عرفي بين الأمرين ، فلا مجال لحمل القاعدة المضروبة في صدر الرواية والمشار إليها في ذيلها عليه.
    وثانيا : أن الرواية إن حملت على الإرجاع للاستصحاب واليد بعد الفراغ من جريانهما وتحقق موضوعهما كانت واردة مورد الإرشاد ، وهو خلاف ظاهرها جدا ، لظهورها في التأسيس وضرب القاعدة الشرعية التي يرجع إليها في مقام العمل ، وذلك يقتضي تحديد موضوع القاعدة ، ولا إشارة في القاعدة إلى

    موضوع قاعدتي الاستصحاب واليد ، بل ظاهرها كون الموضوع صرف الشك ، وليس هو إلا موضوع قاعدة الحل ، كما لا يخفى.
    ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن ظهور الذيل فيها في انحصار المخرج عن الحل بالعلم الوجداني والبينة موجب لحملها على إرادة الحل الناشئ من اليد والاستصحاب ونحوهما ، لأن الحل الناشئ من أصالة الحل لا ينحصر المخرج عنه بذلك ، بل يخرج عنه أيضا باليد ، والإقرار ، وحكم الحاكم وغيرها.
    إذ فيه .. أولا : أن الحصر ليس حقيقيا في مورد اليد والاستصحاب ، لوضوح الخروج عنهما بغيرهما ، كحكم الحاكم والإقرار وغيرهما ، ومجرد كون الحصر حقيقيا في الأمثلة المذكورة ـ لو تم ـ لا ينفع مع ظهور الرواية في جعل القاعدة العامة التي لا تختص بها. والتعميم لخصوص مشابهاتها لا مجال له بعد عدم الإشارة في الرواية إلى المعيار في المشابهة.
    وثانيا : أن ظهور الحصر لا ينهض في قبال ما عرفت ، فلا بد من حمل الحصر على الإضافي. ولعل الوجه فيه عموم حجية العلم الوجداني والبينة وإمكان حصولهما في كل مورد ، بخلاف بقية الامور ، فإنها مختصة ببعض الموارد ولا يخرج بها عن أصالة الحل في كل شيء ، ليناسب ذكرها في مقام ضرب القاعدة العامة. فلاحظ.
    هذا تمام ما عثرنا عليه من النصوص العامة التي يستدل بها في المقام ، وقد عرفت عدم تمامية الدلالة في غير حديثي الرفع والحجب ، وأن حديث الإطلاق لا يخلو عن إجمال ، وأن صحيح سليمان بن خالد وموثقة مسعدة إنما يصح الاستدلال بهما في الشبهة الموضوعية لا غير. كما أن ضعف سند حديث الحجب موجب لكون عمدة النصوص في المقام هو حديث الرفع.
    بقي في المقام شيء ، وهو أنه قد أشرنا إلى أن نصوص المقام دالة على

    الأصل الثانوي ، وأنها معارضة لأدلة الاحتياط لا مورودة لها ، إلا أنه لو فرض تمامية أدلة الاحتياط فلا يبعد تقديمها على الأدلة المذكورة ، أما حديث الرفع فلأنه أعم منها ، لعمومه لصورتي الغافلة والجهل المركب واختصاص أدلة الاحتياط بالشبهة ، بل لو كانت مختصة بالشبهة التحريمية فالأمر أظهر.
    وأما حديثا الحجب والإطلاق فقد سبق أنه لو فرض تمامية أدلة الاحتياط لم يبعد حملهما بقرينتها على الأصل الأولي جمعا ، وان كانا في أنفسهما ظاهرين في الأصل الثانوي. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والسداد.
    تذنيب
    قد يستدل في المقام بالاستصحاب ، بلحاظ أن التكليف المشكوك أمر حادث مسبوق بالعدم ، للقطع بعدم التكليف عند فقد شروطه العامة ـ كالبلوغ ـ أو الخاصة ـ كالوقت ـ فيستصحب بعد ذلك ، بناء على ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الامور العدمية.
    وقد يستشكل فيه بوجوه ..
    الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم بقاء الموضوع ، لأن عنوان الصبا ونحوه مما اخذ في أدلة الرفع مما يقوم الموضوع عرفا ، فيمتنع الاستصحاب مع ارتفاعه.
    وفيه : أن الموضوع المعتبر في الاستصحاب ليس إلا المعروض الذي يحمل عليه المستصحب ، وهو ذات المكلف في المقام ، حيث أنه طرف نسبة التكليف ، وليس الصبا أو الجنون إلا من حالاته غير المقومة له. ومجرد أخذها في عنوان الموضوع في أدلة رفع القلم لا يوجب كونها مقومة له بعد كونه جزئيا لا يقبل التقييد ، على ما يأتي في محله توضيحه إن شاء الله تعالى.

    وأظهر من ذلك حال العناوين الخاصة المأخوذة في التكليف ، كالوقت ، فإنها خارجة عن الموضوع المعتبر في الاستصحاب بلا إشكال.
    الثاني : ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن عدم التكليف الثابت في حال الصبا ليس إلا عبارة عن عدم وضع قلم التكليف على الصبي ، بمعنى كونه مرخى العنان من دون أن يكون الشارع قد أطلق عنانه ورفع قلم التكليف والحرج عنه ، بل هو كالبهائم خارج عن قابلية التكليف.
    وفيه : ـ مع عدم جريانه بلحاظ حال عدم تمامية الشروط الخاصة ، كالوقت ، حيث لا إشكال في حكم الشارع في حق المكلف بعدم التكليف ، كسائر موارد الترخيص الشرعي ـ أنه إن كان المراد أن العدم المستصحب هو العدم المقارن لعدم الموضوع ، لا العدم النعتي المقارن لوجود الموضوع.
    فهو ـ مع ابتنائه على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي ـ لا مجال له بلحاظ حال التمييز قبل البلوغ ، لوضوح أن الصبي حينئذ قابل للتكليف كالبالغ ، وإنما الرفع في حقه بحكم الشارع امتنانا.
    على أن عدم قابلية غير المميز أو المجنون للتكليف ليس لتقوم الموضوع المعتبر في الاستصحاب ـ الذي هو بمعنى المعروض ـ بالتمييز والعقل ، بحيث يكون عدم التكليف قبلهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، بل لكونهما شرطين عقليين زائدين عليه ، مع كون الموضوع هو ذات الإنسان المعروضة لهما ، ولذا يصدق على من سبق له الجنون ـ مثلا ـ أنه كان غير مكلف شرعا بنحو القضية الموجبة المعدولة المحمول ، فلا يكون استصحاب عدم التكليف في حقه من استصحاب العدم الأزلي.
    وإن كان المراد أن عدم التكليف في حق الصبي والمجنون لا يرجع إلى خطابهما بعدم التكليف ، بل إلى مجرد عدم خطابهما به ، لخروجهما عن موضوعه ، ويعلم بانقلاب العدم المذكور بعد البلوغ والعقل إلى الخطاب

    بالتكليف أو عدمه ، فلا مجال لاستصحاب العدم السابق.
    فهو ـ لو تم حتى في حق المميز ـ لا يضر في ما نحن فيه ، لوضوح أن العلم بخطابهما بالتكليف أو بعدمه لا ينافي احتمال استمرار عدم خطابهما بالتكليف المتيقن سابقا ، فيصح استصحابه ، وهو كاف في ترتب الأثر بلا حاجة إلى إحراز خطابهما بعدم التكليف ، بناء على ما هو التحقيق من أصالة الإباحة عقلا ، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع والخطاب بالتكليف شرعا ، كما تقدم في الأمر الخامس من الامور التي ذكرناها تمهيدا للكلام في الاصول العملية.
    ومنه يظهر اندفاع ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن استصحاب عدم المنع لا يجدي في إحراز الإذن والترخيص ، إلا بناء على الأصل المثبت.
    إذ فيه : أنه لا حاجة إلى إحراز الإذن والترخيص بناء على ذلك ، بل يكفي إحراز عدم المنع في ترتب العمل.
    الثالث : أن ما يترتب على الاستصحاب المذكور من السعة في مقام العمل وعدم المسئولية بالتكليف وعدم استحقاق العقاب عليه ثابت بنفس الشك عقلا وشرعا ، بلا حاجة إلى الاستصحاب ، لما تقدم من الأدلة الشرعية والعقلية على عدم العقاب من غير بيان ، فيكون التعبد بالاستصحاب لغوا ، لعدم الفائدة فيه.
    وفيه : أن عدم المسئولية والعقاب مع الشك بملاك عدم تحقق شرط العقاب ، وهو تنجيز التكليف ، أما عدم المنع الشرعي فهو بملاك عدم المقتضي له ، فالتعبد به بالاستصحاب تعبد بعدم المقتضي ، ومثل هذا كاف في رفع لغوية التعبد باستصحاب عدم المنع عرفا وإن كانا مشتركين في الأثر ، وإلا امتنع استصحاب الحل والإباحة التي هي مقتض لعدم الاستحقاق ، بل التعبد بالطرق والحجج المثبتة لهما ، بل امتنع جعل الإباحة والترخيص ثبوتا ، لعدم الأثر العملي

    للجميع إلا السعة عقلا وعدم العقاب الذي يترتب بمجرد الشك وعدم وصول المنع الشرعي.
    ولا رافع للغوية إلا ما ذكرنا من اختلاف نحو ترتب عدم استحقاق العقاب ، حيث أن ترتبه مع جعل الترخيص والإباحة لتحقق مقتضي عدم الاستحقاق ثبوتا ، ومع التعبد بهما بالأصل أو الامارة لثبوته تعبدا ، ومع عدم المنع واقعا لعدم المقتضي للاستحقاق ثبوتا ، ومع التعبد به بالأصل أو الأمارة للتعبد بعدمه.
    أما مجرد الشك في المنع وعدم تنجزه فعدم العقاب معه لعدم تحقق شرطه مع احتمال وجود مقتضيه. وقد ذكرنا نظير ذلك عند الكلام في أصالة عدم الحجية في أوائل مباحث الحجج.
    وما ذكرنا هو العمدة في المقام ، لا ما قد يستفاد من غير واحد من أن الأثر في ظرف جريان الاستصحاب يكون مستندا إليه لا للشك ، حيث يكون الاستصحاب رافعا للشك الذي هو موضوع قاعدة قبح العقاب حقيقة ، وللشك الذي هو موضوع البراءة الشرعية تعبدا.
    إذ فيه : أنه لا يرفع محذور لغوية التعبد بالاستصحاب بعد كون الأثر المترتب عليه مترتبا مع عدمه.
    وأشكل من ذلك ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أنه يكفي في فائدة الاستصحاب في المقام كونه حاكما على أدلة الاحتياط أو معارضا لها ، ليرجع بعد المعارضة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلو لم يجر كان المعول على أدلة الاحتياط ، لورودها على قاعدة قبح العقاب.
    إذ فيه : أن المعارضة وإن كانت من الآثار المترتبة على الدليل ، إلا أنها ليست من الأغراض الملحوظة للحاكم المصححة لورود الدليل عرفا ، إذ لو كان غرضه عدم العمل بالاحتياط كان الأنسب له عدم نصب الأدلة عليه ، أو التنبيه
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:16 am

    على عدم إرادة ظاهرها. إلا أن يفرض تعذر ذلك عليه ، للزوم محذور منه. لكنه في المقام بعيد جدا.
    على أن الظاهر في المقام تقديم أدلة الاحتياط لأنها أخص ، إذ لو فرض تقديم الاستصحاب لم يبق لها مورد إلا مع تعارض الاستصحابين ، وهو إنما يكون مع العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي ، الذي يجب معه الاحتياط بحكم العقل ، ولا أثر للأدلة المذكورة ، بخلاف ما لو فرض تقديم أدلة الاحتياط ، فإنه يمكن الرجوع للاستصحابات الموضوعية الحاكمة ، ولاستصحاب التكليف ونحوها.
    الرابع : أن الاستصحاب المذكور موجب للغوية أدلة البراءة الشرعية المتقدمة ، لجريانه في غالب مواردها أو كلها ، فيكون حاكما عليها مغنيا عنها.
    ويندفع .. أولا : بأنه لو سلم عدم عموم أدلة البراءة ـ ولو من حيث شمولها للغافلة أو الجهل المركب ـ فقد يجمع بينها وبين أدلة الاستصحاب بحملها على مجرد ثبوت السعة مع الشك ولو من جهة الحالة السابقة ، لا لمحض الشك ، لتنافي الاستصحاب. ولعل هذا هو مراد بعض مشايخنا في المقام.
    وثانيا : بأنه قد يكون الغرض من أدلة البراءة بيان صلوح الشك لإثبات السعة مع قطع النظر عن الحالة السابقة ، وإن كانت الحالة السابقة أيضا صالحة لذلك. ويكون التنبيه على ذلك لأنه أيسر وأقرب للذهن ، نظير ما ذكرناه في موثقة مسعدة بن صدقة في وجه التنبيه على الأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم. فلاحظ.
    وبالجملة : لا مخرج عن عموم أدلة الاستصحاب في المقام ، فلا بأس بالرجوع إليه.
    ثم إنه قد يتمسك في المقام باستصحاب عدم جعل التكليف في عالم التشريع ، لأن الجعل المذكور أمر حادث مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل

    التشريع.
    ويندفع : بأن العمل إنما يترتب على التكليف المجعول لا على نفس الجعل ، فالاستصحاب المذكور مثبت. بل لعل عنوان الجعل عنوان انتزاعي ، فلا يكون موضوعا للآثار.
    ولو اريد استصحاب عدم التكليف المجعول بنحو القضية الحقيقية الكلية ، وهو العدم المتيقن قبل التشريع أيضا ، اشكل : بأن الأثر إنما يترتب على التكليف الفعلي ، لا الإنشائي الذي هو مفاد القضية الحقيقية ، فلا بد من استصحاب عدمه ، كما تقدم منا تقريبه ، وتمام الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب التعليقي واستصحاب عدم النسخ.
    هذا ، وقد يقرب الاستصحاب بوجوه أخر ظاهرة الوهن ، لا مجال لإطالة الكلام فيها.
    هذا ، تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.
    وحيث انتهى الكلام هنا فينبغي الكلام في أدلة الاحتياط.
    وقد يستدل بالأدلة الثلاثة ، وهي : الكتاب ، والسنة ، والعقل.
    أما الكتاب ، فقد استدل منه بآيات كثيرة ، لعل عمدتها ما تضمن النهي عن القول بغير علم ، وما تضمن الأمر بالتقوى.
    وتقريب الاستدلال بالاولى أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء لم يؤذن فيه.
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ، فإنه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الاباحة».
    أقول : الترك لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو ـ مع ابتنائه على ما

    يأتي الكلام فيه ، وخروجه عن فرض الاستدلال بالكتاب ـ قد يجري مثله من القائلين بالبراءة ، إذ يمكن استنادهم لحكم العقل من دون نسبة القول به للشارع ، ليلزم القول عليه من غير علم.
    وإن كان لدعوى حكم الشارع به ـ كما هو ظاهر أكثر استدلالاتهم ـ فهو يتضمن نسبة الحكم به للشارع ، فلا بد من الاستناد فيه للعلم ، كالقول بالبراءة الشرعية.
    مع أن القائل بالبراءة قد سبق منه الاستدلال بأدلة علمية شرعية أو عقلية ، فلا يكون قوله بها قولا بغير علم.
    وتقريب الاستدلال بالثانية : أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله تعالى.
    وفيه : أن التقوى عبارة عن التحرز والتوقي عن عقابه تعالى ، فيختص بالشبهة التي يحتمل معها العقاب ، والقائل بالبراءة مع الشك في التكليف يدعي الأمن منه ، لأدلة عقلية وشرعية ، فلا موضوع معه للتقوى.
    هذا ، مع النقض في الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية ، وما هو المشهور بين الأخباريين أنفسهم من عدم وجوبه في الشبهة الوجوبية الحكمية ، فإنه لا مجال لالتزام تخصيص أدلة البراءة فيهما للأدلة المتقدمة ، لابائها عن التخصيص جدا ، فلا بد من التزام ورودها عليها ، وكونها رافعة لموضوعها ، ومثله يجري في الشبهة التحريمية الحكمية ، كما لا يخفى.
    وهناك بعض الآيات الأخر بألسنة أخر قد يستدل بها في المقام بوجه ظاهر الوهن ، خصوصا بعد ما عرفت.
    وأما السنة ، فقد يستدل منها بطوائف ..
    الاولى : ما تضمن النهي عن القول والعمل بغير علم.

    ويظهر الجواب عنها مما تقدم في الطائفة الاولى من الآيات.
    الثانية : ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة والتورط فيها ، والأمر بالتوقف والكف عنها ، وهي كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها ، تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه لجملة منها ، وذكر كثيرا منها في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل. فراجع.
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصل قوله عليه السّلام : في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقف في العمل لا معنى له».
    ويشكل الاستدلال المذكور : بأن ظاهر كثير من النصوص بعد التأمل فيها أن المراد بالشبهة ليس مجرد احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه ، لينفع في ما نحن فيه ، بل أحد أمرين ..
    الأول : ما قد يعتمد عليه ويؤخذ به مما ليس بحجة ، كالقياس والاستحسان ، كما هو الظاهر مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل : «فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعملوا الشبهات لما عجزوا من عرفان إصابة الحكم ...» (1) ، ومرسل البرقي ، قال أبو جعفر عليه السّلام : «لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين ، فإن كل سبب ، ونسب ، وقرابة ، ووليجة ، وبدعة وشبهة باطل مضمحل ، إلا ما أثبته
    __________________
    (1) الوسائل ج : 18 ، باب : 6 من أبواب صفات القاضي حديث : 38.

    القرآن» (1) ، ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ...» (2) ، وخبر سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام ، قال : «قال جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة. ألا وقد بينهما الله عزّ وجل في الكتاب ، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي ، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع من بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته وعرضه ، ومن تلبس بها [و] وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ...» (3) ، وما عن تفسير العياشي عن الرضا عليه السّلام : «ان هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم ..» (4). وما عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السّلام ، في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) قال : «هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات ...» وقريب منه خبره الآخر (5) ، فان الظاهر من أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها وترويجها ، كالبدع ، وكأنه إلى هذا المعنى يشير ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» (6).
    الثاني : مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية ، في مقابل
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 6.
    (2) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 9.
    (3) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 47.
    (4) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 49.
    (5) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 52 و 53. 53.
    (6) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 20.

    كون الإنسان على بصيرة من أمره ، نظير ما عن أبي عبد الله عليه السّلام : «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا» (1).
    ويستفاد هذا المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر : «فإن كنت على بينة من ربك ، ويقين من أمرك ، وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلا فلا ترو من أمرا أنت منه في شك وشبهة» (2) ، ومقابلتها بالحجة في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام للأشتر : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ... أوقفهم في الشبهات ، واخذهم بالحجج ...» (3).
    هذا ، ولا يخفى التناسب بين المعنيين ، وعلى أحدهما يمكن حمل بقية نصوص المقام ، بجعل الشبهة فيها كناية عن عدم البصيرة في الأمر في مقابل البينة التي يكفي فيها تشخيص الوظيفة الفعلية الظاهرية.
    وإرادة خصوص الجهل بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر للاصوليين من أصحابنا لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه.
    ومجرد مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين ، لا يقتضيه ، لقرب حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية ، ليطابق النصوص الكثيرة المتقدمة ويناسبها.
    ويشهد بما ذكرنا ـ مضافا إلى ذلك ـ أمران :
    الأول : أن المنسبق من النصوص المستدل بها هو التنبيه إلى أمر ارتكازي إرشادي ، ومن الظاهر أن الامر الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي يريده المستدل ، بل هو أمر تعبدي شرعي بعيد عن مفاد النصوص جدا.
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 18 باب : 4 من أبواب صفات القاضي حديث : 11.
    (2) الوسائل ، ج 18 باب : 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 1.
    (3) الوسائل ، ج 18 باب : 12 من أبواب صفات القاضي حديث : 18.

    ثم إنه لأجل ذلك يكون عموم النهي عن ارتكاب الشبهة آبيا عن التخصيص بالاضافة إلى الشبهات الموضوعية التي لا خلاف في الرجوع فيها للبراءة ، والوجوبية الحكمية التي اشتهر بين الاخباريين فيها ذلك. وحينئذ يتعين التزام ورود أدلة البراءة عليها وكونها رافعة لموضوعها ـ نظير ما تقدم في الاستدلال بالكتاب ـ وهو موقوف على حملها على ما ذكرناه من المعنى.
    نعم ، قد يدعى قصور العموم المذكور عن شمول الشبهة الوجوبية ، إما لما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن ظاهر الوقوف السكون المطلق وعدم المضي ، فإن الاحتياط بذلك إنما يناسب الشبهة التحريمية لا الوجوبية ، أو لما تضمنه بعض النصوص ـ كحديث التثليث ـ من أن الاقتحام في معرض الوقوع في الحرام الواقعي.
    اللهم إلا أن تعمها لعموم التعليل الارتكازي في النصوص بلزوم الهلكة ، فلا بد أن يراد من الوقوف في الشبهة عدم الاقتحام في احتمال المخالفة الواقعية معها ، وإن كان ذلك يختلف باختلاف نوعي الشبهة ، ففي الشبهة التحريمية بالفعل ، وفي الشبهة الوجوبية بالترك. فتأمل.
    الثاني : أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية الشبهة ، لا الحكم بمنجزيتها تعبدا وتأسيسا ، فإن الظاهر من مثل قولهم عليهم السّلام في غير واحد من النصوص : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ، وقولهم عليهم السّلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» المفروغية عن ترتب الهلكة على تقدير الوقوع في الحرام الواقعي ، وأن النهي وارد للارشاد إلى ذلك ، لبيان أن تحمل كلفة الاحتياط أهون من الوقوع في الهلكة المحتملة ، لا لبيان ترتب الهلكة ، تأسيسا ، ليقتضي منجزية الشبهة تعبدا ، نظير بيان ترتب العقاب على بعض الامور لبيان حرمتها تعبدا.
    نعم ، لو قيل : الأخذ بالشبهة موجب للهلكة كان مسوقا لبيان ذلك ، لا

    المفروغية عنه.
    فالمقام نظير قول القائل في مقام الأمر بالحمية : ترك الأكل أهون من علاج المرض ، فإنه ظاهر في المفروغية عن كون الأكل معرضا للمرض ، ولبس كقولنا : الأكل يوجب المرض ، في كونه مسوقا لبيان ذلك.
    وحينئذ فحيث لا مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى الذي يريده المستدل ، لما هو المعلوم المتفق عليه ظاهرا من أن مقتضى الأصل العقلي عدم منجزية الشبهة بالمعنى المذكور ، فلا مجال لحمل النصوص عليه ، بل على المعنى الذي ذكرناه ، الذي هو مفروغ عن تنجز التكليف معه.
    ولأجل ما ذكرنا فلو فرض حمل الشبهة في النصوص المذكورة على المعنى الذي يريده المستدل تعين اختصاصها بما ثبت من الخارج تنجز التكليف معه ، ولم تنهض هذه النصوص بإثبات منجزيتها مطلقا ، إذ ليست مسوقة لبيان المنجزية تعبدا ، بل للإرشاد للتوقف عن الشبهة المفروض منجزيتها ، والتعرض للهلكة بالإقدام عليها.
    ونظير ذلك ما تقدم من المثال ، فانه لا إطلاق للاكل المنهي عنه في المثال الأول يقتضي المنع عن كل أكل ، بل لا منع إلا مما كان منه مضرا ، ولا بد من اثباته من الخارج ، بخلاف المثال الثاني ، فإن الإطلاق فيه مستحكم ، كما هو ظاهر.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن النصوص المذكورة واردة للإرشاد إلى لزوم التوقف في الشبهات التي يتنجز فيها التكليف الواقعي ، من دون فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية التحريمية والوجوبية ، لعموم التعليل فيها لو فرض قصورها لفظا عن شمول الشبهات الوجوبية ، ولا تنهض باثبات منجزية التكليف الواقعي بمجرد الشك فيه ، لينفع في ما نحن فيه في معارضة أدلة البراءة ، أو الورود عليها ، بل أدلة البراءة هي المقدمة لورودها على المضمون المذكور ، لأنها موجبة للعلم بالوظيفة الفعلية والأمن من العقاب

    والهلكة.
    نعم ، في موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى الله عليه وآله ، قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة. يقول : إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك ، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (1). وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة ، وأن المراد بالشبهة ذلك.
    إلا أنها ـ مع معارضتها بموثقة مسعدة بن صدقة التي تقدمت في أدلة القول بالبراءة ، حيث تعرّضت لموردها نصا. وأنها واردة في الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة حتى عند الاخباريين ، فلا يبعد حملها لأجل ذلك على الكراهة. فتأمل ـ محمولة على أن المراد بالهلكة فيها ليس هو العقاب ، بل المفسدة والملاك الواقعي المقتضي للتحريم ، الذي يكون ارتكاب الشبهة معرضا للوقوع فيه ، لاهتمام الشارع به في باب النكاح ، فيكون الوقوع فيه من المحاذير التي يصح إطلاق الهلكة عليها توسعا. أو تحمل على الإرشاد بلحاظ المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال. على أنها لو تمت فليست ظاهرة في منجزية الشبهة تأسيسا وتعبدا ، ليتعدى عن موردها بعموم التعليل ـ لما عرفت من عدم ظهور اللسان المذكور في ذلك ـ بل في الإرشاد بعد المفروغية عن منجزية الشبهة ولو لأدلة أخر ، فلا يمكن التعدي لغير موردها بعد عدم ثبوت المنجزية فيه من دليل آخر. فتأمل جيدا.
    ومما ذكرنا يظهر حال كثير من النصوص المذكورة في الباب الثاني عشر من باب صفات القاضي من الوسائل ، التي لم تتضمن عنوان الشبهة إلا أنها قد سيقت مساق نصوصها ، في لزوم السكوت ، والكف عند عدم العلم والحيرة والريب ، والنهي عن التفريط ، وعن الإقامة على الظن والشك ، إلى غير ذلك من
    __________________
    (1) التهذيب ج : 7 باب الزيادات في فقه النكاح ، ح : 112 ص 474 والوسائل ، ج 18 ، ص 116

    المضامين الراجعة إلى لزوم التوقف في القول والعمل عند عدم وضوح الحجة وتخوف الهلاك. فلاحظها.
    الطائفة الثالثة : ما تضمن الأمر بالاحتياط ، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد» قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : «إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (1) ، وموثقة عبد الله بن وضاح ، كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثم يزيد الليل ارتفاعا ، وتستتر عنا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفاصلي حينئذ ، أو أفطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلى : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (2) ، وخبر الجعفري عن الرضا عليه السّلام : «ان أمير المؤمنين عليه السّلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (3) ، وما أرسله الشهيد قدّس سرّه عن الصادق عليه السّلام : «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» (4) ، وخبر عنوان البصري عن أبي عبد الله عليه السّلام : «سل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» (5) ، وما ارسل عنهم عليهم السّلام : «ليس بناكب عن الصراط من
    __________________
    (1) الكافي ج 4 ، كتاب الحج ، ص 391.
    (2) التهذيب ج 2 ، ص 259.
    (3) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح 41.
    (4) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 58.
    (5) الوسائل ، ج 18 ، باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح : 54.

    سلك سبيل الاحتياط» (1).
    والجواب : أما عن الصحيح فبأنه لا إطلاق له ، ولا عموم فيه ، ينفع في ما نحن فيه ، بل هو مختص بمورده. ولعل الأمر فيه بالاحتياط لكون المراد بقوله عليه السّلام : «بمثل هذا» هو السؤال عما لا يعلم الذي يجب فيه الاحتياط بترك الجواب ، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع التمكن من الفحص ، الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيه عملا قبل الفحص.
    ومثله في ذلك الموثقة ، لظهورها في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية في دخول الليل الحاصلة من تواري القرص وظهور ظلام الليل وأذان المؤذنين ، ولا إشكال في أن مقتضى استصحاب النهار وجوب الانتظار.
    كما انه لو فرض بعيدا كون السؤال للشبهة الحكمية الراجعة إلى احتمال كفاية سقوط القرص في دخول الليل وعدم اعتبار غيبوبة الحمرة ، فحيث لم يكن الجواب بالاحتياط وظيفة الإمام عليه السّلام بل وظيفته رفع الشبهة ، فلعل التعبير بالاحتياط لأجل التقية لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم بغيبوبة القرص ، لا أن المغرب لا يدخل مع غيبوبته ، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    وبالجملة : لا إطلاق في الموثقة ليتعدى به عن موردها.
    ودعوى : أن قوله عليه السّلام : «وتأخذ بالحائطة لدينك» مسوقة مساق التعليل الموجب لعموم الحكم لجميع موارد الشبهة.
    مدفوعة : ـ مضافا إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة ، وغايته الإشعار. وأن مورده الشبهة الموضوعية التي لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط فيها ـ بأن ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين للخطر ، وهو مختص بما إذا تنجز الواقع ، فهو نظير أخبار الشبهة ظاهر في عموم
    __________________
    (1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 332.

    لزوم الاحتياط مع تنجز الواقع إرشادا ، ولا ينهض بإثبات منجزية الاحتمال تعبدا ، لينفع في ما نحن فيه.
    ومنه يظهر الجواب عن خبر الجعفري. وكذا مرسل الشهيد قدّس سرّه ، مضافا إلى أنه لا ظهور لهما في الوجوب ، خصوصا الثاني ، بل هو لا يخلو عن إجمال ، بل لعله مشتمل على التصحيف.
    وأما خبر عنوان البصري فهو ـ مع ضعف سنده ـ ظاهر في وجوب الاحتياط في كل شيء ، ولا ريب في عدم كون القضية المذكورة شرعية تعبدية إلزامية ، فلا بد من حملها على الإرشاد إلى لزوم الضبط والإتقان في مقام تحصيل الواقع الذي يهتم بتحصيله وعدم التفريط فيه ، وهو متفرع على فرض الاهتمام بالواقع ، ولا ينهض بإثبات اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية غير الواصلة بنحو يقتضي لزوم الاحتياط فيها مع عدم قيام الحجة عليها ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، نظير ما تقدم. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجوه الوهن في الاستدلال بالمرسل الأخير.
    وهناك روايات أخر قد ذكرها ذكرها في الوسائل لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لظهور قصور دلالتها جدا.
    وأما العقل ، فقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين :
    الأول : ان الأصل في الافعال غير الضرورية الحظر.
    لكن ذكرنا في الأمر الخامس من التمهيد الذى قدمناه لمباحث الاصول العملية أن المراد بالأصل المذكور ..
    تارة : حكم العقل بالحظر قبل ورود الأحكام الشرعية.
    واخرى : أنه بعد فرض ورود الأحكام الشرعية فالعقل يحكم بأن الاصل في مورد الشك في نوع الحكم كون الحكم الواقعي هو الحظر لا الإباحة.
    وثالثة : أنه بعد فرض ورودها والشك في نوع الحكم فالعقل يلزم ظاهرا

    بالاحتياط في مقام العمل ، مراعاة لاحتمال التكليف من دون تعرض للحكم الواقعي ، وذكرنا ـ أيضا ـ أنه على الأولين فالأصل المذكور ـ مع أنه غير تام في نفسه ـ أجنبي عن محل الكلام.
    كما ذكرنا في أول الكلام في حكم الشك في التكليف انه لا مجال لتقرير الأصل بالوجه الثالث ، بل المرجع أصالة البراءة الراجعة الى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.
    هذا ، مع أنه لو تم الأصل المذكور كانت أدلة البراءة الشرعية واردة عليه رافعة لموضوعه.
    الثاني : حصول العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في الوقائع التي هي محل ابتلاء المكلف ، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه ، بناء على ما هو الحق من كون العلم الإجمالي منجزا لجميع أطرافه ومقتضيا للاحتياط فيها.
    ولا يخفى أن هذا الوجه ـ لو تم ـ لا يقتضي إنكار جريان البراءة في محل الكلام ـ وهو الشك في أصل التكليف ـ بل إنكار الصغرى لذلك ، بدعوى أن الشك دائما في تعيين التكليف ، الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى. وإنما ينبغي التعرض له هنا لكمال مناسبته له ، لرجوعه إلى عدم ترتب العمل على محل الكلام لعدم الصغرى له.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه قد يجاب عن العلم الإجمالي بوجوه ..
    الأول : أن العلم المذكور لا أثر له بعد قيام الطرق المعتبرة على ثبوت التكاليف في كثير من الوقائع بنحو لا يعلم بثبوتها في غيرها من الوقائع المشتبهة الحكم ، لأن الطرق المذكورة موجبة للتعبد بثبوت التكاليف في مواردها المستلزم لتمييز المعلوم بالإجمال وارتفاع العلم الإجمالي.
    وفيه : أن الطرق المذكورة لا تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال ، لعدم

    تعرضها لتعيين التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال وحصرها بمواردها ونفيها عن غيرها ، بل ليس مفادها إلا ثبوت التكاليف في مواردها بنحو لا ينافي احتمال ثبوتها في غيرها الذي هو مقتضى العلم الاجمالي.
    وهذا هو العمدة ، لا ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن احتمال خطأ الطريق مانع من صلوحه لرفع العلم الإجمالي.
    إذ فيه : أن الاحتمال المذكور لا أثر له بعد فرض حجية الطريق ، ولذا لا إشكال في ارتفاع أثر العلم الاجمالي معه لو كان شارحا للمعلوم بالإجمال ، ومعينا لمورده.
    الثاني : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم بغير ما أدى اليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو ، حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ، لأن ذلك هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق.
    وفيه : أن الجمع بين أدلة الأحكام الواقعية وأدلة الطرق إنما هو بحمل الاولى على جعل الأحكام ثبوتا ، والثانية على جعل الطريق لإحرازها إثباتا ، المستلزم لتنجيزها أو التعذير منها ، فلا ينافي تنجزها بالعلم الإجمالي أيضا بعد كونها أحكاما فعلية حقيقية.
    ولا مجال لتقييد الاولى بالثانية ، بحيث لا يكون الحكم الواقعي فعليا عند عدم قيام طريق عليه ، فلا يتنجز بالعلم الإجمالي ، إذ لا ظهور لأدلة الطرق إلا في لزوم العمل بها ، لا في حصر العمل بها لتصلح للتقييد. بل يمتنع الحكم الواقعي بقيام الطريق عليه إلا بتكلف لا مجال له في المقام ، أشرنا إليه في مبحث القطع الموضوعي.
    مع أن لازم ذلك عدم ثبوت الحكم في حق من لم يقم عنده طريق ، وهو

    خلاف الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، الذي لأجله التزم قدّس سرّه ببطلان التصويب في موارد الطرق.
    بل لازم ذلك ارتفاع موضوع الاصول العملية ، للعلم بعدم التكليف الفعلي في غير موارد الطرق ، فلا وجه للاهتمام بها. بل يلزم من ذلك عدم وجوب العمل بالحكم الواقعي لو فرض العلم به تفصيلا من دون قيام طريق عليه. إلى غير ذلك مما لا مجال للالتزام به.
    الثالث : النقض بالشبهات الوجوبية ، فإن ما سبق من العلم الإجمالي جار فيها ، مع أن المعروف عند الاخباريين عدم وجوب الاحتياط فيها.
    وزاد بعض مشايخنا فنقض بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط فيها.
    لكنه غير ظاهر ، لعدم العلم الإجمالي بالتكليف في الشبهات الموضوعية التي هي محل ابتلاء المكلف. ولو فرض وجوده خرج عن محل الكلام.
    نعم ، قد يعلم المكلف قبل الابتلاء بالشبهات بأن ما سوف يبتلى به من الشبهات يشتمل على تكاليف واقعية يلزم من الرجوع للاصول الترخيصية مخالفتها.
    إلا أن العلم المذكور لا أثر له ، بل هو كالعلم إجمالا بخطإ بعض الطرق أو الاصول المنصوبة التي تقوم تدريجا في الشبهات الموضوعية التي يبتلى بها المكلف تدريجا ، لأن الشبهات المذكورة لما لم يلتفت إليها بأنفسها حين العلم المذكور فلا تصلح للخطاب ، والالتفات إليها بعنوان الشبهة لا أثر له في التنجيز ، إذ موضوع التنجيز هو مصداق الشبهة المتوقفة على فعلية الالتفات. وليست الشبهة الا عنوانا تعليليا لا تقييديا. فتأمل.
    وبالجملة : لا إشكال في أن العلم الإجمالي المذكور ليس كالعلم الإجمالي المدعى في المقام ، فلا مجال للنقض به.

    الرابع : انحلال العلم الإجمالي المذكور بسبب قيام الطرق المعتبرة ، لعدم العلم بوجود التكاليف في غير موارد الطرق المذكورة ، ويمكن انطباق المعلوم بالإجمال على مواردها ، كما تقدم نظيره عند الاستدلال بحكم العقل على حجية خبر الواحد.
    وقد أطال غير واحد في المقام في أن الانحلال حقيقي أو حكمي ، وهو مبني على ضابط أحد الأمرين ، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك في الفصل الثاني ، ولا ينبغي الكلام فيه هنا.
    هذا تمام الكلام في حجج القائلين بالاحتياط ، وقد عرفت وهنها ، وأن المرجع في المقام أدلة البراءة.
    ولا فرق في جميع ذلك بين عدم النص وإجماله ، لعدم صلوح النص المجمل للبيان ، فلا ينهض برفع اليد عن أدلة البراءة المتقدمة.
    والظاهر أنه لا إشكال في ذلك لو كان إجمال النص ناشئا من إجمال ما يدل على الحكم ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، أو دار النهي بين الحرمة والكراهة.
    أما لو كان ناشئا من إجمال ما يدل على الموضوع ـ كما لو فرض إجمال الغناء بالاضافة إلى بعض الأفراد ، أو إجمال العموم الافرادي وتردده بين الأقل والاكثر ـ فقد يتوهم لزوم الاحتياط ، لصلوح الدليل لإثبات التكليف بالعنوان المجمل على ما هو عليه ، فيجب عقلا إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.
    وفيه : أن أخذ العنوان اللفظي في التكليف ليس إلّا بلحاظ حكايته عن معناه ، فالمكلف به ليس إلا المعنى ، وحيث فرض إجمال العنوان اللفظي فهو وإن احتمل حكايته عن مورد الشك ، إلا أنه لا يكون بيانا له قطعا ، بل للقدر المتيقن ، فلا يتنجز مورد الشك حتى يجب الفراغ عنه ، ولا مجال لتنجز المعنى على ما هو عليه بعد فرض اختصاص البيان بالمتيقن.

    نعم ، لو فرض ظهور العنوان المكلف به في نفسه والشك في محققه الخارجي لزم الفراغ عنه ، كما في موارد الشك في المحصل. ولعله يأتي في التنبيه الثاني ما ينفع في المقام.
    تنبيهات
    التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية
    تقدم أن همّ الاصولي البحث عن حكم الشبهات الحكمية التحريمية أو الوجوبية ، وأن الشبهات الموضوعية خارجة عنه ، إلا أنها داخلة في ملاك البحث ، لشمول أكثر الوجوه المتقدمة للبراءة والاحتياط لها ، كما أشرنا إليه.
    ولأجل ذلك يتعين البناء فيها على البراءة. بل بعض النصوص صريح في إرادتها ، كموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة ، ولعله لذا حكي الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.
    نعم ، قد يتوهم وجوب الاحتياط فيها ، لأنه مع فرض البيان الشرعي على التكليف لا تجري أدلة البراءة منه ، بل يتنجز ، فيجب الفراغ عنه بالاحتياط في جميع موارد الشبهات الموضوعية.
    وفيه : أن الجعل الشرعي للحكم الكلي لا يقتضي فعلية التكليف الصالح للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية موضوعه ، فمع فرض الشك في ذلك لا يعلم بثبوت التكليف كي يجب إحراز الفراغ عنه.
    وبعبارة اخرى : الأدلة الشرعية إنما تقتضي العلم بالكبريات الشرعية ، وهي لا تقتضي العلم بالنتيجة ـ وهي الحكم الفعلي الموضوع للطاعة والمعصية ـ إلا بعد إحراز الصغرى ، فمع فرض عدم إحرازها لا يكون التكليف الفعلي معلوما ، كي يمتنع جريان أدلة البراءة منه.
    ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض العلم بفعلية التكليف للعلم

    بتحقق بعض مصاديق الموضوع لزم الاحتياط في موارد الاشتباه ، للزوم الفراغ عن التكليف المعلوم ، كما لو كان هناك خمر معلوم تنجز التكليف بسببه وسائل مشتبه الخمرية.
    لاندفاعه : بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الموضوعات الخارجية ، فالعلم بثبوت بعضها بسبب العلم بتحقق موضوعه لا ينافي الشك في غيره ، ليمنع من جريان البراءة فيه.
    وبعبارة اخرى : العلم بالصغرى إنما يوجب العلم بالنتيجة بالإضافة إليها ، دون بقية الصغريات المجهولة ، بل المرجع فيها البراءة.
    ثم إنه لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية بالاصول الموضوعية المنقحة لموضوع الحكم بالتحريم ، كاستصحاب النجاسة في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة شربه ، على ما هو الشرط في التمسك بجميع الاصول الحكمية ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
    أما لو فرض عدم جريان أصل كذلك فمقتضى ما عرفت هو الرجوع لأصالة البراءة ، إلا أنه يظهر من بعضهم في موارد متفرقة عدم الرجوع لأصالة البراءة فيما لو احرز مقتضي التحريم وشك في وجود المانع ، بدعوى : بناء العقلاء على العمل بالمقتضي وعدم التعويل على احتمال المانع وإن لم يحرز عدمه. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام بعضهم.
    لكن البناء المذكور لم يثبت بنحو معتد به في الخروج عن مقتضى أدلة الاصول ، بل لا بد في البناء على التحريم في المقام من إحراز عدم المانع ولو بالأصل.
    كما أن بعض الأعاظم قدّس سرّه قد استثنى من الرجوع للبراءة ما لو كان الحكم الترخيصي التكليفي أو الوضعي ـ كالطهارة ـ معلقا على عنوان وجودي ، فقد ذكر قدّس سرّه أن إناطة الترخيص بالعنوان الوجودي ملازمة عرفا للبناء على عدمه عند

    عدم إحرازه ولو بالأصل.
    ولم يتضح الوجه في ما ذكره ، لوضوح أن الحكم الواقعي المجعول على العنوان في ظاهر الدليل مما لا مجال لإثباته مع عدم إحراز موضوعه ، كما هو الحال في سائر موارد الشك في موضوع الحكم المأخوذ في دليله ، من دون فرق بين الأحكام الترخيصية والإلزامية ، ولا بين الموضوعات الوجودية والعدمية ، لامتناع التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام بلا كلام ، وليس المدعى إلا البناء على الرخصة الظاهرية ، لأنها الأصل مع الشك.
    وحينئذ فإن كان المدعى أن إناطة الترخيص الواقعي بالعنوان الوجودي تستلزم عرفا إيجاب الشارع للاحتياط مع عدم إحراز موضوعه ، تخصيصا لأدلة البراءة.
    فهو ممنوع جدا ، لعدم المنشأ للتلازم المذكور بين الحكمين ، ولا سيما مع عدم السنخية بينهما ، لأن مؤدى الدليل حكم واقعي ، ووجوب الاحتياط حكم ظاهري ، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
    ومثله دعوى : أن جعل الحكم بالنحو المذكور مستلزم عرفا لتعبد الشارع بعدمه أو بعدم موضوعه ظاهرا عند عدم إحرازه ، فالتعبد المذكور عبارة عن أصل شرعي حكمي أو موضوعي خاص حاكم على أصل البراءة أو أصالة الطهارة ونحوهما من الاصول الترخيصية التكليفية أو الموضوعية.
    وإن كان المدعى بناء العرف على عدم الرجوع للبراءة حينئذ ، فيكون البناء المذكور مخصصا لأدلتها.
    فهو غير ثابت ، مع أنه لو تم لم يبعد صلوح عموم أدلة البراءة الشرعية للردع عنه ، نظير ردعها عن بنائهم على الفحص في الشبهات الموضوعية لو تم ، لا أنه يكون مخصصا لها.
    وإن كان المدعى بناءهم على أصالة عدم الترخيص الواقعي حينئذ عند

    عدم إحراز موضوعه ، نظير بنائهم على أصالة عدم القرينة ، ويكون الأصل المذكور حاكما على أصالة البراءة كحكومة الأدلة الاجتهادية عليها.
    فهو ممنوع جدا ، وغاية ما يلزم من عدم إحراز الموضوع هو عدم إحراز حكمه ، لا البناء على عدمه.
    وإن كان المدعى بناءهم على أصالة عدم الأمر الوجودي المأخوذ في موضوع الحكم ـ لو فرض عدم إحرازه ولو بالأصل ـ بدعوى : أن الأمر الوجودي محتاج إلى عناية ، وليس كالعدم ، فالأصل عدمه ولو لم يجر الاستصحاب.
    فهو غير ثابت ، والمتيقن من بنائهم ما إذا كان العدم موردا للاستصحاب وهو الذي ثبت من الشارع إمضاء سيرتهم فيه.
    على أنه لو تم فالفرق فيه بين الحكم الإلزامي والترخيصي بعيد جدا ، ولا سيما مع استلزامه تفكيكهم في أحكام العنوان الواحد لو فرض كون العنوان الواحد موردا للحكمين.
    ثم إنه قدّس سرّه فرّع على ذلك أصالة الحرمة في الدماء والفروج والأموال ..
    قال الكاظمي في تقريره لدرسه : «فإن الحكم بجواز الوطء ـ مثلا ـ قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون المال مما قد أحله الله ، كما في الخبر : لا يحل مال إلا من حيث أحله الله. فلا يجوز الوطء أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين ، أو الشك في كون المال مما قد أحله الله».
    وما ذكره قدّس سرّه وإن تم في الفروج لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(1). إلا أنه لا يتم في الدماء ولا في الأموال.
    __________________
    (1) المؤمنون : 5 / 6 / 7.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:17 am

    أما في الدماء فلظهور ما دل على أن الإسلام يحقن به الدم من النصوص (1) في أن الحكم الإلزامي هو المنوط بالعنوان الوجودي ، وهو الاسلام ، وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم الإسلام جواز الاهراق على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    وأما هدر الدم في موارد الحدود ونحوها فهو غالبا ليس حكما ترخيصيا ، بل إلزامي ، لرجوعه غالبا إلى وجوب إهراقه ، فهو خارج عما نحن فيه.
    مع أنه غالبا مجرى للأصل الموضوعي المقتضي لحرمة الإهراق ، فلا موضوع معه للأصل الذي أصّله.
    وأما الأموال فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم حلها وضعا الذي هو بمعنى تملكها وترتيب آثار الملك عليها ، لأن التملك وآثاره حوادث مسبوقة بالعدم ، فينفيها الاستصحاب في غير مورد اليقين ، ولا حاجة فيها للأصل الذي أصّله.
    وأما إباحة التصرف الخارجي في مقابل المنع التكليفي فلم يتضح من الأدلة إناطتها بعنوان وجودي ، كالحيازة والإذن من المالك.
    وأما الحديث الذي أشار إليه فهو خبر محمد بن زيد الطبري : «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله الإذن في الخمس ، فكتب إليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، إن الله واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهمّ ، لا يحل مال إلا من وجه أحله الله ، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا ، وعلى أموالنا ، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته ، فلا تزووه عنا ...» (2).
    وهو ظاهر في التحليل الوضعي المسئول عنه ، الذي عرفت أنه خلاف الأصل ، لا حل التصرف الخارجي في مقابل تحريمه تكليفا.
    __________________
    (1) راجع بعض هذه النصوص في الكافي ج 2 ص : 24 و 25.
    (2) الوسائل ج : 6 ، باب : 3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام من كتاب الخمس ، حديث : 2.

    مع أن العنوان المذكور فيه ليس موضوعا للحلية شرعا ، كي ينفع في ما نحن فيه ، بلحاظ كونه عنوانا وجوديا ، مخالفا للأصل ، بل هو منتزع من كون الشيء سببا للحلية ، فهو مسوق للحكاية عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة كالاذن من المالك والحيازة ونحوهما ، ولا دلالة فيه على كون جميع العناوين المحكية به وجودية ، لينفع في ما نحن فيه.
    بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة لعنوان وجودي يقتضي التحليل ، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها ، وهو يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالأمر الوجودي ، بل هو الظاهر من بعض النصوص الظاهرة في حقن الإسلام للمال.
    نعم ، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه ، فلو فرض العلم بأن المال مملوك للمسلم ، ولم يحرز بالأصل أو غيره طيب نفسه ولا عدمه كان من صغريات الأصل الذي أصله.
    فالانصاف : أن الأصل الذي ذكره لا ينفع في الثمرة المذكور بوجه معتد به ، بل هي لو تمت تبتني على أمر آخر.
    هذا ، والذي يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه : أن عدم الرجوع للبراءة ليس لانقلاب الأصل فيها ، بل لأن الحل فيها منوط بالعنوان الوجودي كالزوجية التي هي مجرى لاستصحاب العدم الحاكم على أصل البراءة.
    كما أن الأمر في الأموال يبتني على أن الحل فيها هو المحتاج إلى السبب فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل ، أو أن التحريم هو المحتاج إلى السبب ، فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل. وعلى الأول يكون الأصل في الأموال التحريم ، وعلى الثاني يكون الأصل فيها الحل.
    وقد استدل على الأول بخبر محمد بن زيد الطبري المتقدم والاستقراء. وهو صريح في أن الحل والتحريم مقتضى الأصل الموضوعي الحاكم على

    أصالة البراءة.
    ولا يخفى أن ما ذكره في الفروج وإن كان متينا إلا أنه إنما ينفع مع جريان استصحاب عدم الزوجية أو ملك اليمين ، أما مع عدمه ـ كما في تعاقب الحالتين والجهل بالتاريخ ـ فمقتضى أصالة البراءة جواز الاستمتاع وإن لم يحرز عنوان الزوجية أو ملك اليمين ، ومن البعيد جدا التزامه بذلك.
    وكذا ما ذكره في الأموال ، فإنه لو تم في نفسه لا ينفع مع عدم جريان الأصل الموضوعي كما في مورد تعاقب الحالتين ، كما لو فرض العلم بسبق رضا المالك بالتصرف وعدم رضاه به مع الجهل بالتاريخ.
    مع أنه إن اريد بتعليق الحل على السبب تعليقه على عنوان وجودي. فقد عرفت أن الخبر لا ينهض به. والاستقراء ـ مع أنه لا يصلح للاستدلال ـ غير تام ، لما أشرنا إليه من أن التصرف في المباحات الأصلية منوط ارتكازا بأمر عدمي ، وهو عدم استحقاق أحد للمال.
    وإن اريد به تعليقه على السبب الأعم من الوجودي والعدمي. فهو ـ مع أنه ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال بالاستقراء أو الخبر ـ لا ينفع ، لأن الأصل قد لا يحرز نفيه ، بل قد يكون عدميا محرزا بالأصل.
    وأما استصحاب عدم تحقق السبب بعنوان كونه سببا ، فلا مجال له ، لأن عنوان السبب من العناوين الانتزاعية المتأخرة رتبة عن جعل الحكم الشرعي على موضوعه ، وليس هو من العناوين التقييدية المأخوذة في موضوع الحكم ، ليكون مجرى للأصل الموضوعي.
    والذي تحصل من جميع ما ذكرنا : أن ما في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه وبعض الأعاظم قدّس سرّه لا ينهض بإثبات انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال.
    والظاهر أن الأصل يختلف في كل منها باختلاف الصور ولا بأس

    بالتعرض لما يناسب المقام ويساعده الوقت ، فنقول :
    أما الدماء فالشك في جواز إهراقها ..
    تارة : يكون للشك في احترام الدم ذاتا ، كما لو دار الأمر بين إسلام الشخص وكفره.
    واخرى : يكون للشك في ما يوجب احترام الدم بعد هدره ذاتا ، كما لو شك في دخول الكافر في الذمة.
    وثالثة : يكون للشك في طروء ما يوجب هدر الدم بعد احترامه ذاتا ، كما لو احتمل ارتداد المسلم ، أو زناه عن إحصان.
    أما في الصورة الاولى فإن كان الكفر متيقنا سابقا كان استصحابه هدر الدم ولا إشكال في العمل بمقتضاه ، حتى على ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ، أو على قاعدة المقتضي المتقدمة لها الإشارة آنفا.
    وإلا فقد يدعى أن مقتضى الأصل هو احترام الدم ، لمثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كل مولود يولد على الفطرة. يعني : المعرفة بأن الله عزّ وجل خالقه ...» (1) ، وصحيح فضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله عليه السّلام أنه قال : «ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه ...» (2) وغيرهما مما يظهر منه أن الكفر طارئ فالاصل عدمه.
    ويشكل : بأنها لا تتضمن أصالة الإسلام ، لوضوح أن الإسلام كسائر الأديان يحتاج إلى تعليم ، بل المراد من الفطرة معرفة الله تعالى والتوحيد ، كما صرح به في غير واحد من النصوص (3) ، ومنها صحيح زرارة السابق وهي لا تكفي في احترام الدم بلا إشكال ، بل حيث كان ظاهر بعض النصوص اعتبار
    __________________
    (1) الكافي ج : 2 ص 13.
    (2) الوسائل ، ج 11 ، باب : 48 من أبواب جهاد العدو ح : 3.
    (3) الكافي ج : 2 ص 12.

    الإسلام في حقن الدم كان استصحاب عدم الاسلام ولو من حال الصغر أو العدم الازلي كافيا في إثبات هدر الدم.
    اللهم إلا أن يدعى أن المستفاد مما تضمن وجوب عرض الاسلام قبل قتال الكفار هو أن هدر الدم لا يكون بمحض عدم الاسلام ، بل برفضه وعدم الدخول فيه بعد وصول حجته ، وهذا مما لا مجال لاستصحابه ، بل الأصل عدمه. وتمام الكلام في الفقه.
    وكيف كان ، فإن استفيد من الأدلة توقف هدر الدم على الكفر أو رفض الاسلام ونحوهما من الامور الوجودية كان مقتضى أصالة عدمها هو الاحترام ، وإن استفيد منها توقف الاحترام وحقن الدم على الإسلام كان مقتضى أصالة عدم الإسلام عدم الاحترام وجواز إهراقه.
    وإن فرض إجمال الأدلة كان مقتضى أصل البراءة جواز الاهراق أيضا.
    إلا أن يفرض قيام الإجماع على وجوب الاحتياط مع احتمال الاسلام ، فيخصص به عموم دليل الاستصحاب أو أصل البراءة.
    ومنه يظهر الحال في الصورة الثانية ، فإن استصحاب عدم دخول الشخص في الذمة يقتضي جواز قتله.
    إلا أن يفرض الإجماع على وجوب الاحتياط حينئذ مراعاة لاحتمال الذمة ، وهو المناسب لما يعلم من اهتمام الشارع بحفظ الذمة.
    وأما في الثالثة فاستصحاب عدم ما يوجب الهدر ، كالزنا ونحوه يقتضي الاحترام. نعم ، قد يحرز بالأصل موضوع الهدر ، كما لو فرض العلم بزنا شخص ، وكان مقتضى الاستصحاب إحصانه ، فاللازم العمل عليه حينئذ.
    وأما الفروج فالأمر فيها ظاهر مع الشك في حدوث السبب المحلل المقتضي لاستصحاب عدمه ، كما تقدم ، من دون فرق بين الشك في حدوث زوجية امرأة والشك في كون امرأة خاصة هي الزوجة ، للشك في الثاني في

    حدوث زوجية المرأة الخاصة ، فيستصحب عدمه.
    وأما مع تعاقب الحالتين في المرأة الواحدة فربما يدعى لزوم الاجتناب ، لا لما تقدم من بعض الأعاظم ، ولا القاعدة المقتضي المشار إليها آنفا ، بل للتمسك بعموم وجوب حفظ الفرج ، كما قد يظهر من بعضهم.
    ويشكل : بأن العموم المذكور قد خصّص بالزوجة وملك اليمين ، فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي هو خلاف التحقيق ، خصوصا في المخصص المتصل.
    فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام للارتكازيات المتشرعية الكاشفة عن اهتمام الشارع الأقدس به بنحو لا يرضى بالإقدام من دون إحراز السبب المحلل ، ويكون هذا مخصصا لعموم أدلة أصل البراءة.
    بل قد يقال : المستفاد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ...) وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين ، وحفظه ليس عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع واقعا ، بل هو عبارة عن المحافظة عليه والتوقي الراجع إلى الاحتياط فيه ، فالآية بنفسها ظاهرة في وجوب الاحتياط تخصيصا لأدلة البراءة ، ولا مخرج عنه إلا أن تحرز الزوجية بالاستصحاب أو غيره.
    ونظير ذلك يقال في وجوب حفظ الفرج من النظر ، بناء على ما في بعض النصوص من أنه المراد بحفظ الفرج في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ... (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)(1).
    ومن ثمّ لا يبعد القول ـ بل قد قيل ـ بوجوب الاحتياط بالتستر على من لم يأمن الناظر وإن لم يعلم بوجوده ، وهذا بخلاف غض النظر عن الجسد المحرم ، فإنه لا يجب إلّا مع العلم به ، لعدم تضمن دليله الحفظ ونحوه مما يقتضي
    __________________
    (1) سورة النور : 30 ـ 31.

    الاحتياط.
    وربما يستفاد ذلك أيضا من بعض النصوص الخاصة الواردة في المقامين ، وإن كان محتاجا إلى مزيد فحص وتتبع.
    وأما الأموال فإن شك في طروء الملك عليها في قبال احتمال عدم تملك أحد لها أصلا ، بأن بقيت على الإباحة الأصلية فلا ينبغي الإشكال في جواز التصرف فيها ، لاستصحاب عدم تملك أحد لها وعدم سبق أحد إليها ، ولو من باب العدم الأزلي.
    بل قد يجوز لأجله تملكها بالحيازة الذي عرفت أنه خلاف الأصل ، فضلا عن التصرف الخارجي الذي هو مقتضى أصالة البراءة.
    وإن علم بطروء الملك عليها وشك في جواز التصرف للشك في المالك ..
    فتارة : يكون لدورانه بين الاذن في التصرف وغيره.
    واخرى : يكون لدورانه بين الشخص الشاك والأجنبي.
    وثالثة : يكون لدورانه بين محترم المال وغيره.
    ورابعة : يكون للشك في احترام المالك مع تعيينه.
    وخامسة : يكون للشك في إذن المالك مع تعيينه.
    وهناك صور اخرى قد يعرف حكمها من الكلام في هذه الصور.
    أما الصورة الاولى فالظاهر لزوم الرجوع فيها لاستصحاب عدم إذن مالك العين وعدم طيب نفسه ، المقتضي لحرمة التصرف فيها.
    ودعوى : أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الفرد المردد ، لدورانه بين من يعلم بتحقق الإذن منه ومن يعلم بعدم تحققها منه.
    مدفوعة : بأن تردد الفرد لا يمنع من الاستصحاب إذا أمكنت الإشارة إليه بالعنوان الذي هو موضوع الأثر شرعا ، كالمالك في المقام ، لأنه بذلك يحرز

    موضوع الأثر بعنوانه المقتضي لترتب الأثر عليه ، وإنما يمنع منه مع امتناع الإشارة إليه بالعنوان المذكور ، على ما يذكر في محله. فتأمل.
    وأما الصورة الثانية فإن جرى فيها استصحاب ملكية المكلف أو الغير فهو ، وإلا فقد يقال : إن المتيقن من الأدلة عدم جواز التصرف في ملك الغير ، وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم تملك الغير ـ وإن كان أزليا ـ جواز التصرف فيه للمكلف وإن لم يحرز كونه ملكا له.
    وأما احتمال توقف جواز التصرف على تملك المتصرف للعين ، بنحو يكفي أصالة عدم تملكه لها في حرمة التصرف ظاهرا فلم يثبت بنحو معتد به. ولا أقل من إجمال الموضوع الذي يمنع من جريان الاستصحاب ، فيرجع لأصالة البراءة.
    وأما الاستدلال على الحرمة بصحيح جميل بن صالح ، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : «رجل وجد في منزله دينارا. قال : يدخل منزله أحد؟ قلت : نعم ، كثير. قال : هذا لقطة. قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا ، قال : فهو له» (1) ، لظهور صدره في احتمال كون الدينار له ، ومع ذلك لم يحكم فيه بالحل.
    ففيه : أن الظاهر منه كون الجهة الملحوظة في السؤال والجواب هي الحل الوضعي الذي هو عبارة عن الملكية ، لترتيب آثارها ، وقد عرفت أنها خلاف الأصل ، لا الحل التكليفي الذي هو محل الكلام وهو المطابق للأصل.
    مع أن الدينار مسبوق بملكية الغير ، فيحرم التصرف فيه بمقتضى استصحاب ملكية الغير له وعدم ملكية الواجد له ، فلا ينفع في محل الكلام ، وهو ما لم يجر فيه الاستصحاب المذكور.
    ومنه يظهر الحال في الصورة الثالثة ، فإن مقتضى استصحاب عدم ملك
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 17 باب 3 ، من أبواب اللقطة ، ح 1.

    المحترم له فيها جواز التصرف فيه ، بلا حاجة إلى إحراز كونه ملكا لغير المحترم ، ولا أقل من إجمال الموضوع المقتضي للرجوع للبراءة ، نظير ما تقدم.
    كما أن الحال في الصورة الرابعة يظهر مما تقدم في الدماء ، لأنهما بملاك واحد.
    وأما الصورة الخامسة فمقتضى أصالة عدم طيب نفس المالك وعدم إذنه حرمة التصرف فيها.
    نعم ، قد يشكل جريان الأصل المذكور فيما لو علم بصدور الإذن منه وبصدور المنع منه ، وشك في المتأخر منهما ، لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ إما ذاتا أو من جهة التعارض ، فيتعين الرجوع لأصالة البراءة من حرمة التصرف الخارجي ، وإن امتنع التصرف الاعتباري ، لأصالة عدم ترتب الأثر.
    اللهم إلا أن يقال : إن المرتكزات العقلائية تقتضي اعتبار طيب نفس المالك في جواز التصرف في ماله ، والاكتفاء بالاذن إنما هو من حيث كاشفيته عنه ، وهو مقتضى الجمع العرفي بين ما دل على اعتبار كلا الأمرين. كما أن الاكتفاء بالاذن السابق إنما هو من جهة أصالة عدم عدول الإنسان عن رأيه الذي هو من الاصول العقلائية المعول عليها في المقام وغيره ، وحينئذ فمع تعاقب الحالتين لا مجال للأصل المذكور ، بل يجري استصحاب عدم وقوع التصرف عن طيب النفس المقتضي لتحريمه. فافهم.
    أو يقال : إن بناء العقلاء في باب الحقوق على لزوم إحراز رضا صاحب الحق في التصرف في الحق والتجاوز عليه ، ولا يعتنى باحتمال رضاه وإن لم يحرز عدمه.
    والظاهر أن البناء المذكور مطابق للمرتكزات المتشرعية ، فهو ممضى شرعا صالح لتخصيص عموم أدلة البراءة.
    ولو غض النظر عن ذلك فالظاهر أن التصرف في المقام مما تأباه

    المرتكزات المتشرعية جدا ، وتكون هي المخصصة لأدلة البراءة. وبها يكون انقلاب الأصل في المقام.
    هذا ما تيسر ذكره في المقام. فتأمل فيه جيدا. وبه سبحانه الاعتصام.
    التنبيه الثاني : في قاعدة الاشتغال.
    ما تقدم إنما هو مع الشك في ثبوت التكليف ، أما مع تنجز التكليف ـ بعلم تفصيلي أو إجمالي ـ والشك في الفراغ عنه للشك في امتثاله ، فلا خلاف ظاهرا في لزوم الاحتياط عقلا ، وكذا لو فرض تنجز التكليف بطريق معتبر أو أصل أو غيرهما مما يقتضي منجزية الاحتمال ، كما في موارد الشك في التكليف قبل الفحص.
    وهو المراد بما اشتهر من أن (الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني) ، فلا يراد بالاشتغال اليقيني إلا تنجز التكليف بأحد الوجوه المتقدمة. كما أن المراد بالفراغ اليقيني مطلق إحراز الامتثال ولو كان بتعبد شرعي لا يوجب العلم.
    ومن ثمّ كان التعبد الشرعي بثبوت التكليف أو الامتثال منقحا لموضوع القاعدة.
    هذا ، ولا يبعد البناء على أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد تنجز التكليف من دون تعبد بتحقق الامتثال ، وأن حكم العقل بلزوم الامتثال اليقيني إنما هو مع عدم اكتفاء الشارع بما دونه ، لا بنحو يمتنع الاكتفاء بما دونه شرعا ، لأن الدليل على القاعدة ليس إلّا الارتكازيات العقلية القطعية ، وهي مختصة بذلك. نظير ما ذكرناه آنفا من أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في مورد الشك مانع من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وإن لم يكن الحكم المذكور بيانا للتكليف الواقعي الذي هو موضوع العقاب.
    وقد يشهد بما ذكرنا أنه حيث لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد

    بالامتثال في موارد الاحتمال فليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي إلا بمحض الجعل والاعتبار من دون فرق حقيقي أصلا ، ومن البعيد جدا دخل الاعتبار في حكم العقل المذكور.
    ودعوى : أن العقل يختص بمقام الامتثال ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم بالإضافة إلى أصل وجوب الامتثال ثبوتا ، لا بالإضافة إلى مقام الاثبات عند الشك فيه ، فكما يكون للشارع التعبد به مع الشك المذكور له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي.
    وبالجملة : لا ملزم يمنع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي بنحو يتعين رد ظواهر الأدلة لو وردت به أو تأويلها.
    ومن هنا فلا ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في مقام الامتثال ، كقاعدة الفراغ والقرعة ، من الطرق أو الاصول المتضمنة للتعبد بالامتثال شرعا ، بل لا مانع من الالتزام برجوع أدلتها إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مواردها. إلا أن يفرض ظهور أدلتها في التعبد المذكور.
    ثم إن الشك في الامتثال ..
    تارة : يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوما ومصداقا ، كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أو لا.
    واخرى : يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الامور ، إما لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية ـ كالتردد بين الظهر والجمعة ـ أو الموضوعية ـ كتردد النجس بين الثوبين ـ أو لاحتمال توقف تحققه على خصوصية زائدة ، بحيث لا يتحقق بدونها.
    أما الأول فهو أظهر موارد قاعدة الاشتغال.
    وأما الثاني فما كان التردد فيه بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية العلم الإجمالي التي يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث.

    وأما ما احتمل اعتبار خصوصية فيه فهو ..
    تارة : يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في المكلف به بحسب أصل التكليف ، كاحتمال اعتبار الاستغفار في الصلاة.
    واخرى : يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في تحقق المكلف به خارجا ، من دون أن تكون معتبرة في المكلف به بنفسه.
    أما الأول فالتحقيق الرجوع فيه للبراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف بالخصوصية ، على ما يأتي الكلام فيه في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
    وأما الثاني فاللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، لان المفروض تنجز التكليف وعدم الاجمال فيه ، وليس الشك الا في امتثاله ، الذي عرفت عدم الإشكال بينهم في لزوم تحصيل القطع به.
    وربما يقع الكلام في تشخيص حال بعض الصغريات وأنها راجعة لهذا القسم أو للقسم الأول ـ أعني الشك في التكليف بالخصوصية ـ والمهم من ذلك موردان ..
    الأول : أن يكون المكلف به مسببا توليديا لا يكون موردا لاختيار المكلف إلا بتوسط سببه ويحتمل اعتبار الخصوصية في سببه ، كالطهارة المسببة عن الوضوء الذي قد يحتمل اعتبار مرتبة من الموالاة فيه.
    الثاني : أن يؤخذ في المكلف به عنوان زائد على ذاته ، ويحتمل توقف انطباق العنوان على ما في الخارج على الخصوصية المشكوكة.
    أما الأول فهو المعبر عنه بالشك في المحصل. والمعروف فيه الرجوع لقاعدة الاشتغال ، لأن المسبب التوليدي قد انشغلت الذمة به بسبب ورود البيان بالتكليف به ، فلا مجال لإجراء البراءة منه ، كما لا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة في سببه ، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها ، وإنما يؤتى

    بها لإحراز الفراغ عن المسبب الذي احرز التكليف وانشغال الذمة به.
    ودعوى : أنه لا مجال للتكليف بالمسبب لعدم تعلق القدرة به ، فلا بد من صرف القدرة لما هو المقدور ، وهو السبب ، وحينئذ فاحتمال دخل شيء في السبب راجع إلى احتمال اعتبار خصوصية في المكلف به ، وفي مثله يكون المرجع البراءة ، بناء على ما هو الحق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    مدفوعة .. أولا : بأن المسبب وإن لم يكن موردا للقدرة بالمباشرة ، إلا أن تعلق القدرة به بتوسط سببه كاف عقلا في صحة التكليف به شرعا ، فتنشغل الذمة به ويجب إحراز الفراغ عنه.
    وثانيا : بأن رجوع التكليف للسبب ليس بنحو يكون بذاته موردا للتكليف ، ليكون تردده بين الأقل والأكثر راجعا إلى الشك في التكليف بالخصوصية الزائدة فيرجع فيها للبراءة ـ كما أشرنا اليها في القسم الأول ـ بل هو راجع إلى التكليف به بعنوان كونه سببا ، فلا بد من إحراز العنوان المذكور في مقام الامتثال على ما يأتي في المورد الثاني.
    نعم ، لو كان الشك في اعتبار الخصوصية في السبب ناشئا من الشك في كمية المسبب المكلف به فإن المرجع حينئذ هو البراءة من التكليف بالزيادة فيه ، وذلك يقتضي الاكتفاء بالمسبب الفاقد للخصوصية المحتملة.
    وأما الثاني فظاهر جماعة الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال أيضا ، منهم شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، فيلزم مراعاة الخصوصية المحتملة ليحرز تحقق العنوان الذي اخذ في المكلف به.
    وظاهر المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم (قدس سرهما) في مبحث الصحيح والأعم الرجوع فيه للبراءة.
    وحاصل ما يقال في وجهه : أن العنوان المكلف به إذا كان متحدا مع فعل المكلف بحيث يصح حمله عليه ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع

    الأفعال الصلاتية ـ يكون حاكيا عنه ، فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقدها موجب لإجمال العنوان الحاكي عنه من هذه الجهة ، فلا يصلح للبيان إلا بالإضافة إلى المتيقن ، دون الخصوصية المحتملة ، ومرجع الشك حينئذ إلى الشك في التكليف بالخصوصية ، فيكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر التي عرفت الرجوع فيها للبراءة.
    نعم ، إذا كان العنوان المكلف به لا يحكي عن فعل المكلف بنفسه ، بل عن أثره المسبب عنه ـ كما في الشك في المحصل ـ لم يكن احتمال دخل الخصوصية موجبا لاجمال المكلف به ، بل يجب الفراغ عنه ، كما تقدم.
    والذي ينبغي أن يقال : العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه ..
    تارة : يحكي عنه بنفسه.
    واخرى : يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه ، منتزعة من ترتب شيء عليه ، كما في العناوين التسبيبية ـ كالناهي عن الفحشاء ، والمطهر ، والدواء ، والمحرق ـ أو من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره ـ كالأكبر ، والمماثل ، والأصغر ـ أو غير ذلك.
    أما الأول فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لإجماله ، لتردد ما يحكي عنه العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه ، فلا يصلح العنوان للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة ، ويتجه حينئذ الرجوع في الخصوصية إلى البراءة ، بناء على أنها المرجع في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    وأما الثاني فاحتمال اعتبار الخصوصية في تحققه لا يوجب إجماله ، لأن العنوان متقوم بجهة انتزاعه وحاك عنها ، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية إجمال تلك الجهة المحكية بالعنوان ، بل قد تكون واضحة جلية مفهوما ، فيصلح العنوان المأخوذ في الدليل للحكاية عنها وبيان التكليف بها ، الموجب لانشغال

    الذمة بها ، فيجب إحراز الفراغ عنها حينئذ بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله في تحققها.
    ولا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة ، لأن عدم وجوبها بنفسها من حيث هي لا ينافي لزوم الإتيان بها لإحراز الفراغ عن العنوان الذي انشغلت الذمة به تبعا لقيام الدليل عليه.
    إن قلت : هذا القسم من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن الذات المعنونة به ، وهي في المقام فعل المكلف بنفسه ، فاذا فرض تردد الفعل الواجب بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال العنوان الحاكي عنه ، كما في القسم الأول.
    قلت : حكاية هذا القسم من العنوان عن الذات بنحو الإبهام المطلق ، بحيث لا يكون للزيادة والنقيصة دخل في مفهوم العنوان ، وإنما يحكى عنها من حيثية منشأ انتزاع العنوان لا غير ، فلا يلزم من الشك في اعتبار الخصوصية إجمال العنوان المكلف به ، بل هو على ظهوره صالح لتنجيز الذات الواجدة لمنشا انتزاع العنوان على إبهامها ، فيلزم إحرازها في مقام الامتثال بالمحافظة على تمام ما يحتمل اعتباره في تحقق منشأ انتزاع العنوان.
    نعم ، لو فرض أن أخذ العنوان في التكليف ليس لكونه بمنشإ انتزاعه موضوعا له ، بل لمحض حكايته عن الأفعال الخارجية بأنفسها كان الشك في اعتبار الخصوصية موجبا لإجمال المكلف به ، الموجب للرجوع لأصالة البراءة. لكنه خروج عن الفرض.
    ومن هنا ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الموضوع له في الحقائق الشرعية ـ كالصلاة والحج وغيرهما ـ إن كان هو الأجزاء والشرائط بشخصها اتجه الرجوع مع الشك في اعتبار الخصوصية إلى البراءة ، وإن كان هو العنوان البسيط المنتزع منها ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء ـ لزم الرجوع في ذلك إلى الاشتغال.

    وكأن المراد ببساطته ما أشرنا إليه من عدم حكايته عن الفعل إلا بنحو الإبهام لا تغير فيه الزيادة والنقيصة والكثرة والقلة. فلاحظ.
    تذنيب
    حيث عرفت المعيار في الرجوع لقاعدتي البراءة والاشتغال فينبغي الكلام تبعا لغير واحد من الأعاظم في الفرع المشهور ، وهو من عليه فوائت لا يحصى عددها ، فقد حكي عن غير واحد وجوب الاحتياط حتى يعلم أو يظن بالفراغ ، ونسب إلى المشهور ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني أنه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها ، وظاهر ذلك ـ خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظن رخصة وأن القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ـ كون الحكم على القاعدة».
    ومما ذكره يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن الأصل في الحكم صحيح مرازم : «سأل اسماعيل بن جابر أبا عبد الله عليه السّلام فقال : أصلحك الله إن علي نوافل كثيرة فكيف أصنع؟ فقال : اقضها ، فقال : إنها أكثر من ذلك. فقال : اقضها. [قال : خ. ل] قلت : لا احصيها ، قال : توخ» (1).
    إذ لو تم ذلك اقتضى وجوب تحصيل الظن ابتداء ، لا الترخيص في الاكتفاء به مع كون مقتضى القاعدة لزوم العلم.
    مضافا إلى وهن الاستدلال في نفسه بأن الصحيح المذكور وارد في النافلة ، ولا مجال للتعدي منها للفريضة ، ولا سيما مع كون الأمر المذكور استحبابيا فالتعدي منه للمقام لا يجدي إلا بدعوى : أن المستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء تابع له ، فيجب بوجوبه ويستحب باستحبابه ،
    __________________
    (1) الوسائل ج : 3 ، باب : 19 ، من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، حديث : 1.

    وهو تحكّم لا شاهد له ، خصوصا مع الفرق بين الواجب والمستحب بجريان البراءة من الأول دون الثاني.
    بل لا يبعد أيضا عدم جريان قاعدة الشك بعد خروج الوقت في الثاني لمن لم يبن على الامتثال ولم يتعود عليه. فتأمل.
    ومما ذكرنا يظهر وهن الاستدلال بالأولوية في الفرائض ، فإنها إنما تقتضي الاستحباب لا الوجوب ، بل هو فيها يبتني على ما ذكرنا.
    وأما الاستدلال لوجوب تحصيل الظن في الفريضة بصحيح إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، سألته عن الصلاة تجتمع علي؟ قال : «تحرّ واقضها» (1).
    فلا مجال له ، إذ لا يبعد حمله على النافلة بقرينة ما في صحيح مرازم المتقدم ، لقرب حكايتهما عن واقعة واحدة ، ولبعد تجمع الفرائض ، لعدم معروفية ترك الصلاة في تلك العصور ، خصوصا من مثل إسماعيل بن جابر ، ولا سيما مع إشعار السؤال بتكرر ذلك أو توقعه من دون استنكار ، كما أشار لبعض ذلك في الجواهر.
    مع أنه لو عم الفرائض لم ينفع ، لمعلومية امتناع حمله على الوجوب مع عمومه للنوافل ، والتفكيك في الأمر الواحد في الوجوب والاستحباب ممتنع.
    فالاستدلال به موقوف على أن يستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء ، تابع له في الوجوب والاستحباب.
    أو حمله على خصوص الفرائض ، فيتمسك فيه بظهور الأمر في الوجوب.
    وقد عرفت أن الأول تحكّم لا شاهد له.
    كما أن الثاني بعيد جدا ، خصوصا في مورد الرواية ، لما تقدم.
    __________________
    (1) الوسائل ج : 3 ، باب : 19 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، حديث : 2.

    وكيف كان ، فقد يوجه اقتضاء القاعدة لزوم اليقين بالفراغ بالاحتياط بوجوه ..
    الأول : أن ذلك مقتضى قاعدة الاشتغال بالفوائت الواقعية المعلومة إجمالا ، فإنه يجب الفراغ عنها بعد العلم بتعلق التكليف بها.
    وفيه : أن التكليف بقضاء الفوائت انحلالي بقدرها ، فلكل فائتة تكليفها المستقل المتعلق بها ، فالشك في فوت كل فريضة مساوق للشك في وجوب قضائها ، كما هو الحال في سائر الشبهات الموضوعية التي تقدم جريان البراءة فيها.
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه ، أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، وكذا فيما لو تردد فيما فات عن أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل والأكثر».
    الثاني : أنه مقتضى قاعدة الاشتغال في كل فريضة بنفسها ، للعلم بالاشتغال بها في الوقت ، والشك في الخروج عن عهدة التكليف المذكور بالأداء ، فيجب إحراز الفراغ عنها.
    ودعوى : أن التكليف المتيقن ثبوته في الوقت هو التكليف بالأداء المقيّد بالوقت ، ومن المعلوم سقوطه بالامتثال أو بخروج الوقت ، وإنما المحتمل حدوث التكليف بالقضاء بعد ذلك ، والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.
    مدفوعة : بأن ظاهر الأمر بالأداء وإن كان هو كون الوقت قيدا في المكلف به ، فيتعذر ويسقط بخروجه ، ومن ثمّ احتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد ، إلا أنه لا بد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد ورود الأمر بالقضاء ، لأنه كاشف عن كون الوقت مأخوذا بنحو تعدد المطلوب ، لا في أصله ، كما هو الحال في سائر القيود التي تسقط بالتعذر ، فالأمر بالقضاء بعد الأمر بالأداء كاشف عن أن المورد كالأمر بالدين والأمر بتعجيله ، وليس القضاء عرفا أجنبيا عن الأداء مترتبا

    على تركه ، كالأمر بالكفارة المترتب على عصيان بعض التكاليف ، كما أوضحناه في مبحث الواجب الموقت.
    وحينئذ ففي المقام تكليفان الأول التكليف بأصل الفريضة ، والآخر التكليف بأدائه في الوقت ، والذي علم بسقوطه بخروج الوقت هو الثاني ، أما الأول فهو مما يحتمل بقاؤه ويشك في امتثاله ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
    مع أنه لو فرض كون القضاء مباينا للاداء فمقتضى أصالة عدم الاتيان بالواجب في وقته هو وجوب القضاء ، بناء على ما هو غير بعيد من أن موضوعه مجرد عدم الإتيان الذي هو مقتضى الأصل ، لا الفوت الذي هو أمر وجودي على خلاف الأصل.
    نعم ، لو كان الشك في مقدار الفائت مسببا عن الشك في أصل وجوبه في الوقت ، كما لو شك في تقدم البلوغ وتأخره ، أو في استمرار الحيض مثلا اتجه الرجوع لأصالة البراءة بل للاستصحاب الموضوعي المقتضي لها. إلا أن الظاهر خروجه عن محل الكلام.
    وفيه : أنه لا بد من رفع اليد عن ذلك بما تضمّن من النصوص عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت ، ولو لا ذلك لزم بمقتضى الوجه المتقدم القضاء مع الشك في فوت فريضة واحدة. بل مقتضى أصالة عدم الإتيان لزوم الاحتياط في المحتمل في قضاء الولي عن الميت.
    وما في الجواهر من ظهور النصوص المذكورة في الشك في أصل الفوت ، دون المقام مما علم فيه بالفوت وشك في مقدار الفائت.
    ممنوع جدا ، إذ لا منشأ معتد به للظهور المذكور ، فإن كل فريضة بنفسها يشك في أصل فوتها.
    نعم ، لو فرض كون الشك في كل فريضة حادثا في الوقت ومستمرا إلى ما بعده اتجه وجوب القضاء لقصور النص المذكور حينئذ ، بل التصريح فيه

    بوجوب الصلاة بالشك قبل خروج الوقت وتحقق الحائل. لكن هذا لا يتوقف على العلم بتحقق الفوت في الجملة ، بل يجري حتى مع الشك في أصل الفوت ، وهو خارج عن محل الكلام ، كما لا يخفى.
    ثم إنه لا يبعد الخروج بالنص المذكور عن الوجه الأول لو فرض تماميته في نفسه ، لأن التعبد بالفراغ رافع لموضوع قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى المقدار المشكوك. فتأمل.
    الثالث : ما عن بعض المحققين قدّس سرّه في حاشيته على المعالم من أن أدلة البراءة لما كانت مغياة بحصول العلم ، وكان الغالب تحقق العلم بالفوت في وقته ، وإنما يشك فيه لو فرض وقوعه لنسيانه بعد العلم به ، امتنع الرجوع لأدلة البراءة فيه ، لاحتمال تحقق الفوت واقعا وحصول العلم به في حينه ، فيكون التمسك بعموم الأدلة فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
    وكذا الحال في قاعدة الشك بعد خروج الوقت ، فانها أيضا من الاصول العملية المضروبة في حال الشك ، فلا تجري مع العلم.
    وأما البراءة العقلية فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان ، وحينئذ فلا بد من الاحتياط ، لعدم المؤمّن.
    نعم ، لو فرض اليقين بعدم سبق العلم بالفوت لو فرض تحققه اتجه الرجوع حينئذ للبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الشك بعد خروج الوقت ، للعلم بشمول أدلتها وتحقق موضوعاتها.
    وفيه : ـ كما ذكره غير واحد ـ أن العلم لا يصلح لتنجيز متعلقه إلا مع بقائه ، أما مع فرض ارتفاعه بالنسيان فلا يصلح للتنجيز حتى يكون بيانا رافعا لموضوع البراءة العقلية.
    كما أنه لا يراد بمانعية العلم من التمسك بالقواعد الظاهرية ـ كقاعدتي البراءة والشك بعد خروج الوقت ـ إلا مانعيته في ظرف بقائه ، لا مطلقا ، ولذا

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:28 am

    لا ريب في الرجوع إليها لو فرض تزلزل القطع بالتكليف وانقلابه إلى الشك ، فإن ذلك ملازم لاحتمال كون القطع السابق علما.
    مع أن ذلك لو تم جرى في غير الفوائت أيضا مما يحتمل العلم به ، كالدين ونحوه ، ولا يظن منهم البناء على لزوم الاحتياط فيها ، وإن حكي عنه الجزم به فيها أيضا حينئذ.
    ومنه يظهر وهن ما في الجواهر من عدم الإشكال في الرجوع للاشتغال لو فرض سبق العلم بكمية الفائت ثم طرأ النسيان له ، لبقاء الخطاب واقعا بذلك المنسي ولو من جهة الاستصحاب ، فلا مجال للرجوع للبراءة.
    لظهور اندفاعه : بأن الخطاب بالواقع التابع للعلم به هو عبارة عن تنجزه ، وبارتفاع العلم يعلم بارتفاعه ، فلا مجال لاستصحابه. مع أنه من الامور العقلية التي يمتنع استصحابها.
    وأما الخطاب الشرعي الواقعي بالفائت الواقعي فيعلم ببقائه بلا حاجة للاستصحاب ، إلا أنه لا يتنجز إلا بالإضافة إلى المعلوم ، وهو الأقل ، ولا يجدي في وجوب الأكثر بعد عدم العلم به حتى يستصحب. فلاحظ.
    الرابع : ما أشار إليه شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) من أن الرجوع للقواعد الظاهرية إنما هو حيث يكون جريانها موجبا للأمان من العقاب ، ولا مجال لذلك في المقام لو احتمل التفويت العمدي ، لأن تعمد الفوت موجب لاستحقاق العقاب ، ولا يرتفع بجريان البراءة بعد ذلك لو فرض طروء النسيان.
    نعم ، لو علم بعدم تعمد التفويت ، وإنما احتمل حصوله عن عذر فلا مانع من التمسك بالأصل ، للأمن معه من العقاب.
    ويندفع : بما أشار إليه أيضا من أن البراءة ونحوها من الطرق الظاهرية ، إنما ترفع عقاب ترك القضاء المفروض تحقّق الشك في وجوبه ، وأما تفويت الفريضة عمدا فلا يرتفع عقابه حتى لو فرض الاحتياط بالقضاء ، بل لا يرفعه إلا

    التوبة ونحوها من ماحيات الذنوب التي يمكن فرض تحققها في المقام بالتوبة من كل ذنب إجمالا. مع ترك القضاء ، اعتمادا على الطرق الظاهرية.
    وبالجملة : لا يتضح الوجه في فتوى المشهور بوجوب الاحتياط في المقام ، بل مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت هو عدم وجوب القضاء إلا لما يتيقن فوته.
    التنبيه الثالث : في حكم الشك في حلية اللحوم
    لا ريب في أن أصل البراءة والحل كسائر الاصول إنما يكون مرجعا في مقام العمل إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه موضوعي كاستصحاب النجاسة في الطعام المقتضي لحرمة أكله ، أو حكمي كاستصحاب الحرمة. والكلام في ضابط حكومة الاصول بعضها على بعض موكول إلى مباحث الخاتمة للاصول ، حيث يأتي الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
    وقد رتب على ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن استصحاب عدم التذكية في الحيوان مقدم على أصالة البراءة والحل في أكله ، كما أشار إلى بعض ما يتفرع على ذلك.
    وقد أطال غير واحد ممن تأخر عنه في صور ذلك ، وفصلوا الكلام في أحكامها ، كما تعرضوا الأحكام الشك في حلية اللحوم من غير جهة التذكية.
    وذلك وإن كان خارجا عن محل الكلام ، إلا أن أهمية الآثار المرتبة عليه ألزمنا بمتابعتهم فيه ، فنقول بعد الاستعانة به تعالى وطلب التوفيق منه :
    الشك في حلية الحيوان .. إما أن يكون بنحو الشبهة الحكمية ، أو بنحو الشبهة الموضوعية ، وحيث كان ملاك الكلام مختلفا فيهما فالمناسب الكلام فيهما في مقامين ..

    المقام الأول : في الشبهة الحكمية
    اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الحكمية ..
    تارة : يكون للشك في حل الحيوان المأخوذ منه من غير جهة التذكية ، كالشك في حلية لحم الأرنب.
    واخرى : يكون للشك في تذكيته ، إما للشك في ما يعتبر في التذكية شرعا ، كما لو شك في اعتبار كون آلة الذبح حديدا ، أو للشك في قابلية الحيوان لها ، كما في الحيوان المتولد من طاهر العين ونجس العين ، ولا يلحق عرفا بحيوان خاص معلوم الحال ، إذ لو الحق بحيوان معلوم الحال كان مشمولا لأدلته المقتضية لقابليته للتذكية أو لعدمها ، فيستغنى به عن النظر في مقتضى الأصل.
    أما الاولى فالظاهر أنه لا مانع فيها من أكل اللحم عملا بأصالة البراءة والحل.
    ودعوى : أنه يمكن الرجوع لاستصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو اللحم ، وليست الحياة إلا من حالاته الخارجة عنه ..
    هذا ، بناء على حرمة الحيوان حال الحياة ، فيحرم ابتلاع العصفور حيا مثلا ، أما لو قيل بجوازه أمكن استصحاب الحرمة الثابتة قبل أن يشعر أو يوبر ، كما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه.
    مدفوعة : بأن موضوع الحرمة هو الأكل لا اللحم ، ومن الظاهر اختلاف الأكل باختلاف قيوده من الحياة والموت وغيرهما ، لأنه أمر كلي قابل للتقييد ، فلا مجال للاستصحاب حينئذ لتبدل الموضوع ، كما هو الحال في غالب الأحكام التكليفية ، بخلاف النجاسة والطهارة ونحوهما مما يكون متعلقا بنفس الأمر الخارجي الخاص ومحمولا عليه ، كاللحم الذي لا يتبدل عرفا باختلاف العوارض المذكورة ، فإنه يجري الاستصحاب فيها على ما يأتي توضيحه في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

    هذا ، وقد يدعى أن عمومات الحل حاكمة على استصحاب الحرمة لو كان جاريا ، وعلى أصالة الحل والبراءة لو لم يجر ، مثل قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ...)(1) ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(2) ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(3) ، وما في الصحيحين : «وإنما الحرام ما حرم الله في القرآن» (4) ، وقريب منهما غيرهما (5).
    وفيه : أن العمومات المذكورة لا تنهض بالاستدلال ، لما هو المعلوم من كثرة التخصيص في الآية الاولى بنحو قد يلزم بحملها على الحصر الإضافي.
    وإن كان قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام : «أنه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمر والبغال والخيل ، فقال : ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه ، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم خيبر عنها ، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ، وليست الحمر بحرام ، ثم قال : اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...)» (6).
    لكن لا بد من رفع اليد عنه ، لمنافاته للنصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب الدالة على تحريم كثير من الامور ، بنحو يلزم كثرة التخصيص المستهجن ، كما ذكرناه في الآية ، فلا بد من حمله على المحرمات المغلظة ـ كما عن الشيخ قدّس سرّه وذكره الطبرسي في الآية ـ أو على التقية في الجواب والاستدلال.
    نعم ، ربما يجمع بين الآية وأدلة المحرمات بالنسخ ، لأن سورة الأنعام مكية ـ كما في مجمع البيان ـ وحينئذ فلا مانع من الاستدلال بها في غير مورد
    __________________
    (1) سورة الأنعام : 145.
    (2) سورة المائدة : 4.
    (3) سورة المائدة : 5.
    (4) الوسائل ، ج 16 باب 4 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 ، 7.
    (5) الوسائل ، ج 16 باب 5 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.
    (6) الوسائل ، ج 16 باب 5 ، من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.

    ثبوت النسخ.
    لكنه لا يخلو عن إشكال ، لعدم كون ذلك جمعا عرفيا. ومنه يظهر حال النصوص المشار إليها. وأما الآية الثانية فسيأتي الكلام فيها.
    وأما الآية الثالثة فالاستدلال بها موقوف على كون الطيب أمرا يدركه العرف ، وأنه عبارة عما لا يستقذر ويستخبث عندهم. وحينئذ فيشكل الحل فيها بكثرة التخصيص أيضا.
    فلا بد من حملها على الإشارة إلى طيبات معهودة ، فتكون مجملة ، أو على أن الطيب أمر لا يدركه إلّا الشارع ، بحيث يكون تحريم شيء كاشفا عن عدم كونه طيبا ، لا أنه مخصص للعموم المذكور ، أو على ما يأتي في الآية الثانية. فتأمل جيدا.
    والحاصل : أنه لا مجال لاستفادة عموم حل الحيوانات ، ليكون حاكما على الاصول الجارية في المقام ، من استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة ، أو أصالة الحل التي عرفت التعويل عليها.
    ومثل ذلك ما عن شارح الروضة من أن اللازم البناء على الحرمة ، لأن المحللات محصورة ، فإذا لم يدخل الحيوان في المحصور منها كان الأصل حرمة لحمه.
    للإشكال فيه بأنه ..
    إن اريد من عدم دخوله في المحصور العلم بعدم دخوله فيه ، بأن يفرض كون الحل محصورا بعناوين خاصة ، كالبقر ، والغنم ونحوهما ، ويعلم بعدم دخول الحيوان الخاص فيها ، فيعلم بحرمته ، ويراد من الأصل حينئذ هو عموم الحرمة المستفاد من الحصر المذكور ، لا الأصل المقابل للدليل الجاري مع الشك.
    ففيه : أنه لا دليل على الحصر بالنحو المذكور ، وأدلة تحليل الامور

    المذكورة لا ظهور لها فيه ، بل ظاهر أدلة تحريم كثير من الامور أن تحريمها لجهة تخصها ـ كالمسخ ـ لا لعدم دخولها في العناوين التي حصر بها التحليل.
    وإن اريد من عدم دخوله في المحصور الشك في دخوله فيه ، فقد يوجه بأن ظاهر قوله تعالى اسمه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ...) حصر المحلل في الطيبات ، فالشك في حلية الحيوان راجع إلى الشك في كونه طيبا ، فيحرم ظاهرا.
    لكنه يندفع .. أولا : بأن عطف صيد الجوارح على الطيبات شاهد بعدم كون المراد بالطيب الطيب بذاته في مقابل الخبيث بذاته ـ كالخنزير ـ ليمكن الشك في صدقه على بعض الحيوانات ـ كالأرنب ـ بل الطيب العرضي ، وهو المذكى بالذبح ، كما يشهد به ما في مجمع البيان قال : «وعن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة أن زيد الخيل وعدي بن حاتم الطائيين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالا : إن فينا رجلين لهما ستة أكلب ، تأخذ بقرة الوحش والظباء ، فمنها ما يدرك ذكاته ومنها ما يموت ، وقد حرم الله الميتة ، فما ذا يحل لنا من هذا؟ فانزل الله Sadفَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ...).
    ولا أقل من إجمال الطيبات على ذلك المانع من الاستدلال بالآية ، ولا سيما مع أشرنا إليه من الاشكال في عموم حل الطيبات.
    وثانيا : بأن الشك في صدق الطيب ـ لو تم الحصر ـ لا يقتضي البناء على التحريم ظاهرا ، بل على الحل ، لأنه مقتضى الأصل.
    ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم كون الحيوان طيبا ، إذ لا يبعد كون الطيب من لوازم الماهية ، فلا يحرز سبق عدمه في الحيوان ولو كان أزليا. فتأمل. نعم ، بناء على أن تعليق الحل على أمر وجودي يقتضي البناء على عدمه عند عدم إحرازه ، كما تقدم في التنبيه الأول من بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد يتجه البناء على الحرمة.

    وإن استشكل فيه بعض الأعاظم على ذلك أيضا بوجه لا يهم الكلام فيه بعد ما تقدم من ضعف المبنى المذكور.
    وثالثا : بأن ذلك لو تم اقتضى البناء على الحرمة في غير اللحوم ، ولا يظن من أحد الالتزام به.
    ودعوى : اختصاص الحصر في الآية باللحوم. غير ظاهرة المأخذ.
    وبالجملة : كما لا مجال للرجوع إلى عموم الحل في اللحوم لا مجال للرجوع إلى عموم الحرمة فيها ، بل المرجع فيها أصالة الحل بعد ما تقدم من عدم جريان استصحاب الحرمة. فلاحظ.
    هذا تمام الكلام في الصورة الاولى.
    وأما الثانية ، فالكلام فيها يبتني على امور ينبغي التعرض لها في المقام ..
    الأول : اختلفوا في حقيقة التذكية ، فذهب المحقق الخراساني وبعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما إلى أنها أمر مركب من الذبح والتسمية وغيرهما مما يجب شرعا ، فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها وتردد مفهومها بين الأقل والأكثر.
    وذهب سيدنا الأعظم قدّس سرّه وشيخنا الاستاذ وبعض مشايخنا إلى أنها أمر بسيط مترتب على فعل المكلف المذكور ، فالذبح وغيره مقدمة توليدية ، وليس متحدا مع التذكية مفهوما ، فلا يكون الشك في اعتبار شيء فيها موجبا لإجمالها بل لإجمال سببها.
    وقد استدل بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما على ما ذكراه بقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، لأن نسبة التذكية للفاعلين تدل على أنها من فعلهم.
    وفيه : أن ذلك إنما يدل على أن التذكية مصدر فعل متعد مستند للمكلف ، وهو مما لا يظن بأحد إنكاره بملاحظة هيئتها ، لكنه لا ينفع في كون مفهومها

    مركبا ، لإمكان كونها فعلا توليديا للمكلف ينطبق على الذبح ونحوه مما يكون فعلا له بالمباشرة بلحاظ ترتب أثره وهو الذكاة ، فيكون مفهومها بسيطا منتزعا من الأثر المذكور ، نظير : التطهير ، والاحراق ، والتحسين.
    وبعبارة اخرى : لا إشكال في أن التذكية فعل للمكلف يقتضي استناد الذكاة إليه ، وإنما الإشكال في أنها متحدة مفهوما مع الذبح ونحوه بحيث تكون الذكاة هي الانذباح ، وهو فعل المكلف بالمباشرة ، فتكون أمرا مركبا ، كغسل الثوب من البول مرتين ، أو أن صدقها على الذبح ونحوه بلحاظ كونه سببا للذكاة فهي فعل المكلف بالتسبيب ، وتكون أمرا بسيطا مفهوما ، كالتطهير المترتب على غسل الثوب ، والآية الكريمة ونحوها من الاستعمالات الشرعية لا تنهض بإثبات الأول ، لصحة النسبة في الثاني أيضا بلا تجوز.
    نعم ، قد يستشهد لما ذكروه بما في كلام غير واحد من اللغويين من أنها الذبح ، كما في الصحاح ، ولسان العرب ، والقاموس وغيرها ، أو الذبح والنحر ، كما في نهاية ابن الأثير ، ومجمع البحرين.
    لكن من القريب تسامحهم في التعريف المذكور بأن يكون ذكرهم الذبح والنحر من حيث كونهما موجبين للتذكية وسببا لها ، لا لاتحادهما معها مفهوما ، كما يشهد به ما في مفردات الراغب : «وذكيت الشاة ذبحتها ، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه ، دون وجه» فإنه صريح في أن اطلاق التذكية على الذبح من حيث كونه سببا لها.
    ويؤيده عدم مناسبة الذبح والنحر مفهوما لبقية المعاني المذكورة لمادة التذكية ، من ذكاء النار ، وذكاء الفهم وذكاء الرائحة ونحوها ، لبعد الاشتراك جدا.
    ويشهد بما ذكرنا أيضا ما في لسان العرب عن بعضهم : «وأصل الذكاة في اللغة كلها إتمام الشيء ، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم ، وهو تمام السن. قال : وقال الخليل : الذكاء في السن أن يأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استتمام

    القوة ...» ، وقريب منه في مجمع البيان.
    وكأن إطلاق التذكية على الذبح والنحر بلحاظ ذلك ، كما يشهد به ما في لسان العرب : «يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها. وكذلك قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ذبحه على التمام» ، وقريب منه ما عن ابن الأنباري ، وحيث أنه لا معنى لتمامية الذبح إلا بلحاظ ترتب الأثر المطلوب عليه ، تعين كون إطلاق التذكية عليه بلحاظ ترتب أثره المطلوب منه من رفع خباثة الموت وقذارته المرتكزة في أذهان العرف والمتشرعة.
    وبالجملة : لا مجال للاستشهاد بما ذكره اللغويون على أن التذكية مفهوما نفس الذبح والنحر مع تمام ما يعتبر شرعا ، بل تنزيل كلامهم على كون هذه الامور سببا لها قريب جدا.
    بل مقتضى الجمود على ما تقدم منهم كون جميع ما اعتبر شرعا من القيود زيادة على الذبح والنحر خارجا عن التذكية زائدا عليها ، لا مقوما لها ـ كما ادعاه من عرفت ـ بل يلزم كون إطلاق التذكية والذكاة في غير مورد الذبح والنحر ـ كما في صيد البر والبحر والجراد وقتل الحيوان الممتنع ـ شرعيا تنزيليا لا حقيقيا ، ولا يمكن الالتزام بذلك.
    فلا بد إما من تنزيل كلام اللغويين على ما تقدم ، أو البناء على تصرف الشارع في معنى التذكية والخروج بها عما ذكروه.
    فالذي ينبغي أن يقال : الظاهر أن الذكاة عند الشارع نحو من الطهارة ، كما يشهد به التأمل في الاستعمالات الشرعية الكثيرة ، مثل ما في غير واحد من النصوص من إطلاق الذكي على ما لا تحله الحياة من أجزاء الحيوان (1) ، وما عن الباقر عليه السّلام : «ذكاة الأرض يبسها» (2) ، وما عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «غسل الصوف
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 16 باب 33 ، من أبواب الأطعمة المحرمة.
    (2) راجع نهاية ابن الاثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة (ذكا).

    الميت ذكاته» (1) ، وما في صحيح الحلبي ، سألته عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال : «إن شاء فليضع مكانها سنا بعد أن تكون ذكية» (2) ، وما في غير واحد من النصوص من إطلاق الذكي على الجلد ، مثل ما ورد في الكيمخت والخفاف والفراء المأخوذة من المسلمين (3) ، وما ورد من إنكار ما عليه بعض العامة من أن دباغ جلد الميتة ذكاته (4) ، ومثلها ما تضمن إطلاقه على المسك (5) ، وغير ذلك مما يظهر منه أن الذكاة نحو من الطهارة والنظافة.
    وكأن إطلاق الذكاة على المعنى المذكور بلحاظ تشبيهه بالنور الذي هو كالنار يوصف لغة بالذكاء ، ومن ثمّ سميت الشمس (ذكاء) ، كما أشار إليه في الجملة شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) ، أو بلحاظ ملازمة الطهارة للنمو والبركة ، فيناسب التمام الذي تقدم رجوع الذكاة إليه في أصل اللغة.
    نعم ، ليست الذكاة خصوص الطهارة المقابلة للنجاسة المعروفة ، بل قد يراد بها الطهارة المذكورة ، كما في ما تقدم في الصوف والسن ، ولعله إليه يرجع ما تقدم في اليبس ، ولو مجازا من حيث مشابهة اليابس للطاهر في عدم التنجيس.
    كما قد يراد بها عند مقابلتها بالموت أمر آخر ، وهو الخلوص من خبث الموت وقذره المرتكز في أذهان العرف والمتشرعة ، وهو يختلف باختلاف الحيوانات ، فحيث كان الموت في ما له نفس سائله موجبا لنحو من الخبث يستلزم تنجسه كانت ذكاته ملازمة لخلوصه من التنجس ، وحيث كان في غيره
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 2 باب 56 ، من أبواب النجاسات ح 5.
    (2) الوسائل ، ج 2 باب 68 ، من أبواب النجاسات ح 5.
    (3) الوسائل ، ج 2 باب 50 ، من أبواب النجاسات وباب : 55 من أبواب لباس المصلي.
    (4) راجع الوسائل ، ج 2 باب 61 ، من أبواب النجاسات.
    (5) الوسائل ، ج 3 باب 41 ، من أبواب لباس المصلي ح 2.

    موجبا لنحو آخر من الخبث يقتضي الاجتناب عنه في بعض الامور ، كالأكل أو اللبس أو الصلاة أو نحوها كانت ذكاته ملازمة لعدم ترتب الآثار المذكورة ، وليس هذا لاختلاف مفهوم الذكاة ، بل لاختلاف خصوصياتها ، وليست هي إلا الطهارة والنظافة ، كما ذكرنا.
    الأمر الثاني : اختلفوا في قبول بعض الحيوانات للتذكية ، كالمسوخ والحشرات ، وربما قيل : إن الأصل قبول كل حيوان لها إلا ما خرج بالدليل ، كالإنسان ونجس العين ، بل عن الحدائق : «لا خلاف بين الأصحاب (رضي الله عنهم) في ما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة يقع عليه الذكاة».
    وقد يستدل عليه ..
    تارة : بما دل على حلية ما أمسك الكلاب أو ذكر اسم الله عليه وما يصطاد بالسيف أو الرمح أو نحوهما ، وغير ذلك مما ورد في بيان كيفية التذكية ، فان مقتضى إطلاقها تأثيرها للتذكية في كل حيوان.
    واخرى : بعموم حلية الحيوانات ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...)(1) لتوقف الحلية على التذكية.
    لكن الإجماع لم يثبت بنحو معتد به بعد معروفية الخلاف في كثير من الحيوانات ، فقد ذهب في الشرائع إلى عدم وقوع التذكية على المسوخ ـ كالفيل والدب والقرد ـ والحشرات ـ كابن عرس والفأرة ـ وحكى في الجواهر الثاني عن المشهور ، بل ربما حكي الأول عنهم أيضا ، وعن المفيد والشيخ في الخلاف وسلار وابن حمزة عدم وقوعها على السباع ، كالأسد والنمر.
    وأما ما ورد في شرح التذكية فلا ينهض بإثبات المطلوب ، إذ لم أعثر على دليل شارح لكيفية التذكية من جميع الجهات ليكون إطلاقه نافيا لخصوصية
    __________________
    (1) سورة الأنعام : 145

    بعض الحيوانات ، بل غالب الأدلة وارد لبيان اعتبار بعض الامور فيها ، كالتسمية وفري الأوداج ونحوها ، وهو إنما يقتضي عدم تحقق التذكية بدونها لا تحققها معها في كل حيوان.
    بل ما تضمن جواز الأكل مما ورد عليه بعض الأسباب ـ كالأدلة المشار إليها ـ وارد في كيفية التذكية بعد الفراغ عن حلية الحيوان ، فضلا عن قبوله للتذكية ، فلا يدل على قابليّة شيء من غير المأكول لها ، فضلا عن عموم قابلية الحيوانات لها.
    وأما عموم حلية الحيوانات فقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه بأنه مقيد بما دل على اعتبار التذكية في حل الحيوان ، مع أن الآية الشريفة قد استثني فيها الميتة ، وهي غير المذكى ، كما يفهم من جملة من النصوص ، فلا ينهض العموم بإحراز التذكية مع الشك في القابلية ، لأن العام لا يحرز عنوان الخاص.
    ويندفع : بظهور العموم في المفروغية عن قبول جميع الحيوانات للتذكية ، وأن صيرورتها ميتة من حالاتها غير اللازمة ، ولذا احتاج الخنزير إلى الاستثناء بالخصوص.
    وبعبارة اخرى : المستفاد بعد الجمع بين العموم المذكور وأدلة التقييد أن التخصيص بالتذكية من سنخ التخصيص الأحوالي لا الافرادي بلحاظ بعض أنواع الحيوان. فتأمل.
    فالعمدة في الإشكال ما تقدم من أن كثرة التخصيص في العموم المذكور مانعة من الاستدلال به.
    مع أنه لا ينفع في غير المأكول ، لخروجه عن العموم تخصيصا ، فكما لا يكون العموم حجة في حلية أكله لا يكون حجة في إثبات قابليته للتذكية ، إلا بناء على أن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ـ بسبب التخصيص أو غيره ـ لا يوجب سقوط الدلالة الالتزامية عنها ، وهو خلاف التحقيق.

    هذا ، وقد يستدل ببعض النصوص في المقام ..
    منها : موثق ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السّلام : «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره ، وبوله ، وشعره ، وروثه ، وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح ، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه» ، لظهوره في قابلية ما لا يؤكل لحمه للتذكية وأنه قد يتصف بها بالفعل وقد لا يتصف.
    وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدّس سرّه : بأن الجمود على العبارة يقتضي أن يكون الذبح موجبا للذكاة تارة وغير موجب له اخرى ، وهو ملازم لعدم قابلية بعض الحيوانات للتذكية.
    بل ذكر شيخنا الاستاذ أنه ظاهر في ذلك ، لظهوره في أن الذبح مفروض الوجود في حالي التذكية وعدمها.
    وفيه : أن ظاهر الحديث كون حصول التذكية بالذبح وعدم حصوله به حالتين متبادلتين على الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كتبادلهما على الحيوان الذي يؤكل لحمه ، وذلك إنما يكون بأن يراد من عدم التذكية بالذبح عدم ذبحه بالوجه الشرعي بل يموت بوجه آخر ، لا عدم تذكية الذبح له مع حصوله ، وإلا كان ذلك لازما في بعض الحيوانات ، وكان المناسب أن يقال : كان مما يذكيه الذبح أولا ، أو يقال : كان الذبح مذكيا له أو لا.
    وبعبارة اخرى : الظاهر أن المقابلة بين فعلية التذكية في الحيوان وعدمها ، المستلزم للمفروغية عن قابليته لها ، لا بين قابليّة التذكية وعدمها ، الراجع إلى عدم قابلية بعض الحيوانات لها.
    هذا ، ولا يفرق في دلالة الحديث بين النسخة المتقدمة والنسخة الاخرى المتضمنة لابدال (الذبح) ب (بالذابح) ، لأن فرض الذابح ملازم لفرض الذبح ، فالتفريق بينهما ـ كما يظهر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه وصرح به شيخنا الاستاذ (دامت

    بركاته) (1) ـ في غير محله فراجع وتأمل.
    نعم ، يشكل الاستدلال بالحديث بأنه وإن كان ظاهرا في المفروغية عن قابلية غير المأكول للتذكية ، إلا أنه لا ينهض بالعموم ، لعدم وروده في مقام البيان من هذه الجهة ، وإنما ذكرت عرضا ، وليس المقصود بالبيان إلا مانعية غير المأكول للصلاة وتعميمها لحال التذكية.
    مع أنه مختص بما يكون له لحم ، دون غيره كالحشرات. فلاحظ.
    ومنها : صحيح علي بن يقطين ، سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود. قال : «لا بأس بذلك» (2) ، ونحوه صحيح الريان بن الصلت عن الرضا عليه السّلام (3) ، فإن جواز لبس جميع الجلود ملازم لقابليتها للتذكية بناء على ما هو المشهور من عدم جواز لبس الميتة مطلقا.
    وقد استشكل سيدنا الأعظم قدّس سرّه في ذلك : بأنه لو ثبت عدم جواز لبس الميتة كان ذلك مخصصا للصحيحين بالمذكى ، فلا يصح التمسك بهما في مورد الشك في التذكية ـ ولو للشك في القابلية ـ بناء على ما هو التحقيق من عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
    ويندفع : بظهور الصحيحين بقرينة الأمثلة في العموم الإفرادي بلحاظ أنواع الحيوانات ، وهو يقتضي جواز لبسها في الجملة. واستفادة التعميم من حيث التذكية وعدمها لو تمت فهي بالإطلاق. وحينئذ فلو دل الدليل على عدم جواز لبس الميتة فالمتيقن رفع اليد به عن الإطلاق المذكور ، ويكشف عن صدور الكلام للبيان من هذه الجهة ، لا عن العموم الإفرادي ، بل مقتضى الجمع
    __________________
    (1) كما ذكره في اصوله ـ على ما في تقريرنا لدرسه ـ فقد صرح بأنه يمكن الاستدلال بالحديث على العموم المدعى بناء على نسخة «الذابح» بخلاف نسخة «الذبح» لما تقدم. لكن يظهر منه العدول عن ذلك في الفقه ـ في تقرير درسه شرحا للعروة الوثقى في فروع مسألة نجاسة البول والغائط المطبوع ـ فقد صرح بإمكان الاستدلال حتى على نسخة «الذبح» بل عليها أولى. وإن ظهر منه في آخر كلامه التردد فيه. فراجع (منه ، عفي عنه).
    (2) و (3) الوسائل ، ج : 3 باب : 5 من أبواب لباس المصلي ح : 1 و 2.

    بينهما هو قابلية جميع الجلود للتذكية ، لظهور العموم في جواز لبسها في الجملة المستلزم لذلك بعد فرض اعتبار التذكية فيه. فتأمل جيدا.
    فالعمدة في الإشكال في الاستدلال ـ مع اختصاصه بالحيوانات ذات الجلد القابل للبس ـ عدم ثبوت حرمة لبس الميتة وغيره من الاستعمالات والانتفاعات غير المشروطة بالطهارة ، بل الظاهر عدمه.
    نعم ، من القريب جدا كون السؤال عن اللبس بالنحو المتعارف المستلزم للمساورة والمترتب على الشراء المختص بالمذكى ، فعدم التنبيه على نجاسة بعض الجلود وعدم جواز شرائها لعدم قابليتها للتذكية ظاهر في قابلية الجميع للتذكية. إلا أن في بلوغ ذلك حدّ الاستدلال إشكالا.
    ومنها : خبر علي بن أبي حمزة ، سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما السّلام عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال : «لا تصل فيها إلا ما كان منه ذكيا». قلت : أو ليس الذكي مما ذكي بالحديد؟ قال : «بلى ، إذا كان مما يؤكل لحمه». قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ قال : «لا بأس بالسنجاب ، فإنه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، إذ نهى عن كل ذي ناب ومخلب» (1).
    وفيه : أن ظاهره الإشارة إلى ما هو المعهود من سبب التذكية وتقريره من دون تعرض لشرحه ، ولذا قال : «ما ذكي بالحديد» ولم يقل : ما ذبح به ، كما لم يتعرض لبقية ما يعتبر في التذكية ، فلا إطلاق له من حيث السبب ، فضلا عن أن يكون له إطلاق من حيث الحيوان المذكى ، ليكشف عن قابلية كل حيوان لها. مضافا إلى ضعف سنده بجهالة عبد الله بن إسحاق العلوي ومحمد بن سليمان الديلمي.
    هذا ما عثرنا عليه في كلماتهم في الاستدلال على العموم المذكور.
    وقد عرفت عدم نهوض دليل يعتد به في إثباته.
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 3 باب 3 ، من أبواب لباس المصلي ح 3.

    نعم ، ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه وجها لا يخلو عن قوة ، وحاصله : أن التذكية ليست من مخترعات الشارع الأقدس ، بل هي من المفاهيم العرفية ، وهي عبارة عما يرفع قذر الموت وخبثه المرتكز في أذهان العرف ، وقد جرى الشارع على المفهوم المذكور ، كما تقدم. ومخالفته للعرف فيها ليست لمخالفته لهم في مفهومها ، بل لمخالفته لهم في بعض مصاديقها.
    وحينئذ فحيث كان للعرف طرق خاصة لتحقيق مصاديقها من حيث الموضوع القابل لها والأفعال المحصلة لها ـ من الذبح ونحوه ـ ولم يصدر من الشارع الأقدس شرح تام وتحديد كامل لمصاديقها ، فمقتضى الإطلاقات المقامية جري الشارع فيها على ما عند العرف ، إلا في المورد الذي يثبت خلافه منه وردعه عنه.
    ويشهد بجميع ذلك عدم تعرض أدلة أحكام التذكية من الآيات والروايات على كثرتها لشرح مفهومها ولا لتحديد مصاديقها تحديدا كاملا ، بل التحديد من خصوص بعض الجهات ، إما لخروج الشارع عما عند العرف فيها ، كما في اعتبار التسمية والاستقبال ونحوهما ، أو لعدم وضوح ما عند العرف ، أو لاحتمال ردعه عما عندهم وغير ذلك.
    بل التعبير بالتذكية في الآية الكريمة مع نزولها في صدر التشريع ظاهر في المفروغية عن التذكية مفهوما ومصداقا ، ولا يكون ذلك إلا بالجري على ما عند العرف ، ومتابعتهم.
    والظاهر أن العرف يرى قابلية كل حيوان ذي نفس سائلة قابل للذبح للتذكية. وخروج نجس العين إنما هو لأن التذكية بنظر العرف والشرع مختصة برفع القذارة العرضية والخبث المسبب عن الموت ، دون الخبث الذاتي.
    نعم ، لازم ذلك تخفيف التذكية لقذارته ، بحيث يكون الميت منه أشد نجاسة وخبثا من المذبوح ، فيلزم ترجيح المذبوح منه عند الاضطرار ، ولا بأس

    بالالتزام بذلك. إلا أن يقوم الإجماع على خلافه ، فيكون رادعا عما عند العرف. فتأمل جيدا.
    الأمر الثالث : لو شك في التذكية للشك في قابلية الحيوان لها ، أو للشك في سببها بعد الفراغ عن قابلية الحيوان لها ، فإن كان هناك دليل يقتضي حصولها عمل به وإن كان هو الإطلاق المقامي المتقدم ، بناء على تماميته. وإلا تعين الرجوع للاصول.
    وحينئذ فحيث تقدم في الأمر الأول أن إطلاق التذكية على الذبح ونحوه بلحاظ ترتب الأثر الخاص عليه فلا يكون الشك في السبب أو القابلية موجبا لإجمال التذكية ، لأنها منتزعة من أمر بسيط لا إجمال فيه ، وهو الأثر الخاص ، فلا مانع من الرجوع لاستصحاب عدم التذكية ، لليقين به حال حياة الحيوان ، فيستصحب بعد موته.
    ودعوى : أنه ان قيل بطهارة الحيوان قبل الذبح تعين استصحابها واحرزت الذكاة حينئذ ، لما تقدم من أنها عبارة عن الطهارة.
    مدفوعة : بما تقدم أيضا من أن الذكاة ليست هي الطهارة المصطلحة المقابلة للنجاسة ، بل هي طهارة خاصة لا موضوع لها حال الحياة كي تستصحب ، بل لا تحصل في الحيوان إلا بعدها ، فمقتضى الاستصحاب عدمها.
    هذا ، وأما على القول الآخر الراجع إلى كون التذكية أمرا مركبا من فعل الذابح مع الشرائط المعتبرة فالشك في اعتبار شيء فيها موجب لإجمالها المانع من جريان الاستصحاب فيها نفيا وإثباتا ، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع. من دون فرق بين الشك في ما يعتبر في السبب ـ كالحديد ـ والشك في القابلية ، لرجوعهما معا إلى إجمال مفهوم التذكية المانع من الاستصحاب.
    وأما ما قد يظهر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه في حقائقه من التمسك عند الشك

    في القابلية بأصالة عدم التذكية ، بمعنى عدم الذبح في المحل القابل ، نظير استصحاب عدم الغسل بالكر عند الغسل بماء مشكوك الكرية.
    فهو مندفع : بأن القابلية ليست أمرا معتبرا في التذكية شرعا كسائر شروطها ، بل هي منتزعة من حكم الشارع بأن ذبح الحيوان ذكاته ، فما حكم الشارع عليه بأن ذبحه ذكاته يكون قابلا لها ، وما لم يحكم عليه بذلك لا يكون قابلا لها.
    وإلا فعنوان قابلية الحيوان للتذكية ـ كقابلية الذابح والآلة لها ـ متفرع على التذكية ومتأخر عنها رتبة ، فكيف يكون مأخوذا في موضوعها شرعا؟! وحينئذ فمرجع الشك في قابلية الحيوان للتذكية إلى إجمال التذكية ، وأنها الذبح المطلق الصادق على ذبحه أو المقيد بغيره ، ولا مجال مع ذلك للاستصحاب.
    ومنه يظهر أن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في نفس القابلية وعدمها هو عدم جريان الاستصحاب في الامور الانتزاعية غير المجعولة ، لا ما ذكره غير واحد من عدم العلم بالحالة السابقة للقابلية وعدمها ، لعدم جريان استصحاب العدم الأزلي إما مطلقا أو في خصوص المقام. لأن القابلية من لوازم الماهية ، كالكلبية والكرية ، فتأمل جيدا.
    نعم ، لو اريد بالقابلية معنى في الحيوان زائد على ذاته ـ كطهارة العين ـ أمكن أخذه شرعا في التذكية. فلو علم بأخذه كان الشك في وجوده في الحيوان شكا في مصداق التذكية لا يوجب إجمال مفهومها ، وأمكن جريان استصحاب عدم التذكية حينئذ بالتقريب الذي ذكره قدّس سرّه.
    بل قد يجري استصحاب عدم القابلية ولو بنحو العدم الأزلي لو فرض كون الأمر المذكور من لوازم الوجود ـ كالبياض ـ لا من لوازم الماهية التي لا يحرز عدمها في الحيوان حتى بلحاظ ما قبل وجوده ـ كالسبعية ـ.
    كما أنه قد تحرز القابلية بالأصل ، كما لو فرض أنها عبارة عن طهارة

    العين التي هي مقتضى الأصل.
    لكن لا يخفى أنه لا مجال للوجه المذكور لتوقفه على العلم بتقييد موضوع التذكية بقيد ما والشك في وجود القيد بنحو الشبهة الموضوعية ، نظير ما لو علم بتقييد آلة التذكية بكونها حديدا مع الشك في كون السكينة حديدا ، وهو خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام في الشبهة الحكمية.
    ومما ذكرنا يظهر حال ما لو علم بقابلية حيوان للتذكية ثم طرأ عليه ما يوجب الشك في بقاء قابليته لها كالجلل ، فإنه لو فرض رجوع القابلية الى أمر خاص معتبر شرعا أمكن التمسك باستصحاب القابلية ، لأنها مأخوذة شرعا في موضوع التذكية ، وكان حاكما على استصحاب عدم التذكية.
    أما على ما ذكرنا فلا مجال لاستصحاب القابلية ، لأنها أمر انتزاعي ، ولا لاستصحاب عدم التذكية لإجمال المستصحب.
    نعم ، لو قيل باعتبار الاستصحاب التعليقي أمكن التمسك به في المقام ، فيقال : كان لو ذبح لذكي فهو باق على ما كان. لكن التحقيق عدم اعتباره.
    هذا كله بناء على أن التذكية أمر مركب ، وقد عرفت أن التحقيق أنها أمر بسيط منتزع من الأثر المترتب على الأفعال الخارجية ، وأنه مع ذلك يجري استصحاب عدم التذكية مطلقا.
    ثم إنه لو فرض عدم جريان استصحاب عدم التذكية تعين الرجوع للاصول الحكمية الاخرى ، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الحيوان ، وأصالة الحل في أكله ، وغير ذلك.
    الأمر الرابع : لو فرض إحراز عدم التذكية بالدليل فلا إشكال ظاهرا في ترتب حرمة الأكل والنجاسة وغيرهما من أحكام الميتة ، إذ لا إشكال في أن كل ما لم يذك فهو متحد مع الميتة مفهوما أو مصداقا. وأما لو احرز عدم التذكية بالأصل ففي ثبوت حرمة الأكل والنجاسة معا به ، أو عدم ثبوتهما معا به ، أو

    ثبوت الحرمة دون النجاسة وجوه أو أقوال.
    فذهب شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجماعة إلى الأول. إما لأن موضوع الحرمة والنجاسة ليس خصوص الميتة ، بل غير المذكى ، كما يشهد به قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، بل الإجماع على كون غير المذكى بحكم الميتة والنصوص به متظافرة.
    أو لأن المراد من الميتة ، في لسان الشارع الأقدس هو ما لم يذك ـ كما يشهد به مقابلة الميتة بالمذكى في النصوص الكثيرة ـ فهي أمر عدمي يكفي في إحرازه أصالة عدم التذكية ، ولا تكون من الأصل المثبت.
    ولو تم هذا فلا مجال لدعوى معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، والرجوع بعد تساقطهما لأصالة الحل والطهارة ، كما هو مبنى القول الثاني على ما قيل.
    لاندفاعها : بأن الميتة بمعنى غير المذكى مقتضى الأصل ، وبمعنى آخر ليست موضوعا للأثر ليجري الأصل فيها وينهض بمعارضة أصالة عدم التذكية المفروض اقتضاؤها الحرمة والنجاسة.
    بل لا مجال لفرض المعارضة المذكورة أصلا ، لأن موضوع الحرمة أو النجاسة أو غيرهما إن كان هو الميتة بما هي عنوان وجودي جرى أصالة عدم كون الحيوان ميتة ولم تجر أصالة عدم التذكية ، لعدم الأثر لها ، وإن كان هو غير المذكى ـ ولو لرجوع الميتة إليه ـ جرى أصالة عدم التذكية لا غير. فتأمل.
    وذهب بعض مشايخنا إلى الثالث بدعوى : أن موضوع الحرمة هو غير المذكى ، كما يشهد به الاستثناء المشار إليه ، وكذا عدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان (1).
    __________________
    (1) لم يذكر هنا الوجه فيه. وكأنه لما في غير واحد من النصوص من أخذ الذكاة في جواز اللبس في الصلاة ، كموثق ابن بكير وخبر علي بن أبي حمزة المتقدمين في الأمر الثاني وغيرهما.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:30 am

    أما الطهارة فليس موضوعها غير المذكى بما هو أمر عدمي ، بل الميتة ، وليست هي خصوص ما مات حتف أنفه ، ولا مطلق ما لم يذك ـ لتكون أمرا عدميا محرزا بالأصل ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ بل هي في عرف المتشرعة مطلق ما استند موته إلى سبب غير شرعي. فهي أمر وجودي مضاد للمذكى ، فلا تنهض بإثباته أصالة عدم التذكية ، بل مقتضى الأصل عدمه.
    ولعله نزّل المقابلة في النصوص ، المشار إليها ـ بين المذكي والميتة على مجرد التضاد من دون أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة.
    كما أن الإجماع الذي تقدّمت دعواه على أن غير المذكى بحكم الميتة لا يراد به إلا عدم اختصاص أحكام الميتة بما مات حتف أنفه ، وهو لا ينافي كون موضوع الأحكام هو الميتة بالمعنى المتقدم ، ولا مجال لاستفادة عنوان الحكم من الإجماع ونحوه من الأدلة اللبية غالبا.
    وأما النصوص ـ المشار إليها أيضا ـ المتضمنة لإلحاق غير المذكى بالميتة فهي مختصة بحرمة الأكل واللبس في الصلاة ولم ترد في النجاسة.
    هذا ، ويشكل ما ذكره : بأنه لا مجال لأخذ الوجه الشرعي للموت في مفهوم الميتة ، لانه إن كان المراد بالوجه الشرعي ما يحل إحداث الموت به ويحرم بغيره تكليفا ، فمن الواضح أنه يجوز إحداث الموت للحيوان بأكثر الطرق التي يجري معها حكم الميتة ، كالجرح في غير المذبح.
    وإن كان المراد بالوجه الشرعي هو الوجه المصحح لترتيب الغرض من
    __________________
    ويشهد به النصوص المتضمنة عدم جواز الصلاة في ما لم يحرز تذكيته ، مع أن الأصل إنما يحرز عدم تذكيته لا الموت بالمعنى الذي ذكره هنا.
    لكن هذا موقوف على رفع اليد عن النصوص الكثيرة الظاهرة في مانعية الموت ، وتنزيلها على أن مانعيته بالعرض لملازمته لعدم التذكية ، وهو صعب جدا. وكفى بهذا موهنا لما ذكره من الفرق بين الأمرين ، ومقربا لما ذكره غيره من رجوع أحدهما للآخر ، كما سيأتي الكلام فيه.
    (منه. عفي عنه).

    الحيوان كالأكل ، واللبس ، والبيع ونحوها كان عنوان الميتة من العناوين المنتزعة من الأحكام الشرعية ، المتأخرة عنها رتبة ، وامتنع أخذها في موضوعها ، مع وضوح أخذها في أكثر الأحكام المذكورة ، وهو كاشف عن كون عنوان الميتة من العناوين المتقررة في أذهان العرف المتشرعي مع قطع النظر عن الأحكام المذكورة ، ولا يناسب المعنى الذي ذكره.
    فالظاهر أن المأخوذ في الميتة التي هي موضوع الأحكام هو عدم التذكية.
    وحينئذ يقع الكلام في أن أخذه بنحو يقتضي كون الميتة من العناوين الوجودية المضادة للتذكية؟ بأن يكون الميتة ما مات بسبب لا يوجب التذكية ، أو بنحو يقتضي كونها من العناوين العدمية؟ بأن تكون عبارة عما مات ولم يذك ، فيكون التقابل بين الميتة والمذكى من تقابل العدم والملكة ، كما صرح به سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث لباس المصلي.
    والذي ينبغي أن يقال : لا ريب في أن الميتة بحسب أصل اللغة ما اتصف بالموت المقابل للحياة ، فيصدق على المذكى وغيره ، كما أنه قد يستعمل في خصوص ما مات حتف أنفه ، إلا أنه لا ريب عندهم في قصور أحكامها عن المذكى وشمولها لكل ما لم يذك.
    وكأنه لما ارتكز عندهم من أن الأحكام المذكورة إنما ثبتت للميتة بلحاظ خبث الموت وقذره ، وذلك يقتضي اختصاصها بصورة عدم التذكية الرافعة لقذر الموت ، كما تقدم. وهذا مناسب لكون التذكية من سنخ الرافع للأحكام المذكورة أو المانع منها ، فالأحكام المذكورة ثابتة لولاها.
    وهو يقتضي أخذ عدم التذكية في مفهوم الميتة أو في أحكامها ـ كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ـ فموضوع الأحكام هو الميتة بمعنى ما لم يذك ، على أن يكون التقابل بين الموت ـ الذي هو موضوع الأحكام ـ والتذكية تقابل العدم والملكة ، لا الضدين.

    ويؤيد ذلك امور ..
    الأول : أن أخذ أحد الضدين الوجوديين في مفهوم الآخر غير مألوف ولا معهود ، بل المعهود أخذ عدم أحد المتقابلين في الآخر كالعمى والبصر والغنى والفقر.
    الثاني : ما في كلام غير واحد من اللغويين ، ففي الصحاح والقاموس : «الميتة ما لم تلحقه الذكاة» ، وفي لسان العرب : «والميتة ما لم تدرك ذكاته» ، وفي مفردات الراغب : «والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية» ، وفي مجمع البيان : «حرمت عليكم الميتة : أي حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها ، وهو كل ما له نفس سائلة ... فارقه روحه من غير تذكية. وقيل : الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية ...» وقريب منه ما في تفسير الطبري. فان هذه الكلمات ـ كما ترى ـ متفقة على أخذ عدم التذكية في الميتة ، إما بنفسها أو من حيث كونها موضوعا للأحكام الشرعية.
    نعم ، نسب بعض مشايخنا التصريح بالمعنى الذي ذكره إلى مجمع البحرين تارة ، وإلى المصباح اخرى (1).
    لكن لم اعثر في مجمع البحرين على تعرض لشرح مفهوم الميتة. كما أن ما في المصباح لا ينهض به ، لأنه قال : «والميتة من الحيوان ما مات حتف أنفه ... والمراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة» ، وهو ظاهر في بيان مصاديقها ، وأنها أعم من المعنى اللغوي الذي ذكره ، لا في شرح مفهومها ، لينافي ما ذكرنا.
    الثالث : أن التفكيك بين الأحكام المذكورة بعيد جدا عن مساق أدلتها
    __________________
    (1) نسب الى مجمع البحرين في تقرير درسه الاصولي المسمى بكتاب (الدراسات) ، ونسبه الى المصباح في تقرير درسه الفقهي المسمى بكتاب (التنقيح) في شرح العروة الوثقى ج 1 ، من كتاب الطهارة ، ص 34 من الطبعة الثانية ، فراجع. (منه. عفي عنه).

    لجريها على نسق واحد ، إذ من الصعب جدا الالتزام بأن أخذ الميتة في أدلة النجاسة من حيث كونها بنفسها موضوعا لها ، ولا دخل لعدم التذكية فيها ، أما في أدلة حرمة الأكل والمانعية من الصلاة فأخذها من حيث كونها ملازمة لعدم التذكية الذي هو الموضوع في الحقيقة.
    وكيف يمكن ذلك في مثل صحيح الحلبي ، سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الخفاف التي تباع في السوق ، فقال : «اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه» (1) وكذا في أدلة تحريم أكل الميتة الكثيرة ، لظهور جميع ذلك في دخل عنوان الميتة بنفسه ، وهو لا يلائم ما يظهر منه من كون الدخيل عدم التذكية إلا بارجاع أحدهما للآخر ، كما ذكرناه.
    الرابع : أنه قد وردت نصوص كثيرة (2) في الصيد والذباحة قد تضمنت لزوم العلم باستناد الموت للسبب المذكي.
    والظاهر المفروغية عند الأصحاب على ترتيب جميع أحكام الميتة ، ومنها النجاسة ، لا خصوص حرمة الأكل والمانعية من الصلاة ، مع أن الاصل لا يحرز استناد الموت لغير سبب التذكية ، وهو شاهد بالمفروغية عما ذكره من عرفت من كفاية أصالة عدم التذكية في إثبات جميع الأحكام المذكورة.
    الخامس : أن عدم جواز البيع في ظاهر الأدلة من أحكام الميتة ، لا من أحكام عدم التذكية ، وبناء على ما ذكره بعض مشايخنا يجوز بيع ما يشك في تذكيته ، لأصالة عدم كونه ميتة ، الحاكمة على أصالة فساد البيع ، وهو لا يناسب ما تضمنته النصوص الكثيرة من جعل سوق المسلمين أمارة على التذكية بنحو يجوز ترتيب أحكامها من الأكل واللبس في الصلاة وغيرهما.
    فالإنصاف : أن التأمل في جميع ما ذكرنا شاهد برجوع الميتة لغير المذكى
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 2 باب 5 ، من أبواب النجاسات ح 2.
    (2) الوسائل ، ج 16 باب 5 ، 4 ، 18 ، 19 ، 22 من أبواب الصيد وباب 13 من أبواب الذبح.

    ونهوض الاصل المحرز لأحدهما في إثبات الآخر وفي ترتيب الأحكام المذكورة. فلاحظ وتأمل جيدا.
    المقام الثاني : في الشبهة الموضوعية
    اعلم أن الشك في حلية اللحم بنحو الشبهة الموضوعية يكون ..
    تارة : للشك في حليته بعد العلم بوقوع التذكية عليه ، كما لو دار الأمر بين كونه من الأرنب وكونه من الغنم.
    واخرى : للشك في قبوله للتذكية ، كما لو تردد بين كونه من الكلب وكونه من الغنم.
    وثالثة : يكون للشك في وقوع التذكية عليه ، كما لو شك في ذبح الحيوان ، أو كون الذابح مسلما.
    أما في الاولى فالمرجع أصالة الحل ، بناء على ما تقدم في المقام الأول من عدم جريان استصحاب حرمة الأكل الثابتة حال الحياة.
    ولا مجال هنا لتوهم الرجوع لعموم الحل أو الحرمة ، لأنه لو فرض تماميته في نفسه وجواز الرجوع إليه في الشبهة الحكمية فلا مجال للرجوع اليه في الشبهة الموضوعية ، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف المخصص على التحقيق.
    كما لا مجال لتوهم الرجوع لأصالة عدم كونه من النوع المحرّم ، كالأرنب ـ كي يبقى تحت عموم الحل لو تم ـ أو أصالة عدم كونه من النوع المحلل ، كالغنم ـ كي يبقى تحت عموم التحريم لو تم ـ لأن الخصوصية النوعية من شئون الذات التي ليست لها حالة سابقة معلومة في الحيوان ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي.
    نعم ، لو كان احتمال التحريم ناشئا من احتمال طروء سببه فيه بعد العدم ـ كالوطء ـ أمكن استصحاب عدم حصول سببه ، فيحرز به حل الحيوان ، ويكون

    حاكما على أصالة الحل ومغنيا عنها.
    كما أنه لو فرض انقلاب الأصل في اللحوم بدعوى تعليق الحل فيها على عنوان وجودي ـ كالطيب ـ ومع عدم إحرازه يبنى على الحرمة امتنع الرجوع هنا لأصالة الحل. لكن أشرنا في المقام الأول إلى منع ذلك صغرى وكبرى.
    وأما في الثانية فالمرجع أصالة عدم التذكية التي تقدم في المقام الأول جريانها حتى مع الشك في القابلية ، بناء على ما هو التحقيق من أن التذكية متقومة بالأثر المسبب عن الذبح.
    ولا مجال هنا للرجوع إلى عموم قابلية الحيوانات للتذكية ـ لو فرض تماميته في نفسه ـ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، كما لا مجال للرجوع لأصالة عدم كونه من النوع الذي لا يقبل التذكية ـ كالكلب ، نظير ما سبق في الصورة الاولى.
    نعم ، بناء على ما تقدم احتماله من قابلية كل حيوان للتذكية حتى نجس العين ، وأن عدم طهارته لأن التذكية ترفع خبث الموت دون النجاسة الذاتية يتجه البناء على تذكية الحيوان في المقام ، والرجوع إلى أصالة الطهارة فيه عن النجاسة الذاتية. فتأمل.
    كما أنه لو كان احتمال عدم قابلية الحيوان للتذكية لاحتمال طروء ما يمنع عنها ـ كالجلل ـ اتجه استصحاب عدمه ، ليحرز وقوع التذكية عليه. ولا مجال لاستصحاب القابلية بنفسها ، لما تقدم من أنها من الامور الانتزاعية ، وليست هي موضوعا لأثر شرعي.
    وأما في الثالثة فلا إشكال في الرجوع لأصالة عدم التذكية حتى بناء على كون التذكية أمرا مركبا من الذبح والتسمية ونحوهما مما يؤخذ فيها ، إذ لا إجمال في المستصحب حينئذ حتى يمتنع استصحابه.
    بل قد تظافرت النصوص بترتيب آثار عدم التذكية عند الشك فيها ، كما لو

    شك في استناد الموت إلى سبب التذكية من الصيد والذبح ـ على ما تقدمت الإشارة إليه ـ وكما لو اخذ من غير المسلم.
    نعم ، قد يظهر من بعض النصوص البناء على الحل مع الشك ، وهو محمول على صورة وجود الأمارة على التذكية ، كسوق المسلمين ونحوه على ما يذكر في الفقه مفصلا.
    هذا ، وقد تقدم أن أصالة عدم التذكية لو جرت احرز بها حرمة الأكل والبيع والمانعية من الصلاة والنجاسة ، خلافا لما تقدم من بعض مشايخنا من عدم ترتيب النجاسة ، بل عرفت ان لازم ما ذكره جواز البيع أيضا. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. وله الحمد. ومنه نستمد العون والتوفيق.
    التنبيه الرابع : في حسن الاحتياط
    لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية عقلا ـ وإن يكن لازما ، لما تقدم ـ لأنه نحو من الانقياد للمولى ومظهر من مظاهر العبودية له ، كما تشهد بذلك المرتكزات العقلية والعرفية. وهو موجب لاستحقاق الثواب ، لا بمعنى لزومه على المولى ، لأنه لا يجب حتى مع الإطاعة الحقيقية ، بل بمعنى أهلية المحتاط والمنقاد للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء ، وليس ثوابه ابتداء تفضل كالابتداء به على من لم يعمل شيئا أو كان عاصيا. كما تقدم في آخر مبحث التجري.
    إن قلت : هذا إنما يتم بناء على أن الإرادة التشريعية التي تنتزع منها الأحكام الشرعية من سنخ الإرادة التكوينية ، لوضوح أن تحصيل ما يحتمل إرادة المولى له كتحصيل ما يعلم بإرادته له من مظاهر العبودية والفناء في ذاته والاهتمام بشأنه.
    أما بناء على ما هو التحقيق من أنها سنخ آخر متقوم بجعل السبيل على

    المكلف وتحميله المسئولية فلا موضوع لها مع فرض عدم المنجز ، لان جعل الحكم ليس علة تامة لتحقق السبيل ، بل هو مشروط بوجود المنجز له ، فمع فرض عدم المنجز لا يتحقق السبيل على المكلف قطعا ، فلا موضوع للاحتياط.
    وليس معنى فعلية الأحكام الواقعية في ظرف عدم المنجز لها إلا فعلية ملاكاتها ، ومن الظاهر أن مجرد الاهتمام بتحصيل الملاك والسعي له لا يكون انقيادا للمولى ولا يحسن بملاك حسن إطاعته ما لم يكن مضافا إلى المولى لتكليفه به.
    قلت : عدم فعلية السبيل لفرض عدم المنجز لا ينافي تحقق موضوع الانقياد ، بلحاظ احتمال جعل الحكم الذي هو المقتضي في جعل السبيل ، وهو معنى فعلية الحكم ، وبه يكون الملاك مضافا للمولى ، وليس معنى فعليته مجرد كون ملاكه فعليا من دون أن يكون مضافا للمولى.
    ولا مجال لدعوى اختصاص موضوع الانقياد بفعلية السبيل الموقوفة على المنجز ، فانها مدفوعة : بالمرتكزات العقلائية والمتشرعية على حسن الاحتياط لاحتمال التكليف غير المنجز ، المؤيد بمثل نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في الإرشاد إلى حسن الاحتياط.
    بل ذكرنا في مسألة الضد في تقريب إمكان التقرب بالملاك أن الملاك إذا بلغ مرتبة جعل الحكم كان صالحا للمقربية وإن ارتفع واقعا بسبب المزاحم ، فصلوحه للمقربية والانقياد في المقام أولى بلحاظ احتمال وجوده وفعلية الحكم الواقعي على طبقه. فتأمل جيدا.
    وبالجملة : لا إشكال ظاهرا في حسن الاحتياط عقلا في مورد البراءة ، بل في مطلق احتمال التكليف الواقعي وإن قامت الحجة على خلافه ، ولذا جرت سيرة الفقهاء ـ خصوصا في العصور المتأخرة ـ على التنبيه للاحتياط ، بل الحث عليه في موارد الفتوى بخلافه ، وحيث عرفت ذلك ينبغي التعرض لامور متعلقة بالمقام ..

    الأمر الأول : الاحتياط وإن كان حسنا في نفسه عقلا ، لما فيه من الانقياد للمولى ، كما تقدم ، إلا أنه قد يزاحم بما هو الأهم عقلا ، كالإطاعة الحقيقية في التكاليف المنجزة الالزامية أو غيرها ، فيلزم تركه عقلا ، أو يرجح وإن لم يخرج عن كونه حسنا في نفسه ، كما هو الحال في تزاحم الاحتياطين غير اللازمين أو تزاحم التكليفين المنجزين.
    كما أنه قد يردع عنه شرعا ، لعدم وفائه بالغرض لتوقف الغرض على الجزم بالتكليف ، أو لاستلزامه محذورا لازم الدفع ، كما أشرنا إليه في أواخر مبحث التجري.
    لكن الظاهر أن الردع المذكور راجع إلى تقييد التكليف الواقعي أو المكلف به ، بغير صورة الاحتياط فلا يكون الاحتياط إطاعة له ، كي يكون انقيادا وحسنا ، فالردع عن الاحتياط مخرج له عن الانقياد وعن موضوع الحسن ، لا أنه ردع عن بعض أفراد الانقياد ، بل هو في الحقيقة موجب لسد باب الاحتياط.
    وتوضيح ذلك : أن قوام التكليف باقتضائه للعمل وداعويته له ، وحينئذ فان تنجز صار موردا للمسئولية ولزم عقلا إطاعته بملاك أهلية المولى لها ، أو بملاك دفع الضرر ، وامتنع ردع الشارع عن إطاعته ، لمنافاته لمقتضى التكليف ، إلا أن يرجع إلى رفع التكليف نفسه.
    وإن لم يتنجز قصر عن مقام المسئولية لكن حسن عقلا الاهتمام بموافقته بالاحتياط انقيادا للمولى بملاك أهليته وإن لم يترتب الضرر.
    وحينئذ كما يمتنع الردع عن الإطاعة في فرض تنجز التكليف إلا برفع التكليف نفسه ، كذلك يمتنع الردع عن الاحتياط في فرض عدم تنجزه إلا بتقييد التكليف أو المكلف به بنحو لا يشمل حال الاحتياط ، ليخرج عن مورد التكليف ، فلا يكون احتياطا ولا انقيادا. وإلا فمع فرض شمول التكليف له وفعلية التكليف به يكون الاحتياط انقيادا للمولى ، فيمتنع الردع عنه ، لأنه علة

    تامة في الحسن كالإطاعة ، وإن افترقا باللزوم وعدمه.
    نعم ، قصور التكليف الواقعي عن شمول الاحتياط لا بد أن يكون بنتيجة التقييد ، وإلا فالاحتياط متفرع عن التكليف ومتأخر عنه رتبة ، فلا يعقل أخذه قيدا في موضوعه.
    كما أن خروج مورد الاحتياط عن التكليف إن كان لخروجه ملاكا كان مقتضيا لعدم الإجزاء لو فرض مصادفته لثبوت التكليف واقعا ، وإن كان لأجل محذور خارج مع كونه واجدا لملاك التكليف الواقعي اتجه الإجزاء ، إلا أن يكون عبادة ، ويكون الردع بنحو التحريم ، فيمتنع التقرب معه ، وينسد باب الاحتياط حتى بلحاظ الملاك ، ولا يتصور الإجزاء إلا مع الغافلة عن النهي ، كما يذكر نظيره في مبحث اجتماع الأمر والنهي.
    إذا عرفت هذا ، فربما يستظهر من بعض النصوص عدم حسن الاحتياط ، ففي خبر الحسن بن الجهم ، قلت لأبي الحسن عليه السّلام : اعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أذكي هو أم لا. قال : «صل فيه» ، قلت : فالنعل؟ قال : «مثل ذلك». قلت : اني أضيق من هذا ، قال : «أترغب عما كان أبو الحسن عليه السّلام يفعله؟!» (1) ، وفي صحيح البزنطي : «سألته عن الرجل يأتي السوق ، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية. أيصلي فيها؟ فقال : «نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليه السّلام كان يقول : إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن الدين أوسع من ذلك» (2) ، ونحوه غيره مما تضمن النهي عن السؤال ، ومرسل الفقيه ، سئل علي عليه السّلام : أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال : «لا ، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإن
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 2 باب 50 ، من أبواب النجاسات ح 9.
    (2) الوسائل ، ج 2 باب 5 ، من أبواب النجاسات ح 3.

    أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة» (1) ، وما عن تفسير النعماني باسناده عن علي عليه السّلام : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» (2) ، فإن النصوص المذكورة ونحوها مما يتضمن الحث على التيسير ظاهرة في عدم رجحان الاحتياط ، بل بعضها ظاهر في مرجوحيته.
    لكنها ـ مع ضعف سند أكثرها ـ لا تدل على ذلك.
    لظهور الأول في الردع عن ضيق النفس عن العمل بأمارية السوق ، وهو راجع إلى عدم سكون النفس للحكم الشرعي ، المنافي للتسليم الكامل به ، وهو لا ينافي رجحان الاحتياط برجاء إدراك الواقع لمحض الانقياد مع التسليم والاطمئنان بالرخصة ، كما قد يشهد به خبر أبي بصير ، سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الصلاة في الفراء؟ ، فقال : كان علي بن الحسين عليه السّلام رجلا صردا ... فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك فقال : إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته» (3).
    كما أن صحيح البزنطي وأمثاله بصدد التأكيد على حجية السوق والردع عن التزام التضييق كالخوارج ، فلا ينافي حسن الانقياد بالاحتياط.
    وأما مرسل الفقيه فلا ظهور له في مرجوحية الاحتياط بتجنب احتمال النجاسة في فضل وضوء جماعة المسلمين ، إذ لعل السؤال فيه من حيثية استعمال الماء لتوهم كراهة الوضوء من فضل وضوء الغير ، فهو مسوق لبيان عدم كراهة الوضوء فيه ، بل استحبابه بلحاظ مصلحة التيسير.
    __________________
    (1) الوسائل ج 1 ، باب : 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث 3.
    (2) الوسائل ج 1 ، باب : 25 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 1.
    (3) الوسائل ج 1 ، باب : 61 من أبواب لباس المصلي حديث : 2.

    مع أنه لو كان رادعا عن الاحتياط في مورد احتمال النجاسة ، فلا يدل على الردع عنه ذاتا ، بنحو ينافي حسنه عقلا ، بل عرضا لمنافاته لمصلحة التيسير ، لظهوره في أن مصلحة التيسير المقتضية للسعة عملا مما يهتم الشارع به ، بحيث تكون أهم من مصلحة المحافظة على طهارة الماء في ظرف الجهل ، وحيث أنه لا إشكال في لزوم الوضوء بالماء الطاهر واقعا المستلزم لحسن الانقياد عقلا بالاحتياط فيه كان المقام من مزاحمة حسن الانقياد بحسن الطاعة بالإضافة إلى مصلحة التيسير الاستحبابية ، وحيث كان الثاني أهم كان هو الأرجح عقلا وإن كان الاحتياط باقيا على حسنه ، فيكون مرجع الردع الشرعي في المقام إلى إحداث حكم شرعي تكون طاعته مزاحمة للاحتياط عقلا من دون أن ترفع حسنه ، كما تقدم في أول الكلام في هذا الأمر.
    ومنه يظهر الحال في ما عن تفسير النعماني ونحوه مما تضمن الأمر بالتيسير ، فإنه راجع إلى استحباب الإتيان بالرخص ، ويكون الحكم المذكور مزاحما لحسن الاحتياط ، لا رافعا لحسنه.
    فتحصل أن النصوص المذكورة لا تنافي حسن الاحتياط ذاتا ، بملاك الانقياد ، وإنما تدل على أمرين لا ينبغي الاستهانة بهما ..
    الأول : أن الاحتياط قد يكون مرجوحا بالعرض لو كان ناشئا من عدم سكون النفس للترخيص الشرعي وعدم ركونها للعمل به ، لمنافاة ذلك للتسليم الكامل به.
    الثاني : أنه ينطبق على ترك الاحتياط عنوان راجح شرعا يحسن عقلا الإتيان به بداعي إطاعة الشارع وانقيادا له ، كما يحسن الانقياد له بالاحتياط ، وهو عنوان التيسير واستعمال الرخصة. فتأمل جيدا.
    الأمر الثاني : حيث عرفت حسن الاحتياط عقلا فقد وقع الكلام بينهم في حسنه شرعا والأمر به مولويا. فقد استفاضت النصوص المتقدمة التي استدل بها

    الاخباريون على وجوب الاحتياط بالأمر به والحث عليه ، وبعد فرض عدم حملها على الوجوب وتحكيم أدلة البراءة ، فهل تحمل على الإرشاد لحسنه عقلا بملاك الانقياد ، أو على الاستحباب المولوي ، كما هو الأصل في الأوامر الشرعية؟
    ولا يخفى أن نصوص الاحتياط على قسمين :
    الأول : ما تضمن الأمر به بملاك تحصيل الواقع المحتمل من دون أن يتضمن أثرا زائدا على ذلك ، كما هو مفاد التعليل بمثل قولهم عليهم السّلام : «من أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (1).
    الثاني : ما تضمن الأمر به بملاك أمر آخر غير تحصيل الواقع المشتبه ، مثل قولهم عليهم السّلام : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك» (2).
    أما الأول فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره أنه ظاهر في الإرشاد لحسن الاحتياط عقلا ، بملاك الانقياد من حيث كونه تحصيلا لمصلحة الحكم الواقعي.
    واستشكل فيه بعض مشايخنا بأن حكم العقل بحسن الانقياد لما لم يكن إلزاميا فهو لا يوجب رفع اليد عن ظهور الأوامر الشرعية في المولوية.
    وكأنه لان حكم العقل بحسن الاحتياط قد لا يكون موجبا لانبعاث المكلف ، ويكون الأمر الشرعي المولوي موجبا له ، فلا يكون لاغيا.
    وهذا بخلاف أوامر الطاعة فقد ذكر أنه يمتنع حملها على المولوية ، للزوم لغويتها وإن لم نقل باستحالة التسلسل ، لأن الأوامر الشرعية لا تقتضي الانبعاث ما لم تنته إلى الإلزام من جهة العقل بجعل وجوب الطاعة ، فلا بد من صرف أوامر الطاعة الشرعية إلى الإرشاد لذلك.
    وفيه : أن مجرد عدم محركية الأحكام الشرعية إلا بانتهائها إلى الدافع
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 18 باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح 9.
    (2) الوسائل ، ج 18 باب : 12 من أبواب صفات القاضي ح 22.

    العقلي المقتضي للزوم الطاعة عقلا ، لا يلزم بحمل أوامر الشارع بالطاعة على الإرشاد ، لإمكان وجوب الطاعة بحكم العقل والشرع معا ، نظير ما التزم به هنا من حسن الاحتياط شرعا وعقلا.
    على أن عدم صلوح الأحكام الشرعية للمحركية إلا بضميمة حكم العقل كما يتوجه في الأحكام المنجزة التي يحكم العقل بلزوم طاعتها ، كذلك يتوجه في الأحكام غير المنجزة التي يحكم العقل بحسن الانقياد بموافقتها ، فانها لا تقتضي الانبعاث لو لا الحكم العقلي المذكور.
    ومجرد الاختلاف بين الحكمين بالإلزام وعدمه لا يصلح فارقا ، ولا سيما مع كون إطاعة الأمر الاستحبابي والنهي التنزيهي مع تنجزهما حسنة عقلا غير واجبة ، مع عدم الإشكال بينهم في كون أوامر الشارع بإطاعتها للإرشاد.
    فاللازم النظر في الفرق بين الأمر المولوي والإرشادي ذاتا ثم تحديد مصاديقهما ..
    فنقول : الأمر والنهي إن صدرا بداعي جعل السبيل على المخاطب بهما ، بنحو يقتضي إضافة الفعل للامر والناهي وحسابه عليه ، انتزع منهما الحكم المولوي الذي يكون موضوعا للطاعة والمعصية وموردا لأهلية المخاطب للثواب والعقاب من قبل الامر.
    وإن صدرا لمحض إرشاد المخاطب لآثار الأفعال الثابتة لها مع قطع النظر عن الأمر والنهي من دون أن يقتضيا إضافة الفعل للامر وحسابه عليه ، لم يكونا منشأ لانتزاع الحكم ، ولا يكون الداعي العقلي لموافقتها إلا بحسب داعويته للأثر المستكشف بهما.
    فإذا أمر الأب ولده بالتدثر مثلا ، فإن كان أمره لمحض إرشاده لحاجته إليه كان إرشاديا ولا يتحقق الداعي العقلي لموافقته إلا بتبع داعويته لسدّ الحاجة المفروضة. وإن كان أمره مبنيا على جعله مسئولا من قبله بحيث يأتي به لحسابه

    استحبابا أو وجوبا كان مولويا وصار موضوعا للداعي العقلي بنفسه ـ مع قطع النظر عن الملاك الموجب له ـ على حسب قوة الداعي لطاعته وضعفه.
    ومنه يظهر الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي المنجز في مقام المحركية عن الداعي العقلي ، فإن الانبعاث عن الأمر المولوي فعل اختياري للمكلف ، فلا يعقل صدوره إلا لغرض دافع له ، من حب موافقة الامر ـ لأهليته ذاتا أو بالعرض ـ أو خوف عقابه أو رجاء ثوابه. والداعوية المذكورة هي مرجع حكم العقل بحسن الإطاعة أو وجوبها في الأحكام الشرعية.
    كما ظهر أيضا الوجه في عدم استغناء الحكم الواقعي المولوي غير المنجز في مقام المحركية عن الداعي العقلي ، فإنه لو لا حكم العقل بحسن الانقياد لا داعي للمكلف في الاندفاع عن احتمال الحكم المذكور.
    ثم إنه حيث كان الحكم المولوي من أفعال المولى الاختيارية فلا بد من صدوره عن داع وغرض له فيه ، من حفظ ملاك أو غيره على الكلام في ذلك.
    إذا عرفت هذا يقع الكلام في أوامر الطاعة والاحتياط. فاعلم : أن الأمر بالطاعة إن كان ناشئا عن ملاك آخر غير ملاك ذات الفعل كان مولويا ، كما لو فرض أن تعلق التكليف بالفعل وصدق عنوان الطاعة عليه موجب لحدوث ملاك آخر فيه غير ملاكه الذي أوجب حدوث أمره ، فان اهتمام الشارع بالملاك المذكور موجب لأمره به مولويا بعنوانه المذكور ، بحيث يكون مضافا للمولى ومحسوبا عليه ، ويكون مؤكدا للأمر المولوي الأول المتعلق بذات الفعل.
    ولا مجال معه لتوهم لغوية الأمر الثاني ، لأن تأكد الأمر موجب لتأكد الداعوية المولوية ، الموجب لتأكد الداعوية العقلية ، فكما يكون الفعل موضوعا لحكمين شرعيين أحدهما متعلق بذاته ، والآخر متعلق به بعنوان كونه إطاعة ، كذلك يكون موضوعا لحكمين عقليين في طول الحكمين الشرعيين المذكورين يقتضيان إطاعة كل منهما ، وإن اتحد الحكم الشرعي الثاني والحكم

    العقلي الأول موضوعا.
    وإن لم يكن ناشئا عن ملاك مستقل ، بل ليس إلا ملاك الأمر الأول امتنع كونه مولويا ، لعدم الغرض فيه بعد قيام الأمر الأول به ، وتعين كونه إرشاديا لا يبتني على جعل السبيل ، ولا على إضافة الفعل للمولى ، فلا يكون حكما حقيقة ، ولا موضوعا للطاعة والمعصية ، ولا يستتبع عقابا ولا ثوابا غير ما يقتضيه الأمر الأول.
    ومن هنا تعين حمل أوامر الشارع بالإطاعة على الإرشاد ، لما هو المفروغ عنه من عدم كون منشئها ملاكا مستقلا ، وعدم استتباعها ثوابا ولا عقابا غير ما يقتضيه الأمر الأول.
    مضافا إلى أن ظاهرها الأمر بإطاعة كل حكم ولو كان غير إلزامي ، فلو كان الأمر المذكور مولويا كان ظاهره الوجوب المقتضي لوجوب إطاعة الأوامر الاستحبابية ، وهو مقطوع ببطلانه ، وحمل الأمر بالإطاعة على الاستحباب ، أو على مطلق الطلب ليس بأولى من حمله على الإرشاد بعد كون كل منهما خلاف الأصل في الأمر ، بل الثاني أقرب ارتكازيا.
    كما أن ظاهر الأمر بالإطاعة عمومه لكل أمر يفرض حتى نفس وجوب الإطاعة كما هو مقتضى كون القضية حقيقية ، وهو مستلزم للتسلسل ، فحمله على ما عدا أمر الإطاعة دفعا للتسلسل ليس بأولى من حمله على الإرشاد ، بل الإرشاد أقرب ارتكازا. فتأمل جيدا.
    وأما الأمر بالاحتياط فإن كان واردا بلحاظ حفظ الواقع والانقياد له ، للتنبيه على أهمية الواقع بنحو ينبغي للمكلف حفظه والاهتمام به كان إرشاديا مطابقا لحكم العقل ، ولا يترتب على موافقته إلا ما يترتب بحكم العقل على الانقياد.
    وإن كان واردا بلحاظ غرض خاص قائم بعنوان الاحتياط وإن كان هو حفظ الواقع من جهة الشارع ، لاهتمامه به الموجب لخطابه به ، بنحو يقتضي

    إضافة الفعل إليه وحسابه عليه ، كان مولويا واقتضى تأكد الداعي العقلي للاحتياط من حيث كونه انقيادا للواقع المحتمل وطاعة للأمر بالاحتياط المعلوم ، كما أنه يقتضي شدة الثواب لتأكد الجهة المقتضية له. فتأمل.
    ولعل منه ما ورد في كراهة مساورة الحائض المتهمة ، وكراهة كسب الغلام ، لأنه إن لم يجد سرق ، وكراهة كسب الجارية لأنها إن لم تجد زنت.
    هذا ، والتأمل في نصوص الاحتياط المذكورة يشهد بالأول ، لظهورها في أهمية الواقع بنحو يقتضي اهتمام المكلف به ، كما هو مقتضى التعليل بعدم الوقوع في الهلكة ، لا بنحو يهتم الشارع بحفظه فيكون ملاكا لتشريع الاحتياط مولويا. فليس الاحتياط مرغوبا للشارع تبعا لاهتمامه بالواقع ، بل مما ينبغي للمكلف تبعا لأهمية الواقع في حقه.
    إن قلت : حكم العقل بحسن الانقياد ليس كأمر الشارع بالاحتياط ، لكشف الثاني عن أهمية الواقع.
    قلت : هذا لا يستلزم كون حفظ الواقع ملاكا يهتم الشارع به ، ليستلزم المولوية ، وإنما يكشف عن أهمية الواقع في حق المكلف ، الموجب لتأكد حسن الانقياد به عقلا. نظير ما في بعض الأدلة الشرعية من بيان أهمية بعض التكاليف الموجبة لتأكد حكم العقل بإطاعتها من دون أن تقتضي الأمر المولوي بها.
    وبعبارة اخرى : ظاهر الأمر بالاحتياط ـ سواء كان وجوبيا ، كما يقوله الاخباريون ، أم استحبابيا كما يقوله غيرهم ـ ليس إلا حكما طريقيا لإحراز الواقع كاشفا عن أهمية الواقع في حق المكلف ، من دون أن يقتضي حكما نفسيا في قباله موضوعا للإطاعة والمعصية ومنشأ للعقاب والثواب.
    غايته أنه إن كان وجوبيا كان مستلزما لتنجز الواقع ، وصار الواقع به موضوعا لوجوب الإطاعة عقلا ، وإن كان استحبابيا كان إرشادا لحكم العقل

    بحسن الانقياد بتحصيل الواقع رجاء.
    ومنه يظهر الحال في ما تضمن الأمر بالاحتياط من دون تعليل ، فإن المنسبق من الأمر بالاحتياط ليس إلا الحكم الطريقي بالوجه المذكور.
    وأما القسم الثاني من الأخبار : فقد ذكروا أنه ظاهر في المولوية ، لأن الملاك المذكور فيه لا دخل له بملاك الواقع المحتمل ، ليكون إرشادا إلى حسن الانقياد بتحصيله.
    لكن الإنصاف : أن الملاك المذكور مناسب للإرشاد جدا. فإن البعد عن الحرام مما يحسن عقلا احتياطا للنفس بملاك حسن الطاعة. ومعه يشكل ظهور الأوامر المذكورة في المولوية الراجعة إلى ابتناء خطاب الشارع على جعل السبيل وإضافة الفعل له وحسابه عليه ليكون موضوعا للطاعة والمعصية ومنشأ للثواب زائدا على الفائدة المذكورة ، بل لا يبعد كونه نظير أمر الطبيب.
    ومن ثمّ لا يبعد حمل كثير من النصوص المتعرضة لآثار بعض الأفعال المرغوب فيها أو عنها على الإرشاد للآثار المذكورة ، من دون أن تقتضي الاستحباب أو الكراهة المولويين.
    إلا أن يفرض ظهورها في تبني الشارع للحكم ، فيكون الأثر المذكور ملاكا للحكم الشرعي ومنشأ لتشريعه ، ولا تكون مسوقة لمحض الإرشاد. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.
    هذا كله بناء على شمول النصوص المتقدمة للاحتياط في موارد عدم تنجز التكليف ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ، لكنه خلاف الظاهر ، لما تقدم عند الكلام في استدلال الأخباريين بها من أن القسم الأول من النصوص ظاهر في وجوب الاحتياط في خصوص موارد منجزية الشبهة ، وليس شاملا لصورة عدم تنجز التكليف ، ليحمل على استحباب الاحتياط ، ولا سيما بملاحظة التعليل فيه باحتمال الهلكة فإنه آب عن الحمل على الاستحباب.

    وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حمل الهلكة فيه على مطلق ما يترتب على الاقتحام في الشبهة ومخالفة احتمال التكليف وإن لم يكن لازم الدفع عقلا ، فإن كان التكليف منجزا كان هو ضرر العقاب اللازم الدفع ، وإن لم يكن منجزا كان هو ضرر فوت الواقع الذي يحسن دفعه ولا يلزم.
    فهو خلاف الظاهر جدا ، لظهور الهلكة في أهمية الضرر بنحو يجب دفعه ـ كالعقاب ـ دون ما لا يجب دفعه كفوت الملاك الواقعي ، الذي قد يكون عرفا من سنخ فوت النفع ، لا الوقوع في الضرر ، فضلا عن أن يكون وقوعا في الهلكة ، ليكون مشمولا للتعليل المذكور.
    نعم ، تقدم في موثقة مسعدة بن زياد تطبيق التعليل المذكور على النكاح في مورد الشبهة الموضوعية التي لا يجب فيها الاحتياط. لكنها مختصة بموردها ، ولا مجال للتعدي عنه ، كما يظهر مما ذكرنا هنا وهناك.
    وأما القسم الثاني فالتعليل فيه وإن كان لا ينافي الاستحباب ، إلا أن ظاهر الشبهة فيه خصوص موارد تنجيز الاحتمال ، ولا أقل من كون المتيقن منه ذلك.
    وكذا ما تضمن الأمر بالاحتياط ونحوه ، كما يظهر بما تقدم في استدلال الاخباريين بالنصوص المذكورة. فراجع.
    بل شمول نصوص الاحتياط للشبهة غير المنجزة لا يناسب أدلة الاصول والقواعد الترخيصية ، بل أدلة الحجج من اليد والسوق ونحوهما ، لظهورها في الحث على العمل بمؤداها بالنحو الذي لا يناسب نصوص الاحتياط ، ولا سيما ما تضمن منها إطلاق الهلكة. بل التأمل في الأدلة المذكورة شاهد بمباينتها موردا لأخبار الاحتياط ، بل هي رافعة لموضوعها عرفا ، لاختصاصها بالشبهات المنجزة ، كما ذكرنا.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا طريق لإثبات حسن الاحتياط شرعا ، وليس حسنه إلا عقليا. ويأتي في الأمر الثالث ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالى.

    الأمر الثالث : قد تضمنت كثير من النصوص الحث على العمل الذي ورد عليه الثواب. كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «من بلغه عن النبي صلّى الله عليه وآله من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يقله» (1) ، وصحيحه الآخر عنه عليه السّلام ، قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه» (2) ، وخبر محمد بن مروان عنه عليه السّلام ، قال : «من بلغه عن النبي صلّى الله عليه وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى الله عليه وآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلّى الله عليه وآله لم يقله» (3) وغيرها.
    وقد وقع الخلاف في مفاد النصوص المذكورة ، والمحتمل منها بدوا وجوه ..
    الأول : حجية الخبر الدال على الثواب مطلقا وإن كان ضعيفا في نفسه. وهو ظاهر التعبير عن مؤدى النصوص في كلماتهم بالتسامح في أدلة السنن لظهوره في أن ما ليس حجة في نفسه فهو حجة في السنن.
    الثاني : علّية بلوغ الثواب على العمل لاستحبابه شرعا بعنوانه الأولي الذي اخذ في موضوع الثواب.
    الثالث : عليته لاستصحاب العمل شرعا أيضا ، لكن بقيد الاتيان به رجاء إدراك الواقع وترتب الثواب ، لا مطلقا ، كما في الوجه السابق.
    الرابع : مجرد ترتب الثواب على العمل الذي ورد عليه الثواب لمن جاء به برجاء إدراك الواقع من دون أن يقتضي استحبابه شرعا والأمر به مولويا ، بل غاية ما يقتضي الحث على الانقياد والإرشاد لحسنه بملاك ترتب الثواب عليه. وعليه فلا تكون النصوص المذكورة دالة على حكم شرعي أصلا ، بخلاف الوجوه
    __________________
    (1) الوسائل ج 1 ، باب : 8 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 3.
    (2) الوسائل ج 1 ، باب : 18 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 6.
    (3) الوسائل ج 1 ، باب : 18 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 4.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:31 am

    السابقة ، حيث تكون على الأول ، دالة على حكم اصولي ، وعلى الثاني والثالث دالة على حكم فرعي.
    وينبغي الكلام ..
    تارة : في الثمرة بين الأقوال.
    واخرى : في تحقيق الحق منها.
    وثالثة : في فروع ذلك ولواحقه.
    المقام الأول : في الثمرة بين الأقوال ..
    لا يخفى أن الوجوه المذكورة تختلف في مقام العمل ، فعلى الأول يشرع الإتيان بالعمل لداعي أمره الواقعي الذي تضمنه الخبر المتضمن لثبوت الثواب عليه ، لفرض حجيته في مضمونه بنحو يصح الجزم به تعبدا ، ولا مجال لذلك على بقية الوجوه ، لعدم ثبوت الأمر المذكور شرعا ، بل لا مجال لقصده إلا رجاء.
    نعم ، على الثاني والثالث يتجه الجزم باستحبابه من جهة النصوص المتقدمة ، أما على الرابع فلا مجال للجزم بالأمر الشرعي مطلقا.
    كما أنه على الأولين يكفي الإتيان بالفعل الذي بلغ عليه الثواب بقصد عنوانه الذي اخذ في ترتب الثواب ـ كعنوان الصلاة والدعاء ـ ولو لا بداعي بلوغ الثواب عليه ، وورود الأمر الواقعي المحتمل به ، لثبوت استحبابه بعنوانه المذكور بهذه الأخبار على الثاني ، وبالخبر المتضمن للثواب ـ المفروض حجيته بهذه الاخبار ـ على الأول.
    أما على الأخيرين فلا بد من قصد بلوغ الثواب والأمر المحتمل داعيا للعمل ، لفرض أخذ ذلك قيدا في ما هو المستحب شرعا على الثالث ، ولتوقف ترتب الثواب وتحقق الانقياد على الرابع.
    هذا وربما توجه الثمرة بوجهين آخرين ..
    الأول : أنه على الأول يتجه للفقيه الفتوى باستحباب العمل بعنوانه

    بمجرد عثوره على خبر يدل على استحبابه من دون أن ينبه العامي على ورود الخبر المذكور ، إذ بعد فرض حجية الخبر يكون كسائر الحجج التي يصح للفقيه الاعتماد عليها. ولعله لذا جرى الأصحاب على ذلك. وعن شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن ذلك منهم ظاهر في اختيار الوجه المذكور.
    أما على الثاني والثالث فلا مجال لفتواه بالاستحباب اعتمادا على الخبر الذي دل على الثواب ، لعدم حجيته ، ولا على أخبار المقام ، لأن وظيفته بيان الأحكام الفرعية الكلية ، واستحباب العمل الخاص حكم فرعي جزئي مستفاد من الأخبار المذكورة ، وليس الحكم الكلي إلا نفس ما تضمنته هذه الأخبار من استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، فله الفتوى به على عمومه ، كما له الإخبار بموضوعه ـ وهو ورود الثواب على العمل ـ كما يخبر عن سائر الموضوعات الخارجية التي يطلع عليها ، كمسجدية المسجد ،.
    بل يكون إخباره بذلك محققا للموضوع ، لصدق البلوغ به حقيقة ، وليس كإخباره بسائر الموضوعات متمحضا في الكشف عنها.
    أما على الرابع فليس له إلا التنبيه على ورود الخبر ، ليتحقق البلوغ الذي هو موضوع النصوص ، من دون إخبار بحكم شرعي كلي ، ولا بموضوع شرعي.
    لكن تشكل الثمرة المذكورة : بأن ظاهر نصوص المقام اختصاص مؤداها بمن بلغه الثواب ، فلو فرض دلالتها على حجية الخبر الدال على الثواب فهي لا تدل على حجيته في نفسه مطلقا ، كما اقتضت السيرة حجية خبر الواحد في نفسه ، بل على حجيته في حق خصوص من بلغه ، وهو المجتهد المطلع عليه ، دون العامي ، وحينئذ لا مجال لفتوى المجتهد للعامي بمؤداه ، ليرتب عمله عليه ، لأن وظيفة العامي الرجوع للمجتهد في تشخيص مؤدى الحجج الثابتة في حقه ، لا الثابتة في حق المجتهد نفسه دونه.
    فلو فرض أن الخبر الموثق حجة على الرجال دون النساء ، لم يكن لهن

    الرجوع للمجتهد الرجل في تشخيص أحكامهن التي يتضمنها الموثق ، وإن جاز للمجتهد نفسه الرجوع إليه في تشخيص أحكامهن المتعلقة به ، فله أن يطأ المرأة التي دل الموثق على نقائها ، وإن لم يكن لها تطبيق عملها على ذلك.
    ودعوى : أن الحجج لا تكون حججا في حق العامي بعد تعذر أخذ حكمه منها عليه ، وليس الحجة في حقه إلا فتوى المجتهد ، واللازم على المجتهد الفتوى اعتمادا على ما هو الحجة في حقه.
    مدفوعة : بأنه ليس المتعذر على العامي إلا أخذ حكمه من الحجج بلا واسطة. أما أخذ حكمه منها بتوسط المجتهد فلا يكون متعذرا عليه ، ومعه لا وجه لسقوط حجيتها في حقه ، كما لا وجه لرجوعه لفتوى المجتهد المبنية على ما هو حجة في حق المجتهد دونه ، لقصور بناء العقلاء ـ الذي هو عمدة أدلة التقليد ـ عن ذلك.
    وعلى ذلك فاللازم على المجتهد تحقيق موضوع الحجية في حق العامي بنقل الخبر له ، ثم الفتوى له بمضمونه ، كما هو الحال على الوجه الثاني والثالث.
    وقد ذكرنا نظير ذلك في أخبار التخيير ، فإن مقتضاها لو كان هو حجية الخبر الذي يختاره المكلف فلا وجه لعمل العامي بالحكم المستنبط من الخبر الذي يختاره المجتهد.
    ودعوى : أن المجتهد يقوم مقام العامي في الفحص عن الأدلة ، وينوب عنه فيه ، فيتعين الاكتفاء ببلوغ الخبر للمجتهد في حجيته في حق العامي ، كما يتعين الاكتفاء باختيار المجتهد له.
    مدفوعة : بأن المجتهد إنما يقوم مقام العامي في تشخيص الأدلة الثابتة في حق العامي بملاك كونه من أهل الخبرة ، لا في تحقق موضوع الحجية من البلوغ والاختيار ونحوهما.
    نعم ، لو استفيد من نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب في

    نفسه ، بحمل البلوغ فيه على محض الطريقية من دون أن يؤخذ في موضوع الحجية كان للمجتهد الفتوى بمضمونه في حق من لم يطلع عليه.
    لكنه ـ مع مخالفته لظاهر التقييد بالبلوغ ، ولا سيما مع دخله ارتكازا ـ يقتضي جواز الفتوى على الوجه الثاني أيضا ، غايته أنه يكون منه بيانا للحكم الجزئي لا الكلي ، وهو مما لا بأس به بعد تشخيص موضوعه ، نظير فتواه بنجاسة الكحول بعد تشخيص كونه مسكرا.
    نعم ، لا مجال لذلك على الوجه الثالث ، لاختصاص الاستحباب بما يكون بداعي حصول الثواب الوارد ، المتوقف على التفات المكلف لورود الثواب على العمل.
    وكذا الحال على الرابع ، بل هو أولى ، لعدم الاستحباب الشرعي ، كي يفتي به المجتهد.
    الثاني : أنه بناء على الوجوه الثلاثة الاول يتجه البناء على مشروعية العمل الذي بلغ عليه الثواب بالوجه الذي دل عليه الخبر المتضمن للثواب وترتيب آثار ذلك.
    فلو ورد خبر باستحباب غسل مسترسل اللحية في الوضوء جاز المسح ببلله ، لأنه ـ كبلل الحاجبين ـ من بلة الوضوء بمقتضى نصوص المقام المقتضية لاستحبابه ، أو لحجية الخبر الدال على استحبابه ، ولو ورد خبر باستحباب غسل خاص اجتزئ به عن الوضوء ، بناء على إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء ، إلى غير ذلك.
    أما بناء على الوجه الرابع فلا مجال لشيء من ذلك ، لعدم ثبوت المشروعية ، فلا تترتب آثارها.
    وفيه : أنه بناء على الوجه الأول فنصوص المقام وإن اقتضت حجية الخبر الدال على الاستحباب والمشروعية ، إلا أنه لا إطلاق لها يقتضي حجيته في تمام

    مدلوله وآثاره ، بل من حيثية الاستحباب وترتب الثواب لا غير ، ولذا لو دل الخبر الضعيف على وجوب الشيء الذي تضمن الثواب عليه لا يكون حجة في إثبات الوجوب بلا إشكال ، بل في أصل الطلب المستلزم للثواب.
    والتفكيك في الحجية بين أجزاء المدلول وآثاره غير عزيز ، وإنما يلتزم بعموم الحجية مع عموم دليلها وإن كان هو بناء العقلاء ، كما في خبر الثقة ، لا في مثل المقام مما كان دليل الحجية فيه تعبديا لا عموم فيه.
    وأما بناء على الوجه الثاني والثالث فنصوص المقام وإن اقتضت استحباب الفعل ومشروعيته إلا أنها حيث لم تثبت مشروعيته بالعنوان الأولي ، بل بالعنوان الثانوي ، وهو عنوان البلوغ ، فلا بد من الاقتصار على الآثار الثابتة لمطلق الفعل المشروع ، دون خصوص ما ثبت لما كان مشروعا بالعنوان الأولي ، كما هو الظاهر في الأثرين المشار إليهما ، فإن المسح إنما يجوز ببلة الوضوء المشروع بعنوان كونه وضوء ، لا بعنوان كونه قد بلغ عليه الثواب ، وكذا الحال في إجزاء الغسل عن الوضوء. فتأمل جيدا.
    المقام الثاني : في تحقيق ما هو الحق من الأقوال ..
    قد يقرب دلالة النصوص المتقدمة على الوجه الأول بظهور ذكر ترتب الثواب الموعود به في الحث على العمل بالخبر المتضمن للثواب ومتابعته عملا ، والأمر بمتابعة الطريق والعمل به كناية عن حجيته في نفسه.
    ودعوى : أن نصوص المقام بصدد بيان ترتب الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، لا بيان ما يتحقق به البلوغ ، فلا إطلاق لها ينهض بعدم اعتبار شرائط الحجية في الخبر الذي يتحقق به البلوغ ، بنحو يقتضي حجية الخبر الضعيف ، بل مقتضى أدلة اعتبار تلك الشروط اعتبارها في الخبر المتضمن للثواب أيضا.
    مدفوعة : بأن البلوغ ليس أمرا شرعيا ، بل هو أمر وجداني يتحقق بالخبر

    الضعيف وغيره ، ومقتضى إطلاق نصوص المقام الحث على العمل بجميع أفراد البلوغ. وما دل على عدم حجية الخبر الضعيف لا ينافي تحقق البلوغ به الذي هو الموضوع في هذه النصوص.
    نعم ، قد يقال : على ذلك تكون النسبة بين نصوص المقام وما دل على اعتبار شروط الحجية من الثقة أو العدالة أو غيرهما العموم من وجه لا العموم المطلق ، لأن نصوص المقام وإن اختصت بالاستحباب ونحوه مما يتضمن بلوغ الثواب ، إلا أنها تعم الخبر الواجد لشرائط الحجية ، فيرجع في مورد التعارض إلى أصالة عدم الحجية.
    لكنه يندفع : بأن عمدة الدليل على اعتبار الشروط المذكورة هي الإجماع الذي لا يشمل المستحبات ، وسيرة العقلاء التي تنهض نصوص المقام ـ لو تمت دلالتها ـ بالردع عنها في المستحبات.
    نعم ، لا يبعد ثبوت الإطلاق لبعض النصوص بنحو يشمل المستحبات ، مثل ما عن الكاظم عليه السّلام : «لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذي خانوا الله ورسوله ...» (1).
    إلا أنه لو تم سنده فنصوص المقام أرجح منه ، لأنها أكثر عددا وأصح سندا وأشهر رواية.
    هذا ، مع أنه لا يبعد كون نصوص المقام أقوى دلالة من الإطلاق المذكور ، لأن حملها على خصوص الخبر الواجد لشرائط الحجية عملا بالإطلاق المذكور مستلزم لإلغاء خصوصية موردها ، بخلاف حمل الإطلاق على غير المستحبات عملا بالنصوص المذكور. وذلك من أهم المرجحات الدلالية بين العامين من وجه.
    هذا حاصل ما يوجه به دلالة نصوص المقام على الوجه الأول.
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 18 ، باب : 11 من أبواب صفات القاضي ح : 42.

    ويندفع : بأن الأخبار المذكورة لا ظهور لها في الحث على العمل بالخبر المتضمن للثواب الذي هو بمعنى الاعتماد عليه لتكون ظاهرة في حجيته ، بل غاية ما تضمنته الحث على موافقته عملا ولو لرجاء إصابة الواقع ، ولا ظهور لذلك في الحجية ، بل ما تضمنته من التنبيه على احتمال خطأ الخبر لا يناسب لسان الحجية المبنية على إلغاء احتمال الخلاف وغض النظر عنه.
    وأما مجرد ترتب الثواب فهو ليس من لوازم الحجية ، بل هو من لوازم الإطاعة الحقيقية أو الحكمية ، والاولى منوطة بإصابة الواقع لا بقيام الحجة ، والثانية منوطة بالانقياد الحاصل بالموافقة الاحتمالية وإن لم يكن هناك حجة.
    وأما الوجه الثاني فقد يوجه حمل النصوص عليه بأن الوعد بالثواب فيها على العمل الذي بلغ عليه الثواب ظاهر في الأمر به واستحبابه ، كما يستفاد الأمر في سائر الموارد المتضمنة للوعد بالثواب على العمل كالحج وزيارة المعصومين عليهم السّلام والإحسان للمؤمنين ونحوها.
    لكن من الظاهر أن هذا لو تم لا يقتضي الوجه الثاني ، بل الثالث ، لوضوح أن الوعد بالثواب لم يترتب على ذات الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، ليكشف عن استحبابه مطلقا ، بل المتيقن منه خصوص الفعل المأتي به بداعي تحقق الأمر الواقعي وتحصيل الثواب البالغ ، كما هو مقتضى التفريع في مثل صحيحي هشام المتقدمين ، لظهوره في تفرع العمل على البلوغ الظاهر في كون البلوغ علة له ، بلحاظ داعويته له ، بل هو صريح مثل خبر محمد بن مروان المتقدم.
    على أن الوجه المذكور غير تام في نفسه ، لأن الوعد بالثواب إنما يشكف عن الأمر المولوي إذا لم يكن للثواب منشأ غيره ، كما في الموارد المشار إليها ، بخلاف المقام ، لقرب كون ترتب الثواب بلحاظ الانقياد الناشئ من بلوغ الثواب ورجاء تحصيله ، نظير الوعد بالثواب على الطاعة ، من دون أن يكون لازما للأمر المولوي ، ولا كاشفا عنه.

    بل لو كان الثواب الموعود به في هذه النصوص ناشئا عن أمر مولوي سيقت هذه النصوص لبيانه لزم عدم ترتبه في حق من لم يلتفت لمفاد هذه النصوص ـ لجهلة بها أو لغافلته عنها ـ وأتى بالفعل الذي بلغ عليه الثواب لمحض الانقياد رجاء تحقق الأمر الواقعي وترتب الثواب البالغ ، لوضوح عدم قصده امتثال الأمر الثانوي المستفاد من هذه النصوص ، كي يستحق ثوابه ، بل ليس منه إلا الانقياد الحاصل في سائر موارد الاحتمال.
    ولا يظن من أحد الالتزام بذلك. وما ذلك إلا لظهور هذه النصوص في أن منشأ الثواب الموعود به مجرد الإتيان بالعمل برجاء تحصيل الثواب الذي بلغ ، لا لأجل كونه إطاعة لأمر مولوي آخر ، وذلك حاصل في حق من غفل عن مفاد هذه النصوص ، وهو راجع إلى الإرشاد لحكم العقل بحسن الانقياد ، كما هو مقتضى الوجه الرابع. ولا أقل من كونه المتيقن بعد عدم القرينة على إرادة الوجوه الاخرى.
    نعم ، قد يشكل الحمل على ذلك ..
    تارة : بأن أمر الشارع هنا بالاحتياط يكشف عن أهمية الواقع بنحو لا يدركه العقل ، فلا مجال لحمله على الإرشاد.
    واخرى : بأن الحمل على الإرشاد موقوف على حكم العقل باستحقاق الثواب على الانقياد ، والتحقيق عدمه ، وأن الثواب معه تفضل من المولى غير لازم عليه ، وحينئذ يكون وعد الشارع بفعلية الثواب راجعا إلى أمره به ، لتضمنه أمرا زائدا على ما يحكم به العقل ، فهو كالوعد بالثواب على سائر المستحبات المولوية.
    وثالثة : بأن تحديد الثواب بخصوص ما بلغ أمر زائد على ما يحكم به العقل ، فيدل على الأمر المولوي.
    ورابعة : بأن البناء على الإرشاد يستلزم إلغاء خصوصية البلوغ ، لأن

    الانقياد لا يختص به ، بل يجري في كل احتمال وإن كان حدسيا في الشبهة الموضوعية.
    لكن الجميع في غير محله ..
    أما الأول فلما تقدم في أوامر الاحتياط من أن أمر الشارع بالاحتياط وإن كشف عن أهمية الواقع بنحو لا يدركه العقل ، إلا أنه لا يقتضي المولوية ، بل يقتضي حكم العقل بتأكد حسن الانقياد به.
    بل لا يبعد عدم سوق نصوص المقام لبيان أهمية الملاك الواقعي المحتمل في مورد بلوغ الثواب ، بل لمحض الإرشاد لحسن الانقياد والحث عليه من حيث هو ، لظهورها في أن منشأ الحث والثواب ليس اهتمام المكلف بالحكم الشرعي وطلب قول النبي صلّى الله عليه وآله الذي هو عين الانقياد الحسن بحكم العقل بملاك شكر المنعم.
    وأما الثاني فلأن العقل وإن لم يستقل باستحقاق الثواب على الانقياد إلا أنه يحكم بأهلية الفاعل له ، كما هو الحال في الإطاعة الحقيقية ، وحينئذ لعل الوعد بالثواب في هذه النصوص بلحاظ ذلك ، كما هو الحال في الوعد به على الإطاعة الحقيقية.
    مع أنه لو تم ما ذكر في هذا الوجه فالنصوص وإن لم تصلح للإرشاد ، إلا أنها لا تقتضي الأمر المولوي ، لإمكان أن يكون الوعد بالثواب محض تفضل لا يستتبع الأمر ، ولا قرينة على كونه ناشئا عن أمر بحيث يقتضي إضافة الفعل للمولى وحسابه عليه زائدا على ما يحكم به العقل من حسن الانقياد.
    وأما الثالث فلأن تحديد الثواب ليس من وظيفة العقل حتى في الإطاعة الحقيقية ، فتعرّض الشارع له هنا كتعرّضه له في بعض موارد الإطاعة الحقيقية لا ينافي الإرشاد في أصل الحث على الانقياد المستفاد من ذلك.
    ومنه يظهر اندفاع الرابع ، إذ لا مانع من اختلاف مراتب الانقياد في

    الأهمية وفي مقدار الثواب بالنحو الذي يدركه الشارع ، فلا مانع من اختصاص الانقياد في مورد بلوغ الثواب بمزية تقتضي الوعد بتمام الثواب البالغ وإن لم يتم ذلك في سائر موارد الانقياد.
    وبالجملة : الوجوه المذكورة لا تنهض بإثبات الأمر المولوي الثانوي ، لملاك خاص بنحو يقتضي إضافة الفعل للمولى وحسابه عليه مع قطع النظر عن حسن الانقياد ذاتا بلحاظ الأمر الأولي المحتمل ، بل يتعين الحمل على الإرشاد ، كما هو مفاد الوجه الرابع.
    بقي شيء ، وهو أنه قد يدعى صرف نصوص المقام إلى ما لو كان البالغ بالخبر الضعيف مقدار الثواب ، مع كون أصل الاستحباب والمشروعية معلوما ، لامتناع التقرب بالعبادة مع عدم إحراز الأمر ، ولا مجال لحملها على التوصليات مع كون الشائع من موارد بلوغ الثواب هو العبادات.
    ويقتضيه أيضا ما يأتي من ظهور نصوص المقام في فرض تحديد الثواب الموعود على العمل ، لا في بلوغ أصل ترتب الثواب على العمل.
    وعليه فتكون النصوص واردة للإرشاد إلى حسن الطاعة في فرض إحراز الأمر ، لا إلى حسن الانقياد في فرض احتماله.
    وفيه : أن التقرب مع احتمال الأمر غير متعذر ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد الفراغ من هذه القاعدة ، وكفى بنصوص المقام شاهدا على ذلك.
    وظهور هذه النصوص في فرض تحديد الثواب ـ لو تم ـ لا ينافي شمولها لما إذا لم يكن أصل الاستحباب والأمر مفروغا عنه ، لإمكان انحصار دليل الاستحباب بالخبر الضعيف المحدد للثواب.
    بل هو المناسب لتفريع العمل على البلوغ الظاهر في عدم ترتبه لولاه. ولا سيما مع قوله عليه السّلام في بعضها : «ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى الله عليه وآله» الظاهر في أن منشأ الاستحقاق ليس إلّا الرغبة في إصابة قول النبي صلّى الله عليه وآله وطلب سنته

    الحاصل مع الشك في أصل المشروعية ، فلا موجب للخروج عما ذكرنا.
    المقام الثالث : في فروع هذه القاعدة ولواحقها ..
    المهم في هذا المقام هو الكلام في عموم نصوص المقام لبعض الموارد وعدمه ، تبعا لما يستفاد من ظواهرها ، ومن قرائن المقام ، وحيث كان ذلك لا يوجب اليقين غالبا فهو إنما ينفع بناء على تضمن النصوص المذكورة حكما شرعا اصوليا أو فرعيا ـ كما هو مقتضى الوجوه الثلاثة الاول ـ لأن الظاهر لما كان حجة أمكن الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي والتعبد به.
    وهذا بخلاف الحال على الوجه الرابع ، فإن حسن الانقياد عقلي قطعي لا يختص بمورد النصوص ، فلا أثر لعموم مفادها أو خصوصه فيه ، ولا تمتاز إلا بالوعد بفعلية الثواب في موردها ، وليس هو حكما شرعيا ، كي تنهض الحجة بإثباته وتحديده ، بل هو أمر واقعي لا دخل لقيام الحجة فيه بوجه ، حتى ينفع تحديد مؤداها.
    ولا مجال لدعوى : أن قيام الحجة على الوعد بالثواب ملزم للمولى بتنفيذه وإن كانت مخطئة.
    لأن أدلة الحجية منصرفة إلى التعبد بمضمون الحجة في مقام العمل ، المقتضي لمعذريتها ومنجزيتها ، لا إلى التعهد بتنفيذ مؤداها وتحقيقه على كل حال وإن كانت مخطئة.
    بل ليس ملاك لزوم تنفيذ الوعد بالثواب في ظرف قيام الحجة عليه إلا حسن الوفاء من المولى بوعده ، فلو فرض خطأ الحجة وعدم صدور الوعد منه واقعا فلا ملزم له بالتنفيذ.
    ومن ثمّ كان ما تضمنته نصوص المقام من ثبوت نفس الثواب الموعود به في الأخبار وإن كانت كاذبة تفضلا غير لازم عليه حتى لو كانت تلك الأخبار حجة في نفسها ، ولا يلزم بمقتضى حجيتها.

    نعم ، قد ينفع تشخيص الظهور في قوة احتمال الوعد بالثواب الموجب لقوة الداعي للانقياد وإن لم يتيقن بترتب الثواب ، كما قد يقوى الاحتمال المذكور لأسباب أخر غير الظهور ، بل قد يقوى الداعي المذكور مع ضعف الاحتمال ، لأهمية نفس الثواب البالغ.
    وحيث عرفت هذا ، يقع الكلام في امور ..
    أحدها : أنه تقدم في آخر الكلام في المقام الثاني الإشارة إلى اختصاص نصوص المقام بما إذا تضمن الخبر تحديد ثواب العمل ، لا أصل ترتب الثواب عليه من دون تعيين له.
    وهو ظاهر قولهم عليهم السّلام : «من بلغه شيء من الثواب» ، وقولهم عليهم السّلام : «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك التماس ذلك الثواب» ونحوهما. وحمل (من) في الأول على أنها بيانية خلاف الظاهر جدا.
    لكن ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه السّلام : «من بلغه عن النبي صلّى الله عليه وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يقله» (1) أن المراد من : «شيء من الثواب» بقرينة ضمير : «فعمله» وإضافة الأجر إليه هو الفعل المشتمل على الثواب. وحينئذ يمكن فرض الإطلاق له بنحو يشمل العمل الذي بلغ ترتب الثواب عليه من دون تحديد.
    ويعضده إطلاق ما عن الإقبال عن الصادق عليه السّلام : «من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه» (2).
    لكن صحيح هشام كما يمكن توجيهه بما تقدم يمكن إبقاء الثواب فيه على حقيقته ، وحمل ضمير : «فعمله» على الاستخدام ، بأن يراد منه فعلم ما
    __________________
    (1) الوسائل ج 1 ، باب : 8 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 3 ..
    (2) الوسائل ج 1 ، باب : 8 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 9. 9.

    يوجبه ، ويتجه حينئذ إضافة الأجر إليه ، ولعله الأنسب ولو بملاحظة نصوص الباب. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.
    وأما ما عن الإقبال فإرساله مانع من الاستدلال به ، ولا سيما مع قرب رجوعه إلى بعض النصوص المسندة وأنه منقول بالمعنى.
    والحاصل : أنه لا مجال لاستفادة التعميم من نصوص المقام.
    نعم ، قد تلغى خصوصية تحديد الثواب لعدم دخلها عرفا بعد ظهور ورود النصوص مورد الامتنان والحث على فعل الخير والتأسي بالنبي صلّى الله عليه وآله وطلب قوله ، إذ الفرق حينئذ بين بلوغ أصل الثواب وبلوغ مقدار خاص منه بعيد جدا ، بل الأول أولى بالامتنان ، لأن الانقياد فيه اكد.
    لكنه مبني على حمل النصوص على الإرشاد لحسن الانقياد ، أما بناء على حملها على بيان حكم اصولي أو فرعي فحيث يكون مضمونها تعبديا مخضا فلا مجال لإعمال القرينة الارتكازية المذكورة فيه.
    وإن كان عمل الأصحاب على التعميم. وعليه يبتني الكلام في جل الفروع الآتية أو كلها. ولعله لفهم عدم الخصوصية. فتأمل جيدا.
    ثانيها : أنه لما كان الموضوع في نصوص المقام هو بلوغ الثواب فلا فرق بين بلوغه صريحا وبلوغه ضمنا والتزاما ـ كما يظهر من بعض عبائرهم المفروغية عنه ـ لإطلاق النصوص في ذلك ، ولا سيما بملاحظة الارتكاز المشار إليه في الأمر الأول.
    ومن هنا يتجه الاكتفاء بالأخبار المتضمنة للأحكام وإن لم يصرح فيها بالثواب ، لما هو المفروغ عنه من ملازمة امتثال الحكم الشرعي للثواب.
    كما أن مقتضى إطلاق النصوص العموم لجميع الأحكام الاقتضائية التي يترتب الثواب بامتثالها حتى الحرمة والكراهة ، ولا وجه لتخصيصها بالوجوب والاستحباب ، فضلا عن خصوص الاستحباب.

    وأما ما يظهر من غير واحد من اختصاص الأخبار بهما ، لاختصاصها بالخير والعمل الذي بلغ عليه الثواب ، وهو ظاهر في الأمر الوجودي ، كما يشهد له التفريع بقولهم عليهم السّلام : «فعمله» و «فصنعه» فلا يشمل بلوغ الثواب على الترك.
    فهو غير ظاهر ، لأن المراد بالعمل مطلق فعل المكلف وإن كان عدميا ، خصوصا بلحاظ أن فعله هنا بمعنى حمل النفس عليه ، لا بمعنى محض تحققه ، لأن ذلك هو الذي يكون موضوع الثواب.
    ولذا لا ريب ظاهرا في شمولها لما إذا دل الخبر على استحباب الترك وترتب الثواب عليه صريحا ، وذلك هو المناسب للارتكاز المشار إليه آنفا.
    نعم ، أشرنا في المقام الأول إلى أن القول بحجية الخبر المذكور لا يستلزم حجيته في تمام مدلوله ، لعدم الإطلاق في دليل الحجية ، بل المتيقن منها حجيته في ترتب الثواب بالنحو المستلزم للرجحان من دون أن تحرز خصوصية الإلزام أو الندب.
    وحيث كان هذا متفقا عملا مع الاستحباب اتجه منهم التسامح والتعبير بحجية الخبر في الاستحباب في مثل ذلك. وإلا فلا معنى لحجية الخبر الظاهر في الوجوب أو الحرمة أو الكراهة في الاستحباب ، كيف وقد يقطع بعدم الاستحباب لدوران الأمر بين أحد الاحكام المذكورة والإباحة.
    ومنه يظهر أنه لا مجال للإيراد عليهم : بأن ضعف الخبر الدال على الوجوب لا يكون قرينة عرفا على حمله على الاستحباب.
    هذا كله بناء على دلالة نصوص المقام على حجية الخبر المتضمن للثواب.
    أما بناء على دلالتها على استحباب متابعته ـ كما هو مفاد الوجه الثاني والثالث ـ فالمتعين البناء في الجميع على الاستحباب الثانوي بسبب البلوغ ، وليس هو من باب مخالفة الحكم الظاهري للواقعي ـ كما يظهر من الآشتياني في

    حاشية الرسائل ـ بل من باب ارتفاع الحكم الواقعي الأولي بالحكم الواقعي الثانوي ، كما لعله ظاهر.
    ثالثها : أن موضوع النصوص لما كان هو بلوغ الثواب وسماعه كان مختصا بالخبر المبني على الحكاية دون سائر الطرق الكاشفة ، كالأولوية ، وتنقيح المناط ، ونحوهما. كما أن الظاهر عمومها للخبر الحسي والحدسي ـ كفتوى المفتي ـ ولا يختص بالأول ، لإطلاق بعض النصوص المتقدمة.
    ولا مجال لدعوى انصرافها للخبر الحسي قياسا على أدلة حجية الخبر ، للفرق بينها : بأن أدلة الحجية لما كانت ظاهرة في إمضاء سيرة العقلاء المختصة بالخبر الحسي كانت تابعة لها ، بخلاف نصوص المقام ، لأنها إن حملت على الانقياد فهو يناسب العموم ، وإن حملت على حجية الخبر للثواب أو استحباب العمل على مقتضاه كانت أدلة تعبدية لا تصلح السيرة لتقييدها.
    نعم ، ما تضمن من النصوص تقييد البلوغ بكونه عن النبي صلّى الله عليه وآله قد يوهم الاختصاص بالحسي ، لإشعاره بالإشارة إلى الروايات المتعارفة ، إلا أن مناسبة العموم للارتكاز تقتضي إلغاء خصوصيتها عرفا.
    على أنه يكفي إطلاق النصوص الأخر الخالية عن التقييد ، التي لا مجال لرفع اليد عنها بنصوص التقييد ، لعدم التنافي بينها.
    ولذا لا ريب ـ ظاهرا ـ في شمولها لفتوى الفقيه في حق من يجب عليه تقليده ، ولا فرق بينه وبين غيره من العوام والمجتهدين إلا بقصور دليل الحجية ، الذي لا يضر في شمول نصوص المقام ، كما شملت الخبر الضعيف.
    نعم ، لو فرض الاطلاع على مستند الخبر الحدسي كانت النصوص منصرفة عنه ، لظهورها بقرينة التفريع في صلوح الخبر لإحداث الداعي من حيث كونه مثيرا لاحتمال التكليف ، والخبر الحدسي بعد الاطلاع على مستنده لا أثر له في إثارة الاحتمال ، ولا في إحداث الداعي على طبقه ، بل الأثر لمستنده ،

    فإن صدق على مستنده البلوغ شملته نصوص المقام ، وإلا خرج عنها.
    ومنه يظهر قصورها عن الخبر الحسي المعلوم كذبه وإن فرض احتمال تحقق الأمر وترتب الثواب في مورده ، كما لو فرض العلم بكذب الراوي في النقل عن الإمام عليه السّلام واحتمل ثبوت مضمون الرواية في الواقع ، لأن الخبر المذكور لا أثر له في إثارة الاحتمال ولا في تحقق الداعي ، بل المحدث للداعي هو الاحتمال الذي لا يستند للخبر ولا يصدق معه البلوغ.
    رابعها : أن بلوغ الثواب ..
    تارة : يكون مشفوعا باحتمال الحرمة أو الكراهة.
    واخرى : لا يكون مشفوعا بذلك.
    أما الثاني فهو المتيقن من نصوص المقام ، وأما الأول فهو محل كلام بينهم.
    والذي ينبغي أن يقال : انه مع تنجز احتمال الحرمة ـ بحجة أو غيرها ـ لا مجال للبناء على شمول نصوص المقام ، لقرب انصرافها عنه ، لظهورها في كون البلوغ صالحا للداعوية في نفسه مع قطع النظر عن مفاد هذه النصوص ، كما هو مقتضى التفريع الظاهر في عليّة البلوغ للعمل ، فهي ظاهرة في إمضاء العامل ، لا في تشريعه ابتداء ، ومن الظاهر أن البلوغ إنما يكون صالحا للداعوية في ظرف عدم تنجز احتمال ما ينافيه بنحو يوجب كونه موردا للحظر.
    بل بناء على ما ذكرنا من ظهور النصوص للإرشاد لحسن الانقياد لا ينبغي الإشكال في ذلك ، لخروج المورد عنه.
    أما قيام الحجة على الكراهة فلا يمنع من شمول الأخبار ، لأنها لما لم تكن حكما إلزاميا ، فلا تكون مخالفتها في ظرف قيام الحجة عليها تمردا ، لينافي الانقياد الحاصل بموافقة احتمال الاستحباب ويمنع من تحقق الداعي به ، ليوجب انصراف النصوص عنه ، كما في الحرمة.

    ودعوى : أن قيام الحجة على الكراهة موجب للعلم بها تعبدا ، فتنصرف نصوص المقام عنه.
    غير ظاهرة ، إذ لا منشأ للانصراف مع صدق البلوغ المثير للاحتمال والصالح للداعوية ، وعليه يكون المقام من تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى الحجة مع الاحتياط ، بناء على أن مفاد نصوص المقام الإرشاد ، ومن تعارض الحجتين الموجب لتساقطهما ، بناء على أن مفادها حجية الخبر الدال على الثواب.
    وأما بناء على أن مفادها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب فيكون المقام من تزاحم الحكم الاولي ـ الذي هو مؤدّى الحجة ـ مع الحكم الثانوي ـ الذي هو مؤدى نصوص المقام ـ المقتضي لفعلية الثاني دون الأول.
    نعم ، لو فرض صدق البلوغ على الحجة القائمة على الكراهة كان من تزاحم الحكمين الثانويين ، فلو فرض عدم المرجح لأحدهما تعين الرجوع للحكم الأولي الذي هو مؤدى الحجة ، وهو الكراهة. فلاحظ.
    وأما مع عدم تنجز احتمال الحرمة أو عدم قيام الحجة على الكراهة ، فإن كان احتمال الحرمة أو الكراهة مجردا عما يصدق معه بلوغ الثواب فالظاهر شمول النصوص وترتب مضمونها أيضا ، كما عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه في رسالته في المقام ، لإطلاق النصوص المذكورة حتى ما تضمن منها التقييد بطلب قول النبي صلّى الله عليه وآله وتحصيل الثواب ، لأن الاحتمال المذكور لا ينافي ذلك.
    وحينئذ فإن قلنا بورود هذه النصوص للإرشاد لحسن الانقياد كان المقام من تزاحم الاحتياطين.
    كما أنه لو قيل بدلالتها على حجية الخبر المتضمن للثواب يكون من تزاحم الإطاعة الحقيقية لمؤدى الخبر مع الانقياد بالاحتياط في احتمال الحرمة أو الكراهة ، لأن حجية الخبر في الرجحان وترتب الثواب لا يمنع من تحقق

    الانقياد بلحاظ احتمال الحرمة. لحسن الاحتياط مع الاحتمال مطلقا حتى مع قيام الحجة على عدم التكليف في مورده. بل ذكرنا أن حجية الخبر المتضمن للثواب ـ لو قيل بها ـ تختص بحيثية الرجحان المستلزم للثواب ، لا في تمام مدلوله بنحو ينهض بنفي احتمال الحرمة والكراهة في المقام ، فيكون المؤمّن من الحرمة هو الأصل ، لا الخبر المتضمن للثواب وإن فرض كونه حجة بهذه النصوص.
    وأما بناء على دلالتها على استحباب الفعل الذي دل الخبر على ترتب الثواب عليه فاللازم البناء على عدم الحرمة أو الكراهة ولو لأجل العنوان الثانوي الطارئ ، وهو بلوغ الثواب.
    وإن كان احتمال الحرمة أو الكراهة مشفوعا بخبر يصدق معه بلوغ الثواب ـ بناء على ما سبق من شمول نصوص المقام لما دل على الحرمة أو الكراهة ـ كان المقام من تزاحم الاحتياطين ، أو الاستحبابين الثانويين ، أو تعارض الحجتين على الكلام في مفاد نصوص المقام ، كما لعله ظاهر.
    خامسها : أن قصور سند الخبر لا يمنع من عموم النصوص له ـ كما تقدم ـ بخلاف قصور دلالته ، لعدم صدق البلوغ والسماع معه ، وإن تحقق معه الاحتمال الصالح لإحداث الداعي العمل.
    أما لو انعقد ظهور الخبر في ترتب الثواب ، إلا أنه عورض بما هو أقوى دلالة ، بحيث يكون قرينة عرفية على صرفه عن ظاهره ـ كما في العام والخاص ، والحاكم والمحكوم ـ فالظاهر أنه لا يوجب قصور النصوص عنه ، لصدق البلوغ معه ، وليس قصوره عن الحجية في غير المقام إلا كقصور السند لا يوجب الخروج عن موضوع النصوص ، إلا أن يفرض كونه موجبا للعلم بذلك أو الاطمئنان بكذب الظاهر بنحو لا يصلح لإحداث الداعي نظير ما تقدم في الأمر الثالث.

    نعم ، بناء على أن مفاد نصوص المقام حجية الخبر المتضمن للثواب يكون المقام من تعارض الحجتين. وكذا الحال لو فرض التعارض بين المثبت للثواب والنافي له من دون ترجيح يقتضي الجمع العرفي. فلاحظ.
    سادسها : أنه ربما نسب للمشهور اختصاص نصوص المقام بالإخبار عن الحكم الشرعي الكلي ، دون الموضوع الخارجي ، مثل ما ورد عنهم عليهم السّلام من تعيين بعض المساجد والمراقد ونحوها مما يترتب عليها أحكام شرعية جزئية تستلزم الثواب.
    وهو الذي أصر عليه بعض مشايخنا ، بدعوى انصراف النصوص إلى ما يكون بيانه من وظيفة الشارع ، وهو الكبريات الشرعية.
    وفيه : أنه لم يتضح المنشأ في الانصراف المدّعى ، لأن وظيفة النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام لا تختص ببيان الأحكام الكلية ، بل تعم بيان موضوعاتها الخفية ، وإن لم يكونوا ببيانها مشرّعين ، وأخذ خصوصية التشريع في نصوص المقام لا شاهد له.
    نعم ، مقتضى ذلك شمول النصوص للإخبار بالموضوعات وإن لم يستند للنبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام كأخبار المؤرخين ونحوهم.
    اللهم إلا أن يقال أكثر نصوص المقام مختص بالإخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله للتقييد فيها بذلك ، والمطلق منها وإن كان بعضه معتبرا سندا كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السّلام : «قال : من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه» (1) ، إلا أن من القريب حمله على النصوص المقيّدة وإن لم يكن بينها تناف ، لارتكاز أن منشأ الحكم في نصوص المقام هو الاهتمام بسنة النبي صلّى الله عليه وآله والاحتياط فيها بمتابعة الاحتمال ، فلا يشمل الاخبار عن غيره.
    لكنه لا يخلو عن إشكال ، لقرب أن يكون منشأ الحكم المذكور هو
    __________________
    (1) الوسائل ج 1 ، باب : 8 من أبواب مقدمة العبادات ، حديث 6.

    الاهتمام بالواقع ، والحث على الانقياد فيه ، فيعم الإخبار الذي لا ينتهي إليه صلّى الله عليه وآله ، عملا بإطلاق النصوص المذكورة.
    سابعها : قال الآشتياني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل : «ذكر غير واحد أنه كما يتسامح في السنن يتسامح في القصص والمواعظ والفضائل. بل استظهر مما عرفت عن الشهيد قدّس سرّه في الذكرى أن اخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم ، كونه مسلما عن القائلين بالتسامح ، وعن ثاني الشهيدين في الدراية التصريح به ، حيث قال : جواز الاكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل الاعمال ، لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام. وهو حسن حيث لم يبلغ الضعف حد الوضع والاختلاق».
    أقول : لا يبعد أن يكون المراد بالتسامح فيها هو التسامح في نقلها من دون نسبتها إلى الرواية ، فلا يتقيد بثبوتها بطرق معتبرة ، كما عليه ديدن الوعاظ وخطباء المنبر الحسيني في عصورنا هذه.
    ولكن الوجه فيه غير ظاهر مع ما هو المفروغ عنه ظاهرا من حرمة الإخبار من دون علم.
    وأما الاستدلال عليه بنصوص المقام ـ كما يظهر من الآشتياني ـ بتقريب : أن الإخبار بها إخبار عن ترتب الثواب على نقلها ، بضميمة استحباب نقل ما هو الحق منها ، لما فيه من حفظ الحق وإشاعته وترويجه وتأييده.
    ففيه : ـ مع ابتنائه على شمول النصوص للاخبار عن الموضوعات الخارجية التي يترتب الثواب عليها. واختصاصه بما يستحب حفظه وإشاعته وتدوينه لو كان حقا ، كفضائل أهل البيت عليهم السّلام ومصائبهم ومخازي أعدائهم ونحوها ، دون مطلق القصص والفضائل ـ أن نصوص المقام ـ كما تقدم في الأمر الرابع ـ لا تشمل مورد تنجز احتمال الحرمة ، كما في المقام ، لما عرفت من عموم حرمة الإخبار من دون علم.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:32 am

    ومثله في الضعف ما عن النراقي قدّس سرّه من الاستدلال بما دل على رجحان الإبكاء على أهل البيت عليهم السّلام وترتب الثواب عليه.
    لاندفاعه : بأنه مختص بما إذا كان السبب مباحا في نفسه ، وإلا لم يصلح الرجحان لمزاحمة حرمة السبب.
    والذي ينبغي أن يقال : ذكر الامور المذكورة ونحوها إن كان مبنيا على الإخبار بها والتعهد بوقوع مضمونها على كل حال فالظاهر أنه لا مجال له حتى مع قيام الطريق المعتبر عليها ، لعدم وضوح جواز الاعتماد على الحجة في الحكاية عن الواقع ، ودليل الحجية منصرف إلى مقام العمل بمؤداها ، لا الإخبار به ونحوه مما هو من شئون العلم به.
    وإن كان مبنيا على الإخبار بها من حيث قيام الطريق عليها ، بأن يكون راجعا لبا إلى بيان مؤدى الطريق وإن لم يصرح به ، لانصراف مقام الاخبار إليه وقصده ضمنا ، فهو تابع لعموم الطريق المفروض وخصوصه ، فإن اختص بالطريق المعتبر لم يجز التعدي عنه ، كما هو الحال في اخبار المفتي بالأحكام الشرعية ، وإن عمّ مطلق النقل وإن لم يكن معتبرا جاز الإخبار اعتمادا عليه ، ولا يلزم الكذب المحرم ، كما لعله الظاهر من حال الخطباء والوعاظ والقصاصين.
    هذا ، ولو كان المراد بالتسامح في الامور المذكورة نقلها مع التصريح بنسبتها إلى الرواية التي اطلع عليها الناقل فلا ينبغي الإشكال في جوازه حتى مع العلم بالاختلاق ، وحتى في صفات الله تعالى ، وأحكام الحلال والحرام ، ولا وجه لاستثنائهما في كلام الشهيد الثاني المتقدم.
    كما أنه لو اريد بالتسامح فيها ترتيب الآثار الاعتقادية عليها ، كاعتقاد تقديم من وردت الرواية بثبوت بعض الفضائل له ، كما قد يظهر من بعض العامة ، فهو غير جائز حتى مع قيام الطريق المعتبر ، لما أشرنا إليه آنفا من انصراف دليل الحجية الى مقام العمل بالحجة ، دون مثل الاخبار والاعتقاد ،

    ولعله اليه يرجع ما اشتهر بينهم من عدم جواز الاعتماد على الظن في اصول الدين.
    ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في النصوص المتقدمة التي استدل بها لقاعدة التسامح في أدلة السنن. وإن بقيت بعض الامور غير المهمة لا مجال لإطالة الكلام فيها ، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو أرحم الراحمين.
    الأمر الرابع : لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلا بد فيه من تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل المحتمل ورود التكليف عليه. وهو واضح في الامور التوصلية.
    وأما في العبادات فقد يستشكل فيه بتوقفها على قصد امتثال الأمر المتوقف على إحراز الأمر ، فمع فرض عدم إحرازه يتعذر الاحتياط ، لتعذر الفعل الذي يحتمل التكليف به بتعذر شرطه.
    بل لو فرض إحراز الأمر وتردده بين الوجوب والندب فقد يشكل الاحتياط بتعذر نية الوجه التي قيل باعتبارها في العبادات.
    وإن كان الظاهر اندفاعه بعدم الدليل على اعتبارها ، بل قيام الدليل على عدمه ، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع. بل لعله مورد اتفاق بينهم في فرض تعذر قصد الوجه لتعذر الاطلاع على حال الأمر.
    فالعمدة الإشكال من الجهة الاولى.
    وقد يدفع : بأنه يمكن قصد الأمر الوارد عليها من قبل أوامر الشارع بالاحتياط ، ويتحقق بذلك الشرط المقوم لعبادية العبادة.
    لكن قد يستشكل فيه بوجهين ..
    الأول : أن أوامر الشارع بالاحتياط ليست عبادية ، بل توصلية ـ وإن كان الأمر المحتاط فيه قد يكون عباديا ـ فلا تجعل متعلقها عباديا ، بل لا بد في عباديته

    من قصد أمر آخر وارد عليه.
    ودعوى : أن الأمر بالاحتياط في العبادات تعبدي وفي غيرها توصلي ، كالأمر بالوفاء بالنذر.
    مدفوعة : بأنه لا وجه للتفكيك المذكور مع وحدة الدليل لا في الاحتياط ، ولا في الوفاء بالنذر ونحوه ، بل الظاهر أن الأوامر المذكورة توصلية لا غير ، واعتبار التقرب فيما لو كان المنذور عبادة ليس من جهة أمر النذر ، بل من جهة الأمر الأولي وإن تأكد بالأمر النذري ، ولذا يكون التقرب بقصده. ولو فرض قصد الأمر النذري أيضا كان من باب داعي الداعي.
    وفيه : أن أوامر الاحتياط وإن كانت توصلية ، إلا أنها قابلة لأن يتقرب بها وتصير منشأ للعبادية ، لوضوح أن الأمر التوصلي ليس إلا ما لا يعتبر في امتثاله قصد التقرب به ، لا أنه غير قابل لأن يتقرب به ، بل ترتب الثواب على امتثاله موقوف على قصد التقرب به ، فلا مانع من صيرورته منشأ لعبادية الفعل التي فرض أن تحقق المأمور به المحتمل وتحصيل ملاكه موقوف عليها ، ولزوم التقرب بالأمر المذكور ليس لخصوصية فيه ، لينافي فرض كونه توصليا ، بل لخصوصية في متعلقه في المقام ، فالتقرب به لتحصيل المتعلق الذي لا بد منه في الأمر التوصلي.
    الثاني : أن ما يحتمل الأمر به لما كان هو العبادة ، فلا بد في صدق الاحتياط عليه ودخوله في أوامره من فرض تحقق التقرب فيه في مرتبة سابقة ، إذ ما لم يكن كذلك لا يكون احتياطا ، كي تشمله أدلته ، فلا تكون أوامر الاحتياط هي الموجبة لعباديته وصدق الاحتياط عليه.
    وما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن أوامر الاحتياط تتعلق بذات الفعل العبادي دون نية القربة ، فإذا تعلقت به كان للمكلف قصد امتثالها به ، وتكون عبادية الفعل مسببة عنها.

    لا مجال له بعد وضوح أن الاحتياط لا يكون إلا بتحقيق المأمور به الواقعي وسقوط أمره بتحصيل تمام ما هو الدخيل في غرضه ، فإذا فرض أن متعلق الأمر المحتمل وموضوع الغرض هو العبادة المعتبر فيها التقرب ، فلا مجال لصدق الاحتياط على الذات المجردة عن القيد المذكور.
    وفيه : أن عنوان الاحتياط المأمور به وإن كان لا ينطبق في المقام على الفعل بذاته ، بل على خصوص المقيد بقصد التقرب منه ، إلا أنه لا مانع من كون تحقق القيد المذكور خارجا مبنيا على ورود الأمر بالاحتياط على الفعل وناشئا منه ، لأن ما هو السابق رتبة على الأمر ليس إلا أخذ قيود المأمور به فيه ، لا تحقق القيود خارجا ، بل تحققها تابع للامتثال الخارجي المتأخر عن الأمر والمتفرع عليه.
    وبعبارة اخرى : ما ينشأ من الأمر بالاحتياط ليس هو تقيد المأمور به بالعبادية ، بل تحقق القيد المذكور خارجا بعد أن كان متعذرا ، لعدم إحراز الأمر ، فغاية ما يلزم هو توقف القدرة على الاحتياط في المقام على الأمر به ، ولا محذور فيه.
    فالعمدة في الإشكال في الوجه المذكور أمران ..
    الأول : أن أوامر الشارع بالاحتياط ـ كما تقدم في الأمر الثاني ـ ليست مولوية ، لتكون صالحة للمقربية ، بل إرشادية بلحاظ حسن الاحتياط عقلا ، فلا تصلح للمقربية.
    ودعوى : أن أوامر الاحتياط لما كانت شاملة للعبادات غير مختصة بالتوصليات ، وكان الاحتياط في العبادات موقوفا على إحراز الأمر ، كانت كاشفة عن تعلق الأمر العبادي بها ، ليكون الاحتياط فيها ممكنا.
    مدفوعة : بأن عمومات الاحتياط إنما تقتضي الأمر به في ظرف القدرة عليه ، ولا تنهض ببيان القدرة عليه ، لتكون كاشفة عن الأمر بالوجه المذكور ، فلا

    مانع من الالتزام بتعذر الاحتياط في العبادات المانع من فعلية الأمر به فيها ، وإن كان شاملا لها ذاتا ، كما هو الحال في سائر موارد تعذر المكلف به.
    نعم ، لو فرض العلم بمشروعية الاحتياط في العبادات تعين البناء على القدرة عليه فيها ، إما باستكشاف الأمر بالوجه المذكور ، أو بوجه آخر ، كما سيأتي.
    الثاني : أن الفراغ عن الأمر العبادي إنما يكون بقصده أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به ، ولا يكون بقصد امتثال أمر آخر ، فلا يفرغ المكلف عن أمر الزكاة إذا دفعها بداعي امتثال أمر إعانة المؤمن ، لا بداعي امتثال أمرها ، إلا أن يقصد إعانة المؤمن بنحو داعي الداعي ، كما تقدم في النذر.
    فلو سلم أن الأمر بالاحتياط مولوي أو كاشف عن أمر مولوي ، إلا أن قصده لا يكفي في امتثال أمر العبادة الواقعي ، ولا يكون امتثاله إلا بقصده ، والمفروض أنه لا مجال لقصده مع عدم إحرازه.
    نعم ، لو فرض تقييد العبادة المأمور بها بالأمر الواقعي المحتمل بقصد الأمر بنحو الطبيعة الصادقة على كل أمر فرض اتجه كون شمول الأمر بالاحتياط أو غيره لها موجبا للقدرة عليه ، وكفى قصده ، فلاحظ.
    ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو صدق بلوغ الثواب في بعض العبادات ، لورود خبر غير معتبر باستحبابها ، فإنه لا مجال لتصحيح الاحتياط فيها لأجل النصوص المتقدمة ، بناء على ما تقدم من سوقها مساق أوامر الاحتياط للإرشاد إلى حسن الانقياد.
    وكذا بناء على تضمنها استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، لمباينة الأمر المذكور للأمر الواقعي العبادي الذي لا بد من قصد امتثاله في صحة الفعل العبادي الذي يراد الاحتياط فيه ، فلا يكفي قصد الأمر الذي تضمنته النصوص المذكورة ، ولا يكون فعلا للأمر الذي بلغ عليه الثواب.

    نعم ، بناء على تضمنها حجية الخبر المذكور أمكن قصد امتثال الأمر الواقعي الذي تضمنه للجزم به حينئذ من جهة الخبر ، وخرج عن باب الاحتياط الذي نحن بصدده.
    فالأولى في دفع شبهة تعذر الاحتياط في العبادات البناء على الاكتفاء في امتثال الأمر العبادي بالاندفاع عن الأمر المحتمل ، ولا يتوقف امتثاله على قصده بنحو يستلزم العلم به ، كما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع ، فقد ذكرنا هناك الاجتزاء بالوجه المذكور مع إمكان العلم بالحال فضلا عما لو كان متعذرا ، فراجع.
    الأمر الخامس : إذا تعددت جهات الاحتياط ، فإن اختار المكلف المحافظة على تمامها فهو ، وإلا فالظاهر الترجيح بين الاحتياطين ارتكازا بأحد أمرين :
    الأول : أهمية التكليف المحتمل ، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط فيه أولى.
    الثاني : قوة احتمال التكليف ، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى بالمراعاة.
    ومنه يظهر الحال لو لزم من الاحتياط التام محذور مانع منه ، كاختلال النظام ، فإن المتعين حينئذ الاكتفاء بالتبعيض ، والأولى ملاحظة المرجحين المذكورين.
    وأما اختيار المكلف للاحتياط التام حتى إذا لزم المحذور ترك الاحتياط بالمرة ، فإن لزم منه مخالفة المرجحين المذكورين كان مرجوحا ، وإن لم يلزم منه مخالفتهما ـ بأن فرض تساوي جهات الاحتياط من حيث الأهمية ، وقوة الاحتمال ـ فلا موجب لمرجوحيته.
    وأما ما يظهر من بعض مشايخنا من أن الأولى اختيار التبعيض من أول

    الأمر والاستمرار عليه حينئذ ، لما ورد عنهم عليهم السّلام من أن القليل المدوم عليه خير من الكثير الذي لا يدوم (1).
    ففيه : ـ مع أنه يبتني على كون الاحتياط مستحبا مولويا ـ أنه لا يبعد ظهور النصوص المذكورة في أولوية القليل من الكثير الذي ينقطع ضجرا ويهمل مللا ، لا لأجل تعذره أو لزوم المحذور منه.
    بل لعل استحباب التعجيل بالخير يقتضي أولوية الكثير حينئذ. فتأمل جيدا.
    التنبيه الخامس : في حكم الشك في القدرة
    تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية يتجه في الشبهات الموضوعية.
    ويخرج عن ذلك ما لو كان الشك في التكليف للشك في قيده العقلي ، وهو القدرة ، فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط للتكليف ، والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.
    وربما يستدل عليه : ـ كما في بعض كلمات سيدنا الأعظم قدّس سرّه (2) ـ بعموم دليل التكليف ، بناء على أن العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان التخصيص لبيا ، كالتخصيص مع التعذر في المقام.
    وفيه : ـ مع عدم تمامية المبنى المذكور ، واختصاصه بما إذا كان الخاص خفيا محتاجا للبحث ، لا في مثل المقام مما كان التخصيص من الوضوح بحد يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من ظهور العام في العموم ، فتكون
    __________________
    (1) الوسائل ج 1 ، باب : 21 من أبواب مقدمة العبادات ، وحديث 10 باب 29 من أبواب المذكورة.
    (2) راجع مستمسك العروة الوثقى في شرح المسألة السابعة والعشرين من فصل مسوغات التيمم.

    الشبهة فيه من طرف العام التي لا يكون العام فيها حجة بلا كلام ـ أن التخصيص بالقدرة وإن كان عقليا ، إلا أنه قد تظافرت به الأدلة اللفظية ، كحديث الرفع المتضمن لرفع ما اضطروا إليه وما لا يطيقون وغيره. فتأمل.
    فلا يبعد أن يكون الوجه فيه بناء العقلاء على لزوم الاحتياط فيه ، نظير بنائهم على لزومه مع الشك في الفراغ ، لأنه بعد فرض ثبوت الملاك فليس التعذر إلا من سنخ الأعذار والموانع التي لا يصح الاتكال عليها إلا بعد إحرازها ، ولا يكتفى باحتمالها عندهم في قبح العقاب ورفع مسئولية الخطاب.
    ومنه يظهر الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية ، لارتكاز ورودها جريا على ما عند العقلاء من قبح العقاب بلا بيان وتأكيدا لذلك ، فتنصرف عن المورد المذكور الذي ليس بناؤهم على السعة فيه.
    هذا ، ولا يبعد جريان ذلك مع الشك في الأعذار الشرعية ، كالحرج والضرر ونحوهما مما يظهر من أدلة عدم ارتفاع الملاك الأولي معه ، وأن ارتفاع التكليف معه تخفيف من الشارع الأقدس ، توسيعا للقدرة المعتبرة ، فيكون عذرا شرعيا كالتعذر الذي هو عذر عقلي ، فلا يسوغ الاكتفاء باحتماله بحسب مرتكزات المتشرعة. فلاحظ.
    ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في الشك في أصل التكليف. وهناك بعض الجهات التي قد يتضح حالها مما يأتي في بعض الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    الفصل الثاني
    في الشك في تعيين التكليف
    مع وحدة المتعلق
    وهو مختص بالدوران بين وجوب شيء وحرمته الذي اشتهر في كلماتهم بالدوران بين المحذورين.
    ويقع الكلام فيه في مقامين ..
    المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي الأولي مع قطع النظر عن الجعل الشرعي.
    والظاهر حكم العقل في المقام بالسعة وعدم الحرج في كل من الفعل والترك ، الراجع إلى عدم منجزية احتمال كل منهما وإن علم إجمالا بثبوت أحدهما ، لعدم الأثر للعلم المذكور بعد فرض تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين ، ولزوم مخالفته وموافقته الاحتماليتين ، فلا يصلح للمنجزية.
    والظاهر أنه إليه يرجع ما قيل من جريان البراءة العقلية من كل من الحكمين ، بمعنى قبح العقاب على كل من الأمرين ، لأنه من غير بيان ، بعد فرض المانع من منجزية العلم الإجمالي.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من منع جريان البراءة العقلية ، لأن مدركها قبح العقاب بلا بيان الذي لا مجال له في المقام ، للقطع بعدم العقاب بعد فرض امتناع منجزية العلم الإجمالي ، فلا يحتاج إلى حكم العقل بالقبح المذكور.
    فهو مندفع : بأن عدم منجزية العلم الإجمالي إنما يقتضي القطع بعدم

    العقاب من جهته ، أما عدم العقاب بلحاظ كل من الاحتمالين في نفسه ، فهو كعدم العقاب في مورد الشك في التكليف لا مجال للقطع به لو لا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
    ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن امتناع خلو المكلف عن الفعل والترك واضطراره لأحدهما موجب لحصول الترخيص في رتبة سابقة على الترخيص الظاهري الناشئ من عدم البيان الذي هو مفاد البراءة العقلية.
    لاندفاعه : بأن الاضطرار المذكور إنما يمنع من منجزية العلم الإجمالي المقتضي للاحتياط في الاحتمالين معا ، ولا يلزم بالترخيص في كل من الأمرين ، بل لا منشأ للترخيص في كل منهما إلا عدم البيان المفروض ، لعدم صلوح كل من الاحتمالين له.
    ودعوى : أن كلا من الاحتمالين وإن كان من صغريات عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية ، إلا أن عدم منجزيته في المقام ليس بالملاك المذكور ، بل لتعارضهما الموجب لاستحالة منجزيتهما معا تعيينا لتعذر الاحتياط فيهما معا ، ولا تخييرا للزوم اللغوية لامتناع خلو المكلف عن أحدهما ، كما سيأتي ، كما لا يمكن منجزية أحدهما بخصوصه ، لعدم المرجح.
    مدفوعة : بأن استلزام التعارض للمحذور المذكور موقوف على كون كل منهما مما يقتضي في نفسه التنجيز والاحتياط وإذا كان كل من الاحتمالين في نفسه من صغريات عدم البيان لم يكن صالحا لذلك بمقتضى البراءة العقلية مع قطع النظر عن التعارض وفي رتبة سابقة عليه ، فالوجه المذكور لا ينافي جريان البراءة العقلية بالإضافة إلى كل من الاحتمالين ، وإنما ينهض ببيان عدم منجزية العلم الإجمالي في المقام. فلاحظ.
    اللهم إلا أن يكون مراده قدّس سرّه الإشارة إلى ما يأتي في مسألة الاضطرار إلى

    بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي من احتمال كونه موجبا لسقوط التكليف المعلوم بالإجمال ثبوتا ، لا لسقوط العلم الإجمالي عن تنجيزه مع فعليته واقعا ، إذ بناء على ذلك لا مجال للرجوع للبراءة بملاك عدم البيان ، لأنه فرع احتمال التكليف الفعلي ، كما لا يخفى.
    لكن الظاهر عدم تمامية ذلك ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى ، فلا رافع لموضوع البراءة ، على أن حمل كلامه على ذلك بعيد ، لظهوره في إرادة الترخيص العقلي بملاك الاضطرار ، لا الترخيص الشرعي الراجع إلى عدم فعلية التكليف. فراجع وتأمل.
    وأما ما يقال من أن المرجع في المقام هو التخيير ، فإن اريد به إلزام العقل بأحدهما تخييرا ، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري ، والتخيير بين المتزاحمين ، فضعفه ظاهر ، لعدم الأثر للإلزام المذكور بعد فرض امتناع خلو المكلف عن أحد طرفي التخيير ، كما لا يخفى.
    ومن ثمّ لا مجال للتخيير في مثل ذلك حتى مع فرض تزاحم التكليفين ـ الذي لا ريب أن مقتضى الأصل فيه التخيير ـ كما لو فرض انطباق عنوان واجب وأخر محرم على كل من الفعل والترك.
    وإن اريد به مجرد عدم الحرج في كل من الفعل والترك المستلزم لاختيار المكلف لأحدهما بعد فرض امتناع خلوه منهما لعدم الداعي العقلي لأحد الطرفين ، نظير تخييره مع الاباحة الواقعية ، فهو راجع إلى ما ذكرناه وعرفت وجهه. ولا يبعد كون ذلك هو مراد القائلين بالتخيير.
    هذا ، وربما يدعى أن مقتضى الأصل العقلي الأولي ، هو مراعاة احتمال الحرمة دون الوجوب ، لأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، لما قيل من أن الوجوب ناشئ عن المصلحة ، والحرمة ناشئة عن المفسدة.
    وفيه .. أولا : أن الوجوب لما كان ناشئا عن المصلحة الملزمة كان فوتها

    ملازما للمفسدة أو من سنخها ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله في ما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ...».
    وعليه لا بد من توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي للمفاسد بعد اشتراكها في الحفاظ على المقدار اللازم ، بأن الواجب ما يكون له دخل في تحقق المرتبة اللازمة من الكمال ، أو في حفظها ، والحرام ما يكون له دخل في منع تحقق المرتبة المذكورة ، أو رفعها ، فمثلا لو فرض أن مرتبة من نشاط المزاج لازمة الحفظ ، فالواجب ما كان محققا لها من دواء أو مبقيا لها من غذاء ، والحرام ما كان مانعا منها أو رافعا لها. وما لا دخل له في المرتبة المذكورة ، بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة عليها يكون مستحبا أو مكروها.
    ولا يبعد أن يكون ذلك هو المراد بالمصلحة في القاعدة المشار إليها ، حيث لا ريب في عدم نهوضه مهما كان مهمّا بمزاحمة المرتبة اللازمة المذكورة.
    وعليه ترجع القاعدة إلى ترجيح التكاليف الإلزامية على غيرها ، لا ترجيح التحريم على الوجوب.
    وثانيا : أن القاعدة المذكورة لو تمّت فهي من القواعد الواقعية الراجعة إلى ترجيح دفع المفسدة على تحصيل المصلحة في فرض التزاحم بينهما ، وليست من القواعد الظاهرية الراجعة إلى تقديم احتمال المفسدة على احتمال المصلحة عند الدوران بينهما ، لتنفع في ما نحن فيه ، لما هو المرتكز من أن منشأ الأولوية أهمية المفسدة من المصلحة ، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما تقتضي ترجيح الأهم عند التزاحم ، لا تقديم احتماله على احتمال المهم في ظرف الدوران بينهما.
    بل لما كان في احتماله زيادة كلفة لم يبعد جريان الأصل لنفيها ، كما هو المناسب لجريان الأصل في نفيه من رأس لو لم يعارض باحتمال تكليف آخر ،

    كما في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، كما نبه له بعض مشايخنا.
    نعم ، لو كان ملاك الترجيح راجعا للمكلف من حيث أن دفعه للضرر عن نفسه أولى من جلب النفع له فهو ينفع في المقام ، لوضوح أن أهمية دفع الضرر من جلب النفع كما تقتضي ترجيح الأول عند التراحم تقتضي الاحتياط فيه عند الدوران بينه وبين النفع ، بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل.
    لكنه موقوف على كون احتمال الحرمة مستلزما لاحتمال الضرر بنحو يقتضي تنجيزه ، وهو لو تم يقتضي الاحتياط في الشبهة البدوية ، ولا مجال له ، كما يتضح بمراجعة ما تقدم منا في الفصل السادس من مباحث التعبد بغير العلم.
    المقام الثاني : في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي
    ربما يدعى أن مقتضى الأصل الشرعي الإباحة ، لعموم أدلتها.
    والذي ينبغي أن يقال : إن كان المراد بالإباحة ما هو أحد الأحكام الخمسة ، أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية كما يظهر من المحقق الخراساني ، فلا مجال للبناء عليه ، لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته واقعا ، بل لا بد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.
    مع أنه لا دليل على الأصل المذكور في غير المقام من موارد الشك في أصل التكليف ، لأن حديث الرفع والسعة والإطلاق ونحوها ظاهرة في رفع الحرج وجعل السعة من حيث احتمال التكليف ، من دون أن تقتضي التعبد بالحل بأحد المعنيين المذكورين.
    وأما مثل قوله عليه السّلام : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو وإن كان ظاهرا في التعبد بالحل ، إلا أنه ـ مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، كما تقدم ـ ظاهر في إرادة الحل بالمعنى المقابل للحرمة المتقوم بالترخيص والإذن ، فيعم الوجوب ولا يضاده ، كما يناسبه المقابلة بين الحل والحرمة

    وظهور كون القضية ارتكازية ، لبيان عدم صلوح احتمال الحرمة للتنجيز ، والبناء على المعنى المذكور في المقام لا بأس به ، كما يصح البناء عليه أيضا في الترك الملازم لعدم الوجوب ، فيبنى على جواز كل من الفعل والترك ، وهو يطابق الإباحة بالمعنى الثاني عملا.
    هذا ، وأما الإشكال في الاباحة ظاهرا من جهة المخالفة الالتزامية. فلا يهم في المقام ، لأن الالتزام بالأحكام ، إنما يجب تبعا لوجوب الالتزام بالشريعة والانقياد لها ، وهو إنما يقتضي الالتزام بها على حسب وصولها ، فإذا فرض وصولها إجمالا كفى الالتزام بها كذلك ، وهو لا ينافي التعبد بالإباحة ظاهرا في مقام العمل لو فرض إمكان جعلها.
    نعم ، لو اريد الالتزام بها على أنها الحكم الواقعي اتجه المنع عنه ، كما يتجه المنع عنه مع دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، لأن أصالة الحل وإن كانت جارية حينئذ بلا كلام إلا أنها إنما تقتضي الالتزام بالحل على أنه الحكم الظاهري العملي ، لا الحكم الواقعي المجعول على الموضوع بعنوانه الأولي. بل لا يجوز ذلك حتى في مؤديات الحجج ، لأنه قول بغير علم وتشريع محرم ، كما أشرنا إليه عند الكلام في أصالة عدم الحجية.
    وإن كان المراد بالإباحة مجرد البراءة الشرعية من التكليفين المعلومين بالإجمال ، الراجع إلى جعل السعة ورفع الحرج شرعا فهو في محله ، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك ـ بالإضافة إلى كل منهما ، والعلم الإجمالي بثبوت أحدهما لا يكون مانعا من جريانها بعد عدم صلوحه للتنجيز.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في منع جريان البراءة الشرعية من أن إمكان رفع الحكم شرعا فرع إمكان وضعه ، وحيث امتنع جعل الحكمين تعيينا أو تخييرا ـ لما تقدم ـ امتنع رفعهما بمقتضى البراءة.
    ففيه : أنه يكفي في تصحيح رفعهما معا إمكان وضع أحدهما ، حيث لا

    إشكال في سلطان الشارع عليه ، ولا يعتبر إمكان وضعهما معا ، لأن نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية.
    ومن هنا أمكن للشارع رفع الحكمين واقعا بجعل الإباحة الواقعية ، مع تعذر جعلهما معا واقعا تعيينا أو تخييرا.
    مع أنه لو تم مختص بما إذا ادعي رفع كلا الحكمين بتطبيق واحد ، أما لو ادعي رفع كل منهما بتطبيق خاص ، لتمامية موضوع البراءة وهو الشك من حيثيته ، فلا إشكال ، لأن ما يرفع بكل من التطبيقين حكم واحد قابل للوضع بإيجاب الاحتياط فيه ، كما لعله ظاهر.
    ومثله في الإشكال ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من اختصاص جريان البراءة بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ، لرجوعه إلى ما تقدم منه في منع جريان البراءة العقلية ، وتقدم دفعه.
    هذا ، وقد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى القول بوجوب مراعاة احتمال الحرمة شرعا ، لبعض الوجوه الظاهرة الوهن كما يظهر بملاحظة كلامه قدّس سرّه.
    نعم ، قد يقال : الوجوه المذكورة ونحوها وإن لم تنهض بإثبات ترجيح احتمال الحرمة شرعا ، إلا أنها تكفي في احتمال ذلك ، وهو مانع من الرجوع فيه للبراءة. لكون المقام من موارد الدوران بين التعيين والتخيير.
    وفيه : ـ بعد تسليم الرجوع لأصالة التعيين في الشك المذكور ـ أنه مختص بما إذا كان هناك تكليف شرعي مردد بين الوجهين ، ولا يجري في مثل المقام مما كان التخيير فيه راجعا إلى مجرد رفع الحرج في كل من الطرفين من دون أن يستتبع خطابا تخييريا بهما ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في جعل الشارع لوجوب الاحتياط بالإضافة إلى احتمال الحرمة ، والمرجع فيه البراءة العقلية وعموم أدلة البراءة الشرعية ، ومن ثمّ كان الاحتياط الذي ادعاه الأخباريون

    محتاجا إلى دليل.
    هذا كله لو اريد احتمال ترجيحه شرعا ، وأما لو اريد احتمال ترجيحه عقلا ، فهو مندفع باستحالة تردد الحاكم في حكمه. ومن ثمّ لم نتعرض لذلك في المقام الأول.
    ثم إنه قد يدعى لزوم ترجيح احتمال الحرمة لاحتمال أهمية الحرمة من الوجوب ثبوتا بلحاظ ما سبق من أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ونحوه مما لو لم يوجب اليقين بأهمية الحرمة فلا أقل من كونه موجبا لاحتمالها. وهو مبني على مرجحية احتمال أهمية أحد التكليفين في المقام ، ويأتي الكلام فيه في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن كلّا من الاحتمالين في نفسه مورد للبراءة العقلية والشرعية بعد عدم صلوح العلم الإجمالي للمنع عن الرجوع إليهما.
    هذا ، وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية ، الذي يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
    وينبغي التنبيه على امور
    الأول : أن الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من الاحتمالين في نفسه ، فلو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما ، لوجود المنجز المانع من جريانها فلا ريب في لزوم متابعة المنجز المذكور عملا بدليله. والرجوع في الاحتمال الثاني للبراءة لعموم دليلها ، سواء كان المنجز دليلا اجتهاديا أم أصلا إحرازيا ـ كالاستصحاب ـ أو غيره ، كالاحتياط الواجب عقلا بمقتضى العلم الإجمالي أو غيره ، أو شرعا في موارد انقلاب الأصل التي سبقت الاشارة إليها أو

    غيرها.
    ولعله لذا حكى شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط في المقام ، إذ لا يبعد ابتناؤه على ما عليه الاخباريون من دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية دون الوجوبية المقتضي للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام. أما لو كان المراد به الاحتياط من جميع الجهات فلا مجال له مع فرض الدوران بين محذورين.
    هذا ، وقد استشكل شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الاستدلال لترجيح احتمال الحرمة بأخبار التوقف عن الشبهة بأنها ظاهرة في ما لا يحتمل الضرر بتركه ، فلا يشمل ما لو احتمل الوجوب ، كما في المقام.
    وهو ـ لو تم ـ لا ينافي ما ذكرنا لرجوعه إلى قصور أدلة الاحتياط التي استند إليها الاخباريون عن شمول المقام ، والكلام إنما هو بعد فرض لزومه في نفسه.
    على أنه غير تام ، على مسلك الاخباريين ، لأن احتمال الوجوب مورد لأدلة السعة المؤمّنة اتفاقا ، فلا يحتمل من جهته الضرر ، لتنصرف عنه أخبار الاحتياط المنجزة لاحتمال الحرمة عند الاخباريين.
    إلا أن يدعى قصورها عن شمول صورة احتمال الوجوب مع احتمال الحرمة ، لا من جهة ملازمته للضرر.
    لكنه غير ظاهر بعد فرض كونها واردة لتنجيز احتمال الحرمة لخصوصيته تعبّدا.
    وأما على مسلكنا من ورود الأخبار المذكورة للإرشاد إلى اجتناب الشبهات المنجزة في أنفسها دفعا للضرر المحتمل فالأولى الجواب بقصورها عن شمول المقام لعدم منجزية كل من الاحتمالين في نفسه.
    نعم ، لو فرض منجزيتهما كما في مورد التقصير في الفحص تم ما ذكره

    شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم شمولها للمقام ، للوجه الذي ذكره. فتأمل جيدا.
    الثاني : لو فرض احتمال أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الأمر بينهما ، فظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه لزوم ترجيحه ، وربما يحمل كلامه على قياسه بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم بين التكليفين.
    وعن بعض الأعظم قدّس سرّه عدم صحة القياس المذكور ، وهو الذي صرح به غير واحد من مشايخنا.
    والوجه فيه : أن احتمال أهمية التكليف في باب التزاحم ، مستلزم للعلم بثبوته ملاكا والشك في سقوطه خطابا بالمزاحمة ، والمرجع فيه الاحتياط ، ولا يرفع اليد عنه بالتكليف الآخر ، للعلم بسقوطه خطابا بالمزاحمة بالمساوي أو الأهم.
    أما في المقام فالشك في أصل وجود الأهم ملاكا وخطابا ، والمرجع فيه البراءة ، كما يرجع إليها لو شك فيه بدوا من دون علم بثبوت أحد التكليفين.
    ومما ذكرنا يظهر أنه لا ملزم بالترجيح مع العلم بأهمية أحد التكليفين المحتملين في نفسه ثبوتا ، إذ العلم بأهميته لا ينفع مع الشك في أصل وجوده ، كما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة عقلا.
    نعم ، لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بجعل الاحتياط وانقلاب الأصل اتجه الترجيح بها ، لما تقدم في التنبيه الأول.
    كما أنه لا مجال لتوهم ترجيح الأهم أو محتمل الأهمية ، لأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير ، لما تقدم عند الكلام في ترجيح احتمال الحرمة شرعا من خروج المقام عن ذلك.
    الثالث : هل يكون الظن في المقام مرجحا يلزم اتباعه ، أو لا بل يبقى التخيير بحاله؟.
    مقتضى ما ذكروه في دليل الانسداد هو ترجيح الظن لو تمت مقدماته في

    المقام ، وحيث كان من أهمها امتناع الإهمال بعد فرض تعذر معرفة الحكم تفصيلا فاللازم النظر في منشأ امتناع الاهمال.
    فإن كان هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف ، لعدم سقوطه عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام كان لازمه عدم جواز الإهمال في المقام ، والتنزل للظن بعد تعذر العلم بالامتثال لأقربيته.
    وإن كان هو العلم باهتمام الشارع بالأحكام لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بتعذر الاحتياط التام ، لما في الاهمال حينئذ من الخروج عن الدين بالنحو الذي يعلم بعدم رضا الشارع الأقدس به ، فلا مجال له في المقام ، لقلة الأحكام المجهولة بالنحو المذكور ، فلا يلزم من إهمالها محذور الخروج عن الدين ، ولا سيما مع تعذر المخالفة القطعية في المقام.
    هذا ، وحيث تقدم عدم نهوض مقدمات الانسداد بتعيين الظن إلا في مورد تعلق غرض المكلف بحفظ التكليف الواقعي ، لتنجزه على كل حال ، بحيث يكون فوته موجبا لاستحقاق العقاب ولو مع تعذر تحصيله ، اختص الرجوع إليه في المقام بذلك ، كما لو كان اشتباه الحال بسبب تقصيره في الفحص اللازم عليه. أما في غير ذلك فلا دليل على لزوم مراعاة الظن ، بل مقتضى ما عرفت من عموم أدلة البراءة العقلية والشرعية عدمه.
    ثم إنه لو فرض لزوم مراعاة الظن بالتكليف فالمراد به الظن بتعيين المعلوم بالإجمال بأحد الطرفين. لتكون متابعته امتثالا ظنيا للمعلوم بالإجمال ، لا الظن بثبوت التكليف في أحد الطرفين من غير جهة العلم الإجمالي ، كما لو تردد متعلق اليمين بين دخول المسجد وعدمه من دون ظن بأحد الأمرين ، وظن بوجوب الدخول لازالة النجاسة المظنونة الوجود فيه ، فإن متابعة الظن في المقام حيث لا تستلزم الظن بالخروج عن التكليف المنجز بالعلم الإجمالي لم ينهض العلم الإجمالي بالالزام بها ، وكان الظن المذكور كسائر موارد الظن

    البدوي بالتكليف غير منجز لمورده.
    الرابع : لو تعددت الوقائع مع الدوران في كل واقعة بين المحذورين فهل يكون التخيير استمراريا وفي كل واقعة ، بحيث يجوز المخالفة بين الوقائع في العمل وإن استلزم المخالفة القطعية الإجمالية فيها ، أو ابتدائيا وفي خصوص الواقعة الاولى مع لزوم العمل في بقية الوقائع على طبقها حذرا من لزوم المخالفة القطعية؟.
    صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا بالأول ، لعدم الدليل على حرمة المخالفة القطعية في المقام ، ووافقه على ذلك غير واحد من أعيان من تأخر عنه ، على اختلاف مسالكهم في الاستدلال عليه.
    فقد ذكر بعض الأعاظم في وجه ذلك أن المخالفة القطعية ليست محرمة شرعا ، بل قبيحة عقلا ، وحكم العقل بقبحها فرع تنجز التكليف ، والمفروض أنه لا منجز له في المقام ، لعدم صلوح العلم الإجمالي في كل واقعة للمنجزية ، لا بلحاظ الموافقة القطعية ، لتعذرها ، ولا بلحاظ الموافقة الاحتمالية ، للزومها ، ولا وجه لضم بعض الوقائع إلى بعض ، كي يدعى تنجز العلم الإجمالي فيها بلحاظ المخالفة القطعية في بعضها إجمالا.
    وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا : بأن العلم الإجمالي في كل من الواقعتين وإن لم يكن منجزا إلا أنه يتولد منهما علم إجمالي آخر لا مانع من تنجيزه بنحو يمنع من المخالفة القطعية ، مثلا لو دار الأمر بين وجوب الدخول للمسجد وحرمته في كل جمعة من الشهر فالعلم الإجمالي المذكور الحاصل في كل جمعة يتولد منه علوم إجمالية أخر ، حيث يعلم إجمالا مثلا بحرمة الدخول في الجمعة الاولى أو وجوبه في الثانية ، وبوجوبه في الاولى أو حرمته في الثانية.
    والعلم المذكور وإن امتنعت موافقته القطعية ، إلا أنه يمكن موافقته الاحتمالية بالفعل في الجمعتين معا أو الترك فيهما معا ، فلا وجه لسقوطه عن

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:34 am

    التنجيز بالكلية بنحو تجوز مخالفته القطعية بالمخالفة بين الجمعتين في العمل.
    لكن لا يخفى أن ما ذكره وإن رجع إلى القدرة على المخالفة القطعية لأحد العالمين المتولدين ، إلا أن من الظاهر أن المخالفة القطعية المذكورة مستلزمة للموافقة القطعية للعلم الآخر منهما ، ففي المقام علمان إجماليان يتمكن من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية لكل منهما ، إلا أن موافقته أحدهما تستلزم مخالفة الآخر ، وحيث كان كل منهما مقتضيا للموافقة ومانعا من المخالفة ، كانا متزاحمين في تمام مقتضاهما وسقطا عن التأثير بالإضافة إلى كل من الأمرين ، وليس الجمع بينهما بالتنزل للموافقة الاحتمالية في كل منهما بأولى من موافقة أحدهما في تمام مقتضاه وإهمال الآخر في تمام مقتضاه.
    وبعبارة اخرى : إن العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا يصلح للتنجيز ، لامتناع موافقته ومخالفته القطعيتين ، وكذا العلم الإجمالي المتولد منه ، لأنه وإن أمكنت موافقته ومخالفته القطعيتان إلا أنه من مزاحم بمثله.
    والحاصل : أن التخيير الابتدائي سالم عن محذور المخالفة القطعية ، إلا أنه خال عن الموافقة القطعية أيضا ، والتخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الإجمالية المتولدة في المقام ، إلا أنه يستلزم الموافقة القطعية في بعض الوقائع ولبعض العلوم الاجمالية المتولدة الأخر ، وليس الأول أولى من الثاني بنظر العقل ، بل هما من حيث موافقة الغرض الذي يقتضيه التكليف سواء.
    نعم ، قد يقال : إنه بناء على اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية ليس كاقتضائه لترك المخالفة القطعية ، وأن الأول بنحو يقبل الردع ، والثاني بنحو لا يقبله ، لأنه بنحو العلية التامة ، فاللازم ترجيح ترك الموافقة القطعية على المخالفة القطعية لأهميتها.

    وقد أجاب عن ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه : بأن ذلك إنما يتم لو كان الترخيص ظاهريا بمناط عدم البيان. أما لو كان بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق فلا مجال لمنجزية العلم التفصيلي فضلا عن الإجمالي ، لقصور المعلوم عن مقام الفعلية المانع من صلوح العلم لتنجيزه ، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية كي يقع التزاحم بينهما في المقام ، وينظر في الأولى منهما.
    ويظهر الإشكال فيه مما تقدم في المقام الأول ، فإنه إن كان المراد بالترخيص لأجل الاضطرار سقوط التكليف الواقعي عن الفعلية بسبب عدم إمكان الجمع بين المحتملات ، على ما قد يدعى في الاضطرار إلى بعض غير معين من أطراف العلم الإجمالي ، فهو ـ مع عدم مناسبته لمختاره في تلك المسألة ـ غير تام في نفسه.
    وإن كان المراد به الترخيص العقلي بسبب امتناع خلوّ المكلف عن الفعل والترك ، فهو إنما يقتضي امتناع منجزية العلم الإجمالي في كل واقعة بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، ولا يمنع من منجزيته بالإضافة إلى المخالفة القطعية بنحو لا يجوز ارتكابها في البعض لأجل الموافقة القطعية في الآخر ، لفرض كونها أهم ، كما هو المدعى للخصم.
    وبالجملة : كلامه قدّس سرّه لا يخلو عن غموض وإشكال ، وربما نوفق في مناسبة اخرى للتعرض لما ذكره.
    ولعل الأولى الجواب عن الدعوى المذكورة : بأنه ليس الفرق بين العلية التامة والاقتضاء إلا بإمكان الردع الشرعي على الثاني دون الأول ، وذلك خارج عن محل الكلام ، لفرض عدم البيان الشرعي في المقام ، وبقاء العقل على ما يستقل به ، وهو لا يفرّق في المقام بين الأمرين لو خلي ونفسه ، كما ذكرنا.
    إن قلت : إذا تم كون العلم الإجمالي علة تامة لمنع المخالفة القطعية دون

    لزوم الموافقة القطعية فلا بد أن يكون لأهمية تجنب المخالفة القطعية من تحصيل الموافقة القطعية بنظر العقل ، وهو مستلزم لترجيحه عند المزاحمة.
    قلت : ليس ملاك العلية التامة هو الأهمية ، بل إن المنع عن المخالفة القطعية بعد فرض فعلية التكليف يستلزم الردع عن تنجيز العلم الإجمالي وعدم ترتب العمل عليه ، أو عن وجوب إطاعة التكليف ، وكلاهما ممتنع مع كون منجزية العلم ذاتية ووجوب الإطاعة من المستقلات العقلية ، بخلاف الترخيص في ترك الموافقة القطعية ، وهذا لا يقتضي الترجيح بينهما في المقام ، لأن جواز المخالفة القطعية في بعض الوقائع ليس لعدم منجزية العلم الإجمالي في نفسه ، ولا لعدم وجوب إطاعة التكليف ، بل لمزاحمتها بالموافقة القطعية في الواقعة الاخرى.
    مع أنه لو فرض أن ملاك ذلك هو الأهمية فهو أجنبي عما نحن فيه ، لوضوح أن مخالفة العلم الإجمالي القطعية مستلزمة لفوت موافقته أيضا ، فالموافقة القطعية فائتة على كل حال ، وليس الممنوع منه إلا المخالفة القطعية زائدا عليها. أما في المقام فالمخالفة القطعية في بعض الوقائع مستلزمة لحصول الموافقة القطعية في الاخرى وليست الموافقة القطعية فائتة على كل حال. ولعله يأتي في الفصل الآتي ما ينفع في المقام.
    ثم إنه كما يكون التخيير استمراريا إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع الطولية بحسب أجزاء الزمان ، كذلك يكون التخيير انحلاليا إذا كان تعدد الواقعة لتعدد أفراد الموضوع العرضية ، كما لو تردد الأمر في يوم بين وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرامهم ، فإنه كما يتخير المكلف بين إكرام الكل وترك إكرامهم فلا يلزم إلا المخالفة الاحتمالية في الكل ، كذلك له التفريق بينهم ، المستلزم للمخالفة القطعية في بعضهم والموافقة القطعية في بعض ، لعين ما تقدم.

    الخامس : ما تقدم من تعذر الموافقة والمخالفة القطعيتين في المقام إنما هو فيما إذا كان الوجوب والحرمة المحتملان واردين على موضوع واحد ، لا اختلاف في قيوده ، لتكون موافقة أحدهما مخالفة للآخر ، سواء كان توصليا ، كدخول المسجد ، أم تعبديا ، كصوم يوم الشك لو قيل بحرمة صوم يوم العيد ولو برجاء ألا يكون عيدا ، بخلاف ما لو اختلف الموضوع ولو بلحاظ القيود المعتبرة فيه ، كما لو كان أحدهما المعين أو كلاهما تعبديا لا يمكن امتثاله إلا بقصد التقرب به ، كما لو دار الأمر بين كون الماء مملوكا يجب التقرب بالوضوء به ، ومغصوبا يحرم التصرف فيه مطلقا ، أو بين وجوب فعل شيء بقصد القربة وتركه كذلك ، فإن الموافقة القطعية في مثل ذلك وإن كانت متعذرة ، إلا أن المخالفة القطعية ممكنة ، حيث يمكن في المثال الأول استعمال الماء في غير الوضوء القربي. وفي الثاني الترك أو الفعل لا بقصد القربة ، ونظير ذلك جميع موارد دوران الوجوب بين الضدين اللذين لهما ثالث.
    وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره في مثل ذلك حرمة المخالفة القطعية ، لمنجزية العلم الإجمالي بالإضافة إليها ، وإن لم يكن منجزا بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، لفرض تعذرها ، بناء منهم على أن تعذر الموافقة القطعية لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالإضافة إلى المخالفة القطعية.
    وقد لا يتم ذلك على مذهب المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بالكلية.
    ومن ثم استشكل عليه غير واحد حيث وافق شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام. وتمام الكلام في ذلك في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي من الفصل الآتي.
    السادس : لو دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته فهو وإن رجع إلى الدوران بين محذورين بالإضافة إلى المركب الخارجي من حيث صحته

    وفساده ، إلا أنه خارج عن محل الكلام ، لعدم كون إبطال المركب بالإتيان بالمانع منه محرما ، فمرجع الشك في المقام إلى الدوران بين وجوب المركب الواجد للأمر المذكور والفاقد له ، واللازم فيه الاحتياط بالجمع بينهما ، كما يأتي في الفصل الآتي.
    ولو فرض تعذره كان من تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي الذي يأتي الكلام فيه هناك أيضا.
    نعم ، لو فرض حرمة إبطال المركب ـ كما هو المعروف في الصلاة ـ كان من هذه الجهة من الدوران بين محذورين ، وإن كان من حيثية الأمر بالمركب داخلا في الدوران بين المتباينين المقتضي للاحتياط فيهما بالتكرار.
    على أنه يلزم تجنب ذلك بالدخول في كلتا الصورتين برجاء مشروعيتها ، فلا يحرم إبطالها من هذه الجهة ، لعدم قصد الامتثال بها مطلقا ، بل معلقا على مشروعيتها ، ولا تبطل في ظرف مشروعيتها.
    نعم ، لو حدث له التردد في الاثناء بعد الجزم بالامتثال حين الدخول في العمل تعذر عليه تجنب احتمال حرمة الإبطال بكل من الفعل والترك.
    وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ابتناء المقام على مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإن قلنا فيها بالبراءة كان المكلف مخيرا بين الوجهين ، وإن قلنا فيها بالاحتياط كان اللازم الجمع بالتكرار.
    فلا يكاد يتضح وجهه ، ضرورة أنه إن كان المقام من دوران الأمر بين المتباينين ـ كما ذكرنا ـ كان العلم الإجمالي مقتضيا للاحتياط خروجا عن مقتضى البراءة ، حتى لو فرض أنها الأصل الأولي في تلك المسألة ، وإن كان من دوران الأمر بين المحذورين الذي يتعذر معه الاحتياط لزم التخيير حتى بناء على لزوم الاحتياط في تلك المسألة ، إذ لا مجال له في فرض التعذر.

    وقد أطال قدّس سرّه الكلام بما لا مجال لتعقيبه ، فراجع ما ذكره في التنبيه الرابع من تنبيهات مسائل الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    الفصل الثالث
    في الشك في تعيين التكليف
    مع اختلاف المتعلق
    وهو المعروف بينهم بدوران الأمر بين المتباينين.
    وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف ، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام ، واختلافه ، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.
    والكلام في المقام إنما هو في أنه هل يلزم في ذلك الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلا للموافقة القطعية ، أو يكفي الاقتصار على بعضها بنحو يخرج به عن المخالفة القطعية ، أو يجوز ترك تمام الأطراف وإن حصلت المخالفة القطعية ، كل ذلك من جهة العلم الإجمالي المفروض في المقام وتحديد مقتضاه.
    وينبغي التعرض لمنشا حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في سائر موارد تنجيز التكليف تمهيدا لمحل الكلام ، فنقول :
    اندفاع المكلف للعمل يبتني على امور مترتبة في أنفسها ..
    الأول : جعل التكليف.
    الثاني : تنجزه.
    الثالث : حدوث الداعي لامتثاله.
    أما الأول فهو مما يستقل به المولى ، ولا يشركه فيه غيره ، حتى في

    المستقلات العقلية بناء على التحسين والتقبيح ، لظهور أن وظيفة العقل ليست إلا إدراك الحسن والقبح الملزمين بنظر العقل للمولى بجعل الحكم على طبقهما ، وليس عمل المكلف مترتبا على استقلال العقل بالحسن والقبح إلا بضميمة استكشاف الحكم الشرعي المقتضي لحفظ الملاك من قبل الشارع بما يستتبعه من الثواب والعقاب الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر ، الذي هو أمر فطري ، وإلا فالحكم العقلي بمجرده لا يكفي في الداعوية وحفظ الملاك.
    وأما الثاني فهو قد يستند لجعل المولى للحجج والاصول المنجزة لمؤداها بحكم العقل ، كما قد يستقل به العقل ، كما في موارد الظن الانسدادي بناء على الحكومة. وقد يستند إلى السبب التكويني ، وهو العلم ، بناء على ما سبق منا في مباحث القطع من كون ترتب العمل عليه ذاتيا لا يستند لحكم عقلي أو شرعي.
    وأما الثالث فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى بملاك شكر المنعم ، أو ثبوت الحق له ، بالنحو المقتضي لاستحقاق العقاب ، الصالح للداعوية ، وليس الحكم المذكور مما يمكن الردع عنه شرعا ، إلا أن يرجع إلى رفع موضوعه ، وهو التكليف الشرعي ، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.
    هذا كله في فرض كون عمل المكلف إطاعة للتكليف ثبوتا ، فلو فرض الشك في ذلك لم ينهض ما سبق باحداث الداعي للمكلف نحو العمل ، لأن ما سبق إنما يقتضي لزوم الإطاعة الواقعية ثبوتا في رتبة سابقة على الشك.
    بل لا بد في فرض الشك من أمر آخر مترتب على ما سبق ، وهو حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز ، وعدم الأمان من مسئولية التكليف بدونه ، وهو مفاد قاعدة الاشتغال المسلمة عند الكل ، ومن الظاهر أن حكم العقل المذكور طريقي في طول حكمه بوجوب الاطاعة الواقعية ، وليس عينه.

    ولا ريب عندهم في اختصاص العقل بالحكم المذكور ، والاستغناء به عن الرجوع للشارع ، كما لا ريب في سلطان الشارع على تحقيق مقتضاه بأن يتعبد بتحقق الامتثال بجعل الطريق إليه ، أو الأصل العملي المحرز له ، إذ لا يراد بإحراز الامتثال اللازم عقلا إحرازه وجدانا ، بالقطع ، بل ما يعم الإحراز التعبدي.
    وإنما الإشكال في سلطان الشارع على الردع عن الحكم المذكور بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي من دون إحراز له.
    وقد تقدم منا في التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة تقريب ذلك وإن كان على خلاف ظاهرهم ، كما تقدم بقية الكلام في القاعدة المذكورة.
    إذا عرفت هذا ، فمن الظاهر أن منع العقل عن المخالفة القطعية في مورد تنجز التكليف بعلم أو علمي أو غيرهما يرجع إلى حكمه بوجوب الطاعة.
    كما أن الزامه بالموافقة القطعية راجع إلى حكمه بلزوم إحراز الفراغ الذي هو مفاد قاعدة الاشتغال.
    وقد عرفت امتناع ردع الشارع عن الأول ، إلا برفع موضوعه ، وهو التكليف ، أو رفع منشأ تنجيزه لو كان مستندا له.
    كما عرفت إمكان ردعه عن الثاني ، كما أنه مسلط على رفع موضوعه برفع التكليف أو منشأ التنجيز ، وعلى تحقيق مقتضاه بجعل ما يوجب إحراز الامتثال تعبدا بنصب الطريق إليه ، أو جعل الأصل العملي فيه.
    وحيث كان المعيار في المخالفة والموافقة القطعيتين ذلك في سائر موارد التنجيز ، فلندخل في ما هو المقصود بالمقام. ويقع الكلام فيه في مقامين ..

    المقام الأول : في المخالفة القطعية
    والمعروف المشهور عدم جواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المفروض في المقام. وربما قيل بجوازها إما لقصور العلم الإجمالي عن اقتضاء المنع عنها ، أو لوجود المانع بعد فرض تمامية المقتضي.
    أما الأول فيدفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز المقتضي ـ كما عرفت هنا ـ للمنع من المخالفة القطعية ، لاشتراكهما في الجهة المقتضية للعمل. ومجرد ابتلاء العلم الإجمالي بالجهل بالموضوع وتردده بين الأطراف لا أثر له في الجهة المذكورة.
    ولا مجال للاستدلال على منجزية العلم الإجمالي المانعة من الترخيص في المخالفة بلزوم التناقض بين الترخيص والحكم المعلوم بالإجمال ، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.
    لما سبق من عدم صحة الاستدلال بلزوم التناقض بالوجه المذكور حتى في العلم التفصيلي.
    كما لا مجال للاستدلال على امتناع الترخيص في المخالفة القطعية بعموم دليل التكليف الواقعي للمعلوم بالإجمال ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ.
    إذ ليس الإشكال في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم الإجمالي ، كيف ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي ، لما هو المعلوم من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وإنما الإشكال في تنجز التكليف المذكور بالعلم الإجمالي ، والمتعين فيه ما ذكرنا.
    وأما الثاني فلا منشأ له إلا توهم أن مقتضى عموم أدلة الاصول الترخيصية من البراءة وغيرها جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن استلزم المخالفة القطعية.

    وحيث كان الكلام في ذلك مهما جدا ، لما يترتب عليه من الفوائد في المقام وغيره فاللازم النظر ..
    أولا : في عموم أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم الإجمالي.
    وثانيا : في إمكان جريانها في المقام بنحو تسوغ المخالفة القطعية وتمنع من حرمتها ، فيقع الكلام في أمرين :
    الأمر الأول : في عموم أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم الإجمالي.
    وقد وقع الكلام في ذلك بينهم ..
    ولا يخفى أن الكلام هنا مختص بالاصول أما الطرق والأمارات فلا ريب في قصور أدلتها عن شمول أطراف العلم الإجمالي المستلزم للعلم بكذب أحدها ، من دون فرق بين ترتب الأثر عليها في جميع الأطراف وترتبه في بعضها ، كما لا فرق بين العلم الإجمالي بثبوت الترخيص والعلم بثبوت التكليف المنجز وغيره ، لأنها لما كانت حجة في لوازم مؤدياتها كانت متكاذبة في ما بينها بلحاظ مداليلها الالتزامية ، فيمتنع حجيتها في تمام الأطراف ، لاستحالة التعبد بالمتعارضين المستلزم للتعبد بالنقيضين ، ولا في خصوص بعضها معينا ، لعدم المرجح ، ولا مخيرا ، لعدم الدليل عليه.
    ومن ثمّ كان الأصل في المتعارضين التساقط ، على ما يأتي مفصلا في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.
    نعم ، لو لم تكن الأمارة حجة في لازم مؤداها لم يلزم المحذور المذكور ، بل تكون نظير الأصل الإحرازي الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه اختلف المتأخرون في أن الاصول هل تجري ذاتا في أطراف العلم الإجمالي ، وينحصر المانع من جريانها بالمحذور المتقدم ، أو لا تجري ذاتا لقصور أدلتها عن شمولها؟
    وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه الثاني ، حيث قال في مبحث الشبهة

    المحصورة ، في دفع توهم اقتضاء أدلة قاعدة الحل لجواز المخالفة القطعية : «ولكن هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع ، لأنها كما تدل على حلية كل واحد من الشبهتين كذلك تدل على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنه أيضا شيء علم حرمته».
    وقال في مسألة تعارض الاستصحابين إذا لم يكن أحدهما سببيا : «فالحق التساقط ... لأن قوله : «لا تنقض اليقين بالشك ، ولكن تنقضه بيقين مثله» ، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ... وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأن قوله عليه السّلام : «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام» ، لا يشمل شيئا من المشتبهين».
    وما ذكره قدّس سرّه لا يخلو عن غموض ، وقد يحمل على وجوه ينبغي التعرض لها حتى لو فرض عدم ظهور كلامه فيها لتوقف الكلام في المقام على النظر فيها ..
    الأول : أن المعلوم بالإجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة الصالحة للانطباق على كل من الطرفين بنفسه ، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعا ، فيكون أحد الأطراف بواقعه موضوعا لليقين الرافع للأصل ، ولا مجال لجريان الأصل في كليهما للزوم التناقض.
    وفيه : أن انطباق المعلوم بالإجمال على أحد الطرفين بخصوصه واقعا لا ينافي صدق موضوع الأصل ـ وهو الشك ـ فيه بعنوانه التفصيلي ، لأن طروء العلم والشك على الموضوع إنما يكون بلحاظ عنوانه لا بنحو يكون دخل العنوان فيهما لمحض الحكاية ـ كما في قولنا : جاء العالم ـ ولا لكونه محض علة فيه ـ كما في قولنا : أكرم العالم ـ بل لكونه جهة تقييدية بنحو تكون صفتا العلم

    والجهل طارئتين على المعنون من حيثية العنوان ، لا مطلقا ، فلا مانع من اجتماعهما في الموضوع الواحد بلحاظ العناوين المختلفة المنطبقة عليه ، وعليه لا مانع من كون أحد الطرفين موضوعا للعلم بعنوان كونه أحد الأمرين اللذين يقوم العلم الإجمالي بهما ، وموضوعا للشك بعنوانه الخاص به ، ولا يكون العلم الإجمالي موجبا لخروجه عن موضوع الأصل واقعا.
    فالأصل يجري في كل منهما بخصوصه ذاتا تبعا لتحقق موضوعه ، وإن كان لا يجري في الأمر المبهم على إبهامه ، لارتفاع موضوعه فيه بسبب العلم الإجمالي المفروض ، ولازم ذلك ترتيب أثر كل من الخصوصيتين تبعا لجريان الأصل فيهما ، دون أثر المعلوم بالإجمال المنطبق على أحدهما على ما هو عليه من الإبهام ، لارتفاع موضوع الأصل فيه.
    نعم ، هذا الوجه يبعد عن كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه المتقدم ، لأن مقتضاه قصور دليل الأصل واقعا عن أحد الطرفين على إجماله ، لا عن كليهما ، مع ظهور كلامه قدّس سرّه في خروج كلا الطرفين بسبب الغاية في أدلة قاعدة الحل ، والذيل في أخبار الاستصحاب عن عموم الأصل.
    بل هو الذي صرح به في بقية كلامه ، حيث قال : «فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معينا في الواقع غير معين عندنا. ليكون الفرد الآخر الغير المعين باقيا تحت العام ... إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ...».
    الثاني : أن إطلاق العلم المجعول غاية في أخبار قاعدة الحل ، واليقين في ذيل أخبار الاستصحاب شامل للعلم واليقين الإجمالي ، فيرتفع تبعا له الحكم بالحل وبالاستصحاب في كل من الطرفين ، وإن لم يعلم الحال فيهما تفصيلا.
    وهذا الوجه وإن كان بعيدا عن ظاهر كلاميه المتقدمين ، خصوصا الأول ، إلا أنه قد يتعين حملهما عليه بملاحظة تتمة كلامه في الاستصحاب ، حيث قال

    في رد احتمال التخيير : «وقد عرفت أن عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنه نقض اليقين ، فلم يخرج من عموم : «لا تنقض» عنوان ينطبق على الواحد التخييري» ، فإنه صريح في أن عدم جريان الاستصحاب فيهما لتحقق اليقين الرافع له ، لا لقصور عموم دليل الاستصحاب عن شمول الشك المفروض فيهما.
    وكيف كان ، فيندفع الوجه بأن المستفاد من أخبار قاعدة الحل كون الرافع للحل الظاهري هو العلم بالتكليف المنافي للشك فيه ، فالعلم الإجمالي وإن نهض برفع الحل بالإضافة إلى الواحد المردد على ما هو عليه من الابهام والترديد بين الأطراف ، لعدم الشك فيه ، إلا أنه لا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصيته بعد فرض الشك فيه.
    كما أن ظاهر أخبار الاستصحاب وجوب نقض اليقين باليقين المنافي له ، ولا يتنافي اليقينان إلا مع اتحاد متعلقهما ، لا مع اختلافه ولو بالإجمال والتفصيل ، كما اعترف قدّس سرّه بذلك في الجملة في رد القول العاشر من أقوال الاستصحاب.
    الثالث : أنه لما كان العلم واليقين في أدلة الاصول يعم العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي وإن لم يناف الشك ـ الذي هو موضوع الأصل ـ في كل طرف بخصوصه ، وإنما ينافيه في الأمر المردد على إجماله ، إلا أن عموم موضوع الأصل لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض بين التعبدين ، وهما التعبد بمؤدّى الأصل في كل من الطرفين بلحاظ حصول الشك فيه ، والتعبد بمقتضى العلم الرافع للأصل في المعلوم بالإجمال على إجماله ، للتناقض بين مفادي الموجبة الكلية والسالبة الجزئية ، فيمتنع التعبد بهما معا ، ويتعين البناء على قصور الاصول عن شمول الأطراف دفعا لذلك ، ولا طريق مع ذلك لاحراز تحقق موضوع الاصول ذاتا في الأطراف.
    ولعل هذا الوجه هو الظاهر من كلامه قدّس سرّه المتقدم في الاستصحاب.

    إن قلت : التناقض المذكور كما يندفع بتقييد الشك في الأدلة بغير صورة العلم الإجمالي ، كذلك يندفع بتقييد العلم الذي يجب العمل به بغير العلم الإجمالي ، وليس الأول أولى من الثاني.
    قلت : لما كان مفاد الأصل أمرا تعبديا كان التقييد فيه أهون من التقييد لقضية لزوم العمل بالعلم الارتكازية ، بل هي آبية عن ذلك جدا.
    ولا سيما مع كون عموم الأصل للأطراف لا يقتضي فعلية العمل بها ، من أجل المحذور الآتي ، فتحمل على الحكم الاقتضائي الذي هو خلاف الظاهر في نفسه.
    ويندفع الوجه المذكور : بأن وجوب العمل بالعلم وارتفاع موضوع الأصل معه وإن ذكر في أدلة الاصول ، إلا أنه ليس أمرا تعبديا شرعيا ، لما هو المعلوم من أن حجية العلم ذاتية لا تقبل الإمضاء والردع الشرعي ، فليس في المقام إلا تعبد شرعي واحد ، وهو مفاد الأصل ، وليس موضوعه إلا الشك المفروض تحققه في الأطراف ، ولا يلزم من جريان الأصل فيها التناقض ، لتعدد الموضوع ، بل غاية ما في المقام هو العلم بكذب أحد الأصلين ، وليس هو محذورا ما لم يستلزم المخالفة العملية ، على ما يأتي توضيحه.
    نعم ، قد يقال : وجوب العمل بالعلم وإن لم يكن تعبدا شرعيا ، بل أمر تكويني أو عقلي ، إلا أن التنبيه في أدلة الاصول له على أنه أمر مفروغ عنه مانع من عمومها لأطراف العلم الإجمالي ، لأن العلم الإجمالي لما كان منافيا عملا للاصول الجارية في أطرافه كان عموم أدلة الاصول لها مع التنبيه فيها للعمل بالعلم مستلزما للتناقض في دليل التعبد الواحد ، وإن لم يلزم التناقض بين التعبدين ، فيتعين البناء على قصور الأدلة المذكورة عن أطراف العلم الإجمالي دفعا لذلك.
    وفيه .. أولا : أن القرينة المذكورة لو تمت فهي مختصة بما إذا كان العلم

    الإجمالي مقتضيا للعمل بنحو ينافي مقتضى الأصل في الأطراف ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد الإنائين ولم يعلم حرمتهما سابقا. أما لو لم يترتب عليه العمل فلا وجه لمنعه من جعل الأصل ، ليكون التعرض له في الأدلة المذكورة مانعا من عمومها للأطراف ، كما لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقا ، لوضوح أن العلم المذكور وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال ، إلا أن اشتباه المعلوم بالإجمال بالنجس مانع من ترتب العمل على العلم المذكور ، فلا يصلح للمنع من جعل الأصل الذي يترتب عليه العمل ، مع أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه صرح بعموم مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصل.
    وثانيا : أن هذا المقدار من التنافي لا يوجب قصور موضوع الاصول عن شمول الأطراف تخصيصا بحيث تخرج عنه ذاتا ، بل يكفي في رفعه البناء على عدم فعليتها في مورد المنافاة لوجوب العمل بالعلم مع تحقق موضوعها ذاتا ، لما هو المرتكز عرفا من أن موضوع الاصول ليس إلا الشك الذي تضمنته الأدلة ، وهو حاصل في الأطراف ، وليس منافاة مفاد الأصل عملا لمقتضى العلم إلا من سنخ المانع عن فعليتها ، فإن ذلك كاف في القرينة الارتكازية على حمل الأدلة على ذلك في مقام الجمع بين الغاية والمغيى في أخبار قاعدة الحل ، والصدر والذيل في أخبار الاستصحاب ، لأنه أقرب ارتكازا من التزام التخصيص بالوجه المذكور.
    ولا سيما خلو كثير من أدلة الاصول ـ كبعض نصوص الاستصحاب والبراءة وقاعدة الفراغ وغيرها ـ عن التنبيه لحجية العلم ، فلا مخرج عن ظهورها في كون موضوع الاصول محض الشك ، لعدم ابتلائها بالقرينة المذكورة ، غاية الأمر أن العموم المذكور مما لا مجال للعمل به في مورد المنافاة للعلم الإجمالي ، إلا أن هذا من سنخ المانع ارتكازا وليس من سنخ المخصص.
    وتوضيح ذلك : أن المرتكز في رفع المنافاة بين عموم أدلة الاصول

    وحجية العلم الإجمالي هو الالتزام ـ بتعدد الحيثيّة والجهة ، بنحو تؤثر كل جهة لمقتضاها في نفسها مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين المختلفتين في مقام العمل ، فدليل الأصل لا يقتضي ترتيب مضمونه مطلقا ومن جميع الجهات ، بل من حيثية الشك المأخوذ في موضوعه ، كما أن العمل بالعلم إنما يقتضي متابعته في مورده لا غير ، فمع اجتماع الجهتين واختلاف مقتضاهما عملا ـ كما في مورد العلم الإجمالي ـ يرجع لقواعد التزاحم بين الجهتين ، فتختص فعلية التأثير في مقام العمل باحدى الجهتين دون الاخرى ، وإن تم المقتضي في كلتيهما.
    مثلا : لو علم اجمالا بحرمة أحد الإناءين ، فمقتضى الأصل في كل من الطرفين إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك ، وهو لا ينافي تنجز المعلوم بالإجمال الملزم بالاحتياط في كل منهما ، لأن الاحتياط المذكور ليس لمحض الشك ، لينافي الأصل الجاري فيهما ، بل لأجل العلم الذي هو أمر زائد على الشك كاف في التنجيز.
    كما أنه لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المعلومي النجاسة سابقا فالعلم الإجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال ، إلا أنه لا ينافي تنجز احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين بلحاظ سبق اليقين بنجاسته والشك في طهارته المقتضي لاستصحاب النجاسة.
    وقد أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث الشبهة الوجوبية المحصورة ، فإنه بعد أن أشار لنظير ما تقدم منه في الشبهة التحريمية في وجه امتناع الرجوع للاصول قال : «فلا بد إما من الحكم بعدم جريان هذه الأخبار في مثل المقام مما علم وجوب الشيء إجمالا وإما من الحكم بأن شمولها للواحد المعين وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به وملزمين عليه دليل علمي ـ بضميمة حكم العقل

    بوجوب المقدمة العلمية ـ على وجوب الإتيان بكل من الخصوصيتين. فالعلم بوجوب كل منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنا ، إلا أن العلم بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدمة ، كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك».
    وقد أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه أيضا في أول الكلام في الدوران بين المتباينين من حقائقه.
    هذا ، ويشهد لما ذكرنا من تحقق موضوع الأصل ذاتا في أطراف العلم الإجمالي ما هو المفروغ عنه بينهم من إمكان التفكيك في الاصول بين الامور المتلازمة ، فمن توضأ أو اغتسل بمائع مردد بين البول والماء ، يستصحب الحدث وطهارة الأعضاء من الخبث مع العلم إجمالا بانتقاض إحدى الحالتين ، وهو مستلزم لعدم مانعية العلم المذكور من شمول الأصل للأطراف ذاتا ، وليس عدم جريان الأصل إلا لمحذور المخالفة العملية غير اللازم في المقام. فلاحظ.
    ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه مع اعترافه بتحقق موضوع الأصل في أطراف العلم الإجمالي ادعى امتناع جريان الاصول التنزيلية الإحرازية فيها ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرهما ، لخصوصية في مفادها.
    وحاصل ما ذكره : أن الاصول المذكورة وإن لم تكن من سنخ الأمارات متضمنة للحكاية عن الواقع ، إلا أنها تتضمن التعبد بمؤداها على أنه الواقع فهي متضمنة لإحراز الواقع لا بتوسط جعل الطريق إليه ، وحينئذ يمتنع جريانها في أطراف العلم الإجمالي ، لمناقضتها معه ، إذ كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الإنائين مع العلم بتطهير أحدهما؟ وهو مستلزم للتناقض بين مفاد الأصل والواقع المعلوم.
    وهذا بخلاف الاصول غير الإحرازية ـ كأصالة البراءة والحل والطهارة ـ

    فإنها لا تتضمن إلا بيان الوظيفة العملية وتطبيق العمل على مقتضى الأصل من دون تعبد بالواقع ، فلا ينافي العلم الإجمالي بمخالفة الواقع في أحد الطرفين ، لأن الأصل يجري في كل طرف بخصوصه ، ولا يعلم بكذبه ومخالفته للعلم الإجمالي المذكور.
    وفيه : أن الأصل الاحرازي لما كان يجري في كل من الطرفين بخصوصه مع قطع النظر عن الطرف الآخر فلا يناقض العلم الإجمالي ، لعدم العلم بانطباق المعلوم بالإجمال عليه ، والجمع بين التعبدين لا يستلزم المناقضة للعلم الإجمالي وإن رجعا إلى دليل واحد ، لوضوح أن الدليل المذكور يتضمن أحكاما انحلالية بحسب الموضوعات المتكثرة ، ولا يتضمن تعبدا واحدا بمجموع الأمرين ليكون مناقضا للعلم المذكور ، فلا فرق بين الأصل الاحرازي وغيره في ذلك.
    على أن ما ذكره قدّس سرّه لو تم لامتنع جريان الاستصحاب في من توضأ بمائع مردد بين البول والماء ونحوه من موارد التفكيك بين الامور المتلازمة بسبب الأصل الاحرازي ، مع عدم الإشكال عندهم في جواز الرجوع له ، كما تقدم.
    وقد حاول قدّس سرّه بيان الفرق بين ذلك وما نحن فيه ، وحاصل ما ذكره : أن جريان الاصول في ذلك لا يوجب إلا العلم الإجمالي بكذب الأصلين ، لاختلافهما في المؤدى ، وعدم رجوعهما إلى أمر واحد يعلم بكذبه تفصيلا ، أما في ما نحن فيه فيلزم العلم التفصيلي بكذب ما يؤدي إليه الأصلان ، لرجوعهما إلى أمر واحد يعلم بعدم ثبوته ، ففي استصحاب نجاسة الإنائين المعلوم طهارة أحدهما يعلم تفصيلا بكذب ما يؤدي إليه الأصلان ، لأنهما ينفيان طهارة أحدهما المعلوم ثبوتها تفصيلا.
    وقد أطال في تقريب ذلك بما لا يرجع إلى محصل ظاهر ، لوضوح أن ما ذكره من الوجه في المنع ـ لو تم ـ لا يختص بالعلم التفصيلي بكذب الأصل ، بل

    يجري في العلم الإجمالي أيضا ، إذ ليس ملاكه إلا امتناع إحراز ما يعلم خلافه ، ولا يفرق فيه بين العلم الإجمالي والتفصيلي.
    مع أنه إن اريد بالمعلوم بالتفصيل المتميز في الذهن بخصوصيته ـ كما هو الظاهر منه ـ فالمفروض أنه لا معلوم بالتفصيل في المقام.
    وإن اريد به ما يشار إليه بعنوان واحد وإن كان مبنيا على الإبهام والترديد ـ كعنوان أحد الأمرين ـ فهو متحقق في مورد النقض أيضا ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأمرين من الحدث وطهارة الأعضاء في الفرض السابق.
    ومجرد اتفاق مؤدى الأصلين في ما نحن فيه في السنخ والعنوان ـ كالطهارة والنجاسة ـ بخلاف مورد النقض ، لا يصلح فارقا بعد كون مجرى الأصل هو الأمر الخاص المباين للأمر الآخر وإن اتحد معه سنخا.
    على أن الظاهر أن المنع عنده لا يختص بما إذا اتحد مجرى الأصلين سنخا ، بل يجري في مثل ما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة آخر ، أو بين نجاسة شيء وغصبية آخر ، وكان مقتضى الاستصحاب فيهما مخالفا لمقتضى العلم الإجمالي.
    نعم ، لو كانت نجاسة كلا الطرفين في ما نحن فيه مقتضى أصل واحد ، بنحو يكون الاستصحاب مثلا مقتضيا لنجاستهما بنحو الارتباطية ، لقيام الأثر بهما معا ، مع العلم بطهارة أحدهما لزم العلم التفصيلي بكذب الأصل.
    لكنه خلاف الفرض ، مع أنه جار في الأصل غير الاحرازي أيضا.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن العلم الإجمالي لا يوجب خروج أطرافه عن الاصول ذاتا ، وغاية ما يدعى أنه من سنخ المانع عنها بعد تمامية مقتضيها.
    هذا تمام الكلام في الأمر الأول.
    الأمر الثاني : أنه بعد الفراغ عن شمول أدلة الاصول ذاتا لأطراف العلم

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:37 am

    الإجمالي يقع الكلام في نهوضها بالمنع من حرمة المخالفة القطعية ، التي تقدم اقتضاء العلم الإجمالي لها ذاتا.
    ومما تقدم في أول الكلام في هذا الفصل يظهر امتناع ذلك ، لما تقدم من أن ترخيص الشارع في المخالفة القطعية في مورد تنجز التكليف إما أن يبتني على رفع فعلية التكليف الواقعي أو رفع منشأ تنجيزه.
    ولا مجال للثاني في المقام بعد كون تنجيز العلم الإجمالي كالتفصيلي من شئون ذاته التي لا تنالها يد التشريع رفعا ووضعا ، كما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع ولا سيما مع ظهور بعض أدلة الاصول في المفروغية ، عن حجية العلم ، كما تقدم.
    كما لا مجال للأول ، لأنه وإن كان في نفسه ممكنا ، بأن يكون العلم الإجمالي رافعا لفعلية الحكم الواقعي المعلوم ، حيث تقدم إمكان ذلك في الفصل الثالث من مباحث القطع ، إلا أن أدلة الاصول لا تنهض به ، لظهورها في النظر لمقام تنجز التكليف ، وجعل الوظيفة العملية فيه في ظرف الشك فيه إثباتا بعد الفراغ عن فعليته ثبوتا وصلوحه لترتب العمل عليه في نفسه لو فرض وجوده ، فلا تنهض بتقييد أدلة الواقع.
    بل هو المقطوع به بعد فرض كون مفاد الاصول أحكاما ظاهرية غير رافعة للأحكام الواقعية ولا منافية لها.
    ودعوى : لزوم البناء في المقام على ذلك تصحيحا لجريانها ، فتكون أدلتها دالة عليه بدلالة الاقتضاء.
    مدفوعة .. أولا : بأن البناء على ذلك لا يصحح جريانها ، بل يمنع منه ، إذ فرض عدم فعلية الواقع مانع من تحقق موضوعها وهو الشك في التكليف.
    وثانيا : بأن دلالة الاقتضاء على شيء موقوفة على انحصار رفع لغوية الدليل بالحمل عليه ، وليس الأمر هنا كذلك ، لإمكان حمل عموم دليل الأصل

    على ما أشرنا إليه آنفا من عدم فعلية مؤداه في مورد العلم الإجمالي ، لكونه من سنخ المانع ، بل الحمل على ذلك أقرب عرفا من حمل دليل الأصل على رفع فعلية الواقع ، لو فرض إمكانه في نفسه وغض النظر عن الوجه الأول.
    نعم ، لو ورد الترخيص في خصوص مورد العلم الإجمالي المنجز كان حمله على رفع فعلية التكليف الواقعي بدلالة الاقتضاء متعينا.
    ولكنه يكون ترخيصا واقعيا لا ظاهريا كما هو مفاد الأصل.
    هذا ، وقد يشكل ما ذكرنا في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السّلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (1) ، فإن فرض التقسيم فيه للحلال والحرام ، الظاهر في كونه منشأ الاشتباه ، ثم جعل الغاية للحل معرفة الحرام المفروض اشتباهه ظاهر في إرادة العلم الإجمالي ، وفي فعلية الترخيص في أطرافه ، وتوقف التنجيز على العلم التفصيلي بالحرام.
    لكنه حيث كان باطلاقه منافيا لما عرفت من فعلية الواقع في حال الجهل به ومنجزية العلم الإجمالي الذاتية تعين حمله على خصوص العلم الإجمالي غير المنجز ، لعدم انحصار الشبهة ، المستلزم لعدم الابتلاء ببعض الأطراف.
    كما يشير إليه ورود المضمون المذكور في خبر عبد الله بن سليمان الوارد في الجبن ، ومرسل معاوية بن عمار الوارد في الجبن وغيره (2) ، لوضوح أن المراد بهما إهمال احتمال حرمة بعض أفراد النوع ، مع وضوح عدم الابتلاء بتمام أفراد النوع.
    بل ذلك كالصريح من خبر أبي الجارود : «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 12 ، باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح : 1.
    (2) الوسائل ، ج 17 ، باب : 4 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح : 1 و 7.

    فقلت له : أخبرني من راى أنه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل. والله إني لاعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان» (1).
    ويناسبه ما تضمن منجزية الشبهة المحصورة ، كالنصوص الواردة في الإناءين المشتبهين (2) والثوبين المشتبهين (3) والشاة الموطوءة المشتبهة في الغنم (4).
    وكيف كان ، فلا مجال للخروج عما عرفت من القاعدة ، ولو ورد ما ينافيها لزم طرحه ، أو حمله على رفع فعلية الحكم الواقعي في حال الجهل ، لخصوصية في مورده ، لانحصار الأمر بذلك بعد فرض حجية العلم ذاتا.
    وأما توهم : أن العمل بالأصل لا ينافي منجزية العلم الإجمالي لو كان ارتكاب الأطراف تدريجيا ، لعدم العلم بحرمة كل طرف حين ارتكابه ، ليكون تنجزه مانعا من جريان الأصل فيه ، وغاية ما يلزم هو العلم بالمخالفة بعد ارتكاب كلا الطرفين ، ولا محذور فيه ما دام التكليف غير منجز حينها.
    فمندفع : بأن المحذور ليس في الارتكاب نفسه بعد فرض الترخيص الظاهري ، بل في نفس الترخيص الظاهري ، لفرض أن الترخيص في تمام الأطراف غير تدريجي ، لدخولها في أدلة الاصول في عرض واحد ، ومن الظاهر منافاة الترخيص الفعلي الظاهري في تمام الأطراف لتنجز التكليف المعلوم بالإجمال المقتضي لحرمة مخالفته القطعية ، فلا بد من الالتزام بعدم فعلية مفاد
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 17 ، باب : 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح : 5.
    (2) الوسائل ، ج 1 ، باب : 8 من أبواب الماء المطلق ، ح : 2 و 14.
    (3) الوسائل ، ج 2 ، باب : 64 من أبواب النجاسات ، ح : 1.
    (4) الوسائل ، ج 16 ، باب : 30 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح : 1 و 4.

    الاصول في الأطراف حينئذ.
    نعم ، لو فرض كون الترخيص تدريجيا ، لاختلاف زمان الابتلاء بالأطراف ، بحيث لا يبتلى بكل طرف إلا بعد المخالفة في غيره ، أو قبل الابتلاء بغيره لم يمتنع جريان الاصول في الجميع بنحو التدريج ، لعدم منافاة للعلم الاجمالي ، بل لا يكون العلم الإجمالي حينئذ منجزا ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
    هذا ، وإلى ما ذكرنا من المحذور يرجع ما قيل في وجه عدم جريان الاصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف من لزوم الترخيص في المعصية ، إذ لا يراد بالمعصية إلا مخالفة التكليف المنجز.
    ثم إن ما ذكرنا وإن كفى في محل الكلام ، إلا أن المناسب التعرض للضابط العام في امتناع جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي.
    فنقول : المحذور المذكور وإن اختص بالعلم الإجمالي بالتكليف ، إلا أنه لما كان الملاك فيه هو حجية العلم الذاتية غير القابلة للرفع ، كان اللازم تعميم المنع من جريان الاصول لكل مورد ينافي حجيته ، بنحو يمتنع فعلية جريانها معها ، سواء وافقته عملا أم خالفته ، وسواء تعلق العلم بالتكليف أم بغيره من الأحكام.
    فمثلا : لو علم إجمالا باستحباب أحد أمرين ، امتنع جريان الأصل النافي للاستحباب فيهما معا ، وإن لم يلزم منه ترخيص في المعصية ، لأن العلم باستحباب أحدهما لما كان يترتب عليه العمل بالإضافة للاستحباب المعلوم بالإجمال بمقتضى ذاته ، فهو ينقح موضوع حسن الطاعة بملاك تنقيح العلم بالوجوب لموضوع وجوبها ، لم تنهض الاصول برفع ذلك.
    ومن ثمّ حكموا بأنه لو علم ببطلان إحدى النافلتين لم تجر قاعدة الفراغ فيهما.

    كما أنه لو علم بإباحة أحد أمرين وحرمة الآخر فكما يمتنع جريان الأصل النافي للحرمة فيهما معا ، للزوم الترخيص في المعصية ، كذلك يمتنع جريان الأصل المثبت للحرمة فيهما معا ، لأن الغرض من الأصل المذكور إن كان محض لزوم اجتنابهما فهو مما يترتب عقلا بسبب العلم بحرمة أحدهما إجمالا ـ بناء على لزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ فيلغو جعل الأصل بلحاظه. وإن كان الغرض من الأصل تنجيز احتمال التكليف في كل منهما ، بحيث يكون تركه بملاك المعصية ، لا لمحض الاحتياط في التكليف الواحد الذي يقتضيه العلم الإجمالي بنفسه. فهو مناف للعلم الإجمالي بإباحة أحدهما ، وأنه ليس الحرام إلا أحدهما ولا عقاب إلا عليه.
    وبعبارة اخرى : لما كان الحكم الظاهري طريقيا في طول الحكم الواقعي فاطاعته لا تجب إلا من حيث كونها إطاعة للحكم الواقعي المحتمل في مورده ، فمع فرض العلم بوحدة التكليف الواقعي لا معنى لحكم العقل بإطاعة التكليف الظاهري في كل منهما بملاك كونها إطاعة للتكليف المحتمل في مورده ، بل ليس له إلا حكم واحد بإطاعة التكليف الواقعي الواحد المردد بين الطرفين ، وهو يرجع إلى لزوم الاتيان بكل من الطرفين احتياطا الذي هو مقتضى العلم الإجمالي ، ويلغو جعل الأصل حينئذ.
    نعم ، لو فرض عدم العلم بإباحة أحد الطرفين ، بل دار الأمر بين حرمتهما معا وحرمة أحدهما ، كان الأصل المثبت للتكليف في كل منهما موردا للأثر ، لاقتضائه الاجتناب عنه من حيث كونه بنفسه إطاعة للتكليف المنجز فيه ، لا من حيث كونه احتياطا في التكليف الواحد الذي اقتضاه العلم الإجمالي المفروض ، وليس الأثر المذكور منافيا لعلم في المقام حجة بالذات.
    وكذا لو فرض ترتب الأثر على الأصل الجاري في بعض الأطراف بالنحو الذي لا يقتضيه العلم الإجمالي ، كما لو كان لأحد الإنائين المعلوم طهارة

    أحدهما ونجاسة الآخر ملاق ، فإن العلم الإجمالي لما لم يقتض الاجتناب عنه كان لاستصحاب نجاسة الملاقى أثر عملي مصحح لجريانه ، وليس الأثر المذكور منافيا للعلم الإجمالي ليمنع من جريانه ، بخلاف ما لو كان لكل منهما ملاق ، لأن العلم الإجمالي الملاقيين مانع من جريان الأصل في الطرفين لعين الملاك المتقدم.
    نعم ، يجري الأصل في الطرفين معا في مثل من توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، فإن أثر الأصل في كل طرف لا ينافي العلم الإجمالي عملا ليمنع من جريانه ، ولا يستند له ليلغو جريانه.
    وبالجملة : لا بد في جريان الأصل من ترتب العمل عليه بنحو لا يترتب على العلم ، ولا ينافيه عملا ، إذ لو كان مترتبا على العلم كان التعبد بالأصل لغوا ، وان كان منافيا له كان العلم مانعا منه لحجيته ذاتا ، ولا يختص ذلك بما إذا لزم الترخيص في المعصية ، بل ليس محذور الترخيص في المعصية إلا من صغريات ذلك.
    ثم إن سيدنا الأعظم قدّس سرّه قد رتب على ذلك أنه لو علم إجمالا بحرمة شيء واستحباب آخر امتنع الرجوع لأصالة البراءة في محتمل الحرمة وسائر القواعد النافية للتكليف عقلية كانت أو شرعية ، لأن العلم الإجمالي بيان على الواقع مصحح للعقاب على مخالفته.
    وقد ذكر ذلك في مباحث خلل الوضوء من مستمسكه (1).
    وكأن الوجه في ذلك : أن حجية العلم الإجمالي في المقام تقتضي تنجيز المعلوم بالإجمال على إجماله ، فيجب الفراغ عن الحرمة التي يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، لتنجزها بذلك ، ويمتنع مع ذلك الرجوع للقواعد
    __________________
    (1) راجع ج : 2 المسألة : 42 و 44 من فصل شرائط الوضوء.

    الظاهرية المرخصة فيها.
    وفيه : أن العلم الإجمالي وإن كان حجة ومقتضيا للعمل ـ كما تقدم ـ إلا أنه مع فرض وجود جهة مشتركة في مقام العمل بين الأطراف فهو إنما يقتضي العمل بالنحو المشترك بينها ، لأنه المتيقن ، لا بالنحو المختص ببعضها ، ليمنع من الأصل المنافي له.
    فحيث كان وجوب الإطاعة عقلا من شئون الحكم الإلزامي المعبر عنه بالتكليف ، ورجحانها من شئون الحكم الاقتضائي وإن لم يكن إلزاميا فالعلم الإجمالي إن تعلق بوجوب أحد أمرين أو حرمته اقتضى وجوب الإطاعة لاحراز موضوعها ، وإن تعلق باستحباب أحد أمرين أو كراهته اقتضى رجحانها ، وإن تعلق بوجوب أمر أو حرمته واستحباب آخر أو كراهته لم يكن وجه لاقتضائه وجوب الإطاعة ، لعدم العلم بموضوعه ـ وهو التكليف ـ بل ينبغي الاقتصار على رجحانها ، للعلم بتحقق موضوعه ، وهو الحكم الاقتضائي الاعم ، وحينئذ لا وجه لمنع العلم الإجمالي المذكور من الرجوع للقواعد الظاهرية الشرعية والعقلية المقتضية للترخيص ورفع الحرج بالإضافة لاحتمال التكليف بعد فرض تحقق موضوعها وهو الشك.
    هذا ، وقد صرح قدّس سرّه في مباحث خلل الصلاة (1) بأن العلم الإجمالي في الفرض المذكور لا يكون بيانا على التكليف فلا يمنع من الرجوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إلا أنه يمتنع معه الرجوع للأصل الشرعي ـ كأصالة الحل ـ لأن مفاده حكم طريقي ، والعلم الإجمالي ـ كالعلم التفصيلي ـ رافع لموضوع الحكم الطريقي ، للزوم التناقض ونقض الغرض وغير ذلك مما يمنع من جعل الحكم
    __________________
    (1) راجع المسألة : 21 من ختام خلل الصلاة ومقتضى ما حكى عن نسخته المخطوطة إن هذا الوجه هو الذي بنى عليه أولا ، وانه قد عدل عنه الى ما سبق. (منه ، عفى عنه).

    الظاهري مع العلم.
    وفيه : أن العلم الإجمالي إن كان منجزا لاحتمال التكليف في الفرض كان رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كما ذكره قدّس سرّه أولا.
    وإلا لم يمنع من الرجوع للاصل الشرعي النافي له ، كما في سائر موارد جعل الحكم الظاهري الملازم لاحتمال مخالفة الحكم الواقعي غير المنجز.
    والحاصل : أن عموم حجية العلم الإجمالي في الأحكام التكليفية وغيرها إنما يمنع من الرجوع للاصول الشرعية والعقلية مع منافاتها عملا لمقتضى العلم الإجمالي ، لا في مثل المقام مما كان العلم الإجمالي قاصرا عن اقتضاء العمل بنحو ينافي الأصل.
    ومن هنا قد يتجه ما ذكره السيد الطباطبائي قدّس سرّه في العروة الوثقى من أنه لو توضأ المكلف وضوءين ، وصلى بعد أحدهما فريضة وبعد الآخر نافلة ، وعلم إجمالا بالحدث بعد أحد الوضوءين بالنحو المستلزم لبطلان إحدى صلاتيه ، فلا تجري قاعدة الفراغ ، لا في الفريضة ولا في النافلة ، بل تجب إعادة الفريضة وتستحب إعادة النافلة. وأقره على ذلك جماعة من المحشين المعاصرين.
    للفرق بأن قاعدة الفراغ لا تختص بالفريضة ، بل هي كما تقتضي عدم وجوب الإعادة فيها تقتضي عدم استحبابها في النافلة ، فتنافي العلم الإجمالي المذكور عملا ، وكذا الحال في سائر الاصول المنافية عملا لمقتضى العلم الإجمالي ، سواء كانت من سنخ واحد ـ كالاستصحابين ـ أم من سنخين إذا فرض التعارض بينها في الأطراف. بخلاف أصل البراءة فانه مختص بنفي التكليف ، فلا ينافي العلم الإجمالي في الفرض المتقدم ، لأنه لا يقتضي الإلزام ، كما ذكرنا.
    لكن الفرق المذكور إنما يمنع من جريان قاعدة الفراغ بناء على أن مفاد الاصول والقواعد الترخيصية الظاهرية ـ ومنها قاعدة الفراغ ـ إثبات الرخصة

    مطلقا ومن جميع الجهات ، بنحو تنافي العلم الإجمالي المقتضي للعمل ، حيث لا بد حينئذ من قصور أدلتها تخصيصا أو تخصصا عن شمول الأطراف ، أما بناء على ما سبق من أن مقتضى أدلة الاصول جعل مضمونها من ترخيص أو غيره من حيثية موضوعها وهو الشك ، لا مطلقا ، فلا تنافي العمل بالعلم الإجمالي ، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في المقام.
    وتوضيحه : أن المقتضي للإعادة أمران :
    الأول : قاعدة الاشتغال في كل من الصلاتين ، لأن الشك إنما هو في امتثال التكليف والفراغ عنه بعد إحرازه.
    الثاني : العلم الإجمالي ببطلان إحدى الصلاتين المستلزم للعلم بثبوت أحد الحكمين.
    وليس مفاد قاعدة الفراغ إلا إهمال الشك من الحيثية الاولى ، وأن الشك في الامتثال لا يعتنى به من حيثية كونه شكا بعد الفراغ ، وهو لا ينافي الإعادة من الحيثية الثانية ، وهي حيثية العلم الإجمالي.
    وحيث عرفت أن العلم الإجمالي بثبوت الوجوب أو الاستحباب لا يقتضي تنجيز احتمال الوجوب بنحو يلزم بالعمل ، بل هو حجة في إثبات أصل المشروعية والحكم الاقتضائي بالمعنى الأعم ، المقتضي لرجحان العمل وحسن الاحتياط ، فلا مجال للبناء في المقام على لزوم إعادة الفريضة ، بل غاية الأمر رجحان إعادة كل من الصلاتين.
    وبعبارة اخرى : وجوب إعادة الفريضة في المقام إن كان من جهة العلم الإجمالي ، فقد عرفت أنه لا ينجز احتمال الوجوب في مثل ذلك.
    وإن كان من جهة قاعدة الاشتغال للشك في الامتثال مع إحراز التكليف ، فلا مجال لها مع عموم أدلة قاعدة الفراغ المقتضية لالغاء الشك المذكور في كل من الصلاتين وعدم وجوب الإعادة من حيثيته ، وقد تقدم أن ذلك لا ينافي العمل بالعلم الإجمالي من حيثيته. فتأمل جيدا.

    المقام الثاني : في الموافقة القطعية
    والمعروف المشهور وجوبها في المقام ، وعن بعض دعوى الإجماع عليه ، وإن كان القول بجواز تركها والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية محكيا عن بعض ، وليس هو شاذا كإنكار حرمة المخالفة القطعية.
    وكيف كان ، فجواز ترك الموافقة القطعية ..
    إما أن يكون لدعوى : قصور العلم الإجمالي عن اقتضائها.
    أو لدعوى وجود المانع بعد فرض تمامية اقتضائه لها في نفسه.
    أما الاولى فيظهر اندفاعها مما تقدم في مباحث القطع ، من أن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز ، وما تقدم في التمهيد لمحل الكلام من أن تنجيز التكليف يقتضي بحكم العقل لزوم إحراز الفراغ عنه المساوق لوجوب الموافقة القطعية ، وهو المراد بقاعدة : (ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
    وقد يظهر خلاف ذلك ، مما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن المحققين الخونساري والقمي قدّس سرّهما حيث ذكرا في دوران الواجب بين أمرين أن الدليل إذا دل على وجوب شيء معين في الواقع مردد عندنا ـ كما في اختلاف الامة على قولين ـ حرم ترك كلا الأمرين ، للعلم بحصول العقاب به ، وجاز الاكتفاء بأحدهما في الخروج عن العقاب ، لعدم الدليل على وجوب الجمع بينهما حينئذ.
    بل ذكر المحقق القمي قدّس سرّه أن التكليف بالأمر المجمل على إجماله مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهل العدل على استحالته.
    نعم ، ذكرا أنه لو فرض دلالة الدليل على وجوب الشيء المعين في الواقع من دون اشتراطه بشيء من العلم كان الواجب الاحتياط بالجمع بين المحتملين.

    إلا أن المحقق القمي قدّس سرّه قال : «ولكن من أين هذا الفرض وأنى يمكن إثباته؟».
    وظاهرهما أن وجوب الموافقة القطعية هو المحتاج إلى الدليل ، وأن مجرد التكليف إجمالا لا يقتضيه ، بل غاية ما يقتضي المنع عن المخالفة القطعية.
    ولا يخفى اضطراب كلامهما ، كما أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تعقيبه ، فإنه إن كان مرادهما أن الأصل في الواجب أن يكون مشروطا شرعا بالعلم ، وأن التكليف به على إجماله محتاج إلى دليل.
    فيدفعه : أن أخذ العلم في الواجب وإن كان ممكنا في الجملة ، ولو بنحو نتيجة التقييد ، إلا أنه خلاف إطلاق الأدلة ، وخلاف ظاهر أدلة الاصول ، كما أشرنا إليه في المقام الأول ، بل خلاف الإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.
    وعليه يكون الأصل في الواجب عدم الاشتراط بالعلم ، من دون حاجة إلى دليل خاص ليتسنى إنكاره من المحقق القمي قدّس سرّه.
    وإن كان المدعى أن الواجب شرعا وإن كان مطلقا ، إلا أن العلم به على إجماله لا يقتضي تنجيزه عقلا بالنحو المقتضي لوجوب الفراغ عنه.
    فهو مخالف لما عرفت من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز بالنحو المقتضي لوجوب الامتثال ، ووجوب إحرازه عند الشك فيه عقلا.
    ودعوى : أنه لما كان العلم الإجمالي عبارة عن العلم بوجوب أحدهما فهو لا يقتضي إلا تنجيز أحدهما بالنحو المقتضي لعدم تركهما معا ، دون ما زاد عليه من الخصوصية ، لعدم المنجز لها بعد الجهل بها ، فالامتثال بأحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز ، وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.
    مدفوعة : بأن تنجيز العلم على حسب الواقع المعلوم ، والمفروض أن التكليف المعلوم مشتمل على إحدى الخصوصيتين ، فالخصوصية معلومة على

    إبهامها إجمالا ، فيلزم إحراز الفراغ عنها.
    وليس التكليف المعلوم واردا على أحدهما ، ليتنجز أحدهما معرى عن الخصوصية ، وإلا كان علما تفصيليا بوجوب أحد الأمرين ، كما في الواجب التخييري ، لا علما إجماليا ، كما هو المفروض.
    هذا ، مضافا إلى أن ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في وجه امتناع التكليف بالأمر المجمل من استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة مناف لما ذكراه من فرض دلالة الدليل على وجوب الشيء المعين من دون اشتراطه بالعلم ، الظاهر في إمكانه ثبوتا وإن احتاج في مقام الاثبات إلى الدليل.
    مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ لو فرض كونه علة تامة في القبح بحيث لا يرتفع قبحه بالمزاحمة ـ مختص بالإجمال الناشئ من قبل الشارع ، دون ما ينشأ من الطوارئ الخارجية كظلم الظالمين ، وكذب المفترين ، وخطأ الرواة والمجتهدين.
    بل لا يبعد اختصاصه بما يوجب توهم خلاف الواقع في مقام العمل ، كالعام المراد به الخصوص ، دون ما لا يوجب إلا إجمال الحال ، الموجب للتخير بدوا ، ثم الرجوع للقواعد العقلية والشرعية المقتضية للبراءة أو الاحتياط ، كما في المقام.
    اللهم إلا أن يكون المراد بتأخير البيان عن وقت الحاجة الإشارة إلى قبح العقاب من غير بيان ، فيراد بوقت الحاجة ما يساوق التنجيز المصحح للعقاب.
    لكن يشكل حينئذ : بأنه يكفي في البيان الرافع للقبح المذكور العلم الإجمالي ، بعد ما عرفت من منجزيته عقلا بالنحو المقتضي لوجوب الموافقة القطعية.
    وبالجملة : ما ذكراه لا يرجع إلى محصل ظاهر يمكن الركون إليه في الخروج عما ذكرنا من تمامية المقتضي لوجوب الموافقة القطعية في المقام.

    وأما الثانية ، فلا منشأ لها إلا توهم كون ذلك مقتضى أدلة الاصول بعد امتناع جريانها في تمام الأطراف ، فاللازم النظر في صلوح أدلة الاصول لذلك وعدمه.
    وتوضيحه : أنه تقدم في التمهيد لمحل الكلام أن وجوب الموافقة القطعية راجع إلى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، المعبر عنه ب (قاعدة الاشتغال) ، وأن رفع اليد عنه بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية يتوقف على أحد امور ..
    الأول : رفع موضوع القاعدة المذكورة ، إما برفع فعلية التكليف في فرض الشك في امتثاله ، بحيث يكون الشك المذكور رافعا للتكليف على تقدير عدم امتثاله ، أو برفع تنجيزه حينئذ.
    الثاني : تحقيق مقتضاها بالتعبد بما يحرز الامتثال ، بنصب الطريق إليه أو جعل الأصل العملي فيه.
    وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من جواز الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي بنحو جعل البدل الظاهري ، بأن يكون مراده به التعبد بأنه الحرام المعلوم بالإجمال الذي يكون امتثاله بمراعاته ، وأن الطرف المرخص فيه غيره.
    وإلا فلا معنى لجعل البدل الظاهري بمجرد تحريم أحد الطرفين والترخيص في الآخر ، مع المحافظة على لزوم إحراز الفراغ الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال ، بل لازمه عدم لزوم إحراز الفراغ اليقيني ، مع أن ظاهره المفروغية عن لزومه وعدم جواز الخروج عنه.
    وبعبارة اخرى : تفسير جعل البدل بما ذكرنا وإن كان هو صريح كلام

    بعضهم ، إلا أن كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه غير صريح فيه (1) ، بل قد يظهر منه أنه عبارة عن مجرد المنع من بعض الأطراف والترخيص في بعضها ، وإنما يتعين حمل كلامه على ما ذكرنا بضميمة ظهور كلامه في لزوم إحراز الفراغ ، وهو لا يحرز بمجرد المنع عن بعض الأطراف ، بل لا بد من ابتنائه على ما ذكرنا.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الترخيص في بعض الأطراف ـ ولو لاختصاص الأصل الشرعي المرخص لبعضها ـ يستلزم بدلية الآخر قهرا ، وانه كاف في تحقق الفراغ التعبدي الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال نظير الفراغ التعبدي بمقتضى قاعدة التجاوز والفراغ.
    فيندفع : بأن مجرد الترخيص من دون نظر للمعلوم بالإجمال لا يرجع إلى التعبد بالفراغ عنه ، لوضوح أن الفراغ عن التكليف متفرع عنه ووارد عليه ، فلا بد من نظر دليل التعبد بالفراغ للتكليف الذي يراد الفراغ عنه وامتثاله ، كما ذكره شيخنا الاستاذ.
    أما مجرد الترخيص من دون نظر للتكليف المنجز ولا شرح لإجماله فهو عبارة اخرى عن الترخيص في المخالفة الاحتمالية ، والردع عن وجوب الموافقة القطعية الذي يأتي الكلام فيه ، وهو راجع إلى رفع اليد عن مقتضى قاعدة الاشتغال لا تحقيق مقتضاها. فلاحظ.
    الثالث : الردع عن وجوب إحراز الامتثال والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، بناء على ما تقدم منا من أن حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال اقتضائي قابل للردع.
    أما الأول فلا مجال لاستفادته من أدلة الاصول ، لما تقدم في المقام الأول ، من أنها واردة في مقام تنجز التكليف وجعل الوظيفة العملية فيه بعد الفراغ عن
    __________________
    (1) ربما يستظهر هذا من بعض كلماته قدّس سرّه فراجع. (منه. عفى عنه).

    فعليته ثبوتا.
    كما تقدم أيضا امتناع الردع عن منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي ، لأنها من شئون حجيته الذاتية. ولا سيما مع ظهور بعض أدلة الاصول في المفروغية عن حجية العلم.
    وكذا الحال في الثاني ، لوضوح أن أدلة الاصول ظاهرة في رفع التكليف الواقعي في مقام التنجيز ، وهو يقتضي رفع التكليف في تمام الأطراف بمقتضى عموم أدلتها ، بعد فرض تحقق موضوعها فيها ، وهو يستلزم جواز المخالفة القطعية ، ولا نظر فيها للمعلوم بالإجمال والتعبد بتعيينه في بعض الأطراف لتكون مراعاته امتثالا تعبديا للمعلوم بالإجمال محققا لمقتضى قاعدة الاشتغال ، بل ذلك محتاج إلى بيان آخر نظير أدلة القرعة الظاهرة في رفع الإجمال بها. وأين ذلك من مفاد أدلة الاصول الظاهرية؟!.
    إن قلت : احتمال الحلية في أطراف العلم الإجمالي ليس كاحتمالها في موارد الشبهة البدوية ، فإن احتمالها في موارد الشبهة البدوية في عرض واحد ، فيكون مفاد أدلة الحل والبراءة الترخيص فيها كذلك.
    أما احتمالها في أطراف العلم الإجمالي فهو بنحو آخر ، لأن احتمال الحلية في كل منها راجع إلى احتمال الحرمة في الآخر ، فإعمال أدلة البراءة والحل في كل منها كما يقتضي الترخيص فيه يقتضي البناء على الحرمة في الآخر ، ولا يقتضي الترخيص في الجميع ليستلزم المخالفة القطعية. بل يكون المحصل من ذلك هو البناء على حرمة أحد الأطراف تخييرا. وربما يكون ذلك هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تقريب جعل البدل الظاهري في المقام.
    قلت : هذا الوجه لو تم لا يقتضي دلالة أدلة الاصول على جعل البدل الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ، لما عرفت من لزوم ابتنائه على التعبد بتعيين المعلوم بالإجمال المستلزم للتعبد بتحقق الامتثال بمراعاة بعض

    الأطراف ، كي لا يكون التعبد به منافيا للزوم إحراز الفراغ ، وهذا الوجه لا يتضمن إلا مجرد الترخيص في بعض الأطراف والمنع عن بعضها ، من دون أن يتضمن تعيين المعلوم بالإجمال ، لعدم النظر في أدلة الاصول إلى تعيين الواقع المجهول وشرحه ، كما أشرنا إليه.
    وتوهم : أن التعبد بالحرمة ظاهرا في بعض الأطراف تخييرا وإن لم يوجب تعيين المعلوم بالإجمال ، إلا أنه موجب لانحلال العلم الإجمالي وعدم تنجيزه ، وهو كاف في المقام.
    مدفوع : بأن العلم الإجمالي إنما ينحل بالتعبد بالتكليف في بعض الأطراف تعيينا ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مورد التعبد الموجب لعدم الأثر للتكليف المعلوم بالإجمال.
    أما التعبد بالحرمة تخييرا فلا يكفي في حل العلم الإجمالي ، للعلم بعدم انطباق موضوع التعبد على المعلوم بالإجمال بعد فرض قيام المعلوم بالإجمال بإحدى الخصوصيتين بعينها.
    بل الترخيص الظاهري في كل منهما تخييرا مناف للتكليف المعلوم بالإجمال فيمتنع ، ولذا لا يكون التحريم التخييري الواقعي مانعا من منجزية العلم الإجمالي ، ولا يوجب انحلاله ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إنائي زيد ، وكان زيد قد منع من شرب أحدهما وأجاز شرب الآخر تخييرا.
    هذا بناء على رجوع الوجه المذكور إلى التعبد بالترخيص والمنع التخييريين ، أما بناء على ما يأتي من أنه لا بد من رجوعه إلى المنع عن أحدهما والترخيص في الآخر تعيينا لكن بشرط الاختيار ، فيكون الاختيار بين الشكين شرطا في المنع التعييني لا من آثار المنع التخييري ، فالتعبد بالمنع المذكور وإن كان صالحا لحل العلم الإجمالي ، إلا أنه لا يصلح لحل العلم الإجمالي في المقام ، لتأخره عنه العلم الإجمالي رتبة وزمانا ، لوضوح أن اختيار إعمال دليل الأصل

    في أحد الشكين متأخر عن حدوث الشك ، وحيث أن الشك بالوجه المذكور من لوازم العلم الإجمالي ، يكون التعبد متأخرا عن العلم الإجمالي ولا يصلح لحله. فتأمل جيدا.
    هذا كله مع أن الوجه المذكور غير تام في نفسه ..
    أولا : لأنه إن اريد به التلازم بين احتمال الحل في بعض الأطراف واحتمال الحرمة في بعضها الآخر ، فهو مسلم ، للتلازم بين المحتملين ، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل المثبت.
    وإن اريد به وحدة الاحتمال ، فيدفعه : أن المعيار في وحدة الاحتمال وحدة المحتمل ، ومن الظاهر تعدد المحتملين ، وهما الحل والحرمة ، وتعدد متعلقيهما.
    مع أن وحدة الاحتمال لا تكفي في إثبات حرمة الطرف الآخر بعد أن كان مفاد أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة لا غير ، فإن اللازم الاقتصار على مفاد دليل التعبد ، ولا إطلاق له يقتضي التعبد بمؤدى الاحتمال المذكور من جميع الجهات حتى جهة الحرمة في الطرف الآخر.
    وثانيا : لأن ظاهر أدلة الحل والبراءة البناء على الحل والسعة مع احتمالها في جميع مواردهما بنحو العموم الاستغراقي ، وهو يقتضي في المقام التعبد في كل طرف بالضدين ، فيتعين سقوط العموم فيهما معا.
    وحمله في المقام على التخيير بين الاحتمالين لا دليل عليه ولا يناسبه لسان دليل الجعل. ومجرد امتناع الاستغراق هنا لا يعينه ما لم يكن أقرب عرفا من غيره بنحو يعين العرف حمل الإطلاق عليه ، وليس الحال كذلك في المقام.
    وتوهم قياسه على ما إذا علم بعدم وجوب الجمع بين فردين من أفراد العام ودار الأمر بين خروجهما معا وخروج أحدهما تخييرا ، كما لو وجب إكرام العلماء ، وعلم بعدم وجوب الجمع بين إكرام زيد وعمرو ، واحتمل وجوب

    إكرام أحدهما تخييرا ، فإنه يجب البناء عليه ، اقتصارا في مخالفة العموم على المتيقن.
    مدفوع : بالفرق بين المقامين ، فإن الأمر في المقيس عليه يدور بين خروج الفردين عن العموم رأسا وبقائهما معا مع تقييد الحكم فيهما بما يناسب التكليف التخييري ، والثاني أقرب إلى العمل بالعام.
    أما في المقام فلا مجال للحكم التخييري ، لوضوح أنه يلزم في الحكم الظاهري أن يكون قابلا للانطباق على الحكم الواقعي ، بنحو يحتمل إصابته له ، وحيث كان المعلوم بالإجمال هو التكليف التعييني فلا بد من كون التعبد المفروض بحكم تعييني أيضا ، وحيث كان التعبد في كلا الطرفين كذلك مستلزما للتعبد بالضدين ـ كما ذكرنا ـ وتطبيق العام على أحدهما بخصوصه ترجيحا بلا مرجح ، تعين خروج كلا الفردين عن عموم العام بدوا.
    ولا بد أن يكون مرجع التخيير في المقام إلى كون اختيار المكلف لأحد الطرفين شرطا لانطباق العموم عليه ، فلا يكون الموضوع محض الشك ، بل الشك مع الاختيار.
    ومن الظاهر أن أخذ الاختيار في موضوع الحكم محتاج إلى مئونة زائدة غير عرفية.
    فالمقام نظير عموم الحكم الوضعي ـ كالنجاسة ونحوها مما لا يقبل الوجود التخييري ـ لو فرض تعذر عمومه لفردين ، فإن إمكان العمل به في أحدهما مشروطا باختياره وإن كان ممكنا ، إلا أنه ليس عرفيا ، فلا يحمل عليه العموم.
    بل الأقرب عرفا البناء في مثل ذلك على شمول العام لكل منهما اقتضاء مع عدم فعلية حكمه لأجل المحذور المذكور.
    نعم ، لو دل الدليل الخاص على الرجوع للتخيير كان متعينا ، كما ورد في

    من تزوج اختين أو خمسا في عقد واحد (1) ، على كلام لا مجال لاستقصائه.
    إن قلت : أدلة الاصول وإن لم تنهض بتعيين المعلوم بالإجمال ، وجعل البدل فيه ، لعدم النظر فيها إلى الواقع ، إلا أنه لما كان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ممتنعا إلا بجعل البدل ، الراجع إلى تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ولو بسبب بناء المكلف عليه واختياره له ، كان مقتضى عموم أدلة الاصول للأطراف ثبوت اللازم المذكور شرعا ، وجعل البدل وإن لم يكن مقتضى أدلة الاصول مطابقة ، إلا أنها تدل عليه بدلالة الاقتضاء تصحيحا لجريانها في الأطراف الذي هو مقتضى عمومها.
    وربما يحمل كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه في تقريب جعل البدل على ذلك. فراجع.
    قلت : جعل البدل بالنحو المذكور لا يصحح جريان الأصل ، بل يمنع عنه ، لأنه مع فرض إحراز المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يتعبد بعدم التكليف في الآخر ، فلا يحتاج معه للأصل الظاهري الترخيصي ، بل هو نظير الأصل المسببي الذي لا يحتاج إليه مع الأصل السببي.
    نعم ، لو فرض الشك في ثبوت التكليف فيه زائدا على المعلوم بالإجمال احتيج للأصل. لكنه لا يتوقف على جعل البدل ، بل يجري بدونه وإن لم يترتب عليه الأثر بسبب لزوم الاجتناب من جهة العلم الإجمالي.
    هذا ، مع أنه إذا توقف عموم العام لفرد على إعمال عناية زائدة على حكم العام فلا تنهض أصالة العموم بإثبات العناية المذكورة تصحيحا لعمومه له.
    خصوصا مع كون مقتضى ذلك في المقام هو الترخيص التخييري بالوجه المتقدم ، وظاهر العام هو الشمول لتمام الأطراف بنحو الاستغراق ، إذ لا منشأ
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 14 ، باب : 4 من أبواب ما يحرم المصاهرة ، ح : 1 و 2.

    لحجية أصالة العموم إلا بناء العقلاء ، وهو غير ثابت في مثل ذلك.
    بل الأقرب عندهم البناء على تحقق مقتضي حكم العام مع عدم فعليته ، لأجل المانع المفروض ، كما تقدم.
    نعم ، لو فرض ورود الترخيص في خصوص بعض أطراف العلم الإجمالي تعين حمله على جعل البدل بالوجه المذكور لو فرض انحصار إمكان الترخيص به ، رفعا للغوية ، ويكون مفاده مباينا لمفاد الأصل ، بل يكون نظير القرعة الرافعة لإجمال المعلوم.
    وبالجملة : لا مجال لاستفادة جعل البدل من أدلة الاصول ، كما لا مجال لحملها على التعبد بتحقق الامتثال المعلوم بالإجمال ، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال.
    وأما الثالث ـ وهو الردع عن وجوب الموافقة القطعية والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ـ فهو وإن كان ممكنا بناء على ما سبق منا ، إلا أنه لا مجال لحمل أدلة الاصول الترخيصية عليه لانصرافها لبيان رفع التكليف عملا ، الراجع إلى عدم منجزية الاحتمال له ، لا الترخيص في مخالفته الاحتمالية بعد فرض المنجز له من علم ونحوه.
    إن قلت : هذا قد يتم في مثل التكليف التحريمي لو فرض بقاء الابتلاء بجميع أطرافه ، للعلم حينئذ ببقائه ، أما التكليف الوجوبي مع الامتثال الاحتمالي ببعض أطرافه ، أو التحريمي لو طرأ ما يوجب سقوط التكليف عن بعض أطرافه لخروجه عن محل الابتلاء أو انعدامه ـ كما لو اريق أحد الإنائين ـ فلا يعلم ببقائه حينئذ ، بل يكون مشكوكا ، ومقتضى أدلة البراءة رفعه ظاهرا وإن لم يقطع بموافقته ، وهو مستلزم لعدم وجوب إحراز الفراغ عنه والترخيص في مخالفته الاحتمالية على خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال.
    قلت : المنصرف من الشك في أدلة الحل والبراءة وغيرهما هو الشك في

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:38 am

    أصل ثبوت التكليف الذي لا منجز معه عقلا ، لا الشك في ثبوت التكليف الناشئ من احتمال امتثاله أو سقوط التكليف عنه بعد فرض المنجز له ، فإن تنجيزه حينئذ بالعلم السابق الذي لا يمكن الردع عنه ، لا بالشك لتنهض الاصول برفع تنجيزه.
    نعم ، يمكن للشارع الردع عن امتثاله اليقيني بعد فرض تنجزه بالعلم وقد ذكرنا عدم نهوض أدلة الاصول بذلك.
    وبالجملة : أدلة الاصول المذكورة مسوقة مساق قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا بنحو تنافي قاعدة الاشتغال ، ولذا لا يتوهم اقتضاؤها نفي التكليف المحتمل امتثاله مع العلم التفصيلي به ، كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.
    ومن ثمّ لا يكون ما دل على الاعتناء بالشك قبل تجاوز المحل أو قبل خروج الوقت من سنخ المخصص لأدلة الاصول المذكورة.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن ما يصحح الاكتفاء بترك الموافقة القطعية بين ما يمتنع جعله في المقام وما لا تنهض أدلة الاصول به ، فيتعين لذلك البناء على وجوبها ، كما في العلم التفصيلي.
    بقي الكلام في ثمرة ذلك ، فاعلم : أن حرمة المخالفة القطعية إنما تمنع من العمل بالأصل الترخيصي مع تحقق موضوعه في جميع الأطراف ، لامتناع العمل به في جميعها ، لأنه مستلزم للمخالفة القطعية ، وفي البعض المعين ، لأنه ترجيح من غير مرجح ، وفي البعض المخير ، لامتناع التخيير في الحكم الظاهري مع عدمه في الحكم الواقعي ، وعدم الدليل على أخذ الاختيار زائدا على الشك في موضوع الأصل ، كما تقدم عند الكلام في الوجه الأول من وجهي استفادة جعل البدل من أدلة الاصول.
    أما لو اختص موضوع الأصل الترخيصي ببعض الأطراف مع عدم جريان أصل آخر لا ترخيصي ولا إلزامي فلا تصلح حرمة المخالفة القطعية للمنع من

    العمل به ، لعدم لزوم شيء من المحاذير السابقة ، وإنما يمتنع ذلك بناء على وجوب الموافقة القطعية.
    ومن ثمّ صرح غير واحد بامتناع جريان الأصل في الفرض ـ لو وقع ـ خلافا لبعض الأعاظم قدّس سرّه وبعض مشايخنا.
    ودعوى : أن أدلة الاصول وإن لم تنهض بالترخيص في المخالفة الاحتمالية والردع عن وجوب الموافقة القطعية ، إلا أن ذلك لما كان ممكنا عقلا ـ كما تقدم ـ لم يصلح وجوب الموافقة القطعية للمنع من جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف معينا في الفرض المذكور ، بل مقتضى عموم دليل الأصل جواز الرجوع إليه وإن لزم منه المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فهو وإن لم يكن مسوقا للردع عن وجوب الموافقة القطعية إلا أنه يستفاد منه ذلك تبعا.
    مدفوعة : بأن مفاد الأصل ليس إلا رفع منجزية الاحتمال وجعل السعة من حيثية الشك ، فهو لا يقتضي إلا الترخيص في الطرف بخصوصيته من الحيثية المذكورة ، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه من حيثية وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال بعد فرض عدم ثبوت الردع عنه.
    نعم ، لو كان مفاد الأصل الترخيص مع الشك مطلقا ومن جميع الجهات بنحو ينافي وجوب الموافقة القطعية تم ما ذكر.
    إلا أنه تقدم عند الكلام في المخالفة القطعية أنه لا مجال لحمل أدلة الاصول على ذلك.
    وبعبارة اخرى : المستفاد من الأدلة كون موضوع الأصل حيثية تقتضي الترخيص ، كما أن العلم الإجمالي حيثية تقتضي الإلزام ، وعند اجتماعهما تقدم الحيثية الثانية في مقام العمل ، ولا وجه لكون حيثية الأصل رادعة عن مقتضى حيثية العلم الإجمالي بعد عدم كون مفاد الأصل الترخيص من جميع الجهات

    بنحو يمنع من تأثير الحيثيات الاخرى.
    نعم ، لو فرض كون مقتضى الأصل الشرعي أو العقلي في بعض الأطراف معينا هو تنجز احتمال التكليف ، كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي ـ كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ـ فلا يكون منجزا للمعلوم بالإجمال بنحو يمنع عن المخالفة القطعية ، فضلا عن المخالفة الاحتمالية ، فيتجه العمل بالأصل الترخيصي في بعض الأطراف بلا إشكال.
    ومنه يظهر حال ما ذكره بعض مشايخنا من النقض على من يدعي امتناع جريان الأصل في بعض الأطراف ..
    تارة : بما إذا علم إجمالا بملاقاة النجاسة لأحد إناءين أحدهما متيقن النجاسة سابقا.
    واخرى : بما إذا علم المكلف إجمالا بأنه لم يأت بإحدى الصلاتين ، إما صاحبة الوقت أو التي مضى وقتها ، حيث أنه في الأول لا إشكال في جريان أصالة الطهارة أو استصحابها في الاناء الذي لا يعلم نجاسته سابقا ، وفي الثاني لا ريب في جريان قاعدة الحيلولة في التي مضى وقتها ، وإن لزم منهما المخالفة الاحتمالية.
    فإنه يندفع : بانحلال العلم الإجمالي في الأول باستصحاب النجاسة في متيقنها سابقا ، وفي الثاني بقاعدة لزوم الاعتناء بالشك قبل خروج الوقت بالإضافة إلى صاحبة الوقت ، فلا منجز فيهما للمعلوم بالإجمال حتى يجب الفراغ عنه.
    ونظير ذلك : ما لو كان ثبوت التكليف في بعض الأطراف من آثار نفيه في الطرف الآخر شرعا ، بحيث يكون الأصل النافي فيه صالحا للتعبد بالتكليف في صاحبه ، كما لو احتمل واجد مقدار الاستطاعة ثبوت دين في ذمته يمنع منها ، حيث يعلم إجمالا بوجوب أحد الأمرين من الحج ووفاء الدين ، إلا أن

    استصحاب عدم تحقق الدين لما كان منقحا للاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي المذكور.
    هذا ، وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في وجه إمكان جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف معينا لو اختص به موضوعه ..
    تارة : من كونه موجبا لكون الطرف الآخر بدلا قهريا عن المعلوم بالإجمال وبه يحصل الفراغ التعبدي عنه.
    واخرى : من كونه موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، لأن العلم الإجمالي كما ينحل بالمنع من بعض الأطراف ، ينحل بالترخيص في بعضها ، لأن الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ، ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمن.
    فيندفع بكلا وجهين ..
    أما الأول ، فلأن الترخيص في بعض الأطراف لا يكفي في كون الآخر بدلا عن المعلوم بالإجمال ، ولا في حصول الفراغ التعبدي ، ما لم يكن ناظرا للمعلوم بالإجمال وشارحا له ، كما تقدم في أول الكلام في جعل البدل.
    وأما الثاني فلأن الأصل الجاري في بعض الأطراف إنما يوجب التأمين عنه من حيث كونه مشكوكا ، ولا يوجب التأمين عن التكليف المعلوم بالإجمال المنجز في نفسه بعد عدم نظره إليه ولا شرحه لإجماله.
    بل الطرف المذكور من ناحية المعلوم بالإجمال كالطرف الآخر الذي لا يجري فيه الأصل ، فإن الإقدام على كل منهما موجب لاحتمال الوقوع في مخالفته ، فمع فرض تنجز المعلوم بالإجمال ، ولزوم إحراز الفراغ عنه يتعين الاجتناب عن كلا الطرفين ، المستلزم لعدم العمل بالأصل الترخيصي الجاري في بعض الأطراف.
    هذا ، مضافا إلى اختلاف مبنى الوجهين ، لابتناء الأول على منجزية العلم

    الإجمالي مع اقتضاء الأصل التعبد بالامتثال الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال ، وابتناء الثاني على عدم منجزية العلم الإجمالي بسبب انحلاله ، فلا موضوع للقاعدة.
    ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن العلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكما يجوز أن يكتفي الشارع مع العلم التفصيلي بالامتثال الاحتمالي ـ كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ـ كذلك يجوز له الاكتفاء به مع العلم الإجمالي بطريق أولى.
    لاندفاعه : بأنه إن اريد من الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي التعبد بالفراغ في ظرف الاحتمال ـ كما يظهر منهم في مورد قاعدة الفراغ ـ فقد تقدم عدم صلوح الأصل له. وإن اريد به الاكتفاء به مطلقا ولو مع عدم التعبد بالفراغ فهو وإن كان ممكنا ـ كما تقدم منا ـ إلا أن أدلة الاصول لا تنهض به ، كما عرفت.
    هذا ، مضافا إلى النقض على ذلك بما أشار إليه بعض الأعاظم قدّس سرّه ، وهو ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما متيقن الطهارة سابقا دون الآخر ، فإن استصحاب الطهارة في متيقنها يعارض بأصالة الطهارة في الآخر ، وبعد تساقطهما تتعارض أصالة الطهارة في الأول مع أصالة الحل في الآخر ، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول بلا معارض ، فيلزم جواز ارتكابه ، مع أنه لا مجال للالتزام به.
    وقد أجاب قدّس سرّه عن ذلك : بأن ملاك التعارض بين الاصول لما كان هو تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها وكان مفاد استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة واحدا لزم سقوطهما معا بالمعارضة لأصالة الطهارة في الإناء الآخر.
    ومجرد حكومة الاستصحاب في مورده على قاعدة الطهارة لا يوجب سقوط استصحاب الطهارة أولا ، ثم انفراد أصالة الطهارة فيه بالجريان.
    ومن ثمّ ذكر قدّس سرّه أنه لم يعثر على مورد لجريان الأصل في بعض الأطراف

    دون الآخر.
    لكن ما ذكره قدّس سرّه لا يناسب مسلكه في تقدم الاصول الحاكمة على المحكومة ، كما ذكره شيخنا الاستاذ (دامت بركاته).
    ولا ينبغي تطويل الكلام في ذلك بعد ما تقدم مما يقتضي المنع عن العمل بالأصل في الفرض.
    بقي الكلام في ما نقله شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن بعضهم من الرجوع للقرعة في المقام.
    فاعلم : أنه لا ريب في صلوح القرعة لتمييز المعلوم بالإجمال وشرحه بنحو يرجع إلى التعبد بالامتثال في بعض الأطراف ، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال ، والذي تقدم أن جعل البدل راجع إليه.
    ولا فرق في ذلك بين كونها من الطرق وكونها من الاصول ، لأن الأصل إنما لا يصلح لتشخيص المعلوم بالإجمال إذا تمحض في تشخيص الوظيفة العملية من دون نظر للواقع ، أما إذا كان ناظرا إليه وواردا لشرحه فاللازم العمل به على حسب مقتضاه.
    ولعله لذا ورد الإرجاع للقرعة في مورد العلم الإجمالي في ما روي عن محمد بن عيسى عن الرجل عليه السّلام ، أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة ، قال : «إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سايرها» (1).
    هذا ، ولم ينقل شيخنا الأعظم قدّس سرّه القول بالرجوع للقرعة إلا في الشبهة الموضوعية التحريمية ، وربما يتعدى عنها للشبهة الموضوعية الوجوبية ، وأما الشبهة الحكمية فقد ادعى المحقق الخراساني قدّس سرّه الإجماع على عدم الرجوع
    __________________
    (1) الوسائل ، ج 16 ، باب : 4 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح : 1.

    فيها للقرعة ، وظاهر غير واحد ممن تأخر عنه التسالم على ذلك.
    ويشهد به المعلوم من سيرة الأصحاب في الاصول والفقه من عدم كون القرعة من أدلة الأحكام.
    وحينئذ يقع الكلام في وجه الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية خروجا عما عرفت من القاعدة المقتضية للاحتياط ، وهو موقوف على النظر في عموم أدلة القرعة ونهوضها بالحجية في المقام فنقول :
    نصوص القرعة على طوائف ثلاث
    الاولى : ما تضمن الارجاع لها في موارد خاصة ، هي بين ما لا تعين فيه للواقع ، مثل من أوصى بعتق ثلث مماليكه (1) ، أو نذر عتق أول مملوك يملكه فملك أكثر من واحد (2) ، وما يكون الواقع فيه متعينا في نفسه ، إلا أنه لا تجري فيه الاصول الشرعية أو العقلية ، مثل ما لو وطأ الجارية جماعة فجاءت بولد (3) ، وما لو انهدمت الدار وبقي صبيان اشتبه الحر منهما بالعبد (4) وما يكون مجرى لأصالة الاحتياط ، كالرواية المتقدمة.
    الثانية : ما تضمّن تشريعها في موارد التنازع كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) : «ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله الا خرج سهم المحق» (5) وغيره.
    __________________
    (1) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 10 و 16.
    (2) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 2 و 15.
    وباب : 57 من أبواب العتق.
    (3) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 10 و 14.
    (4) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 7 و 8 وج : 17 ، باب : 4 من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليه.
    (5) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 6.

    الثالثة : ما تضمن تشريعها في المجهول ، ولم أعثر له إلا على رواية محمد بن حكيم (حكم. ج. ل) أو حسنته ، سألت أبا الحسن عليه السّلام عن شيء ، فقال لي : «كل مجهول ففيه القرعة» ، فقلت له : إن القرعة تخطئ وتصيب قال : «كلما حكم الله به فليس بمخطئ» (1).
    وأما ما في بعض كلماتهم من ورود تشريعها في كل مشكل فلم أعثر عليه في النصوص ، ولعله متصيد من النصوص المتقدمة.
    أما الطائفة الاولى ، فهي مختصة بمواردها ، ومجرد ورود بعضها في مورد أصل الاحتياط لا يكفي في عموم الرجوع إليها في موارده والخروج عن القاعدة المتقدمة ، ولا سيما مع اختصاصها بصورة لزوم الضرر المالي المعتد به من الاحتياط.
    بل ما ورد في الإنائين والثوبين المشتبهين كالصريح في عدم الرجوع إليها.
    وأما الطائفة الثانية ، فهي أجنبية عما نحن فيه ، لوضوح عدم الرجوع في شيء من موارد التنازع لقاعدة الاحتياط في فصل الدعوى ليتوهم منافاة تشريع القرعة لذلك ، لعدم جواز المطالبة ممن له الحق فيما لو اشتبه حقه بين أمرين بمقتضى الاحتياط ، لأنه أكثر من حقه.
    وأما بقية الاصول ـ كالاستصحاب ونحوه ـ بل الأمارات ـ كاليد والبينة ونحوهما ـ فقد يدعى أن إطلاق أدلتها معارض لإطلاق هذه الطائفة ، لأن النسبة بينها العموم من وجه ، لاختصاص أدلة الاصول والأمارات بخصوصيات موضوعاتها ـ كالحالة السابقة في الاستصحاب والشك في التكليف في البراءة وغيرهما ـ واختصاص هذه الطائفة بموارد التنازع.
    __________________
    (1) الوسائل ، ج : 18 ، باب : 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء ، ح : 11.

    وربما يدفع : بأن ذكر تفويض الأمر إلى الله تعالى في هذه الطائفة يوجب اختصاصها بما إذا رضي الخصمان بالرجوع إليها ، فهي نظير الصلح لا تشرع بنحو الإلزام حتى تكون في عرض الحجج والاصول ، بل في ظرف رضا صاحب الحق ، فلو لم يرض وكان له أصل أو حجة تعضده لم يصلح دليلها لرفع اليد عنه والزامه بها.
    وفيه : أن ورود هذا المضمون من النبي صلّى الله عليه وآله في مقام إمضاء ما فعله أمير المؤمنين عليه السّلام من إجراء القرعة بين المتنازعين ، الظاهر في عدم استئذانه عليه السّلام منهم وعدم اصطلاحهم عليها ، يوجب ظهوره في عدم اعتبار رضا الخصمين بها ، وأنها مشرعة بنحو يلزمان بها ولو لكون الحاكم قائما مقامها.
    نعم ، ذكر التفويض إلى الله تعالى ظاهر في أن الرجوع إليها في ظرف الاحتياج إلى حكمه لعدم حكم له في الواقعة ، فلا يشمل ما لو كان له تعالى حكم فيها ظاهري أو واقعي مغن عن الرجوع إليها.
    وإن شئت قلت : لا إطلاق لهذا اللسان يقتضي مشروعية القرعة في مطلق صورة جهل الحق ، بل هو منصرف إلى ما إذا لم يكن لمعرفته طريق شرعي ظاهري أو واقعي ، حتى يحتاج إلى تفويض الأمر إليه تعالى وطلب كشف الحال منه ، فأدلة الطرق والاصول تكون واردة على العموم المذكور لا معارضة له ، ولا سيما مع عدم تضمن العموم المذكور الإلزام بتفويض الأمر إليه تعالى بالاقراع ، بل مجرد مشروعية ذلك ، فلا ينهض بمعارضة أدلة الطرق والاصول الظاهرة في الإلزام بمؤدياتها. فلاحظ.
    مضافا إلى ما هو المعلوم من ظهور أدلة أحكام المدعي والمنكر في عدم الرجوع للقرعة مع فرضهما في مورد النزاع ، لمطابقة قول أحدهما للحجة ومخالفة الآخر لها ، فلا بد من اختصاص عموم القرعة بما إذا لم يكن هناك مدع ومنكر ، لمخالفة كلا المتنازعين للحجة ، وهذا كاف في تقديم عمومات أدلة

    الطرق والاصول على العموم المذكور. فتأمل جيدا.
    وأما الطائفة الثالثة ، فهي وإن كانت شاملة لما نحن فيه ، إلا أن عمومها لكل مجهول موجب لكثرة تخصيصها ، لوجوب الخروج عنها في جميع موارد الاصول الشرعية ، لأنها أخص منها ، وفي الشبهات الحكمية من موارد الاصول العقلية ، لما تقدم من تسالمهم على عدم الرجوع إليها في الشبهات الحكمية ، وفي كثير من موارد الاشتباه الآخر ، كاشتباه درهم الودعي بين شخصين ، وميراث الغرقى والمهدوم عليهم والخنثى المشكل ، واشتباه القبلة ، والثوبين ، والإنائين المشتبهين وغير ذلك مما دل الدليل الخاص على عدم الرجوع فيه للقرعة ، وذلك يوجب طروء الاجمال على العموم المذكور بنحو يسقطه عن الحجية ، فلا يمكن الاستدلال به في ما نحن فيه.
    ولا سيما مع إعراض الأصحاب عن العموم المذكور ، واشتهار القول بوجوب الاحتياط بينهم ، وورود بعض النصوص به في بعض الموارد ، مثل ما ورد في الإناءين المشتبهين ، والثوبين المشتبهين ، واشتباه القبلة ، فإن ذلك كله موهن للعموم المذكور ومانع من الخروج به عن مقتضى القاعدة التي عرفتها.
    هذا تمام الكلام في مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف. والحمد لله رب العالمين.

    تنبيهات
    التنبيه الأول : فيما لو ثبت التكليف إجمالا بتعبد شرعي
    إن من أهم المقدمات التي ابتنى عليها ما سبق من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وامتناع جريان الاصول الترخيصية في الأطراف هو حجية العلم الإجمالي الذاتية غير القابلة للتصرف الشرعي ، وذلك مختص بالعلم الإجمالي الحقيقي ، ولا يجري في العلم الإجمالي التعبدي الراجع إلى التعبد الشرعي بالتكليف ظاهرا في بعض الأطراف إجمالا ، كما في موارد قيام الطريق الشرعي على ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالا ، أو قيام الأصل عليه ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم احتمل تطهيره ، حيث يقتضي الاستصحاب نجاسته.
    فإن التعارض هنا بين الاصول الترخيصية الجارية في الأطراف بخصوصياتها والطريق أو الأصل الإلزامي الجاري في البعض الإجمالي منها ، حيث قد يدعى أن رفع اليد عن عموم الأصل الترخيصي في بعض الأطراف ليس بأولى من رفع اليد عن عموم حجية الطريق أو الأصل الإلزامي في بعضها الإجمالي بعد فرض إمكانه لكونه تابعا للشارع ، بل قد يدعى أولوية الثاني ، لأنه أقل تخصيصا.
    وتوهم لزوم تقديم الطريق أو الأصل الإلزامي هنا بملاك التقدم الرتبي المقرر في سائر الموارد من جهة الحكومة أو الورود ، فكما يقدم الطريق أو الاستصحاب على أصل البراءة ، مع الاتفاق في الإجمال والتفصيل يقدم عليه في المقام ، وإن تحقق الاختلاف فيهما.
    مدفوع : بأنه مع الاتفاق في الإجمال والتفصيل يتحد موضوع الطريق أو

    الاستصحاب مع موضوع أصل البراءة مثلا ، فيتجه تقديمهما عليه بملاك الحكومة أو الورود ، لدعوى ارتفاع موضوعه بسببه حقيقة أو تعبدا ، على ما يذكر في محله مفصلا.
    ولا مجال لذلك مع الاختلاف في الإجمال والتفصيل ، لاختلاف الموضوع بسبب ذلك ، فارتفاع موضوع الأصل الترخيصي بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال لا يستلزم ارتفاعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصه ، كيف وقد تقدم أن العلم الإجمالي الحقيقي لا يوجب ارتفاع موضوع الأصل في الأطراف بخصوصيتها ، فلا بد أن يكون عدم جريان الأصل الترخيصي فيها لتخصيص عموم دليلها ، وليس هو بأولى من تخصيص عموم دليل حجية الطريق أو الاستصحاب أو غيرهما مما يقتضي التعبد بالتكليف إجمالا ، لاشتراكهما في أصالة العموم.
    على أن ذلك لو تم فلا مجال له لو كان الأصلان من سنخ واحد ، كما لو كان مقتضى الاستصحاب ثبوت التكليف في بعض الأطراف إجمالا ، وعدمه في كل طرف بخصوصه ، إذ لا مجال لتوهم التقدم الرتبي حينئذ.
    هذا ، وقد حاول سيدنا الأعظم قدّس سرّه توجيه تقديم دليل التكليف الإجمالي على دليل الأصل الترخيصي في الأطراف لدعوى حكومته عليه ، لان أصالة الظهور إنما تجري في مورد يحتمل مطابقة مؤداها للواقع ، ومع العلم بعدم مطابقته للواقع يرتفع موضوعها ، وإعمال أصالة الظهور في دليل التكليف يوجب العلم بعدم مطابقة أصالة الظهور في دليل الأصل للواقع ، لأنه يوجب تنجيز التكليف عند العقل فيمتنع الترخيص في مخالفته ، فيعلم بعدم مطابقة ظهور دليل الأصل الترخيصي للواقع ، فيرتفع موضوع حجيته.
    أما إعمال أصالة الظهور في دليل الأصل الترخيصي فلا يوجب العلم بعدم مطابقة دليل التكليف للواقع ، وإنما يوجب سقوط ظهوره عن الحجية مع

    بقاء موضوعه ، وهو الشك ، إذ المصحح للترخيص الظاهري عدم الحجة على التكليف لا عدم التكليف واقعا.
    وفيه : أن التنافي إن فرض بين نفس التعبدين فمن الظاهر أن كلّا منهما لا يوجب العلم بكذب الآخر ، فكما لا يكون التعبد بالترخيص في كل طرف بخصوصه موجبا للعلم بعدم التكليف الإجمالي ، ولا مستلزما للعلم بكذب التعبد به ، كذلك لا يكون التعبد بالتكليف الإجمالي موجبا للعلم بثبوت التكليف في كل طرف بخصوصه ، ولا مستلزما للعلم بكذب التعبد بالترخيص فيه ، بل غاية الأمر التنافي بين التعبدين عملا.
    وإن فرض التنافي بين عمومي دليلي التعبدين ، وهو عموم دليل حجية الطريق أو دليل الأصل الإلزامي المقتضي للتعبد بالتكليف الإلزامي ، وعموم دليل الأصل الترخيصي ، فمن الظاهر أن التنافي بين التعبدين يوجب امتناع الجمع بينهما ، فاعمال أصالة العموم في كل مستلزم للعلم بكذب أصالة العموم في الآخر ، بلا فرق بينهما في ذلك ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
    وكلامه قدّس سرّه مبني على فرض التنافي بين عموم التعبد بالأصل الترخيصي ونفس مؤدى الطريق الدال على التكليف ، حيث يكون إعماله موجبا لتنجيز التكليف المانع من الترخيص في الأطراف ، والموجب للعلم بكذب عموم دليله فيها ، فيرتفع موضوع أصالة العموم فيه ، وهو الشك ، ولا عكس ، لأن إعمال عموم دليل الأصل الترخيصي لا يوجب العلم بكذب الطريق الدال على التكليف.
    ولكنه ليس بأولى من العكس ، فيفرض التنافي بين عموم دليل التعبد بالطريق ـ وهو دليل حجيته ـ ونفس مؤدى الأصل الترخيصي ، فإن الترخيص في الأطراف لما كان منافيا لتنجز التكليف الإجمالي فهو يوجب العلم بكذب عموم دليل حجية الطريق الموجب له ، فيرتفع به موضوع أصالة العموم فيه ، أما

    عموم حجية الطريق فهو لا يوجب العلم بكذب الترخيص في كل طرف بخصوصه ، بل يمنع منه مع تحقق موضوعه ، وهو الشك ، كما لعله يظهر بالتأمل.
    هذا ، ويتضح الوجه في تقديم التعبد بالتكليف الإجمالي بملاحظة ما ذكرناه في وجه الجمع بين منجزية العلم الإجمالي وعموم الأصل الترخيصي للأطراف ، من أن الأصل إنما يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصيته من حيثية موضوعه ، وهو الشك المفروض فيه ، وهو لا ينافي لزوم الاحتياط فيه لحيثية اخرى ، وهي حيثية تنجز المعلوم بالإجمال ، فتنجز المعلوم بالإجمال لا يوجب خروج الأطراف عن عموم دليل الأصل تخصيصا ، بل يمنع من فعلية الترخيص مع تحقق مقتضيه ، فإن هذا نحو من الجمع بين دليل الأصل ومنجزية العلم أولى من تخصيص عموم دليل الأصل وإهماله بالمرة.
    فإنه بلحاظ هذا الوجه يتعين في المقام تقديم عموم دليل التعبد بالتكليف إجمالا في مقام العمل على عموم دليل الأصل الترخيصي في الأطراف ، لأن إعمال عموم دليل التعبد بالتكليف لا يوجب إهمال دليل الأصل في الأطراف رأسا والخروج عنه تخصيصا ، بل يوجب عدم فعلية العمل بالأصل الترخيصي تحقق مقتضيه ، أما العمل بعموم دليل الأصل الترخيصي في الأطراف والبناء على فعلية مؤداه فهو مستلزم لإهمال دليل التعبد بالتكليف الإجمالي رأسا والخروج عنه تخصيصا ، إذ لو فرض تحقق مقتضيه كان مقدما عملا على مقتضي الأصل الترخيصي عند اجتماعهما ، والأول أقرب عرفا ، لأنه نحو من العمل بالدليلين ، بخلاف الثاني.

    التنبيه الثاني فيما لو اختلفت الأطراف حقيقة أو خطابا
    لا فرق في منجزية العلم الإجمالي ومانعيته من الرجوع للاصول الترخيصية بين اندراج الأطراف تحت حقيقة واحدة وعدمه ، فكما يكون العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين منجزا ، كذلك يكون العلم الإجمالي بنجاسة الثوب أو البدن منجزا.
    خلافا لما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه عن صاحب الحدائق مما ظاهره عدم التنجز مع اختلاف الحقيقة ، إذ لا وجه له بعد ما تقدم في وجه منجزية العلم الإجمالي.
    وقد أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى تفصيل آخر ربما يرجع ما تقدم عن صاحب الحدائق إليه ، وهو أنه لا بد من رجوع التكليف في جميع الأطراف إلى خطاب واحد معلوم تفصيلا ـ ولو مع اختلاف حقيقة الأطراف ـ كما في التردد بين القصر والتمام الراجع إلى العلم بوجوب الصلاة ، والتردد بين نجاسة الثوب أو البدن الراجع إلى العلم بحرمة الصلاة في النجس.
    أما لو دار الأمر بين خطابين فلا يكون العلم منجزا ، كما لو دار الأمر بين غصبية أحد الإنائين ونجاسة الآخر ، أو بين كون المائع الخاص خمرا وكون الزوجة حائضا ، بل وكذا لو علم بنجاسة الثوب أو الطعام ، لأن المعلوم بالإجمال وإن كان أمرا واحدا ـ وهو النجاسة ـ إلا أنه في الثوب لا يكون موضوعا إلا لحرمة الصلاة في النجس ، وفي الطعام لا يكون موضوعا إلا لحرمة أكل النجس.
    وربما يوجه : بأن منشأ تنجيز العلم الإجمالي هو شمول إطلاق دليل التكليف للواحد المعلوم بالإجمال المردد بين الأطراف ، وهو إنما يتم مع اندراجهما تحت خطاب واحد ، إذ مع التردد بين خطابين لا يعلم شمول إطلاق كل منهما للمعلوم بالإجمال.
    وفيه : أن إطلاق الخطاب إنما ينفع لإحراز التكليف المعلوم بالإجمال ،

    وهو مع تعدد الخطاب محرز أيضا ، للعلم بشمول أحد الإطلاقين له ، وذلك وحده لا يكفي ما لم نقل بمنجزية العلم الإجمالي بالتكليف ، فإن قلنا بذلك كفى مطلقا ، وإلا لم يتنجز التكليف حتى مع وحدة الخطاب ، لوضوح أن الخطاب الواحد ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الأفراد. فالعلم بأحد فردين لخطاب واحد راجع إلى العلم الإجمالي بأحد تكليفين ، ولا يكون علما تفصيليا بتكليف واحد.
    وبالجملة : لا أثر لتعدد الخطاب ووحدته في منجزية العلم ، ولذا لا ريب في منجزية العلم التفصيلي بالتكليف وإن تردد المكلف به بين خطابين ، كما لو علم تفصيلا بحرمة أكل طعام خاص إما لكونه نجسا أو لكونه مغصوبا. فالتفصيل المذكور لا يرجع إلى محصل ظاهر يخرج به عما عرفت من القاعدة المقتضية للاحتياط في جميع موارد العلم الإجمالي بالتكليف.
    التنبيه الثالث : في المعيار لترتيب الآثار
    لما كان معيار منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف المستتبع للعمل فلا بد من الاقتصار على الآثار التكليفية المتيقنة إجمالا ، سواء كانت من سنخ واحد كما في العلم بنجاسة أحد الماءين ، حيث يكون أثر كل منهما حرمة شربه وبطلان الوضوء به وغيرهما ، أم من سنخين ، كما لو علم بغصبية الطعام أو نجاسة الثوب ، حيث يكون أثر الأول حرمة التصرف فيه ، وأثر الثاني بطلان الصلاة به.
    وأما الأثر الوضعي فإن كان منتزعا من الأثر التكليفي كان طرفا للتنجيز ، كمانعية النجاسة من الوضوء أو الصلاة المنتزعة من تقييد الواجب بغير النجس ، لأنه يقتضي نحوا من العمل لا يترتب بدونه.
    وإن كان مجعولا بنفسه ـ كنجاسة الملاقي وطلاق الزوجة ونحوهما ـ لم

    يكن طرفا للتنجيز بنفسه ، بل يكون التنجيز بلحاظ أثره التكليفي إن كان له أثر فعلي ، فلو لم يكن له أثر فعلي لم يصلح العلم للتنجيز ، لعدم ترتب العمل عليه.
    ومنه يظهر عدم منجزية العلم الإجمالي بنجاسة أحد الدرهمين مثلا ، لعدم الأثر لنجاستهما فعلا ، ومجرد استلزامهما نجاسة اليد الملاقية برطوبة المستلزم لبطلان الصلاة معها ـ مثلا ـ لا يكفي ما لم يكن ذلك فعليا.
    وكذا لو دار الأمر بين نجاسة أحد الأمرين من اليد والدرهم ، فإن الأثر التكليفي وهو حرمة الصلاة في النجس لما كان مختصا باليد لم يكن معلوما إجمالا ولم يصلح العلم للتنجيز ، بل يجوز الرجوع لأصالة الطهارة في اليد.
    هذا ، ولا ريب ظاهرا في أنه لو اشتركت الأطراف في أثر واحد ، أو امتاز كل منها بأثر وجب الاحتياط في الجميع ، للعلم بثبوت ما به الاشتراك أو الامتياز إجمالا.
    وإنما الإشكال فيما لو اشتركت في بعض الآثار ، وامتاز أحدها بخصوص أثر له ، كما لو علم الرجل إجمالا بأن أحد الثوبين حرير ، والآخر من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فإنهما يشتركان في المانعية من الصلاة ، ويمتاز الحرير بحرمة اللبس في غير الصلاة ، فهل يتنجز الأثر المذكور أولا؟
    ظاهر شيخنا الاستاذ (دامت بركاته) عدم تنجزه ، لأن منجزية العلم الإجمالي إنما هي بلحاظ الآثار التكليفية المتيقنة إجمالا ، والمتيقن في المقام من الآثار خصوص المشترك بين الأطراف ، أما ما يختص به أحدها فحيث لا يختص الآخر بما يقابله لا يكون طرفا لعلم إجمالي ، بل يكون مشكوكا بالشك البدوي ، فلا مانع من الرجوع فيه للأصل.
    وفيه : أن الأثر المشترك ليس عبارة عن تكليف تفصيلي يصلح لحل العلم الإجمالي ، كي يرجع في الزائد للبراءة ، بل هو عبارة عن تكليف إجمالي مردد بين الطرفين ، لما هو المعلوم من انحلال التكاليف الكليّة إلى تكاليف جزئية

    متباينة في أنفسها حسب تباين أفراد موضوعاتها ، فالأمر في الحقيقة يدور بين تكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين في الطرف الآخر أحدهما من سنخ التكليف المحتمل في الطرف الأول والثاني مباين له سنخا ، فكلا التكليفين المحتملين في الطرف الآخر في عرض واحد من حيثية كونهما طرفا للعلم الإجمالي.
    ومجرد سنخية أحدهما مع التكليف المحتمل في الطرف الأول لا يوجب خصوصيته في كونه طرفا للعلم الإجمالي المفروض ، بحيث يكون التكليف الآخر ـ الذي به الامتياز ـ خارجا عن العلم الإجمالي ومشكوكا بالشك البدوي ، ليرجع فيه إلى الأصل.
    فالمقام نظير ما لو علم إجمالا بتكليف واحد في أحد الطرفين وتكليفين في الطرف الآخر ، كلاهما مباين سنخا للتكليف المحتمل في الطرف الأول ، كما لو علم إجمالا بنجاسة المسجد أو الماء ، حيث لا أثر للأول إلّا وجوب التطهير ، وأثر الثاني بطلان الوضوء به وحرمة شربه ، فكما يكون بطلان الوضوء وحرمة الشرب في ذلك معا طرفا للعلم الإجمالي لعدم المرجح بينهما ، كذلك يكون مانعية الصلاة وحرمة اللبس معا في المثال المتقدم طرفا للعلم الإجمالي.
    ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون دليل الأثر المشترك بين الأطراف مختلفا ، كالمثال المتقدم ـ حيث كان دليل مانعية لبس الحرير من الصلاة مباينا لدليل مانعية ما لا يؤكل لحمه منها ـ وأن يكون واحدا كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الماءين المضاف والمطلق ، حيث يمتاز المطلق ببطلان الوضوء به مع اشتراكهما في عموم دليل واحد ، وهو دليل حرمة تناول النجس.
    وكذا لا فرق بين كون ما به الامتياز في بعض الأطراف مختلفا مع ما به الاشتراك فيه دليلا ، كالمثال المتقدم ـ لأن دليل مانعية لبس الحرير في الصلاة مباين لدليل حرمة لبسه على الرجل ـ وكونه متحدا معه دليلا ، كما لو علم

    المكلف بغصبية أحد الطعامين او نجاسة الآخر ، حيث يشتركان في حرمة الأكل ، ويمتاز الغصب بحرمة بقية التصرفات كالبذل للحيوانات ، لوضوح أن دليل حرمة أكل المغصوب هو دليل حرمة بقية التصرفات.
    كل ذلك لعموم ما ذكرنا من الوجه ، وهو كون الأثر المشترك معلوما بالإجمال لا بالتفصيل ، وطرف الترديد في الواجد للأثرين كلا الأثرين ، لا خصوص ما به الاشتراك منهما.
    نعم ، لو كان الأثر المشترك بين الاحتمالات التي هي طرف العلم الإجمالي معلوما بالتفصيل لاتحاد المتعلق لم يتنجز إلا الأثر المشترك ، وجاز الرجوع للأصل الترخيصي في الأثر المختص ببعض الاحتمالات ، لكون الشك فيه بدويا بعد انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، كما لو علم إجمالا بأن ثوبا معينا إما حرير أو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فإن مانعيته من الصلاة معلومة تفصيلا وليست طرفا لعلم إجمالي ، فلا مانع من الرجوع لأصالة الحل في لبسه في غير الصلاة.
    وربما يحمل ما ذكره شيخنا الاستاذ على ذلك ، لاختصاص أمثلته به ، وإن كان عنوان كلامه شاملا لما سبق أيضا.
    هذا كله بناء على أن العلم الإجمالي يمنع من العمل بالاصول الترخيصية حتى في بعض الأطراف بملاك اقتضائية الموافقة القطعية ، كما تقدم ، وأما بناء على أنه لا يمنع من جريان الاصول إلا في تمام الأطراف ، لاستلزامه المخالفة القطعية ، وأنه لا مانع من جريانها في بعض الأطراف لو فرض اختصاص موضوعها به كما تقدم من بعض الأعاظم وبعض مشايخنا ـ فالأمر يختلف عما ذكرنا كثيرا ، ففيما لو علم المحدث بنجاسة الثوب أو الماء لا أثر لنجاسة الثوب إلا المانعية من الصلاة ، وأثر نجاسة الماء المانعية من الوضوء وحرمة الشرب ، والمتعين تنجز جميع الآثار ، للعلم إجمالا بامتناع الصلاة في الثوب ، أو امتناع

    الوضوء وحرمة الشرب للماء معا.
    أما بناء على المبنى المشار إليه فلا تتنجز حرمة شرب الماء ، لأن العلم الإجمالي وإن أوجب سقوط أصالة الطهارة في كلا الطرفين بالمعارضة ، إلا أنه لا يمنع من جريان أصالة الحل من شرب الماء ، لعدم معارضتها بمثلها في الثوب ، إذ لا يحرم شرب النجس.
    لكن بعض الأعاظم قدّس سرّه مع جريه على المبني المذكور منع ـ في ما حكي عنه ـ من الرجوع لأصالة الحل في الفرض. وهو مبني على ما سبق منه في آخر الكلام في الموافقة القطعية من دعوى سقوط جميع الاصول المترتبة في بعض الأطراف بالمعارضة للأصل الجاري في الطرف الآخر وإن كان واحدا ، فتسقط أصالة الطهارة والحل معا في الماء بالمعارضة لأصالة الطهارة في الثوب.
    وقد أشرنا هناك إلى عدم مناسبة ذلك لمسلكه في تقدم الاصول الحاكمة على الاصول المحكومة. فراجع.
    أما بعض مشايخنا فهو وإن أنكر على بعض الأعاظم قدّس سرّه ذلك ، وحكم بجواز شرب الماء ، لما ذكرنا ، إلا أنه التزم بنظيره فيما لو كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايرا سنخا للأصل الجاري في الطرف الآخر ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الماءين أو غصبية الآخر ، فإن الأصل الجاري في الأول هو أصالة الطهارة ، وفي الثاني أصالة الحل ، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحل في الأول ، دون الثاني.
    لكنه منع من الرجوع لأصالة الحل في الأول ، بدعوى : أنه لما كان المانع من جريان الاصول في الأطراف منافاتها للعلم الإجمالي بالتكليف ، فالعلم الإجمالي كما ينافي مفاد أصالة الطهارة في الأول في ظرف اجتماعها مع أصالة الحل في الثاني ، كذلك ينافي مفاد أصالة الحل في الأول في ظرف اجتماعها مع أصالة الحل في الثاني ، لأن الترخيص في كليهما ترخيص في المعصية ، وفي

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:40 am

    أحدهما بلا مرجح ، سواء كان الترخيص بلسان أصالة الطهارة أم بلسان أصالة الحل.
    ولا يخفى أن ما ذكره من محذور اجتماع أصالة الحل في الأول مع أصالة الحل في الثاني وإن كان تاما ، إلا أن اجتماعهما لا وجه له ، لسقوط أصالة الحل في الثاني بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الأول ، المفروض جريانها في رتبة سابقة على أصالة الحل في الأول ، فلا يجري بعد ذلك إلا أصالة الحل في الأول ، ولا يلزم منها المخالفة القطعية ، ولا الترجيح من غير مرجح.
    نعم ، لو غض النظر في هذا المقام عن الترتب بين الأصلين ـ كما جرى عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ اتجه ما ذكره.
    لكن يلزمه موافقة بعض الأعاظم قدّس سرّه في الفرع السابق ، لوضوح أنه يعلم إجمالا فيه بامتناع الصلاة في الثوب أو امتناع الوضوء بالماء مع حرمة شربه ، وحينئذ كما يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الماء والثوب منافيا للعلم الإجمالي ، كذلك يكون الجمع بين أصالة الطهارة في الثوب وأصالة الحل في الماء منافيا له ، فلو لا الترتب بين الأصلين في الماء وسقوط أصالة الطهارة في مرتبة سابقة لم يكن وجه لما التزم به من جواز شرب الماء عملا بأصالة الحل.
    وقد أطال في المقام بما لا حاجة إلى الإطالة فيه بعد ما تقدم من الضابط على المبنيين ، وضعف المبنى الثاني ، فراجع وتأمل.
    التنبيه الرابع : في أنه لا بد من فعلية التكليف على كل حال
    لما كان ملاك منجزية العلم الإجمالي هو العلم بالتكليف الذي هو صغرى لكبرى وجوب الإطاعة عقلا ، فلا بد من صحة الخطاب بالتكليف على كل حال من دون فرق بين طرف وأخر ، بنحو يستتبع وجوب العمل والإطاعة عقلا.

    فلو كان بعض الأطراف مبتلى بالمانع من فعلية التكليف ـ كالاضطرار والتعذر والإكراه والحرج ونحوها ـ لم يصلح العلم الإجمالي لتنجيز التكليف بالاضافة إلى الأطراف الأخر ، لعدم العلم في الحقيقة بالتكليف الفعلي ، بل بمقتضى التكليف الذي هو لا يستتبع العمل ولا يكون منشأ للطاعة والمعصية ، وليس التكليف الفعلي في الطرف الخالي عن المانع إلا مشكوكا بالشك البدوي غير المنجز ، فيصح الرجوع فيه للأصل المرخص ، لو فرض تحقق موضوعه فيه.
    إن قلت : لا مجال لذلك في مثل التعذر ، لأن الشك في التكليف راجع إلى الشك في القدرة على امتثاله مع إحراز موضوعه ولو إجمالا ، والمرجع مع الشك في القدرة هو الاحتياط ، وكذا الحال في الإكراه والحرج ونحوهما مما يلحق بالتعذر شرعا ، ويكون من سنخ العذر عرفا ، حيث لا يصح الاعتماد على احتمال العذر في إهمال التكليف ، بل لا بد من إحرازه ، وهو غير محرز في المقام ، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على غير مورده.
    قلت : المتيقن من وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة ونحوها من الأعذار هو وجوب السعي لتحصيل ما يحرز تحقق الامتثال به في ظرف الشك في القدرة عليه ، لا تحصيل ما يعلم بالقدرة عليه في ظرف الشك في تحقق الامتثال به ، كما في المقام ، فإن الطرف غير الواجد لعنوان العذر يعلم بالقدرة عليه ويشك في كونه محققا للامتثال.
    وإن شئت قلت : وجوب الاحتياط إنما هو مع الشك في سعة القدرة ، ولا شك في ذلك في المقام ، بل في حال المقدور.
    هذا كله لو كان الشك في امتثال التكليف الواحد ، كما لو وجب على المكلف عتق رقبة مؤمنة ، وعلم بأن إحدى الرقبتين اللتين يتعذر عليه عتق إحداهما ويتيسر له عتق الاخرى مؤمنة ، فإن التكليف وارد على العنوان المردد

    طريق امتثاله.
    أما لو تردد الأمر بين تكليفين فالأمر أظهر ، كما لو علم بنجاسة أحد الطعامين المكره على استعمال أحدهما ، لوضوح أن حرمة استعمال النجس تكليف انحلالي إلى تكاليف متعددة متباينة تبعا لتباين أفراد النجس ، وليس تكليفا واحدا قائما بالعنوان ، فليس الشك في القدرة على امتثال التكليف ، بل في التكليف بالمقدور من الأطراف ، والمرجع فيه البراءة بلا إشكال.
    ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر أن من جملة ما يمنع من فعلية التكليف عدم الابتلاء بمتعلقه ، بحيث يعدّ أجنبيا عن المكلف عرفا ويستهجن توجيه الخطاب إليه به.
    ورتب على ذلك عدم منجزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن الابتلاء لما سبق في الحرج ونحوه.
    وكلامه قدّس سرّه في تحديد عدم الابتلاء لا يخلو عن غموض ، لاختلاف سنخ الأمثلة التي ذكرها له ، لرجوعها إلى أقسام أربعة :
    الأول : ما لا يكون فيه للأمر المعلوم أثر تكليفي أصلا ولو تعليقيا ، كوقوع قطرة بول على ظهر حيوان ، فإنه لا أثر لذلك حتى بالإضافة إلى الملاقي ، لما هو المعلوم من عدم نجاسة الحيوان مطلقا أو بعد زوال عين النجاسة ، فالملاقي لا ينجس إلا مع بقاء عين النجاسة ، فيستند التنجيس لملاقاتها ، لا لملاقاة ظهر الحيوان.
    الثاني : ما يكون له أثر تعليقي لا تنجيزي ، كنجاسة ظهر الإناء ، حيث لا توجب تكليفا فعليا إلا أن يلاقي ما لنجاسته أثر تكليفي ، كالثوب.
    الثالث : ما لا يكون من شأن المكلف التعرض له ، لوجود صوارف خارجية عنه ، وإن لم يخرج بذلك عن القدرة عقلا ولا شرعا ، كنجاسة الأرض التي ليس من شأن المكلف بحسب وضعه المتعارف التعرض للسجود عليها.

    الرابع : ما يكون مورد التكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا ، كتنجس إناء الغير ، حيث يحرم استعماله مع قطع النظر عن ارتكابه.
    ومن الظاهر أن الأول خارج عن محل الكلام ، لأن عدم التكليف فيه لعدم الموضوع ، لا لعدم الابتلاء.
    وكذا الثاني ، إذ التكليف التعليقي ليس موردا لانشغال الذمة ، وفعلية النجاسة ليست بنفسها موردا للتكليف.
    نعم ، لو علم بتحقق ما يوجب فعلية التكليف لم يبعد دخوله في محل الكلام ، ويبتني الكلام في منجزية العلم الإجمالي معه على ما يأتي في التدريجيات إن شاء الله تعالى.
    وأما الثالث فلا يبعد كونه المراد بعدم الابتلاء في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه وأنّ ذكر غيره بناء منه على رجوعه إليه ، وهو الظاهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه.
    وقد وجه المحقق الخراساني قدّس سرّه عدم فعلية التكليف معه : بأن الغرض من النهي لما كان هو داعويته للمكلف نحو الترك فلا موقع له مع تحقق الترك من المكلف بسبب عدم الابتلاء بالفعل عادة ، لأنه يكون بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل.
    ومن هنا فقد عم الحكم للامر ، فاعتبر في فعليته إمكان ترك المكلف للمأمور به عادة واستحكام الداعي إليه كان الأمر به عبثا كالنهي في الفرض السابق.
    وبعبارة اخرى : لا بد في صحة التكليف من صلوحه لإحداث الداعي في نفس المكلف عادة نحو مقتضاه ، فعلا كان أو تركا ، فلو لم يصلح لذلك لتحقق مقتضاه بحسب طبع المكلف وظروفه المحيطة به ولم يصلح التكليف لأن يحدث فيه شيئا كان التكليف مستهجنا عرفا ، لعدم تحقق غرضه.
    هذا ، وقد ذكر بعض مشايخنا أن الغرض من التكاليف الشرعية ليس

    مجرد حصول متعلقها في الخارج ، بل هو مع صلوح الأمر للداعوية ، ليكون مقربا للعبد ، فتكمل نفسه ، ولذا صح الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله دائما أو غالبا ، كنكاح الامهات ، وأكل لحوم الإنسان والقاذورات ، ومن الظاهر أن عدم الابتلاء بالمعنى المتقدم لا يمنع من صلوح التكليف للداعوية ، بترويض النفس على التعبد بالنهي المولوي وجعله داعيا ولو في عرض الدواعي الاخرى.
    نعم ، يتجه ذلك في التكاليف العرفية ، إذ ليس الغرض منها إلا حصول متعلقها في الخارج.
    لكن لا يخفى أن ما ذكره من الغرض ليس مقوما للتكليف الذي يكون به موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية ، ومن ثمّ كان التقرب المعتبر في العبادة قيدا في المأمور به مخالفا لإطلاقه ، لا مقوما للتكليف.
    نعم ، هو أثر مناسب لمطلق المشروعية غير المختصة بالتكليف ، بل لا تختص بالتكاليف الشرعية ، فإن انفتاح باب التقرب يجري حتى في التكاليف العرفية ، وإن امتازت التكاليف الشرعية بحكم العقل بحسن التقرب والتعبد بالتكليف ، لمناسبته لمقام العبودية ، وكونه سببا لتطهير النفس ورقيها في درجات الكمال.
    وكيف كان ، فهو لا ينفع في ما نحن فيه من منجزية العلم الإجمالي ولزوم الخروج عنه بالاحتياط في أطرافه دفعا لضرر العقاب.
    وأما الزجر عن الامور المشار إليها فمن الظاهر أنه لم يرد الخطاب الشخصي بها من الشارع الأقدس في حق من استحكم الداعي في نفسه لتحقيق مقتضاها مع قطع النظر عنها ، بل ورود الخطاب بها بنحو القضية الحقيقية ، لبيان الضوابط الشرعية العامة في حق جميع الناس ، بمن فيهم من لم يستحكم في نفسه الداعي المذكور ، فلا تنافي عدم فعلية التكليف في مورد عدم الابتلاء ، كما لا تنافي عدم فعليته في حق العاجز.

    ولا سيما مع أن استحكام الداعي في النفس قد يكون مسببا عن استهجان العرف العام للفعل المسبب عن التكليف ، ولولاه لم يستهجن الفعل حتى يستحكم الداعي في نفس ذوي الشرف والمروءة إلى تركه ، فإن مثل هذا مما يوجب حسن الخطاب بالتحريم بوجه العموم ، وإن امتنع فعليته في حق من استحكم في نفسه الداعي.
    على أن كثيرا من هذه الامور لم يرد خطاب لفظي بها بالخصوص ، بل هي بين ما ورد الخطاب به في ضمن غيره مما لا يستحكم الداعي لتركه ، وما دلت الأدلة اللبية من الاجماع ونحوه على تحريمه ، وهي لا تقتضي فعليته في حق من استحكم الداعي في نفسه.
    أما بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه فقد استشكل في ما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه : بأن لازمه لغوية النهي في كل مورد يكون حصول الترك من جهة تنفر الطبع على الإقدام على الفعل ، ككشف العورة بمنظر من الناس ، خصوصا بالنسبة إلى أرباب المروءة ، والكذب بالنسبة إلى أهل الشرف ، وشرب الخمر بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، مع عدم إمكان الالتزام بذلك.
    لكن لم يتضح الوجه في امتناع الالتزام بذلك ، خصوصا مع عدم الأثر العملي له إلا في مورد العلم الإجمالي ، حيث يظهر الأثر بالإضافة إلى الأطراف الواقعة تحت الابتلاء ، ولم يتضح من المرتكزات العقلائية لزوم الاحتياط.
    إلا أن يريد استهجان الخطابات العامة بالأحكام المذكورة ، نظير ما تقدم من بعض مشايخنا ، وتقدم الجواب عنه.
    فالأولى الإشكال في ما تقدم من المحقق الخراساني قدّس سرّه : بأن الغرض من التكليف ليس هو إحداث الداعي في نفس المكلف ، ولا تحصيل المتعلق في الخارج ، ولذا يحسن مع العلم بعدمهما بسبب المزاحمة بالقوى الشهوية والغضبية المستحكمة في نفس المكلف المانعة من تأثير التكليف. فما ذكره

    قدّس سرّه في توجيه مدّعاه غير تام.
    والعمدة في وجهه : أن الغرض من التكليف هو جعل السبيل على المكلف من قبل المكلّف ، بحيث يكون طرفا لمسئوليته وتحميله كما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية ، وفي مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ولا يتضح بعد ملاحظة المرتكزات العقلائية صلوح الخطاب لإحداث المسئولية المذكورة مع استحكام الداعي في نفس المكلف ، بحيث يكون مخالفته لمقتضى التكليف على خلاف طبيعته الثانوية ، وإن كانت ناشئة من بعض الأسباب الخارجية ، كصعوبة الفعل واستهجانه ونحوهما من الصوارف في النهي ، وشدة عادته له أو استحكام الداعي له في الأمر ، بل الظاهر مع ذلك عدم انتزاع المسئولية المقومة للتكليف ، وبها يكون موضوعا لحكم العقل بالطاعة والمعصية.
    نعم ، لا يكفي في ذلك مجرد تعلق الإرادة الفعلية على مقتضى التكليف ، لأسباب موقته طارئة ، فإن مجرد تعلق الإرادة لا ينافي السعة بالإضافة إليه ، فيصلح التكليف لرفع السعة المذكورة وإحداث المسئولية. فتأمل جيدا.
    ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه جعل المعيار في عدم الابتلاء هو كون الفعل غير مقدور عادة لبعد مقدماته وصعوبتها الموجبة لصعوبته ، لدعوى اعتبار القدرة العادية في المنهي عنه زائدا على القدرة العقلية ، لأن الغرض من النهي لما كان هو ترك الفعل المنهي عنه لم يحسن الخطاب بترك ما يكون متروكا عادة ، بل كان مستهجنا للغويته.
    ومن هنا خص اعتبار القدرة العادية بالمنهي عنه دون المأمور به ، حيث يصح التكليف بتحصيل ما لا يكون مقدورا عادة مع القدرة عليه عقلا لأهميّة ملاكه ، بنحو يلزم تحصيله ولو مع صعوبته ، نعم ، يمكن التفضل شرعا برفعه ، كما في موارد الحرج ونحوه.

    وفيه : ـ مع الغض عما عرفت من أن الغرض من التكليف ليس هو حصول متعلقه في الخارج ، بل جعل السبيل على المكلف ـ أن ذلك يقتضي اعتبار عدم حصول الترك عادة لوجود الصارف النفسي ولو مع القدرة العادية وسهولة تحصيل الفعل (1).
    بل لو فرض عدم القدرة العادية على الفعل إلا أنه لم يوجب انصراف المكلف عنه ، بل تعلق له الغرض بتحصيل الفعل وتحصيل مشقته فلا إشكال في حسن النهي عنه ، لعدم تحقق الترك عادة لو لا النهي.
    على أن نظير ما ذكره في النهي ليس هو اعتبار القدرة العادية في فعل المأمور به ، ليصح الفرق بينهما بما تقدم ، بل هو اعتبار القدرة العادية على ترك المأمور به ، فلو لم يكن تركه مقدورا عادة كان الفعل حاصلا مع قطع النظر عن الأمر به ، فيكون الأمر به عبثا مستهجنا كالنهي مع عدم القدرة العادية على الفعل.
    وأضعف منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من اعتبار القدرة العادية على الفعل في كل من الأمر والنهي ، لا لأجل لزوم العبث واللغوية ، بل لأجل استهجان العرف للخطاب بالأمر بالشيء أو النهي عنه مع كون المكلف أجنبيا عنه عرفا ، لعدم قدرته عليه بحسب العادة ، ولذا يستهجن تكليف الفقير المعدم تنجيزا بوجوب تزوج بنات الملوك وأكل طعامهم ، كما يستهجن تحريمهما عليه ، بل لا يحسن التكليف بهما تحريما أو إيجابا إلا معلقا على الابتلاء.
    إذ فيه : ـ مع ما عرفت من عموم ملاك الاستهجان وعدم إناطته بالتعذر العادي ـ أنه لا مجال لتوهم امتناع الأمر بما لا يقدر عليه عادة مع القدرة عليه عقلا بتهيئة مقدماته وإن كانت بعيدة شاقة ، وليس الحج في حق النائي إلا من
    __________________
    (1) يظهر مما حكاه عنه مقرر درسه عنه في آخر كلامه عدوله عما ذكره أولا من الضابط الذي أشرنا إليه ، وتعميمه الحكم لما إذا كان الفعل أجنبيا عن المكلف ولو مع القدرة العادية. فراجع. (منه ، عفي عنه).

    ذلك ، خصوصا في العصور السابقة التي كانت وسائط النقل فيها غير مريحة.
    إلا أن يريد من عدم القدرة العادية ما يساوق عدم القدرة الفعلية لانسداد طرق التحصيل وإن كان الفعل ممكنا ذاتا.
    لكن عدم التكليف حينئذ ليس هو للاستهجان العرفي ، بل للامتناع العقلي ، لاعتبار القدرة الفعلية بحكم العقل ، ولا دخل لذلك بعدم الابتلاء الذي هو محل الكلام.
    ومنه يظهر أن تكليف الفقير المعدم بتزويج بنات الملوك وأكل طعامهم إن كان مع قدرته عليهما فعلا ولو مع صعوبة المقدمات وكثرتها فهو غير مستهجن ، غاية ما في الأمر أنه قد يكون حرجيا ، وإن كان مع تعذرهما عليه فعلا لانسداد المقدمات فهو ممتنع عقلا ، كتكليفه بالجمع بين الضدين ، والطيران في الجوّ ، وقلع الجبال الرواسي.
    وقد تحصل : أن المعيار في عدم الابتلاء هو ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ، والوجه في عدم فعلية التكليف معه هو ما أشرنا إليه من عدم قابلية الخطاب معه ، لانتزاع المسئولية عقلا بالنحو المقوم للتكليف ، الذي هو موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصية.
    وعليه يترتب عدم منجزية العلم الإجمالي في ظرف عدم الابتلاء ببعض الأطراف ، لأن ملاك التكليف وموضوعه وإن احرز إجمالا ، إلا أنه لا يحرز فعليته بالنحو الذي ينتزع منه المسئولية وانشغال الذمة عقلا الذي هو الموضوع لوجوب الطاعة وقبح المعصية ، لعدم فعلية التكليف بالنحو المذكور على تقدير مصادفته لمورد عدم الابتلاء ، فلا مانع من الرجوع في الطرف المبتلى به للأصل الترخيصي ، وهذا قريب جدا للمرتكزات العقلائية في التنجيز والتعذير.
    ولعل سيرة المتشرعة شاهدة به ، لعدم اعتنائهم ارتكازا بالتكليف الإجمالي في المورد المذكور ، ومن القريب جدا استنادهم في ذلك للمرتكزات

    العقلائية المشار إليها.
    هذا ، ولو فرض الشك في ذلك فمن الظاهر أن الأمر المذكور لما كان من الامور الوجدانية ، فالشك فيه لا يكون إلا لاضطراب الوجدان ، نظير شك المصلي في أن العارض له شك أو ظن ، وحينئذ لا يبعد البناء على عدم تنجز التكليف ، لأن الشك في المقام ليس في تقييد موضوع التكليف والخطاب بالبعث والزجر بالابتلاء ، ليرجع في نفيه للإطلاق ، بل في انتزاع التكليف من الخطاب مع عدم الابتلاء ، بنحو يدخل في كبرى حكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية ، وصلوحه لاحداث الداعي العقلي للعمل على طبقه ، أو لا ، بل لا بد في تنجز الداعي العقلي نحو العمل من الابتلاء.
    ومن الظاهر أن ذلك أجنبي عن الشارع ، ولا دخل له بالإطلاق ، إذ ليس مفاد الإطلاق إلا البعث أو الزجر التشريعيين على تقدير تحقق الموضوع ، وهو لا ينافي عدم انتزاع التكليف منه بالنحو المتقدم على تقدير عدم الابتلاء.
    نعم ، لما كان الغرض من الخطاب الفعلي هو تحقيق موضوع الداعي العقلي كان مستهجنا في مورد لا يصلح لحكم العقل المذكور ، فلو ورد في خصوص مورد كشف عن صلوحه لإحداث الداعي العقلي دفعا له عن اللغوية لو فرض عدم إمكان حمله على الخطاب التعليقي.
    أما لو كان مطلقا شاملا لبعض الموارد الصالحة لحدوث الداعي العقلي بنحو يكفي في رفع لغويته لم ينهض بالكشف عن صلوح بقية الموارد المشمولة للإطلاق لحدوث الداعي العقلي مع الشك فيها ـ لعدم الابتلاء مثلا ـ لعدم توقف رفع اللغوية على ذلك.
    إن قلت : إطلاق الخطاب يقتضي فعلية التكليف تبعا لتحقق موضوعه في موارد الشك في حدوث الداعي العقلي ، وحيث كانت فعليته مستلزمة لصلوحه لإحداث الداعي العقلي وإلا كان لغوا ، كان الإطلاق حجة في اللازم المذكور.

    قلت : الإطلاق إنما يكون حجة في نفي ما يحتمل دخله في موضوع الحكم المجعول مما يكون من شأن الجاعل بيانه ، وصلوح المورد لحدوث الداعي العقلي ليس دخيلا في موضوع التكليف ، ولا من شأن الشارع بيانه ، وإنما هو شرط في رفع لغويته ، ولا ظهور للإطلاق في رفع اللغوية ، وإنما هو من لوازم الخطاب القطعية بضميمة حكمة المخاطب التي يكفي فيها ترتب الأثر عليه في الجملة ولو بلحاظ بعض موارده ، ولذا لا يكون الخطاب ظاهرا في صلوح المورد لحدوث الداعي العقلي لو فرض عدم كون المخاطب حكيما ، مع كون الإطلاق ظاهرا في عموم موضوع الحكم وحجة له وعليه في ذلك.
    وبعبارة اخرى : الشك في فعلية الحكم إن كان للشك في سعة موضوعه أو نحوه مما يكون من شأن الشارع بيانه ، كان المرجع فيه الإطلاق ، وإن كان لجهات أخر راجعة للعقل فلا دخل للإطلاق فيه ، بل الإطلاق إنما يقتضي الفعلية من حيثية الموضوع ، لا من جميع الجهات ولو كانت خارجة عن وظيفة الشارع.
    إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات حتى الخارجة عن وظيفته ، فيكون الاطلاق ظاهرا حينئذ في ما يعم محل الكلام ، لكنه محتاج إلى قرينة خاصة ومئونة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام.
    ولعل نظير ذلك ما ذكروه في مبحث الاصول المثبتة من أنه لو ورد التعبد في مورد خاص بالأصل في أمر لا أثر له عملي إلا بواسطة عقلية ، كشف عن التعبد بالأثر المذكور دفعا للغوية ، للغوية التعبد الظاهري مع عدم الأثر العملي.
    ولا مجال لاستكشاف ذلك من إطلاق دليل الأصل لو فرض تحقق موضوعه ـ كاليقين والشك في الاستصحاب ـ في ما لا أثر له إلا بواسطة عقلية ، إذ يكفي في رفع لغوية الاطلاق شمولاه لموارد كثيرة يكون فيها مجرى الأصل موردا للأثر العملي بلا واسطة ، أو بواسطة شرعية.

    ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو فرض العلم بشرطية الابتلاء في تنجز التكليف لكن شك في تحديد المرتبة المعتبرة منه.
    فإنه لا مجال للرجوع في مورد الشك إلى إطلاق التكليف ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، لعين ما ذكرناه في فرض الشك في أصل شرطية الابتلاء.
    ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشية الرسائل في وجه امتناع التمسك بالإطلاق مع الشك في تحديد الابتلاء المعتبر.
    قال قدّس سرّه : «إنما يجوز الرجوع إلى الإطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته ، بأن يكون من أحوال ما اطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك ، وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الإطلاقات الواردة في مقام أصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟!».
    فلا مجال للإيراد عليه ..
    تارة : بمنع كون الابتلاء بمتعلق التكليف ـ كالطعام والأرض ونحوهما ـ من الانقسامات الثانوية اللاحقة له ، بل هو من الانقسامات السابقة عليه التي يمكن تقييده بها في الخطاب.
    واخرى : بعدم كونه من شروط تنجيز التكليف ، لانحصار المنجز بما يوصل التكليف علما أو تعبدا كالطريق والاصول ، فراجع ما ذكره بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما في المقام.
    لاندفاع الأول : بأنه لا يريد كون الابتلاء من الانقسامات الثانوية وعدمه ، إذ لا إشكال في عدم ترتبه مفهوما على التكليف كالعلم به ، بل هو كالقدرة مما يمكن لحاظه في رتبة سابقة على التكليف.
    بل يريد أن الشك ليس في تقييد موضوع التكليف الذي هو من وظيفة الشارع ، بل في توقف التنجيز على الابتلاء ، ولما كان ذلك خارجا عن وظيفة

    الشارع ، بل هو من شئون التكليف المتأخرة رتبة عن الخطاب ، والثابتة له بحكم العقل والعرف ، فلا يكون الإطلاق حجة في نفيه ، بل يمتنع الإطلاق والتقييد معا بالإضافة إليه ، لعدم كونه من شئون الحكم الشرعية ، بل من لواحقه العقلية ، كوجوب إطاعته.
    واندفاع الثاني بأنه لا يريد بالتنجز ما يساوق الوصول وقيام الحجة ، بل ما يساوق صلوح الخطاب لإحداث الداعي العقلي وانتزاع التكليف المستتبع لحكم العقل منجزا بوجوب إطاعته وقبح معصيته.
    وكذا الحال في ما ذكره في الكفاية من أن التمسك بالإطلاق إنما هو فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا في ما شك في اعتباره في صحة الاطلاق.
    فإن من القريب جدا رجوعه إلى ما ذكرنا من أن الشك في المقام في لغوية الخطاب في مورد عدم الابتلاء ، لعدم صلوحه لإحداث التكليف ، لا في تقييد التكليف مع صلوح المورد للإطلاق.
    وحينئذ لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الإطلاق بنفسه يكشف عن إمكان عموم الحكم لمورد الشك ، وإلّا لانسدّ باب التمسك بالإطلاقات في جميع موارد الشك ، لاحتمال عدم ثبوت الملاك فيها المستلزم لامتناع عموم الحكم لها.
    فإنه إنما يتم لو كان مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه من امتناع الإطلاق امتناعه بالغرض بسبب قصور الملاك المستلزم لوجوب التقييد عقلا.
    أما لو كان مراده امتناعه لقصور المورد عن جعل الحكم المستلزم للغوية الخطاب به من دون أن يحتمل التقييد ـ كما ذكرنا ـ فلا يرد عليه ذلك ، لما تقدم من أن الإطلاق إنما يكون حجة في نفي التقييد الذي هو من شئون الشارع ، لا في تحديد اللغوية الذي يكون المرجع فيه العقل في مرتبة متأخرة عن

    الخطاب.
    هذا ، وقد أطال بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في توجيه مراده ودفعه بما لا مجال لاطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.
    وكيف كان ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق لا مع الشك في أصل اعتبار الابتلاء في التنجيز ولا مع الشك في تحديد الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره في الجملة.
    بل اللازم الرجوع للبراءة في الطرف الذي هو محل الابتلاء ، لعدم ثبوت المانع عنه ، بعد توقف العقل عن الحكم بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال ، بنحو يقتضي إيجاب الطاعة والمنع عن المعصية منجزا.
    هذا ، ولكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه لزوم الاحتياط في المقام ، لرجوع الشك في المقام إلى الشك في القدرة التي يجب فيها الاحتياط عقلا ، لعدم دخل الابتلاء في ملاك التكليف ، بعد فرض تمامية الملاك وعدم دخل القدرة العقلية والعادية فيه يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال حتى يتحقق العجز ، ولا مجال في مثله لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لاختصاصها بما إذا احتمل قصور المورد عن ملاك التكليف رأسا ، وقد ذكر ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه أيضا.
    إلا أن مقرر درسه حكى عنه العدول عنه ، لاستلزامه وجوب الاحتياط حتى فيما لو علم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، لأن ذلك لا يوجب العلم بتحقق المسقط في مورد الملاك ، لاحتمال تحقق الملاك في الطرف المبتلى به.
    فلا بد من الالتزام بأن الشك في الخروج عن الابتلاء لا يكفي في وجوب الاحتياط ، لأن مجرد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل لزوم رعايته ما لم يكن تام الملاكية.

    وهذا راجع إلى ما أشرنا إليه في صدر هذا التنبيه من توهم أن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مورد الاضطرار أو التعذر يوجب دخوله في الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط ، وقد تقدم دفعه بما لا مزيد عليه وأن القياس في غير محله. فراجع.
    فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور وجهان :
    الأول : أن وجوب الاحتياط مع الشك في القدرة إنما هو مع الشك في تحقق القدرة بنحو الشبهة الموضوعية والعلم بسقوط التكليف معها ، لا في مثل المقام مما فرض فيه العلم بتحقق الابتلاء في الجملة والشك في مسقطيته ، فإن الشك المذكور نظير الشك في مانعية الموجود ، لا نظير الشك في وجود المانع ، فإن أمكن الرجوع فيه لإطلاق التكليف ـ كما لو شك في مقدار الحرج المسقط ـ فهو ، وإلا كأن المرجع البراءة.
    الثاني : أن القدرة المعتبرة في التكليف ..
    تارة : تكون بمعنى القدرة على موافقته ، في مقابل العجز عنها المستلزم لفوت ملاكه.
    واخرى : تكون بمعنى القدرة على مخالفته في مقابل العجز عنها ، المستلزم لعدم الأثر العملي للتكليف من دون أن يفوت ملاكه.
    ووجوب الاحتياط إنما يسلّم مع الشك في القدرة بالمعنى الأول ، حذرا من تفويت الملاك المفروض التمامية مع عدم إحراز العذر المسوغ له.
    اما الشك في القدرة بالمعنى الثاني فلا وجه لوجوب الاحتياط فيه ، إذ لا يحرز قابلية المورد للتكليف بسبب اللغوية المحتملة ، كما لا يحرز فوت الواقع حينئذ ، أما مع العلم التفصيلي بالتكليف فواضح ، وأما مع العلم الإجمالي فلاحتمال كون مورد التكليف غير المقدور فلا يفوت ، واحتمال كون مورده المقدور ليلزم من عدم الاحتياط فيه فوته مدفوع بالأصل.

    وبعبارة اخرى : الشك في المقام ليس في المسقط مع تمامية المقتضي للتكليف ، بل في صلوح المقتضي للتأثير ، للشك في تحقق شرط اقتضائه ، فالفرق بينهما يشبه الفرق بين الشك في تحقق المانع مع العلم بالمقتضي ، والشك في تحقق شرط تأثير المقتضي ، ووجوب الاحتياط في الأول لا يستلزم وجوبه في الثاني.
    ومن الظاهر أن الشك في الابتلاء نظير الشك في القدرة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الأول الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط معه.
    ومنه يظهر الحال في الشك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية لو فرض ، فإنه لا وجه لما يظهر من غير واحد من وجوب الاحتياط فيه ، كما لا وجه لما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من قياسه على الشك في القدرة الذي يجب فيه الاحتياط.
    بل اللازم الرجوع معه للبراءة في الطرف الذي يعلم بالابتلاء به ، لعدم حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي فيه بعد عدم إحراز الابتلاء بالمعلوم بالإجمال.
    كما لا مجال لتوهم التمسك بإطلاق التكليف حينئذ ، لما سبق. مضافا إلى أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. إلا أن يدعى جوازه مع كون المخصص لبيا ، كما في المقام.
    لكنه في غير محله ، كما حقق في مباحث العموم والخصوص.
    وأما القسم الرابع من الأمثلة التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه لعدم الابتلاء ، وهو ما يكون موردا لتكليف فعلي مخرج له عن قدرة المكلف شرعا ، كتنجس طعام الغير ، حيث يحرم ارتكابه مع قطع النظر عن نجاسته ، فقد وقع الكلام فيه بين الأعلام.
    وقد فصل فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه بين ما إذا كان المانع الشرعي في معرض

    الزوال ، كما لو كان المالك في مقام بيع العين وكان المكلف بصدد شرائها ، وما إذا لم يكن كذلك ، فقرّب منجزية العلم الإجمالي في الأول ، لعدم قبح توجيه التكليف بحرمة النجس ـ مثلا ـ في مثل ذلك ، بخلاف الثاني ، لقبح توجيه التكليف مع عدم القدرة الشرعية وإن فرض تحقق القدرة العادية ، لإمكان مثل السرقة ، كما لا يجري الأصل الترخيصي فيه بعد عدم إمكان تطبيق العمل عليه بسبب التكليف المعلوم بالتفصيل ، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل يكون العمل عليه.
    لكن لا يخفى أنه لو فرض كون القدرة الشرعية كالقدرة العادية شرطا في فعلية التكليف لا يكون التكليف فعليا ، بل تعليقيا ، وقد تقدم في القسم الثاني أنه لا يوجب انشغال الذمة فعلا ، فلا مجال معه لمنجزية العلم الإجمالي ، بل يمكن الرجوع للاصل الترخيصي في الطرف الآخر.
    ولعله لذا أطلق بعض مشايخنا مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي.
    نعم ، لو علم بزوال المانع الشرعي اتجه البناء على منجزية العلم الإجمالي ، كما أشرنا إليه آنفا ، ولا يكفي مجرد التوقع.
    هذا ، وقد أنكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه مانعية التكليف في بعض الأطراف من منجزية العلم الإجمالي مطلقا.
    وتوضيح ما أفاده : أن التكليف بشيء بعنوان لا يمنع من التكليف به بعنوان آخر ، بل يتعين تأكد التكليف الموجب لتأكد الداعي العقلي الذي هو الملاك في منجزية العلم الإجمالي.
    وما اشتهر من اعتبار القدرة الشرعية في متعلق التكليف كالقدرة العادية لا دخل له بما ذكرنا ، فإن ذلك إنما هو بمعنى لزوم القدرة الشرعية على موافقة التكليف ، فيمتنع تحريم ما هو واجب مثلا ، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، أما

    بمعنى لزوم القدرة الشرعية على مخالفة التكليف ، بأن يمتنع تحريم ما هو حرام من جهة اخرى ، فلا وجه له.
    ولا مجال لقياسه على القدرة العادية ، لأن الوجه في اعتبار القدرة العادية إنما هو لغوية التكليف بدونها ، لعدم الأثر له في الداعوية العقلية ، وذلك لا يجري في القدرة الشرعية ، إذ مع عدمها بسبب تكليف سابق لا يلغو جعل التكليف الآخر ، لصلوحه لتأكيد الداعوية بسبب تأكد ملاكها العقلي. وهو ضرر العقاب المترتب على المخالفة.
    كما أنه يمكن أن تجري الاصول الترخيصية والإلزامية بالإضافة إلى الجهة المشكوكة ، ويترتب على ذلك استحقاق العقاب زائدا على عقاب الجهة المعلومة وعدمه بالإضافة إليها.
    وعليه لا مانع من جريان الاصول الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي في المقام ، ووقوع المعارضة بينها ، خلافا لما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه إذ ليس مفاد الأصل الترخيصي الترخيص من جميع الجهات ، لينافي فرض العلم التفصيلي بالتكليف في بعض الأطراف ، بل الترخيص من حيثية التكليف المشكوك لا غير ، ومن الظاهر أن الأصل المذكور يترتب عليه الأثر في الطرف المذكور ، لاقتضائه المعذرية بالإضافة إلى التكليف الزائد وعدم استحقاق العقاب من جهته ، وهو كاف في رفع لغويته وصلوحه للمعارضة.
    وبالجملة : مجرد كون أحد الأطراف موردا لتكليف تفصيلي لا يمنع من كونه طرفا لعلم إجمالي صالح للداعوية العقلية مانع من جريان الاصول في الأطراف.
    نعم ، لو لم يكن التكليف قابلا للتأكيد ـ كما قد يدعى في باب التنجس ـ كان ابتلاء أحد الأطراف بالتكليف تفصيلا مانعا من منجزية العلم الإجمالي ، بل كان مانعا في الحقيقة من تحقق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ـ نظير ما تقدم

    في القسم الأول ـ وأما المعلوم بالإجمال فليس هو إلا تحقق مقتضي التكليف زائدا على التكليف المعلوم بالتفصيل في أحدهما.
    لكن لا يبعد خروجه عن محل كلامهم. ولا أقل من عموم كلامهم لغيره ، كما يشهد به تمثيلهم بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين المغصوب أحدهما.
    هذا ، والذي ينبغي أن يقال : التكليف بأحد الأطراف بخصوصه إن كان مؤثرا في داعوية المكلف نحو امتثاله ، لقيام الحجة عليه وخضوع المكلف للتشريع المقدس اتجهت مانعيته من منجزية العلم الإجمالي ، لعين ما تقدم في القسم السابق ، من عدم الأثر للتكليف الآخر بنحو يصحح انتزاع الكلفة ، وجعل السبيل الذي هو الملاك في تنجز التكليف المتقومة بداعوية العقل لامتثاله.
    ومجرد تحقق مقتضيه وملاكه لا يكفي مع فرض عدم إحداثه الكلفة بسبب تأثير التكليف الأول في فعليّة الداعي في نفس المكلف وصرفه إلى موافقته ، كما يظهر بالتأمل في ما سبق.
    أما لو فرض قصور التكليف التفصيلي عن التأثير في صرف المكلف لتمرده وعصيانه فاللازم منجزية العلم الإجمالي.
    وما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه قد عرفت عدم نهوضه بالمنع.
    ومثله ما لو كان قصوره عن الداعوية لعدم قيام الحجة عليه. وإن لم يبعد خروجه عن محل كلامهم.
    ومن هنا لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في أن المقدم على تمام أطراف العلم الإجمالي التي يكون بعضها موردا لعلم تفصيلي مستحق للعقاب من الجهتين ، لا من خصوص جهة التكليف التفصيلي ، وليس كالمقدم على مخالفة التكليف التفصيلي وحده في غير مورد العلم الإجمالي. وما ذلك إلا لتنجيز التكليف الإجمالي بالعلم المفروض. فلاحظ.
    اللهم إلا أن يقال : هذا إنما يقتضي تنجز التكليف الإجمالي في ظرف عدم

    داعوية التكليف التفصيلي بنحو يمنع من المخالفة القطعية بارتكاب كلا الطرفين ، ولا يقتضي منجزيته بنحو يقتضي الموافقة القطعية باجتناب تمام أطرافه بما فيها الطرف الذي لا يكون موردا للتكليف التفصيلي.
    كيف! ولازم ذلك أنه لو فرض عدم كون المكلف ممن يهتم بموافقة التكليف التفصيلي لخصوصية فيه ، إلا أنه وافقه من دون استحكام الداعي لموافقته ، لم يكفه ذلك في الخروج عن عهدة التكليف الإجمالي ، بل يلزمه مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر ، خروجا عن العلم الإجمالي ، وهو مما لا تناسبه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جدا ، بل هي حاكمة بكفاية موافقة التكليف التفصيلي وإهمال العلم الإجمالي معه ، بل هو مما يغافل عنه حينئذ.
    فمن لم يكن في مقام الإطاعة ولم يعتن بكل من التكليفين التفصيلي والإجمالي لو وعظه الواعظ حتى أقنعه بالإقلاع عما هو فيه يكتفى منه بموافقة المعلوم بالتفصيل ، كغيره ممن استحكم تدينه من أول الأمر ، ولا يفرق بينهما بتنجز العلم الإجمالي في حق الأول بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، بخلاف الثاني.
    ولعله لأن التكليف الجديد وإن أوجب تأكد التكليف السابق ، وشدة العقاب لو صادف مورده ، إلا أن الأثر المذكور لما كان راجعا للمولى ، ولا دخل له في عمل المكلف لم يصلح لتنجيز العلم الإجمالي في مقام العمل بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، بل غاية ما يقتضيه هو تنجزه في مقام المسئولية بالنحو الذي لا يستتبع العمل زائدا على ما يقتضي التكليف التفصيلي.
    ومرجع ذلك إلى تنجز مورد التكليف التفصيلي من جهتين ، جهة التكليف التفصيلي المعلوم ، وجهة التكليف الإجمالي المحتمل تحققه فيه ، فيتنجز على ما هو عليه من الملاك ، ولا يتنجز الطرف الآخر ، لعدم صلوح العلم الإجمالي للتنجيز العلمي بعد عدم العلم بترتب العمل على المعلوم زائدا على ما

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:42 am

    يقتضيه التكليف التفصيلي.
    وبعبارة اخرى : وجود القدر المتيقن يمنع عن منجزية العلم الإجمالي لما زاد عليه ، سواء كان المتيقن المذكور من حيثية الأمر المعلوم ، أم من حيثية العمل المترتب عليه ، فالأول كما لو دار الأمر بين وجوب شيء واستحباب آخر ، حيث لا يتنجز إلا القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب ، وهو الرجحان في كل منهما ، لأنه المتيقن من المعلوم ، ولا يتنجز كل من الطرفين على إجماله ، ليلزم تنجز احتمال الوجوب كما سبق في آخر الكلام في حرمة المخالفة القطعية ، والثاني كما في المقام ، حيث لا يكون العلم التفصيلي موجبا لوجود المتيقن في المعلوم ، للعلم بثبوت تكليفين ، أحدهما معلوم بالتفصيل والآخر معلوم بالإجمال ، وإنما يوجب وجود المتيقن في مقام العمل ، حيث يلزم العمل في الطرف الذي يعلم التكليف فيه تفصيلا على كل حال ، مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، والعلم الإجمالي لا يقتضي العلم بترتب عمل زائد على مقتضاه ، بل يقتضي احتمال ذلك في الطرف الآخر ، فلا يكون منجزا للعمل المذكور ، بل يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي بعد عدم المانع منه.
    ولا يعارض الأصل المذكور بالأصل الجاري في الطرف المعلوم بالتفصيل ، والمقتضي للسعة من حيثية احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه ، لعدم ترتب العمل على الأصل الجاري فيه بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف الآخر فيه ، وإنما يكون مقتضى الأصل ـ وهو السعة ـ اقتضائيا لا غير ، فلا يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر المقتضي للسعة فعلا.
    هذا ، غاية ما يقرب به سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في مقام العمل بالنحو المستتبع للموافقة القطعية ، وهو مناسب للمرتكزات المتشرعية والعقلائية في مقام العمل.
    ولو فرض التشكيك في ذلك ، فالأمر قد يهون بملاحظة ما تقدم في

    القسم السابق من أن المرجع مع الشك هو الأصل الجاري في الطرف المبتلى به المقتضي للسعة فيه. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم وهو ولي التوفيق والتسديد.
    ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو كان بعض الأطراف موردا لعلم إجمالي بتكليف آخر ، أو طرفا لعلم إجمالي كذلك. فالأول كما لو علم بنجاسة واحد من عشرة أوان منها خمسة بيض يعلم بوجود مغصوب بينها والثاني كما لو علم بنجاسة واحد من عشرة أوان ، منها ثلاثة بيض قد علم بوجود مغصوب بينها أو بين ثلاثة بيض اخرى خارجة عن العلم الإجمالي بالنجاسة.
    فإن العلم الإجمالي القائم ببعض الأطراف في الأول ، والشامل لها في الثاني إذا كان منجزا مقتضيا للعمل بالإضافة الى تلك الأطراف ، منع من منجزية العلم الإجمالي الآخر الشامل للأطراف المذكورة ، فلا يصلح لتنجيز بقية أطرافه ، فيجوز الرجوع في غير البيض من العشرة في المثالين إلى الاصول الترخيصية الجارية فيها.
    من دون فرق بين احتمال اتحاد التكليفين المعلومين بالإجمال موردا ، وعدمه ، كما لو علم بأن النجس على تقدير وجوده في البيض من العشرة فهو في غير المغصوب منها.
    وذلك لأن المانع من منجزية العلم الإجمالي ليس هو اتحاد التكليفين المعلومين بالإجمال موردا ، بل هو كون أحد التكليفين مقتضيا لعمل المكلف بنحو لا يكون المعلوم بالإجمال مما يعلم بترتب العمل عليه بنحو زائد على ما اقتضاه العلم الأول ، ولا يفرق في ذلك بين كون العمل ناشئا من كون الطرف موردا للتكليف الآخر عينا وكونه طرفا للعلم الإجمالي به.
    بقي في المقام أمر ينبغي الكلام فيه وهو أن عروض ما يمنع من فعلية التكليف في بعض الأطراف ..

    تارة : يكون قبل طروء التكليف الإجمالي أو مقارنا له.
    واخرى : يكون متأخرا عنه.
    كما أن العلم به ..
    تارة : يكون قبل حصول العلم الإجمالي ، أو مقارنا له.
    واخرى : يكون متأخرا عنه.
    فالصور أربع ..
    الاولى : أن يكون المانع سابقا على التكليف الإجمالي أو مقارنا له ، كما أنّ العلم به سابق أو مقارن للعلم الإجمالي.
    ولا ريب هنا في عدم منجزية العلم الإجمالي ، لما تقدم ، بل هذه الصورة هي المتيقن من جميع الصور المفروضة في المقام بالإضافة للوجه المتقدم لعدم المنجزية.
    نعم ، ما تقدم من عدم منجزية العلم الإجمالي مع كون بعض أطرافه طرفا لعلم إجمالي آخر مفارق له في بعض الأطراف مختص بما إذا كان العلم الإجمالي المانع متقدما ، أما مع تقارن العالمين فلا مجال لمانعية أحدهما من منجزية الآخر ، لعدم المرجح لأحدهما في التنجز ، كي يصلح لمنع الآخر منه ، بل حيث كان كل منهما مقتضيا في نفسه للتنجز في تمام أطرافه لزم تأثيره.
    ومجرد اشتراكهما في بعض الأطراف لا ينفع بعد عدم كون مراعاة احتمال التكليف فيه موجبة للموافقة القطعية لأحد العالمين ، ليتنجز على كل حال بنحو يمنع من منجزية كل منهما لبقية أطرافه ، بل حال الطرف المذكور حال بقية الأطراف في احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يتنجز إلا تبعا لمنجزية العلم الإجمالي في تمام أطرافه ، وحيث لا مرجح لأحد العالمين اتجه منجزيتهما معا في تمام أطرافهما ، غايته أن الطرف المشترك يتنجز من جهتين.

    وهذا بخلاف ما لو كان أحد العالمين أسبق ، فانه لما كان منجزا في نفسه ، ومقتضيا للعمل في تمام أطرافه كان مانعا من منجزية العلم الثاني المتأخر ، إذ لا يعلم معه بترتب العمل على الثاني بنحو زائد على ما اقتضاه الأول.
    وهل المعيار على سبق العلم أو المعلوم؟ يظهر الكلام فيه مما يأتي في الصورتين الأخيرتين.
    وكذا لو كان بعض الأطراف موردا لعلم تفصيلي أو إجمالي أخص ، فإنه يتنجز على كل حال ويمنع من منجزية العلم الإجمالي الأكثر أطرافا ، وإن كان مقارنا له. فلاحظ.
    الصورة الثانية : أن يكون المانع متأخرا عن التكليف الإجمالي حدوثا ، والعلم به متأخرا عن العلم الإجمالي به.
    والظاهر عدم الإشكال بينهم هنا في عدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.
    وقد اختلفت كلماتهم في توجيهه في مسألة الاضطرار إلى بعض معين من الأطراف. والظاهر عدم الفرق بين الاضطرار وغيره مما يسقط التكليف ويمنع من منجزية العلم الإجمالي.
    وكيف كان فقد يوجه بوجوه ..
    الأول : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من تحقق العلم الإجمالي التدريجي بالتكليف في الطرف المبتلى بالمانع قبل طروئه ، أو في الطرف الآخر مطلقا ، وهو كاف في المنجزية.
    وفيه : ـ بعد إصلاحه بأنه كالتدريجي من حيثية تحقق بعض الأطراف بعد ارتفاع بعضها ، لا من حيثية تحقق بعض الأطراف قبل تحقق بعضها ، لفرض اجتماع الأطراف سابقا قبل طروء المانع في المقام ـ أن العلم الإجمالي التدريجي إنما يوجب تنجيز التكليف إذا علم الابتلاء بتمام الأطراف ، ومن

    الظاهر في المقام أن العلم بالتكليف في كل طرف مشروط بعدم طروء المانع فيه ، فلا يعلم به إلا حين العلم بعدم طروء المانع ، أما مع الشك في طروئه في الزمان اللاحق فيشك في التكليف ، وينحصر العلم به بحال العلم بفقد المانع في الطرفين فهو المنجز لا غير.
    نعم ، بعد طروء المانع يعلم بالتكليف إما في طرف المانع سابقا أو في الطرف الآخر فعلا. لكن مثل هذا العلم الإجمالي التدريجي لا أثر له ، لأنّه حادث بعد خروج بعض الأطراف عن الابتلاء بانتهاء أمده.
    كما أنه لو فرض العلم قبل طروء المانع بطروئه في ما بعد في بعض الأطراف دون بعض اتجه منجزية العلم الإجمالي المذكور. فتأمل جيدا.
    أن منجزية العلم الإجمالي التدريجي قبل خروج الطرف الأول عن الابتلاء بنحو تمنع من الإقدام عليه مبنية على ما يأتي من كفاية العلم بالابتلاء بالتكليف في وقته في تنجزه قبل وقته ، ولا دخل لذلك في المقام.
    أما منجزيته بعد خروج الطرف الأول عن الابتلاء بمضي وقته ، فهو مبني على الكلام هنا في وجه منجزية العلم الإجمالي ، لوضوح أنه مع العلم بعدم التكليف ببعض الأطراف لخروج وقته أو وجود المانع فيه لا يعلم بالتكليف إجمالا. فما وجه تنجز بقية الأطراف؟! فافهم.
    الثاني : أن الشك في المقام في انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على مورد المانع راجع إلى الشك في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته وانشغال الذمة به ، والمرجع فيه الاشتغال ، بخلاف الصورة الاولى ، حيث كان مرجع الشك المذكور فيها إلى الشك في أصل ثبوت التكليف ، والمرجع فيه البراءة.
    وفيه : أن المانع لما كان من حدود التكليف العقلية أو الشرعية ، فالشك فيه شك في التكليف ، فهو يوجب ارتفاع العلم الإجمالي المفروض كونه هو المنجز ، ومعه لا مجال لقاعدة الاشتغال ، لأنها فرع وجود المنجز للتكليف.

    ومن ثمّ لو شك في طروء المانع في فرض العلم التفصيلي بالتكليف لم تنفع قاعدة الاشتغال في لزوم مراعاة احتمال التكليف ، بعد فرض ارتفاع العلم به ، بل لا بد من منجز للتكليف ، من أصل موضوعي ، كاستصحاب نجاسة الماء ، المحرز لحرمة شربه ، أو حكمي إحرازي ، كاستصحاب حرمة شرب الماء ـ لو تم في نفسه ـ أو غير إحرازي ، كما في موارد انقلاب الأصل ، كالشك في القدرة وغيره. ولو لا ذلك لتعين الرجوع للبراءة من التكليف بعد فرض ارتفاع العلم به.
    الثالث : استصحاب بقاء التكليف أو عدم طروء المانع منه ، فلو علم بنجاسة أحد الإنائين ـ مثلا ـ ثم علم بتطهير أحدهما معينا ، فاستصحاب نجاسة ما كان منهما نجسا سابقا يقتضي وجوب اجتنابه بترك الفرد الآخر.
    وفيه : أن استصحاب بقاء التكليف لا ينفع في اجتناب الطرف الآخر الخالي عن المانع ، إلا بناء على الأصل المثبت ، لملازمة بقاء التكليف الإجمالي لتحققه فيه.
    إن قلت : مراعاة احتمال التكليف في الطرف الخالي عن المانع ليس لإحراز كونه هو مورد التكليف المستصحب ، ليبتني على الأصل المثبت ، بل لاحتمال تحققه فيه وتوقف الفراغ عنه عليه ، فيجب مراعاة ذلك بمقتضى قاعدة الاشتغال بعد فرض تنجز التكليف بالاستصحاب ، فالاستصحاب بالإضافة إلى الطرف المذكور كالعلم الإجمالي بالإضافة إليه ، لا يقتضي تنجزه إلا بضميمة قاعدة الاشتغال ، ولا فائدة فيه إلا تنجيز التكليف على إجماله بدلا عن العلم به المفروض ارتفاعه بسبب طروء المانع.
    قلت : لا مجال لجريان الاستصحاب بنحو يقتضي التعبد بالتكليف المعلوم بالإجمال ، لأن مقتضاه التعبد بالمستصحب ظاهرا تنجيزه على كل حال ، كما هو الحال في سائر موارد التعبد بالمضمون شرعا ، وهو لا يجتمع مع اليقين بثبوت الحكم الواقعي في مورده على تقدير اتحاد متعلقه مع الطرف المبتلى

    بالمانع.
    مثلا : لو علم بنجاسة إناء زيد ، واشتبه بين الخزف والنحاس ، ثم طهر الخزف ، فاستصحاب نجاسة إناء زيد يقتضي التعبد بنجاسته وحرمة شربه على كل حال حتى لو كان هو الخزف ، وهو لا يجتمع مع العلم بطهارة الخزف وجواز شربه ، فالحكم الظاهري بإطلاقه مناف للعلم الذي يترتب عليه العمل لحجيته ذاتا
    وأما ما هو المعروف من عدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي ، فهو مختص بما إذا لم يكن الحكم الواقعي بنحو يترتب عليه العمل ، لعدم وصوله للمكلف ، لا في مثل المقام مما فرض فيه وصول الحكم الواقعي وترتب العمل عليه بنحو يمتنع معه جعل الحكم الظاهري عقلا وإن فرض تحقق موضوعه.
    وبعبارة اخرى : التنافي بين الحكم الواقعي الواصل والحكم الظاهري يوجب امتناع جعل الحكم الظاهري في المقام ، لأنه يؤدي إلى احتمال اجتماع المتنافيين ، وهو ممتنع كاليقين به.
    ويشهد بما ذكرنا أنه لو فرض خطأ القطع التفصيلي بعدم التكليف في بعض الأطراف ، وبقاء التكليف الذي كان معلوما بالإجمال فيه لزم من جريان الاستصحاب المذكور استحقاق العقاب بارتكابه ، لمخالفة التكليف الواقعي والظاهري معا فيه ، مع أنه لا مجال له قطعا ، لمنافاته لحجية القطع التفصيلي وإن كان خطأ.
    ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع ما يطرأ على بعض الاطراف مما يمنع من بقاء العلم الإجمالي ، سواء كان رافعا شرعيا للتكليف الفعلي ـ كالاضطرار والحرج ـ او لموضوعه ـ كالتطهير في المثال السابق ـ أم عقليا ـ كالامتثال ، والمعصية ، والخروج عن الابتلاء ، وتنجيس أحد الأطراف معينا ، وغير ذلك ـ وذلك لامتناع جعل الحكم الظاهري معها ، فيمتنع التعبد به بالإضافة إلى المعلوم

    بالإجمال المحتمل انطباقه على الطرف الواجد للمانع قطعا ، فيلزم منافاة الحكم الظاهري باطلاقه للعلم.
    نعم ، لو رجع مفاد الاستصحاب إلى تنجيز مضمونه على تقدير انطباقه على خصوص الطرف الخالي عن المانع لا مطلقا ، أمكن جريانه في المقام ، لعدم منافاته للعلم المفروض.
    لكن هذا خلاف مقتضى أدلة الاستصحاب وجميع أدلة الأحكام الظاهرية التعبدية ، فإن مقتضى التعبد بالتكليف تنجزه على كل حال بحكم العقل.
    وإنما يمكن تنجز التكليف على خصوص بعض التقادير إذا كان مفاد الجعل الشرعي مجرد وجوب الاحتياط فيه ، من دون تعبد به وإحراز له ، وهو خارج عن مفاد دليل الاستصحاب محتاج إلى دليل خاص مفقود في المقام.
    ويأتي إن شاء الله تعالى في الجواب عن الشبهة العبائية ما ينفع في المقام.
    إذا عرفت هذا ، فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام يبتني على منجزية العلم السابق بعد ارتفاعه بسبب طروء المانع.
    ولا ينبغي الريب فيه لو كان ارتفاعه ناشئا عن امتثال بعض الأطراف ، لما هو المعلوم من أن وجوب الموافقة القطعية لا يختص بالحكم التحريمي ، بل يجري في الحكم الوجوبي ، الذي يكون الشك في امتثاله ملازما للشك في بقاء التكليف وارتفاع العلم به ، فلو ارتفعت منجزية العلم تبعا لارتفاعه بذلك لم يبق موضوع لوجوب الموافقة القطعية ولا لقاعدة الاشتغال بالتكليف ، من دون فرق في ذلك بين العلم التفصيلي والإجمالي ، ففرض اقتضاء العلم للموافقة القطعية ارتكازا ملازم لفرض منجزيته بعد ارتفاعه في المقام.
    ومثل ذلك ما لو كان المانع هو العصيان في بعض الأطراف ، كما لو أخر الصلاة حتى ضاق الوقت عن الجمع بين الصلاتين ، فإن العصيان وإن كان

    مسقطا للتكليف على تقدير انطباقه على مورده ، إلا أن ملاك الحكم بوجوب الموافقة القطعية ، وهو دفع الضرر المحتمل يقتضي تجنب المعصية في الطرف الآخر ، المحتمل كونها معصية للتكليف المعلوم المنجز حذرا من العقاب.
    وأما في غير ذلك من الموانع مما يمنع من استمرار التكليف مع اليقين بإطاعة التكليف في الزمان الأول الذي يعلم بتحقق التكليف فيه إجمالا ، فقد يصعب توجيه وجوب الاحتياط بعد فرض ارتفاع العلم الإجمالي من غير جهة الشك في المعصية والامتثال ، ولذا لا ريب في عدم وجوبه مع العلم التفصيلي لو فرض معه احتمال طروء المانع ، إلا بضميمة اصول أخر إحرازية ، كالاستصحاب الذي عرفت عدم جريانه في المقام ، أو غيرها ، كما في موارد الشك في طروء التعذر ، حيث تقدم غير مرة انقلاب الأصل معه ، وتقدم في أول الكلام في هذا التنبيه أنه لا مجال له في المقام ، لاختصاصه بما إذا شك في سعة القدرة لا في حال المقدور.
    لكن الإنصاف : أن المرتكزات قاضية بعدم كفاية إعدام موضوع التكليف في بعض الأطراف في جواز ارتكاب بقيتها ، فلا يكفي إراقة أحد الإنائين المعلوم إجمالا نجاسة أحدهما في جواز استعمال الآخر ، ومن ثمّ كان وجوب إهراق الإنائين المشتبهين معا ، والتيمم ارتكازيا لا تعبديا محضا.
    ولا منشأ لذلك إلا أن العلم الإجمالي لما فرض تنجيزه للمعلوم بالإجمال على ما هو عليه ، وجب إحراز الفراغ عنه على ما هو عليه. ومجرد العلم بطروء المانع في بعض الأطراف لا يرفع ذلك ، وإن ارتفع معه العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، فيجب مراعاة احتمال التكليف في الطرف الآخر لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال السابق عليه ، فهو نظير ارتفاع العلم بسبب الشك في الامتثال لا يمنع من منجزيته.
    ولا فرق في ذلك ارتكازا بين إعدام الموضوع ، وانعدامه بنفسه ، وفقد

    شرط التكليف وغير ذلك من الموانع. فتأمل جيدا.
    هذا كله بناء على منجزية العلم الإجمالي ذاتا بنحو يقتضي الموافقة القطعية.
    وأما لو كان منشأ منجزيته في ذلك تساقط الاصول الترخيصية في الأطراف بالمعارضة ، فالأمر أشكل ، فإن طروء المانع من التكليف في بعض الأطراف مانع من جريان الأصل فيه ، لأن ما هو الشرط لجريانه حدوثا شرط لجريانه بقاء ، وبعد سقوط الأصل فيه لا يبقى معارض للأصل في الطرف الآخر ، فلا مانع من جريانه عملا بعموم دليله.
    ودعوى : أن عروض المانع من التكليف في بعض الأطراف وامتناع جريان الأصل فيه لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الآخر بعد سقوطه ، بل التعارض بينهما في الزمان السابق موجب لسقوطهما إلى الأبد.
    مدفوعة : بأن المانع من جريان الأصل لما كان هو التعارض بين الأصلين فلا معنى لبقائه في ظرف سقوط أحدهما ، مهما كان منشأ السقوط.
    وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن المحذور العقلي ـ وهو لزوم الترخيص في المعصية ـ كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكل من الطرفين في زمان واحد يقتضي عدم شمولاه لهما في زمانين ، فالعلم بحرمة أحدهما لا بعينه يقتضي سقوط الاصول في جميع الأزمنة ، كان كلاهما موجودا أو كان أحدهما معدوما.
    ففيه : أنه مع فرض سقوط أحدهما لا يلزم من جريان الآخر وحده الترخيص في المعصية ، كما لا يلزم الوقوع فيها إلا بناء على منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى الموافقة القطعية مطلقا مع قطع النظر عن تعارض الاصول حيث يتنجز المعلوم بالإجمال في الزمان السابق حينئذ على كل حال ، فجريان الأصل في بعض أطرافه بعد سقوط الآخر مما يحتمل معه الترخيص

    في المعصية ، الذي هو قبيح كالعلم به.
    وبالجملة : توجيه منجزية العلم الإجمالي على المبنى المذكور في غاية الإشكال ، لكن هذا مما يخدش به المبنى المذكور في منجزية العلم الإجمالي ، وإلا فعدم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في المقام مسلم بين الكل ومطابق للمرتكزات ، كما ذكرنا.
    الصورة الثالثة : أن يكون حدوث المانع متأخرا عن التكليف المعلوم بالإجمال ، إلا أن العلم به مقارن للعلم الإجمالي أو متقدم عليه.
    كما لو اضطر عند الزوال إلى إناء معين ، وعلم بعده إجمالا بتحريم ذلك الإناء أو إناء آخر من قبل الزوال.
    وعن شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره عدم منجزية العلم الإجمالي حينئذ.
    وهو متجه بناء على أن المعيار في منجزية العلم الإجمالي تساقط الاصول الترخيصية في الأطراف بالمعارضة ، لوضوح أن الأصل في الطرف المبتلى بالمانع لو جرى قبل حدوث المانع لم يعارض الأصل الجاري في الطرف الآخر ، لعدم العلم الإجمالي حينئذ بالتكليف ، كما أنه حين حدوث العلم الإجمالي حيث لا يجري الأصل في الطرف المذكور ، لفرض سبق حدوث المانع فيه ، فلا معارض للأصل الجاري في الطرف الآخر ، ولا منجز للعلم الإجمالي المذكور.
    لكن تقدم ضعف المبنى المذكور ، وأنه لو تم لزم سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الصورة السابقة أيضا.
    وأما الفرق بينهما : بأن الأصل في هذه الصورة يجري في الطرف غير المبتلى بالمانع من أول الأمر ، بخلاف تلك الصورة ، حيث لا يجري الأصل في الطرف المذكور من أول الأمر ، لفرض سقوطه بالمعارضة قبل عروض المانع.
    فهو غير فارق ، بعد ما أشرنا إليه آنفا من أن عروض المانع في تلك

    الصورة على بعض الأطراف لما كان مسقطا للأصل فيه فهو يوجب ارتفاع المانع عن جريان الأصل في الطرف الآخر ، لعدم المعارض له حينئذ.
    وعليه يشكل الأمر بناء على منجزية العلم الإجمالي في نفسه بنحو يقتضي الموافقة القطعية مع قطع النظر عن تعارض الاصول ـ كما هو المختار ـ لأن العلم في المقام صالح للتنجيز بعد فرض كون المعلوم إجمالا هو التكليف الفعلي الخالي عن المانع ، وأن المانع المحتمل طروؤه في مورد التكليف لا يمنع من حدوث التكليف ، لفرض تأخره عنه ، بل غاية ما يقتضي سقوطه بعد حدوثه ، كما في الصورة الثانية.
    ودعوى : أنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين العلم ، فلو لم يعلم بترتيب الأثر عليه ولو لاحتمال سقوطه بعد ثبوته لم يصلح العلم لتنجيزه ، كي يجب إحراز الفراغ عنه. وبه يفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية ، حيث كان المفروض في تلك الصورة عدم حدوث المسقط حين العلم بالتكليف ، بل يعلم بترتب الأثر على التكليف حينئذ.
    مدفوعة : بأنه لا مجال لاعتبار ذلك في منجزية العلم الإجمالي ، إذ لا فرق بينه وبين العلم التفصيلي في المنجزية ، ومن الظاهر أنه يكفي في منجزيّة العلم التفصيلي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين حدوثه وإن احتمل سقوطه حين العلم بطروء المانع من الامتثال ، أو الاضطرار ، أو غيرهما.
    اللهم إلا أن يقال : هذا إنما يتم مع الشك في الامتثال ، أما مع كون المانع المحتمل أمرا آخر كالاضطرار ونحوه فليس المنجز مع العلم التفصيلي هو العلم السابق ، بل استصحاب التكليف أو موضوعه ، أو انقلاب الأصل في مورده ، كما تقدم في الصورة الثانية ، وقد تقدم فيها عدم جريان الاستصحاب ولا غيره في مورد العلم الإجمالي ، وأنه لا موجب لمراعاة احتمال التكليف الا قاعدة الاشتغال ، التي هي فرع تنجز التكليف ، والعلم الإجمالي لا يصلح للتنجيز في

    المقام ، بخلاف الصورة الثانية ، لما ذكرناه هنا من الفرق بينهما. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.
    الصورة الرابعة : أن يكون حدوث المانع متقدما على المعلوم بالإجمال ، أو مقارنا له إلا أن حدوث العلم به بعد حدوث العلم الإجمالي ، كما لو علم المكلف بنجاسة أحد الإنائين حين الزوال ، ثم علم بتعذر استعمال أحدهما من قبل الزوال.
    والظاهر هنا عدم منجزية العلم الإجمالي ، فيجوز ارتكاب الاناء الآخر ، لأن العلم بسبق حدوث المانع مستلزم لانكشاف خطأ العلم الإجمالي بالتكليف الذي يترتب عليه العمل ، وإن كان العلم بتحقق مقتضيه مصيبا ، ولا مجال مع ذلك لمنجزية العلم المذكور ، لأنها مختصة بما إذا لم يرتفع وينقلب إلى الشك البدوي في بعض الأطراف.
    وما سبق في الصورة الثانية من تنجيز العلم السابق بعد ارتفاعه مختص بما إذا كان ارتفاعه لتبدل حال المعلوم مع عدم ارتفاع العلم بحدوثه ، ولا يجري في مثل المقام مما كان المرتفع هو العلم بالحدوث وأن الواقع ليس على النحو الذي قطع به سابقا.
    فالمقام نظير ما لو علم المكلف بملاقاة النجاسة لأحد ماءين كان يعتقد قلتهما ، فاعتقد بنجاسة أحدهما ، ثم علم بسبق كرية أحدهما ، حيث لا ينبغي الريب في عدم المنجز لاحتمال التكليف في الآخر ، بل لا مانع من الرجوع فيه لاستصحاب الطهارة.
    ولا فرق في هذا بين جميع الموانع المفروضة في المقام ، لأنها باجمعها تقتضي قصورا في المعلوم ، فبانكشافها يظهر خطأ العلم السابق بوجود تكليف يترتب عليه العمل على كل تقدير ، الذي هو المدار في التنجز ، كما سبق.

    التنبيه الخامس : فيما لو كانت الأطراف تدريجية.
    لا ريب في منجزية العلم الإجمالي لو كانت أطرافه في عرض واحد بحيث يبتلى المكلف بها دفعة واحدة ، سواء أمكن مخالفتها في زمان واحد ، كما لو علم بحرمة لبس أحد ثوبين ، حيث يمكن لبسهما معا ، أم لم يمكن ، كما لو علم وهو جنب ، بمسجدية أحد المكانين ، حيث لا يمكن المكث فيهما في وقت واحد.
    لأن فعلية الأطراف في الزمان الواحد تستلزم العلم بفعلية التكليف الإجمالي الموجب للموافقة وعدم المخالفة.
    وأما لو كانت الأطراف تدريجية الحصول ، كما لو علم المكلف بأنه نذر زيارة الحسين عليه السّلام في إحدى ليلتين ، أو علم بحيض امرأته في خمسة أيام من أول الشهر أو آخره ، فقد وقع الكلام بينهم في منجزية العلم ، وظاهر شيخنا الاعظم قدّس سرّه التفصيل بين المثالين المتقدمين بالتنجيز في الأول دون الثاني ، على إشكال منه في وجه الفرق ، وظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل موافقته في التفصيل المذكور للوجه الآتي في الفرق ، وجزم بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما وغيرهما بالمنجزية مطلقا.
    والذي ينبغي أن يقال : حيث تقدم غير مرة أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي من كون المعلوم أمرا يترتب عليه العمل على كل حال ، بحيث يكون موردا للمسئولية وصالحا لإحداث الداعي العقلي ، ليجب الفراغ عنه بعد تنجزه بالعلم ، فالكلام في المقام يبتني على تحقيق حال الطرف المتأخر ، وأنه صالح للداعوية وموضوع للمسئولية ، أو لا ، بعد الفراغ عن صلوح المتقدم لذلك.
    ولا ينبغي التأمل في ذلك بعض الرجوع للمرتكزات العقلية ، إذ لا ريب في قبح تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف المتأخر ، بحيث يلزم منه تفويت التكليف التام الملاك في وقته.

    وعليه يبتني وجوب المحافظة على مقدمات المكلّف به المفوتة ، وهي التي لا يمكن تحصيلها إلا قبل الوقت ، حيث يظهر منهم الاتفاق عليه تبعا للمرتكزات العقلائية والمتشرعية ، وإن اختلفوا في وجهه.
    فإن ذلك كاشف عن صلوح التكليف بالأمر المتأخر للداعوية العقلية قبل الوقت ، فيصلح لأن يكون طرفا لعلم إجمالي منجز.
    ولا يهم مع ذلك تحقيق أن الأمر المتأخر دخيل في المكلّف به مع فعلية التكليف والملاك قبله ، لإمكان التكليف الفعلي بالأمر المتأخر ـ كما في الواجب المعلق عند صاحب الفصول قدّس سرّه ـ أو هو دخيل في التكليف عقلا أيضا ، لاستحالة التكليف بالأمر المتأخر ، إما مع فعلية ملاكه لتمامية موضوعه الشرعي ، كالنذر في المثال الأول ، أو مع عدم فعلية لأخذ الأمر المتأخر في موضوعه شرعا ، كالحيض في المثال الثاني.
    نعم ، لو كانت المنجزية موقوفة على فعلية التكليف أو فعلية الملاك ، كان تحقيق ذلك مهما جدا ، وابتنى على الكلام في الواجب المشروط والمعلق.
    وكأنه إلى ذلك نظر المحقق الخراساني قدّس سرّه في وجه التفصيل بين المثالين المتقدمين ، فإنه حيث ذهب إلى إمكان كل من الواجب المعلق الذي يكون فيه التكليف فعليا والمكلف به استقباليا ، والواجب المشروط بالمعنى المشهور ، وهو الذي يكون الشرط فيه شرطا للتكليف ، ولا يكون التكليف قبله فعليا ، اتجه منه التفصيل بين المثالين ، لظهور كون النذر الذي هو موضوع وجوب الوفاء فعليا ، وإن احتمل كون المنذور أمرا استقباليا ، أما الحيض الذي هو موضوع حرمة الوطء فحيث لم يكن محرزا لم يحرز فعلية التكليف المعلوم بالإجمال معه ، فلا يكون منجزا بناء على أن المدار في منجزيته العلم بالتكليف الفعلي ، ولا يكفي العلم بأحد تكليفين تدريجيين كل منهما فعلي في وقته ، كما يظهر منه في حاشية الرسائل.

    أما شيخنا الأعظم قدّس سرّه فلا يتجه منه التفصيل المذكور ، بناء على ما سلكه في الواجب المشروط من لزوم رجوع جميع الشروط للمادة لبا ، وامتناع رجوعها للهيئة عقلا ، حيث يلزمه فعلية التكليف في المثالين معا المستلزم لمنجزية العلم الإجمالي بلا إشكال.
    وأما ما ذكره قدّس سرّه في وجه عدم المنجزية في الثاني من امتناع التكليف الفعلي قبل الحيض بترك وطء الحائض ، لأن تركه ناشئ من عدم الابتلاء به ، فلا يطلب بالخطاب الشرعي إلا أن يكون الخطاب به تعليقيا.
    فهو ـ مع جريانه في المثال الأول ، ولذا استشكل قدّس سرّه في الفرق بينهما ـ رجوع عما ذكره في الواجب المشروط من لزوم فعلية التكليف وامتناع تعليقيته. فراجع وتأمل.
    وكيف كان ، فبعد ما عرفت من أن التكليف الفعلي التام الملاك في وقته صالح للتنجيز والداعوية العقلية ، ولا تتوقف داعويته على فعليته حينها يتعين البناء على المنجزية في جميع موارد العلم الإجمالي التدريجي الأطراف.
    إن قلت : هذا مناف لما تقدّم في التنبيه السابق من أن عدم الابتلاء ببعض الأطراف مانع من منجزية العلم الإجمالي ، حيث لا ريب في خروج الأمر المتأخر عن الابتلاء الفعلي.
    قلت : عدم الابتلاء المانع من المنجزية هو الموجب للغوية التكليف وعدم صلوحه لإحداث المسئولية عرفا ، بسبب استحكام الدواعي لموافقة التكليف وشدة الصوارف عن مخالفته ، لا مجرد عدم الابتلاء الفعلي الناشئ من الفاصل الزمني مع تحقق الابتلاء بالتكليف في وقته ، فانه لا يمنع من إحداث المسئولية عرفا وعقلا ، ولذا يكون منشأ للسعي نحو المقدمات وفعلية الداعي العقلي لتحصيلها.
    هذا ، ولا يخفى أن ما ذكرنا مشروط بالعلم بالابتلاء بالطرف المتأخر في

    وقته ، بنحو صالح للتنجيز لو فرض انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، لاجتماع شرائط التنجيز وفقد الموانع المتقدمة. فلو لم يعلم بذلك لا مجال لمنجزية العلم الإجمالي.
    نعم ، لو كان عدم العلم ناشئا من احتمال الموت أو العجز المسقط للتكليف فالظاهر منجزية العلم لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء ، وأصالة الاحتياط مع الشك في القدرة ، إذ الشك في المقام في سعة القدرة ، لا في حال المقدور ، كي لا يجب معه الاحتياط لما تقدم.
    والظاهر أنه لا يكفي الاستصحاب ـ بناء على جريانه في الامور المستقبلة ـ لو فرض كون منشأ الشك في الابتلاء هو احتمال ارتفاع ما هو الشرط فيه.
    مثلا : لو علم الرجل إجمالا بحيض امرأته في أول الشهر أو آخره ، واحتمل خروجها في آخره بطلاق أو نحوه لم يكف استصحاب زوجيتها إلى آخر الشهر في تنجيز العلم المذكور ، لأن الابتلاء ليس من آثار الزوجية شرعا ، ليمكن التعبد به تبعا للتعبد بها ، كما لا مجال لاستصحاب الابتلاء نفسه ، لعدم كونه حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، وإنما هو شرط في منجزية العلم الإجمالي عقلا.
    نعم ، لو علم المكلف بالابتلاء في الوقت بسبب الاستصحاب أو غيره من الاصول لزم منجزية العلم الإجمالي التدريجي المذكور ، كما لو احتمل الرجل في المثال المتقدم أن يكون قد حلف على ترك وطء زوجته في آخر الشهر ، فإن استصحاب عدم الحلف المذكور لما كان مقتضيا لجواز وطئه لها ظاهرا ، وقدرته على ذلك عقلا أوجب العلم بالابتلاء في الوقت ، فيتنجز التكليف المعلوم بالإجمال تبعا للعلم بالحيض.
    فهو كما لو علم إجمالا بحيض إحدى زوجيته ، وكانت إحداهما

    مستصحبة الزوجية ، حيث يكفي استصحاب زوجيتها في منجزية العلم الإجمالي ، لكونه محققا للابتلاء بها فعلا.
    والفرق بينه وبين المثال الأول أن الاستصحاب لا يوجب اليقين بالقدرة على ارتكاب الطرف المتأخر في المثال الأول ، لإمكان انكشاف الخلاف في وقته الرافع للحكم الظاهري ، وللقدرة العقلية المقومة للابتلاء المعتبر في المنجزية ، أما في هذا المثال فالاستصحاب يوجب اليقين بالقدرة ، إذ ليس المانع إلا احتمال اليمين ، والمفروض أن الاستصحاب مؤمن منه في وقته. إلا أن يحتمل معه انكشاف الخلاف في وقته أيضا ، بأن احتمل تذكره لليمين حينئذ ، فيتجه عدم منجزية العلم الإجمالي ، لعدم كون الاستصحاب موجبا لليقين بالابتلاء في وقته.
    ففي الحقيقة أن الموجب للعلم بالابتلاء هو العلم بجريان الأصل في وقته وصلوحه للعمل حينئذ ، فلو احتمل ارتفاع موضوعه في وقته بنحو لا يصلح للعمل لانكشاف الحال لم يعلم بالابتلاء من مجرد إجراء الأصل في الأول ، بل لا يجري حينئذ لعدم الأثر. فتأمل جيدا.
    ثم إن الظاهر أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي التدريجي من الالتفات للاطراف وتحديدها ولو إجمالا. لتكون موردا للتنجيز ، حيث لا يدفع العقل للعمل إلا بعد تحديد موضوعه ، ولا يكفي مجرد العلم بالابتلاء بالحرام والوقوع فيه من دون تحديد للأطراف ، حيث يكثر من المكلف العامل بالاصول الترخيصية ، حيث يتعرض للمخالفة الواقعية ، ويعلم إجمالا بحصولها في ما يبتلى به من الوقائع التدريجية في شهره أو سنته أو مدة عمره ، خصوصا في الاموال والطهارة والنجاسة وغيرهما مما يكثر فيه مخالفة الاصول الترخيصية للواقع. ولو لا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد ، وقلّت الفائدة في جعل الاصول المذكورة.

    فالعلم المذكور نظير العلم بالخطإ في ما يحصل من العلوم التفصيلية في الوقائع التدريجية ، حيث قد يحصل العلم المذكور بسبب الالتفات لتحقق الخطأ في كثير من العلوم السابقة ، مع عدم الإشكال في عدم منجزية العلم المذكور بنحو يمنع من التعرض للفحص في الوقائع وتحصيل العلم التفصيلي مقدمة للتحرز من المخالفة فيها. فافهم.
    ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من التمثيل للعلم الإجمالي التدريجي بما إذا علم المكلف أنه يبتلى في يومه أو شهره بمعاملة ربوية ، فإن المعاملات المذكورة حيث لم تكن حين العلم الإجمالي محددة لم يصلح العلم المذكور لتنجيز التكليف فيها بحيث يجب الاحتياط فيها.
    نعم ، احتمال كون المعاملة ربوية بنحو الشبهة الحكمية منجز بنفسه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور ، لوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية بنحو يمنع من الرجوع للاصول الترخيصية ، وهذا بخلاف ما إذا كان الاحتمال المذكور بنحو الشبهة الموضوعية ، كما لو شك في كون العوضين من المكيل والموزون ، حيث لا مانع من الرجوع لأصالة عدم كونهما كذلك ، المقتضية لصحة المعاملة.
    ومجرد العلم بالابتلاء بالمعاملة الربوية في طول الشهر أو السنة من دون تحديد لها لا يصلح للتنجيز بل هو كالعلم بالابتلاء بشرب النجس كذلك.
    والأمر محتاج إلى مزيد من التأمل. والله سبحانه ولي العصمة والسداد.

    التنبيه السادس : فيما لو اقترن العلم الإجمالي بما يمنع
    من الموافقة القطعية
    اعلم أن طروء ما يوجب الترخيص في مورد العلم الإجمالي ..
    تارة : بأن يكون العنوان المقتضي للترخيص منطبقا على كل طرف بخصوصه.
    واخرى : بأن يكون منطبقا على أحدهما المعين في نفسه.
    وثالثة : بأن يكون منطبقا على الجامع بينهما المقتضي للتخيير بينهما في مقام العمل.
    أما الأول فهو يوجب القطع بعدم التكليف ، كما لو اضطر إلى ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي بالحرمة. ولا موضوع معه للاحتياط.
    وأما الثاني فهو يوجب احتمال ارتفاع التكليف ، لاحتمال انطباقه على المعلوم بالإجمال ، سواء كان ذلك الطرف معلوما للمكلف تفصيلا ، كما لو علم إجمالا بنجاسة ماء الرمان أو القراح ، فاضطر لاستعمال ماء الرمان ، أم كان مشتبها عنده بين الأطراف ، كما لو علم إجمالا بملاقاة أحد الماءين للنجاسة ، وباتصال أحدهما بالمادة.
    والكلام في وجوب الاحتياط في الصورة الاولى بالإضافة إلى الأطراف الخالية عن المانع يظهر مما تقدم في التنبيه الرابع ، حيث تقدم اختلاف ذلك باختلاف الصور من حيث سبق المانع وتأخره عن العلم.
    وأما في الصورة الثانية فيختلف الكلام باختلاف الصور المذكورة على تفصيل لا مجال له هنا ، وقد يظهر بالتأمل في ما سبق ، كما يختلف باختلاف العناوين الموجبة للترخيص بما لا مجال للكلام فيه فعلا.
    وأما الثالث فهو محل الكلام في المقام ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الماءين ، واضطر لرفع عطشه بأحدهما ، بلا دخل لخصوصية كل منهما في

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:43 am

    رفع اضطراره.
    ومثل ذلك يتصور في الحرج ، واختلال النظام ، والمزاحمة لتكليف آخر أهم أو مساو للتكليف المعلوم بالإجمال وغير ذلك ، مما قد لا يكون مانعا إلا من الموافقة القطعية.
    وقد جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه خصوص الاضطرار ، وتبعه على ذلك من تأخر عنه ، ولا وجه لتخصيص الكلام به إلا محض التمثيل ، كما يظهر منه قدّس سرّه.
    نعم ، قد يختص ببعض الجهات التي قد تظهر في ما يأتي من الكلام إن شاء الله تعالى.
    إذا عرفت هذا ، فقد وقع الكلام بينهم في أن سقوط الموافقة القطعية هل يستتبع سقوط الموافقة الاحتمالية أيضا ، أو لا بل لا بد من التنزل إليها وتحريم المخالفة القطعية؟
    صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالثاني بدعوى : أن المانع المذكور لما لم يقتض الترخيص في كلا الطرفين ، بل في أحدهما على البدل فهو لا ينافي إلا وجوب الموافقة القطعية ، ولا يصلح لرفع التكليف رأسا ، بل يقتضي التنزل إلى الموافقة الاحتمالية بامتثال التكليف المذكور من الطريق الذي رخص الشارع بامتثاله به ، وهو الأطراف الباقية بعد العمل بالترخيص البدلي.
    وقد نظّر لذلك بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال التكاليف الواقعية ، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع بمؤدياتها والاكتفاء في امتثاله بمتابعتها ، من دون أن يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالا وإهماله رأسا ، وإن احتمل عدم إصابتها له.
    ولا يخفى ما في التنظير ، لوضوح أن الطرق الشرعية إن كانت ناظرة للمعلوم بالإجمال وشارحة له فهي محرزة للفراغ عنه ، فتكون متابعتها موافقة قطعية له.

    وإن لم تكن ناظرة له فحيث كانت منجزة لمؤدياتها كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي ، لما تقدم ويأتي في مباحث الانحلال من أنه يعتبر في منجزيته صلوحه للتأثير في جميع أطرافه ، فالشارع وإن لم يرفع اليد عن الواقع على تقدير المخالفة إلا أن الواقع لا منجز له حتى يجب امتثاله.
    ولا مجال لذلك في المقام ، لوضوح أن دليل الترخيص في المقام لا نظر له للمعلوم بالإجمال ، ليصلح لشرحه وللتعبد بامتثاله.
    كما أنه لا يقتضي المنع من بقية الأطراف ، ليكون هو المنجز لها لو فرض سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، إذ المفروض أن مفاده الترخيص على البدل لا المنع على البدل ، فتنجيز بقية الأطراف موقوف على منجزية العلم الإجمالي ، فلا بد من توجيه صلوحه للمنجزية مع الترخيص المذكور.
    وهو مورد الإشكال في المقام ، لما هو المعلوم من أن تنجيز العلم الإجمالي موقوف على فعلية المعلوم بالإجمال بحيث يثبت على كل حال ، ولا مجال لذلك مع الترخيص المذكور.
    نعم ، لو رجع كلامه قدّس سرّه إلى تصرف الشارع في مقام الإطاعة بحيث يكتفي بالاطاعة الاحتمالية من دون تعبد بتحققها في مورد الاحتمال كفى في دفع الإشكال ، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
    إلا أنه قد سبق منه قدّس سرّه الإصرار على امتناع ذلك ، وأنه لا مجال للترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي إلا مع المنع عن بقيتها ، ليرجع إلى تعيين الامتثال به وإحرازها معه اللازم بحكم العقل ، كما هو الحال في جعل الطرق الشرعية ، الذي جعله نظيرا للمقام ، وعرفت ما فيه.
    كما أن ظاهر غيره المفروغية عن ذلك ، لأن وجوب الموافقة القطعية من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص.
    ومن ثمّ ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه أن الترخيص بالنحو المذكور مناف

    للتكليف المعلوم بالإجمال ، المقتضي لاجتناب متعلقه على كل حال ، فلا بد من ارتفاع التكليف المذكور حين الترخيص المذكور.
    نعم ، بعد العمل بمقتضى الترخيص ، وارتكاب بعض الأطراف ، وسقوط دليل الترخيص بذلك ، يحتمل كون الطرف الباقي هو الحرام.
    لكن لا منجز للاحتمال المذكور بعد ارتفاع العلم الإجمالي ، بل يتعين الرجوع فيه للأصل الترخيصي.
    وقد تصدى غير واحد لدفع ذلك وتوجيه منجزية العلم الإجمالي في المقام ، والمتحصل من كلماتهم وجوه ..
    الأول : ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الاضطرار ونحوه وإن كان مقتضيا للترخيص ، إلا أنه لا يقتضي ارتفاع التكليف الواقعي رأسا ، ليكون كلا الطرفين حلالا لا موضوع معه للاحتياط ، بل يقتضي الاقتصار في تقييد التكليف الواقعي الذي يقتضيه الاضطرار.
    وتوضيحه : أن الاضطرار حيث لا يقتضي الترخيص في كل طرف بخصوصه ، بل يقتضي الترخيص في بعضها لا غير بنحو البدلية ، فهو لا يقتضي رفع التكليف الواقعي القائم بأحد الأطراف رأسا ، بل يقتضي تقييده بما إذا لم يرتكب غيره من الأطراف ، فأي منها كان موردا للتكليف الواقعي فالتكليف به مشروط بذلك ، ولا يرتفع التكليف عنه إلا إذا لم يرتكب غيره ، أما إذا ارتكب غيره فحيث كان ذلك الغير كافيا في تحقق مقتضى الترخيص فلا ملزم برفع التكليف عن مورده. فاذا ارتكب جميع الأطراف فقد خالف التكليف الواقعي الفعلي قطعا ، حيث ارتكب الحرام الواقعي مع ارتكاب غيره الذي هو شرط في فعلية التكليف به.
    وفيه : أن التكليف الإجمالي القائم ببعض الأطراف المعين في نفسه إنما يكون فعليا في ظرف ارتكاب غيره إذا كان ارتكاب الغير هو الرافع للاضطرار ،

    أما إذا كان الرافع للاضطرار هو الطرف الذي هو مورد للتكليف الإجمالي ، فالتكليف فيه لا يكون فعليا سواء ارتكب غيره بعد ذلك أم لا ، فمن اضطر لشرب أحد الإنائين المعلوم بنجاسة أحدهما ، فشرب النجس الواقعي أولا ، ورفع اضطراره به كان حلالا له وإن شرب غيره بعد ذلك ، وحينئذ فالعلم بفعلية التكليف موقوف على العلم برفع الاضطرار بغير الحرام ، والمفروض عدم حصول العلم المذكور.
    نعم ، ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه أن ذلك إنما يقتضي جواز ارتكاب جميع الأطراف تدريجا ، أما ارتكابها دفعة فلا مجال له ، للعلم معه برفع الاضطرار بغير مورد التكليف ، الملازم لفعلية التكليف في مورده المانعة من مخالفته.
    ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية ، كالدوران بين القصر والتمام ، لأن مخالفة احتمال التكليف في جميع أطرافها دفعية ، إلا أن يكون العلم الإجمالي تدريجيا ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد يوم الجمعة أو عمرو يوم السبت واضطر لترك أحدهما.
    لكن يشكل ما ذكره قدّس سرّه : بأن التكليف قبل رفع الاضطرار إن كان فعليا وقد انشغلت به الذمة وجب إحراز الفراغ عنه وامتنع رفع الاضطرار ، وإن لم يكن فعليا لم يجب الفراغ عنه.
    فالتحقيق : أنه بعد فرض أن الاضطرار ونحوه في المقام من قيود نفس التكليف لمنافاته له يتعين البناء على ارتفاع التكليف ما دام الاضطرار موجودا ، لوضوح التنافي بين التكليف بأحد الطرفين المعين في نفسه مع الترخيص في مخالفته ورفع الاضطرار به ، ومن الظاهر أن الترخيص المذكور مستمر إلى آخر أزمنة ارتفاع الاضطرار حتى مع المخالفة في جميع الأطراف دفعة واحدة.
    نعم ، بعد سقوط الترخيص المذكور والعمل بمقتضاه في رفع الاضطرار ونحوه يتعين رجوع التكليف لو فرض بقاء موضوعه ، إلا أنه غير معلوم في

    المقام مع الارتكاب التدريجي ، ومعلوم العدم مع الارتكاب الدفعي ، فلا منجز للتكليف حتى يجب الفراغ عنه بالاحتياط.
    الثاني : ما في كلام بعض الأعاظم قدّس سرّه ونسب إليه الجزم به من أن العنوان الموجب للترخيص ـ كالاضطرار ـ لما لم ينطبق على مورد التكليف الإجمالي بخصوصه لم يكن صالحا لرفعه ، فالحرام غير مضطر إليه في المقام حتى ترتفع حرمته ، ومجرد الاضطرار للجامع بينه وبين الحلال لا يوجب رفع التكليف عنه ، ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو المذكور للتكليف عنه مع العلم به تفصيلا ، فالاضطرار في المقام لا يرفع التكليف الواقعي ، كما لا يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، وغاية ما يقتضيه جواز رفعه بأحد الأطراف وإن صادف الحرام الواقعي ، ولا وجه لجواز ارتكاب غيره بعد كونه طرفا للعلم الإجمالي المنجز.
    وفيه .. أولا : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أنه لو تم عدم صلوح الاضطرار المذكور لرفع التكليف الواقعي لم يجز رفعه في المقام بأحد الأطراف ، لامتناع الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي.
    بل عليه يمتنع ارتفاع التكليف لو كان لكل من الخصوصيتين دخل في التكليف ، كما لو اضطر إلى أكل الميتة أو الدم لعدم الاضطرار إلى كل منهما بخصوصيته ليرتفع التكليف به ، وليس الجامع بينهما موضوعا للتكليف ، ليرتفع بالاضطرار إليه.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن ما يختاره المكلف يكون مصداقا للمضطر إليه فيرتفع التكليف به حين اختياره ، لا حين حدوث الاضطرار للجامع.
    فهو كما ترى! لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تغيير نحو الاضطرار ، فالاضطرار للجامع لا ينقلب اضطرارا للفرد بخصوصيته بمجرد اختياره.
    وثانيا : أن ما ذكره وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان دليل الاضطرار ،

    لأن مقتضى قوله صلّى الله عليه وآله : «رفع عن امتي ... ما اضطروا إليه» (1) ، وقوله عليه السّلام : «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله الله لمن اضطر إليه» (2) ، هو ارتفاع حكم المضطر إليه ، والمفروض في المقام عدم الاضطرار لمورد التكليف ، إلا أنه لا مجال له في مثل دليل العسر والحرج ، لأن ظاهره رفع الحكم الموجب لهما ، ومن الظاهر أن التكليف في المقام بسبب اشتباه مورده المستلزم للاحتياط عقلا موجب للعسر وإن كان لا يوجبه لو فرض العلم التفصيلي ، حيث لا يقتضي إلا موافقته في مورده والمفروض عدم لزوم العسر منها.
    وكذا الحال في مثل المزاحمة للتكليف الأهم ، لأن التكليف المهم بسبب تردد متعلقه المقتضي للاحتياط يكون بنفسه مزاحما للأهم ، فيسقط وإن كان لا يزاحمه لو علم به تفصيلا. بل لما كان المستفاد من دليل الاضطرار اهتمام الشارع بسد ضرورة المكلف ورفع اضطراره كان الاضطرار في المقام منافيا للتكليف وإن لم ينطبق عنوان الاضطرار على مورده.
    كيف! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من الاضطرار.
    ومما ذكرنا يظهر الفرق بين المقام وما إذا كان مورد التكليف معلوما بالتفصيل ، لأن الاضطرار في المقامين وان كان إلى الجامع بين الحلال والحرام ، لا إلى الحرام بخصوصه ، إلا أن التكليف لما كان يقتضي الموافقة القطعية عقلا ، فالاضطرار إن كان منافيا لها كان منافيا للتكليف عملا ، فيقتضي رفعه ، وإلا فلا وجه لرفعه له ، لعدم التنافي بينهما ، ومن الواضح الفرق في ذلك بين صورتي العلم التفصيلي والإجمالي.
    ومنه يظهر الوجه في إعماله بالإضافة إلى أحد التكليفين لو كان لكل من
    __________________
    (1) تقدم في أدلة البراءة ص : 35.
    (2) الوسائل ، ج : 16 باب : 12 من كتاب الايمان ، ح : 18.

    الخصوصيتين دخل في التكليف بها ، كما لو اضطر إلى الميتة أو الدم ، فإنه لما كان الاضطرار منافيا للعمل بأحد التكليفين لا غير تعين رفع اليد عن أحدهما فقط تخييرا ، ورجع ذلك إلى تقييد كل منهما بما إذا لم يعمل على طبق الآخر ، كما في تزاحم التكليفين. فتأمل جيدا.
    الثالث : ما في كلامه أيضا ونسب إليه أيضا الجزم به ، واختاره غير واحد من تلامذته ، وهو يبتني على ما تقدم في الوجه السابق من عدم صلوح الاضطرار لرفع التكليف ، إلا أنه يفترق عنه بأن ما يختاره المكلف لرفع الاضطرار لا يكون مرخصا فيه واقعا ـ كما في الوجه المذكور ـ بل حيث يشك في انطباق التكليف عليه يكون مرخصا فيه ظاهرا مع بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه ، لفرض عدم صلوح الاضطرار لرفعه.
    وفيه : ـ مع ما تقدم من الإشكال في المبنى المذكور ـ أنه لا مجال للبناء على الترخيص الظاهري في المقام بعد كون الاضطرار معلوما وكونه موجبا للترخيص الواقعي ، وليس كالشك موجبا للترخيص الظاهري.
    وحينئذ إن فرض صلوحه لرفع التكليف في المقام لزم البناء على الرفع والترخيص الواقعي ، وإلا لزم البناء على بقاء التكليف الواقعي على كل تقدير المستلزم لعدم جواز رفع الاضطرار ، لما تقدم.
    وأما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن العلة الموجبة للترخيص لما كانت هي الجهل بمورد التكليف لا الاضطرار ، ولذا لو علم بمورد التكليف تفصيلا تعين رفع الاضطرار بغيره ، كان الترخيص في المقام ظاهريا لا واقعيا.
    ففيه : ـ مع ما تقدم في الوجه السابق ـ أن الجهل إنما يوجب الترخيص الظاهري إذا رجع إلى الجهل موضوع التكليف الواقعي أو ببعض حدوده وقيوده ، المستلزم للجهل بالتكليف نفسه ، كما لو جهل بأصل الاضطرار لمورد التكليف وكان مقتضى الأصل تحققه مثلا ، أو جهل مورده مع العلم بوجوده ، كما

    لو اشتبه ماء الرمان بماء العنب واضطر المكلف لشرب ماء الرمان وقامت البينة ـ مثلا ـ على تعيينه بينهما ، أما في المقام فحيث فرض العلم بالتكليف بأحد الأطراف بخصوصه ، وفرض العلم بعدم صلوح الاضطرار الى الجامع لرفعه ، فلا معنى للترخيص الظاهري.
    غاية الأمر أن المكلف يحتمل كون ما يختاره هو الحلال الواقعي مع قطع النظر عن الاضطرار.
    لكن المفروض أن هذا الاحتمال لا أثر له مع العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، ولا يكون مصححا لجريان الأصل الترخيصي في الطرف المذكور.
    ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّهما من أنه بناء على عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا يكون الترخيص الناشئ من الاضطرار منافيا للتكليف المعلوم بالإجمال ، يكون ترخيصا ظاهريا ، كسائر الأحكام الظاهرية غير المنافية للأحكام الواقعية.
    وغاية ما يلزم رفع اليد به عن وجوب الموافقة القطعية لا غير ، كما هو الحال فيما لو اختص بعض الأطراف بأصل ترخيصي.
    وجه الإشكال : أن الاضطرار لا يقتضي الترخيص الظاهري ، بل الواقعي ، فلا وجه لقياس المقام بمسألة اختلاف الأحكام الواقعية والظاهرية.
    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه بناء على ما يظهر منهم من المفروغية عن عدم جواز الترخيص الشرعي في ترك الموافقة القطعية لوجوبها عقلا فلا ينهض شيء مما تقدم بدفع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من منافاة الترخيص الناشئ ، من الاضطرار ، للتكليف المعلوم بالإجمال ، المستلزم لارتفاعه قبل رفع الاضطرار وجواز رفع الاضطرار بجميع الأطراف دفعة فضلا عن ارتكابها تدريجا.
    غايته أنه مع الارتكاب التدريجي يحتمل حدوث التكليف بعد ارتكاب

    الطرف الأول وفعليته بعد رفع الاضطرار به ، وهو مدفوع بالأصل.
    نعم ، لازم ذلك أنه لو دار الأمر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم بالإجمال ورفعه بما يعلم التكليف به تفصيلا كان المكلف مخيرا بينهما ، فلو علم المكلف بنجاسة أحد إناءين إجمالا ، وبنجاسة ثالث تفصيلا ، واضطر لشرب أحدها ، فكما يجوز له رفع اضطراره بأحد المشتبهين يجوز رفعه بالثالث ، لعدم الفرق بين التكليفين في المنافاة للترخيص الناشئ من قبل الاضطرار ، المستلزم لرفع أحدهما تخييرا ، كما لو اضطر لأحد الإنائين النجسين ، وهو مما تأباه المرتكزات العقلائية جدا ، ولا يظن من أحد الالتزام به.
    بل يلزم في كثير من الفروع ما يصعب الالتزام به جدا ، مثلا لو دار الأمر بين القصر والتمام ، وضاق الوقت عن الجمع بينهما يجوز ترك المبادرة إلى كل منهما وانتظار خروج الوقت ، لتعذر الموافقة القطعية بالإضافة إلى الأمر الأدائي ، إلى غير ذلك.
    ومن ثمّ كان الأمر في غاية الإشكال.
    لكن الإشكال مختص بما إذا قيل بامتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية والتنزل للموافقة الاحتمالية.
    أما بناء على ما تقدم منا في صدر الكلام في هذا الفصل من إمكان ذلك فلا مورد للإشكال المذكور ، إذ الترخيص حينئذ في ارتكاب بعض الأطراف بنحو البدل لا ينافي التكليف ، كي يمنع من بقائه وتنجزه بالعلم ، وإنما ينافي وجوب موافقته القطعية لا غير ، فلا يقتضي إلا رفعها شرعا مع بقاء التكليف بحاله ، وإن لم يعاقب عليه على تقدير رفع الاضطرار به عملا بمقتضى الترخيص.
    فالترخيص الناشئ من قبل الاضطرار واقعي لا ظاهري ، إلا أنه ليس ترخيصا في مورد التكليف بخصوصه ، ليكون منافيا له مستلزما لرفعه ، بل في

    ترك موافقته القطعية مع بقائه بنحو يقتضي الموافقة الاحتمالية في الطرف الآخر.
    نعم ، بعد رفع الاضطرار يحتمل سقوط التكليف لارتفاع موضوعه بعد ثبوته وتنجيزه ، وهو يقتضي الاحتياط.
    إن قلت : مقتضى أدلة الرفع سقوط التكليف الواقعي وحلية الفعل واقعا ، لا بقاؤه على الحرمة مع جواز مخالفته الاحتمالية وعدم العقاب عليها لا غير.
    قلت : لا ملزم بذلك ، بل ظاهر الأدلة عدم جعل الأحكام الشرعية بنحو تستلزم الضرر والحرج وتنافي الاضطرار ونحوه ، فهي لا تقتضي إلا اهتمام الشارع الأقدس برفع الامور المذكورة وترخيصه في التخلص منها ، وهو كما يكون برفع التكليف رأسا ـ كما في الاضطرار إلى المعين ـ يكون برفع وجوب موافقته القطعية والاكتفاء بموافقته الاحتمالية في مثل المقام ، لأنه نحو من التصرف الشرعي المحقق للغرض.
    نعم ، الجمود على لسان دليل الاضطرار ونحوه قد يقتضي ذلك ، لتضمنه تحليل الفعل المضطر إليه واقعا المنافي لحرمته.
    إلا أنه لا ينفع في المقام الذي فرض فيه الاضطرار للجامع لا لمورد التكليف بخصوصه ، ولا مجال لتعميمه له إلا بضميمة أن المستفاد منه اهتمام الشارع برفع الاضطرار على كل حال ، كما تقدم في مناقشة الوجه الثاني ، ويكفي في ذلك رفع وجوب الموافقة القطعية في المقام.
    هذا ، في الروافع الشرعية كالحرج والضرر ، وأما العقلية كالتعذر ، والمزاحمة لتكليف أهم فهي كذلك ، لما أشرنا إليه في صدر الكلام في هذا الفصل من أن وجوب الموافقة القطعية عقلا حكم طريقي في طول وجوب الإطاعة الواقعية ، فتعذرها لا يقتضي بحكم العقل إلا سقوطها واكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية ، لا سقوط أصل وجوب الإطاعة المساوق لسقوط التكليف

    رأسا ، بل مقتضى إطلاق دليل التكليف ثبوته.
    وكأن هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، وهو الذي ارتكز في ذهن غيره ممن تقدم ، إلا أنه لما لم يلائم مبانيهم اضطربت كلماتهم في المقام ، ولم تنهض بتوجيه مرادهم.
    بقي في المقام أمران :
    الأول : أنه لا فرق في وجوب الاحتياط مع الاضطرار إلى غير المعين بين سبق الاضطرار على التكليف المعلوم بالاجمال أو على العلم الإجمالي نفسه ولحوقه لهما ، لأن الترخيص الناشئ من الاضطرار لما لم يناف التكليف فهو لا يمنع من تنجزه بالعلم وإن كان الاضطرار سابقا ، فيجب لأجله الاحتياط في بقية الأطراف.
    كما أنه بناء على عدم وجوب الاحتياط لا يفرق أيضا بين الصور المذكورة ، لابتنائه على منافاة الترخيص المذكور للتكليف ورفعه له ، ولا فرق بين سبق الاضطرار ولحوقه في كونه موجبا للترخيص المذكور.
    غايته أن سبقه مانع من حدوث التكليف ولحوقه رافع له بعد ثبوته وتنجيزه ، ولا أثر لذلك في وجوب الاحتياط ، إذ ليس المحتمل بعد رفع الاضطرار إلا رجوع التكليف بعد ارتفاعه ، ولا إشكال في كونه مجرى البراءة.
    الثاني : تقدم في صدر هذا الفصل أن للتكليف مراحل ثلاثا مترتبة في نفسها : جعله ، وتنجزه ، ووجوب إطاعته.
    ومرجع القول بعدم وجوب الاحتياط إلى كون الاضطرار مانعا من جعل التكليف ، فلا يبقى موضوع لتنجزه وإطاعته.
    أما القول بوجوب الاحتياط فهو يرجع إلى نحو من التصرف في بعض هذه المراحل حسب اختلاف الوجوه المتقدمة.
    فمقتضى الوجهين الأولين كون الاضطرار موجبا لثبوت التكليف في

    حال دون حال ، لا في جميع الأحوال ، وهو المعبر عنه بالتوسط في التكليف ، غايته أنه على الوجه الأول يكون التوسط في التكليف من حين حدوث الاضطرار المقتضي للترخيص ، أما على الوجه الثاني فالتوسط إنما يكون حين رفع الاضطرار والعمل بمقتضى الترخيص ، مع كون التكليف قبله ثابتا مطلقا وفي جميع الأحوال.
    أما على الوجه الثالث فلا توسط في التكليف ، بل هو ثابت على كل حال ، والتوسط إنما هو في تنجيزه ، حيث يكون الترخيص عليه ظاهريا مانعا من تنجز التكليف الواقعي في ظرف رفع الاضطرار به ، لا من ثبوته واقعا.
    وأما على ما ذكرنا فلا توسط لا في التكليف ولا في التنجيز ، بل في وجوب الإطاعة ، حيث تجب الإطاعة الاحتمالية دون القطعية. والله سبحانه وتعالى العالم وهو ولي التوفيق والتسديد.
    التنبيه السابع في ملاقي بعض الأطراف
    لزوم مراعاة احتمال التكليف ..
    تارة : يكون راجعا إلى إحرازه تبعا للتعبد بموضوعه.
    واخرى : يكون لمحض وجوب الاحتياط شرعا أو عقلا لتنجز التكليف معه.
    ففي الأول تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به ، كما قد يقال في البلل المشتبه قبل الاستبراء ، لأن المستفاد من أدلة الاستبراء أن وجوب التطهر بدونه مبني على التعبد شرعا بكون الخارج منيا أو بولا ، فتترتب جميع آثارهما ، لا خصوص التطهر الذي تضمنته النصوص.
    نعم ، لو فرض عدم إطلاق دليل التعبد واختصاصه ببعض الآثار تعين عدم التعدي لغيرها ، إذا لا مانع من التفكيك بين الآثار في التعبد بالموضوع ،

    نظير ما في بعض النصوص من أن المقر بالسرقة مرة واحدة لا يقطع (1) ، مع أنه يضمن المال إلزاما له بإقراره.
    أما في الثاني فلا مجال لترتيب الآثار الأخر ، لعدم إحراز موضوعها.
    وعليه يبتني ما لعله المشهور بينهم من عدم نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة ملاقيه ، وهو غير ثابت بالعلم الإجمالي ، وإن وجب اجتنابه احتياطا بحكم العقل ، بل مقتضى استصحاب طهارة الملاقى الحكم بطهارة الملاقي.
    ومما ذكرنا يظهر حال ما عن الحدائق ، حيث تعجب من حكمهم بعدم النجاسة في ما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.
    هذا ، وقد أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره ممن تأخر عنه في بيان مباني الكلام في ذلك ، وينبغي التعرض لذلك في ضمن امور ..
    الأول : قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيان على أن تنجس الملاقي إنما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(2) ويدل عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة بأن الله حرم الميتة (3) ، فإذا حكم الشارع بوجوب
    __________________
    (1) راجع الوسائل ، ج : 18 باب : 3 من أبواب حد السرقة.
    (2) سورة المدثر : 5.
    (3) وهو خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام : «أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال أبو جعفر عليه السّلام : لا تأكله ، فقال له الرجل : الفارة أهون عليّ من أن أترك.

    هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب هجر ما لاقاه ، وهذا معنى ما استدل به العلامة قدّس سرّه في المنتهى على ذلك بأن الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلا فلم يقل أحد إن كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.
    أو أن الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحد للخمر ، فإذا شك في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة وأصل الاباحة. والاقوى هو الثاني ...».
    هذا ، ولا يخفى أن البناء على أن الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه إن رجع إلى ظهور دليل الاجتناب في كونه كناية عن الانفعال ، نظير ظهور بعض النصوص الناهية عن إدخال اليد النجسة في الإناء في تنجسه بها ـ كما لعله المناسب لما نقله عن الغنية من الاستدلال ـ فهو لا ينفع في المقام ، ضرورة أن وجوب الاجتناب عن الأطراف ـ مع عدم كونه مستفادا من خطاب شرعي لفظي ، بل هو ثابت بحكم العقل ـ ليس كناية عن نجاسة الملاقى فضلا عن الملاقي ، بل للاحتياط ، ولذا يختص بما يصلح للتكليف ، كالماء الذي يحرم شربه إذا كان نجسا ، والثوب الذي تمتنع الصلاة به إذا كان كذلك ، دون مثل القلنسوة والخاتم.
    وإن رجع إلى دعوى : أن تحريم الشيء يستلزم تحريم ملاقيه عقلا أو عرفا أو شرعا ، كما لعله المناسب لوجه الاستدلال بالحديث المشار إليه.
    فهو ـ مع عدم صلوحه لإثبات النجاسة ، بل لوجوب الاجتناب لا غير ـ لا ينفع أيضا ، لأن الملزوم هو وجوب الاجتناب الشرعي الواقعي ـ كما في الميتة ـ
    __________________
    طعامي من أجلها. فقال له أبو جعفر عليه السّلام : إنك لم تستخف بالفارة ، وإنما استخففت بدينك ، إن الله حرم الميتة من كل شيء» الوسائل ج : 1 باب : 5 من أبواب الماء المضاف ح : 2.

    لا العقلي الظاهري ، كما في المقام.
    وكذا الحال لو رجع إلى دعوى : ملازمة وجوب الاجتناب عن الشيء أو نجاسته لنجاسة ملاقيه ، لعين ما ذكر.
    وكأن ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في فوائده وحاشيته على الرسائل راجع إلى بعض ما ذكرنا. فراجع.
    ومما ذكرنا يظهر الإشكال في قوله قدّس سرّه : «فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين» وفي ما حكاه عن المنتهى من أن الشارع أعطاهما حكم النجس.
    بل ما يظهر منه قدّس سرّه في صدر كلامه من وجود القول بتنجس الملاقي بعيد جدا ، فإن العلم الإجمالي لا يقتضي نجاسة الملاقى فضلا عن الملاقي ، بل غاية ما يدعى في المقام هو وجوب الاحتياط باجتناب الملاقي كالملاقى من دون تعبد بنجاسته ، وإن كان لا يبعد عموم ذلك لملاقي الملاقي وإن تعدد الوسائط ، لعين ما يذكر فيه مما تقدم ويأتي إن شاء الله تعالى.
    نعم ، لو أمكن دعوى : أن امتثال الاجتناب عن الملاقى لا يكون إلا باجتناب ملاقيه ، نظير إكرام زيد الذي لا يكون إلا باكرام ولده ، فيكون اجتناب الملاقي محققا لامتثال التكليف بالملاقى ، اتجه البناء على وجوبه في المقام ، فإنه وإن لم يعلم بنجاسته ولا بملاقاته للنجس ، إلا أن احتمال ذلك كاف في لزومه بمقتضى الإطاعة اليقينية للمعلوم بالإجمال ، الذي يحتمل انطباقه على الملاقى الذي لا يتحقق الفراغ عنه إلا باجتناب الملاقي.
    إلا أن ذلك ـ مع كونه بعيدا عن كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه جدا ـ مما لا يظن من أحد الالتزام به ، لوضوح أن لملاقي النجس تكليفا مباينا لتكليف الملاقى ، له إطاعته ومعصيته ، فلا بد من تنجزه بنفسه بعلم ونحوه ، ولا يكفى تنجز الملاقى في تنجيزه. على أنه لا يبعد كون مقتضى أصالة عدم ملاقاة النجس الواقعي

    للملاقي عدم توقف اطاعته على اجتنابه ، لو لا ذلك لزم البناء على اجتناب ما يحتمل ملاقاته للنجس.
    ومجرد الفرق بين ما نحن فيه وبينه بعدم العلم بتحقق الملاقاة فيه بخلاف ما نحن فيه حيث يعلم بتحققها ـ ليس فارقا بعد كون المعلوم في ما نحن فيه مطلق الملاقاة لا ملاقاة النجس. فتأمل.
    الأمر الثاني : المتصور بدوا في تنجس الملاقي وجهان :
    الأول : أن يكون من باب السراية والانبساط في نجاسة الملاقى ، بمعنى أن نجاسة الملاقى بنفسها تتسع بنحو تشمل الملاقي وتعرض عليه ، نظير الحرارة الشديدة في الماء التي تسري إلى ما يختلط به.
    الثاني : أن يكون من باب التسبيب بحيث تكون للملاقي نجاسة اخرى غير نجاسة الملاقي ناشئة منها ومسببة عنها شرعا.
    وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من فرض وجه ثالث ، وهو محض التعبد من دون تسبيب ولا سراية ، بأن يكون الملاقي موضوعا مستقلا في عرض الملاقى قد حكم الشارع عليه بالنجاسة بشرط الملاقاة.
    فالظاهر رجوعه إلى الثاني ، إذ لا يراد بالتسبيب إلا السببية الشرعية الراجعة إلى موضوعية الملاقاة للنجاسة.
    إلا أن يفرق بينهما بابتناء الثاني على مقايسة الانفعال الشرعي في المقام بالانفعال العرفي في القذارات العرفية ، فكما أن العرف يستقذر الملاقي ويرى حمله القذارة من الملاقى كذلك الشارع ، وابتناء الثالث على إهمال ذلك ومحض التعبد نظير الحكم بنجاسة الكافر.
    وكيف كان ، فلا إشكال على الوجهين الاخيرين ، وأما على الأول فقد يدعى أن اللازم اجتناب الملاقي ، لأن نجاسته تكون عين نجاسة الملاقى التي هي طرف العلم الإجمالي ومن مراتبها ، فيكون العلم الإجمالي منجزا لهما معا.

    نظير : ما إذا علم إجمالا بتكليف في طرف أو تكليفين في طرف آخر ، حيث لا ريب في لزوم الاحتياط بلحاظ كلا التكليفين ، لا خصوص أحدهما ، لعدم المرجح.
    ومثله ما لو قسم أحد الإنائين قسمين ، حيث لا ريب في وجوب الاجتناب عنهما معا ، لتنجزهما بالعلم الإجمالي السابق على القسمة.
    وفيه : أن النجاسة بنفسها ليست موضوعا للتنجيز ، لعدم كونها حكما تكليفيا عمليا ، وإنما يكون التنجيز للحكم التكليفي المترتب عليها ، ومن الظاهر أن سعة النجاسة الواحدة وسريانها من الملاقى للملاقي يوجب تجدد التكليف تبعا لتجدد موضوعه ، وهو المتنجس ، وإن اتحدت النجاسة ، والمفروض أن المنجز بالعلم الإجمالي هو التكليف المحتمل في الملاقى ، دون التكليف المحتمل في الملاقي.
    ومنه يظهر الفرق بين ذلك وبين مورد التنظير ، لأن المتنجز بالعلم سابقا هو كلا التكليفين رأسا في الأول ، ومتحدا مع كلا القسمين في الثاني ، من دون أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.
    وقد أشار لذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه على اضطراب في كلامه ، حيث يظهر من صدره إقرار الوجه المذكور ، ومن آخر الجواب عنه بذلك. فراجع.
    أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد بنى الكلام على الفرق بين الوجهين بنحو آخر يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.
    الأمر الثالث : ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن كل ما للمعلوم بالإجمال من الآثار والأحكام يجب ترتيبه على كل طرف ، سواء كان حكما تكليفيا كحرمة الأكل والشرب للنجس أم وصفيا ، كمانعية الغصب من البيع ، فإن العلم الإجمالي بغصبية أحد المالين ، كما يقتضي تنجز احتمال حرمة التصرف تكليفا في كل

    منهما ، كذلك يقتضي تنجز احتمال الحرمة الوضعية الراجعة إلى مانعية الغصب من البيع ، ولا يعتبر في ذلك فعلية الابتلاء بالحكم في كل من الطرفين ، فلو فرض تلف أحد المالين بعد العلم إجمالا بغصبية أحدهما وقبل بيع كل منهما لم يجز بيع الثاني ، لتنجز احتمال مانعية الغصب من البيع فيه بالعلم الإجمالي السابق ، وإن لم يكن موردا للابتلاء حينه.
    وقد رتب على ذلك وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المنفصلة والمتصلة كالنماءات ، فلو علم بمغصوبيته إحدى الشجرتين أو إحدى الدارين ، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين والدارين يجب الاجتناب عن ثمرة كلتا الشجرتين ومنافع كلتا الدارين المتجددة بعد ذلك ، وإن فرض تجدد الثمرة والمنفعة لإحدى الشجرتين والدارين بعد تلف الاخرى منهما ، لأن النهي عن التصرف في الشجرة أو الدار بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة أو المنفعة.
    إذا عرفت هذا ، فإن قلنا بأن نجاسة الملاقي مباينة لنجاسة الملاقى ، والملاقي فرد آخر للنجس في عرض الملاقى فلا مجال لتنجّزه بالعلم الإجمالي المفروض في المقام ، لقيام العلم الإجمالي بالملاقي وصاحبه لا غير.
    وأما لو قلنا بأن نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى ، لاتساع نجاسة الملاقى وسريانها للملاقي وانبساطها فيه ـ على ما تقدم الكلام فيه في الأمر الثاني ـ تعين تنجز الملاقي بالعلم الإجمالي المذكور ، لأن نجاسة الملاقى تكون تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الملاقي ، وقد ذكرنا أنه يجب ترتيب جميع أحكام المعلوم بالإجمال على تمام الأطراف ، لتنجزها بالعلم الإجمالي ، فكما يتنجز بالعلم الإجمالي حرمة شرب الملاقى يتنجز حرمة أكل الطعام الملاقي له ، لأنهما معا من أحكامه التي هي طرف للعلم الإجمالي ، ويكون هو تمام الموضوع لها.

    ثم إنه بعد أن قرّب الوجه الأول ذكر أن رواية جابر المشار إليها في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه السابق مشعرة بالوجه الثاني بدعوى : أنه عليه السّلام جعل أكل الطعام الذي وقعت فيه فأرة استخفافا بالدين ، وفسره بتحريم الميتة ، ولو لا كون نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها ، لم يكن موقع للجواب بذلك ، إذ لو كان فردا آخر من النجاسة لكان أكله استخفافا بحرمته ، لا بحرمة الميتة. هذا حاصل ما ذكره.
    ويشكل بوجوه ..
    الأول : أن ما ذكره أولا من تنجز الحكم الوضعي بالعلم الإجمالي مما لم يتضح وجهه بعد عدم كون الحكم الوضعي بنفسه عمليا ، ولا موضوعا لحكم العقل بالطاعة والمعصية ، فلا معنى لتنجزه إلا تنجز التكليف المترتب عليه ، كحرمة شرب النجس وحرمة التصرف في المغصوب ونحو ذلك.
    فمع فرض عدم فعلية الحكم التكليفي المترتب عليه ، لعدم كونه تمام الموضوع له ، بل جزءه لا وجه لمنجزية العلم الإجمالي ، بل لا بد في منجزيته من تمامية الموضوع الموجب للابتلاء بالتكليف بالإجمال ، وما ذكره قدّس سرّه من عدم اعتبار فعلية الابتلاء في غير محله جدا.
    نعم ، تقدم في التدريجيات الاكتفاء بالابتلاء الاستقبالي في تنجز العلم الإجمالي ، لكن بشرط العلم به ، ولا يكفي احتماله.
    وأما عدم نفوذ البيع ظاهرا في الفرض الذي ذكره فلأنه لا مجال لبقاء قاعدة السلطنة بالإضافة إلى كل من المالين ، لاستلزامها المخالفة القطعية ، لأنها تقتضي مشروعية بيع كل من المالين وأكل ثمنهما ، مع أنه يعلم بعدم جواز أكل ثمن أحد المالين تكليفا ، وسقوط قاعدة السلطنة فيهما راجع الى تنجز احتمال المانعية ، إذ ليست المانعية إلا منتزعة من قصور قاعدة السلطنة.
    ودعوى : أنه لا موضوع لذلك قبل البيع ، إذ لا ثمن قبله.

    مدفوعة : بأن عنوان الثمن وإن كان متفرعا على البيع إلا أن ذات الثمن غير موقوف عليه ، فهو نظير العلم بنجاسة أحد الثوبين المستلزم لمشروعية الصلاة بكل منهما والاجتزاء بها في امتثال الأمر.
    وهذا بخلاف مثل مسببية الإتلاف للضمان ، فإن الضمان وإن كان راجعا إلى وجوب أداء الثمن تكليفا ، وهو مشروط بكون المال التالف غير مملوك للمتلف ، إلا أن العلم بخروج أحد المالين عن ملكه لا يستلزم فعلية التكليف قبل حصول الاتلاف ، فاستصحاب الملكية في كل منهما لا يستلزم مخالفة عملية بالإضافة إلى الضمان قبل حصول الإتلاف ، كي يتنجز احتمال سببية إتلاف كل منهما لضمانه.
    نعم ، بعد حصول الإتلاف لأحدهما يحتمل سببيته لضمانه ، إلا أنه ليس طرفا لعلم إجمالي ، بل الأصل البراءة منه نظير ملاقاة أحد أطراف العلم الإجمالي ، الذي هو محل الكلام ، حيث لا مجال قبلها لتنجز احتمال التكليف ، لعدم تحقق موضوعه ، كي يلزم من جريان الأصل على خلافه مخالفة عملية ، فلا موضوع للأصل بالإضافة إلى الأثر المذكور.
    مضافا إلى أن العلم بعدم ملكية أحد المالين موجب لتنجز احتمال حرمة تسليمه بنحو يمنع من بيعه ، لعدم القدرة معه على التسليم. فتأمل.
    هذا كله مع سبق ملكية كلا المالين أما مع عدمهما فاستصحاب عدم الملكية في كل منهما ولو بنحو العدم الأزلي كاف في امتناع بيعه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور ، فهو نظير ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي مع سبق نجاسة كل منهما ، حيث يتعين معه البناء على نجاسته. بل لا أقل حينئذ من أصالة فساد البيع وعدم ترتب أثره. فلاحظ.
    الثاني : أن تنجز الأحكام الوضعية لو تم لا دخل له بما فرّعه عليه من وجوب الاجتناب عن المنافع والنماءات المتصلة والمنفصلة ، لوضوح أن

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:44 am

    حرمه التصرف في الامور المذكورة ليس من أحكام غصبية الأصل الفعلية التكليفية أو الوضعية ، بل هو حكم آخر وارد على موضوعه ، ولذا لا يكون فعليا إلا تبعا لفعلية موضوعه ، وهو تحقق الامور المذكورة كما اعترف به قدّس سرّه ، ولا موقع بعد ذلك لما ذكره من أن النهي عن التصرف في المغصوب بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في توابعه عند تحققها ، فإنه إن كان المراد به وحدة الحكم أو أن الثاني من شئون امتثال الأول ، فلا مجال له مع فرض تعدد الموضوع المستلزم لتعدد الحكم بحيث يختص كل حكم بإطاعته ومعصيته ، بل يمكن التفكيك بين الحكمين في الإطاعة والمعصية ، فقد يكون الغصب للشجرة دون الثمرة ، كما قد يكون العكس.
    وإن كان المراد التلازم بين الحكمين فليس هو إلا لكون كل منهما فردا من أفراد الغصب ، كالسفينة والشجرة.
    ومجرد الفرق بأن الثمرة من شئون الشجرة وتوابعها في الوجود أو الحكم ، بخلاف السفينة ، ليس فارقا بعد عدم التبعية بينهما في الامتثال ، كي يكون تنجز حكم الشجرة بالعلم الإجمالي كافيا في تنجز حكم الثمرة.
    وعليه يلزم الرجوع في الثمرة والمنفعة إلى مقتضى القواعد ، فإن فرض كونها طرفا لعلم إجمالي آخر ـ كما لو كان لكلا الأصلين منفعة أو ثمرة ـ كان منجزا كالعلم الإجمالي بحرمة الأصل.
    أما لو اختصت المنفعة أو الثمرة بأحد الطرفين ، فإن علم بالابتلاء بها حين العلم الإجمالي بغصبية الاصلين كانت طرفا للعلم الإجمالي ، ويكون العلم الإجمالي تدريجيا بالإضافة إليها ، فينجز تمام أطرافه ، كما سبق.
    وإلا فإن كان الأصلان مسبوقين بالملكية ثم خرج أحدهما عنها واشتبه ، كان استصحاب ملكية الأصل المثمر محرزا لملكية الثمرة.
    وعدم ترتب العمل على الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى الأصل

    لتنجزه بالعلم الإجمالي لا ينافي ترتب العمل عليه بالإضافة إلى الثمرة لعدم كونها طرفا له.
    كما أنه لو كانا مسبوقين بملكية الغير كان مقتضى استصحاب ملكيته للمثمر ملكيته للثمرة وعدم جواز تصرف غيره فيها.
    وأما مع عدم الوجهين فمقتضى استصحاب عدم ملكية الأصل أو الثمرة بنحو العدم الأزلي عدم ترتيب أحكام الملك من البيع ونحوه على الثمرة ، وأما التصرف الخارجي فهو مبني على الكلام في أن جوازه موقوف على إحراز ملك المتصرف ، أو أن حرمته موقوفة على إحراز ملك الغير ، وتقدم الكلام في ذلك عند الكلام في انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال في التنبيه الأول من تنبيهات الفصل الأول في البراءة.
    نعم ، لو فرض توقف التصرف في الثمرة أو المنفعة على التصرف في الأصل ـ كما هو الغالب أو اللازم في المنفعة ـ امتنع التصرف فيها ، لفرض تنجز وجوب الاجتناب عن الأصل بالعلم الإجمالي المفروض.
    لكن ذلك لا يستلزم ضمانها ، بل هو موقوف على إحراز ملكية الغير للأصل بالوجه المتقدم.
    الثالث : أن ما ذكره في تفريع حكم الملاقي لا ربط له بالمقدمة التي قدمها ، فإن السراية بالمعنى المذكور لا أثر لها في وحدة التكليف ، لما هو الظاهر من أن الحكم الوضعي لو فرض تنجزه بالعلم الإجمالي بنفسه إلا أن تنجزه باعتبار إضافته لموضوعه ، فتنجز النجاسة ليس إلا بمعنى تنجز نسبتها للنجس. لا تنجزها في نفسها مع قطع النظر عن معروضها ، لعدم الأثر لها حينئذ أصلا حتى بنحو التعليق ، ومن الظاهر أن العلم الإجمالي إنما يقتضي تنجز النجاسة في كل من الطرفين ، أما الملاقي فحيث كان موضوعا آخر فلا مجال لتنجز نجاسته حتى لو كانت من مراتب نجاسة الملاقي.

    نعم ، لو تم ما ذكره من تنجز حكم المنفعة والثمرة تبعا لحكم الأصل فقد يتجه تنجز حكم الملاقي حتى لو كانت نجاسته مباينة لنجاسة الملاقى مسببة عنها ، إذ كما تكون ملكية الثمرة والمنفعة تابعة لملكية الأصل ، كذلك تكون نجاسة الملاقي تابعة لنجاسة الملاقى ، والتفريق بينهما بلا فارق.
    الرابع : أن ما ذكره في وجه إشعار رواية جابر بالسراية غير ظاهر ، إذ هي لم تتضمن تفسير الاستخفاف بالدين الحاصل من أكل الطعام بالاستخفاف بتحريم الميتة الراجع إلى عصيانه ، كيف! ولا ريب في عدم كونه معصية له مع تعدد الموضوع المستلزم لتعدد التكليف وتعدد الطاعة والمعصية ، بل تضمنت تعليل الاستخفاف بالدين بتحريم الميتة ، ويكفي في ذلك التلازم بين تحريم الميتة وتحريم الملاقي ، ولو لأجل الفراغ عن أن حرمة الميتة راجعة إلى نجاستها المستلزمة لنجاسة الملاقي وحرمته.
    على أنه لو فرض تمامية ما ذكره من التفسير فهو لا يقتضي السراية بالمعنى المذكور ، لما عرفت من أن السراية لا تقتضي وحدة التكليف الموجب لتوقف إطاعة حكم الميتة على اجتناب ملاقيها ، فالرواية أجنبية عما ذكره على كل حال.
    وبالجملة : ما ذكره من المقدمات غير تام في نفسه ، ولا صالح لأن يبتني عليه القول بالتنجيز في المقام.
    الأمر الرابع : لا ريب في أن الملاقي يكون طرفا لعلم إجمالي كالملاقى ، فإذا علم إجمالا بنجاسة إحدى اليدين ، ولاقى الثوب اليمنى منهما ، فكما يعلم بنجاسة إحدى اليدين يعلم أيضا بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب.
    وحينئذ قد يدعى أن العلم الثاني منجز لأطرافه كالأول ، فيلزم اجتناب الملاقي لذلك.
    وقد تصدى غير واحد للكلام في حال العلم الإجمالي المذكور وتوجيه

    عدم منجزيته مطلقا أو في بعض الصور.
    وقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا مجال للبناء على منجزية العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي ، لعدم المعارض لاستصحاب الطهارة فيه بعد سقوط الأصل في الملاقى وطرفه بالمعارضة في مرتبة سابقة على جريانه فيه ، إذ في مرتبة جريان الأصل في الملاقى لا يجري الأصل في الملاقي ، لأنه مسبب عنه ، فيتعارض الأصل الجاري في الملاقى والأصل الجاري في طرفه بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدهما ولزوم المخالفة القطعية منهما ، وبعد سقوطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.
    وأما ما أشار إليه بعض مشايخنا من أن الأصل الجاري في الملاقي وإن كان متأخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى ، إلا أن كلا الاصلين في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بلا ترتب بينهما ، لأن ملاك الترتب بين الاصول الشرعية هو التسبب وكون مؤدى أحد الأصلين موضوعا لمؤدى الآخر ، ولا تسبب هنا بين الأصل الجاري في الطرف الآخر وكلا الأصلين الجاريين في الملاقى والملاقي ، وليس المراد باتحاد رتبة الأصلين إلا محض عدم المقتضي لتقدم أحدهما على الآخر ، لا وجود المقتضي للاتحاد ليمتنع اتحاد الشيء رتبة مع كلا الأمرين المترتبين.
    فهو مندفع : بأن عدم الترتب بين الأصل الجاري في الطرف الآخر والأصل الجاري في الملاقي لا يقتضي التعارض بينهما ، لتوقف التعارض على جريانهما في عرض واحد ، والمفروض سقوط الأصل الجاري في الطرف الآخر بمعارضة الأصل الجاري في الملاقى المفروض كونه في عرضه أيضا ، وحيث كان الأصل في الملاقي متأخرا رتبة عن الأصل في الملاقى تعين عدم المعارض له في مرتبة جريانه ، لسقوط معارضه في المرتبة السابقة عليه وإن لم يكن متأخرا عنه رتبة.

    وأشكل من ذلك ما ذكره من أن السبق والتأخر الرتبي إنما يترتب عليهما الأثر في الأحكام العقلية المترتبة على الرتبة ، وأما الأحكام الشرعية فهي مترتبة على الموجودات الخارجية ، ولا أثر فيها للتقدم والتأخر الرتبي ، ولذا لو علم إما ببطلان صلاة الصبح لبطلان وضوئها ، أو ببطلان صلاة الظهر لخلل فيها ، وجب إعادة الصلاتين معا ، وإن كان بطلان الصبح متأخرا رتبة عن بطلان الوضوء الذي هو طرف العلم الإجمالي.
    لاندفاعه : بأن ذلك إنما يتم في ما إذا كان الترتب في أحد الأطراف لا يوجب الترتب بين الاصول الجارية فيها ، كما لو علم إجمالا إما بترك الوضوء لصلاة الصبح أو بترك السلام من صلاة الظهر ، فإن الوضوء وإن كان سابقا رتبة على صلاة الصبح ، إلا أن الأصل الذي يرجع إليه في الشك فيه هو قاعدة الفراغ في الصبح ، وهي في مرتبة قاعدة الفراغ في الظهر ، فيتساقطان.
    أما إذا كان الترتب في نفس الاصول الجارية في الأطراف فالمتجه البناء على سقوط الاصول المتقدمة رتبة بالمعارضة ، وانفراد الأصل المتأخر رتبة بالجريان في بعض الأطراف. كما هو الحال فى المقام.
    ومثله مورد النقض ، لأن قاعدة الفراغ من الوضوء للصبح سابقة رتبة على قاعدة الفراغ من الصبح نفسها ، وبعد سقوط الاولى بالمعارضة لقاعدة الفراغ من الظهر تجري قاعدة الفراغ من الصبح بلا معارض.
    ثم انه قد استثنى شيخنا الأعظم قدّس سرّه مما تقدم ما لو فرض حين العلم الإجمالي عدم جريان الأصل في الملاقى لتلف ونحوه مما يوجب خروجه عن الابتلاء ، فذكر أنه يتعين حينئذ سقوط الأصل الجاري في الملاقي بالمعارضة بالأصل الجاري في الطرف الآخر ، لعدم المسقط للأصل في الطرف المذكور في مرتبة سابقة على جريان الأصل في الملاقي ، بل يجريان معا ويسقطان بالمعارضة.

    هذا حاصل ما اعتمده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام ، وتابعة فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    لكنه لا يناسب ما تقدم منه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية وجريان الاصول في الأطراف ، من أنه لا أثر للترتب بين الاصول وحكومة بعضها على بعض في رفع التعارض ، بل تسقط الاصول المترتبة جميعها بالمعارضة.
    وكيف كان ، فهو مبني على أن منشأ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي تعارض الاصول فيها بنحو لو اختص بعضها بالأصل لجاز ارتكابه.
    أما بناء على ما تقدم من منجزيته ذاتا بنحو يقتضي الموافقة القطعية فلا ينفع عدم المعارض للأصل في الملاقي في مرتبة جريانه في جواز ارتكابه.
    على ان لازم ذلك جواز ارتكاب الملاقي حتى مع فرض خروج الملاقى عن الابتلاء حين العلم الإجمالي ، ولا وجه لاستثنائه ، لأن الأصل في الملاقى وإن لم يترتب عليه الأثر بالإضافة إليه ، إلا أنه يترتب عليه الأثر بالإضافة إلى الملاقي ، فيجري بلحاظه ويعارض الأصل في الطرف الآخر ، وبعد تساقطهما يجري الأصل في الملاقي بلا معارض ، ويتعين اجتناب الطرف الآخر وحده لسقوط الأصل فيه بالمعارضة في الرتبة السابقة.
    بل يلزم من ذلك عدم جواز ترتيب الطهارة على الملاقي في الفرض الأول ، إذ في مرتبة جريان أصالة الطهارة فيه تجري أصالة الحل في الملاقى وطرفه ، وبعد تساقط الاصول الثلاثة تجري أصالة الحل في الملاقي لا غير من دون أن يترتب عليه آثار الطهارة ، إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل في الموارد على اختلاف سنخ الاصول الجارية فيها.
    ولا يظن منهم الالتزام بذلك. وقد تقدمت الإشارة إليه عند الكلام في وجوب الموافقة القطعية. فراجع.

    وعليه يلزم الرجوع في المقام إلى القواعد المرعية في العلوم الإجمالية المتداخلة من لزوم تقديم الأسبق منها وتعينه للمنجزية.
    وتوضيح ذلك : أن في المقام علوما إجمالية ثلاثة ..
    الأول : العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو نجاسة صاحب الملاقي.
    الثاني : العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه.
    الثالث : العلم بنجاسة الملاقي أو صاحب الملاقى.
    والأخيران أخص أطرافا من الأول ، فمع عدم المرجح لأحدهما على الآخر يتعين منجزيتهما معا ، الراجعة إلى وجوب موافقة الأول ، ومع ترجح أحدهما في المنجزية يتعين منجزيته وعدم الأثر للآخر ، ولا للأول ، لما تقدم في التنبيه الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من منجزيته في الأطراف الأخر.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم : أن المعلومات في هذه العلوم الثلاثة إما أن تتقارن ، بأن تكون الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة المعلومة بالإجمال بين الملاقي وصاحبه. وإما أن يكون المعلوم بالعلم الثاني أسبق ، بأن تتأخر الملاقاة عن حدوث النجاسة المعلومة ، ولا يعقل العكس ، لاستحالة تنجس الملاقي قبل الملاقى.
    فالكلام في مقامين :
    الأول : في ما لو كانت الملاقاة مقارنة لحدوث النجاسة ، وله صور ..
    إذ .. تارة : تكون العلوم الثلاثة متقارنة حدوثا أيضا ، بأن يعلم بالنجاسة والملاقاة في وقت واحد ، أو يسبق العلم بالملاقاة.
    واخرى : يكون العلم الثاني أسبق ، بأن يعلم بنجاسة أحد الطرفين ، ثم يعلم بسبق ملاقاة ثالث لأحدهما.
    وثالثة : يكون العلم الثالث أسبق ، بأن يعلم بنجاسة الملاقي أو صاحب

    الملاقى ، ثم يعلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه ، وأنه لا منشأ لنجاسة الملاقي المحتملة التي هي طرف العلم الإجمالي السابق الا الملاقاة.
    أما الاولى : فالظاهر فيها عدم ترجح أحد العالمين الأخيرين في المنجزية ، بل يكون كل منهما منجزا ، لاتحادهما زمانا علما ومعلوما ، فهو كما لو علم إجمالا بوقوع النجاسة في الإناء النحاس أو الإناءين الخزف ، حيث يجب اجتناب الجميع بلا إشكال.
    لكن ذكر بعض الأعاظم أن التنجيز يختص بالثاني ، لأنه أسبق رتبة بلحاظ سبق معلومه ، لفرض أن نجاسة الملاقي متأخرة رتبة عن نجاسة الملاقى.
    ومن ثمّ بنى على عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي مطلقا.
    ويشكل : بأن التنجز ليس للنجاستين المترتبتين ، بل لأحكامهما التكليفية العملية ، كوجوب الاجتناب ، وترتب موضوعي التكليفين لا يوجب الترتب بينهما ، بعد عدم كون أحدهما موضوعا للآخر ، لما تقدم من أن المترتب على أمر مقارن لشيء لا يكون مترتبا على ذلك الشيء.
    على أنه لو فرض الترتب بين الحكمين فلا يتضح مرجحيته في التنجيز بعد عدم الترتب بينهما زمانا لا بنفسيهما ولا بلحاظ العلم الإجمالي بهما.
    نعم ، لو كان الترتب موجبا للترتب في الاصول الجارية في الأطراف كان له الدخل في التنجيز ، بناء على أن المعيار فيه تعارض الاصول وتساقطها ، كما تقدم.
    لكنه خارج عن محل الكلام.
    وأما الثانية : فظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه فيها اختصاص المنجزية بالعلم الثاني ، لأنه أسبق حدوثا ، فينجز أطرافه ، ويمنع من منجزية العلم الثالث والأول المتأخرين عنه حدوثا ، وتابعة على ذلك غير واحد.

    وربما يقال (1) : إن العبرة في مرجحية أحد العالمين المتداخلين في المنجزية ، والمانعية من منجزية الآخر هو سبق معلومه زمانا ، والمفروض عدم ذلك في المقام ، ولا أثر لسبق حدوث العلم بنفسه ، لأن العلم اللاحق بالمعلوم السابق يوجب انقلاب العلم السابق وتبدله بالعلم الكبير ، وهو العلم الأول ، فيتعين منجزيته ولزوم إحراز الفراغ عنه باجتناب تمام الأطراف.
    لكن لا يخفى أن انقلاب العلم السابق إنما يوجب ارتفاع منجزيته إذا رجع إلى ارتفاعه ، كما لو قطع المكلّف بنجاسة أحد إناءين ، ثم تردد في النجاسة بينهما وبين إناء ثالث ، أما إذا رجع إلى زيادة المعلوم ، كما لو علم بنجاسة أحد اناءين ثم علم بنجاسة إناء ثالث معه فلا وجه لارتفاع منجزيته ، ومن الظاهر أن انقلاب العلم المدعى في المقام من الثاني ، فهو لا يوجب سقوط العلم الثاني عن المنجزية.
    وإنما الإشكال في أن تنجيزه لطرفيه هل يمنع من منجزية العلم الثالث الحاصل حين العلم بالملاقاة ، لاشتراكه معه في بعض الأطراف ، أو لا؟
    ومن الظاهر أن الكلام لا يختص بالمقام ، بل يجري في كل علمين إجماليين بينهما عموم من وجه ، تأخر أحدهما عن الآخر حدوثا ، وقارنه معلوما ، فهل يكون تأخر العلم المذكور مستلزما لعدم تنجيزه ، لتنجز بعض أطرافه بالعلم السابق ، الموجب لعدم العلم بالتكليف الذي يترتب عليه العمل على كل حال ، أو لا؟ بل يكون سبق معلومه وصلوحه لأن يترتب عليه العمل حينئذ كافيا في منجزية العلم به وإن كان حدوث العلم متأخرا؟
    لا يبعد الثاني ، لأن المنجز وإن كان هو العلم ، إلا أن منجزيته باعتبار
    __________________
    (1) ذكر ذلك بعض مشايخنا. ثم بعد ذلك ظهر عدوله عنه وجوابه عنه بما ذكرناه في الجواب عنه.
    (منه. عفي عنه).

    معلومه ، فاذا كان المعلوم من شأنه التنجز تنجز مطلقا ، وإن كان العلم به متأخرا.
    وحيث فرض أن كلّا من المعلومين يتنجز على ما هو عليه ولا يصلح كل منهما لأن يتقدم على الآخر تعين تنجزهما معا ، وتأخر العلم بأحدهما لا أثر له
    وبعبارة اخرى : حدوث العلم الإجمالي لا يقتضي تنجز المعلوم مطلقا ، بل في خصوص ان حدوثه ، وليس المنجز في كل ان لاحق إلّا بقاء العلم فيه ، ففي ان حدوث العلم اللاحق واجتماع العالمين لا وجه لاختصاص التنجيز بالعلم الأسبق حدوثا بعد عدم المرجح لأحد المعلومين ، إذ ليس العلم السابق باستمراره إلا كالعلم اللاحق بحدوثه فيشتركان في التنجيز في زمان اجتماعهما ، وسبق الأول إنما يقتضي انفراده بالتنجيز في زمان انفراده لا غير.
    ومنه يظهر اندفاع ما في بعض كلماتهم من أن التكليف إنما يتنجز بوجوده العلمي المفروض تأخره في المقام ، لا بوجوده الواقعي المفروض مقارنته لوجود التكليف الآخر.
    وجه الاندفاع : أن التأخر إنما يوجب قصور العلم عن التنجيز في الزمان السابق ، أما الزمان اللاحق فلا مرجح للعلم السابق فيه بعد كون تنجيز العلم فيه باستمراره المقارن لحدوث العلم المتأخر لا بحدوثه المتقدم عليه. فتأمل جيدا.
    إن قلت : تقدم في التنبيه الرابع أنه لو حصل المانع من منجزية العلم الإجمالي في بعض الأطراف ، ثم علم إجمالا بحدوث التكليف بينها قبل حدوث المانع اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي ، فلو خرج أحد الإنائين عن ابتلاء المكلف يوم الجمعة ، وعلم يوم السبت بسبق النجاسة من يوم الخميس فيه أو في صاحبه الذي هو محل الابتلاء ، لم يكن العلم المذكور منجزا للطرف المبتلى به ، لأن المتيقن من منجزية العلم الإجمالي العلم بترتب الأثر على العلم حين حدوثه ، لا حين حدوث الأمر المعلوم ، ولازمه عدم منجزية العلم اللاحق ، لعدم العلم بترتب الأثر عليه حين حدوثه ، لاحتمال انطباق المعلوم على الطرف

    المتنجز بالعلم السابق ، وإن كان يترتب الأثر عليه لو فرض سبقه أو مقارنته للعلم الآخر ، لعدم المرجح لأحدهما حينئذ.
    قلت : ذلك يختص بما إذا كان المانع موجبا للخلل في المعلوم وعدم صلوحه للداعوية ، كعدم الابتلاء الخارجي والاضطرار ، إذ لا يعلم معه بصلوح التكليف لأن يترتب عليه العمل.
    وأما في المقام فليس المانع إلا تنجز بعض الأطراف الناشئ من العلم بالتكليف ، وحيث كانت منجزية العلم في طول منجزية التكليف ، والمفروض عدم المرجح للتكليف المذكور على التكليف المعلوم بالعلم اللاحق لتقارنهما فمجرد سبق العلم به لا يوجب تعينه للمرجحية ، لما سبق.
    وبعبارة اخرى : سبق العلم في أحد المعلومين لا يوجد تبدل المعلوم الآخر وعدم صلوحه لأن يترتب عليه العمل ، بل الجهة المقتضية للعمل به حين حدوثه باقية على ما هي عليه ، فيتعين تنجزهما معا في ظرف حصول العلم بكل منهما وإن تأخر أحد العالمين.
    كيف! ولازم اختصاص التنجيز بالمتقدم في المقام أنه لو ارتفع العلمان بنسيان أو غفلة أو نوم ، ثم رجعا معا ، لكانا معا منجزين ، إذ لا أثر للعلم السابق بعد ارتفاعه ، بل لو فرض سبق رجوع اللاحق لاختص التنجيز به وهكذا ، ولا مجال للبناء على ذلك ارتكازا ، بل لا يظن من أحد البناء عليه.
    وأما الثالثة : فيظهر الكلام فيها مما تقدم ، إذ لو كان تقدم أحد العالمين رتبة موجبا لاختصاص التنجز به ـ كما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ اختصت المنجزية بالعلم الثاني وإن كان متأخرا حدوثا ، وإن كان تقدمه حدوثا هو الموجب لذلك اختصت بالعلم الثالث ، كما هو ظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره ، وأما بناء على ما عرفت منا فالمتعين البناء على منجزية العالمين معا ، لفرض تقارن المعلومين.

    وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن اللازم في الصور الثلاث البناء على منجزية العالمين معا واجتناب جميع الأطراف.
    هذا ، ولو فرض طروء بعض موانع فعلية التكليف في بعض الأطراف ـ كالاضطرار والخروج عن الابتلاء ـ فلا ريب في جواز ارتكابه ، بل يجوز ارتكاب بقية الأطراف لو كان طروء المانع رافعا للعلم الإجمالي ـ كما لو طرأ على صاحب الملاقى أو على المتلاقيين معا ـ وكان قبل حصول العلم ، بناء على ما تقدم الكلام فيه في التنبيه الرابع.
    أما لو لم يرفع العلم الإجمالي ـ كما لو اختص بأحد المتلاقيين ـ أو كان بعد حصول العلم ، فلا مجال لارتكاب بقية الأطراف ، لتنجزها بالعلم الفعلي أو السابق ، كما تقدم في التنبيه المذكور.
    ولو ارتفع المانع منه بعد ذلك ـ كما لو لم يرفع المكلف اضطراره حتى فات الوقت ـ فله صور ، وملخص الكلام فيها : أن المانع إن كان مانعا من منجزية العالمين معا ـ كما لو كان في صاحب الملاقى ـ لزم تنجزهما معا بارتفاعه ، وإن كان مانعا من منجزية أحدهما فليس المنجز إلا العلم الأسبق تنجزا ، إما لعدم حصول المانع في أطرافه ، أو لسبق ارتفاعه عنها ، أو لطروء المانع بعد تنجيزه ، ولا يكون اللاحق منجزا وإن ارتفع المانع من أطرافه بعد ذلك. ولعل ذلك يتضح مما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
    المقام الثاني : فيما لو كانت الملاقاة متأخرة عن النجاسة ، وصوره أيضا ثلاثة على النحو المتقدم في المقام الأول.
    أما الأولى : فمقتضى إطلاق من تقدم منه أن المدار في اختصاص التنجيز بأحد العالمين الإجماليين سبق حدوثه هو منجزية كلا العالمين فيها ، لعدم ترجح أحدهما.
    لكن الظاهر هنا منجزية العلم الثاني ، لسبق المعلوم فيه ، الموجب لتنجزه

    بالعلم به ، لرجوعه إلى العلم بحدوث تكليف صالح للتنجيز ، وأما العلم الثالث فهو وإن كان علما بالنجاسة إجمالا ، إلا أنه لا يرجع إلى العلم بحدوث تكليف زائد على المعلوم بالعلم الثاني المفروض تنجزه ، لإمكان انطباق المعلوم بالعلم المذكور على المعلوم بالعلم الثاني ، فليس في المقام إلا العلم بحدوث التكليف الأول الموجب لانشغال الذمة به ، والشك في حدوث تكليف جديد مدفوع بالأصل.
    وبعبارة اخرى : إن اريد بتنجيز العلم الثالث منجزيته لمؤداه سواء كان هو التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به أم غيره ، فلا مجال لذلك ، لاستحالة انشغال الذمة بما انشغلت به سابقا ، وإن اريد به تنجيزه لتكليف آخر غير المتنجز بالعلم الثاني ، فلا علم بحدوث التكليف المذكور ، ليكون منجزا له.
    ومنه يظهر الفرق بينه وبين المقام الأول الذي فرضت فيه الملاقاة مقارنة للنجاسة الحادثة المعلومة إجمالا ، لأنه لا مجال هناك لدعوى اليقين بشيء معين والشك في ما عداه ، بل المتيقن بالإجمال مردد رأسا بين تكليف واحد في طرف واحد وتكليفين في طرفين من دون مرجح لأحد الطرفين يقتضي تميزه في طرفية العلم الإجمالي وانشغال الذمة المفروض.
    وأما الثانية : فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني قطعا ، لأنه الأسبق حدوثا ومعلوما ورتبة ، فيتعين للتنجيز على جميع مباني المسألة المتقدمة.
    ولا يبعد كون ذلك هو مورد ما نسب للمشهور من عدم وجوب اجتناب الملاقي لأحد المشتبهين.
    بل المتيقن من محل كلامهم ما إذا وردت الملاقاة على المشتبه بما هو مشتبه بنحو تكون متأخرة عن العلم الإجمالي بالنجاسة الموجب لصدق عنوان المشتبه على الملاقى ، ولا يكفي تأخرها عن النجاسة ثبوتا فقط.
    وأما الثالثة : فلا يتنجز فيها إلا العلم الثاني أيضا ، بناء على ما تقدم في

    الصورة الثانية من المقام الأول ، والاولى من الثاني ، من أنه لا أثر لسبق حدوث العلم في التنجز ، بل لسبق المعلوم ، فإن العلم الثالث وإن كان أسبق حدوثا ، إلا أنه بحدوث العلم الثاني قد تبدل إلى الشك البدوي بحدوث تكليف زائد على التكليف المعلوم بالعلم الثاني المنجز به.
    وإن شئت قلت : قبل حصول العلم الثاني كان المعلوم بالعم الثالث هو التكليف المردد بين الملاقي وصاحب الملاقى ، أما بعده فقد انكشف سبق حدوث التكليف بالملاقى أو صاحبه وانشغال الذمة به ، وانقلب العلم الثالث بسببه إلى الشك في حدوث تكليف زائد على ذلك بالملاقاة ، فإن العلم بوجود التكليف بين الملاقي وصاحب الملاقى وإن لم يرتفع ، إلا أنه خرج عن كونه علما بتكليف مستقل صالح للتنجز ، بل هو تكليف مردد بين ما انشغلت به الذمة سابقا وتنجز بالعلم الثاني ، غير الصالح لأن تنشغل به الذمة بعد ذلك ، وتكليف آخر مشكوك الحدوث ، ومع ذلك لا مجال لمنجزية العلم المذكور.
    وقد تقدم في الصورة الثانية من المقام الأول ما له نفع في المقام. فراجع.
    وقد تحصل أن اللازم في الصور الثلاث منجزية العلم الثاني لا غير ، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
    والعمدة فيه : ما هو المرتكز من مرجحية تقدم المعلوم في تنجيز العلم ، وأن التنجيز وإن كان مستندا للعلم إلا أن منجزيته بلحاظ كشفه عن الواقع المعلوم وفي تنجزه. فلاحظ.
    هذا ، ولو فرض طروء بعض موانع التنجز في الملاقى أو صاحبه ـ كالاضطرار والخروج عن الابتلاء ـ
    فتارة : يكون بعد حصول العلم الثاني وتنجزه.
    واخرى : يكون قبله.
    أما في الصورة الاولى فلا أثر له في ما تقدم ، بل يبقى الطرف الآخر منجزا

    بمقتضى العلم المذكور ، ويبقى الملاقي مجرى للأصل ، لعدم المنجز له بعد فرض كون العلم الثالث لا يصلح لتنجيز طرفه الآخر ، إما لتنجزه بالعلم الثاني أو لطروء المانع من تنجزه.
    ولو فرض ارتفاع المانع بعد ذلك رجع مورده طرفا للعمل الإجمالي ، إذ ينكشف بذلك أن طروء المانع لم يوجب خروجه عن حيز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقا ، بل في خصوص وقت وجود المانع ، فيعلم بالتكليف في أحد الطرفين مطلقا ، وفي الآخر بعد ارتفاع المانع ، نظير العلم الإجمالي التدريجي ، الذي يجب معه الاحتياط.
    ولو فرض الالتفات لارتفاع المانع حين وجوده فالأمر أظهر.
    وأما في الثانية فالمتصور وجهان :
    الأول : أن يكون المانع في صاحب الملاقى.
    والظاهر مانعيته من منجزية العلم الثاني بالإضافة إلى الملاقى ، والثالث بالإضافة إلى الملاقي ، لعدم العلم معه بالتكليف الفعلي ، فلا مانع من الرجوع فيهما للأصل. وكذا الحال لو لم تكن نجاسة صاحب الملاقى موردا لأثر تكليفي ، كما لو كان خاتما أو كتابا أو نحوهما.
    هذا ، ولو ارتفع المانع المذكور بعد ذلك كان كلا العالمين منجزا ، نظير ما تقدم في المقام الأول ، لتقارنهما معلوما ، لأن المعلوم المنجز هو التكليف الفعلي المفروض توقف العلم بحصوله على ارتفاع المانع ، لا النجاسة ، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوما ، كما سيأتي نظيره.
    الثاني : أن يكون المانع في الملاقى.
    ولا ينبغي الإشكال في أنه يمنع من منجزية العلم الثاني ، والظاهر منجزية العلم الثالث حينئذ ، لعدم المانع من تنجيزه. فإن ارتفع بعد ذلك من الملاقى لم يجب اجتنابه ، كما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه ، لأن منجزية العلم الثالث قبله

    مانعة من منجزية العلم الثاني به ، نظير ما تقدم في الصورة الثانية ، إذ يكون العلم الثالث هو الأسبق معلوما ، إذ ليس المعلوم المنجز هو حدوث النجاسة ، ليكون العلم الثاني هو الأسبق معلوما ، بل التكليف الفعلي المسبب عنهما ، وفي ظرف وجود المانع لا يرجع العلم الثاني الى العلم بالتكليف الفعلي ، بل العلم الثالث راجع إلى ذلك ، فيكون هو الأسبق معلوما ، وبعد ارتفاع المانع لا يعلم بحدوث التكليف الفعلي ، بل هو محتمل لا غير ، فلا مجال لتنجيزه.
    وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من إباء الذوق عن اجتناب الملاقي دون الملاقى ، غير ظاهر بنحو يمكن الخروج به عما تقدم.
    ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم الابتلاء لا يمنع من جريان الأصل في الملاقى ، لترتب الأثر عليه في الملاقي ، حيث يقتضي طهارته ، فيعارض الأصل الجاري في صاحب الملاقى ، وبعد تساقطهما لا مجال للرجوع إلى الأصل في الملاقى بعد رجوع الابتلاء به.
    لاندفاعه : بأن منشأ التعارض بين الأصلين لما كان هو العلم الإجمالي الثالث القائم بالملاقي وصاحب الملاقى فهو لا يقتضي سقوط الأصل الجاري في الملاقى رأسا ، بل سقوطه بالإضافة إلى خصوص ما يترتب عليه من العمل في الملاقي فلا مانع من الرجوع إليه في الملاقى بلحاظ العمل المتعلق به لو رجع الابتلاء به.
    وأشكل منه ما ذكره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لو فرض تأخر العلم بالملاقاة عن العلم الإجمالي بالنجاسة ، كما لو لم يكن الملاقى خارجا عن الابتلاء.
    لاندفاعه : بأن الملاقي طرف لعلم إجمالي لا قصور فيه ، ولا مانع من تنجيزه ، وإنما يلتزم بعدم منجزيته مع الابتلاء بالملاقى لوجود المانع منه ، وهو منجزية العلم الإجمالي الثاني ، القائم بالملاقي وبصاحبه ، فمع فرض ارتفاع

    المانع المذكور بسبب خروج الملاقى عن الابتلاء يتعين البناء على منجزية العلم المذكور.
    هذا تمام الكلام في حال العلم الإجمالي بالإضافة إلى الملاقي ، حسب ما تيسر لنا بعد النظر في كلمات مشايخنا. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.
    بقى امور :
    الأول : أن اشتباه حال الملاقي يكون ..
    تارة : لاشتباه النجس مع العلم بالملاقى تفصيلا.
    واخرى : لاشتباه الملاقى مع العلم بالنجس تفصيلا.
    وثالثة : لاشتباههما معا.
    وكلامهم مختص بالصورة الاولى.
    وأما الصورتان الأخيرتان فلا مجال لتوهم وجوب الاجتناب عن الملاقي فيهما ، إذ لا مجال لتصوير علم إجمالي قائم بأحد الطرفين بعينه مع الملاقي ليكون بينه وبين العلم الإجمالي الآخر عموم من وجه ، وينظر في المرجحات السابقة.
    وغاية ما يمكن تصويره في الصورة الثالثة هو العلم الإجمالي القائم بالملاقي وغير الملاقي من الطرفين على إجماله ، المقتضي لاجتنابهما معا مع الملاقي ، وحيث كان العلم الإجمالي الأصلي القائم بهما أخص مطلقا كان مانعا من منجزية العلم الإجمالي المذكور بلا إشكال.
    نعم ، لو كان الوجه في اجتناب الملاقي في ما تقدم هو البناء على السراية بالتقريب المتقدم ، فقد يتجه وجوب الاجتناب عن الملاقي في الصورتين المذكورتين أيضا ، بل قد يتجه حينئذ الاجتناب عما يحتمل ملاقاته للنجس مطلقا ، كما أشرنا إليه هناك. فراجع وتأمل.
    الثاني : لما كان منشأ اجتناب الملاقي العلم الإجمالي بالوجه المتقدم

    فلا بد من كونه منجزا في نفسه ، لكون كلا طرفيه ـ وهما الملاقي وصاحب الملاقى ـ مما يترتب الأثر التكليفي على نجاسته ، كالثوب والماء ، فلو كانت نجاسة أحدهما غير مستتبعة للتكليف ـ كما لو كان خاتما أو كتابا ـ فلا مجال لمنجزية العلم الإجمالي المذكور بل هو نظير الخروج عن الابتلاء.
    نعم ، بناء على أن منشأ اجتناب الملاقي هو البناء على السراية بالوجه المتقدم اتجه وجوب اجتناب الملاقي بمقتضى العلم الإجمالي القائم بالطرفين وإن لم يترتب الأثر التكليفي عليهما معا ، لأن عدم ترتبه عليهما لا ينافي التكليف بهما بلحاظ حكم الملاقي الذي قد يترتب عليه التكليف.
    الثالث : ما ذكرناه في حكم الملاقي يجري في كل تكليف مترتب على الأمر المعلوم بالإجمال ، كالضمان المترتب على الغصب المعلوم بالإجمال ، فيتنجز إذا كان حكما تكليفيا بالوجه الذي يتنجز به الملاقي.
    كما أنه يجري في الملاقي لما يتنجز حكم نجاسته إذا لم يكن المعلوم بالإجمال هو النجاسة ، بل مرددا بينها وبين غيرها ، فلو علم إجمالا بغصبية الإناء أو نجاسة الثوب جرى في ملاقي الثوب ما تقدم من الكلام.
    وربما تكون هناك فروع أخرى قد يظهر حكمها مما تقدم ، لا مجال لإطالة الكلام فيها.
    التنبيه الثامن : في الانحلال
    ومرادنا به سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه في خصوص بعض الأطراف.
    وبه يفترق عما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الإجمالي بتنجز التكليف في بعض أطرافه ، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف المعلوم بالإجمال لا نفسه.

    ثم إن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال في خصوص بعض الأطراف ..
    تارة : يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال فيه ، وخلو الأطراف الأخر عنه.
    واخرى : لا يقتضي ذلك ، لتردد التكليف المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر ، على ما يأتي الكلام فيه.
    أما الأول فكما لو علم تنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب ، ثم عثر على الثوبين بالفحص. فإنه لا إشكال هنا في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف الأخر ، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف آخر غير التكليف الذي كان معلوما بالإجمال ، لارتفاعه حقيقة وتبدله بالعلم التفصيلي والشك البدوي ، لأن مرجع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المذكور.
    نعم ، لو كان التنجز في بعض الأطراف بطريق تعبدي غير العلم اتجه عدم ارتفاع العلم الإجمالي حقيقة ، بل حكما ، كما لو قامت البينة في الفرض على تعيين الثوبين الملاقيين للدم ، فإن احتمال خطأ البينة مستلزم لبقاء العلم الإجمالي ، إلا أن مقتضى حجيتها الاكتفاء بمتابعتها في الفراغ عن التكليف المعلوم بالإجمال ، كما لا يخفى.
    لكن هذا مختص بالامارات والطرق التعبدية ، حيث قد يكون لسانها تعيين المعلوم بالإجمال ، ولا مجال فيه في الاصول التعبدية ، لعدم النظر فيها للمعلوم بالإجمال ، لتكون صالحة لتعيينه تعبدا.
    وأما الثاني فكما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب ، ثم علم بالفحص بثوبين منها ، ولم يعلم بأنها تمام المعلوم بالاجمال أو بعضه ، لتردد المتنجس بين الأقل والأكثر.
    إن قلت : لا معنى لتردد المعلوم بالإجمال بين الأقل والأكثر ، لوضوح أن

    المعلوم حينئذ خصوص الأقل ، والزائد مشكوك لا غير مدفوع بالأصل ، فيرجع إلى الوجه الأول.
    قلت : هذا مسلم ، إلا أن الأقل لما لم يكن محدودا بحدود ذهنية خاصة منطبقة على المعلوم بالتفصيل ، بل مبهما مرددا بين الأطراف ، لم يصلح العلم التفصيلي لتعيين المعلوم بالإجمال ، ولذا لو فرض كون النجس في الواقع أربعة كان نسبة كل منها إلى العلم الإجمالي واحدة ، لعدم المرجح ، ولا مجال مع ذلك لتعيين المعلوم بالإجمال بالمعلوم بالتفصيل ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، لأن المفروض فيه كون المعلوم بالإجمال محدودا بحدود ذهنية منطبقة على المعلوم بالتفصيل ، كالمتنجس بالدم مثلا.
    والظاهر هنا عدم وجوب مراعاة احتمال التكليف في بقية الأطراف ، لارتفاع العلم الإجمالي حقيقة ، كما في الوجه الأول ، لما تقدم من أن مرجعه إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المفروض.
    إن قلت : لما كان العلم الإجمالي منجزا للمعلوم بالإجمال على ما هو عليه من الابهام والترديد فلا بد من إحراز الفراغ عنه ، وهو لا يحرز بمراعاة العلم التفصيلي بعد فرض عدم إحراز التطابق بينهما ، وأن نسبة العلم الإجمالي لتمام الأفراد الواقعية واحدة لو فرض زيادتها على المعلوم بالتفصيل.
    قلت : وجوب إحراز الفراغ فرع انشغال الذمة بالمعلوم بالإجمال الموقوف على بقاء العلم الإجمالي ، فمع فرض ارتفاعه لا مجال لانشغال الذمة ليجب إحراز الفراغ ، لوضوح أن بقاء انشغال الذمة مشروط ببقاء العلم ، ولا يكفي فيه حدوثه مع ارتفاعه.
    وقد تقدم نظير هذا في التنبيه الرابع ، عند الكلام في طروء بعض موانع التنجيز في خصوص بعض الأطراف ، كالاضطرار ونحوه ، وذكرنا هناك أن وجه البناء على منجزية العلم الإجمالي في بقية الأطراف منحصر بالمرتكزات

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:46 am

    العقلائية ، التي لا مجال لها هنا ، للفرق بين المقامين بأن المانع المفروض هناك من سنخ الطوارئ الثبوتية الرافعة للتكليف المعلوم بالإجمال ، مع عدم التبدل في مقام الإثبات ، لبقاء العلم الإجمالي على ما هو عليه ، بخلاف العلم التفصيلي هنا ، فإنه من سنخ الطوارئ الإثباتية ، الموجبة لارتفاع العلم الإجمالي الذي به قوام التنجيز ، مع عدم تبدل التكليف المعلوم ثبوتا ، بل عدم تبدل شيء في مقام الثبوت أصلا ، فقياس أحد المقامين بالآخر في غير محله ، بل المرتكزات هنا لا تمنع من الرجوع للاصول الترخيصية في بقية الأطراف.
    هذا ، ولو فرض قياس أحد المقامين بالآخر فحيث تقدم في التنبيه السابق أن المعيار في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء المانع على بعض الأطراف على مقارنة المانع للتكليف المعلوم بالإجمال أو تقدمه عليه ، وإن تأخر العلم به عن حصول العلم الإجمالي ، وأن عدم تأثير المانع مشروط بتأخره تعين في المقام البناء على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، لأن المفروض كون المعلوم بالتفصيل متحدا مع المعلوم بالإجمال غير مباين له ، فهو في حكم المقارن ، وإن تأخر العلم به عن العلم الإجمالي.
    ومنه يظهر الحال فيما لو كان المنجز في بعض الأطراف التفصيلية طريقا شرعيا لا يوجب العلم ، فإنه وإن لم يوجب ارتفاع العلم الإجمالي ، لفرض احتمال الخطأ ، كما لا يوجب الفراغ اليقيني عن المعلوم بالإجمال ، لفرض عدم تضمنه تعيينه في ضمن الأطراف التفصيلية ، إلا أنه لما كان مفاد الطريق المذكور ثبوت مؤداه من حين حصول المعلوم بالإجمال ، لفرض كونه عينه أو منه ، اتجه البناء على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بقيامه بالملاك المذكور هناك.
    بل لا يبعد إلحاق ذلك بما ذكرناه هنا في العلم التفصيلي من تبدل الحال في مقام الإثبات ، لأن العلم الإجمالي الراجع الى القضية المنفصلة المشار إليها وإن كان موجودا حقيقة إلا أن قيام الطريق يوجب إلغاءه عملا والتعبد بقضية

    حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق وإن لم تكن معلومة حقيقة ، وحيث لا يكون التعبد بالوجه المذكور منافيا للعلم المفروض ، لإمكان صدقهما معا ، فلا مانع منه ، ويتعين لأجله رفع اليد عملا عن خصوصية الترديد المقتضية عقلا للاحتياط ، والتي هي خارجة عن الانكشاف الذي به قوام المنجزية في العلم الإجمالي.
    وبعبارة اخرى : العلم الإجمالي متقوم بانكشاف تحقق المعلوم ، وباجماله وتردده ، والأول هو المعيار في المنجزية ووجوب العمل عقلا ، والثاني منشأ لوجوب الاحتياط في مقام الامتثال.
    ومن الظاهر أن الأول لا ينافي التعبد بالطريق المفروض في المقام ، ليكون ليكون مانعا منه ، والثاني وإن نافاه ، إلا أن التعبد بالطريق يقتضي إلغاءه عملا ، كإلغاء الطرق للجهل في سائر الموارد التي يكون فيها موردا للاصول الترخيصية أو الإلزامية ، فتلحق الطرق بالعلم التفصيلي في ذلك. فتأمل.
    كما تلحق به الاصول الإحرازية التعبدية ، كالاستصحاب ونحوه ، بخلاف أصل الاحتياط ، حيث لا مجال لرافعيته للاجمال تعبدا ، لعدم تعرضه لاثبات التكليف في مورده بوجه ، وينحصر الوجه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية بما ذكرناه في الطرق أولا ، من ابتنائه على ما تقدم في التنبيه الرابع في وجه سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بطروء بعض موانع التنجيز في بعض الأطراف.
    وقد تحصل مما ذكرنا : أن العلم التفصيلي في المقام موجب لرفع العلم الإجمالي حقيقة ، فلا موضوع معه للاحتياط في الأطراف الأخر. كما أن الطرق والاصول التعبدية رافعة له حكما.
    وأما الاصول غير الإحرازية ـ كالاحتياط ـ فهي لا تصلح لشيء منهما ، وإنما تكون مانعة من منجزية العلم الإجمالي بملاك طروء بعض موانع التنجيز في

    بعض الأطراف ، الذي تقدم في التنبيه الرابع.
    وعلى ما ذكرنا يبتني الكلام في كثير من المباحث المتقدمة ، كالعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، والدليل العقلي على حجية الخبر ، ودليل الانسداد ، والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، وربما تقدم منا خلاف ذلك ، ويظهر حاله مما ذكرناه هنا. فراجع.
    بقي في المقام شيء ، وهو أن المفروض في تقدم في ما التنبيه الرابع أن التكليف المعلوم بالتفصيل مباين للمعلوم بالإجمال ، كما أن المفروض هنا عدم التباين بينهما ، بل المعلوم بالتفصيل هنا عين المعلوم بالإجمال وإن لم يحرز أنه تمامه.
    وهناك صورة ثالثة ينبغي التعرض لها هنا إلحاقا بهذا التنبيه ، وهي ما إذا تردد المعلوم بالتفصيل بين الأمرين ، بأن يكون للمعلوم بالإجمال حدّ واقعي ، وعنوان ذهني ، لا يعلم انطباقه على المعلوم بالتفصيل ، كما لو علم إجمالا بنجاسة ثوبين من عشرة ثياب ، وأنهما ثوبا زيد مثلا ، وبعد الفحص علم تفصيلا بنجاسة ثوبين لا يعلم أنهما ثوبا زيد أو غيرهما قد تنجسا بنجاسة اخرى غير النجاسة المعلومة بالإجمال.
    والظاهر أنه لا مجال لما تقدم هنا ، لبقاء العلم الإجمالي بالمعلوم الخاص على ما هو عليه من حدود واقعية وذهنية لا يعلم انطباقها على المعلوم بالتفصيل ، فتصدق بالإضافة إليه القضية المنفصلة المشار إليها ، فثوبا زيد في المثال مرددان بين المعلوم بالتفصيل وغيره.
    إن قلت : مثل عنوان ثوب زيد لا أثر له في التكليف ، بل هو معرّف محض ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتعلق به ، وليس موضوع التكليف والتنجيز إلا المصاديق الخارجية على ما هي عليه من الحدود الواقعية ، لأنها التي يتعلق بها العمل ، وتكون موردا للإطاعة والمعصية ، ومن الظاهر أنه لا مجال لفرض العلم

    الإجمالي في المصاديق المذكورة بما هي بعد فرض العلم التفصيلي المذكور ، بل الحال كما تقدم في الصورة السابقة.
    قلت : لما كان العنوان المذكور معرّفا كان دخيلا في التنجيز ، إذ ليس المنجز إلا المحكي به ، وهو المصداق الخاص المحدود بحدوده الواقعية ، المردد بين المعلوم بالتفصيل وغيره ، ولا وجه لارتفاع العلم الإجمالي به مع بقاء تردده ، وهذا بخلاف ما إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين الأقل والأكثر ، فإن الأقل مبهم في الأكثر ، وليس له حدّ واقعي يميزه فيه ، ليمكن فرض الترديد فيه ، كما تقدم.
    فالظاهر أن المقام مبني على ما تقدم في التنبيه الرابع من الكلام في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية مع ابتلاء بعض أطرافه بتكليف تفصيلي ، حيث يتعين حينئذ التفصيل بين تأخر المعلوم التفصيلي وعدمه ، فلا يمنع من منجزية العلم الإجمالي في الصورة الاولى ، على التفصيل والكلام المتقدمين هناك.
    ومجرد الفرق بينه وبين ما سبق بالعلم هناك بالتباين بين المعلومين الإجمالي والتفصيلي ، والشك فيه هنا ، ليس فارقا بعد بقاء العلم الإجمالي والشك في الفراغ عنه بامتثال المعلوم بالتفصيل.
    نعم ، لا يبعد البناء على إلحاق صورة الشك في التأخر بصورة العلم بعدمه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية ، لعدم اليقين معه بكون المعلوم بالإجمال حين حدوثه تكليفا فعليا صالحا لترتب العمل عليه ، كما لعله يظهر بالتأمل في ما ذكرناه في التنبيه الرابع ، والتنبيه السابع في وجه كون المعيار في التقدم والتأخر على حال المعلوم ، لا العلم.
    ولا يسع المقام تفصيل ذلك. فراجع وتأمل.

    التنبيه التاسع : في الشبهة غير المحصورة
    وقد وقع الكلام بينهم في ضابطها.
    ومن الظاهر أن ما يناسب المعنى اللغوي لغير المحصور هو الذي لا يعلم عدده (1) ولو لتردده بين عددين ، ولا يبعد أن يختص عرفا بما إذا كانت أطراف الترديد بحد لا يسهل تشخيصها دقة ، بحيث لا تشخّص في طرف القلة إلا بما يعلم بوجود ما زاد عليه ، ولا في طرف الكثرة إلا بما يعلم بنقص الموجود عنه ، فلو تردد أهل البلد بين الألف والتسعمائة يكون من المحصور عرفا ، وإن كان من غيره لغة ، ولا يكون من غير المحصور عرفا إلا إذا لم يسهل تشخيص الحد بين الشك واليقين. بل لا يبعد مع ذلك اعتبار البعد بين الحدين.
    هذا ، ولكن لا أثر لتشخيص المعنى اللغوي أو العرفي لغير المحصور ، لعدم وروده في النصوص ـ كما ذكره في الجواهر ـ ولا غيرها من الأدلة الشرعية اللفظية ، وإنما ورد في كلمات بعض الأصحاب ، ومن القريب جدا ألا يكون مرادهم دخله في موضوع الحكم تعبدا ، بل سيق في كلامهم لمحض الإشارة لمصاديقه ، بلحاظ ما اشتملت عليه من خصوصيات دخيلة في الحكم ، كالحرج ونحوه ، كما قد يناسبه تعليلهم بها ، فالعنوان المذكور منتزع من الأفراد التي ثبت لها الحكم بحسب الأدلة ، فيكون تحديده متفرعا على تحديد تلك الأفراد ، وهو متفرع على تعيين دليل الحكم ، لينظر في سعته وضيقه.
    نعم ، المتيقن من أفرادها التكاليف الإجمالية في الامور العامة المنتشرة الأفراد ، كالعلم بوجود متنجس في الماء أو الخبز أو الجبن ، ووجود المغصوب في الأسواق والبيوت.
    __________________
    (1) هذا بناء على ان عدم الحصر بلحاظ العدد ، أما لو كان بحسب المكان فالمعيار فيه تردد المكان بالوجه المذكور في العدد. (منه. عفي عنه).

    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه قد استدل على عدم وجوب اجتناب أطراف الشبهة المحصورة بامور ..
    الأول : الإجماع ، ففي جامع المقاصد : «الظاهر أنه اتفاقي» وعن الروض التصريح به ، وعن الوحيد في فوائده : «عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل ، ولا ريب فيه ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك». وفي الجواهر : «للإجماع بقسميه ، وللسيرة المستقيمة» ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.
    وكأن ذلك بلحاظ السيرة التي اشير اليها في كلام الوحيد والجواهر ، حيث لا مجال لإنكارها ، لوضوحها ، كما لا مجال لتخطئتها لعمومها للمتدينين ، بل ينسب مخالفها للوسواس ، بل لو لا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد.
    ولعل دعوى الإجماع مبنية على السيرة المذكورة أيضا ، لقلة المتعرضين للعنوان المذكور وتأخر عصورهم ، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأن الإجماع المدعى ارتكازي مستند للسيرة المشار إليها.
    ومنه يظهر أنه لا مجال للإشكال في الاستدلال المذكور بعدم كون الإجماع تعبديا ، لقرب استناده لأحد الوجوه الآتية أو غيرها ، فيلزم النظر في دليله.
    لاندفاعه : بأن استناد الإجماع والسيرة والضرورة لأحد الوجوه المذكورة وإن كان قريبا ، إلّا أنه لا مجال لاحتمال خطئها لو فرض عدم تمامية الوجوه المذكورة عندنا ، لوضوحها وارتكازيتها ، لاتصالها بعصر المعصومين عليهم السّلام ، لما هو المعلوم لكل أحد في العصور المذكورة من كثرة ابتلاء الناس بالمحرمات الواقعية ووجودها في ما يتعرضون له من حوائجهم وأعمالهم ، بنحو يستلزم العلم الإجمالي لكل أحد غالبا ، فلو كان الاحتياط واجبا لحصل التنبه له ، أو التنبيه عليه ، بنحو يمنع من وقوع السيرة وجري النظام عليها.

    ومثله الإشكال : بأن وجوب الاحتياط مع العلم الإجمالي لما كان عقليا فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة الشرعية التعبدية ، كالإجماع ونحوه ، بل لا بد من النظر في الوجوه العقلية الموجبة لذلك.
    لاندفاعه أيضا بما ذكرناه في أول الكلام في العلم الإجمالي من إمكان رفع الشارع لموضوع حكم العقل المذكور بالتصرف في بعض الجهات التي يبتني عليها ، فلو فرض عدم تمامية الأدلة المستدل بها كان الإجماع والسيرة والضرورة وافية باثبات مقتضاها ، لكشفها عن التصرف الشرعي المذكور.
    نعم ، لما كانت هي أدلة لبية لم تنهض بتحديد موضوعها ، فيلزم الاقتصار على المتيقن من موردها ، وضبطه في غاية الإشكال ، فيلزم النظر في بقية الوجوه ، ليعول عليها في التحديد ، بل قد يظهر بها مورد السيرة ، لقرب استنادها إليها ، كما ذكرنا.
    الثاني : النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة فضلا عن غيرها من موارد العلم الإجمالي ، كصحيح عبد الله بن سنان وغيره مما تقدم التعرض له في أدلة البراءة ، وعند الكلام في حرمة المخالفة القطعية الإجمالية ، حيث ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ، خروجا عن محذور مخالفة العلم الإجمالي المنجز.
    لكن لا يخفى أن تخصيص النصوص المذكورة بغير المحصور لما لم يكن مستفادا من دليل لفظي ، بل من حكم العقل بامتناع مخالفة العلم الإجمالي مع فرض فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، فهو متفرع على تشخيص موارد عدم حكم العقل بالاحتياط مع العلم الإجمالي.
    فالنصوص المذكورة لا تكون دليلا على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة ، بل شمولها لها متفرع على قيام دليل غيرها فيها.
    الثالث : ما أشار إليه في الشرائع ، ونسبه في مفتاح الكرامة إليهم من

    التعليل بدفع المشقة.
    وفيه : ـ كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ أن المراد بذلك إن كان هو المشقة الشخصية ، ليكون مرجعه إلى الاستدلال بقاعدة نفي الحرج ـ بناء على ما هو الظاهر من جريانها في المقام بلحاظ لزوم الحرج من امتثال التكليف بسبب الاشتباه المستلزم للاحتياط الحرجي وإن لم يكن التكليف بنفسه حرجيا ـ فمن الظاهر أن بينه وبين المدعى عموما من وجه.
    وإن كان هو المشقة النوعية بمعنى لزوم الحرج من الاحتياط في الشبهة غير المحصورة نوعا على نوع المكلفين ، بأن يكون الحرج حكمة لا علة ، فهو ـ مع عدم الضابط له ـ لا ينهض بالاستدلال ، لأن ظاهر أدلة رفع الحرج هو الحرج الشخصي ، لا النوعي.
    وأما ما دل من النصوص على أن التشريع لا يتضمن حكما يستلزم الحرج نوعا ، مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول وغيره.
    فالمراد به ـ لو تم عمومه ـ عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج نوعا ـ كالمثال المذكور ـ ولا يمنع من فرض كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج نوعا ، متفرعة على كبرى ، أو كبريات ، شرعية لا يلزم الحرج نوعا من كل منها ، كلزوم القيام بالواجبات البدنية الأولية على المريض ، المنتزع من إطلاق أدلة الأحكام الأولية الشاملة للمريض وغيره ، المتضمنة للكبريات الشرعية التي لا يلزم الحرج نوعا من كل منها ، كوجوب الصلاة ، والصوم ، والحج ، وتطهير المسجد ، وتغسيل الميت وغيرها ، بل غاية ما يلتزم به هو ارتفاع الأحكام المذكورة في مورد الحرج الشخصي ، تحكيما لقاعدة نفي الحرج على الكبريات المشار إليها ، لا على الكبرى الانتزاعية المذكورة.
    ومن الظاهر أن وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد كبرى شرعية ، بل هو منتزع من الكبريات الشرعية التي لا يلزم منها الحرج نوعا ،

    كحرمة أكل النجس وشربه ، واعتبار الطهارة في الوضوء والصلاة ، وحرمة الغصب ونحوها من الأحكام التي تعم موارد الشبهة غير المحصورة وغيرها ، فإن عموم تلك الأحكام لموارد الشبهة غير المحصورة مقتض لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها ، الذي ينتزع منه كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، من دون أن يكون ذلك كبرى شرعية ، ليلزم محذور تشريع حكم يلزم منه الحرج نوعا.
    هذا ، ولعل من ذكر المشقة في المقام لا يريد الاستدلال بأحد الوجهين المذكورين ، بل التنبيه على أن الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لما كان يستلزم الحرج نوعا فلو كان لازما لحصل الحرج المذكور ، ولاضطراب أمر الناس ، وحيث لم يحصل ذلك كشف عن وضوح عدم لزومه ، فهو مشير إلى السيرة والارتكاز المشار إليهما آنفا. فلاحظ.
    الرابع : ما قد يستفاد من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال التكليف في كل منها بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل ، ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل. قال : «ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السم في أحد الإنائين أو واحد من ألفي إناء».
    وفيه : ـ مع أن الظاهر عدم اختصاص جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة عندهم بما إذا ضعف احتمال الحرام ، بل يعم ما إذا قوي لكون التكليف المشتبه من الكثير في الكثير ، أو لقرائن خارجية تقتضي انطباق المعلوم بالإجمال على خصوص بعض الأطراف ـ أنه لا ريب في أن ضعف الاحتمال في خصوص بعض أطراف العلم الإجمالي المنجز لا يصحح ارتكابه والخروج عن احتمال التكليف ، ولذا يجب الاحتياط مع حصر الشبهة مطلقا.
    وذلك لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل تجري مع ضعف الاحتمال إذا كان مهما ، كضرر العقاب وعدم الاحتياط في المثال المتقدم ـ لو تم ـ إنما هو

    لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم بالإجمال ، حيث يكون الاحتياط مع كثرة الأطراف مستلزما لنحو من المشقة والمشاكل التي هي محذور يزاحم بها الضرر المعلوم بالإجمال ، ولا مجال لذلك في ضرر العقاب ، لأهميته.
    على أن فرض تجويز العقل الإقدام على الضرر لا يقتضي الأمان منه بنحو لا يقع في العقاب لو صادف التكليف الواقعي في المقام ، نظير الحال في الأضرار التكوينية في مثل المثال المتقدم ، ومثله التزاحم بين المحذورين بسوء اختيار المكلف ، حيث يلزم العقل باختيار المحذور الأقل والوقوع في ضرر عقابه من دون أن يحكم بالأمان منه.
    وليس في الوجه المذكور ما يقتضي حكم العقل بقبح العقاب المستلزم للأمان منه.
    وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن ضعف احتمال التكليف في كل طرف بنفسه مستلزم لقوة احتماله في بقية الأطراف بنحو البدلية ، بحيث يظن بوجوده فيها ، ومرجع بناء العقلاء المدعى على عدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف إلى أخذهم بالظن المذكور ، فيرتفع به الإجمال تعبدا ، كما في سائر موارد قيام الطريق على تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ، فلا موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل ، للأمان من العقاب بسبب الطريق المذكور لأنه يوجب حكم العقل بقبحه.
    ففيه : ـ مع أن لازمه تبعيض الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، بالاقتصار في مخالفته على المقدار الذي يكون احتمال التكليف فيه ضعيفا جدا لا يعتني به العقلاء ، لأن العمل بظن التكليف في الباقي يجعله حجة تعيينا ، فينجز جميع أطرافه ، ولا يظن من أحد الالتزام به ، إذ غاية ما قيل في المقام هو لزوم ترك ما عدا مقدار الحرام وحرمة المخالفة القطعية ـ أن الحجية التخييرية بعيدة عن بناء العقلاء ، بل المرتكز عندهم تساقط الحجج المتعارضة مع ثبوت

    مقتضي الحجية فيها ، كخبر الواحد ، فضلا عن مثل هذا الظن الذي لم يتضح ثبوت مقتضي الحجية فيه.
    فالظاهر أن عدم التزام العقلاء بالاحتياط مع الكثرة ناشئ من إهمال احتمال التكليف في الطرف من دون بناء على حجية شيء ينحل به العلم الإجمالي ، وليكون مؤمنا من الضرر المفروض في المقام ، لما أشرنا إليه من المزاحمة التي لا مجال لها في ضرر العقاب.
    الخامس : ما ربما يحمل عليه كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه بدلا عن الوجه السابق ، من أن كثرة الأطراف مانعة من منجزية العلم الإجمالي بنحو يكون بيانا على التكليف ليرتفع به موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
    وفيه : أنه لا يفرق في منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها ، كما يتضح مما تقدم في وجهها ، وعدم المحركية في بعض الموارد ناشئ من المزاحمة ، كما تقدم.
    السادس : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ويبتني على كون الضابط في الشبهة غير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بنحو لا يمكن عادة جمعها في الارتكاب ، كالعلم بتنجس بعض خبز البلد أو غصبيته ، أما لو أمكن جمعها في الارتكاب ـ كما لو علم بتنجس حبة حنطة بين الف حبة ـ فهي من الشبهة المحصورة.
    وعليه لا يكون العلم منجزا ، لا بالإضافة إلى المخالفة القطعية ، لفرض تعذرها ، ولا بالإضافة إلى الموافقة القطعية ، لتفرع وجوبها على حرمة المخالفة ، لأنها الأصل في منجزية العلم الإجمالي ، لتفرع وجوب الموافقة ـ كما سبق منه قدّس سرّه ـ على تعارض الاصول وتساقطها في الأطراف ، وهو يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ، اللازمة من جريان الاصول في تمام الأطراف بعد فرض عدم المرجح لبعضها في جريان الأصل ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع

    التعارض بين الاصول ، فلا تجب الموافقة القطعية المتفرعة عليه.
    وفيه : أن جريان الاصول في جميع الأطراف وتعارضها الملزم بالموافقة القطعية غير مشروط بالقدرة على الجمع بينها ، بل يكفي فيه القدرة على كل منها ولو بدلا ، لكفاية ذلك في فعلية التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير انطباقه على كل منها ، فيصلح العلم الإجمالي لتنجيزه بنحو يمنع من جريان الاصول في كل طرف بنفسه.
    ولذا لا ريب في منجزية العلم الإجمالي مع ذلك في الشبهة المحصورة ، كما لو علم المكلف بحرمة السفر عليه عصر الجمعة إما إلى الموصل أو إلى البصرة ، أو نذر ألا يصلي الظهر في دار زيد واشتبهت بين دارين أو نحوهما.
    نعم ، لو كان تعذر الجمع بين الأطراف راجعا إلى تعذر بعضها معينا كان مانعا من منجزية العلم الإجمالي ، لعدم العلم معه بفعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، لاحتمال انطباقه على المتعذر ، كما لا يجري الأصل حينئذ في المعتذر ، لعدم الأثر ، فلا معارض للأصل الجاري في غير المتعذر.
    وليس هذا نظرا لمحل الكلام ، لأن منع كثرة الأطراف من تعذر الجمع في الشبهة غير المحصورة إنما يكون بالوجه الأول.
    وكأن ما ذكره قدّس سرّه مبني على اختلاط ذلك بما نحن فيه ، حيث مثل به. مضافا إلى أن المراد من تعذر الجمع بين الأطراف في الارتكاب إن كان هو تعذر الجمع ولو تدريجا بمدة طويلة خرجت عن ذلك كثير من الشبهات غير المحصورة عندهم.
    وإن كان هو تعذره في زمان قصير فهو ـ مع عدم الضابط له ـ يستلزم عدم المنجزية في كثير من الشبهات المحصورة ـ خصوصا التدريجية منها ـ التي لا مجال للبناء على عدم التنجيز فيها.
    وقد أشار إلى بعض ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه. فراجع.

    السابع : ما ذكره الفقيه الهمداني من أن المعيار في عدم الانحصار ليس كثرة أطراف الشبهة ، بل عدم الإحاطة بتمام أطرافها ، بحيث كل ما يفرض طرفا لها يحتمل وجود غيره ، سواء قلّت الأطراف أم كثرت ، كما لو علم بوقوع قطرة بول وإصابتها لبعض الأواني الموضوعة في الدار ، لكن كل ما يحيط به المكلف من أواني الدار يحتمل وجود غيره وإصابته بالنجاسة دونه.
    وحينئذ يكون الوجه في عدم وجوب الاحتياط في الأطراف المعلومة عدم معارضة الاصول الجارية فيها باصول أخر ، لعدم جريان الاصول في الأطراف المحتملة الوجود التي لا يحيط بها المكلف ، لعدم الأثر للأصل ما لم يحرز كون موضوعه مما يعلمه المكلف ويبتلي به.
    وفيه : أن الشك في وجود فرد آخر لا يحيط به المكلف لا ينافي الشك في التكليف الذي هو موضوع الأصل ، لعدم أخذ العلم بوجود المتعلق بشخصه في موضوع التكليف زائدا على الشك في التكليف ، فدليل أصل الطهارة مثلا يشمل بدوا جميع ما في الدار على ما هو عليه من العدد.
    نعم ، عدم الإحاطة بالطرف إن رجع إلى عدم الابتلاء به على تقدير وجوده أو الشك فيه ، أو نحوهما مما يمنع من منجزية العلم وترتب الأثر على الأصل ، اتجه عدم منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصل في الطرف المذكور ، لذلك ، لا لعدم الانحصار.
    وإن لم يرجع إلى ذلك ، بل علم بالابتلاء بتمام الأطراف على ما هي عليه من التردد بين الأقل والأكثر ، كان العلم الإجمالي منجزا ، للعلم بتحقق التكليف الصالح لترتب العمل عليه ، كما لو فرض العلم في المثال السابق بأن الإناء المشكوك يعثر عليه لو كان موجودا عند ارتفاع ضوء النهار ويكون فعلا موردا للابتلاء المصحح للتكليف ، وحينئذ يمتنع جريان الاصول في تمام الأطراف ، لاستلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم ، كما لا تجري في بعضها

    لعدم المرجح ، وهو معنى تعارض الاصول في المقام.
    وكأن نظره قدّس سرّه إلى الصورة الاولى ، مع تخيل أن المانع من جريان الأصل فيها عدم الانحصار ، لا ما ذكرنا.
    هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد عرفت عدم نهوضها بتحديد غير المحصور بنحو يتجه جواز الارتكاب فيه. فالظاهر أنه لا أثر لعدم الانحصار بنفسه في رفع منجزية العلم الإجمالي.
    نعم ، كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها مستلزم غالبا لابتلاء العلم الإجمالي بما يسقطه عن المنجزية ، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء أو نحوهما ، فيتجه البناء على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المذكورة لأجل ذلك ، لا لخصوصية في عدم الانحصار.
    ولعل هذا هو مرجع الإجماع والنصوص المتقدمة إليها الإشارة ، لما عرفت من عدم أخذ عدم الانحصار في النصوص ، وأن أخذه في بعض كلماتهم لا يستلزم دخل عنوانه في الحكم ، ولا سيما بعد اختصاص الأمثلة التي يذكرونها والتي هي مورد السيرة الارتكازية الشاهدة للإجماع بما ذكرنا.
    ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، وأن محل الكلام فيها ما إذا لم يبتل العلم الإجمالي بمانع آخر من المنجزية غير عدم الانحصار.
    إذ فيه : أن تخصيص محل كلامه هو بذلك تابع له ، ولا ضير فيه ، إلا أنه لا مجال لجعل ذلك محل كلامهم ، فضلا عن حمل الإجماع عليه.
    بقي في المقام امور ..
    الأول : الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة ، لو فرض الابتلاء التدريجي بالأطراف ، لعدم منجزية العلم الإجمالي عند ارتكاب

    كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ولو لارتكابها سابقا ، فالمخالفة في أي طرف فرض مورد للعذر الظاهري.
    والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب تمام الأطراف ليس محذورا بعد فرض عدم المنجز حينه.
    وهو لا يستلزم طرح دليل التكليف الواقعي ، لأن مخالفة التكليف مع وجود المؤمن ظاهرا لا تكون طرحا له ، كما تقدم في وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.
    ولا يفرق في ذلك بين العزم عليه من أول الأمر وعدمه.
    وما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صدق المعصية عند مصادفة الحرام الواقعي مع العزم المذكور.
    غير ظاهر ، لتوقف المعصية على تنجز التكليف والمفروض عدمه ، وأن العزم إنما هو على الأطراف لو فرض تحقق الابتلاء بها تدريجا بنحو لا يوجب التنجز.
    بل لا ضير في الارتكاب برجاء تحصيل الحرام ، كما هو الحال في سائر موارد احتمال الحرام عند المؤمن منه ، إذ لا محذور في الرغبة في مخالفة الواقع بالنحو المرخص به شرعا أو عقلا.
    واختصاص الترخيص الشرعي أو العقلي بصورة عدم العزم ، لا دليل عليه ، بل الدليل على عدمه.
    فما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صدق التجري حينئذ في ارتكاب أول الأطراف وإن لم يصادف الحرام الواقعي ، غير ظاهر.
    نعم ، لو لم يستند الإقدام للعذر للجهل بكونه عذرا ، أو لعدم الاهتمام بالتكليف وتحصيل العذر فيه لم يبعد صدق التجري ، كما تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث التجري من مباحث القطع.

    ولا فرق في ما ذكرنا بين جميع الوجوه المتقدمة حتى الإجماع ، لظهور كلامهم تبعا للارتكاز المشار إليه في عدم منجزية العلم الإجمالي مع عدم الانحصار.
    نعم ، تقدم أن مقتضى الوجه الخامس بناء على ما ذكره بعض الأعيان المحققين من ابتنائه على جعل البدل عدم جواز ارتكاب ما يعتد معه باحتمال الحرام ، فضلا عن المخالفة القطعية.
    ثم إن الكلام هنا في ارتكاب تمام الأطراف من حيثية التكليف المعلوم بالإجمال.
    وأما ما قد يترتب على ذلك من حدوث تكليف تفصيلي أو إجمالي ، كالضمان المترتب على استعمال المغصوب.
    فهو خارج عن محل الكلام. والمرجع فيه القواعد المقررة لمثله.
    الثاني : لا يفرق في حكم الشبهة غير المحصورة بين ضعف احتمال الحرام في الطرف وقوته ، إما لاشتباه الكثير في الكثير ـ لفرض كثرة التكاليف المعلومة بالإجمال ـ أو لقرائن خاصة توجب قوة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف ، وهو ظاهر على الوجه الذي ذكرناه وما عدا الوجه الرابع والخامس من الوجوه المتقدمة حتى الإجماع ، فإنه وإن كان دليلا لبيا ، إلا أنه لا مجال لإخراج هذه الصورة عنه مع كثرة الابتلاء بها الكاشف عن عموم السيرة الارتكازية لها.
    وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إلحاق صورة اشتباه الكثير في الكثير بالمحصور ، لمشابهته له في نسبة مجموع التكاليف المعلومة بالإجمال لمجموع الأطراف ، فإذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوءة في ضمن ألف وخمسمائة كانت نسبة المعلوم بالإجمال الى الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة ، لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة ، ومحتملاته ثلاثة ، وما

    عداها لا ينفك عن الاشتمال على الحرام.
    فهو إنما يتم مع الارتباطية بين مجموعات الأطراف في احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، كما لو كان كل خمسمائة منها بلون وعلم أن الخمسمائة الحرام بلون واحد ، حيث يكون أطراف الترديد ثلاثة لا غير ، أما مع عدم الارتباطية بينها فاطراف الترديد تمام الألف والخمسمائة.
    نعم ، بناء على الوجه الرابع يتجه البناء على وجوب الاحتياط ، كما تقدم التعرض له هناك.
    كما لا يبعد ذلك أيضا بناء على الوجه الخامس ، وإن كان لا يخلو عن كلام.
    الثالث : ضابط الشبهة غير المحصورة يبتني على الوجوه المتقدمة ، ويختلف باختلافها ، بنحو يظهر بالتأمل فيها.
    نعم ، لا يصلح بعضها لتحديده ، لابتنائه على الإجمال ، فيلزم الاقتصار فيه على المتيقن ، كما تقدم في الإجماع ، والأخبار ، ودليل العسر ولو اريد به النوعي.
    الرابع : لو شك في منجزية الشبهة للشك في تحقق الضابط المتقدم لغير المحصورة فيها بنحو الشبهة الموضوعية ابتنى الكلام فيها على الكلام في حكم الشك في تحقق موانع التنجيز ، وقد تقدم أن الشك في الابتلاء كالعلم بعدمه في عدم التنجيز ، كما أن الشك في تعذر الامتثال أو لزوم العسر منه ونحوهما كالعلم بعدمها في التنجيز.
    ومنه يظهر أنه بناء على الوجه الثالث في الاستدلال على جواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة يتعين البناء على وجوب الاحتياط لو شك في تحقق ضابطها.
    وأما على الوجه الأول والثاني فحيث كان الاستدلال بهما موقوفا على كشفهما عن جعل البدل أو رفع التكليف الواقعي ، فعلى الأول يجب الاحتياط

    مع الشك ، وعلى الثاني لا يجب ، ولا يبعد ترجح الأول. فتأمل.
    كما أنه لا يبعد البناء على جواز الارتكاب على الوجه السابع لعدم إحراز سقوط الأصل بالمعارضة.
    وكذا على السادس ، لكونه حينئذ نظير الشك في الابتلاء الذي عرفت عدم وجوب الاحتياط معه.
    وأما الشك في القدرة على المخالفة ، الذي يجب الاحتياط معه فهو الشك في القدرة على الامتثال ، لا الشك في القدرة على المخالفة ، الذي هو مبنى الوجه السادس المذكور ، كما ذكرناه في التنبيه الرابع عند الكلام في عدم الابتلاء.
    وأما على الوجه الرابع والخامس فيشكل تحقق الشك المذكور ، لأن أطراف الشك ومرتبته من الامور الوجدانية غير القابلة للشك.
    وإن كان صريح بعض الأعيان المحققين إمكان الشك على الوجهين المذكورين ، وأنه على الرابع يتعين الحاقه بالمحصور ، لرجوعه إلى الشك في جعل البدل ، كما تقدم منه ، وعلى الخامس يلحق بغير المحصور للشك في بيانية العلم ، ومع عدم إحراز البيان فالمرجع البراءة. فتأمل جيدا.
    الخامس : عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة إنما يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض.
    ولا ينافي وجوب الاحتياط في الأطراف لأجل الشك لو فرض كونه مجرى للاحتياط في نفسه ، لانقلاب الأصل أو نحوه ، لأن الوجه المصحح لترك الاحتياط لا يقتضي إلغاء الشك.
    فما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من التشكيك في ذلك ، أو الميل إلى إلغاء الشك ، غير ظاهر.
    نعم ، بناء على الوجه الرابع قد يدعى أن عدم اعتداد العقلاء بالاحتمال الضعيف في كل طرف لا يختص بحيثية العلم الإجمالي ، خصوصا بناء على

    رجوعه إلى جعل البدل.
    إلا أن الالتزام بلوازم ذلك صعب جدا.
    إلا أن يلحق الشك بالوسواس الذي لا ريب في عدم اعتداد العقلاء به ، وخروجه عن عموم الشك الذي هو موضوع الاصول.
    هذا تمام الكلام في الشبهة غير المحصورة.
    والحمد لله على ما سهّل ويسّر ، ونسأله العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    التنبيه العاشر : في الشبهة الوجوبية
    لا فرق في ما تقدم في العلم الإجمالي بالتكليف بين الشبهة الوجوبية والتحريمية ، كما يظهر بالتأمل فيه.
    إلا أنه ينبغي الكلام تبعا لهم في امور ذكروها في خصوص الشبهة الوجوبية ..
    الأول : قد يدعى التمسك لوجوب الموافقة القطعية في الشبهة الوجوبية بالاستصحاب ، فإنه بعد الإتيان ببعض الأطراف يكون مقتضى الاستصحاب الموضوعي ـ وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب ـ أو الحكمي ـ وهو استصحاب بقاء وجوب الواجب ـ لزوم الخروج عن عهدة التكليف بالإتيان ببقية الأطراف.
    وقد يورد عليه بوجوه ..
    أولها : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الغرض من الاستصحاب المذكور إن كان هو إثبات وجوب الباقي شرعا فهو من الأصل المثبت ، وإن كان هو إثبات وجوبه عقلا تحصيلا للفراغ اليقيني عن التكليف الإجمالي المستصحب ، فهو مبني على حكم العقل بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني ، وهو

    لو تمّ يغني عن الاستصحاب ، لفرض اليقين بالاشتغال وجدانا قبل الإتيان بشيء من المحتملين.
    ولا مجال لتوهم ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال في المقام.
    لأن المعتبر في ورود الاستصحاب على القاعدة أن يتضمن التعبد بالتكليف في موردها ، كاستصحاب نجاسة الثوب الوارد على قاعدة الاشتغال بالصلاة لمن صلى به ، والاستصحاب لا ينهض بالتعبد بالتكليف بالباقي ، لابتنائه على الأصل المثبت ، كما ذكرنا ، وإنما يتضمن التعبد بالتكليف الإجمالي ، وهو لا يصلح للعمل إلا بلحاظ الطرف الباقي ، لاحتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال عليه ، وهو متفرع على قاعدة الاشتغال ، والمفروض تحقق موضوعها مع قطع النظر عن الاستصحاب ، فلا يبقى له أثر معها.
    وفيه : أن أثر الاستصحاب المذكور هو جعل مخالفة الطرف الباقي مخالفة قطعية بعد أن كانت بدونه مخالفة احتمالية ، فإن مقتضى الاستصحاب التعبد بالتكليف ووجوب العمل على طبقه بموافقة الطرف الباقي ، أو بوجه آخر يقطع أو يحتمل معه بالموافقة ، فعدم العلم بمقتضى ذلك مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب ، وإن كانت مخالفة احتمالية للواقع ، ولا إشكال في عدم جواز المخالفة القطعية لدليل التعبد ، كما لا تجوز لدليل الواقع ، وإن فرض جواز المخالفة الاحتمالية لهما.
    نعم ، الموافقة الاحتمالية للتكليف المستصحب في باقي الأطراف قد تستلزم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، كما لو فرض بقاء طرف واحد.
    وهو أجنبي عما ذكره من ابتناء العمل بالاستصحاب في المقام على وجوب الموافقة القطعية.
    فهو نظير ما لو علم المكلف إجمالا بإضافة أحد الماءين وإطلاق الآخر ،
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:47 am

    ثم توضأ بأحدهما ، فإن مقتضى استصحاب الحدث هو وجوب الوضوء بغيره ، وترك الوضوء حينئذ مخالفة قطعية لمؤدى الاستصحاب ، والوضوء بالآخر وإن كان موافقة احتمالية له ، إلا أنه موجب للقطع بموافقة التكليف الواقعي.
    فالتحقيق : أن ما ذكره قدّس سرّه من عدم الأثر للاستصحاب لا يتم بناء على عدم وجوب الموافقة القطعية عقلا ـ الذي هو محل الكلام في المقام ـ وإنما يتم بناء على وجوبها عقلا ـ كما هو التحقيق ـ لأن حكم العقل بوجوبها ملزم بالاتيان بالطرف الباقي مع قطع النظر عن الاستصحاب ، وحيث لم ينهض الاستصحاب بالورود على القاعدة ـ لما تقدم ـ كان التعبد به لاغيا.
    ومنه يظهر الفرق بين الاستصحاب في ما نحن فيه واستصحاب عدم الإتيان بالظهر لمن شك في الإتيان بها ، لأن الاستصحاب هناك بيان على بقاء التكليف بالظهر ، بنحو يكون الإتيان بها امتثالا قطعيا ، فيكون واردا على قاعدة الاشتغال ، أما في المقام فالمفروض عدم إحراز انطباق المستصحب ، على الطرف الباقي ، ليحرز كونه امتثالا له بمقتضى الاستصحاب ، بل ليس الإتيان به إلا لاحتمال انطباقه عليه ، الذي هو مفاد القاعدة.
    نعم ، لو كان لعدم الإتيان بالواجب أثر آخر غير الامتثال لا تقتضيه قاعدة الاشتغال ـ كوجوب القضاء أو الكفارة ـ كان جريان الاستصحاب في محله ، لترتب العمل عليه. فتأمل.
    ثانيها : أن الاستصحاب المذكور استصحاب للفرد الإجمالي المردد بين معلوم الارتفاع ومشكوك الحدوث ، وهو لا يجري على التحقيق ، لوجوه وقع الكلام فيها من غير واحد ، عمدتها منافاة إطلاق لسان التعبد بالاستصحاب في المردد للعلم التفصيلي في الفرد المعلوم الارتفاع ، بالوجه الذي تقدم في الصورة الثانية من صور عروض المانع من منجزية العلم الإجمالي ، التي سبق الكلام فيها في التنبيه الرابع ، ويأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

    نعم ، ذلك مختص بالشبهة الحكمية ، ولا يجري في الشبهة الموضوعية ، كما لو صلى المكلف بأحد ثوبين يعلم نجاسة أحدهما إجمالا ، فإن استصحاب عدم الإتيان بالصلاة بالثوب الطاهر ، أو استصحاب وجوب الصلاة فيه ليس من استصحاب الفرد الإجمالي المردد ، وإنما هو استصحاب للأمر المعين في نفسه ، المترتب عليه العمل ، الواجد لركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وإنما التردد في امتثاله وهو لا يجعله من استصحاب الفرد المردد.
    لكنه مثله في الجهة المتقدمة المانعة من جريان الاستصحاب ، فإن التعبد في المثال بعدم الصلاة في الثوب الطاهر أو ببقاء وجوبها يقتضي بإطلاقه تنجيز الصلاة المذكورة ولو في ضمن الثوب الذي صلى فيه لو فرض كونه الطاهر واقعا ، مع العلم التفصيلي بعدم وجوب الصلاة في الثوب المذكور ، إما لنجاسته أو لصحة الصلاة الواقعة به أولا ، فلا مجال حينئذ للتعبد بوجوب الصلاة المذكورة مطلقا وعلى كل حال ، الذي هو مفاد الاستصحاب ، لمنافاة الإطلاق المذكور للعلم التفصيلي المذكور.
    وغاية ما يمكن هو التعبد بوجوبها معلقا على بطلان الصلاة المذكورة لنجاسة الثوب المذكور ، أو الأمر فعلا في غير الثوب المذكور احتياطا ، لاحتمال بطلان الصلاة الواقعة به ، أو التعبد بوجوبها في ضمن غير الثوب المذكور.
    والجميع أجنبي عن مؤدى الاستصحاب الذي هو عبارة عن التعبد بالكبرى الشرعية الواقعية ابتداء ، أو بتوسط التعبد بالموضوع المقتضي للعمل بها مطلقا وعلى كل حال.
    بل الاول مفاد الجعل الواقعي غير الصالح للتنجيز ، لعدم إحراز موضوعه ، وهو بطلان الصلاة الاولى.
    والثاني مفاد دليل الاحتياط ، لا الاستصحاب.
    والثالث مفاد قضية اخرى غير المتيقنة سابقا ، لوضوح أن المتيقن سابقا

    هو وجوب الصلاة بمطلق الثوب الطاهر الشامل للثوب المذكور ، فالتعبد بوجوبها في غيره لا يكون إبقاء ظاهريا للمتيقن.
    ودعوى : أن امتناع الإطلاق في القضية عقلا يقتضي تقييدها ، لا إلغاءها رأسا.
    مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم في تقييد عموم الدليل وإخراج بعض أفراده ، وحيث كان العموم في المقام هو عموم دليل الاستصحاب ففرده الذي يمتنع شمولاه له هو استصحاب الموضوع أو الحكم في محل الكلام ، لا الثوب المذكور ، بل الثوب المذكور فرد لمتعلق القضية المستصحبة ، التي يكون تقييدها مستلزما لمباينة المستصحب للمتيقن وفقده لركن الاستصحاب ، لا لتقييد دليل الاستصحاب. فلاحظ.
    بل لو فرض انحصار طريق الامتثال بالطرف الباقي ـ بأن لم يكن عند المكلف في المثال إلا الثوب الذي لم يصل فيه من الثوبين المعلومين بالإجمال ـ كان امتناع التعبد بمقتضى الاستصحاب من جهة عدم إحراز متعلق الامتثال الموجب لامتناع إطلاق التعبد به بنحو يقتضي العمل عليه على كل حال.
    وما قيل : من عدم الاعتناء باحتمال التعذر ولزوم ترتيب أثر القدرة معه. مختص بما إذا شك في مقدار القدرة ، لا في حال المقدور ، كما أشرنا إليه في أول التنبيه الرابع. فراجع.
    نعم ، لا يبعد جريان الاستصحاب لو فرض خروج الطرف الذي احتاط به المكلف أولا عن الابتلاء ـ بتلف أو نحوه ـ بنحو لا يكون إطلاق القضية المستصحبة عمليا بالإضافة إليه ، وكان لمتعلقها فرد متيقن غير الطرف الآخر ، إذ لا محذور حينئذ في التعبد بالقضية المتيقنة على إطلاقها بعد فرض إحراز متعلقها وعدم ترتب العمل المنافي للعلم التفصيلي عليها ، كما لو كان للمكلف ثوب طاهر تفصيلا من الصوف ، وأخر مردد بين ثوبين من القطن ، فصلى

    المكلف في أحد ثوبي القطن ، ثم تلف وبقي الآخر منهما مع الثوب الصوف ، فإن مقتضى الاستصحاب هو الصلاة في الثوب الطاهر الصالح للانطباق عليهما ، غاية الأمر أنه إن صلى بالقطن أجزأه وإن لم تحرز طهارته ، للعلم بامتثال الأمر الواقعي حينئذ الرافع لموضوع الاستصحاب.
    هذا ، وربما يستشكل في خصوص الاستصحاب الموضوعي : ـ وهو استصحاب عدم الإتيان بالواجب ـ بأن الغرض من ذلك إن كان هو إثبات بقاء التكليف ووجوب الفراغ عنه ، فليس ذلك أثرا شرعيا له ، بل هو أثر عقلي راجع إلى مقام الامتثال. وإن كان أمرا آخر ، كوجوب القضاء أو الكفارة أو نحوهما مما يترتب شرعا ، فهو خارج عن محل الكلام.
    ويندفع : بأنه لما كان ارتفاع التكليف عقلا بامتثاله ، وبقاؤه مع عدمه من شئون داعويته ومما يترتب عليه من العمل بلا واسطة صح الاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد المولوي بلحاظها وجودا وعدما ، ولذا لا ريب في إمكان التعبد بالامتثال بالاستصحاب وغيره ، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الثوب المحرزة لصحة الصلاة فيه ، وحصول الفراغ من التكليف بها.
    بل لا إشكال في جواز الرجوع للاصول المحرزة لحصول الموانع أو فقد الشروط للمكلف به ، الراجعة للتعبد بعدم الامتثال في مواردها ، الذي هو نظير المقام.
    الأمر الثاني : لا فرق في ما ذكرنا من وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية والاكتفاء به بين العباديات والتوصليات.
    لكن قد يشكل الأمر في العباديات بتعذر التقرب المعتبر فيها في كل طرف ، لعدم إحراز انطباق المأمور به عليه.
    وعلى ذلك ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ على اضطراب في كلامه ـ أن مراتب الامتثال أربعة : التفصيلي ، ثم الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي ، ولا يجوز التنزل

    للمرتبة اللاحقة مع التمكن من السابقة.
    ويترتب على ذلك أمران :
    الأول : أنه لو تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي بالفحص أو غيره لم يجز له الاكتفاء بالإجمالي. بل قد يجب عليه تقليل الإجمال لو فرض تعذر رفعه كلية ، فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر تفصيلا وعجز عن تعيين القبلة ، الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات.
    بل قد يلتزم بأنه لو كان المشتبه واجبين مترتبين شرعا ، كالظهر والعصر المترددين بين القصر والتمام لم يجز الدخول في محتملات اللاحق إلا بعد الفراغ من محتملات السابق ، محافظة على المقدار الممكن من مراتب الجزم بالامتثال ، ولا يجوز في مثل ذلك الإتيان بالصلاتين معا قصرا ثم تماما ، لأن الدخول في العصر قصرا قبل الإتيان بالظهر تماما موجب لاحتمال عدم مشروعيتها لكونها قصرا ، ولعدم تحقق الظهر قبلها ، وإن كانت الجهتان متلازمتين خارجا ولم توجب الثانية زيادة التكرار ، أما الدخول في العصر بعد الفراغ من محتملات الظهر فهو موجب لعدم مشروعيتها من الجهة الاولى لا غير.
    الثاني : أنه لو تعذر الامتثال التفصيلي فلا مجال للاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، بل يتعين التنزل للامتثال الإجمالي ، الراجع إلى قصد امتثال الأمر الإجمالي بكل من الأطراف على أن يكون الداعي في كل طرف هو امتثال الأمر الإجمالي به أو بصاحبه.
    ولازم ذلك هو العزم على استيفاء تمام الأطراف ، إذ لو عزم على الاقتصار على بعضها لم يتحقق منه الجزم بامتثال الأمر الإجمالي ، فلا يصح العمل حتى لو صادف الواقع ، للإخلال بالتقرب المعتبر.
    لكن لا وقع للإشكال من أصله بعد ما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من

    مباحث القطع وغيره من الاكتفاء في التقرب المعتبر في العبادة بالاندفاع عن الأمر المحتمل حتى مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، فلا يجب رفع الإجمال ، فضلا عن تقليله ، كما يصح العمل مع الإجمال لو فرض مصادفته للواقع حتى مع عدم العزم على استيفاء الأطراف.
    ومبنى المسألة أنه لو كان العمل في التقرب وفروعه مع الشك على السعة ـ كما هو الظاهر ، عملا بالإطلاق اللفظي ، أو المقامي ، أو أصل البراءة ـ كان الالتزام بكل قيد محتاجا إلى الدليل. وإن كان العمل على الاحتياط ـ لقاعدة الاشتغال ـ كان نفي كل قيد محتمل هو المحتاج إلى الدليل.
    الأمر الثالث : لا فرق في وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية المحصورة بين أن يكون الاشتباه في أصل الواجب ـ كالظهر والجمعة ـ وأن يكون في بعض ما يعتبر فيه ـ كاشتباه القبلة بين جهتين ، والتردد بين الجهر والاخفات ـ لعموم ما تقدم من الوجه لذلك.
    ودعوى : أنه لا بد من رفع اليد في الثاني عن اعتبار الأمر المشتبه محافظة على الجزم بالامتثال حين العمل في العبادة.
    مدفوعة : بما أشرنا إليه آنفا من عدم اعتبار الجزم المذكور.
    على أنه لو تم اعتباره جرى في الاشتباه في أصل المركب ، حيث يمكن فيه المحافظة على الجزم المذكور بالبناء على التخيير بين الأمرين المشتبهين ، ففرض وجوب الاحتياط فيه مبني على التنزل عن الجزم المذكور محافظة على الواجب الاولي المعلوم بالإجمال ، وذلك يجري في المقام أيضا ، لعدم الفرق بينهما ارتكازا.
    نعم ، قد يدل الدليل الخاص على سقوط الأمر المعتبر في حال الاشتباه ، فيرتفع موضوع وجوب الاحتياط ، كما هو الحال بناء على أن المتحير يصلي إلى أي جهة شاء صلاة واحدة ، المستلزم لسقوط شرطية الاستقبال في حقه.

    كما قد يدل الدليل على الترخيص في المخالفة الاحتمالية مع بقاء أصل الاشتراط فيه ، كما لا يبعد البناء على ذلك في من يعسر عليه الصلاة إلى جهتين عند اشتباه القبلة بينهما ، حيث لا يبعد البناء على التخيير بينهما من دون أن يسقط أصل الاستقبال في حقه ، فلا يجوز له الصلاة إلى جهة غيرهما. وتمام الكلام في الفقه.
    الأمر الرابع : لو فرض كون الشبهة الوجوبية غير محصورة فالظاهر جريان ما تقدم فيها من أن رافعية عدم الانحصار فيها لتنجيز العلم الإجمالي ليس لخصوصيته في ذلك ، بل بلحاظ ما قد يصاحبه من حرج أو تعذر أو نحوهما ، وحينئذ فإن كان المانع المفروض مختصا ببعض الأطراف معينا كان مانعا من تنجز التكليف الإجمالي مطلقا حتى بلحاظ الموافقة الاحتمالية ، فيجوز المخالفة القطعية.
    وإن لم يختص ببعض الأطراف معينا بل مخيرا جرى فيه ما تقدم في التنبيه السادس ، وكان نظير الاضطرار إلى بعض غير معين من الأطراف ، الذي تقدم أن الظاهر فيه سقوط العلم الإجمالي فيه عن المنجزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية لا غير ، فيجب الاقتصار فيه على ما لا يلزم منه المحذور المانع من حرج ونحوه. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.
    هذا تمام الكلام في مباحث العلم الإجمالي ، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين.


    الفصل الرابع
    في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين
    أشرنا في أول الكلام في الاصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم هذه المسألة كبرويا ـ كما هو الحال في الفصول السابقة ـ بل هو نزاع صغروي راجع إلى أن محل الكلام من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الأول ، والتي كان التحقيق فيها البراءة ، أو من صغريات مسألة الشك في تعيين التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الثالث ، والتي كان التحقيق فيها وجوب الاحتياط ، فالكلام فيها مبني على الفراغ عن حكم المسألتين المذكورتين.
    ولو فرض وقوع الكلام في بعض الجهات الأخر فهو غير مقصود بالأصل.
    ومن هنا ينبغي تقديم امور تمهيدا للكلام في المقام ..
    الأول : أن دوران التكليف بين الأقل والأكثر يكون ..
    تارة : مع فرض أن الزائد المحتمل مورد لتكليف مستقل غير التكليف المتيقن ، ناشئ عن غرض آخر في قباله ، بحيث يمكن التفكيك بينهما في الاطاعة والمعصية ، سواء كان أمرا مقابلا للمتيقن وموردا للعمل في عرضه ، كما لو دار الأمر بين الدرهم والدرهمين ، أم من شئونه القائمة به ، كما لو احتمل وجوب إيقاع الفريضة في المسجد ، لتعلق النذر به.
    واخرى : يكون مع فرض وحدة التكليف للارتباطية بين أجزاء متعلقه ،

    بحيث لا تكون له إلا إطاعة أو معصية واحدة.
    والأول خارج عن محل الكلام داخل في الشك في أصل التكليف ، ولا وجه لتوهم دخوله في الشك في تعيين التكليف بعد فرض امتياز المتيقن عن المشكوك عملا ، وكون إطاعة المتيقن غير متوقفة على المشكوك.
    وليس الكلام إلا في الثاني ، لأن الارتباطية المفروضة فيه قد توهم كون الشك فيه راجعا إلى الشك في تعيين التكليف المعلوم ، المقتضي لوجوب إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.
    الثاني : أن احتمال دخل شيء في الواجب يكون ..
    تارة : مع التردد بين دخله فيه وعدمه من دون أن يحتمل قادحيته فيه.
    واخرى : مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه.
    وثالثة : مع التردد بين دخله فيه وقادحيته فيه وعدمها. ومحل الكلام في المقام هو الصورة الاولى.
    أما الثانية فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين ، للتباين بين مفاد بشرط شيء وبشرط لا ، فيجري حكمه بلا كلام.
    وأما الثالثة فالكلام فيها يبتني على الكلام في الصورة الاولى ، فإن قيل فيها بوجوب الاحتياط للشك في تعيين الواجب وجب الاحتياط في هذه الصورة بالجمع بين الواجد والفاقد ، وإن قيل بجريان البراءة فيها للشك في زيادة التكليف كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضا.
    الثالث : الظاهر أن المعيار في الارتباطية بين المشكوك والمتيقن ـ التي عرفت في الأمر الأول اعتبارها في محل الكلام ـ على وحدة التكليف لبا ، وعدم انحلاله إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد الماهية ، بأن ينشأ من غرض واحد وله إطاعة ومعصية واحدة ، كي يكون تردده بين الأقل والأكثر موجبا لتردد إطاعته بينهما.

    أما لو كان انحلاليا مستغرقا لتمام أفراد الماهية ، بأن يكون لكل منها غرض وإطاعة ومعصية مختصة به ، مع قطع النظر عن بقية الأفراد ، فلا مجال لفرض الارتباطية فيه مع تردده بين الأقل والأكثر ، إذ يكون للمتيقن من الأفراد تكاليف مستقلة مباينة للتكاليف بالأفراد المشكوكة ذاتا ، وغرضا ، وطاعة ، ومعصية.
    ومنه يظهر أن فرض الارتباطية في الشبهة الوجوبية يختص بما إذا كان التردد بين الأقل والأكثر في العموم البدلي ، دون الاستغراقي ، فإذا وجب إكرام علماء البلد يوم الجمعة فالشك في إطلاق الإكرام مما نحن فيه ، والشك في عموم العلماء خارج عنه.
    كما أن فرض الارتباطية في الشبهة التحريمية يختص بما إذا كان ورود النهي على الماهية بلحاظ مجموع أفرادها ، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك تمام الأفراد ، كما لو حرم قتل الحيوان وتردد بين مطلق القتل ، وخصوص ما يحرّم اللحم بنحو لا يشمل التذكية.
    أما لو كان النهي انحلاليا بلحاظ كل فرد فرد ـ كما هو الغالب في النواهي الشرعية ـ فلا مجال لفرض الارتباطية فيه.
    ولعل الغلبة المذكورة هي الوجه في تخصيص شيخنا الأعظم قدّس سرّه الكلام في المقام بالشبهة الوجوبية ، وإلا فهو غير مختص بها.
    غايته أن الاحتياط في الشبهة التحريمية بالبناء على حرمة الأقل الذي هو المطلق عكس الشبهة الوجوبية.
    هذا ، وأما احتمال أخذ خصوصية في الترك المطلوب بحيث لا يمتثل التكليف إلا بها ـ كالطهارة والتقرب ـ فهو راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر في الواجب ، لرجوعه إلى احتمال طلب الترك المقيد ، فيكون القيد كالترك مطلوب الحصول ، لا محرما ليكون من دوران الحرام بين الأقل والأكثر أو

    المطلق والمقيد.
    ومما سبق يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من التمثيل للشبهة التحريمية بما إذا تردد التصوير المحرم بين أن يعم بعض الصورة ، وأن يختص بتمامها لكن بحيث يحرم الشروع في الصورة في ظرف الإتمام ، بأن يكون للبعض حظ من الحرمة النفسية الواردة على التام ، لأن قوام الارتباطية انبساط الحرمة على تمام الأجزاء ، كما هو الحال في الواجب الارتباطي.
    لاندفاعه : بأن عموم تحريم التصوير حيث كان استغراقيا انحلاليا لا مجموعيا لم يكن مما نحن فيه ، بل التصوير التام متيقن الحرمة ، وتصوير البعض مشكوكها.
    وحديث انبساط الحرمة على الأجزاء لا دخل له في الارتباطية بين الأقل والأكثر الذي هو محل الكلام ، بل هو لازم للارتباطية بين أجزاء الأكثر على تقدير حرمته ، فالحرام هو الأجزاء بمجموعها ، لا كل جزء جزء ، ولا عنوان الا الإتمام الذي تكون الأجزاء مقدمة له.
    الرابع : الدوران بين الأقل والأكثر ..
    تارة : يكون في نفس المكلف به ، كما لو احتمل اعتبار الاستعاذة في الصلاة.
    واخرى : يكون في سببه المحصل له من دون أن يستلزم الإجمال فيه ، كما لو وجب تطهير المسجد واحتمل اعتبار تعدد الغسلة فيه.
    ومحل الكلام هنا الأول.
    وأما الثاني فقد تعرض له غير واحد هنا ، وتقدم منا تفصيل الكلام فيه في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول ، وربما يأتي هنا ما ينفع فيه.
    الخامس : بعد ما تقدم في الأمر الثاني اختصاص محل الكلام بما إذا احتمل اعتبار شيء في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود

    المتيقن في مقام الامتثال الذي يقطع بالفراغ عن التكليف الواقعي على تقدير سلوكه وإن لم يعلم بالتكليف به ، وذلك بالمحافظة على الأمر المحتمل اعتباره المفروض عدم قادحيته.
    ولا يخفى أن وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك في حال متعلق التكليف مع العلم بنحو تعلقه ـ كما هو المفروض في محل الكلام ـ كذلك يكون مع الشك في نحو التكليف نفسه بأن يتردد التكليف بين التعييني والتخييري ، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.
    وعمدة كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن بعده في الأول ، وربما تعرض بعضهم للثاني استطرادا.
    وحيث كان الكلام فيه مهمّا كان المناسب التعرض له هنا.
    كما أنه حيث كان مختصا ببعض الفروع والتنبيهات المهمة كان المناسب تخصيص بحث له وفصله عن الأول ، فيكون الكلام في هذا الفصل في مقامين ، ليختص كل منهما بما يناسبه من الفروع والتنبيهات. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

    المقام الأول
    في الشك في دخل شيء في المكلف به
    وقد ذكروا له صورا ثلاثة ، لأن الشيء المشكوك ..
    تارة : يكون جزءاً خارجيا متحدا مع الواجب ، كالاستعاذة في الصلاة.
    واخرى : يكون جزءاً ذهنيا منتزعا من خصوصية زائدة على الواجب كالطمأنينة في الصلاة ، والإيمان في الرقبة.
    وثالثة : يكون جزءاً ذهنيا منتزعا من خصوصية متحدة مع الواجب عقلا ، كما لو تردد الأمر بين الجنس والنوع أو الطبيعي والفرد.
    ويعبر عن الشك في الأول بالشك في الجزئية ، وفي الثاني بالشك في الشرطية أو القيدية ، وفي الثالث بالدوران بين التعيين والتخيير العقليين.
    لكن الشك في الجزئية يرجع إلى الشك في الشرطية في الجهة المهمة في محل الكلام ، لأن اعتبار الجزء في المركب الارتباطي راجع إلى تقييده به لبا ، كتقييده بالشرط الخارج عنه ، والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب خارجا ، لا بعض منه ، وإنما يكون الجزء بعضا من المركب الواجب في ظرف تماميته.
    غايته أن الجزء ليس قيدا في تمام المركب كالشرط ، بل في ما عداه من الأجزاء كما أن أخذه فيها ليس بصريح التقييد ، بل بنتيجة التقييد. كما أنه في ظرف أخذه داخل في المركب ومتحد معه ، بخلاف الشرط ، فإنه خارج عنه.
    لكن لا أثر لهذه الفروق في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام.

    ومن هنا لا وجه لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر ، بل المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.
    ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان المشروط أمرا متعلقا لفعل المكلف ، كالطهارة في الصلاة ، وما إذا كان عرضا قائما بالموضوع ، كالإيمان في الرقبة.
    بدعوى : ان الأول لما كان فعلا خارجيا كان موردا لتكليف زائد مدفوع بالأصل ، بخلاف الثاني.
    لاندفاعها : بأن المعيار لما كان على التقييد ، فهو مشترك فيهما ، ولا أثر معه لاختصاص الأول بكونه عملا خارجيا ، لأن وجوبه مقدمي ناشئ من التقييد.
    على ان الثاني قد يكون موردا للعمل ، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته من غير المؤمنين ، فإنه يجب هدايته تحصيلا للقيد المعتبر في الواجب.
    نعم ، لو كان ملازما لا يمكن اتصاف كل فرد به كالهاشمية والرجولة فقد يدعى إلحاقه بالدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    نعم ، الشك في أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع الذات يختص بجهات ينبغي الكلام فيها مستقلا. ولا وجه لما صرح به بعض الأعيان المحققين في صدر كلامه من خروجه عن محل النزاع بعد ترتب غرض النزاع عليه وعموم بعض كلماتهم له ، ولعله لذا تعرض له عند الكلام في تحقيق المختار والاستدلال عليه. ومن ثمّ كان كلامه مضطربا.
    وكيف كان ، فيقع الكلام في مسألتين ..
    المسألة الاولى : في الشك في أخذ شيء في المكلف به جزءاً كان أو شرطا.
    قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرح

    بعض متأخري المتأخرين بوجوبه ، وربما يظهر من كلام بعض القدماء ، كالسيد والشيخ. لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه. وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين ، كما يظهر من تتبع كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم.
    بل الإنصاف : أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيد والشيخ بل الشهيدين قدس سرهم».
    وهو وإن ذكر ذلك في الشك في الجزئية ، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين الشك في الشرطية عندهم ، كما قد يظهر منه قدّس سرّه ذلك.
    وكيف كان ، فيقع الكلام ..
    تارة : في مقتضى الأصل العقلي الأولي.
    واخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة. لبيان حكم الجهل بالتكليف ، فقد اختلفت كلمات القوم في المقامين.
    أما الأول ، فالظاهر حكم العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك ، بملاك قبح العقاب بلا بيان الذي تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف ، لعدم الفرق في الملاك المذكور بين التكليف الاستقلالي والضمني بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز المبنيين على المسئولية بالتكليف والعقاب عليه الذي هو المهم في المقام والدائر مدار البيان بلا كلام.
    نعم ، لو تعلق الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه إما للاهتمام باثره الوضعي ـ كما في الأوامر الإرشادية ـ أو لتنجزه من جهة اخرى ـ كما في موارد التقصير في الفحص ـ أو للاهتمام بتحصيل غرض المولى قياما ببعض حقوقه ،

    أو مداراة له في دفع شره وجوره ـ كما في بعض الموالي العرفيين ـ زائدا على ما تقتضيه المسئولية التابعة للتنجيز عقلا ، تعين الاحتياط فيه ولو مع عدم البيان الواصل ، كما هو الحال في الشك في أصل الواجب أيضا.
    إلا أنه خارج عن محل الكلام ، إذ المفروض عدم المنجز الخارجي ، وأن الغرض لم يتعلق إلا بالخروج عن تبعة التكليف والمسئولية به عقلا ، التي هي منوطة بالبيان المفروض عدمه بالإضافة إلى المشكوك.
    ولا ريب في ما ذكرناه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة أهل الاستدلال الارتكازية ، فإن المرتكز أن خصوصيات التكليف كأصله هي المحتاجة إلى البيان.
    هذا ، وربما يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه ..
    الأول : دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحد الواقعي المردد بين الأقل والأكثر الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط ، وذلك من جهة العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين المنجز لاحتمال كل منهما ، والملزم بالقطع بالفراغ عنه على ما هو عليه من الترديد والإجمال.
    وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه دعوى انحلال العلم الإجمالي المذكور بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما لنفسه أو مقدمة للأكثر ، بنحو يقتضي تنجزه على كل حال.
    لكن يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه استحالة الانحلال في المقام ، لأن تنجز التكليف المقدمي موقوف على تنجز التكليف النفسي لأن داعويته في طول داعويته ، فلا مجال لتنجيزه دونه.
    وعليه يكون تنجز التكليف بالأقل على كل حال حتى لو كان مقدميا موقوفا على تنجز التكليف النفسي بالأكثر ، ولا منجز له إلا العلم الإجمالي المفروض ، فكيف يكون تنجز الأقل على كل حال موجبا لانحلال العلم

    الإجمالي ومانعا من تنجز الأكثر على تقدير وجوبه.
    هذا ، ومن الظاهر أن ما ذكراه قدّس سرّهما مبني على مقدمية الجزء للمركب ، وعلى تعلق التكليف المقدمي الغيري به تبعا له.
    والتحقيق ـ تبعا لبعضهم ـ منع كلا الأمرين ، كما أوضحناه في مسألة مقدمة الواجب.
    بل صرح المحقق الخراساني قدّس سرّه في المسألة المذكورة بمنع الثاني منهما ، وربما نسب ذلك لشيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا وإن لم أتحققه.
    على أنه لا ريب ظاهرا في انبساط الوجوب النفسي على الأجزاء ، وجبت بالوجوب الغيري أيضا ، أم لم تجب ، فيكفي في تقريب الانحلال وجوب الأجزاء نفسيا على كل حال ، كما ذكره بعض مشايخنا.
    ولعله لذا جزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بعدم إرادة شيخنا الأعظم قدّس سرّه لظاهر كلامه ، وأن مراده من وجوب الأقل تفصيلا هو وجوبه النفسي.
    بل لا يبعد كون ذلك هو مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه أيضا ، فيرجع ما تقدم منه في منع الانحلال إلى دعوى الملازمة بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في مقام التنجز ، كما هي متلازمة في الملاك والجعل والامتثال ، فلا يعقل تنجز الأقل على كل حال إلا مع تنجز الأكثر ، فلا يكون تنجزه مانعا من تنجزه وموجبا لحل العلم الإجمالي المفروض.
    لكنه يندفع : بأن التكليف الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف الضمنية بأجزائه ، فداعويته عين داعويتها ، وتنجزه عين تنجزها ، لأنها من حدوده ، ولا موضوع للملازمة بينه وبينها.
    وعليه لا يلزم في المقام التفكيك بين التكليف الاستقلالي والتكاليف الضمنية في التنجز ، بل اختصاص التنجز للتكليف الاستقلالي بحدوده التي صارت موردا للبيان وعدم التنجز له بحده الذي لم يتعلق به البيان ، وهو عبارة

    اخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف الضمنية.
    نعم ، استشكل بعض الأعاظم قدّس سرّه في الانحلال في المقام : بأن وجوب الأقل المعلوم في البين ليس هو وجوبه على نحو الإطلاق واللابشرط ، بل وجوبه المردد بين كونه بشرط شيء وكونه لا بشرط ، وهو عبارة اخرى عن العلم الإجمالي المفروض في البين ، وليس علما آخر ملازما له صالحا لحله ، فدعوى انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل بالنحو المذكور ترجع إلى دعوى حل العلم الإجمالي لنفسه ، وهو غير معقول ، بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ عن المعلوم بالإجمال وجوب الاحتياط فيه بالإتيان بالأكثر.
    فلعل الأولى أن يقال : إن كان المراد بالعلم الإجمالي هو العلم بالأقل أو الأكثر ، فليس هذا علما إجماليا ، إذ لا بد في العلم الإجمالي من أن ينحل إلى قضية منفصلة يتباين طرفاها ، وحيث كان التكليف بالأقل داخلا في التكليف بالأكثر لا مباينا له لم تصدق القضية المنفصلة المذكورة ، بل مرجع العلم المذكور إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه ، فلا علم إجمالي حتى يحتاج إلى الانحلال.
    وإن كان المراد به أنه بعد العلم بوجوب الأقل تفصيلا فهو مردد بين أن يكون بنحو اللابشرط وأن يكون بشرط شيء ، لوضوح التباين بين المفادين ، فليس هذا العلم الإجمالي منجزا ، لعدم كونه علما بالتكليف ، لوضوح كون أحد طرفيه السعة ، ولا يقتضي الإلزام على كل حال ، نظير دوران الأمر بين وجوب شيء وإباحته ، كما نبه له شيخنا الاستاذ قدّس سرّه.
    الثاني : ما قد يظهر من الفصول من أن المنجز وإن كان هو خصوص الأقل ، إلا أن مقتضى لزوم الفراغ اليقيني عنه هو الإتيان بالأكثر ، لعدم إحراز الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر ، لأن سقوط التكليف منوط بتمامية المركب.

    نعم ، لو احرز كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في الفراغ عنه. لكن الأصل لا ينهض بشرح المعلوم بالإجمال ، إلا أن يكون مثبتا.
    ويندفع : بأن اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان الشك فيه ناشئا من عدم البيان مع العلم بحال المأتي به ومطابقته لما ورد البيان على التكليف به ، وإنما يجب اليقين بالفراغ في ما إذا كان الشك فيه ناشئا من الشك في حال المأتي به وفي مطابقته لما ورد البيان بالتكليف به ، وهو مورد قاعدة الاشتغال.
    الثالث : أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به موردا لغرض المولى ، وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل تعين الاحتياط بالأكثر ، لوجوب إحراز غرض المولى.
    نعم ، بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها لا في متعلقاتها ـ كما عن بعض العدلية ـ لا يجب الاحتياط ، لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف ، وتعلق غرض آخر له بنفس الفعل غير معلوم ، ليجب إحرازه.
    وكذا بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلا.
    وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الجواب عن ذلك من تعذر العلم بحصول غرض المولى حتى مع الإتيان بالأكثر ، لاحتمال توقفه على معرفة الأجزاء تفصيلا غير المتيسرة في المقام.
    فهو ـ مع اختصاصه بالعبادات ـ مدفوع : بأن التأمل في مرتكزات العقلاء والمتشرعة قاض بعدم دخل ذلك ، كما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع.
    ولا سيما مع تعذره لانسداد باب العلم ـ كما في المقام ـ حيث اعترف قدّس سرّه غير مرة بإمكان الاحتياط وعدم اعتبار المعرفة التفصيلية حينئذ.
    ومثله ما قد يقال من عدم وجوب إحراز الغرض إلا مع قيام الحجة عليه ،
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:48 am

    ولا يكون التكليف في المقام حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.
    لاندفاعه : بأن التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف حصوله على الأقل ، لا على تعلق الغرض به بنحو يعلم بحصوله معه ، بل لا يعلم بحصول الغرض المستكشف بالتكليف في المقام بعد فرض الارتباطية إلا بالإتيان بالأكثر ، لأن الملاك أمر بسيط مترتب على مجموع أجزاء المركب ، فلا يحرز حصول شيء منه إلا بتمامية المركب.
    وأشكل من ذلك إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتا وقصر موضوع وجوب الإطاعة عقلا على خصوص تكليف المولى المتقوم بجعل السبيل من قبله.
    فإنه مناف للمرتكزات العقلائية جدا ، إذ لا فرق بنظرهم بين التكليف بالشيء وتعلق الغرض به بالنحو الذي يبلغ مرتبة التكليف ، فيلزمون بتحصيل الغرض المذكور في مورد تعذر التكليف على طبقه لعجز المولى عن جعله ، لموانع خارجية من خرس أو خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب أو نحوها ـ وإن استحال ذلك في حق الشارع الأقدس ـ بل يكتفون في الإلزام بالعمل بوجود مقتضي الغرض ولو مع غفلة المولى عنه للجهل بموضوعه ، كما لو تعرض المولى للخطر الذي من شأنه الاهتمام بدفعه ، وكان غافلا عنه أو عن تمكن المكلف من دفعه ، مع تمكن المكلف منه والتفاته ، فلا يصح للمكلف حينئذ الاعتذار عن العمل بما يناسب الغرض المذكور بعدم صدور التكليف من المولى على طبقه.
    بل الظاهر أن وجوب إطاعة التكليف في طول وجوب موافقة الغرض بلحاظ كشفه عنه وملازمته له ، ولا دخل للتكليف بنفسه في ذلك.
    ولذا لو علم بغرض المولى ، وبعدم وفاء تكليفه به لغافلته ، كان حفظ غرضه منجزا بنحو يحسن العقاب بتعمد تخلفه بالاقتصار على مورد التكليف.

    وهذا لا ينافي ما تقدم غير مرة من تقوم التكليف بجعل السبيل ، لا بالإرادة والكراهة ، والمحبوبية والمبغوضية ، لأن المراد بالغرض هنا ما يكون من شأنه جعل السبيل الذي هو منشأ انتزاع التكليف ، لا ما يكون منشأ للإرادة والكراهة.
    ودعوى : أن مقتضى ذلك الاستغناء عن مسألة الملازمة بين الأحكام العقلية والشرعية ، إذ لو فرض وجوب تحصيل الملاكات على المكلف عقلا ، بنحو يقتضي العمل ويستحق معه العقاب من دون حاجة إلى الحكم الشرعي لم تكن للملازمة المذكورة أثر عملي يصحح الاهتمام بها.
    مدفوعة : بأن وجوب تحصيل غرض المولى لا يرجع إلى وجوب تحصيل الملاكات الواقعية بمجرد إدراك العقل لها ، بل بعد تعلق غرض المولى بها بحيث تكون مضافة له بالنحو المقتضي لجعل الحكم ، فأثر الملازمة المذكورة هو استكشاف تعلق غرض المولى بها الذي هو الموضوع لوجوب الإطاعة ، ولا طريق بدونها لإحراز كون الملاك مضافا للمولى وموردا لغرضه ليجب تحصيله.
    فالعمدة في الجواب عن الوجه المذكور : أن تنجز الغرض إنما هو بمقدار وصوله ، فكما كان بيان خصوصيات التكليف من وظيفة المولى ، وبدونه فالمكلف في سعة منها ، ولا يعتنى باحتمال دخل شيء فيه وإن كان واحدا ارتباطيا ، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى ، وليس على المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه ، فلو فرض فوت الغرض بسبب قصور بيان المولى فالمكلف امن منه ، كما يأمن من فوت التكليف لذلك.
    نعم ، لو لم يتصد المولى لتحصيل الغرض ـ لغافلته أو عجزه عن التكليف ، وإن امتنع ذلك في حق الشارع ـ وعلم به المكلف لم يبعد البناء على وجوب إحرازه ، بخلاف ما إذا تصدى لذلك وشك في وفاء بيانه بغرضه ، كما هو محل الكلام في المقام.

    كما أنه لو كان الأثر المترتب على الفعل موردا للتكليف المولوي ، لا غاية وغرضا منه اتجه لزوم إحرازه وكان من الشك في المحصل.
    لكنه خروج عن محل الكلام ، إذ الكلام في ما لو كان المكلف به مرددا بين الأقل والأكثر بنفسه ، لا بمحصله مع عدم الإجمال فيه.
    هذا ، ولا يخفى أن منشأ هذه الوجوه الثلاثة المفروضة للاحتياط هو ملاحظة الارتباطية المفروضة في المقام ، والموجبة لوحدة التكليف والغرض ، وإنا وإن أطلنا الكلام في دفعها تبعا للأصحاب ، إلا أنا في غنى عن ذلك ، لأن ما سبق آنفا في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف الضمني والاستقلالي إن تم ارتكازا فهو واف بدفعها ، لأن فرض كون المشكوك تكليفا ضمنيا مستلزم لفرض العلم الإجمالي ـ بالصورة المتقدمة ـ ولفرض الشك في امتثال التكليف المتيقن ، وفي حصول الغرض.
    ومرجع تسليم البراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة بنحو يكشف عن خلل في تصويرها إجمالا أو تفصيلا ، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية لم يمكن عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازا.
    وإن لم يتم لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان من العقاب بدونه ، كما لعله ظاهر.
    ثم إنه قد يستثنى مما ذكرنا ما لو كان التردد ناشئا من إجمال عنوان المكلف ، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل ، لدعوى : أن التكليف بالعنوان يقتضي تنجيزه في ذمة المكلف ، فيجب إحرازه في مقام الامتثال ، بخلاف ما إذا شك في مقدار المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه ، فإن المتيقن منه خصوص الأقل ، فهو المتنجز لا غير ، كما تقدم.
    لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات الفصل الأول أن ذلك إنما يتم فيما إذا كان العنوان حاكيا عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه ، مترتبة عليه ـ

    كعنوان الدواء الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلا أو اقتضاء ـ أو قائمة به ـ كعنوان الأكبر والمطلوب ـ لرجوع التكليف بالعنوان حينئذ إلى التكليف بمنشإ انتزاعه ، المفروض عدم الإجمال فيه والشك في حصوله ، فيتنجز ويجب إحرازه ، نظير حال الشك في المحصل.
    أما إذا كان حاكيا عن المركب بنفسه ـ كعنوان السكنجبين الصادق على الخل والسكر بشرط الغليان أو مطلق الامتزاج ـ فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه ، لأن التكليف بالعنوان إنما هو بلحاظ حكايته عن المعنون ، والمفروض التردد فيه بين الأقل والأكثر ، فلا يكون بيانا على الأكثر. فراجع ما تقدم هناك وتأمل.
    هذا تمام الكلام في الأصل العقلي.
    وأما الثاني ، وهو الأصل الشرعي الثانوي فقد اختلف فيه كما تقدم ، والكلام فيه ..
    تارة : بناء على المختار من جريان البراءة العقلية.
    واخرى : بناء على عدمه ، وأن الأصل الأولي الاحتياط.
    أما على الأول ، فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالأكثر ، لتحقق موضوع الأصل فيه ، وهو الشك ، ولا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، للعلم بوجوبه على كل حال ، المقتضي للإتيان به ولزوم امتثاله.
    وربما يدعى جريان البراءة أيضا بالإضافة إلى خصوص الزائد للشك في التكليف به ضمنا ، فيرفع بالأصل.
    وهو لا يخلو عن إشكال ، لانصراف الأدلة إلى التكليف الاستقلالي ، دون التكليف الضمني ، لعدم كونه في الحقيقة تكليفا مجعولا ، وانحلال التكليف الاستقلالي إليه ليس حقيقيا ، بل هو من باب التحليل العقلي ، فينصرف عنه إطلاق الرفع.
    ولذا كان الظاهر قصور حديث الرفع عنه في بقية الفقرات ، فمن استكره

    على ترك بعض أجزاء الواجب الارتباطي كان المرتكز في تطبيق الحديث في حقه هو تطبيقه في التكليف بتمام الواجب المقتضي لسقوطه ابتداء ، لا سقوط خصوص أمر الجزء المكره عليه وسقوط غيره بتبعه بسبب الملازمة.
    ومن ثمّ كان المرتكز مع الشك في أصل التكليف ـ كوجوب ركعتي الوتيرة ـ تطبيق الحديث على التكليف التام ، لا التكاليف الضمنية التي ينحل إليها.
    نعم ، لو كان في أدلة البراءة ما يختص بالأقل والأكثر لم يبعد انصرافه إلى خصوص الزيادة ، لانصراف الشك إليها والغافلة عن فرضه بالإضافة إلى المركب الواجد لها ، كما هو الحال في البراءة العقلية أيضا لأنها ليست من سنخ العام العنواني ، ليتوجه دعوى انصرافه ، بل هي دليل لبي وارد في كل مصداق بنفسه.
    ولا يهم مع ذلك عدم كون التكليف الضمني مجعولا ، لأن المراد بالرفع في أدلة البراءة محض السعة في مقام العمل من حيثية المشكوك ، ولا مانع من جعلها شرعا بالاضافة إلى الجزء وإن لم يكن التكليف به مجعولا.
    لكن لا مجال لذلك في الأدلة العامة لما عرفت من انصرافها عن الجزء.
    هذا ، وقد يتمسك في المقام بالاستصحاب ، لأن مقتضاه عدم وجوب الأكثر ، لانه حادث مسبوق بالعدم ، كما تقدم نظيره في أدلة البراءة.
    وهذا هو العمدة من وجوه الاستصحاب ، دون مثل استصحاب عدم وجوب الزائد ، أو عدم جزئيته.
    للإشكال في الأول بما عرفت من عدم كون وجوب الجزء مجعولا بنفسه ، ليصح نفيه بالاستصحاب ، بل هو هنا أظهر ، إذ لا إشكال في اختصاص الاستصحاب بالمجعول الشرعي وموضوعه.
    وفي الثاني بأن جزئية الجزء منتزعة من وجوب المركب المشتمل عليه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعها ، وهو يرجع إلى الوجه الذي

    ذكرناه.
    وهناك بعض الوجوه الاخرى للاستصحاب لا ينبغي إطالة الكلام فيها بعد وضوح إشكالها.
    وأما على الثاني ـ وهو القول بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط ـ فقد عرفت أن منشأه إما العلم الإجمالي المدعى ، أو قاعدة الاشتغال بالأقل المتيقن ، للشك في الفراغ عنه بدون الزائد ، أو لزوم إحراز غرض المولى.
    والظاهر امتناع جريان البراءة الشرعية على جميع الوجوه المذكورة.
    أما على الأول ، فلأن مبنى منجزية العلم الإجمالي المذكور أحد أمرين ..
    الأول : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن العلم بوجوب الأقل لنفسه أو في ضمن الأكثر لا يصلح لحل العلم الإجمالي ، لتوقف منجزيته على كل حال على تنجز الأكثر ، فلا تكون مانعة من تنجزه.
    الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن العلم بوجوب الأقل لما كان بنحو الإهمال مرددا بين لا بشرط وبشرط شيء فهو عين العلم الإجمالي ، وليس علما آخر صالحا لحله.
    ولا يخفى أن أدلة البراءة من الأكثر لما لم تنهض بتعيين حال وجوب الأقل المعلوم ، وأنه لنفسه وبنحو اللابشرط ، لا في ضمن الأكثر وبشرط شيء ، فهي لا تنفع في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.
    من دون فرق بين القول بوجوب موافقة العلم الإجمالي القطعية لذاته والقول بوجوبها لتعارض الاصول.
    لأن أصالة البراءة من وجوب الأقل إنما لا تجري ولا تعارض أصالة البراءة من وجوب الأكثر إذا كان وجوب الأقل المردد بين الوجهين صالحا للعمل بنفسه ، ليكون العلم به صالحا لتنجيزه على كل حال ورافعا لموضوع الأصل فيه.

    أما بناء على أن الصالح للعمل والتنجيز هو العلم بوجوبه لنفسه بنحو اللابشرط ، فحيث لم يكن ذلك معلوما كان الأقل مشمولا لأدلة الاصول ، فيكون الأصل فيه معارضا للأصل الجاري في الأكثر.
    لكن ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن أدلة البراءة ـ كحديث الرفع ـ تقتضي رفع القيدية برفع منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر الواجد للقيد ، فتصلح لرفع الإجمال عن الأقل ويثبت بها إطلاقه ، إذ ليس الإطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد وعدم أخذه.
    وهو لا يخلو عن غموض ، إذ بعد الاعتراف بأن القيدية لا ترتفع بنفسها ، بل بمنشإ انتزاعها ـ وهو التكليف بالأكثر ـ كيف يمكن إثبات الإطلاق ، مع وضوح أن الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد في الأقل في فرض الأمر به ، وهو أمر مباين لعدم وجوب الأكثر.
    بل لو فرض تطبيق دليل البراءة بالاضافة إلى خصوص التكليف الضمني بالزيادة ـ وغض النظر عما تقدم منا ـ لم ينفع في إثبات الإطلاق أيضا ، فإن الإطلاق غير متقوم بعدم وجوب الزيادة ، بل بعدم أخذها في الواجب ، الذي هو عبارة عن عدم التقييد بها ، ولا مجال لتطبيق أدلة البراءة عليه بعد عدم كونه مجعولا بنفسه ، ولا موردا للعمل ، بل هو أمر انتزاعي لا مجال لتطبيق أدلة البراءة إلا على منشأ انتزاعه ، كما اعترف به قدّس سرّه.
    ونظيره ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية ، فإنه بعد الاعتراف بأن الجزئية منتزعة من وجوب الأكثر ورفعها يكون برفعه ، ذكر أن نسبة حديث الرفع الناظر إلى أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء من تلك الأدلة ، فيكون مفاد تلك الأدلة معه جزئية الجزء إلا مع الجهل ، ولازم ذلك اختصاص الأمر بالاجزاء المعلومة ، وهي الأقل.
    إذ فيه : أن ذلك موقوف على تطبيق الحديث على نفس جزئية

    المشكوك ، لا على منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر ، إذ رفع وجوب الأكثر ظاهرا لا يقتضي الأمر بما عداه إلا بالملازمة ، الموجبة لكون الأصل مثبتا غير حجة.
    نعم ، لو كان رفعه واقعيا كان حجة في لوازمه ، كسائر الأدلة الاجتهادية. لكن لا يظن منه البناء على ذلك وإن أوهمته بعض كلماته في نظائر المقام.
    على أنه بعد فرض كون الوجوب الصالح للتنجيز والعمل هو خصوص الوجوب النفسي الاستقلالي فتطبيق دليل البراءة على الأكثر معارض بمثله في الأقل.
    وبالجملة : لا مجال للجمع بين كون الجزئية أمرا انتزاعيا لا يرتفع بنفسه ، بل بمنشإ انتزاعه ، وكون رفعها محرزا لوجوب الأقل.
    نعم ، يظهر منه قدّس سرّه في حاشية الرسائل أن الجزئية مجعولة حقيقة تبعا لمنشا انتزاعها ، وينالها الرفع كذلك تبعا له ، وليس الجعل والرفع مختصا بمنشإ الانتزاع.
    وعليه يكون رفع الأكثر المشكوك مستلزما لرفع الجزئية المشكوكة ، دون الجزئية المعلومة لامتناع شمول الحكم الظاهري للمعلوم ، ومقتضى الجمع بين وجوب الأقل المعلوم على كل حال ورفع جزئية المشكوك التعبد بكون الأقل تمام الواجب وكونه بنحو اللابشرط موردا للتكليف.
    لكن هذا رجوع عن كون الجزئية أمرا منتزعا من التكليف بالمركب إلى كونها أمرا حقيقيا مسببا عنه مجعولا مثله بتبعه. ولا مجال للبناء عليه ، كما حقق في محله.
    ولعله لذا عدل في هامش الكفاية عن جريان البراءة الشرعية ، حيث قال : «لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي الأمر الواقعي ، وهو واضح البطلان».

    ومما ذكرنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في المقام ، لأن استصحاب عدم وجوب الأكثر أو الزيادة لو تم لا يحرز إطلاق الأمر بالأقل ، وكون التكليف به استقلاليا ، واستصحاب عدم قيدية الزائد أو جزئيته لا يجري في نفسه بعد عدم كونهما مجعولتين ، بل منتزعتان من وجوب الأكثر.
    وأما على الثاني ، فعن الفصول توجيه عدم جريان البراءة الشرعية بأن أصالة الاشتغال في الأكثر رافعة لموضوع الأصل ، لعدم صدق حجب العلم معها ، نظير الأدلة الظنية ، كخبر الواحد والبينة.
    لكن يشكل : بأن موضوع أدلة البراءة الشرعية هو الشك في التكليف الشرعي ، وأصالة الاشتغال ليست كالأدلة الظنية بيانا على التكليف الشرعي ، بل هي عبارة عن حكم عقلي طريقي وارد في مورد بالجهل ، فهي لا ترفع موضوع أصل البراءة.
    فالعمدة في ذلك : أن دليل البراءة أو الاستصحاب إنما يقتضي عدم التكليف شرعا بالأكثر من حيث كونه محتمل التكليف ، وهو لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا لإحراز الفراغ عن الأقل المتيقن التكليف.
    ومنه يظهر الحال على الثالث ، لوضوح أن عدم التكليف بالأكثر شرعا بأدلة البراءة أو الاستصحاب من حيثية كونه مشكوكا لا يفي بتعيين الغرض ، ولا يحرز حصوله بفعل الأقل ، كما لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا لذلك.
    نعم ، لو كان مفاد أدلة البراءة أو الاستصحاب رفع القيدية أو الجزئية كانت رافعة لموضوع قاعدة الاشتغال على الثاني ومحرزة لحصول الغرض على الثالث ، لصلوحها لشرح التكليف المجمل وإحراز الفراغ عنه وحصول غرضه بالاقتصار على الأقل.
    ولذا حكي عن الفصول سلوك ذلك في تقريب جريان البراءة.
    لكن ذكرنا عدم تماميته لعدم جعل الجزئية والقيدية.

    والمتحصل : أنه لما كان مبنى القول بوجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة العقلية عدم كفاية العلم بوجوب الأقل على كل حال في تنجيزه والاكتفاء به في مقام الفراغ ، ولم تكن الاصول الشرعية من براءة واستصحاب وافية بشرح حال التكليف المعلوم ، ولا محرزة لوجوب الأقل لا بشرط بنحو يكون تمام الواجب ، ليكون الاقتصار عليه محرزا للفراغ والغرض ، لم تنهض برفع اليد عن مقتضى الأصل العقلي المذكور ، ولا تصلح لرفع موضوعه ، كما هو الحال في المتباينين.
    هذا ، وقد يدعى أن مقتضى الاستصحاب الإتيان بالأكثر ، لاستصحاب بقاء التكليف بعد الإتيان بالأقل ، فيلزم العقل بالإتيان بالأكثر تحصيلا للفراغ اليقيني ، لا لإحراز وجوبه بالاستصحاب ، ليدعى أنه مثبت.
    والاستصحاب المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية ، لا من جهة كونه بيانا رافعا لموضوعها ، بل لكونه حكما ثابتا لجهة اقتضائية مقدما عملا على الحكم الاولى الثابت من جهة غير اقتضائية ، إذ البراءة إنما تقتضي عدم لزوم الإتيان بالأكثر من حيثية الشك في تعلق التكليف به ، والاستصحاب يقتضي لزوم الإتيان به من حيثية كونه محرزا للفراغ عن التكليف المستصحب.
    وقد جعل بعض مشايخنا الاستصحاب المذكور من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لتردد التكليف المستصحب بين مقطوع الزوال ومقطوع الارتفاع.
    واورد عليه .. تارة : بأن الرجوع لاستصحاب الكلي في القسم الثاني موقوف على عدم إحراز حال الفرد ولو بضم الأصل إلى الوجدان ، وإلا كان الأصل المحرز لحال الفرد حاكما على استصحاب الكلي ، كما لو علم المكلف بالحدث الأصغر واحتمل حدوث الجنابة ، فإن استصحاب عدم الجنابة حاكم على استصحاب كلي الحدث ، وفي المقام حيث كان الأقل متيقنا والأكثر

    مشكوكا فاستصحاب عدم وجوب الأكثر حاكم على استصحاب الكلي بالاضافة إلى التكليف.
    واخرى : بمعارضته باستصحاب عدم تعلق جعل التكليف بالأكثر لو لم نقل بكونه محكوما له.
    لكن يندفع الأول : بأنه لو تم ما ذكره من الشرط في استصحاب الكلي وفي مثال الحدث فالمقام ليس نظيرا لذلك ، لمنع ما ذكره من أن الأقل متيقن سابقا والأكثر مشكوك ، بل المتيقن هو التكليف بالأقل في الجملة ولو في ضمن الأكثر ، وهو لا يقتضي سقوطه بفعل الأقل ، كما في الحدث الاصغر الذي يعلم بارتفاعه بالوضوء ، بل ذلك من لوازم التكليف بالأقل استقلالا بنحو اللابشرط ، ومن المعلوم عدم إحرازه ، غاية الأمر أن اليقين المذكور لا يصلح إلا لتنجيز الأقل.
    نعم ، لو علم سابقا بالتكليف بالأقل استقلالا ، ثم احتمل تبدله بالتكليف بالأكثر ، كان نظيرا لمثال الحدث.
    وأما استصحاب عدم كون التكليف المتيقن تكليفا بالأكثر ، فهو ـ لو جرى في نفسه ـ معارض بمثله.
    ويندفع الثاني : بعدم التعارض بين الأصلين المذكورين ، لعدم التناقض بين مؤدييهما ، فإن عدم التكليف بالأكثر شرعا بعنوانه الخاص لا يناقض بقاء التكليف الكلي ، وإنما يلازم عدمه ، والتفكيك بين المتلازمات بسبب الاستصحاب غير عزيز. كما لا تنافي بين الأصلين عملا ، لأن استصحاب عدم التكليف بالأكثر إنما يقتضي عدم الإتيان به امتثالا للتكليف به شرعا ، وهو لا ينافي الإتيان به لإحراز الفراغ عن التكليف الكلي المستصحب.
    فالعمدة في المقام : أن الاستصحاب المذكور ليس من استصحاب الكلي ، لعدم الأثر العملي لكلي التكليف ، بل العمل مترتب على كل تكليف بشخصه ،

    حيث يلزم موافقته عقلا ، والموافقة الإجمالية عند العلم الإجمالي إنما هي لكون العمل قائما بالفرد المردد بين الفردين ، لا لقيامه بالكلي الجامع بينهما.
    فالاستصحاب في المقام من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وقد تقدم في التنبيه العاشر من تنبيهات الفصل السابع أنه لا مجال لجريانه.
    بل يزيد هنا أنه إذا كان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي إلا تنجز الأقل ـ كما تقدم ـ فاستصحاب التكليف المذكور لا يزيد على ذلك ، وحيث يمتنع تنجيز الأقل بعد فرض الإتيان به للعلم التفصيلي بعدم وجوبه يمتنع الاستصحاب.
    وحاصل محذور الاستصحاب هنا : أنه بنفسه ينافي العلم التفصيلي ، بخلافه هناك ، فإنه لا ينافيه بنفسه ، بل بإطلاقه.
    نعم ، لو فرض ترتب الأثر على كلي التكليف ، كما لو نذر المكلف أن يتصدق بدرهم إن بقيت ذمته مشغولة ساعة مثلا ، جرى الاستصحاب المذكور ، وكان من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لو كان مراده الانشغال الواقعي. وإن كان مراده الانشغال العقلي المتفرع على التنجز فلا مجال للاستصحاب ، لورود أصالة البراءة الشرعية ، بل العقلية عليه ، لارتفاع الشك معها حقيقة.
    المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.
    لا يخفى أن مرادهم بالتخيير العقلي هو التخيير في مقام الامتثال عقلا بين أفراد الماهية التي تكون موردا للتكليف التعييني الشرعي ، فكلما كان المكلف به مرددا بين الماهية المطلقة ـ التي هي مورد التخيير العقلي ـ والمقيدة بالخصوصية ـ الملزم بتعينها في مقام الامتثال ـ كان من الدوران بين التعيين والتخيير العقليين ، سواء كانت الخصوصية جزءاً خارجيا متحدا مع الواجب مأخوذا فيه ـ كالاستعاذة في الصلاة ـ أم قيدا مباينا للماهية موردا لفعل المكلف

    في مقابلها ـ كالطمأنينة والطهارة في الصلاة ـ أم عرضا قائما بالموضوع قابلا للزوال عنه ـ كالإيمان في الرقبة ـ أم عرضا ليس من شأنه الارتفاع عن الموضوع ـ كالرجولية والهاشمية في الإنسان ـ أم خصوصية مقومة للذات والماهية ـ كالإنسانية في الحيوان ـ أم خصوصية مقومة للفرد ـ كخصوصية زيد في الإنسان ـ لعدم الفرق بين هذه الصور في الجهة المذكورة.
    لكن الموضوع في هذه المسألة ليس ذلك على إطلاقه ، وإلا دخلت فيها المسألة الاولى ، ولم تكن مقابلة لها ، بل المراد خصوص قسم منه يمتاز عن موضوع تلك المسألة ، وإنما أطلقنا العنوان المذكور عليه لضيق التعبير ، لعدم عنوان يخصه.
    والملاك في التمايز بين الموضوعين اشتمال أحدهما على خصوصية تقتضي أولويته بجريان الاحتياط.
    وقد سبق منا عدم الفارق بين الأقسام الثلاثة الاولى ، وأن تخيل تميز الأول عن الثاني والثالث في غير محله ، كتخيل الفرق بين الثاني والثالث بعد اشتراكها في احتمال التقييد وأخذ خصوصية زائدة في المتيقن.
    ومن ثمّ كان موضوع المسألة الاولى شاملا للأقسام الثلاثة المذكورة ، كما يقتضيه عموم عنوانه.
    وأما موضوع هذه المسألة فالمتيقن منه القسمان الأخيران ، وربما يعمم إلى القسم الرابع ، على كلام يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.
    إذا عرفت هذا فيقع الكلام ..
    تارة : في مقتضى الأصل العقلي.
    واخرى : في مقتضى الأصل الشرعي.
    أما الأصل العقلي فلا ريب في أن مقتضاه الاحتياط ، بناء على أن ذلك مقتضاه في المسألة الاولى ، لاشتراكها في الجهة المقتضية لذلك ، من فرض

    العلم الإجمالي ، أو الشك في الفراغ ، أو في حصول الغرض.
    أما بناء على أن مقتضاه هناك البراءة فقد صرح غير واحد بجريانها هنا أيضا ، لعين الوجه المتقدم هناك من أن الخصوصية كلفة زائدة ، والمرجع فيها البراءة عقلا بملاك قبح العقاب بلا بيان ، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف وخصوصياته.
    وما تقدم هناك من دفع شبهة العلم الإجمالي والشك في الامتثال وفي حصول الغرض جار هنا.
    وقد خالف في ذلك بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه فالتزم بالاحتياط ، مدعيا عدم تحقق ملاك الأقل والأكثر حتى بحسب التحليل العقلي ، إذ الملاك في ذلك أن يكون الأقل بذاته ـ لا بحده ـ محفوظا في الأكثر ، نظير الكليات المشككة المحفوظ ضعيفها بذاته ـ لا بحدّ ضعفه ـ في ضمن شديدها.
    ولا مجال لذلك في المقام ، لأن الأقل ـ وهو الماهية المعراة عن قيد الخصوصية ـ كسائر الكليات المتواطئة تتحصص إلى حصص متعددة متباينة في ضمن أفرادها المتباينة بحيث تكون الحصة المتحققة منها في ضمن كل فرد مباينة للحصة المتحققة في ضمن الفرد الآخر ، فالحيوانية المتحققة في ضمن الإنسان مباينة للحيوانية الموجودة في ضمن غيره من الانواع ، كما أن الإنسانية المتحققة في ضمن زيد مباينة للإنسانية المتحققة في ضمن غيره من الأفراد.
    وعليه لا تكون الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن الخصوصية ، ليمكن دعوى وجوبها على كل حال ، وينحل بها العلم الإجمالي ، بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية المباينة للحصص الاخرى ، فلا يمكن دعوى اندراج ما نحن فيه في الأقل والأكثر ، بل ليس في المقام إلا العلم الإجمالي بتعلق التكليف إما بالحصة الخاصة أو الجامع المطلق بين الحصص المنطبق عليها وعلى غيرها ، ومرجعه إلى العلم إما بوجوب

    الحصة الخاصة وحرمة تركها مطلقا ، أو وجوب غيرها في ظرف تركها.
    وبعد عدم انطباق أحد التركين على الآخر ، وعدم قدر متيقن في البين مشمول للتكليف النفسي الأعم من الضمني والاستقلالي ، يرجع الأمر إلى المتباينين ، ويجب الاحتياط بالإتيان بالخصوصية ، للقطع بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين.
    هذا ما ذكره فيما إذا كانت الخصوصية المحتملة منوعة أو مشخّصة.
    وقد الحق بذلك ما إذا كانت عرضية ولم يكن كل فرد قابلا للاتصاف بها ، بحيث يمكن تعاقبها ، وجودا وعدما على الفرد الواحد ـ وهي القسم الرابع من الأقسام الستة المتقدمة ـ كالهاشمية في الإنسان.
    بدعوى : رجوع الشك فيها إلى الشك في كون المكلف به خصوص الحصة الواجدة للخصوصية ، أو المطلق الجامع بينها وبين الفاقد لها ، بخلاف ما إذا كانت الخصوصية العرضية مما يمكن اتصاف كل فرد بها ، كالقيام والعقود ، حيث يرجع الشك حينئذ إلى الشك في اعتبار الخصوصية زائدا على الحصة ، مع اليقين بالتكليف بأصل الحصة إما ضمنا أو استقلالا.
    هذا حاصل ما ذكره في المقام ، وقد أطلنا في بيانه محافظة على الخصوصيات والنكات التي اعتمدها في استدلاله.
    لكنه يشكل .. أولا : بأنه لما كان الملاك في الأقل والأكثر أن يكون الأقل محفوظا في الأكثر بذاته لا بحده ، فلا مجال لتوجيه إخراج محل الكلام عنه بعدم كون واجد الخصوصية واجدا للماهية المطلقة ، ضرورة أن الماهية المطلقة هي الأقل بحده ، ولا ريب في عدم اعتبار حفظها في الأكثر في جميع الأقسام المذكورة في المقام ، بل ليس المحفوظ فيه إلا حصة منها وهي الماهية الخاصة ، المحفوظة في المقام أيضا في ضمن الأكثر الواجد للخصوصية.
    وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي ـ الأعم من

    الاستقلالي والضمني ـ إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة والمقيدة ، وهو موجود في المقام ، ضرورة أن التكليف بالأكثر الواجد للخصوصية ـ في محل الكلام ـ راجع إلى وجوب الماهية الخاصة في ضمنه ، والتكليف بالأكثر راجع إلى التكليف بالماهية المطلقة ، ومع التردد بينهما يعلم بالتكليف الضمني أو الاستقلالي بالماهية في الجملة الصالحة للانطباق عليهما.
    وغاية ما يتصور من الفرق بين محل الكلام وما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع عن الفرد أمران ..
    الأول : مباينة الذات الواجدة للخصوصية للذات الفاقدة لها في محل الكلام ، والاتحاد بينهما فيما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع.
    الثاني : غلبة بساطة مفهوم الواجد للخصوصية في محل الكلام ، بسبب كون العنوان الحاكي جامدا ، وتركبه من الذات بمفهومها العام والخصوصية ، في ما إذا كانت الخصوصية قابلة للارتفاع ، لإفادتهما بعنوان اشتقاقي مركب من مفاد الهيئة والمادة ، أو بطريق التقييد الذي هو نحو نسبة قائمة بين القيد والمقيد.
    لكن الأول ممنوع ، فإن الاتحاد مع قابلية الخصوصية للارتفاع إنما هو بين القابل للخصوصية والقابل لعدمها ، ولا أثر له ، لعدم دخل القابلية قطعا ، وإنما يحتمل أخذ فعلية الخصوصية ، والتباين بين واجد الخصوصية وفاقدها فعلا حين فعلية التكليف ظاهر ، فلا يكون الإتيان بالفاقد محصلا لشيء من المكلف به على تقدير أخذ الخصوصية فيه.
    غايته أن منشأ التباين ليس هو الخصوصية ، بل ما يقارنها مما يقوم الذات ، بخلاف ما لو كانت الخصوصية نوعية أو شخصية ، فإنها بنفسها تكون منشأ للتباين بين الحصتين ، ولا أثر لذلك في حكم العقل ، ولذا التزم قدّس سرّه بالاحتياط في الخصوصية العرضية غير القابلة للارتفاع ، مع أنها ليست بنفسها منشأ للتباين بين الحصص.

    وأما الثاني فلا أثر له ، لأن إفادة الذات بعنوانها العام بعد فرض تقييدها راجع إلى كون الموضوع خصوص الحصة المصاحبة للقيد ، كما هو الحال في ما لو اريدت الحصة بعنوان جامد يختص بها ، وليس الفرق بينهما إلا في طريق البيان ، ولا أثر له في حكم العقل الصرف ، وإن كان قد يحتمل دخله في الامور العرفية المبنية على الاستظهار من الإطلاق ونحوه ، على ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في الأصل الشرعي إن شاء الله تعالى.
    وثانيا : بأنه حيث كان المكلف به هو فعل المكلف المتعلق بواجد الخصوصية وفاقدها فهو في جميع فروض المسألة من القسم الرابع ، لامتناع اتصاف كل فرد بالخصوصية ، بل الفرد الواجد للخصوصية لا ينفك عنها ، لاستحالة انقلاب الشيء عما يقع عليه ، فالعتق المتعلق بالرقبة المؤمنة لا يتعلق بغيرها ، كما أن الصلاة الواجدة للطهارة أو الاستعاذة يمتنع خلوها عنهما ، كما يمتنع اتصاف غير الهاشمي بالهاشمية.
    والفرق الذي ذكره إنما يتصور في المتعلق نفسه ، كالإنسان المعتق ، فإن الخصوصية المأخوذة فيه قد تقبل الارتفاع كالإيمان ، وقد لا تقبله ، كالذكورة ، ولا أثر لذلك بعد عدم كونه بنفسه مكلفا به ، بل هو متعلق للمكلف به.
    وبالجملة : ما ذكره قدّس سرّه لا ينهض بإخراج ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر ، بل التحليل العقلي قاض بدخوله فيه.
    نعم ، التحليل المذكور أخفى من التحليل في الشك في الشرطية ، لما عرفت من غلبة التركيب في المفهوم هناك والبساطة هنا ، كما أن التركيب في الشك في الجزئية أظهر منه في الشك في الشرطية ، لمقارنته للتركب الخارجي بين الأجزاء ، وإن كان بعضها قيدا في الآخر بمقتضى الارتباطية المفروضة ، كما في الشرط.
    إلا أن هذا لا ينافي جريان البراءة العقلية في الجميع بعد فرض وجود

    القدر المتيقن بحسب التحليل العقلي ، وبعد أن كان ملاك قاعدة قبح العقاب بلا بيان يعم الخصوصيات المأخوذة في التكليف الواحد ، بمقتضى الارتباطية المفروضة ، كما تقدم في المسألة الاولى. هذا كله يرتبط بالأصل العقلي.
    وأما الأصل الشرعي فإنما يتوقف الاستدلال عليه إذا قيل بعدم جريان البراءة العقلية ولزوم الاحتياط ، كما هو مختار المحقق الخراساني وبعض الأعاظم قدّس سرّهما في جميع صور الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، ومختار بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في خصوص هذه المسألة.
    وقد منع بعض الأعاظم قدّس سرّه من جريان البراءة الشرعية هنا مع التزامه بجريانها في المسألة الاولى ، وسبقه إلى ذلك المحقق الخراساني ، وإن أشرنا إلى اضطراب كلامه هناك ، لإلحاق الشك هنا بالمتباينين ، فقد ادعى بعض الأعاظم قدّس سرّه التباين عرفا بين العام والخاص في المقام ، بنحو تكون نسبة أدلة البراءة الشرعية إلى كل منهما سواء ، فتسقط بالمعارضة.
    وما ذكره قدّس سرّه قريب جدا بناء على مسلكه في تلك المسألة من عدم كفاية العلم بالتكليف بالأقل في تنجيزه بنفسه ، بل لا بد من إثبات إطلاق الأمر به ، وأنه يتم برفع التكليف بالأكثر بالأصل ، لرجوعه إلى رفع قيدية الزائد وإطلاق الأمر بالأقل.
    فإن إحراز إطلاق الأقل من نفي التكليف بالأكثر بالأصل بالوجه المتقدم موقوف على كون الخصوصية من سنخ القيد الزائد المعتبر في الأقل ، ولا يجري في مثل المقام مما كانت الخصوصية متحدة مع الذات ، بنحو تكون مباينة للماهية مفهوما ، لا أمرا زائدا معتبرا فيه.
    وبالجملة : لما كان مبنى البراءة الشرعية على الظهورات التي يكون المرجع في تطبيقها العرف أشكل نفي اعتبار الخصوصية في المقام بعد أن لم تكن من سنخ القيد الزائد عرفا ، بل مقوما لأحد طرفي الترديد مع بساطة

    مفهومه ، ولا يكفي في ذلك التحليل العقلي المغفول عنه عرفا ، لعدم ابتناء الأدلة الشرعية عليه ، بل على التطبيق العرفي ، وإنما ينفع في الحكم العقلي المحض.
    وعلى هذا لا يفرق بين القول بلزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بنحو يمتنع جريان الأصل في بعض الاطراف لو فرض اختصاص موضوعه به وعدم سقوطه بالمعارضة ، والقول بامكان جريان الأصل في بعض الاطراف ، للاكتفاء بعدم لزوم المخالفة القطعية.
    أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلمعارضة الأصل في الأكثر بالأصل في الأقل بعد فرض التباين بينهما وعدم انحلال العلم الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، لفرض عدم جريان البراءة العقلية.
    وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من جريان البراءة الشرعية على القول الثاني في الأكثر ، لعدم لزوم المخالفة القطعية بتركه في ظرف الإتيان بالأقل بفرد آخر.
    فهو مبني على إغفال تحقق موضوع الأصل في الأقل ومعارضته للأصل في الأكثر المستلزم للمخالفة القطعية.
    هذا ، كله بناء على أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط ، وأما بناء على أن مقتضاه البراءة من الأكثر ، ولزوم الإتيان بالأقل ، بعد فرض العلم بالتكليف به على كل حال إما ضمنا أو استقلالا ، فلا مانع من جريان البراءة الشرعية من الأكثر ، وإن لم يحرز بها إطلاق الأمر بالأقل ، لعدم معارضته بمثله في طرف الأقل بعد فرض العلم بالتكليف به في الجملة ، كما تقدم نظيره في المسألة الاولى.

    تنبيهات
    التنبيه الأول : في الشبهة التحريمية
    تقدم أن الشبهة التحريمية يمكن فيها فرض التردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وأنه مختص بما إذا كان عموم النهي لأفراد الماهية مجموعيا ، فلا يكون له إلا إطاعة واحدة بترك جميع الأفراد ، أو معصية واحدة بفعل بعضها ، فإنه إذا احتمل أخذ شيء في الحرام كان مما نحن فيه ، وكان الضيق بالبناء على الأقل وهو الإطلاق ، والسعة بالبناء على الأكثر وهو ذو الخصوصية ، عكس الشبهة الوجوبية.
    وحيث لم يكن الضيق ناشئا من أخذ الخصوصية في المنهي عنه ، فلا مجال فيه لفرض الأقسام السابقة ، التي عرفت اختلاف الحال فيها وضوحا وخفاء لاختلاف سنخ الخصوصية المحتملة.
    بل حيث كان ناشئا من أخذ الأفراد الفاقدة للخصوصية منضمة للأفراد الواجدة لها في المنهي عنه ، فلا بد أن يكون انبساط التكليف عليها من سنخ انبساطه على الأجزاء المتباينة في أنفسها ، ويتعين رجوع الشك في المقام إلى الشك في الجزئية ، الذي تقدم أن جريان البراءة فيه متيقن بالإضافة إلى بقية الأقسام.
    التنبيه الثاني : في الشبهة الموضوعية
    تقدم في أول الكلام في الاصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن الغرض المهم في المقام ، وإن حسن التعرض لها استطرادا لو اختصت ببعض الجهات في تنبيه مستقل. ومن ثم عقدنا هذا التنبيه.
    وحيث كان المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الامور الخارجية

    والمصاديق مع تحديد الكبرى الشرعية وعدم الإجمال فيها ، لوضوح عنوان المكلف به ، فالشك في المقام في دخل شيء في المكلف به ..
    تارة : يكون لعدم إحراز تحقق عنوان المكلف به بدونه ، بأن يكون للمكلف به عنوان منتزع من جهة زائدة على ذاته احتمل توقفها على الأمر المحتمل ، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء ، وشك في كميته ، أو وجب تهيئة سكين يصلح للذبح ، وشك في توقف صلوح السكين له على صقلها.
    واخرى : يكون لعدم إحراز انطباق عنوان التكليف عليه ، بأن يؤخذ العنوان فيه بما له من الأفراد على نحو العموم المجموعي ، ويشك في مقدار تلك الأفراد ، كما لو وجب إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.
    أما لو كان بنحو العموم الاستغراقي كان مرجع الشك المذكور إلى الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، الذي لا إشكال في جريان البراءة فيه.
    كما أنه لو كان بنحو العموم البدلي كان مرجع الشك المذكور إلى الشك في تحقق المكلف به من دون إجمال فيه ، الذي لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.
    ومثله ما لو علم مقدار المكلف به وشك في مقدار المأتي به ، كما لو وجب إكرام عشرة ، وشك في بلوغ الجماعة الذين أكرمهم العدد المذكور.
    فمحل الكلام مختص بالصورتين الاوليين.
    أما الصورة الاولى ، فقد تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة أن المرجع فيها الاشتغال ، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض عدم إجماله ، فيجب إحراز الفراغ عنه ، فهو ملحق بالشك في المحصل حكما ، وإن اختلفا موضوعا ، بلزوم كون مورد التكليف في الشك في المحصل هو المسبب المترتب على فعل المكلف ، كالتذكية ، وفي ما نحن فيه هو نفس فعل المكلف المردد بين الأقل والأكثر.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:49 am

    وأما الصورة الثانية ، فالظاهر جريان البراءة فيها ، لأن تحقق العنوان وسعة انطباقه مأخوذ في موضوع التكليف ، لا في المكلف به ، ولذا لا يجب السعي لتحقيق العنوان لو كان ممكنا ، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا بضميمة انطباق العنوان ، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لاجمال التكليف الفعلي وتردده بين الأقل والأكثر ، كسائر موارد الدوران بينهما ، التي عرفت أنه لا مجال فيها لتنجز التكليف بحده الواقعي ، بل لا يتنجز منه الا المتيقن ، وإن كان ارتباطيا.
    فلا فرق بين هذه الصورة وما لو كان العموم استغراقيا إلا الارتباطية التي عرفت أنها لا تكون فارقا في جريان البراءة.
    بخلاف الصورة الاولى ، لأن التكليف فيها بنفسه يقتضي تحصيل العنوان ، فهو صالح لتنجيزه بحده الواقعي بعد فرض عدم الإجمال فيه وصلوحه للبيان ، نظير : ما لو علم بمقدار المكلف به ، وشك في مقدار المأتي به ، الذي تقدم أنه لا إشكال في لزوم الاحتياط فيه.
    ولا يفرق في ما ذكرنا بين الشبهة الوجوبية والتحريمية ، فلو فرض ورود النهي عن الطبيعة بنحو يقتضي ترك مجموع الأفراد ، ولو ارتكب بعضها فلا إطاعة له أصلا جرت البراءة في فردية شيء لها ، للشك في فعلية التكليف وسعته بالإضافة إليه ، خلافا للمحقق الخراساني قدّس سرّه حيث ذكر في بعض تنبيهات البراءة أن اللازم في ذلك الاحتياط.
    هذا ، وقد مثل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للشبهة الموضوعية في المقام بمثالين :
    الأول : ما لو وجب الطهور وهو الفعل الرافع أو المبيح للصلاة ، وشك في جزئية شيء للوضوء أو الغسل.
    الثاني : ما لو وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشك في أنه ثلاثون أو ناقص.

    ويظهر من غير واحد أن الأول راجع إلى الشك في المحصل.
    ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من اختصاص الشك في المحصل بما إذا كان المكلف به هو المسبب الذي هو فعل المكلف بالتسبيب ، لا السبب الذي هو فعله بالمباشرة ، كما هو الحال في المثال المذكور.
    وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في الشك في المحصل ـ بعد فرض كون المثال منه ـ من أنه بالنسبة إلى السبب تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.
    فقد يدفع : بأن منشأ إلحاق المثال بالشبهة الموضوعية هو كون الاشتباه في المصداق ، وإن كان تشخيص المصداق وإحرازه بالرجوع إلى الشارع.
    على أن كلامه يعم ما تقدم منا التمثيل به ، وهو الشك في المقدار الذي يغلي الماء من الحطب ـ وإن لم يمثل به شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ مع وضوح عدم الرجوع في تشخيصه للشارع أصلا.
    وأشكل من ذلك ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه من كون المثال الثاني ـ أيضا ـ من الشك في المحصل ، حيث ذكر أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه أرجع الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله بالطهور ، وأن المناسب للمقام فصلهما والكلام في كل منهما على حدة ، وكأنه غفل عن ذلك ، أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.
    لوضوح كون المثال المذكور أجنبيا عن الشك في المحصل جدا.
    نعم ، يشكل المثال المذكور : بأنه ـ بعد حمله على كون الوجوب ارتباطيا لا انحلاليا ـ إن اريد بوجوب صوم ما بين الهلالين وجوب صوم شهر كلي يتخير المكلف في تطبيقه على ما يشاء من الشهور ، فلزوم الاحتياط فيه وإن كان متينا ، لانشغال الذمة بالعنوان المذكور بما له من المفهوم الظاهر ، فيجب إحراز الفراغ

    عنه بتحقيق ما يقطع بانطباقه عليه.
    إلا أن هذا ليس من الدوران في المكلف به بين الأقل والأكثر ، لفرض صلوح المكلف به للانطباق على كل منهما ، فهو نظير : ما لو وجب إشباع الفقير واختلف الفقراء في مقدار ما يشبعهم ، وجهل حال فقير خاص.
    وإن اريد به وجوب شهر معين مردد بين المقدارين ، كشهر رمضان المعين ، فهو وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر بنفسه ، إلا أن الظاهر جريان البراءة فيه ، لرجوعه إلى وجوب صوم كل يوم واقع بين الهلالين ، بنحو يكون وقوع اليوم بين الهلالين شرطا في وجوب صومه ، فيرجع إلى الشك في عنوان التكليف ، نظير ما تقدم في الصورة الثانية.
    إن قلت : ما الفرق بين الوجهين بعد فرض أخذ حدّ واحد فيهما؟
    قلت : لما كان الحد مبينا بمفهومه مجملا بمصداقه ، فإن ورد التكليف على الكلي القائم بالمفهوم كان صالحا لتنجيز المفهوم ، فيجب إحراز الفراغ عنه بالفرد المتيقن انطباقه عليه.
    وإن ورد على الشخصي المعين لم يتنجز المفهوم لعدم ورود التكليف عليه ، ولا المصداق بحده الواقعي ، لفرض الإجمال فيه وعدم صلوح المفهوم لبيانه ، بل يتعين تنجيز خصوص المتيقن دخوله في الحد من المصداق.
    وبعبارة اخرى : انطباق العنوان في الأول شرط في صلوح الفرد للامتثال مع فعلية التكليف ، واللازم مع الشك في الامتثال الاحتياط ، وفي الثاني شرط لفعلية التكليف الضمني والمرجع مع الشك فيه البراءة.
    ومن هنا يتعين الفرق بين مثل وجوب إكرام علماء بلد بنحو يختار المكلف أي بلد شاء في مقام الامتثال ، ووجوب إكرام علماء بلد خاص ، فيجب الاحتياط بإحراز الاستيعاب في الأول ، دون الثاني ، بل يقتصر فيه على المتيقن الفردية.

    ثم إنه قد جعل بعض الأعاظم قدّس سرّه من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره.
    بدعوى : أنه بناء على ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة ، فالمانعية تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الأفراد ، ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، لأن الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الأفراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة ، فإذا شك في فردية اللباس الخاص له فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيدا للصلاة ، فيؤول الأمر إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية ، الذي تقدم منه جريان البراءة الشرعية فيه دون العقلية. ووافقه على ذلك في الجملة سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مبحث اللباس المشكوك.
    وفيه : أن مانعية غير المأكول ليست مجعولة شرعا ، بل هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدم استصحابه ، فلا بد من إحراز الصلاة المذكورة ، ولو بالأصل ، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازها. وليس الشك في سعة التكليف ، لعدم الإجمال في حدوده.
    وما ذكر من الشك في سعة المانعية لا يرجع إلى معنى محصل.
    إذ لو اريد بذلك نفس المانعية ، فهي غير مجعولة ، لتكون موردا للأصل.
    وإن اريد بها النهي عن الصلاة في غير المأكول ، بدعوى كونه انحلاليا مشكوك الشمول للفرد المشكوك ، فالنهي المذكور ليس مولويا ، لا نفسيا ولا غيريا ، بل هو للارشاد إلى تقييد الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير المأكول.
    وأما النهي الغيري فهو النهي عن استصحاب ما لا يؤكل لحمه تجنبا لمقارنة الصلاة له ، نظير الأمر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها ، وعدم

    العلم بالنهي المذكور بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، لعدم إحراز موضوعه ، لا يكون موردا لأدلة البراءة ، لعدم كونه بنفسه موردا للعمل والتنجيز والتعذير ، بل ليس موضوعها إلا التكليف النفسي ، وهو الأمر بالصلاة المقيدة ، والمفروض تنجزه ولزوم إحراز الفراغ عنه ، ولذا لا تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط ـ كالطهارة ـ الرافع لموضوع الأمر الغيري به ، وإن استلزم الشك في فعلية الأمر الغيري المذكور.
    وإن اريد بها تقييد الصلاة بعدم استصحاب غير المأكول الذي منه تنتزع المانعية ، فلا إجمال في التقييد المذكور بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.
    ودعوى : أن التقييد المذكور انحلالي ويشك في شمولاه للمشكوك.
    مدفوعة : بأن الشك المذكور لا يكفي في جريان الأصل ، لأن القيد بنفسه ليس موردا للتكليف الحقيقي الضمني أو الاستقلالي ، لفرض خروجه عن المكلف به ، وإنما يجب تبعا لوجوب المقيد ، وهو الحصة الخاصة المقارنة له.
    فإجمال القيد وتردده بين الأقل والأكثر إن رجع إلى إجمال الخصوصية المعتبرة في المكلف به ، فحيث لا منجز للخصوصية المشكوكة لم يتنجز المشكوك من القيد بتبعها ، كما لو فرض إجمال الاستقبال المعتبر في الصلاة وتردده بين استقبال الجهة العرفية واستقبال الكعبة الشريفة.
    أما إذا لم يوجب إجمال الخصوصية ، فحيث تكون الخصوصية في الواجب منجزة في نفسها ، لفرض بيان التكليف بها ، فلا بد من إحراز الفراغ عنها ولو بالمحافظة على مشكوك القيدية ، كما في المقام ، لوضوح أن الصلاة غير مقيدة بالافراد بخصوصياتها المفهومية ، ليكون إجمال الفرد مستلزما لإجمالها ، بل هي مقيدة بالافراد بلحاظ الجهة العنوانية المشتركة بينها ، على ما هي عليه من الشيوع وعدم الحصر ، وحيث كانت الجهة العنوانية المذكورة مبينة في نفسها كانت صالحة لبيان الحصة المطلوبة من الصلاة وتنجيزها ، فيجب إحراز الفراغ

    عنها بتحصيل ما يشك في فرديته للقيد من جهة الشبهة الموضوعية ، نظير ما تقدم في النهي الغيري.
    وهذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة الموضوعية في نفس المكلف به ، كما لو شك في كون المائع خمرا ، فإن الشك المذكور مساوق للشك في كون شربه شربا للخمر المحرم ، فيشك في سعة التكليف الضمني أو الاستقلالي به ، أو شك في وجود الساتر على بدن الأجنبية ، فيشك في كون النظر إليها من النظر المحرم ، وبيان عنوان التكليف الكلي في مثل ذلك لا يرفع الإجمال في مصداقه الذي هو التكليف الفعلي الذي يترتب عليه العمل ، فيجري فيه أصل البراءة.
    ولا يفرق في ما ذكرنا بين رجوع التقييد بعدم استصحاب ما لا يؤكل لحمه إلى التقييد بالعدم المطلق المقابل لصرف الوجود ، بنحو لو اضطر إلى نقض العدم في بعض الأفراد لم يجب حفظه في غيرها ، ورجوعه إلى التقييد بالعدم الساري ، بنحو يجب المحافظة على كل مرتبة منه عند تعذر غيرها.
    لعدم رجوع الثاني إلى التقييد بالخصوصيات الفردية بمفاهيمها المتباينة ، ليلزم إجمال المكلف به تبعا لاجمال الأفراد ، بل ليس التقييد إلا بالعنوان الجامع الذي لا إجمال فيه ، غايته أن القيد هو تمام المراتب المقدورة ، والتقييد بكل مرتبة منوط بتعذر ما فوقها على نحو الترتيب بين التقييدين ، فمع الشك في فردية بعض الخصوصيات المقدورة لا يحرز امتثال المأمور به ـ وهو الحصة المقارنة للمرتبة المقدورة ـ إلا بالمحافظة عليها.
    هذا ، حاصل ما تيسر لنا في توجيه عدم الرجوع للبراءة في المقام ونحوه ، خلافا لما ذكره العلمان قدّس سرّهما ، ولا مجال لتعقيب كلماتهما ، لظهور حالها بما ذكرناه. فتأمل جيدا.
    ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    التنبيه الثالث : في الشك في القاطعية
    ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في الفرق بين المانع والقاطع أن المانع هو الذي يكون عدمه معتبرا في المركب ، فيكون وجوده بنفسه مخلا به ، كالإخلال بسائر ما يعتبر فيه من الأجزاء والشروط ، والقاطع هو الذي لا يكون مخلا بنفسه ، بل بلحاظ قطعه للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الأجزاء ، بحيث يسقط به الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاجزاء اللاحقة بعد سبق قابليتها لذلك.
    هذا ، ولا يخفى أن مجرد سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للاجزاء اللاحقة بسبب حدوث بعض الامور لا يكشف عن اعتبار الهيئة المذكورة زائدا على الأجزاء والشروط ، بحيث يكون الأمر الحادث قاطعا لا مانعا ، بل يجري ذلك في حدوث المانع وغيره من موارد الإخلال بما يعتبر في المركب من الأجزاء والشروط ، فإنه مقتضى الارتباطية المفروضة ، حيث يكون كل جزء بنفسه صالحا للانضمام لغيره ليحصل منها المركب ويتحقق الامتثال به ، إلا أنه لا يعتبر في فعلية ذلك حصول تمام ما يعتبر في المركب من الامور الوجودية والعدمية.
    نعم ، للشارع أن يعتبر الهيئة الاتصالية بين الأجزاء بجعل زائد عليها ، بحيث يكون المكلف متلبسا شرعا بالعمل وإن لم ينشغل بشيء من أجزائه ، لتخلل سكون أو نحوه ، نظير اعتبار الاعتكاف مع خروج المعتكف عن المسجد لقضاء حاجة معتادة ، ونظير اعتبار الائتمام في الصلاة مع السكون وعدم الانشغال بشيء من أجزائها.
    وحينئذ يمكن للشارع جعل شيء قاطعا للهيئة المذكورة ، فيخرج به المكلف عن كونه منشغلا بالمركب بنظر الشارع ، وإن لم يكن للقاطع بنفسه دخل في نفس المركب ، فالقاطع بهذا المعنى مباين للمانع.

    وحيث لا مصحح للاعتبار الشرعي لأمر إلا فرض الآثار العملية الشرعية له في الجملة فلا بد من كون الهيئة المذكورة موضوعا لبعض الأحكام ، بحيث لو فرض انقطاعها لم يترتب الحكم المذكور ، نظير حرمة شمّ الطيب على المعتكف حال خروجه عن المسجد لقضاء حاجة معتادة.
    ولا يلزم من عروض القاطع بهذا المعنى سقوط ما وقع من الأجزاء عن قابلية الانضمام لبقيتها ، بل يمكن بقاؤها على قابلية الانضمام ، بأن يكتفي الشارع برجوع المكلف للانشغال بالمركب وإتمامه بعد الخروج عنه وانقطاعه ، بل هو مقتضى الأصل ، الذي لا بد في الخروج عنه من دليل يدل على أخذ الهيئة الاتصالية المذكورة وعدم انقطاعها قيدا في المركب ، ليكون القاطع مخلا بالمركب تبعا لإخلاله بها.
    وقد تحصل : أن القاطع بمعنى ما يسقط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة ليس مقابلا للمانع ، بل أعم منه ، ولا يتوقف على فرض الهيئة الاتصالية ، بل هو من لوازم الارتباطية المفروضة ، وبمعنى ما يقطع الهيئة الاتصالية موقوف على اعتبار الهيئة المذكورة شرعا ، ولا يستلزم سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة ، إلا أن يكون المركب المكلف به مقيدا بوحدة الهيئة المذكورة ، وفي مثل ذلك يكون القاطع مخلا بالعمل كالمانع ، وإن كان مباينا له.
    ثم إن بعض الأعاظم قدّس سرّه فرق بين المانع والقاطع : بأن المانع ما يكون حصوله حين الانشغال بالأجزاء مخلا بالمركب ، والقاطع هو الذي يخل مطلقا وإن وقع في حال عدم الاشتغال بالأجزاء ، لكشفه عن الهيئة الاتصالية زائدا على الأجزاء الخارجية.
    وما ذكره غير ظاهر ، إذ لا وجه لتخصيص المانع بذلك ، بل هو تابع لعموم دليله وخصوصه ، كما قد تختص قاطعية القاطع بخصوص حال تبعا لاعتبار من

    بيده الاعتبار.
    هذا ، وقد ظهر مما ذكرنا : أن بين القاطع بالمعنى الأول والقاطع بالمعنى الثاني عموما من وجه ، حيث كان المعيار في الأول بطلان العمل وان لم تفرض له هيئة اتصالية اعتبارية ، والمعيار في الثاني قطع الهيئة الاتصالية الاعتبارية وإن لم يبطل به العمل ، لإمكان إتمامه بعد انقطاعه.
    كما أن الانقطاع في كليهما ليس حقيقيا ، لتوقفه على فعلية الاتصال الحقيقي ، ولم يؤخذ في الأول الاتصال أصلا ، والمأخوذ في الثاني هو الاتصال الاعتباري لا الحقيقي.
    بقي في المقام أمران :
    الأول : الظاهر أنه لا مرجح لأحد المعنيين إثباتا ، فكما يمكن إطلاق القاطع بلحاظ سقوط الأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام للّاحقة لتكوين المركب الارتباطي المحقق للامتثال ، كذلك يمكن إطلاقه بلحاظ رفع الهيئة الاتصالية في فرض اعتبارها ، لأن كلا من الارتباطية والهيئة الاتصالية منشأ لفرض الوحدة في العمل المصححة لفرض انقطاعه وعدم إتمامه.
    وما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن إطلاق القاطع يكشف عن أن لأجزاء المركب هيئة اتصالية في نظر الشارع.
    غير ظاهر ، إن أراد به الهيئة الاعتبارية. بل إن ورد ذلك في مقام بيان عدم الاجتزاء بالعمل فالمتيقن منه المعنى الأول ، ولا طريق معه لإثبات اعتبار الهيئة زائدا على المركب الارتباطي.
    ومن ثمّ اطلق القاطع في النصوص على ما يعم المانع ، وفقد الشرط ونحوهما مما يخل بالمركب الارتباطي ، ولو مع عدم اعتبار الهيئة الاتصالية فيه ، حيث اطلق في الصلاة على القهقهة ، والكلام ، ونواقض الوضوء ، وخروج الدم الرافع للطهارة الخبثية ، والالتفات المنافي للاستقبال.

    بل اطلق على بعض المكروهات ـ كعبث الرجل بلحيته ـ بلحاظ منافاته لكمالها. فراجع النصوص المذكورة في أبواب قواطع الصلاة من الوسائل ، فإن التأمل فيها شاهد بأن المراد بالقاطع فيها ما ينافي العمل ويفسده ، وهو الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.
    الثاني : الشك في قاطعية شيء بالمعنى الأول إن رجع إلى الشك في اعتبار شيء في المكلف به كان المرجع ما تقدم في أصل المسألة.
    ولا مجال معه لاستصحاب عدم قاطعيته ، لعدم جعل القاطعية بالمعنى المذكور ، بل هي منتزعة من التكليف بالمقيد ، فلا بد من الرجوع للأصل فيه.
    ومثله استصحاب صحة العمل ، لعدم كون الصحة مجعولة أيضا ، ولا موضوعا للأثر الشرعي ، فإن موضوع التكليف نفس الفعل ، والمفروض تردده بين المطلق والمقيد ، وليست الصحة إلا منتزعة من مطابقة المأتي به للمأمور به ، وهي ـ مع عدم الاثر لها إلا الإجزاء العقلي ـ بالإضافة إلى المركب التام لا تحصل إلا بعد تمامه ، وبالإضافة إلى الأجزاء السابقة على حدوث مشكوك القاطعية مراعاة بتمامية المركب ، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الأجزاء ، فلا يعلم حصولها قبله كي تستصحب.
    نعم ، لو كان منشأ الشك في قاطعية شيء للمركب احتمال رافعيته لشرطه المتيقن الحصول أمكن استصحاب الشرط نفسه ، كما لو شك في قاطعية المذي للصلاة لاحتمال نقضه لشرطها وهو الطهارة.
    وأما الشك في قاطعية شيء للمركب بالمعنى الثاني المبني على فرض اعتبار الشارع لهيئته الاتصالية فيمكن معه استصحاب الهيئة المذكورة بعد كونها أمرا مجعولا ، كالطهارة ، فيترتب أثرها ، سواء كان هو صحة العمل والاجتزاء به ، كما لو فرض تقييد المكلف به ببقاء الهيئة المذكورة ، أم أمرا آخر.
    نعم ، الكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الأمور التدريجية

    التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود ، كالكلام والمشي ونحوهما ، الذي يأتي في مباحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
    وقد أطال غير واحد في المقام بما لا مجال لتعقيبه ، لاتضاح الحال فيه بعد ما ذكرنا. فراجع وتأمل جيدا.
    التنبيه الرابع : في الشك في الركنية
    إذا علم بأخذ شيء في المركب الارتباطي وشك في ركنيته فيه ، فهل الأصل ركنيته أو لا؟
    وينبغي ذكر مقدمة يتضح بها محل الكلام في المقام.
    فاعلم : أن عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة ، وإنما ذكر في كلمات الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام بتحقيق مفهومه ، وأنه هل يراد به ما يبطل العمل بنقصه سهوا فقط ، أو مطلقا ولو عمدا ، أو ما يعم بطلان العمل بزيادته سهوا أو عمدا ، بل ينبغي الكلام في الجهات المذكورة بنفسها ، للاهتمام بها في مقام العمل ، كما نبه له في الجملة شيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    نعم ، ينبغي التنبيه لأمرين :
    الأول : أن الكلام في ذلك لا يختص بالجزء ، وإن خصوه بالذكر في تحرير محل الكلام ، بل يعم الشرط الوجودي والعدمي ، لاختلاف الشروط في بعض هذه الجهات ، حيث لا يكون الإخلال ببعضها سهوا مبطلا للعمل ، كالطمأنينة.
    بل يمكن فرض الزيادة فيها ، وإن كان الظاهر عدم الإشكال عندهم في عدم بطلان المركب بها في ما هو محل الكلام ، وهو ما إذا كان المأخوذ الماهية بنفسها لا بشرط من حيثية الزيادة ، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص الكلام بالجزء.
    وشيخنا الأعظم قدّس سرّه وإن حرز النزاع في الجزء ، إلا أن ظاهر ما ذكره في

    مسألتي الزيادة العمدية والسهوية المفروغية عن عموم جهة الكلام للشرط.
    الثاني : جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه الكلام في جهات ثلاث : النقيصة السهوية ، والزيادة السهوية والعمدية.
    وظاهره خروج النقيصة العمدية عن محل الكلام ، لما صرح به من أن عدم بطلان المركب بنقص الجزء عمدا مناف لفرض جزئيته ، وتبعه في ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    لكن لا يخفى أن المعيار في جزئية الجزء وشرطية الشرط على أخذهما في المكلف به ، لدخلهما في الغرض الداعي للتكليف ، ولا يلزم من ذلك إلا عدم تحقق الامتثال ولا تمام الغرض بدونهما ، وهو لا يستلزم بطلان العمل ، إذ لا يراد ببطلانه في محل الكلام إلا عدم إجزائه بنحو تسقط معه الإعادة والقضاء ، ويكفي في الإجزاء بالمعنى المذكور تعذر تدارك الغرض التام أو قصوره عن جعل التكليف لحدوث المزاحم ، بسبب فعل الناقص وإن لم يف بشيء من الغرض ، فضلا عما إذا كان وافيا ببعض مراتبه ، ولا يختص الإجزاء بحصول الامتثال وتحقق تمام الغرض ، ليمتنع مع فرض نقص الجزء عمدا.
    نعم ، لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل ، فإن التكليف يدعو إلى متعلقه بتمام ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، وسقوط التكليف بغير الامتثال محتاج إلى دليل خاص.
    ومن ثمّ لا ينبغي إطالة الكلام في النقيصة العمدية.
    كما لا ينبغي إطالة الكلام في الزيادة السهوية ، إذ لا خصوصية لها في البطلان ، بل الزيادة في نفسها إن لم تخل بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخل به مع السهو بالأولوية ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه. وإن كانت مخلة به ، لفرض أخذ عدمها فيه ، كان الإتيان بها سهوا راجعا إلى الإخلال بالشرط سهوا ، فيلحقه حكم النقيصة.

    فينبغي قصر الكلام على مسألتين ..
    المسألة الاولى : في الإخلال ببعض ما يعتبر في المركب سهوا.
    ولا إشكال في إمكان صحة العمل معها بمعنى إجزائه عن الاعادة والقضاء ، كما وقع في كثير من أجزاء الصلاة وشروطها.
    ولتنقيح مقتضى الأصل في ذلك يقع الكلام في امور ..
    الأول : أن دخل الجزء في المركب لما كان متفرعا على دخله في ملاك التكليف به فلدخله بالوجه المذكور صورتان :
    الاولى : ألا يكون للنسيان دخل في الملاك ، بل يكون اقتضاء الملاك للتكليف بالتام مشتركا بين الملتفت والناسي.
    وهي على وجهين :
    الأول : ألا يكون للإتيان بالناقص من الناسي أثر في الملاك بوجه ، بل يبقى على ما هو عليه من فعلية التأثير في التكليف.
    الثاني : أن يكون الإتيان بالناقص من الناسي مانعا من بقاء التكليف بالتام وموجبا لسقوطه وإن لم يستوف ملاكه ، إما لكونه مانعا من استيفاء الملاك ، أو لكونه موجبا لحدوث جهة مزاحمة للملاك مانعة من تأثيره في التكليف ، وإن أمكن استيفاؤه بالإتيان بالتام ، نظير ما تقدم في العامد.
    الثانية : أن يكون الملاك مختصا بحال الالتفات لبا ، بحيث يختلف الملاك في حق الملتفت عنه في حق الناسي ، إما لتبدل الملاك في حقه ، أو لعدم توقفه على الجزء المنسي ، بل يحصل تمام الملاك منه بالفاقد له.
    والفرق بينها وبين الوجه الثاني من الصورة الاولى أن قصور الملاك عن تأثير التكليف بالتام في هذه الصورة يكون بمجرد عروض النسيان ، وفي الوجه المذكور لا يكون إلا بعد فعل الناسي للناقص.
    وإن كانا يشتركان في إجزاء الناقص من الناسي ، بخلاف الوجه الأول ، فإنه

    يتعيّن معه عدم الإجزاء ، كما لعله ظاهر.
    الثاني : إذا فرض عموم الملاك لحال النسيان تعين عموم التكليف للناسي لبا ، وليس النسيان كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف مع فرض عموم ملاكه ، بل هو كالجهل مانع من منجزيته ، لظهور كونه من شئون مقام الاثبات الدخيل في التنجيز ، لا من الامور الثبوتية الدخيلة في فعلية التكليف.
    فما تردد في بعض كلماتهم من قبح تكليف الناسي بالأمر المنسي إنما يتم إن رجع إلى قبح عقابه مع عدم تقصيره ، كما قد يعبر بذلك مع الجهل أيضا ، وهو المناسب للإجماع المدعى على التخطئة ، واشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.
    وما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من عدم توجه التكليف بالتام في حق الناسي ، غير ظاهر.
    وأشكل منه ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من تعليله بعدم القدرة عليه في هذا الحال.
    إذ لا ينبغي التأمل في عدم دخل الالتفات في القدرة ، لعدم السنخية بينهما بوجه.
    وأما دعوى : رافعية النسيان شرعا ، بمقتضى حديث رفع النسيان ، لحكومته على الاطلاقات الأولية ، وظهوره في الرفع الواقعي ، لأنه الأصل.
    فهي مدفوعة : بأن ذلك وإن كان ممكنا ، إلّا أن المناسبات تمنع من حمل الحديث عليه ، إذ بعد ما ذكرنا من كون النسيان من الجهات الاثباتية الدخيلة في التنجيز والمؤاخذة ، كالجهل ارتكازا فظاهر الحديث إرادة ذلك بالإضافة إلى الحكم المنسي ، كما هو الحال في الخطأ أيضا جريا على الارتكاز المذكور ، بل يتعين ذلك بلحاظ ما أشرنا إليه من الاجماع على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

    نعم ، قد يكون الرفع واقعيا بالإضافة إلى الآثار المترتبة على التنجز التي هي من سنخ الالزام والمؤاخذة ، كالكفارات والحدود ، كما هو الحال بالإضافة إلى رفع ما لا يعلم أيضا ، بخلاف مثل القضاء والاعادة المترتبين عقلا وشرعا على مجرد عدم الامتثال ، من دون أن يردا مورد الإلزام والمؤاخذة ، وقد تقدم في الاستدلال للبراءة بحديث الرفع ما ينفع في المقام.
    على أنه لو فرض كونه كالاضطرار مانعا من فعلية التكليف فمقتضى فرض عموم الملاك للناسي عدم الاجتزاء بالناقص منه ، كعدم الاجتزاء بالناقص من المضطر ، بل يجب عليه التدارك بالإعادة بعد ارتفاع نسيانه في الوقت ، لفرض عدم استيفائه الملاك ، كما يجب عليه التدارك لو نسي أصل الواجب.
    بل ذلك هو مقتضى إطلاق الخطاب ، لأن ثبوت التكليف في كل جزء من أجزاء الوقت ليس بعناية البقاء والاستمرار من اللاحق للسابق ، نظير الحكم الاستصحابي ، ليكون سقوطه في حال النسيان مانعا من فرض الاستمرار في ما بعده ، بل من حيث تمامية الموضوع فيه ، فامتناع ثبوته في بعض الأجزاء من جهة النسيان لا ينافي ثبوته في ما بعده ، لتحقق الموضوع فيه.
    وأما لو ارتفع النسيان بعد الوقت فوجوب القضاء مبني على إطلاق دليله ، فإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف تمامية ملاكه كان واجبا مطلقا ، وإن كان موضوعه عدم الإتيان بالواجب في ظرف فعلية وجوبه كان واجبا إن قلنا بعدم رافعية النسيان للتكليف ، وإلا لم يكن واجبا ، كما هو الحال في الاضطرار.
    نعم ، لو فرض كون المأتي به مانعا من استيفاء الملاك ، أو موجبا لحدوث المزاحم المانع من فعلية تأثيره في التكليف ـ على ما تقدم في الوجه الثاني من الصورة الاولى ـ تعين الاجتزاء به ، كما سبق.
    إلا أنه لا ريب في كون ذلك خلاف الأصل ، لأن سقوط التكليف بغير

    الامتثال محتاج إلى دليل ، كما أشرنا إليه في المخالفة العمدية.
    أما لو فرض تبدل حال الملاك في حق الناسي ، بحيث يكون الناقص منه وافيا بالملاك الثابت في حقه ـ كما تقدم في الصورة الثانية ـ تعين الإجزاء ، كما هو الحال في سائر موارد الامتثال الذي يكون الإجزاء فيه عقليا.
    وقد ظهر بما ذكرنا أن الإجزاء في الصورة الاولى وإن كان ممكنا إلا أنه خلاف الأصل ، أما في الصورة الثانية فهو المتعين.
    الثالث : مقتضى إطلاق الخطاب بالمركب الواجد للجزء ثبوت التكليف به في حق الناسي واشتراكه فيه مع الملتفت ، المستلزم لاشتراكهما في الملاك المقتضي للتكليف ، فيرجع إلى الصورة الاولى التي عرفت أن إجزاء الناقص فيها من الناسي خلاف الأصل.
    وربما يدعى قصور الإطلاق عن شمول حال النسيان لأن النسيان من الجهات الثانوية المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة ، وأنه لا بد في تعميم الحكم للنسيان أو قصوره عنه من جعل آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم له. كما التزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به.
    لكن تقدم منا دفع ذلك في مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي ، وذكرنا هناك ، أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق لعموم الحكم.
    على أنه لا ريب ظاهرا في أنه لو فرض قصور الإطلاق اللفظي عن إثبات عموم الحكم لحال النسيان كفى الإطلاق المقامي في ذلك ، لبناء العرف في تكاليفهم وخطاباتهم على العموم ، واحتياج التقييد بحال الالتفات فيها إلى عناية زائدة.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في المقام المذكور من التمسك للعموم بالإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.
    فهو لا يتم بناء على ما يظهر منه من التمسك بالإجماع على العموم مع

    دعوى تخصيصه في بعض الموارد ، إذ لا معنى لتخصيص العموم القطعي ، إلا أن يرجع إلى الاجماع على العموم الظاهري ، الذي يكون الدليل على خلافه واردا عليه لا مخصصا له.
    وهو بعيد جدا عن حال نقلة الإجماع.
    نعم ، لو ثبت عموم الإجماع ـ كما هو غير بعيد ـ أو خصوصه في بعض الموارد كان التمسك به في محله.
    وكيف كان ، فلا إشكال في البناء على عموم التكليف بالمركب التام للنسيان مع إطلاق دليله اللفظي أو المقامي.
    وقد ذكرنا أن إجزاء الناقص من الناسي حينئذ مخالف للأصل ومحتاج إلى دليل مخرج عنه.
    وأما إذا لم يكن لدليل الحكم إطلاق قاض بشموله لحال النسيان ، كما لو قام إجماع على التكليف بالمركب التام ، وفرض الشك في عمومه لحال النسيان ، فقد وقع الكلام في إمكان الاختلاف بين الملتفت والناسي في المكلف به ، بحيث يختص التكليف بالتام بالملتفت ، ويكلف الناسي بالناقص الذي يأتي به.
    ولا يخفى أن الكلام في ذلك فرع إمكان اختلافهما في الملاك ، كما تقدم فرضه في الصورة الثانية ، ولا ينبغي التأمل فيه ، وقد تقدم في مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي توجيه نظيره في الجهل ، حيث ذكرنا إمكان رافعية الجهل لفعلية الحكم. فراجع.
    إذا عرفت هذا ، فقد منع شيخنا الأعظم قدّس سرّه من اختلاف التكليف بالنحو المذكور ، بدعوى : أن الناسي غير قابل لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المنسي إيجابا أو إسقاطا.
    وكأنه راجع إلى أن الخطاب بالتكليف إنما يحسن مع إمكان الاندفاع عنه ،

    ليكون داعيا للمكلف نحو العمل ومنشأ للسبيل عليه ، وذلك إنما يتم مع إمكان التفات المكلف إلى تحقق موضوع التكليف في حقه ، وحيث يمتنع التفات الناسي إلى نسيانه إلا بعد ارتفاعه لم يصلح التكليف للداعوية نحو العمل في حقه ، فيكون الخطاب به لغوا.
    وقد حاول غير واحد توجيه تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي ، بحيث يكون الناقص منه امتثالا ، بأحد وجوه ..
    الأول : ما حكاه بعض الأعاظم قدّس سرّه عن بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن امتثال التكليف لا يتوقف على قصده تفصيلا ، بل يكفي قصده إجمالا ولو مع الخطأ في التطبيق ، ويتسنى للناسي قصد الأمر الفعلي المتوجه إليه الذي اخذ فيه النسيان ، وإن تخيل أنه الأمر المتوجه للملتفت ، لغافلته عن نسيانه.
    وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من عدم كفاية ذلك بناء على أن الدعوة والانبعاث عن الأمر من لوازم وجوده العلمي ، ومع فرض الغافلة عن النسيان وعدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه ولو إجمالا لا يكون الداعي والباعث إلا أمر الملتفت ، الذي لم يتوجه إليه حقيقة.
    ففيه : ـ مع الغض عن عدم وضوح دخل المبنى المذكور في ذلك ـ أن الغافلة عن النسيان إنما تستلزم عدم الالتفات إلى الأمر الذي يخصه تفصيلا ، ولا تنافي الالتفات إليه إجمالا بعنوان كونه الأمر الفعلي المتوجه إليه ، نظير الغافلة عن خروج الوقت المستلزمة لعدم الالتفات إلى أمر القضاء تفصيلا ، وإن أمكن الالتفات إليه إجمالا بالوجه المذكور.
    نعم ، قصد الأمر الواقعي بالوجه المذكور وإن كان ممكنا إلا أنه ليس بناؤهم ظاهرا على دوران الصحة مداره ، ودعوى تحققه دائما لا تخلو عن خفاء.

    على أن الكلام ليس في كيفية تحقق الامتثال بعد الفراغ عن إمكان الأمر بالوجه المذكور ووقوعه ، بل في أصل إمكان الأمر ، لعدم صلوحه للداعوية بعد فرض امتناع الالتفات إلى موضوعه ، ولذا يجري الإشكال في الأوامر التوصلية التي لا يعتبر في امتثالها القصد ، ومن الظاهر أنه لا يكفي في دفعه إمكان الالتفات بالوجه المذكور ـ كما ذكر ذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ ضرورة أن توجيه التكليف للناسي بالناقص لغو بعد فرض وقوعه منه على كل حال ، وإن لم يلتفت للتكليف أصلا.
    الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه وارتضاه غير واحد ممن تأخر عنه من توجيه خطاب واحد مشترك بين الذاكر والناسي بالأركان التي يبطل العمل بالإخلال بها حتى من الناسي ، ثم توجيه خطاب يخص الذاكر لبا ببقية الأجزاء التي لا يبطل الإخلال بها من الناسي.
    وفيه : أن ذلك إنما يتم مع عدم الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر ، حيث يكون في المقام أمران :
    الأمر بالاركان المشترك بين الملتفت والناسي ، والصالح للداعوية في حق كل منهما بعد التفاتهما إلى موضوعه.
    والأمر بالزائد عليها المختص بالذاكر والصالح للداعوية في حقه ، لفرض التفاته إلى موضوعه أيضا. أما مع فرض الارتباطية ووحدة الأمر في حق الذاكر فالمتعين اختصاص الأمر بالمطلق بالناسي ، فيعود الإشكال.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من عدم دخل الارتباطية بوحدة الخطاب ، بل هي منوطة بوحدة الملاك ، فرب ملاك واحد لا يستوفى إلا بخطابين.
    بل الذي يظهر من جملة من النصوص ان التكليف بالصلاة إنما كان بخطابين : خطاب من الله تعالى بما فرضه ، وخطاب من النبي صلّى الله عليه وآله بما سنّه وفرضه.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:51 am

    ففيه : أنه إن اريد من الخطاب مطلق بيان ما هو الدخيل في المكلف به أمكن تعدده مع وحدة الملاك ، كما في الأوامر الإرشادية المسوقة لبيان الجزئية والشرطية ، بل أمكن الاستغناء عنه بالإخبار عن حال الأجزاء والشروط مثل قولهم عليهم السّلام : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب».
    إلا أن مثل ذلك لا يكون منشأ لانتزاع الأمر ، ولا دخل له بالداعوية.
    وإن اريد من الخطاب الأمر المولوي الناشئ عن الإرادة التشريعية والصالح للداعوية ، فلا ينبغي الإشكال في وحدته تبعا لوحدة الملاك.
    وما ذكره في بعض الموارد من عدم استيفاء الملاك الواحد بجعل واحد ، بل لا بد من جعل آخر متمم للجعل الأول لا يرجع إلى محصل ظاهر ، كما ذكرنا ذلك في مبحثي التعبدي والتوصلي ، والقطع الموضوعي.
    وظهور بعض النصوص في تعدد الخطاب والجعل من الله سبحانه والنبي صلّى الله عليه وآله لا بد أن يحمل على إرادة الجعول والخطابات الاقتضائية مع وحدة الجعل والخطاب الفعلي المفروض فيه الارتباطية.
    إن قلت : لا بأس بانكار الارتباطية بين الأركان وغيرها في حق الذاكر ، بل لا مانع من تعدد التكليف ، نظير الواجب ، وعدم صحة امتثال أمر الأركان وحده إنما هو لكونه مفوتا لامتثال الأمر الثاني ومعجزا منه ، فيكون مبعدا يمتنع التقرب به ، نظير من نذر الصلاة في المسجد ، فصلى في غيره.
    قلت : لازم ذلك صحة امتثال أمر الأركان من المتردد في وجوب ما زاد عليها برجاء عدم وجوبه ، إذا غفل عن احتمال التفويت ، حيث لا يكون قاصدا للتفويت المبعد المانع من التقرب.
    على أن ذلك مختص بالعباديات ، ولا يجري في التوصليات التي تصح وتجزي وإن وقعت بوجه مبعد.
    فلا ينبغي الإشكال في الارتباطية بعد التأمل في ذلك ، وهي مستلزمة

    لاختلاف التكليفين ، واختصاص الناسي بالتكليف بالمطلق ، الذي هو مورد الإشكال.
    ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أنه لا اختلاف بين التكليفين الثابتين في حالي الذكر والنسيان بالذات ، بل بالحدود فقط ، فالتكليف المتوجه إلى المكلف حال نسيانه هو بعينه المتوجه إليه حال ذكره ، غير أنه في حال النسيان بحد لا يشمل الجزء المنسي ، فلا قصور في داعوية ذات التكليف المحفوظة بين الحدين التي عليها مدار الدعوة والاطاعة عقلا ، لعدم الغافلة بالإضافة إليها.
    وجه الاندفاع : أن اختلاف حد الواجب موجب لتعدده ، ومع تعدده يتعدد التكليف الذي هو موضوع الداعوية ، لتقوم التكليف بالمكلف به كما يتقوم بالمكلّف والمكلّف ، لأنه نحو نسبة قائمة بها ، وتعدد موضوع النسبة يوجب تعددها ، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بما عدا المنسي ، فيعود الإشكال.
    الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه أيضا من إمكان تخصيص الناسي بتكليف من دون أخذ عنوانه في الخطاب ، بل بأخذ عنوان آخر ملازم للنسيان صالح لأن يلتفت إليه الناسي حال نسيانه ، كي يندفع عن التكليف المنوط به ، ولا يلزم لغوية الخطاب المذكور.
    وأورد عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه بوجهين :
    أحدهما : أن ذلك مجرد فرض لا واقع له ، بداهة أنه ليس في البين عنوان يلازم نسيان الجزء دائما ، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر ، خصوصا مع تبادل النسيان في الأجزاء.
    ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن العنوان المذكور هو عنوان المتذكر لمقدار من الأجزاء الجامع بين البعض والتمام.

    وهو كما ترى! ضرورة أن العنوان المذكور لا يستلزم نسيان الجزء ولا يقتضي سقوط ما زاد على الأركان ، بل هو أعم من ذلك ضرورة أن المتذكر للبعض يشمل المتذكر للكل ، الذي يجب عليه التام لا غير.
    ثانيهما : أن العنوان المذكور حيث لم يكن هو الدخيل في التكليف حقيقة ، بل كان أخذه بلحاظ كونه معرفا وملازما لما هو الدخيل ـ وهو عنوان الناسي ـ لم ينفع إمكان الالتفات إليه ، بل المعتبر هو إمكان الالتفات لما هو العنوان الحقيقي للموضوع.
    لكنه يشكل .. أولا : بعدم الملزم بكون العنوان المذكور معرفا ، بل يمكن فرض كونه هو الموضوع حقيقة ، إذ الكلام في تخصيص الناسي بتكليف خاص ولو من جهة أمر يستلزم النسيان.
    وثانيا : بأن اعتبار إمكان الالتفات للعنوان إنما هو من جهة مقدميته للالتفات للتكليف ، ليمكن داعويته ، ويكفي في ذلك الالتفات للعنوان المعرف الذي لا دخل له حقيقة. ولعله لذا أمر قدّس سرّه بالتأمل.
    الرابع : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من إمكان وحدة التكليف في حالي النسيان والذكر ، بأن يكون المكلف به هو الطبيعة الجامعة بين التام في حق الذاكر والناقص في حق الناسي ، التي هي الجامع الصحيحي ، فيكون الفرق بينهما في المصاديق ، التي هي ليست موضوع الأمر ، ولا مورد الداعوية ، بل ليس الداعي إلا التكليف المشترك المذكور ، الذي يكون داعيا للناسي ، لالتفاته إليه ، وإن غفل عن خصوصية المصداق المأتي به منه.
    وفيه : أن ذلك ـ مع اختصاصه بما يكون من المركبات معنونا بعنوان شرعي خاص ، كالصلاة والحج ـ مبني على وجود الجامع الصحيحي وكونه موردا للأمر ، والجامع المنتزع من ترتب الأثر الواحد الذي اختاره هو قدّس سرّه ـ مع عدم تماميته في نفسه ـ لو كان موضوعا للامر لزم الرجوع مع الشك في اعتبار

    شيء في المأمور به إلى الاشتغال ، وهو خلاف مبناهم هنا ، على ما ذكر في محله.
    وتحصيل جامع غيره بين تمام أفراد الصحيح لا يخلو عن إشكال ، بل منع.
    نعم ، ذكرنا في محله إمكان تصوره في بعض مراتب الصحيح ، وهو خصوص ما يعتبر في تمام الأفراد الصحيحة ، كالتكبير ، والقراءة ، والركوع ، والسجود ، والتشهد ، والتسليم في الصلاة.
    وهو مستلزم لكون الفاقد لشيء منها لو فرض إجزاؤه فهو فرد ناقص مخالف بالحد للجامع المذكور ، فتكليف الناسي به مباين لتكليف الذاكر بالتام.
    كما أن ما زاد عليها من الخصوصيات قيود زائدة في الجامع المذكور ، فتخصيصها بالذاكر مستلزم لاختلاف الواجب في حق الذاكر والناسي بالحدود ، الموجب لتعدد الأمر ، ولازم ذلك اختصاص الناسي بالتكليف بالجامع المذكور لا بشرط الزيادة ، فيعود الإشكال.
    هذا ، تمام ما تيسر لي العثور عليه في كلماتهم في توجيه اختصاص الناسي بالتكليف ، وقد ظهر عدم تمامية شيء مما ذكروه.
    فالعمدة في المقام أن ما هو الثمرة لاختصاصه بالتكليف ، وهو لزوم الاجتزاء بالناقص في حقه لا يتوقف على فعلية تكليفه بالناقص ، بل يكفي فيه قصور ملاك التام في حقه واختصاص الملاك في حقه بالناقص ، وإن امتنع تكليفه فعلا به ، لوضوح أن تحصيل الملاك كاف في الإجزاء وإن لم يكن التكليف فعليا ، لامتناع الخطاب به عقلا ، كما في موارد المزاحمة.
    ومن هنا لو فرض عدم الإطلاق للخطاب بالتام الكاشف عن عموم ملاكه لحال النسيان ، فالمتيقن ثبوته في حال الذكر ، والبناء في حال النسيان على عدم الملاك له ، والاكتفاء بالناقص لو فرض تحقق ملاكه في حقه المستلزم للاجزاء.
    هذا ، ولكن حيث كان اختلاف الملاك بسبب النسيان منافيا للتخطئة

    وللإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل فلا مجال للبناء عليه.
    وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من تخصيص ذلك في بعض الموارد كالجهر والإخفات والقصر والإتمام.
    غير ظاهر ، بل ليس الثابت فيها إلا الإجزاء الذي هو أعم من تبدل الملاك ، كما يظهر مما تقدم.
    ودعوى : أن الإجماع مختص بما إذا احرز المقتضي للملاك من إطلاق الخطاب ، في قبال تصويب المعتزلة الراجع إلى رفع اليد عن إطلاق الأحكام الواقعية بأدلة الطرق ، فمرجعه إلى أن النسيان لا يكون رافعا للملاك في فرض ثبوت المقتضي له ، فلا يعم ما لو لم يثبت المقتضي له ، لعدم الإطلاق ، كما هو محل الكلام.
    مدفوعة : بأن قصور المقتضي للملاك عن حال النسيان ممتنع ، لتأخر النسيان رتبة عن التكليف المنسي ، فلا يكون مأخوذا في موضعه وملاكه ، فلا بد في إمكان قصور الملاك في حال النسيان من فرض كونه رافعا للملاك في فرض ثبوت مقتضيه ، على ما أشرنا إليه هنا ، وأطلنا الكلام في نظيره في مبحث القطع الموضوعي. فراجع.
    ثم إن الظاهر من حال المجمعين عدم الفرق بين الجهل والنسيان للحكم والموضوع ، فكما لا ترتفع الجزئية والشرطية بنسيانهما أو الجهل بهما ، كذلك لا يرتفعان بنسيان الجزء أو الشرط أو الجهل بعدم تحققهما ، بل الظاهر أن عدم ارتفاعه مع الجهل بالموضوع ونسيانه اتفاقي حتى من المصوبة.
    وكأن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إمكان اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي مبني على كون النسيان من الجهات الثبوتية الرافعة للتكليف الواقعي ، كالاضطرار ، لا من الجهات الإثباتية كالجهل ،

    وقد تقدم الكلام في ذلك.
    وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي من أن مقتضى الجمع بين أدلة الجزئية والشرطية ومثل حديث : «لا تعاد الصلاة ...» (1) مما دل على صحة صلاة الناسي هو عموم التكليف بالأركان وجزئيتها من المركب لحال النسيان ، واختصاص جزئية ما عداها بحال الذكر.
    فهو ـ لو تم ـ يقتضي الاختلاف بينهما حتى مع إطلاق دليل الجزئية والشرطية لحال النسيان ، مثل ما تضمن أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة.
    لكنه غير تام ، لأن مثل حديث : «لا تعاد ...» إنما يدل على إجزاء الناقص من الناسي ، وهو أعم من تكليفه به وعدم تكليفه بالتام ، كما تقدم.
    كيف! والظاهر شمول الحديث للجهل بالحكم ، بل هو صريح بعض النصوص الأخر ، مع أنه لا ريب في عدم تغير التكليف به.
    وبالجملة : الظاهر عدم اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي حتى مع عدم الإطلاق لدليل التكليف بالتام ، فإجزاء الناقص من الناسي يكون على خلاف الأصل ، لابتنائه على إجزاء غير الواجب عن الواجب ، على ما تقدم.
    الخامس : حيث تقدم ممن عرفت إمكان الشك في اختصاص الجزئية والشرطية بحال الذكر وقصورها عن حال النسيان ، فاللازم الكلام في تشخيص الوظيفة العملية في ذلك في مقامين ..
    المقام الأول : في مقتضى الأدلة الاجتهادية
    فاعلم أنه إن كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان فلا إشكال في العموم ، نظير قوله عليه السّلام في من لم يقرأ الفاتحة : «لا صلاة له إلا أن
    __________________
    (1) الوسائل ج : 4 ، باب : 1 من ابواب قواطع الصلاة حديث : 4.

    يقرأ بها» (1) ، وقوله عليه السّلام : «لا صلاة إلا بطهور» (2) ، سواء كان لدليل أصل الواجب عموم أو إطلاق أم لم يكن ، وسواء قلنا بأن النسيان من الروافع الواقعية للتكليف أم لم نقل.
    ولا مجال لتوهم أنه على الأول يستحيل جزئية الجزء حال النسيان فلا بد من تقييد الإطلاق المفروض.
    لاندفاعه : بأن مرجع الإطلاق المذكور إلى عدم مشروعية المركب بدون الجزء ، المستلزم لسقوطه تبعا لسقوط الجزء بالنسيان ، فيكون نسيان الجزء راجعا إلى نسيان المركب المستلزم لسقوط التكليف به فعلا ، وعوده بعد ارتفاع النسيان ، لعدم امتثاله ، كما لو نسي أصل الواجب ولم يتصد لامتثاله.
    ولذا يصح التمسك بمثل هذا الإطلاق لإثبات عموم الجزئية لمثل حال الاضطرار إلى ترك الجزء ، الذي لا ريب في كونه من الروافع الواقعية.
    ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : حكومة حديث رفع النسيان على العموم المفروض بنحو يقتضي سقوط جزئية الجزء في حال النسيان ، والتكليف بما عداه.
    لاندفاعها : بأن الحديث المذكور لا ينهض برفع الجزئية وحدها ، بل يقتضي رفع التكليف بالمركب التام ، لما ذكرناه غير مرة من عدم جعل الجزئية والشرطية ونحوهما بنفسها ، بل هي منتزعة من التكليف الاستقلالي بالمركب ، فيكون هو مورد الرفع ، من دون أن يثبت التكليف بالناقص.
    وبعبارة اخرى : مقتضى عموم الجزئية لحال النسيان عموم وجوب التام وعدم وجوب الناقص ، ونسيان الجزئية راجع إلى نسيان وجوب التام وتخيل
    __________________
    (1) الوسائل ج : 4 ، باب : 1 من ابواب القراءة حديث : 1.
    (2) الوسائل ج : 1 ، باب 1 من ابواب الوضوء حديث : 1.

    وجوب الناقص. كما أن نسيان الجزء في مقام الامتثال راجع إلى نسيان التام والإتيان بالناقص.
    وحينئذ إن اريد بالحديث رفع نفس الجزئية مع بقاء أصل وجوب المركب للالتفات إليه في الجملة وعدم نسيانه رأسا ، فيستلزم وجوب الناقص.
    فيدفعه : أن الجزئية ليست مجعولة ، لتصلح للرفع بنفسها.
    وإن اريد به رفع منشأ انتزاعها وهو وجوب التام.
    فهو لا يقتضي وجوب الناقص ، بل يكون الحال كما لو نسي التكليف رأسا.
    وإن اريد به إثبات التكليف بالناقص المتخيل تبعا لنسيان الجزئية ، أو المأتي به حين ترك الجزء.
    فهو خارج عن مفاد دليل رفع النسيان ، لتمحضه في الرفع فيه ، وليس شائبة الوضع.
    هذا كله مع ما تقدم في الأمر الثاني من أن رفع النسيان في الحديث الشريف ظاهري راجع إلى عدم المؤاخذة على المنسي ، من دون أن يقتضي رفعا واقعيا ، لينافي الإطلاق ، ويكون حاكما عليه. فراجع.
    ثم إنه لا يفرق في استفادة الإطلاق بين بيان الجزئية ونحوها باللسان المتقدم وبيانها بلسان الأمر أو النهي ، كقوله عليه السّلام في الميتة : «لا تصل في شيء منه ولا شسع» (1).
    وأما دعوى : أن الأمر والنهي حيث كان مفادهما التكليف القاصر عن حال النسيان تعين قصور الجزئية والشرطية والمانعية المسببة عنهما عنه.
    فهي ـ مع ابتنائها على كون النسيان رافعا واقعيا ـ مدفوعة : بأن الأوامر
    __________________
    (1) الوسائل : ج 3 من ابواب لباس المصلي حديث : 2.

    والنواهي المذكورة إنما تقتضي الجزئية ونحوها إذا كانت للإرشاد وبيان ماهية المركب ، ولا مانع من إطلاق مثلها لحال النسيان والاضطرار ونحوهما ، وأما إذا كانت واردة للتكليف النفسي فهي لا تدل على دخل متعلقها في المركب وجودا وعدما ، لتكون مما نحن فيه.
    وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن الاوامر والنواهي المذكورة حيث كانت غيرية فهي مسببة عن الجزئية ، فسقوطها في حق الغافل لا يقتضي سقوط الجزئية ، وليست الجزئية مسببة عنها. لتسقط في حال الغافلة تبعا لها.
    فهو ـ مع ابتنائه على كون الأمر الضمني بالجزء غيريا ـ مدفوع : بأن سقوط التكليف الغيري وإن لم يستلزم سقوط الجزئية التي هي منشأ له ، إلا أنه لا طريق لإثبات عموم الجزئية لحال النسيان بعد فرض قصور دليلها عنه.
    فالعمدة : أن الأوامر والنواهي المذكورة ليست متمحضة في الغيرية ، بل هي مسوقة للإرشاد للجزئية ونحوها والكناية عنها ، فلا مانع من إطلاقها لحال النسيان والاضطرار ونحوهما ، وإن كانت المقدمية للواجب هي المنشأ في المناسبة المصححة للكناية.
    بل الظاهر تمحض الأوامر والنواهي المذكورة في الإرشاد وليست غيرية ، ولذا وردت في ما لا يجب غيريا ، لكونه مقدمة لغير الواجب ، كقوله عليه السّلام : «استقبل بذبيحتك القبلة» (1) ، مع وضوح عدم وجوب التذكية.
    نعم ، لو كانت المانعية متفرعة على التكليف بوجوده الواقعي ـ كما لو فرض مانعية الحرير بما هو حرام لا بنفسه ـ تعين ارتفاعها بنسيان التكليف ، بناء على كونه رافعا واقعيا له.
    كما أنها لو كانت متفرعة على تنجز التكليف ـ كما في مانعية النهي من
    __________________
    (1) الوسائل ج : 16 ، باب : 14 من أبواب الذبائح كتاب الصيد والذبائح ، ح : 1.

    التقرب المعتبر في العبادة ـ تعين ارتفاعها بنسيان التكليف حتى بناء على ما ذكرناه في رافعيته.
    لكن هذا من نسيان التكليف الرافع للمانعية ، لا من نسيان المانعية أو المانع ، الذي هو محل الكلام ، ولذا لو التفت للتكليف وعصاه عامدا تحققت المانعية وإن نسيها المكلف حين امتثال المركب. فلاحظ.
    وأما إذا لم يكن لدليل الجزئية ونحوها إطلاق يشمل حال النسيان ، فإن كان لدليل بقية الأجزاء إطلاق أو عموم يقتضي عدم تقييدها بالجزء المشكوك ، تعين البناء على التكليف بالناقص في حق الناسي ، المقتضي للاجتزاء به منه ، للزوم الاقتصار في تقييد إطلاق التكليف بما عدا الجزء المنسي على المتيقن المفروض عدم شمولاه لحال النسيان ، وإلا لزم الرجوع للاصول العملية التي يأتي الكلام فيها في المقام الثاني.
    المقام الثاني : في مقتضى الاصول العملية وحيث كان المفروض الشك في مقدار التكليف حين النسيان فمقتضى أدلة البراءة الاكتفاء بالمتيقن ، وهو ما عدا الجزء المنسي ، بناء على ما تقدم من جريان البراءة في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهو ظاهر بناء على عدم ارتفاع التكليف واقعا بالنسيان ، للعلم حينئذ بالتكليف حين النسيان ودورانه بين الأقل والأكثر.
    أما بناء على سقوطه واقعا ، فيدور الأمر بين عدم التكليف رأسا ، لسقوط المركب بنسيان جزئه ، والتكليف بالناقص ، فلا يعلم بتكليف مردد بين الأقل والأكثر ، ليعلم بكون الناقص امتثالا للمتيقن المنجز منه.
    والأصل وإن لم يحرز الأول ، لمنافاته للامتنان ، إذ لا أثر لرفع التكليف حين النسيان إلا عدم الاجتزاء بالناقص المأتي به ووجوب الإتيان بالتام ، وهو ضيق على المكلف ، إلا أنه لا يحرز الثاني ، لتمحض دليله في الرفع ، وليس فيه

    شائبة الوضع.
    اللهم إلا أن يقال : سقوط التكليف لما لم يكن ملاكيا ، بل خطابيا مع بقاء الملاك بالنحو اللازم الاستيفاء ولو بعد الذكر ، فلا يبعد بناء العقلاء على الرجوع في الشك في الزائد إلى البراءة في مثل ذلك بنحو لا يحتاج إلى التدارك بالتام. فتأمل.
    أو يقال : الأصل وإن لم يحرز أحد الوجهين إلا أن رجوع التكليف بالتام بعد الالتفات لا دليل عليه بعد فرض احتمال إجزاء الناقص من الناسي ، لعدم اقتضاء الملاك في حقه لما زاد عليه ، بل الأصل عدمه.
    وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في الاكتفاء بالناقص من الناسي في الفرض المذكور ، سواء كان النسيان رافعا واقعيا أم ظاهريا.
    وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن أصل البراءة إنما يقتضي رفع الجزئية في حال النسيان ، لا في تمام الوقت ، إلا مع استيعاب النسيان له ، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت وجب عليه الإتيان بالتام ، عملا بإطلاق دليله ، لأن الواجب هو صرف وجود الطبيعة التامة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت ، ويكفى في وجوبها القدرة عليها في جزء منه ، لا في تمامه ، كما هو الحال في غير النسيان من سائر الأعذار ، حيث لا يجوز الاكتفاء بالناقص معها إلا مع استيعابها لتمام الوقت.
    ففيه : أن فرض الإطلاق لوجوب التام بنحو يكفي تجدد القدرة عليه بعد النسيان ، خارج عن محل الكلام ، بل المفروض إجمال الخطاب بالواجب من هذه الجهة ، والمتيقن حال النسيان وجوب الناقص المفروض امتثاله ، فيكون كما لو امتثل المسافر أمر الصلاة بالقصر ، ثم دخل بلده في الوقت.
    وعدم الاكتفاء بالناقص في سائر الأعذار مع عدم استيعابها لتمام الوقت موقوف على فرض الإطلاق المذكور ، لا مع عدمه ، كما يأتي في التنبيه الثاني إن

    شاء الله تعالى.
    ومثله ما ذكره أيضا من أنه لو طرأ النسيان في أثناء الوقت فمقتضى الاستصحاب وجوب التام الثابت في أول الوقت ، للشك في سقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت.
    لاندفاعه .. أولا : بأنه لا مجال له بناء على ما يظهر منه قدّس سرّه من كون النسيان رافعا واقعيا للتكليف بالتام ، للعلم معه بانتقاض الحالة السابقة ، المقتضي للرجوع بعد الذكر لاستصحاب عدم التكليف ، أو لأصل البراءة منه.
    الثاني : بأنه لا مجال للاستصحاب مع احتمال أخذ الذكر في موضوع التكليف بالتام لدخله في ملاكه ، لرجوع ذلك إلى عدم اليقين من أول الأمر بوجوب التام تعيينا ، بل يحتمل التخيير من أول الأمر بين التام الحاصل حين الذكر ، والناقص الحاصل حين النسيان. فلاحظ.
    هذا ، وقد ذكر بعض مشايخنا أنه لو فرض انحصار الامتثال بالعمل الذي وقع النقص فيه كان لازم عموم الجزئية لحال النسيان بطلانه وتعذر الامتثال المسقط للتكليف ، ولازم اختصاصها بحال الذكر صحته ووجوب إتمامه ، وحينئذ مقتضى الأصل الأول ، لأصالة البراءة من وجوب الإتمام ، فلو وجب صوم يوم معين ، فنسي المكلف وأكل فيه ، ثم التفت وشك في اختصاص الإمساك المنسي بحال الذكر المستلزم لوجوب إتمام صوم ذلك اليوم ، وعموم جزئيته المستلزم لبطلانه وجواز تركه كان له البناء على الثاني.
    أقول : بناء على ما ذكرنا من عدم كون النسيان مسقطا واقعيا للتكليف التام الملاك ، فالمكلف بعد الالتفات يعلم بثبوت التكليف في حقه حين النسيان قبل ترك الجزء إما بالتام أو بالناقص ، الراجع إلى العلم بالتكليف بالناقص مرددا بين كونه بشرط التمامية وكونه لا بشرط ، ويحتمل سقوط التكليف المذكور بفوت الجزء ، لاحتمال كون التكليف بالتام المتعذر به ، فمقتضى الاستصحاب بقاء

    التكليف المذكور على ما هو عليه من التردد ، وإن استلزم التكليف بالناقص بنحو اللابشرط الذي هو مشكوك الحدوث ، لأن تنجيز الناقص لا يعتبر فيه إحراز التكليف به بنحو اللابشرط ، ليكون الأصل مثبتا ، بل يكفي فيه إحراز التكليف به في الجملة مرددا بين الوجهين ، الذي هو عين المستصحب ، ولذا تقدم في أصل مسألة الدوران بين الأقل والأكثر أن العلم بالأقل على ما هو عليه من الترديد صالح لتنجيزه.
    نعم ، بناء على أن النسيان مسقط للتكليف بالتام واقعا لا مجال للاستصحاب ، فإن المتيقن قبل النسيان هو وجوب التام ، الذي لا يدعو للأقل إلا في ضمن التام ، وهو معلوم السقوط ، غاية الأمر أنه يحتمل تعقبه بالتكليف بالناقص بسبب النسيان ، والأصل عدمه ، ولا مجال لاستصحابه ، فتأمل.
    إلا أن يفرض وجوب القضاء على تقدير الفوت ، حيث يعلم حينئذ إجمالا بوجوب المضي في الناقص أو قضاء التام ، فيلزم الاحتياط بالجمع بينهما.
    وربما يأتي في التنبيه الخامس توضيح ذلك.
    وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن الأصل عدم إجزاء الناقص من الناسي فيما إذا كان لدليل الجزئية إطلاق يشمل حال النسيان ، بل مطلقا بناء على ما ذكرناه في الأمر الثالث من عدم اختلاف الملاك بين الناسي والذاكر.
    فلا بد في الاجزاء من دلالة الدليل المخرج عن مقتضى الأصل المذكور ، من باب إجزاء غير الواجب عن الواجب ، كما دل الدليل عليه في الصلاة في مثل موارد : «لا تعاد ...» وفي الصوم والحج وغيرهما مما يوكل تفصيله إلى الفقه.

    تنبيه
    لا يختص ما ذكرناه بالنسيان ، بل يأتي في الجهل بالحكم أو الموضوع ، بل الظاهر منهم عدم احتمال الاختلاف بين العالم والجاهل في الحكم الواقعي ، فلا يحتاج تعميم الجزئية لحال الجهل إلى الإطلاق ، ولازمه أصالة عدم إجزاء الناقص من الجاهل إلا بدليل خاص ، قد ورد في بعض الموارد ، كما ورد في النسيان.
    وتخصيص محل الكلام بالنسيان إنما كان تبعا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه ولاختصاص بعض مبانيهم به ، وإلا فاحتمال خصوصيته صدق الركن عندهم بعيد. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.
    المسألة الثانية : في الزيادة.
    وينبغي تمهيد محل الكلام بأمرين ..
    الأول : من الظاهر أن الزيادة والنقيصة من العناوين الإضافية ، فلا تصدقان إلا بلحاظ جهة متقومة بالحد ، ليكون ما زاد عليه زيادة وما نقص عنه نقيصة ، فالانسان ذو الأصابع الأربع أو الست مثلا لا يكون ناقصا او زائدا بالإضافة إلى طبيعة الانسان لوقوعها بالوجهين ، بل بالإضافة إلى خصوص الإنسان الشائع المتعارف ، وصلاة الثلاث ركعات زائدة بالإضافة إلى صلاة الصبح ، وناقصة بالإضافة إلى صلاة العشاء ، وتامة بالإضافة إلى صلاة المغرب.
    هذا ، وحيث كان الكلام هنا في الزيادة في الامتثال على المأمور به ، فمنشأ الإضافة هو الأمر بلحاظ تعلقه بالمركب ذي الأجزاء التي يمكن الامتثال بما زاد عليها أو نقص عنها.
    كما أن الظاهر أن انتزاع الزيادة متفرع على وحدة الشيء المزيد فيه ، بحيث تكون الزيادة جزءاً منه ، لا خارجة عنه ، فلا بد من فرض جهة مصححة لانتزاع الوحدة بينها وبين العمل الذي به الامتثال ، كالوحدة الخارجية المنتزعة

    من اتصال الأجزاء في مثل الماء الواحد والدرهم الواحد ، والوحدة العرفية المنتزعة من اجتماع الأجزاء بوجه خاص ، كوحدة الدار والبستان والبذرة.
    وأما الماهيات الشرعية ، كالصلاة والحج ، فحيث لا وحدة لها حقيقية ولا عرفية ، فلا بد من كون منشأ الوحدة فيها هو قصد الامتثال بالعمل ، المستلزم لعدم صدق الزيادة فيه إلا بقصد الجزئية في الزائد ، ولا يكفي فيه مجرد مقارنة الشيء الخارج عن المأمور به للامتثال ، سواء كان الزائد من سنخ الأجزاء كسجود الشكر في أثناء الصلاة ، أم من سنخ آخر كوضع اليدين على الفخذين ، والنظر إلى السماء ، والإشارة ، لعدم كون المقارنة بنفسها منشأ لانتزاع الوحدة المذكورة ، وإلا لزم صدقها على مثل النفس ولحظ العين وغيرهما ، بل لم يمكن خلو الامتثال عن الزيادة بالمعنى المذكور ، وهو مما يقطع بعدم إرادته في المقام.
    نعم ، إذا كان الفعل الخارج عن المأمور به من سنخ الأجزاء المأمور بها ، وكان له وجود معتد به ، وكان للمركب هيئة اتصالية ولو من جهة التعارف فقد يصح إطلاق الزيادة عليه توسعا بلحاظ الوحدة الحاصلة من الهيئة المذكورة.
    وعليه قد يحمل ما في خبر زرارة عن أحدهما عليهما السّلام «قال : «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ، فإن السجود زيادة في المكتوبة» (1) ، لوضوح أن سجود العزيمة لامتثال أمره لا لامتثال أمر الصلاة ، ليكون زيادة فيها.
    وأما ما في خبر علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم أيركع بها أو يسجد ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال : «يسجد ثم يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع ، وذلك زيادة في الفريضة ، ولا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» (2).
    __________________
    (1) الوسائل ج : 4 ، باب : 4 من ابواب القراءة في الصلاة حديث : 1.
    (2) الوسائل ج : 4 ، باب : 4 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح : 4.

    فلعل المراد بالزيادة فيه نفس سورة العزيمة ، لقصد الامتثال بها مع خروجها عن المأمور به ، لا سجدتها.
    ثم إن الاقتصار في الخبر على مورده أو تعميمه لغيره عملا بعموم التعليل موكول إلى الفقه ، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا.
    الثاني : لا إشكال في صدق الزيادة في ما لا يكون من سنخ أجزاء المركب لو نوى به الجزئية ، وكذا ما يكون من سنخها إذا جيء به في غير محله أو على غير وجهه المشروع ، كما لو قرأ السورة قبل الفاتحة في الصلاة ، أو جهر في موضع الإخفات ، بناء على أن الجهر شرط في جزئية الجزء لا في أصل المركب.
    وأما إذا جيء به مع ما هو المشروع من سنخه وفي محله ، كما لو ركع مرتين أو سجد ثلاثا في ركعة واحدة ، فيختلف الحال باختلاف صور أخذ الجزء في المركب ، إذ الجزء ..
    تارة : يكون هو الطبيعة الصادقة على القليل والكثير ، بحيث يكون كل منهما بحده تمام الجزء ، نظير ما يذكر في تقريب التخيير بين الأقل والأكثر.
    واخرى : يكون هو الأكثر بحده.
    وثالثة : يكون هو الأقل بحده بشرط لا ، بحيث لو زاد وأخل بالحد خرج الكل عن الجزئية.
    ورابعة : يكون هو الأقل بحده لا بشرط ، فالزيادة وإن خرجت عن الجزء لا تخل بجزئيته.
    ولا مجال لفرض الزيادة في الصورتين الاوليين ، بل تختص بالأخيرتين ، غايته أنها في الثالثة تستلزم النقيصة ، لتعذر الجزء وهو الأقل بحده بسببها.
    إلا أن يفرض بطلان الجزء ببعض مراتب الزيادة بخصوصها ، فيمكن حينئذ استئنافه بعدها. نظير ما ورد في من زاد في تسبيح الزهراء عليها السّلام على أربع

    وثلاثين تكبيرة من لزوم استئناف الرابعة والثلاثين (1).
    إذا عرفت هذا ، فلا ريب في أصالة البطلان بالزيادة فيما لو رجعت إلى الإخلال بما يعتبر في الواجب ، لأخذ عدم الزيادة شرطا في جزئية الجزء ، مع تعذر تداركه ، أو مع إمكانه وتركه ، وإن كان البطلان في الثاني لا يستند للزيادة ، بل لترك التدارك بعدها الراجع الى النقيصة ، بل هو في الأول وإن استند للزيادة ، إلا انه من جهة استلزامها النقيصة ، لا بعنوان كونها زيادة.
    وأما في غير ذلك فلا بد في قادحية الزيادة من دليل ، وبدونه فالأصل عدمها ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في المانعية الذي هو مورد البراءة ، كالشك في الشرطية ، بل هو راجع إليه ، لأن مانعية شيء من المركب ترجع إلى اعتبار عدمه فيه.
    وأما الاستدلال على مبطلية الزيادة : بأنها تغيير لهيئة العبادة الموظفة ، فتكون مبطلة ، كما أشار إليه في المعتبر.
    فقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأنه إن اريد تغيير الهيئة المعتبرة في المركب فالصغرى ممنوعة ، لأن اعتبار الهيئة الخاصة التي تخل بها الزيادية أول الدعوى.
    وإن اريد أنه تغيير للهيئة المتعارفة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا.
    نعم ، قد يستشكل في الزيادة بأنها بعد أن كانت موقوفة على قصد الجزئية كانت مبتنية على قصد أمر آخر غير الأمر الواقعي مشتمل على الزيادة المذكورة ، فلا يتحقق امتثال الأمر الواقعي ، بل امتثال الأمر الاختراعي المفروض ، فلا يصح العمل لا من حيثية الزيادة ، بل من حيثية التشريع وعدم
    __________________
    (1) الوسائل ج : 4 ، باب : 21 من ابواب التعقيب من كتاب الصلاة حديث : 4.

    قصد امتثال الأمر.
    لكنه ـ مع اختصاصه بالعبادة ـ إنما يتم لو رجع إلى قصد امتثال أمر آخر غير الأمر الواقعي ، تشريعا ، أو سهوا في أصل الأمر ، كما لو اعتقد وجوب الظهر عليه ، فصلى أربعا وكان الواجب عليه في الواقع الجمعة ، أو غفلة في امتثاله ، كما لو صلى المسافر ثلاث ركعات بنية امتثال أمر المغرب غفلة عن أنه قد صلاها ، وأنه لا يجب عليه إلا ركعتين للعشاء.
    وأما مع قصد الأمر الواقعي ولو إجمالا والتصرف فيه تشريعا أو سهوا ، بأن اعتقد اشتماله على الزيادة ، أو في امتثاله بأن قصد بالزيادة الامتثال ، لاعتقاد عدم سقوط أمر الجزء غفلة عن الإتيان به ، أو لتخيل إمكان تبديل الامتثال ، فلا وجه للبطلان ، لعدم منافاة الضميمة المذكورة للتقرب المعتبر.
    إلا أن يفرض أخذ الضميمة قيدا في الامتثال ، بأن يكون امتثال الأمر الواقعي بالأجزاء الواقعية معلقا على الامتثال بالزيادة ومقيدا به ، فيتعين بطلان العمل ، لعدم وقوع الامتثال تبعا لعدم وقوع قيده الذي انيط به.
    ودعوى : أن الامتثال من الأفعال الخارجية الجزئية غير القابلة للتقييد ، كالضرب والقيام ، فلا بد من كون الضمائم المذكورة من سنخ الداعي أو محض المقارن ، فلا تكون مضرة بفعلية الامتثال.
    مدفوعة : بأن الأفعال الخارجية الجزئية التي لا تقبل التعليق هي الافعال الخارجية المستندة لأسبابها التكوينية ، إذ مع تحقق أسبابها يستحيل انفكاكها عنها ، فلا معنى لتعليقها.
    وأما إذا كانت قصدية ـ كالامتثال ـ فتمام علتها بالقصد القابل لأن يتعلق بالأمر التنجيزي ، كما يقبل أن يتعلق بالأمر التعليقي ، ولذا لا إشكال في قابلية العقود والإيقاعات للتعليق ، بمعنى تعليق الأمر المنشأ.
    نعم ، التقييد والتعليق بالوجه المذكور محتاج إلى مئونة وعناية لا يجري

    الإنسان عليها بحسب طبعه وارتكازياته في مقام الامتثال ، بل لا تخرج الضمائم المذكورة عن الداعي أو الاعتقاد المقارن المحض الذي لا يخل بفعلية الامتثال.
    ودعوى : أنه مع التشريع يحرم العمل ، فيمتنع التقرب به.
    مدفوعة : بأن التشريع إنما يقتضي حرمة الزيادة التي يؤتى بها بداعي الأمر الضمني التشريعي ، لا حرمة غيرها مما لا دخل للتشريع في الداعوية له ، بل لا يؤتى به إلا بداعي الأمر الواقعي ويكون امتثالا.
    ومجرد مقارنته للتشريع في الأمر وفرضه على خلاف واقعه لا يقتضي حرمة بقية الأجزاء وامتناع التقرب بها بعد عدم دخله في الداعوية لها.
    وبالجملة : لا يكفي في حرمة العمل ومبعديته مقارنته للتشريع ، بل لا بد من استناده إليه ، وهو مختص بالزيادة ، وحرمتها لا تمنع من التقرب ببقية أجزاء المركب وتبطله.
    هذا ، وربما يتمسك لعدم قادحية الزيادة ، بل غيرها مما يحتمل قادحيته ـ مضافا إلى الأصل المذكور ـ ..
    تارة : باستصحاب صحة العمل.
    واخرى : بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(1) فإن وجوب المضي في العمل يستلزم صحته وعدم بطلانه بالزيادة.
    وقد أطال شيخنا الأعظم قدّس سرّه الكلام في الوجهين بما لا مجال لتعقيبه.
    لكن أشرنا إلى اندفاع الأول في التنبيه السابق عند الكلام في الشك في القاطعية.
    ويندفع الثاني : بظهور الآية الكريمة في أن المراد من الإبطال الاحباط
    __________________
    (1) سورة محمد : 33.

    بالنفاق والشقاق لله تعالى ولرسوله ونحوهما ، كما يناسبه صدرها وسياقها مع قوله تعالى قبلها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(1) ، واستشهاده صلّى الله عليه وآله بها لذلك في خبر أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال : رجل من قريش : يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. فقال : نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أن الله عزّ وجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)» (2).
    مضافا إلى أن الشك في المقام في تحقق البطلان بالزيادة الرافع لموضوع الإبطال بعدها ، فلا يحرز شمول الآية له ، لا في جواز الإبطال بعد فرض الصحة ، كما لا يخفى. فالعمدة في تقريب الأصل ما ذكرناه.
    بقي في المقام أمران :
    الأول : ان الأصل وإن كان يقتضي عدم مبطلية الزيادة ونحوها مما لم يقم دليل على قادحيته في العمل ـ كما تقدم في أصل المسألة ـ إلا أن ذلك قد يشكل في الصلاة ونحوها مما يحرم قطعه على تقدير صحته بحدوث علم إجمالي في المقام ينجز احتمال القادحية ، للعلم إجمالا معه إما بصحة العمل المقتضية لوجوب إتمامه أو ببطلانه المقتضي لوجوب استئنافه ، ومنجزية العلم الإجمالي المذكور تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من المانعية المقتضية للاستئناف كما
    __________________
    (1) سورة محمد : 32.
    (2) الوسائل ج : 4 باب : 31 من ابواب الذكر حديث : 5.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:52 am

    تمنع من الرجوع لأصالة البراءة من وجوب الاتمام ، فيتعين الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة.
    ودعوى : أن أصالة البراءة من قادحية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل ووجوب إتمامه ، فينحل بذلك العلم الإجمالي.
    مدفوعة : بأن أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي وصحته الذي هو موضوع وجوب الاتمام ، وإنما تقتضي المعذورية من احتمال البطلان ، وليس هو موضوع وجوب الإتمام.
    ومثلها دعوى التمسك لذلك باستصحاب الصحة. لما تقدم من الإشكال في الاستصحاب المذكور.
    فلعل الأولى أن يقال : إن العلم الإجمالي المذكور ـ لو تم ـ لا يقتضي المنع من الزيادة ، ولا ينجز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها ، بل هو مترتب على الإتيان بها ، فالزيادة شرط في حدوث العلم الإجمالي المذكور ، وحيث كان الظاهر عموم حديث : «لا تعاد ...» في الصلاة للجهل ونحوه من الأعذار ، ولا يختص بالسهو ، فهو يقتضي عدم قادحية الزيادة في المقام ، للإتيان بها جهلا بعد فرض عدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيز احتمال قادحيتها قبل الإتيان بها ، فيعلم بصحة الصلاة معها ووجوب المضي فيها ، إما لعدم قادحيتها ذاتا ، أو من جهة تحقق العذر فيها ، ولا مجال مع ذلك لفرض العلم الإجمالي المذكور.
    نعم ، لو كان احتمال قادحية الزيادة قبل الإتيان بها منجزا ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ لم يبعد قصور حديث : «لا تعاد ...» عنه ، واتجه فرض العلم الإجمالي المذكور.
    كما يتجه بناء على اختصاص الحديث بالسهو وعدم شمولاه للجهل.
    هذا كله بناء على عموم حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو يقتضي الاحتياط ، وأنه لا مجال للاحتياط إلا بالإتمام ثم الاستئناف.

    وأما بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك ، لأن تجنب صعوبة التكرار مع الرغبة في الاحتياط من جملة الأغراض العقلائية المسوغة للقطع ، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي حتى في الموردين المذكورين ، بل غاية ما يحصل في المقام هو احتمال بطلان العمل بما يحتمل قادحيته ، فلا مانع من
    التنبيه الخامس : في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي
    إذا تعذر بعض ما يعتبر في الواجب ، ودار الأمر بين عموم اعتباره لحال تعذره المستلزم لسقوط التكليف بالواجب رأسا ، تبعا لتعذر قيده ، واختصاصه بحال القدرة عليه ، المستلزم لبقاء التكليف بما عدا المتعذر ، فهل الأصل يقتضي الأول أو الثاني؟
    والكلام في ذلك في مقامين ..
    الأول : في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر إلى الأدلة الاجتهادية أو الاصول العملية.
    فاعلم أن في المقام صورتين ..
    الاولى : أن يكون لدليل اعتبار الأمر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر. ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق المفروض سقوط الواجب بتعذره ، بمقتضى فرض الارتباطية لتعذر المقيد بتعذر قيده.
    ولا مجال معه لاستصحاب التكليف بالوجه الذي يأتي الكلام فيه ، لكونه محكوما للإطلاق المذكور.
    ودعوى : أن سقوط وجوب المركب بمقتضى الإطلاق لا ينافي وجوب الناقص بدلا عنه أو لكونه الميسور منه ، فإن قوله عليه السّلام : «لا صلاة إلا بطهور» مثلا إنما يقتضي توقف الصلاة على الطهور المستلزم لسقوط وجوبها بتعذره ، وهو لا ينافي وجوب المركب الخالي عنه لكونه الميسور من الصلاة أو لكونه بدلا

    عنها ، واحتمال ذلك مصحح للاستصحاب.
    مدفوعة : بأن الإطلاق المفروض في محل الكلام هو إطلاق اعتبار الشيء في الواجب ، المستلزم لسقوط الواجب بتعذره ، لا إطلاق اعتباره في المركب الذي يجب في بعض الأحوال ، بنحو قد يخلفه غيره ، فإن ذلك خارج عن محل الكلام ، لعدم استلزامه إطلاق اعتباره في الواجب. فلاحظ.
    هذا ، وقد تقدم في النقيصة السهوية من التنبيه السابق الكلام في بعض ما يستفاد منه الإطلاق بما لا حاجة معه لإطالة الكلام فيه هنا ، لأن المقامين من باب واحد.
    الثانية : ألا يكون لدليله إطلاق ، وحينئذ فإن كان للتكليف بباقي الأجزاء إطلاق يشمل صورة تعذر الأمر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على حال القدرة عليه والبناء على عدم جزئيته في حال تعذره ، المستلزم لعدم سقوط المركب حينئذ.
    وإلا لزم البناء على الإجمال والرجوع للأصل العملي ، من الاستصحاب أو البراءة.
    أما الاستصحاب فقد يتمسك به لإحراز وجوب الباقي للعلم بوجوبه سابقا حين القدرة على التام ويحتمل بقاء التكليف به بعد التعذر.
    وفيه : أن المعلوم سابقا هو وجوبه ضمنا في ضمن التكليف بالتام ، وهو معلوم الارتفاع بسقوط التام ، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي له بعده ، والأصل عدمه.
    ودعوى : أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن سابقا ، لوجوده في ضمنه ، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود ، وهو لا يوجب تعدد المحدود ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.
    مدفوعة : بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إن رجع إلى

    اختلاف مرتبة الوجود الواحد ، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد الشديد ، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما ، فإن كلا من الوجوبين محتاج إلى جعل مستقل يباين جعل الآخر ، وليس أحدهما بقاء للآخر ، لتقوم التكليف بمتعلقه على ما هو عليه من الحد الملحوظ للجاعل ، فلا بد مع اختلاف الحدين من اختلاف الجعل ، الموجب لتعدد المجعول. فلاحظ.
    وأما استصحاب كلي الوجوب الجامع بين الوجوب الضمني والاستقلالي ، الثابت سابقا للباقي والمشكوك في بقائه بعد التعذر فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو لا يجري على التحقيق.
    على أنه لو كان يجري في نفسه لكان مختصا بما إذا كان الأثر للكلي ، والأثر في المقام للفرد ، وهو الوجوب الاستقلالي ، والاندفاع إنما يكون عنه ، لا عن كلي الوجوب ، بل ليس الاندفاع مع الوجوب الضمني إلا عن الوجوب الاستقلالي ، إذ ليس الوجوب الضمني إلا تحليليا ، لا يكون موردا للأثر بنظر العقلاء.
    وإحراز كون الوجوب استقلاليا باستصحاب الكلي مبني على الأصل المثبت.
    ومثله في ذلك استصحاب الوجوب الاستقلالي للعنوان ـ كالصلاة ـ لإحراز تحققه بالناقص وكونه فردا اضطراريا له.
    نعم ، قد يتمسك باستصحاب الوجوب الاستقلالي للناقص فيما إذا كان متحدا مع التام عرفا ، بأن يكون المتعذر لقلته من سنخ الحالات المتبادلة على الموضوع الواحد غير الموجبة لتعدده ، لا مقوما له عرفا ، بناء على الاكتفاء بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب ، كما جرى عليه غير واحد في مثل استصحاب كرية الماء.

    لكن المبنى المذكور غير تام في نفسه ، على ما يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
    هذا كله مع العلم بسبق التكليف بالتام تعيينا ، بحيث لا يجوز تعجيز النفس عنه ، أما لو احتمل التكليف به من أول الأمر تخييرا ، بحيث يجوز التعجيز عنه ، لاختصاص ملاكه بحال القدرة عليه ، فليس المتيقن سابقا هو التكليف بالتام بنحو يسقط بالتعذر ، ويحتمل حدوث تكليف آخر بالناقص ، بل التكليف بالباقي في الجملة إما مقيدا بالمتعذر لا غير فيسقط بالتعذر ، أو مخيرا بينه وبين المطلق في حال التعذر ، فيبقى مع التعذر ، ولا يبعد حينئذ جريان استصحاب التكليف بالميسور على ما هو عليه من الترديد والإجمال ، لصلوحه للداعوية ظاهرا ، نظير ما تقدم في مناقشة بعض مشايخنا في آخر الكلام في النقيصة السهوية ، وإن لم يكن عينه. لكنه محتاج إلى كثير تأمل.
    ثم انه لو جرى الاستصحاب في نفسه اختص بما إذا كان مسبوقا بالقدرة في الوقت وتجدد العجز في أثنائه ، بحيث يعلم معه بفعلية التكليف سابقا في حقه.
    لكن عن بعض الأعاظم الاكتفاء بسبق القدرة ولو قبل الوقت ، بدعوى : أن الاستصحاب في الأحكام الكلية الذي هو وظيفة المجتهد لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجا ، ومن ثمّ يتمسك الفقيه في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب ، مع عدم تحقق الموضوع خارجا.
    وفيه : أنه مع عدم فعلية الموضوع يعلم بعدم التكليف ، فلا معنى لاستصحابه بعد الوقت مع الشك ، بل المتعين استصحاب عدمه وإجراء المجتهد للاستصحاب في الأحكام الكلية إنما هو بمعنى حكمه بأن وظيفة من يفرض في حقه فعلية الموضوع والقطع بالتكليف هو البناء على بقائه ، لا الحكم فعلا بالبقاء في حقه مع عدم فعلية الموضوع في حقه ، كما في المقام ، فإنه خارج

    عن مفاد الاستصحاب ، كما أطال في توضيح ذلك بعض مشايخنا. فراجع.
    نعم ، بناء على جريان الاستصحاب التعليقي يتجه الرجوع له في المقام ، فيقال : كان الباقي حين القدرة على الجزء لو دخل الوقت لوجب ، فهو بعد التعذر كذلك.
    وكذا بناء على كون الوقت شرطا للواجب لا للوجوب ، لفعلية الوجوب حينئذ قبله ، فيتجه استصحابه.
    وعلى أحد هذين الوجهين يتجه التعميم من شيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    لكن الوجهين ضعيفان في نفسيهما ، مخالفان لمذهب بعض الأعاظم قدّس سرّه.
    هذا ، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه التمسك باستصحاب جزئية المتعذر في حال التعذر ، المقتضي لسقوط التكليف رأسا بالتعذر ، وحكومته على استصحاب التكليف لو فرض جريانه في نفسه.
    وقد أطال في ذلك بما لا مجال لمتابعته فيه ، لضعفه. فراجع.
    وأما أصل البراءة فقد يتمسك به لنفي جزئية المتعذر أو شرطيته حال تعذره ، بدعوى : أن المقام من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    ويندفع بأن الجزئية والشرطية ليستا من الأحكام المجعولة ، بل هما منتزعتان من وجوب المركب الذي اخذ فيه المشكوك ، وهو مما يقطع بارتفاعه بسبب التعذر ، فلا معنى لجريان البراءة منه ، وإنما الشك في حدوث وجوب الباقي ، ودليل البراءة لا يثبته ، بل ينفيه.
    بل لو فرض جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسها فلا مجال له في مثل المقام مما لا يكون له أثر إلا الإلزام بالناقص ، لمنافاته للامتنان الذي هو مساق أدلة البراءة.
    نعم ، لو فرض العلم بتجدد القدرة في الوقت تعين البناء على الاكتفاء بالناقص حال التعذر ، للعلم بالتكليف حينئذ ، إما بالأكثر الذي لا يحصل إلا في

    آخر الوقت ، أو بالأقل الميسور في تمامه ، ومقتضى الأصل الاكتفاء بالأقل.
    وكذا لو فرض حصول العلم الإجمالي بالتكليف بسبب وجوب القضاء أو الكفارة ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب الأقل في الوقت ، أو بوجوب الكفارة أو القضاء في خارجه.
    وفي ما عدا ذلك حيث يشك في التكليف بالناقص فالأصل البراءة منه. إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور الآتية ، أو للاستصحاب الذي تقدم الكلام فيه.
    هذا ، ولا يخفى أن ذلك لا يختص بمحل الكلام ، وهو الشك في عموم الجزئية لحال التعذر ، بل يجري في ما يشك في أصل جزئيته ـ كالاستعاذة في الصلاة ـ لو فرض تعذره ، فإن الشك في أصل جزئيته إنما يكون مجرى للبراءة مع العلم بفعلية التكليف في الجملة ، أما مع الشك في أصل التكليف لتعذر ما يحتمل دخله فيه فالمتعين جريان البراءة منه.
    إلا أن يكون محكوما لقاعدة الميسور ـ لو فرض جريانها فيه على تقدير اعتباره ـ أو لاستصحاب التكليف لو فرض تجدد العجز في أثناء الوقت ، حيث يمكن معه استصحاب التكليف على ما هو عليه من الإجمال والتردد بين الأقل والأكثر الذي عرفت أنه صالح للداعوية للأقل ، أو يكون طرفا لعلم إجمالي منجز ، كما لو فرض وجوب القضاء أو الكفارة ، على ما أشرنا إليه ، أو فرض تجدد التكليف بتعدد الوقائع ، حيث يعلم حينئذ إما بالتكليف بالأقل في الواقعة المقارنة للتعذر ، أو بالتام في الوقائع الاخرى ، إلى غير ذلك مما يجب الخروج فيه عن مقتضى أصل البراءة ، ولو لاه لكان هو المرجع في ذلك وفي ما نحن فيه. فلاحظ.

    المقام الثاني : في مقتضى القاعدة الثانوية بعد الفراغ عما تقدم من التفصيل في المقام الأول.
    ولا إشكال في الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الصلاة والحج وغيرهما ، وإنما الإشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو المرجع عند الشك ، وهو ما يسمى بقاعدة الميسور ، التي وقع الكلام فيها بين الأصحاب.
    وعمدة ما يستدل به لها أمران :
    الأول : دليل رفع الاضطرار ، وما لا يطيقون ونحوهما ، بدعوى : أن مقتضاه سقوط جزئية المتعذر ، المستلزم لبقاء التكليف بما عداه بعد فرض ثبوت مقتضيه لو لا التعذر.
    لكن تقدم في الأمر الثاني من الكلام في النقيصة السهوية أنه لا مجال لاستفادة ذلك من حديث الرفع ، وأن مفاده رفع التكليف بالتام ، لا تشريع التكليف بالناقص. فراجع ، فإن المقامين من باب واحد.
    ومنه يظهر ضعف الاستدلال بما دل على الحلية بالاضطرار والتقية ، بناء على عمومها للحلية الوضعية.
    الثاني : بعض النصوص المتضمنة لوجوب الإتيان بالميسور ، وهي ما عن عوالي اللئالي عن النبي صلّى الله عليه وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، وعن أمير المؤمنين عليه السّلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» ، وعنه عليه السّلام أيضا : «ما لا يدرك كله لا يترك كله».
    بدعوى : ظهورها في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من أجزائه وشرائطه ، فتكون حاكمة على إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر الشامل لحال تعذره لو فرض ثبوته.
    وينبغي الكلام في هذه النصوص ..

    تارة : في السند.
    واخرى : في الدلالة.
    أما السند فلا إشكال في ضعفه في جميعها ، لعدم ذكر أصحابنا لها في كتب الحديث المعروفة ، وإنما ذكرت مرسلة في محكي عوالي اللئالي الذي هو من الكتب المتأخرة عصرا غير المعروفة بالضبط وانتقاء الحديث المعتبر ، بل طعن فيه صاحب الحدائق مع ما هو المعلوم من حاله من عدم شدة اهتمامه باسناد الأخبار.
    قال في ردّ مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين : «مع ما هي عليه من الرفع والارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه الى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور» ، وإنما ورد الأول مسندا في كتب العامة على اختلاف مضامينه بما يأتي الإشارة إليه.
    نعم ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه حجية هذه النصوص : «وضعف إسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبع».
    وفيه : أن تمسك الأصحاب بها غير ثابت ، وغاية الأمر موافقتهم لها ، وهي لا تصلح للجبر ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع إليها ، ولا مجال له بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال في ما أعلم ، وإلا لما اقتصر على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.
    بل لم يجروا عليها في كثير من فروع العبادات فضلا عن غيرها ، كما يشهد به تتبع حالهم في الصوم ، والخمس ، والزكاة ، وكثير من فروع الحج والصلاة ، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد عن بعض المراتب ، كاستبدال القيام بالجلوس في الصلاة ، واستبدال المشي أو الركوب بالحمل في الطواف

    والسعي ، بل وعن بعض الأجزاء والشرائط رأسا كالسورة والطمأنينة ، إلا أنهم لم يتنزلوا عن كثير من الأجزاء والشروط ، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات الصلاة أو بعض مناسك الحج ، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد الطهورين.
    فمن القريب جدا أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من فروع الطهارة والصلاة ، والحج لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر ، أو لقرائن خاصة كالإجماع ، والسيرة ، والأخبار الكثيرة الواردة في كثير من تلك الفروع ، والتي قد يتعدى الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها ، أو لنحو ذلك مما لا مجال معه لدعوى انجبار الأخبار المذكورة بعمل المشهور.
    وأما الدلالة فهي لا تخلو عن قصور في الجميع ..
    أما الأول فلأن (من) وإن كانت ظاهرة في التبعيض ، إلا أن التبعيض قد يكون بلحاظ الوحدة النوعية ، فيكون البعض هو الفرد من الكلي ، وقد يكون بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الامور الخارجية ، فيكون البعض هو الجزء من الكل ، والأول راجع الى التكرار في المأمور به ، والثاني هو الذي ينفع في ما نحن فيه ، ولا مجال لحمل الإطلاق عليهما معا ، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد اختلاف الجهة المصححة للتبعيض ، كما لا مجال للحمل على الثاني ولا سيما بعد احتياجه إلى نحو من العناية في فرض الشيء مركبا ذا أجزاء من دون إشعار للكلام به ، فإطلاق الشيء يناسب إرادة الأول.
    هذا ، مع أن قرب أخذه مما رواه العامة يناسب الحمل على الأول ، فعن مسلم والترمذي في صحيحيهما عن أبي هريرة أنه قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال : «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت صلّى الله عليه وآله حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم

    بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
    بل رواه النسائي بالسياق المذكور هكذا : «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم» فيكون أجنبيا عما نحن فيه جدا وصريحا في المعنى الأول.
    ودعوى : أن الحمل على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ولا سيرة المسلمين في الاكتفاء بالمرة ، بل هو خلاف المقطوع به في المورد.
    مدفوعة : بأن ذلك لا يصلح قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه ، بل لعل الاولى الحمل على الاستحباب.
    بل هو الظاهر في نفسه مما سبق في رواية العامة ، كما يناسبه ظهور كونه تخفيفا في مقابل الأمر بوجوب الحج في كل عام ، وظهور الاستطاعة فيه في العرفية التي لا تسوغ ترك الواجب.
    كما أنه مقتضى الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللئالي عن الشهيد عن ابن عباس قال : «لما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله بالحج قام إليه الأقرع بن حابس : أفي كل عام؟ فقال : لا ، ولو قلت لوجب ، ولو وجب لم تفعلوا ، إنما الحج في العمر مرة واحدة ، فمن زاد فتطوع» (1) وحكي نحوه عن أبي داود والنسائي وأحمد والحاكم في صحاحهم.
    نعم ، لا بد من تقييده بما يكون مشروعا في نفسه بنحو الاستغراق ، كالحج والصدقة ، فيكون مسوقا لبيان معنى ارتكازي عقلي ، وهو حسن الاستزادة من الخير والإكثار منه بحسب المستطاع ، بعد فرض كونه خيرا لكونه انحلاليا ، لا لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض.
    بل هذا هو الظاهر منه عرفا ، ولذا يصدق بلا تكلف على مثل الصدقة
    __________________
    (1) مستدرك الوسائل باب : 3 من ابواب وجوب الحج حديث : 4.

    بالمقدار الميسور ، ومساعدة المؤمن ونحوهما. فتأمل جيدا.
    وما ذكرناه أولى من دفع الاستدلال باحتمال كون «من» في المقام بمعنى الباء ، أو بيانية ، أو زائدة.
    لأن ورود «من» بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله تعالى :
    (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)(1) ، لكن من القريب جدا كونها في الآية ابتدائية لبيان المنشأ ، نظير : جرى الماء من الميزاب ، فكأن الطرف منشأ للنظر ومصدره.
    مع أنه لو سلم فهي بمعنى باء الاستعانة أو الآلة ، لا باء التعدية ، كما هو المدعى في المقام.
    كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها جنس ما قبلها ، نظير : خاتم من حديد ، إلى الابتدائية ـ التي لا مجال لها في المقام ـ أو التبعيضية ، فكأن المراد خاتم ناشئ من حديد ، أو بعض منه.
    مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنسا لما قبلها ـ كالمثال المتقدم ـ دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه ، إذ لم يعهد إرادة الجنس منها حينئذ ، كي يكون المراد هنا : إذا أمرتكم بشيء فحققوا نوعه ما استطعتم.
    وأما زيادة «من» في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي ، فهو وإن قيل في مثل قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(2) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية ، وأن المراد الأمر بانقاض النظر ، إما بلحاظ المرتبة في مقابل الاشباع وملء العين ، أو بلحاظ المنظور ، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأشياء كالأجنبية.
    __________________
    (1) سورة الشورى : 45.
    (2) سورة النور : 30.

    وربما احتمل كونها لابتداء الغاية ، وإن كان لا يخلو عن بعد.
    وكيف كان ، فزيادتها في الآية بعيدة ، وفي الحديث أبعد ، لأن «أتى» لا تتعدى للمأتي به بنفسها.
    فالظاهر أنها في الحديث للتبعيض ، وأن التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية ، كما ذكرنا.
    وأما الثاني فلظهوره في رفع احتمال سقوط الميسور بعد فرض ثبوت مقتضيه ، لبيان قضية ارتكازية عقلائية ، لا التصرف في أصل الجعل ، بنحو يكون ناظرا لأدلته الأولية وشارحا لها ، ومبينا لحال الأجزاء وأنها ناشئة عن مقتضيات متعددة لا يوجب سقوط بعضها بالتعذر سقوط الآخر ، ليكون حاكما على الأدلة الأولية الظاهرة في الارتباطية في مقام السقوط.
    وبعبارة اخرى : وجوب الناقص بعد سقوط التام.
    تارة : يكون بملاك كونه بدلا عنه وتداركا له ، نظير وجوب الفدية مع تعذر الصوم.
    واخرى : لقيام الملاك بالكل بنحو الانحلال وتعدد المطلوب ، بحيث يكون كل جزء منه وافيا بمرتبة من الملاك القابلة للاستيفاء عند تعذر الباقي.
    والأول لا يناسب التعبير بالسقوط الظاهر في تحقق مقتضي الثبوت للميسور مع قطع النظر عن تعسر المعسور.
    والثاني وإن كان مناسبا للتعبير المذكور ، إلا أن الظاهر من الحديث الإشارة إلى الكبرى الارتكازية إرشادا لها ، لا لبيان تحقق صغراها تعبدا ، لشرح حال التكاليف بالمركبات على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية.
    نعم ، لو كان واردا في خصوص مورد المركبات الظاهرة أو الموهمة للارتباطية كان ظاهرا في شرح حالها.
    لكن المفروض عدم المورد للحديث بنحو يكون صارفا لظهوره في

    محض بيان الكبرى المذكورة ، نظير ما تقدم في الجواب عن الاستدلال لوجوب الاحتياط في الشبهات البدوية بروايات النهي عن ارتكاب الشبهة. فراجع.
    هذا ، ولكن قد يقال : فرض السقوط في الميسور ليس بلحاظ سبق ثبوت الملاك له ـ وإلا لامتنع تطبيقه على الجزء بعد فرض الارتباطية في حال تيسر التام ، لقيام الملاك بالتام حين تيسره ، لا بكل جزء جزء ، وقيام الملاك بالناقص إنما يكون بعد التعسر ـ بل بلحاظ سبق التكليف به ، وهو كما يصح بلحاظ سبق التكليف الاستقلالي به ، كالصلاة مع تعسر الصوم ، كذلك يصح بلحاظ سبق التكليف الضمني به ضمن التكليف بالمركب ، حيث يصح أن يقال : لا يسقط التكليف بالجزء بسبب تعذر بقية الأجزاء.
    لكن فيه .. أولا : أن فرض السقوط بلحاظ سبق التكليف وإن كان مقبولا غير مستهجن ، إلا أن الاظهر مع عدم القرينة حمله على كونه بلحاظ ثبوت المقتضي له لدفع توهم المانع عن تأثيره ، كما ذكرناه آنفا.
    وثانيا : أن الأمر حينئذ يدور بين الحمل على سقوط التكليف بالميسور بعد سبق التكليف الاستقلالي به ، لاستقلاله بالملاك ، فيكون إرشادا إلى الكبرى الارتكازية التي هي أجنبية عما نحن فيه ، والحمل على سقوط التكليف به بعد سبق التكليف الضمني به لبيان قضية تعبدية محضة تنفع في ما نحن فيه ، وتحكم على الأدلة الأولوية المقتضية للسقوط. ولا جامع بينهما ، لعدم الجامع بين الأمر الإرشادي والتعبدي المولوي ، كما نبه له بعض مشايخنا.
    بل يتعين الحمل على الأول ، لأن انس الذهن بالقضية الارتكازية يوجب انصرافه إليها من الكلام بنحو يحتاج خلافه إلى تنبيه وقرينة ، فترك المتكلم لذلك قرينة عامة على إرادة ما ينصرف إليه الذهن بطبعه. بل لعل ذلك موجب للانصراف حتى مع فرض إمكان شمول الإطلاق للأمرين.
    وما قيل : من أن الأصل في بيانات الشارع المولوية لا الإرشاد.

    إنما هو في ما إذا علم المراد من الكلام ، وشك في صدوره بداعي الارشاد أو المولوية ، كما لو دار الأمر بينهما في بعض الأوامر والنواهي في بعض الامور التي يحتمل صدورها للإرشاد إلى آثارها الوضعية ، لا للمولوية ، وكما قيل في أوامر الاحتياط في الشبهة البدوية.
    أما مع تردد معنى الكلام بين أمرين أحدهما ارتكازي قد أنس به الذهن فالمتعين الحمل عليه ، وإن لزم منه الإرشاد.
    هذا ، مضافا إلى أن المنصرف من عدم السقوط هو البقاء بالنحو الذي كان ثابتا سابقا ، فكما يكون بقاؤه بالتكليف به استقلالا يكون المفروض ثبوته سابقا بالوجه المذكور ، لا في ضمن التكليف بالكل ، كما لعله ظاهر بالتأمل.
    ودعوى : إشعار الحديث بالارتباطية بين المعسور والميسور ، بنحو يصح الردع عن توهم سقوط الثاني تبعا للأول ، إذ مع عدم الارتباطية بينهما لا منشأ للتوهم المذكور ، ليحسن الردع عنه.
    مدفوعة : بأن ذلك لا يتوقف على الارتباطية بينهما شرعا ، بل يكفي فيه الارتباط بينهما في مقام العمل ، بسبب الارتباط بينهما في حدوث الداعي لهما في نفس الفاعل ، لكون أحدهما من شئون الآخر الموجبة لكماله واعتداده به ، وإن لم يكن قيدا فيه شرعا ، فلا يصلح ذلك للخروج عما ذكرنا.
    فالمتعين حمل الحديث الشريف على إرادة التكاليف المفروغ عن كونها انحلالية بلحاظ الميسور ، من مراتبها الفاقد لبعض الأجزاء أو الخصوصيات الكمالية ، ردعا عما قد يقع من كثير من الناس ، بل أكثرهم ، من التسامح عن الميسور حينئذ لعدم الاعتداد به ، كما نشاهده في كثير من أعمال الخير التي يتركها الناس رأسا ، لعدم تيسرها بالمراتب المعتد بها بنظرهم ، فمن لا يستطيع إشباع جائع لا يعينه بتمرة ، ومن لا يستطيع صلاة النافلة من قيام لا يغتنمها في حال الجلوس أو المشي ، معتذرا بالمعسور غافلا عن اغتنام الميسور.

    ومنه يظهر الحال في الثالث ، فإن من القريب جدا حمله على الإرشاد للقضية الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال التكليف ، لا على بيان حال التكاليف الواقعية تعبدا وشرحها على خلاف ظاهر أدلتها الأولية في الارتباطية ، لتكون حاكمة على تلك الأدلة.
    ولذا كان المرتكز شمولاه ـ كالثاني ـ للمرتبة القليلة بعد فرض الانحلالية ، كشق التمرة بالاضافة إلى إشباع الفقير ، مع أن قاعدة الميسور مختصة عندهم بما إذا كان الميسور معتدا به من المركب ، فلو لا كون الحديثين لبيان قضية ارتكازية آبية عن التخصيص لكان اللازم البناء على قصورهما عن ذلك بعد فرض الإجماع على قصور القاعدة التي هي تعبدية محضة. فتأمل.
    وقد تحصل : أنه لا مجال لإثبات عموم قاعدة الميسور من حديث الرفع ونحوه ، ولا من النصوص المتقدمة ، بعد قصورها دلالة وسندا.
    فلا مجال بعد ذلك للكلام في عمومها للمستحبات ، وللشروط ، وغير ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وغيره.
    نعم ، المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا إجمال فيه ، وهو شامل للأمرين. والله سبحانه وتعالى العالم ، والحمد لله رب العالمين.

    المقام الثاني
    في دوران التكليف بين التعييني والتخييري
    والمراد التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف التخيير في المكلف به شرعا ، كما في الكفارة المخيرة ، لا التخيير العقلي ، الراجع إلى التكليف شرعا بالماهية ، المقتضي لتخيير العقل بين أفرادها ، لعدم الفرق بينها في تحصيل الغرض ، لأن الكلام في ذلك قد سبق في المسألة الثانية من المقام الأول.
    وينبغي التمهيد لمحل الكلام بامور ..
    الأول : أن التخيير ..
    تارة : يكون في الحكم الواقعي في مقام الجعل والتشريع ، لقصور الملاك عن اقتضاء كل طرف معينا ، كالتخيير في خصال الكفارة.
    واخرى : يكون في الحكم الواقعي ، لكن في مقام الامتثال ، للتزاحم بين التكليفين ، المقتضي لتعيين الأهم منهما ، والتخيير بينهما مع عدم الأهمية.
    وثالثة : يكون في الحكم الظاهري ، كالتخيير بين الحجج في مقام التعارض لو فرض قيام الدليل عليه.
    ومحل الكلام هو الأول ، لمناسبته لباب الأقل والأكثر الارتباطيين ، الذي فرض فيه الشك في اعتبار خصوصية في المكلف به بنحو لا يعلم بالامتثال وتحقق شيء من الغرض الا مع المحافظة عليها ، فما هو المتيقن في مقام الامتثال لا يعلم بأخذه في مقام الجعل.

    أما الثاني فمرجع الدوران بين التعيين والتخيير فيه إلى الشك في حال نفس التكليفين لاحتمال أهمية أحدهما بعينه من دون إجمال في المكلف به ، مع العلم بأن موافقة كل منهما محصلة لغرضه ، لعدم الارتباطية.
    كما أن الدوران بينهما في الثالث لا يرجع إلى الشك في خصوصية التكليف بوجه ، بل في حال طريقه.
    نعم ، يحسن التعرض لهما استطرادا بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيه يعقد لذلك إن شاء الله تعالى.
    الثاني : صور الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي كثيرة ، إلا أن ما يناسب المقام هو ما لو علم بفعلية التكليف بشيء وشك في كون التكليف به تعيينيا فلا يتحقق الامتثال إلا به ، أو تخييريا لأن له عدلا يمكن امتثال التكليف به ، كما لو دار الأمر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة ، لاشتراكه مع مبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين في وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي يشك في اعتباره في مقام الجعل.
    بخلاف بقية الصور ، فمثلا لو دار الأمر بين التكليف التخييري بأحد امور والتكليف التعييني بكل منهما ـ كما لو دار الأمر بين كفارة الجمع والمخيرة ـ يكون كل منها صالحا للامتثال ومحصلا للغرض في الجملة وإن لم يحرز به تمام الغرض ، نظير الدوران بين الأقل والأكثر غير الارتباطيين ، وكذا الحال في غيرها من الصور التي يأتي التعرض لها بعد الفراغ عن محل الكلام في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.
    الثالث : الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف المباني في حقيقة الوجوب التخييري حيث اختلف في ذلك على أقوال ..
    الأول : التكليف بالجامع بين الخصوصيات تعيينا ، إلا أن الجامع المذكور لما لم يكن عرفيا تعينت الإشارة إليه بأفراده في مقام بيان التكليف به.

    الثاني : التكليف بكل منها تعيينا مع كون امتثال أحدها مسقطا للباقي ، لتعذر استيفاء ملاكها معه وإن كان فعليا.
    الثالث : التكليف بكل منها تعيينا لكن مشروطا بعدم فعل الآخر ، فهو يرجع إلى تكاليف مشروطة ، لا تكليف واحد مطلق.
    الرابع : التكليف التعييني بأحد الأطراف المعين عند الله تعالى.
    الخامس : سنخ خاص من التكليف ، مخالف للتكليف التعييني يتعلق بكل طرف طرف ، لا يقتضي الإتيان به إلا في ظرف عدم الإتيان بغيره ، فهو يتعدد بتعدد الأطراف. وإليه قد يرجع ما قيل من أنه طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة.
    السادس : التكليف بأحد الأطراف ، على تفصيل يأتي الكلام فيه ، لابتناء الكلام عليه ، لأنه المختار دون الوجوه السابقة.
    هذا ، ولا ريب في رجوع الشك في المقام على الأول إلى الدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، الذي تقدم في المسألة الثانية في المقام الأول أن المرجع فيه البراءة.
    ومجرد الجهل بحدود العنوان المفهومية وانحصار معرفته بأفراده لا يصلح فارقا بعد صلوحه بنفسه للتكليف.
    كما أنه يرجع على الثاني إلى الشك في المسقط الذي يكون المرجع فيه الاشتغال.
    وعلى الثالث إلى الشك في التكليف الاستقلالي في حال الإتيان بالطرف المشكوك ، الذي يكون المرجع فيه البراءة.
    وعلى الرابع إلى الشك في الامتثال ، الذي هو مورد الاشتغال.
    وأما على الخامس فمقتضى العلم الإجمالي بثبوت تكليف تعييني واحد في المتيقن ، أو تكاليف تخييرية بعدد الأطراف هو الاحتياط والعمل على

    التعيين ، لعدم إحراز الفراغ بدونه.
    ودعوى : أن وجود المتيقن في البين ، وهو عدم جواز ترك المتيقن لا إلى بدل اللازم لكلا طرفي العلم الإجمالي ، يقتضي حلّ العلم الإجمالي المذكور ، والاقتصار على ذلك الراجع إلى التخيير.
    مدفوعة : بأن المتيقن المذكور ليس متيقنا في مقام الجعل بنحو تكون موافقته موافقة قطعية للتكليف المتيقن ، لينهض بحل العلم الإجمالي ، بل هو من شئون إطاعة التكليف ، وليس المجعول إلا الطلب بأحد الوجهين من دون متيقن في البين ، فالاقتصار على عدم ترك المتيقن لا إلى بدل لا يوجب إلا ترك المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، من دون أن يستوجب الموافقة القطعية لتكليف متنجز ينحل به العلم الإجمالي.
    نعم ، بناء على رجوع الوجه المذكور إلى أن التكليف التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة قد يتجه الانحلال ، للعلم التفصيلي بالمرتبة الناقصة في المتيقن التي يكفي في إطاعتها وعدم مخالفتها عدم تركه لا إلى بدل ، والشك البدوي في المرتبة الزائدة التي يتم بها الطلب ويكون تعيينيا ، وهي مدفوعة بالأصل.
    ودعوى : حصول العلم الإجمالي إما بتحقق المرتبة التامة من الطلب في المتيقن ، او بتحقق المرتبة الناقصة منه في بقية الأطراف ، فتحقق المرتبة الناقصة في المتيقن ليس تمام المتيقن ، لينهض بحل العلم الإجمالي ، بل بعضه ، نظير ما لو علم إجمالا إما بوجوب إكرام كل من زيد وعمرو بدرهم ، أو بوجوب إكرام زيد بدرهمين ، فإن وجوب إكرام زيد بدرهم وإن كان متيقنا ، لكنه لما لم يكن تمام المتيقن لم ينهض بحل العلم الإجمالي.
    مدفوعة : بعدم الأثر للتكليف الناقص في بقية الأطراف زائدا على ما يقتضيه المعلوم بالتفصيل ، وهو المرتبة الناقصة في المتيقن ، وذلك مانع من
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    المحكم في أصول الفقه [ ج4 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: المحكم في أصول الفقه [ ج4   المحكم في أصول الفقه [ ج4 Emptyاليوم في 7:55 am

    منجزية العلم الإجمالي المذكور.
    هذا ، ولكن بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه مع اختياره لهذا الوجه في حقيقة الوجوب التخييري جزم بوجوب الاحتياط هنا ، للعلم الإجمالي إما بوجوب المتيقن تعيينا بنحو لا يجوز الاكتفاء بالعدل أو وجوب العدل تخييرا ، بنحو يجب الإتيان به عند تعذر المتيقن لاضطرار ونحوه.
    وهو كما ترى! إنما يتم إذا فرض تعدد الواقعة وعلم بالابتلاء بتعذر المتيقن في بعضها ، حيث يحصل العلم الإجمالي التدريجي بأحد الأمرين ، أما مع وحدة الواقعة أو تعددها مع عدم العلم بالتعذر في بعضها ، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي المذكور ، ليخرج به عن أصل البراءة. فلاحظ.
    والأمر غير مهم بعد ما أشرنا إليه من عدم تمامية الوجه المذكور ، وأن التحقيق هو الوجه الأخير ، فاللازم ابتناء الكلام في المقام عليه ، كما جرى عليه غير واحد.
    إذا تمهد ذلك فقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن المرجع في المقام هو الاحتياط ، لأن التعيينية وإن كانت موجبة للضيق ، إلا أنها ليست أمرا وجوديا مجعولا ولو بالتبع ، بل هي منتزعة من عدم جعل العدل ، ومن الظاهر أن جعل العدل محتاج إلى مئونة زائدة لا يقتضيها دليل البراءة ، فكما يكون التخيير محتاجا إلى مئونة بيان العدل في مقام الاثبات ، ولذا كان خلاف إطلاق الأمر ، كذلك هو محتاج إلى مئونة جعل العدل في مقام الثبوت ، ولا مجال مع ذلك لإثباته بأدلة البراءة ، كحديث الرفع ونحوه ، بل لو لا ورودها في مقام الامتنان لنهضت برفعه ، بل يتعين العمل على التعيين ، لوجوب إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم في البين.
    وفيه : أن كون التخيير محتاجا إلى مئونة بيان العدل في مقام الإثبات ، ولذا كان منفيا بالاطلاق ، لا يستلزم احتياجه إلى مئونة زائدة في مقام الثبوت ، بنحو لا

    ينهض به الأصل ، للفرق بين المقامين بأن التخيير مبني على نحو من التقييد في الأمر بالإضافة إلى أحد الطرفين بخصوصه ، وهو خلاف ظاهر الإطلاق في مقام الإثبات ، أما في مقام الثبوت والجعل فكل من التعيين والتخيير مبني على نحو من الجعل في قبال الآخر ، وليس التخيير متقوما بقيد وجودي زائد على التعيين ، ليكون مبنيا على كلفة زائدة في مقام الثبوت ، فلو فرض كون أحد الجعلين مستلزما لزيادة في التكليف أمكن دفعه بالأصل.
    نظير تقييد التكليف بقيد خاص كالوقت ، حيث يكون احتماله مطابقا للأصل مخالفا للإطلاق.
    ومنه يظهر ضعف التمسك لإثبات التعيينية بأصالة عدم جعل العدل ، لتوقفه على تركب الوجوب التخييري من التكليف وجعل العدل ، وتركب الوجوب التعييني مفهوما من التكليف وعدم جعل العدل ، لتكون أصالة عدم جعل العدل نافية للأول محرزة للثاني ، وقد أشرنا إلى منع ذلك ، فالأصل المذكور ـ مع معارضته بأصالة عدم الوجوب التعييني ـ من صغريات الأصل المثبت.
    فالذي ينبغي أن يقال : إن المدار في المقام على وجود المتيقن في مقام الجعل الصالح للتنجيز والموافقة القطعية ، لينحل به العلم الإجمالي ، وعدمه.
    وقد ادعى بعض مشايخنا وجود المتيقن في البين ، وهو التكليف بأحدهما بعنوانه الانتزاعي الذي يقطع بموافقته بكل طرف ، وأن الشك إنما هو في التقييد بالخصوصية ، والمرجع فيه البراءة ، كما هو الحال في الدوران بين التعيين والتنجيز العقلي ، الذي يكون الشك في أخذ الخصوصية زائدا على العنوان المتيقن التكليف.
    أقول : من الظاهر أن عنوان أحد الأمرين ليس منتزعا من خصوصية فيهما مشتركة بينهما تصلح للتكليف ، بل من نفس الخصوصيتين على ما هما عليه من

    التباين ، فهو لا يحكي عنهما إلا كذلك ، ولذا لا يكون الإتيان بكل منهما مصاحبا لخصوصية زائدة على المطلوب خارجة عنه ، كما هو الحال في مورد التخيير العقلي ، حيث تكون الخصوصية خارجة عن المطلوب.
    ومن ثمّ ذكرنا في محله أن الوجوب التخييري عبارة عن التكليف بمصداق أحد الأمرين بنحو الترديد والبدلية ، وليس العنوان إلا حاكيا محضا عنهما ولذا قد يستبدل ـ بل هو الشائع ـ بالعطف بأو التي لا تحكي إلا عن معنى حرفي لا يكون موردا للتكليف.
    بل قربنا هناك أن ذلك هو مراد القائل بتعلقه بمفهوم أحدهما ، وأن الخلاف بين القولين أشبه بالخلاف اللفظي.
    وعليه ليس الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلا في كيفية تعلق كل منهما بمتعلقه ، فالتعييني متعلق بالجامع الصالح للامتثال بالأفراد المتكثرة ، والتخييري متعلق بالأطراف رأسا على ما هي عليه من التباين.
    إذا عرفت هذا ، ظهر أنه لا مجال لدعوى وجود المتيقن في المقام ، وهو التكليف بالجامع الذي هو عنوان أحد الأمرين ، إذ لا معنى لتعلقه به مع فرض التعيين ، لعدم كون الخصوصية قيدا زائدا في العنوان المذكور ، بل هي بنفسها مورد للتكليف التعييني.
    كما أن الجامع المذكور ليس منتزعا من أمر في الخصوصية يجب ضمنا بتبعها ، ليدعى وجوبه على كل حال في فرض التردد بين التعيين والتخيير ، بل لا يؤخذ الجامع المذكور إلا في ظرف الحاجة إليه ، للحكاية عن كلتا الخصوصيتين اللتين هما موضوع التكليف التخييري ، بل لم يؤخذ في الغالب ، حيث اشير للخصوصيتين بوجه آخر ، كالعطف بأو ، وغيره.
    وبالجملة : لا مجال لدعوى وجود المتيقن في مقام الجعل الصالح للموافقة القطعية ، لينحل به العلم الإجمالي المفروض ، ويتجه الرجوع للبراءة

    من التعيين.
    نعم ، لو أمكن دعوى : أن وجود المتيقن في مقام العمل كاف في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية وإن لم ينحل بذلك ، لعدم المتيقن في مقام الجعل ، اتجه الرجوع للبراءة في المقام ، لكون ترك المتيقن ـ كالعتق ـ لا إلى بدل معصية تفصيلية للتكليف المعلوم بالإجمال يقتضي كلا طرفي الترديد المنع عنها ، فهي متنجزة بحكم العقل على كل حال ، وإن لم يلزم من تجنبها بفعل البدل موافقة قطعية لتكليف متيقن يصلح لحل العلم الإجمالي.
    إن قلت : لازم ذلك الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي في المتباينين ، فإن ترك امتثال كلا الطرفين ـ كترك القصر والتمام ـ معصية قطعا يلزم تجنبه في مقام العمل على كلا وجهي الترديد ، فلو كان ذلك مسقطا للعلم الإجمالي عن المنجزية في غير المتيقن لزم جواز المخالفة الاحتمالية بترك أحدهما لا غير.
    قلت : ترك كلا الطرفين في ذلك مخالفة إجمالية لا تفصيلية ، للعلم بانطباق المعصية على خصوص أحدهما المردد ، فتنجزهما معا فرع منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي على ما هو عليه ، المستلزم لوجوب الموافقة القطعية ، بخلاف المقام ، فإن ترك المتيقن لا إلى بدل بنفسه مخالفة تفصيلية للمعلوم بالإجمال لا بد من تجنبها على كل حال ـ حتى لو قيل بعدم منجزية العلم الإجمالي رأسا ـ فلو تمت دعوى مانعيته من منجزية العلم الإجمالي للتكليف الواقعي على ما هو عليه لم يبق منجز لاحتمال المخالفة بتركه إلى بدل التي هي مقتضى التعيين ، وتعين الاكتفاء بالعمل على التخيير ، ولا مجال لقياس الدوران بين المتباينين عليه.
    لكن الدعوى المذكورة في المقام لا تخلو عن خفاء ، فالأمر في غاية الإشكال.

    وإن كان مقتضى الأصل مع الشك في منجزية العلم الإجمالي في مثل ذلك هو عدم المنجزية ، كما تقدم في مسألة الشك في الابتلاء. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم ، وهو ولي العصمة والسداد.
    وينبغي التنبيه على امور ..
    الأول : لو تعذر المتيقن عند الدوران بين التعيين والتخيير فهل الأصل يقتضى البراءة وعدم وجوب ما يحتمل كونه عدلا ، أو الاحتياط بالإتيان به؟
    كما لو تعذر العتق ، وقد تردد بين أن يكون واجبا تخييريا عدله الصدقة ، فتتعين بتعذره وأن يكون واجبا تعيينيا يسقط التكليف بتعذره ولا يقوم مقامه شيء.
    لا يخفى أن في المقام صورتين ..
    الاولى : أن يكون التعذر قبل فعلية التكليف المردد.
    ولا ينبغي الإشكال في جريان البراءة من التكليف بما يحتمل كونه عدلا ، من دون فرق بين المباني في حقيقة التكليف التخييري ، وفي مقتضى الأصل عند الدوران بينه وبين التعييني ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في حدوث التكليف رأسا.
    نعم ، لو فرض كونه طرفا لعلم إجمالي منجز امتنع الرجوع للبراءة ، على ما تقدم في نظيره عند الكلام في تعذر الجزء ، كما لو كان لازم الوجوب التعييني وجوب القضاء أو الكفارة أو البدل الاضطراري أو نحوها ، حيث يعلم حينئذ إما بوجوب أحدها أو وجوب ما يحتمل كونه عدلا.
    وكذا لو فرض تعدد الواقعة مع القدرة على المتيقن في بعضها ، بناء على أن المرجع عند الدوران بين التعيين والتخيير مع القدرة البراءة ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب المتيقن تعيينا في مورد القدرة عليه أو بوجوب العدل في مورد تعذره.

    وأما بناء على أن المرجع عند الدوران بينهما الاحتياط بالعمل على التعيين فلا أثر للعلم الإجمالي المذكور ، لتنجز بعض أطرافه على كل حال.
    الثانية : أن يكون التعذر بعد فعلية التكليف المردد.
    وربما يدعى هنا وجوب الاحتياط بالإتيان بما يحتمل كونه عدلا بناء على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير ، لفرض عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، فيلحقه حكم تعذر البعض المعين من أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بعد حصوله ، الذي تقدم في التنبيه الرابع من الفصل الثالث أن اللازم فيه الاحتياط.
    وفيه أنه لا معنى لتنجز احتمال الوجوب التخييري حين العلم بالتكليف بناء على وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير ، ليلحقه حكم تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي بعد تنجزه ، لأن مفاده السعة غير القابلة للتنجز.
    بل ليس المنجز إلا احتمال الوجوب التعييني المفروض سقوطه بطروء التعذر ، ووجوب ما يحتمل كونه عدلا بعد التعذر محتاج إلى منجز جديد ، وهو مفقود في المقام.
    نعم ، لو فرض علم المكلف بطروء التعذر قبل طروئه تحقق له علم إجمالي تدريجي إما بوجوب المبادرة إلى المتيقن قبل تعذره ، أو بوجوب فعل البدل بعد التعذر ، فيلزم الخروج عن العلم الإجمالي المذكور ، بخلاف ما إذا كان غافلا عن التعذر ، إذ لا يحصل له العلم الإجمالي إلا بعد التعذر ، فلا يصلح للتنجيز ، لخروج أحد طرفيه بالتعذر عن الابتلاء.
    وأما بناء على الرجوع للبراءة من التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير ، فإن كان الوجه في ذلك دعوى انحلال العلم الإجمالي بوجود المتيقن في مقام الجعل لرجوعه إلى الدوران بين الأقل والأكثر ـ كما تقدم من بعض مشايخنا ـ

    اتجه إلحاق المقام بالمسألة المذكورة ، وقد تقدم عند الكلام في تعذر الجزء الإشارة إلى أن طروء تعذر ما يشك في جزئيته في أثناء الوقت لا يرفع وجوب الناقص ، عملا باستصحاب وجوبه على ما هو عليه من الترديد والإجمال الصالح لتنجيزه.
    وإن كان الوجه في ذلك ما أشرنا إليه من احتمال كون وجود المتيقن تفصيلا في مقام العمل ـ وهو حرمة ترك المتيقن لا إلى بدل ـ مسقطا للعلم الإجمالي عن المنجزية اتجه الرجوع للبراءة إذ لا مجال لاستصحاب المتيقن في مقام العمل لعدم كونه حكما شرعيا مجعولا ، لفرض كونه متيقنا في مقام الامتثال ، لا في مقام الجعل ، فهو قبيح عقلا بملاك كونه معصية تفصيلية ، فمع فرض احتمال سقوط التكليف بسبب التعذر يتوقف وجوب المتيقن المذكور عقلا على فرض منجز للتكليف ، ولا منجز له في المقام ، لعدم جريان استصحاب التكليف المعلوم بالإجمال مع العلم بسقوط بعض أطرافه تفصيلا. على ما تقدم نظيره في التنبيه الرابع من الفصل الثالث ، كما لا يصلح العلم الإجمالي لتنجيز ، لما ذكرناه آنفا. فتأمل جيدا.
    التنبيه الثاني : إذا علم بوجوب شيء وبسقوطه بفعل آخر ، وتردد ذلك الواجب بين أن يكون عدلا له ، لوجوبهما تخييرا ، وأن يكون مسقطا له مع كون وجوبه تعيينا ، كالطلاق المسقط لوجوب الإنفاق ، فمن الظاهر أنه لا أثر للشك المذكور مع القدرة على ما هو معلوم الوجوب ، للعلم بإجزائه وإجزاء الآخر عنه على كل حال ، وإنما يظهر اثره فيما لو فرض تعذره ، حيث يجب الآخر على تقدير كونه عدلا في الوجوب التخييري ، دون ما إذا كان مسقطا له ، إذ لا يجب فعل المسقط.
    ومن الظاهر أن المرجع في ذلك البراءة ، لعدم المنجز لوجوب ما يشك في كونه عدلا.

    هذا ، وربما يدعى وجوب فعل المسقط عند تعذر امتثال التكليف عقلا ، لأن رفع موضوع الملاك بفعل المسقط أولى عقلا من فوته بالتعذر بعد تحقق موضوعه ، ومقتضى ذلك وجوب فعل ما يحتمل كونه عدلا في المقام ، لتردده بين الواجب والمسقط.
    وفيه : أن فوته بالتعذر حيث لم يكن باختيار المكلف ، فلا موضوع معه للأولوية المذكورة ، لسقوط التكليف المانع من تحقق المخالفة ، بل ليس المدعى إلا وجوب فعل المسقط فرارا عن فوت الملاك بالتعذر ، وهو غير ظاهر.
    نعم ، لو فرض عدم سقوط التكليف رأسا ، لعدم تعذره ، وإنما يتعذر موافقته القطعية ، للدوران بين محذورين ونحوه ، لم يبعد وجوب فعل المسقط فرارا من المخالفة الاحتمالية ، كما في موارد الاحتياط الوجوبي في النكاح ، حيث لا يبعد وجوب الطلاق فرارا عن المخالفة الاحتمالية بالاضافة إلى الأحكام الإلزامية للزوجية وعدمها ، التي لا يمكن فيها الاحتياط ، كوجوب الوطء كل أربعة أشهر ، كما أشار إلى ذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه في المسألة الثانية عشرة من فصل العقد وأحكامه من كتاب النكاح من المستمسك.
    لأن المخالفة الاحتمالية اختيارية للمكلف ، فمن القريب جدا منع العقل منها عند تيسر فعل المسقط من جهة الأولوية المذكورة.
    وأظهر من ذلك ما لو كان التعذر مستندا لاختيار المكلف ، لتعجيزه لنفسه ، بنحو يكون مؤاخذا بالمخالفة ، كما لو عجز الجنب نفسه عن الغسل ليلا في شهر رمضان ، واستطاع السفر قبل الفجر ، حيث لا ينبغي الريب في وجوبه عليه عقلا ، دفعا لضرر العقاب. فتأمل جيدا.
    هذا ، وقد يبنى على ما نحن فيه مسألة وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة ، بدعوى الشك في كون الائتمام مستحبا مسقطا للقراءة مع وجوبها

    تعيينا ، فلا يجب بتعذرها ، أو واجبا مخيرا بينه وبين الصلاة فرادى مع القراءة ، فيجب بتعذرها.
    لكن لا يخفى أن المبنى المذكور يختص بالواجبات الاستقلالية التي يكون تعذرها موجبا لسقوط التكليف التعييني بها ، بحيث يحتمل عدم تحقق الامتثال مع الإتيان بالمسقط ، كالانفاق والطلاق ، دون مثل القراءة مما يجب ضمنا ، ولا يكون تعذره موجبا لسقوط التكليف بالمركب ، بل لا إشكال في إمكان امتثاله مع الائتمام ، فإن إسقاط الائتمام للقراءة ـ إما لكونه رافعا لموضوعها ، أو لتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم ـ لا ينافي كون الصلاة الواقعة حال الائتمام من أفراد الصلاة التامة الصالحة للامتثال ، ولذا لو فرض عدم مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة فلا ريب في وجوب الصلاة جماعة ، كما تجب لو فرض تعذر صلاة الفرادى مع القدرة على القراءة.
    فالذي ينبغي أن يقال : لا إشكال في مشروعية الصلاة بلا قراءة للمنفرد في حال تعذر القراءة وفرديتها للصلاة الواجبة في الجملة ، كفردية الصلاة جماعة أو الصلاة فرادى مع القراءة من القادر.
    وحينئذ فإن كان موضوع مشروعيتها مجرد تعذر القراءة منه اتجه عدم وجوب الائتمام ، لفرديتها في الحال المذكور في عرض صلاة الجماعة ، فيتعين التخيير بينهما.
    وإن كان موضوعها تعذر الصلاة التامة عليه اتجه وجوب الائتمام ، لتحقق الصلاة التامة به ، فمع القدرة عليه لا تشرع الصلاة المذكورة ، بل ينحصر الامتثال بالجماعة.
    إذا عرفت هذا ، فحيث كان لدليل جزئية القراءة إطلاق يشمل حال التعذر ، فلو كان دليل مشروعية الصلاة فرادى بدونها مع التعذر منحصرا بالإجماع ، لزم البناء على الثاني ، لأنه المتيقن من معقد الإجماع.

    وكذا لو كان الدليل قاعدة الميسور ، بناء على تماميتها في نفسها ، لظهور كونها قاعدة اضطرارية يختص موضوعها بصورة تعذر التام.
    إلا أن الظاهر أن مقتضى النصوص الخاصة والسيرة هو الأول ، وتمام الكلام في الفقه.
    التنبيه الثالث : إذا علم بوجوب امور متعددة ، وشك في كون وجوبها تخييريا يغني معه فعل واحد منها ، أو تعيينيا لا بد معه من الجمع بينها.
    فإن قلنا بوجود المتيقن في مقام الجعل عند الدوران بين التعيين والتخيير ، بنحو ينحل به العلم الإجمالي ، فلا ريب في الرجوع للبراءة من التكليف بالخصوصيات ، والبناء على وحدة التكليف بالجامع المقتضي للاكتفاء بفعل أحدها ، لليقين معه بالبراءة من التكليف المتيقن.
    لكن عرفت الإشكال في ذلك ، ومن ثمّ جزم بعض الأعاظم قدّس سرّه بوجوب الاحتياط هنا.
    نعم ، تقدم منا احتمال سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بسبب وجود المتيقن التفصيلي في مقام العمل ، فلو تم جرى هنا.
    بل هو هنا أولى ، لأن المتيقن التفصيلي هنا هو الإطاعة بفعل أحدها ، للعلم بكونه امتثالا للتكليف به تعيينا أو تخييرا ، والشك في وجود تكليف آخر يحتاج معه للامتثال بفعل بقية الأطراف.
    بل قد يدعى الانحلال في المقام بوجود المتيقن في مقام الجعل ، وهو التكليف الواحد المردد بين التعيين والتخيير ، الذي يعلم بامتثاله بأي طرف ، ومجرد تردد متعلق التكليف المذكور بين أحد الأطراف المعين وأحدها على نحو البدل لا يمنع من الانحلال بعد صلوحه للعمل على كل حال ، فلا يتنجز الأكثر.
    ولذا كان جريان البراءة هنا من الزائد والاكتفاء بفعل أحد الأطراف قريبا

    للمرتكزات جدا ، فلتكن هي المرجع في ذلك لو فرض عدم وضوح حال التقريبات المتقدمة.
    هذا ، والظاهر عدم الفرق في ما نحن فيه بين احتمال التكليف التعييني بكل من الأطراف بنحو يكون لكل طرف تكليفه الخاص به ، واحتمال التكليف التعييني بمجموع الأطراف بنحو يكون مجموعها موردا لتكليف واحد بنحو الارتباطية بينها ، فيجوز الاقتصار على أحد الأطراف عملا باحتمال التخيير ، والرجوع للبراءة من التكليف التعييني بكل منها.
    غايته أن الأول يكون نظيرا لجريان البراءة مع الشك في التكليف الاستقلالي ، والثاني يكون نظيرا لجريانها مع الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    التنبيه الرابع : أشرنا في صدر الكلام في هذا المقام إلى أقسام التخيير ، وذكرنا أن محل الكلام هو التخيير في الحكم الواقعي في مقام الجعل ، وأن التخيير في الحكم الظاهري ـ وهو التخيير بين الحجج ـ والتخيير في الحكم الواقعي في مقام الامتثال للتزاحم ، خارجان عن محل الكلام ، وإن كان المناسب هو التعرض لهما استطرادا ، فنقول :
    لا ينبغي الإشكال في أن الأصل مع الدوران بين التعيين والتخيير في الحجج هو التعيين ، للعلم معه بحجية المتيقن ، والشك في حجية الآخر ، الذي يكون المرجع فيه أصالة عدم الحجية على ما تقدم في تمهيد الكلام في مباحث الحجج.
    وكذا الحال مع الدوران بينهما في مقام الامتثال لأجل التزاحم ، فلو فرض تزاحم تكليفين ودار الأمر بين تساويهما المقتضي للتخيير بينهما ، وأهمية أحدهما المعين المقتضي لتعينه ، لزم العمل على الثاني.
    وينبغي التمهيد بمقدمة يتضح بها الوجه في ذلك ..

    وهي أن جهة الكلام في ذلك تختلف عن جهة الكلام في ما سبق ، للاختلاف بينهما في مقام الجعل والامتثال.
    أما مقام الجعل فلفرض أن التخيير هناك على تقديره ناشئ عن غرض واحد ، كما هو ظاهر الخطاب ، فليس هناك إلا تكليف واحد تخييري ناشئ عن ملاك واحد قائم بكلتا الخصوصيتين ، ومن ثمّ أمكن هناك فرض تعلق التكليف بالقدر المشترك بينهما ، وهو الأمر المنتزع منهما المعبر عنه بعنوان أحدهما وإن كان هو خلاف التحقيق.
    بخلاف المقام ، إذ لا إشكال في تعدد التكليف ذاتا ، لتعدد الغرض الناشئ منهما ، وحينئذ لا وجه لصرف التكليف التخييري الى القدر المشترك ، بل ليس المكلف به إلا كلّا منهما ، لاختصاص غرضه به.
    فلا مجال هنا لما تقدم من بعض مشايخنا هناك من توجيه العمل على التخيير بلزوم المتيقن والبراءة من التقييد بالخصوصية.
    غايته أنه لا بد من الالتزام بتقييد التكليف بكل منهما بصورة عدم الإتيان بالآخر.
    وربما قيل بسقوط التكليفين معا والتخيير بين الطرفين عقلا ، وإن كان الظاهر عدم تمامية ذلك ، لعدم الموجب لسقوط التكليفين رأسا بعد إمكان الجمع بينهما بالوجه المذكور.
    بل لو فرض سقوطهما لم يبق مجال لحكم العقل بالتخيير ، لاختصاصه بتشخيص الوظيفة في مقام امتثال التكليف بعد الفراغ عن جعله ، فالظاهر أن تخيير العقل بين الطرفين متفرع على التكليف بهما بالوجه المذكور ، ليكون راجعا إلى مقام الامتثال.
    وأما مقام الامتثال فلأنه مع الخروج هناك عن مقتضى التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير لا يعلم بحصول شيء من الغرض ، فلا يعلم بالامتثال ،

    نظير مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين عند الاقتصار على الأقل ، أما هنا فمع الخروج عن مقتضى التعيين يعلم بحصول أحد الغرضين ، بل امتثال تكليفه بناء على الترتب ، غاية الأمر أنه يحتمل مرجوحيته وكون الآخر الذي لم يمتثل هو الأهم الذي يجب امتثاله دونه.
    فلا مجال لما تقدم في توجيه وجوب الاحتياط هناك من الشك في تحقق امتثال التكليف المعلوم ، لأن الشك هنا في وجوب امتثال التكليف الآخر المحتمل الأهمية ، لا في تحقق امتثاله ، كما هو الحال هناك.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه يظهر من بعض المحققين قدّس سرّه أن الأصل عند الدوران بين التعيين والتخيير في باب التزاحم يقتضي البراءة وعدم التعيين ، لأن ذلك إنما يكون مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين بخصوصه ، وحيث كان ذلك مساوقا لاحتمال مساواة الطرف الآخر له ومانعيته من فعلية التكليف فيه ، كان راجعا إلى الشك في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة.
    وفيه : أن عدم فعلية التكليف في أحد المتزاحمين بسبب الآخر ليس لقصور في ملاكه وجعله ، ليرجع فيه للبراءة ، بل لكون المزاحم عذرا مسوغا لتفويته ، كتعذره ، وحيث كان ذلك مختصا بصورة مساواة المزاحم أو أهميته ، فمع احتمال مرجوحية المزاحم وعدم احتمال أهميته لا يعلم بكونه عذرا رافعا لفعلية المزاحم فيجب الاحتياط في المزاحم ، لعدم إحراز العذر عنه ، كما يجب الاحتياط مع الشك في القدرة ، أو في أصل المزاحمة ، أو في تحقق المزاحم ، لما هو المعلوم من أنه لا يجوز الاتكال على احتمال العذر ، بل لا بد من اليقين بوجوده ، بخلاف الطرف الآخر ، فإنه يعلم بمزاحمته بما يمنع من فعليته ، لكونه أهم منه أو مساويا له ، فيقطع بوجود العذر المسوغ له ، فلا محذور في تركه.
    وبالجملة : يجب المحافظة على محتمل الأهمية دون الآخر ، للشك في العذر المسوغ للترك في الأول ، والعلم به في الثاني ، ولا يصح الاتكال على

    احتمال العذر ، بل لا بد من العلم به ، ويأتي في خاتمة مباحث التعارض ما ينفع في المقام.
    تذنيب :
    حيث اتضح الكلام في الوجوب التخييري فالمناسب إلحاق ذلك بالكلام في الوجوب الكفائي.
    فنقول : لا ينبغي التأمل في أن الشك في أصل التكليف الكفائي مجرى للبراءة ، كما هو الحال في الشك في أصل الوجوب العيني التعييني أو التخييري.
    وأما مع دوران التكليف المعلوم بين كونه عينيا يجب على كل مكلف تحصيله وكونه كفائيا يغني فيه فعل أحدهم ، فالظاهر أنه يجوز الرجوع للبراءة للعمل على الثاني ، لرجوع الشك المذكور إلى الشك في كون الواجب هو صرف الوجود المتحقق بفعل واحد أو الوجود الخاص الذي لا يتحقق إلا بفعل المكلف نفسه ، فالشك في الحقيقة في أخذ الخصوصية التي هي زيادة في التكليف مدفوعة بالأصل.
    نعم ، لو كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي متمحضا في مقام الامتثال ، حيث لا يسقط العيني إلا بامتثال المكلف نفسه ويسقط الكفائي بامتثال غيره ، مع اتحادهما في متعلق التكليف اتجه الرجوع للاشتغال ، القاضي بالعمل على ما يطابق العيني ، لأن الأصل عدم سقوط التكليف إلا بتحقق المكلف به. لكن المبنى المذكور ضعيف ، كما تعرضنا لذلك في محله من مباحث تقسيمات الواجب. فراجع وتأمل جيدا.

    خاتمة
    ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في خاتمة هذا القسم من الاصول ، وهي التي لم يؤخذ فيها الحالة السابقة شروط العمل بالاصول المذكورة ، وأهمها الفحص ، واستطراد بعد ذلك إلى الكلام في قاعدة نفي الضرر.
    لكن اشتراط الفحص لما لم يختص بالاصول المذكورة ، بل يجري في غيرها كالاستصحاب ، بل في الطرق أيضا ، كان المناسب ذكره بعد الكلام في التعادل والتراجيح. وقد رأينا ذكره في خاتمة مباحث الاجتهاد والتقليد لرجوعه إلى بيان وظيفة المكلف عند الشك في وجود الدليل.
    كما أن قاعدة نفي الضرر لما كانت أجنبية عن محل الكلام ، بل لا مناسبة بينهما ، كسائر القواعد الفقهية ، كقاعدة نفي الحرج والطهارة وغيرهما ، كان المناسب إهمالها هنا ، وإن كان في ذلك خروج عما جرى عليه التبويب لهذه المباحث تبعا لشيخنا الأعظم قدّس سرّه.
    نعم ، المناسب هنا التعرض لجريان الاصول المذكورة في غير الحكم التكليفي من الأحكام الاقتضائية ، وهي منحصرة بالاستحباب والكراهة.
    فنقول : ـ ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد ـ
    أما مع الشك في الحكم الاستقلالي ـ كما لو شك في استحباب الغسل لقتل الوزغ ، أو كراهة سؤر البقر ـ فلا مجال للتمسك بالأدلة المتقدمة العقلية والنقلية للبراءة والاحتياط.
    لوضوح أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل مختصتان باحتمال العقاب والضرر اللازمين للتكليف.
    وكذا الأدلة الشرعية ، لوضوح أن مساق الرفع والوضع والسعة ونحوها مما اشتملت عليه أدلة البراءة رفع الحرج والضيق المختص بالتكليف ، ولا

    يشمل ما لا حرج في ثبوته ، ولا سيما مع وضوح سوق الأدلة المذكورة مساق الامتنان الذي يختص برفع التكليف.
    وأما ما ذكره بعض مشايخنا في وجه قصور تلك الأدلة عن الأحكام المذكورة من أن مفادها الرفع الظاهري الذي من لوازمه عدم وجوب الاحتياط ، مع أنه لا إشكال في استحباب الاحتياط في الأحكام المذكورة ، فلا مجال لفرض الرفع فيها.
    ففيه : أن رفع الأحكام المذكورة ظاهرا لا ينافي حسن الاحتياط عقلا لإحراز الواقع ، ولذا لا يكون التعبد بعدمها ظاهرا بمثل الاستصحاب ـ لو تمت أركانه في مورد ـ منافيا لحسن الاحتياط قطعا. فالعمدة ما ذكرنا.
    ومثل الأدلة المذكورة ما دل على التعبد بالحل عند الشك في الحرمة ، فإنه مسوق لبيان الحل المساوق للإذن المقابل للتكليف والمنع ، لا الحل بمعنى الإباحة المقابلة للأحكام الأربعة الاقتضائية ، لعدم ثبوت اصطلاح شرعي للحل في المعنى المذكور.
    ولا سيما مع كون الغاية في الأدلة المذكورة هو العلم بالحرمة الكاشف عن اختصاص موضوعها باحتمالها وسوقها لرفعها.
    كما أن أدلة الاحتياط التي استدل بها الأخباريون هناك لما كانت تعبدية محضة ، وكانت مختصة باحتمال الهلكة والحرمة كانت قاصرة عن شمول الأحكام المذكورة.
    نعم ، تقدم منا أن الاستصحاب مطابق عملا للبراءة ، ويصح التمسك به في موردها.
    والظاهر أنه لا مانع من التمسك به في الأحكام المذكورة بعد كونها أحكاما شرعية مجعولة ، كالأحكام الالزامية.

    هذا ، وقد يدعى أن إهمال الأحكام المذكورة وعدم العلم بها لا يرجع إلى مجرد عدم استحقاق ثوابها وقرب المكلف بامتثالها ، بل يقتضي زائدا على ذلك نحوا من الحزازة والبعد عن حظيرة المولى ، التي هي أشبه بالعتاب وإن لم تبلغ مرتبة العقاب ، كما قد يشير إليه بعض النصوص المتضمنة أن النبي صلّى الله عليه وآله يطالب بالسنة ، كما يطالب الله تعالى بالفرض.
    بل قد يترتب على ذلك بعض العقوبات الدنيوية ، كما قد يشير إليه ما تضمن أن الرجل يترك صلاة الليل ، فيحبس عنه الرزق.
    فإن تمّ هذا لم يبعد جريان نظير قاعدة قبح العقاب ، لإن الحزازة المذكورة من سنخ المؤاخذة والجزاء ، الذي لا يحسن إلا مع قيام الحجة الكافية.
    بل قد يصحح ذلك جريان مثل حديث الرفع ، لأن في ثبوت الأثر المذكور نحوا من الضيق يصدق بلحاظه الرفع ويتحقق برفعه الامتنان.
    وأما مع الشك في الحكم الضمني ، للدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ـ كما لو شك في جزئية السورة للنافلة ـ فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا مانع من الرجوع فيه الى حديث الرفع لرفع شرطية المشكوك في المركب في مقام الظاهر.
    لكنه لا يخلو عن غموض ، لأن المراد بذلك إن كان إثبات مجرد عدم استحباب الجزء ضمنا ، فقد عرفت منه عدم نهوض الحديث برفع الاستحباب.
    وإن كان إثبات مشروعية العمل وصحته بدونه ، فمن الظاهر أن حديث الرفع لا يقتضي ذلك في الأحكام التكليفية ، فضلا عن غيرها ، لأن ذلك من لوازم كون المأتي به تمام المركب ، وأن الطلب قد تعلق بالأقل لا بشرط الزيادة المشكوكة ، وقد تقدم في تقريب الأصل الشرعي في الأقل والأكثر الارتباطيين عدم نهوض أدلة البراءة بذلك.

    نعم ، لو اريد بالتمامية مجرد حصول تمام ما هو المتنجز الواصل وإن لم يحرز أنه تمام المطلوب لم يحتج في ذلك إلى أدلة البراءة ، للعلم بحصوله بمجرد الشك في جزئية الزائد أو شرطيته وفرض عدم تنجزه.
    كما أن الظاهر كفاية ذلك في مقام التقرب والامتثال ، فلا يعتبر إحراز كون المأتي به تمام المطلوب ، ولذا أمكن التقرب في الواجب المردد بين الأقل والأكثر مع الاقتصار على الأقل ، والتفريق بين الواجب والمستحب بلا فارق.
    وبالجملة : لا مجال للفرق في شمول أدلة البراءة للأحكام غير الإلزامية بين الأحكام الاستقلالية والضمنية بعد اشتراكها في الجهات المقتضية للجريان أو عدمه مما تقدمت الإشارة إليه.
    وأما العلم الإجمالي بالحكم الاقتضائي غير الإلزامي مع إمكان الاحتياط فالظاهر أن ما تقدم في وجه منجزية العلم الإجمالي جار فيه ، وإنما يختلف الحكم الإلزامي عن غيره بأن ترتب العقاب على معصيته موجب لمنع العقل من الإقدام على احتمال مخالفته مهما زوحم بالجهات الخارجية الموجبة لصعوبة إحراز امتثاله في فرض جعله ، ومنها صعوبة الاحتياط الناشئة من تكثر الأطراف في فرض العلم الإجمالي ، لأهمية العقاب بنحو لا يصلح شيء منها لمزاحمته.
    أما غيره من الأحكام فكما يصح للمخاطب بها الإقدام على مخالفتها القطعية يصح الإقدام على مخالفتها الاحتمالية بسبب صعوبة الاحتياط الناشئة عن تعدد الأطراف في ظرف العلم الإجمالي.
    نعم ، لا مجال لارتفاع حسن الاحتياط فيها ذاتا مع العلم الإجمالي ، كما لا يرتفع حسن إطاعتها مع العلم التفصيلي ، وإن كان قد يزاحم بما هو أهم.
    ثم إن الظاهر جريان ما تقدم في تنبيهات مباحث العلم الإجمالي من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في بعض الأطراف أو انحلاله في الأحكام

    غير الإلزامية.
    نعم ، في فرض عدم منجزية العلم الإجمالي في بعض الأطراف يلحقه حكم الشك البدوي ، الذي تقدم الكلام في جريان البراءة معه.
    كما أنه تقدم منا في أوائل الكلام في العلم الإجمالي التعرض للضابط في عدم جريان الاصول في الأطراف بنحو يشمل الأحكام غير الإلزامية ، كما ذكرنا هناك حكم العلم الإجمالي بأحد الحكمين الاقتضائيين الإلزامي وغيره من حيثية جريان الاصول وعدمه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا. فراجع.
    ومنه يظهر الحال فيما لو تعذر الاحتياط للدوران بين محذورين ، كما لو دار الأمر بين استحباب الشيء وكراهته ، فإن ما ذكر هناك من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية جار فيه.
    ولا ينبغي الإشكال في عدم وجوب الترجيح هنا ، بل غاية الأمر حسنه ، فيلحقه حكم التزاحم بين الاحتياطين ، وقد سبق في آخر التنبيه الرابع من تنبيهات الفصل الأول أن الترجيح يكون بأهمية التكليف ، وبقوة الاحتمال. فراجع وتأمل جيدا.
    ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في القسم الأول من الوظيفة العملية عند فقد الحجة ، وهو الذي لم تؤخذ فيه الحالة السابقة ، والتي ينحصر الأصل الجاري فيها بالبراءة والاحتياط والتخيير.
    والحمد لله رب العالمين على تيسير ذلك وتسهيله ، ونسأله أن يتم علينا نعمته بتوفيقنا لإتمام الأقسام ، كما نسأله أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، وأن يوفقنا لشكر نعمه وآلائه ، ويمدنا بعونه ورعايته ، إنه أرحم الرحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    وكان الفراغ من ذلك عصر الثلاثاء ، الرابع والعشرين من شهر شعبان

    المعظم ، سنة ألف وثلاثمائة وخمس وتسعين لهجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا.
    في النجف الأشرف ببركة المرقد المشرف على مشرفه أفضل الصلاة والسلام ، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلامة الجليل حجة الاسلام السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).
    والحمد لله في البدء والختام ، وبه الاعتصام.
    وقد انتهى تبييضه بقلم مؤلفه الفقير ليلة الأحد ، التاسع والعشرين من الشهر المذكور ، من السنة المذكورة.
    والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ، وسلم تسليما كثيرا.

    الفهرس


    المقصد الثاني في الاصول العملية
    حقيقة الاصول 9
    تقديم الاصول على الحجج 10
    أقسام الاصول 11
    أصالة الإباحة 12
    منهج البحث. تقسيم الاصول إلى قسمين 15
    القسم الأول : ما لم تؤخذ فيه الحالة السابقة 21
    الفصل الأول : في الشك في أصل التكليف 21
    تحرير النزاع 21
    البراءة العقلية 22
    الأدلة الشرعية المؤيدة لحكم العقل بالبراءة 24
    البراءة الشرعية ، أدلتها من الكتاب الشريف 31
    الاستدلال بالسنة. حديث الرفع 35
    تقريب عموم الحديث للشبهة الحكمية 38
    الكلام في عموم الآثار المرفوعة 40
    اختصاص الحديث بما يناسب الامتنان 42
    قبول الحديث للتخصيص 42
    حديث الحجب 43
    حديث الاطلاق 46
    صحيحة ابن الحجاج 49
    صحيحة ابن سنان 51
    موثقة مسعدة بن صدقة 53
    النسبة بين أدلة الاحتياط والبراءة 56
    الاستدلال بالاستصحاب 57

    أدلة الاحتياط. الكتاب الشريف 62
    السنة الشريفة 63
    نصوص التوقف عن الشبهة 64
    نصوص الأمر بالاحتياط 70
    حكم العقل بالاحتياط. أصالة الحظر. العلم الاجمالي بالتكاليف 72
    حكم إجمال الدليل 76
    تنبيهات
    الأول : في الشبهة الموضوعية 77
    لو علق الحل على عنوان وجودي 78
    الكلام في انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال 80
    الكلام في الدماء 84
    الكلام في الفروج 85
    الكلام في الأموال 87
    الثاني : في قاعدة الاشتغال 90
    صور الشك في الامتثال 91
    الشك في المحصل 92
    الشك في العنوان 93
    تذنيب : من كان عليه فوائت لا يحصيها 96
    الثالث : في الشك في حلية اللحوم ، والكلام في مقامين 102
    المقام الأول : في الشبهة الحكمية 103
    عمومات الحل 104
    حقيقة التذكية 107
    عموم قابلية الحيوان للتذكية 111
    موثق ابن بكير 113
    صحيح ابن يقطين 114
    خبر علي بن أبي حمزة 115
    الوجه المختار 116
    حكم الشك في التذكية 117

    آثار التذكية 119
    المقام الثاني : في الشبهة الموضوعية 125
    الرابع : في حسن الاحتياط ، مع الكلام في إمكان الروع عنه ،
    وفي النصوص الدالة على ذلك 127
    الكلام في أوامر الشارع بالاحتياط 132
    الفرق بين الأمر المولوي والارشادي 134
    أوامر الطاعة 135
    نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن 140
    الأقوال في مؤدى النصوص. والثمرة بينها 140
    المختار في المقام 145
    الكلام في لواحق القاعدة وفروعها 151
    إذا بلغ أصل الثواب من دون تحديد له 152
    بلوغ الثواب بالملازمة ، والمعيار في ذلك 153
    عموم البلوغ للخبر الحدسي 155
    الكلام في ورود الثواب في مورد احتمال الحرمة أو الكراهة 156
    الكلام في صورة قصور دلالة الخبر 158
    الكلام في الاخبار عن الموضوعات الخارجية 159
    التسامح في نقل القصص وفي المواعظ والفضائل 160
    الاحتياط في العبادات 162
    تزاحم الاحتياطين 166
    الخامس : في الشك في القدرة 167
    الفصل الثاني : في الشك في تعيين التكليف مع وحدة المتعلق 169
    الدوران بين الوجوب والحرمة. الكلام في مقتضى الاصل العقلي 169
    مقتضى الأصل الثانوي الشرعي 173
    المخالفة الالتزامية 174
    لو كان لأحد التكليفين منجز وجب مراعاته 176
    احتمال أهمية أحد التكليفين 178
    الكلام في مرجحية الظن 178

    الكلام في أن التخيير ابتدائي أو استمراري 180
    لو كان أحد التكليفين أو كلاهما تعبديا 184
    دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته 184
    الفصل الثالث : في الشك في تعيين المكلف به مع اختلاف المتعلق 187
    المعيار في الموافقة والمخالفة القطعيتين 187
    الكلام في المخالفة القطعية 190
    جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي 190
    المختار في المقام 196
    كلام المحقق النائيني 198
    الضابط في امتناع جريان الأصل في أطراف العلم 204
    لو علم اما بحرمة شيء أو استحباب آخر 206
    لو علم ببطلان الفريضة أو النافلة 208
    الكلام في وجوب الموافقة القطعية 210
    الكلام في استفادة جعل البدل من أدلة الاصول 215
    الكلام في الردع عن وجوب الموافقة القطعية 220
    الكلام في جريان الأصل في بعض الأطراف 221
    القول بالرجوع للقرعة 226
    تنبيهات
    الأول : فيما لو ثبت التكليف الاجمالي 231
    الثاني : فيما لو اختلفت الاطراف حقيقة 235
    الثالث : المعيار لترتيب الآثار 236
    لو امتاز بعض الأطراف بأثر 237
    الرابع : في لزوم فعلية التكليف على كل حال 241
    الكلام في عدم الابتلاء 243
    لو شك في دخل الابتلاء في التنجيز 250
    الشك في دخل الابتلاء في التنجيز 250
    حكم الشك في تحديد الابتلاء 252
    لو شك في الابتلاء بنحو الشبهة الموضوعية 256

    إذا كان بعض الأطراف موردا لتكليف تفصيلي 256
    صور عروض المانع من التنجيز من حيثية التقدم والتأخر 262
    إذا كان المانع من التنجيز سابقا على العلم الإجمالي أو متأخرا عنه ،
    مع الكلام في استصحاب التكليف في الصورة الثانية 263
    إذا تأخر حدوث المانع عن المعلوم بالاجمال وكان العلم به سابقا
    على العلم الاجمالي ، أو انعكس الأمر 271
    الخامس : فيما لو كانت الاطراف تدريجية الحصول 274
    لا بد في المنجزية من تحديد الأطراف 278
    السادس : فيما لو اقترن العلم الاجمالي بما يمنع من الموافقة القطعية
    فهل يجب تبعيض الاحتياط؟ 280
    السابع : في ملاقي بعض اطراف العلم الاجمالي بالنجاسة 292
    منشأ الحكم بنجاسة الملاقي ومناقشته 293
    الكلام في أن نجاسته الملاقي توسع لموضوع نجاسة الملاقى
    أو فرد آخر في قبالها؟ 296
    تنجز الأحكام الوضعية ، وأحكام التوابع والمنافع 297
    الكلام في العلم الاجمالي الحاصل بسبب الملاقاة 303
    الثامن : في انحلال العلم الإجمالي حقيقة أو تعبدا 318
    التاسع : في الشبهة غير المحصورة ، مع الكلام في ضابطها 325
    الاستدلال لعدم منجزية العلم الاجمالي بالاجماع والنصوص 326
    الكلام في الحرج وبعض الوجوه المذكورة في كلمات الأعيان 327
    الوجه المختار لعدم منجزية الشبهة المحصورة 334
    الكلام في المخالفة القطعية للشبهة غير المحصورة 334
    إذا قوى احتمال الحرام 336
    ضابط غير الشبهة المحصورة 337
    لو شك في تحقق ضابط الشبهة غير المحصورة 337
    لا يلغى حكم الشك في الشبهة غير المحصورة 338
    العاشر : في الشبهة الوجوبية المحصورة 339
    التمسك بالاستصحاب الموضوعي في الشبهة الوجوبية المحصورة 339

    الاحتياط في العبادة في موارد الشبهة الوجوبية المحصورة 344
    التردد في الشرط في الشبهة الوجوبية المحصورة 346
    الشبهة غير المحصورة إذا كانت وجوبية 347
    الفصل الرابع : في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين 349
    المعيار في الارتباطية 350
    الكلام في مقامين ..
    الأول : في الشك في دخل شيء في المكلف به وفيه مسألتان ..
    الاولى : في الشك في أخذ شيء في المكلف به جزءاً أو شرطا.
    مع الكلام في مقتضى الأصل العقلي 354
    الكلام في العلم الإجمالي 357
    قاعدة الاشتغال بالأقل 359
    شبهة الغرض 360
    الكلام في إجمال العنوان 363
    الكلام في مقتضى الاستصحاب 370
    المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين 372
    الكلام في الأصل العقلي 373
    الكلام في الأصل الشرعي 378
    تنبيهات
    الأول : في الشبهة التحريمية 380
    الثاني : في الشبهة الموضوعية 380
    الكلام في اللباس المشكوك 386
    الثالث : في الشك في القاطعية 389
    الرابع : في الشك في الركنية 393
    عموم الكلام في الشروط 393
    النقيصة العمدية 394
    النقيصة السهوية ، مع الكلام في صور دخل الجزء من حيثية النسيان 395
    اشتراك التكليف بين العامد والناسي مع إطلاق الخطاب 398
    لو لم يكن للخطاب إطلاق 399

    مقتضى الأدلة الاجتهادية والاصول العملية مع الشك في عموم الجزئية 407
    الكلام في الزيادة ، مع الكلام في مقتضى الأصل العملي 415
    الخامس : في تعذر الجزء أو الشرط 422
    الكلام في مقتضى الاستصحاب 424
    الكلام في جريان أصل البراءة 424
    الكلام في قاعدة الميسور مع الكلام في حديث الرفع 429
    نصوص القاعدة ، مع الكلام في سندها ودلالتها 429
    المقام الثاني : في الدوران بين التعيين والتخيير الشرعيين 438
    أقسام التخيير ، وصور الدوران بين التعيين والتخيير 438
    حقيقة الواجب التخييري 439
    الاستدلال على الأقوال في المسألة 442
    تنبيهات
    الأول : في تعذر ما يدور أمره بين الوجوب التعييني والتخييري 446
    الثاني : في دوران الشيء بين كونه عدلا وكونه مسقطا 448
    الكلام في الائتمام مع تعذر القراءة 449
    الثالث : في دوران الأمر بين التخيير ووجوب الجمع 451
    الرابع : في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ومقام الامتثال 452
    تذنيب : في تردد التكليف بين العيني والكفائي 455
    خاتمة : في جريان الاصول في الأحكام غير الالزامية 456
    الشك في أصل الحكم غير الالزامي 456
    الدوران بين الأقل والأكثر في الحكم الالزامي 458
    العلم الاجمالي بالحكم غير الالزامي 459
    الدوران بين محذورين في الحكم غير الالزامي 460
    الفهرس
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    المحكم في أصول الفقه [ ج4
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    »  مختصر أصول العشائر العراقية
    » تاريخ الفقه الجعفري
    » كتاب الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا ( عليه السلام

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 49- منتدى-أصول الفقه-
    انتقل الى: