المسألة الثالثة في المنهاج
قال سيّدنا الأُستاذ (قدسسره):
3 ـ وفي الضروريات لا معنى للتقليد كوجوب الصلاة وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط وإن أمكن تخيّر بينه وبين التقليد.
(المسألة السادسة في العروة)
قال المحقّق اليزدي (قدسسره):
مسألة 6 : في الضروريات لا حاجة إلى التقليد كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما. وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين ، وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يتمكّن من الاحتياط ، وإن أمكن تخيّر بينه وبين التقليد.
جاء في الغاية القصوى (1 : 7):
في قوله : (لا حاجة) ، قال : لو كانت الضروريّة محرزة لدى
المكلّف لا معنى للتقليد فيها إلّا أنّه لا حاجة إليه.
__________________
أقول : لمّا كان التقليد بمعنى رجوع الجاهل إلى العالم ، فإنّه إنّما يتمّ في المسائل النظريّة من الفقه الإسلامي ، فلا تقليد ولا اجتهاد في ما كان بديهيّاً ضرورياً في الإسلام كوجوب الصلاة والصوم فكلّ واحد يعرف ذلك حتّى الأولاد الذين لم يبلغوا سنّ التكليف ، وكذا لا اجتهاد ولا تقليد في ما حصل له اليقين ، فإنّ المقصود منهما هو حصول العلم واليقين فإذا كان له ذلك فإنّه يلزم تحصيل الحاصل ، فيصحّ عمل العامي لو حصل له اليقين بالأحكام الشرعيّة من أيّ طريق كان.
ويذهب السيّد الحكيم (قدسسره) في تعليل عدم التقليد في الضروريّات واليقينيّات بأنّ وجوب العمل شرعاً برأي الغير حكم ظاهريّ وهو يختصّ بحال الشكّ ، فيمتنع جعل حجّية رأي الغير الذي هو عبارة عن التقليد مع وجود العلم واليقين.
وأُجيب : إنّ وجوب العمل برأي الغير كوجوب العمل بسائر الحجج فإنّه حكم واقعي والحكم الظاهري ما يستفاد من مداليل تلك الحجج ، كما إنّ وجوب التقليد إرشاد من العقل للحكم بصحّة عبادات العاميّ ومعاملاته بالتقليد.
ثمّ إذا لم يكن مجتهداً ولم يتمكّن من الاحتياط فيتعيّن عليه التقليد ، فإنّه من الواجب التخييري وإذا تعذّر أحدهما تعيّن الآخر بحكم العقل.
والتقليد إنّما هو طريق لحصول العلم بامتثال الأحكام.
آراء الأعلام :
في قوله : (في الضروريات) ،
قال الشيرازي : إذا كان عنده ضروريّاً ، وأمّا الشاكّ فيجب عليه التقليد ، ولو في ما كان ضرورياً عند الناس.
المسألة الرابعة في المنهاج
قال سيّدنا الأُستاذ (قدسسره):
4 ـ وعمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل.
(المسألة السابعة في العروة)
قال المحقّق اليزدي (قدسسره):
مسألة 7 : عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل.
وجاء في الغاية القصوى (1 : 7):
في قوله : (باطل) ، قال : ظاهراً بنظر العقل في مقام الامتثال فلا يجوز الاكتفاء به والاقتصار عليه في الاطمئنان بالبراءة والأمن من العقوبة ما لم تنكشف صحّة العمل ، وأمّا لو انكشفت مطابقة عمله مع الواقع أو مع فتوى من يجوز تقليده فلا ريب في الصحّة.
__________________
أقول : لمّا كان المقصود هو الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة إجمالاً ،
والأمن من العقاب بالامتثال ودرك الواقع ولو تعبّداً ، فالعقل يحكم حينئذٍ بأنّ من لم يكن مجتهداً في الخلاص من عهدة التكاليف لا بدّ أن يكون مقلّداً أو محتاطاً ، فإنّ عمل العامي غير المجتهد بلا تقليد ولا احتياط باطل عقلاً لاحتمال عدم مطابقة العمل للواقع ، فلو علم بعد العمل بصحّته واقعاً أو ظاهراً لمطابقته لرأي من يجب عليه تقليده أو كان مطابقاً لرأيه فإنّه يكتفى به بحكم العقل ، أي لا يصحّ عقلاً أن يقتصر على التقليد في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحّته ومطابقته للواقع أو لرأي من يجوز تقليده فلا يجب عليه الإعادة حينئذٍ ، فلا يلزم البطلان رأساً بحيث يجب عليه الإعادة أو القضاء مطلقاً حتّى يكون المراد من البطلان حينئذٍ البطلان الشرعي كما توهّمه بعض المحشّين فقيّد البطلان بما إذا لم يصادف الواقع أو لم يتحقّق منه قصد القربة.
وهذا البطلان العقلي إنّما استظهرناه من الوجوب المذكور في المقام في المسألة الاولى في قوله (يجب على كلّ مكلّف ..) كما مرّ مفصّلاً ، فراجع.
فعمل العامي لو كان جاهلاً بالحكم لا يجزي ما دام جاهلاً لاحتمال فساد العمل عقلاً ، فإذا انكشف مطابقته للواقع أو لمن كان يجب عليه تقليده يحكم بالصحّة ويترتّب عليه آثارها.
فمن غسل ثوبه المتنجّس بالماء الطاهر مرّة واحدة وهو لا يعلم كفايتها ، فلا يترتّب آثار الطهارة عليه لاحتمال عدم حصولها ومقتضى الاستصحاب نجاسة الثوب ظاهراً ، فإذا علم حصول الطهارة بالغسل مرّة أو كان مطابقاً لفتوى من يجب تقليده ، فإنّه يجتزى به ويرتّب عليه آثار الطهارة. وهذا معنى البطلان العقلي.
آراء الأعلام :
في قوله : (باطل) ،
قال الأصفهاني : إذا كان مخالفاً للواقع ، أو كان عبادة ولم يحصل منه قصد القربة
كما سيأتي.
وقال النائيني : إذا لم يكن مطابقاً لرأي من يتبع قوله تعييناً ، وإلّا فلا وجه لإطلاقه بعد حجّية رأيه في حقّه كذلك بلا اعتبار البناء على اتباع قوله في حجّيته كما هو الشأن في سائر الحجج الشرعيّة ، ولذا نلتزم بعدم وجوب الموافقة الالتزامية فيها ، نعم مع عدم تعيين اتّباع رأيه لا محيص من دخل الالتزام والبناء على اتّباعه في حجّية رأيه ، ومن هذا البناء أيضاً ينتزع التقليد وإن لم يعمل فسقاً ، ولا اختصاص لهذه الجهة في المقام ، بل في جميع موارد التخيير في المسألة الأُصوليّة يعتبر للبناء على الأخذ بأحدهما في حجّيته ، فقبل البناء المزبور لا يكون في البين ملزم شرعي ، وإنّما يلزم العقل بالأخذ المزبور بمناط وجوب تحصيل الحجّة عند التمكّن كما هو ظاهر هذا.
وقال آل ياسين : إذا خالف الواقع أو كان عبادة ولم يتأتّ منه قصد القربة ، وإلّا صحّ مطلقاً.
وقال البروجردي : يأتي التفصيل.
وقال الجواهري : إلّا إذا وافق الواقع أو رأي من يقلّده.
وقال الحكيم : بمعنى أنّه لا يجتزى به حتّى يعلم أنّه صحيح بنظر المجتهد الذي يقلّده
بعد العمل.
وقال الخميني : إلّا إذا طابق رأي من يتّبع رأيه.
وقال الخوانساري : إذا خالف الواقع وأمّا إذا اعتمد على قول من يجوز الرجوع إليه ، فيحكم بالصحّة وإن خالف الواقع لكن مع الاعتماد على قوله ، ومع عدم الاعتماد مشكل.
وقال الخوئي : بمعنى أنّه لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحّته.
وقال الشيرازي : إن لم يطابق الواقع أو فتوى من يجب عليه تقليده.
وقال الفيروزآبادي : إلّا مع تحقّق القربة والمطابقة.
وقال كاشف الغطاء : أي لا يحصل به يقين البراءة ، فلو انكشف مطابقته للواقع وكان من المعاملات أو الإيقاعات أو الواجبات التوصّلية بل والتعبّدية إذا حصلت منه نيّة القربة صحّ على الأقوى ، بل لا إشكال في الصحّة.
وقال الگلپايگاني : يأتي تفصيله إن شاء الله.
وقال النائيني : إذا خالف الواقع ، أو كان عبادة ولم يتمكّن من قصد القربة لتزلزله وجهله.
المسألة الخامسة في المنهاج
قال سيّدنا الأُستاذ (قدسسره):
5 ـ أمّا لو انكشفت مطابقة عمله مع الواقع أو مع فتوى من يجوز تقليده فلا ريب في الصحّة.
__________________
أقول : ما ذكر في هذه المسألة إنّما هو تتمّة المسألة السابقة ، فلمّا كان المراد من البطلان هو البطلان العقلي ، فلا معنى لهذه الإشارة ، فإنّها إنّما تتلائم مع البطلان الشرعي كما يستظهر ذلك من كلمة الصحّة ، فتدبّر.
المسألة السادسة في المنهاج
قال سيّدنا الأُستاذ (قدسسره):
6 والتقليد هو العمل المستند إلى فتوى الغير أو الاستناد إليه في مقام العمل أو تطبيق عمله على فتواه ، فلما لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد فهو عنوان العمل.
(المسألة الثامنة في العروة)
قال المحقّق اليزدي (قدسسره):
مسألة 8 : التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن ، وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ بفتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد.
جاء في الغاية القصوى (1 : 7):
في قوله : (التقليد هو الالتزام) ، قال : الأقوى إنّ التقليد هو العمل المستند إلى فتوى الغير أو الاستناد إليه في مقام العمل أو تطبيق عمله
على فتواه فما شئت فعبّر ، وعلى أيّ حال ما لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد فهو عنوان للعمل ، فبالعمل الأوّل يتحقّق التقليد مقارناً ولا إشكال فيه ، وأمّا ما قيل في معناه من الوجوه ككونه الالتزام بالعمل بفتاويه ، أو أخذها للعمل أو تعلّمها للعمل أو غيرها ، فكلّها مدخولة والتفصيل موكول إلى محلّه ، والإشكال بكونه قسيماً للاجتهاد المتقدّم على العمل مندفع بأدنى تأمّل ، ثمّ قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المكلّف يقال له المقلّد لتقليده عمله على عنق المجتهد.
وفي قوله : (بقول مجتهد) ، قال : لقد أجاد (قدسسره) حيث عبّر بالمجتهد بدل لفظ الغير لشمول ذلك الأخذ بقول البيّنة ونحوها ، لكن الذي يسهّل الخطب إرادة الرأي من القول.
وفي قوله : (معيّن) ، قال : التقيّد بالتعيّن لا وجه له في صورة اتحاد المجتهد لعدم التعدّد ولا في صورة التعدّد مع اتفاق الفتاوى لمكان حجّية الجامع بينها ، ولا في صورة التعدّد والاختلاف لو قيل بالسقوط عند التعارض وكون المرجع الاحتياط.
__________________
أقول : التقليد لغةً : بمعنى وضع القلادة في عنق الغير فيقال : قلّدت الفتاة أو جعلت القلادة في عنقها.
واختلف الأعلام في معنى التقليد المصطلح على أقوال عديدة كما ذكرنا تفصيل ذلك.
1 ـ ففي النهاية والمعالم وشرح المختصر ورسالة الشيخ الأنصاري نسبته على علماء الأُصول ، أنّه (العمل بقول الغير من غير حجّة ومطالبة دليل).
2 ـ وعن جامع المقاصد وبعض ، أنّه : (قبول قول الغير).
3 ـ وعن فخر المحقّقين : (قبول قول الغير في الأحكام الشرعيّة من غير دليل على خصوص ذلك الحكم). بل بنحو الإجمال يقبل قوله بأنّه في كلّ مسألة يقول : (هذا ما أفتى به المجتهد والمفتي ، وكلّ ما أفتى به فهو حكم الله في حقّي ، فهذا حكم الله في حقّي).
4 ـ وعن الفصول والكفاية أنّه : (الأخذ بقول الغير ورائه للعمل به في الفرعيّات أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه).
5 ـ وذهب السيّد اليزدي (قدسسره) وجمع أنّه (الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ).
6 ـ وقيل : إنّه تعلّم الفتوى للعمل.
7 ـ وقيل : إنّه (متابعة قول الغير ورائه).
8 ـ وقيل : إنّه (الالتزام والتعلّم كليهما).
ثمّ يا ترى هل الاختلاف عند الأعلام لفظيّاً وإنّ المعنى واحد ، أو جوهريّا معنويّاً يترتّب عليه آثار مختلفة؟
قال صاحب المستمسك (قدسسره) : (هذا الاختلاف وإن كان بدواً ظاهراً في الاختلاف في معنى التقليد ومفهومه إلّا أنّ عدم تعرّضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة ، يدلّ على كون مراد الجميع واحداً وأنّ
اختلافهم بمحض التعبير) (1).
والظاهر خلاف ذلك ، فإنّ بين معنى التقليد العمل ومعناه الأخذ أو الالتزام بون واسع ربما على طرفي نقيض أو تضادّ. كما إنّهم فرّعوا على الخلاف في معنى التقليد بعض الأحكام الشرعيّة كمسألة البقاء على تقليد الميّت ، فمن قال بالعمل فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بفتواه دون العمل فإنّه يكون مقلّداً له على القول بالالتزام دون القائل بالعمل ، وكذلك في مسألة العدول عن الحيّ إلى الحيّ ، كما إنّ المحقّق الخراساني صرّح بأنّ التقليد في العبادات لو كان نفس العمل للزم الدور لتوقّف التقليد على التقليد ، فإنّ العامي إذا لم يقلّد لا يتمكّن من الإتيان من الفعل.
نعم ، ربما الأقوال ترجع بعضها إلى بعض وتكون ثلاثة : عبارة عن الالتزام كما عند الماتن ، أو الأخذ بقول الغير كما عند صاحب الكفاية ، أو نفس العمل مستنداً إلى رأي الغير.
حجّة من قال بأنّ التقليد هو الأخذ والالتزام وجوه :
الأوّل : لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل على طبق فتوى الغير فإنّه يلزم أن يكون أوّل عمل يصدر من المكلّف يصدر من غير تقليد ، لأنّه غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل ، وكما أنّ المجتهد يستند إلى اجتهاده وهو أمر سابق على عمله فكذلك العامي لا بدّ أن يستند إلى التقليد فيكون تقليده سابقاً عليه ، فالتقليد قبل العمل وهذا معنى الالتزام.
__________________
(1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 11.
وأُجيب بأنّ التقليد عنوان للعمل استناداً إلى رأي الغير ، ولا تقابل بين الاجتهاد والتقليد حتّى يكون سبق الأوّل على العمل موجباً لسبق الثاني عليه ، بل التقابل بين عمل المجتهد وعمل المقلّد ، فالعمل المستند إلى ما حصله من المدرك عمل المجتهد ، والعمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلّد. فالتقليد عنوان ينطبق على نفس العمل فبينهما المقارنة ولا يلزم السبق الزماني ، ولا دليل على اعتبار السبق. فإنّ الواجب سبق تحصيل الحجّة على العمل ليأمن من العقاب.
الثاني : إنّ الاجتهاد والتقليد متقابلان ، والأوّل بمعنى أخذ الحكم عن المدرك ويكون الثاني كذلك عبارة عن الأخذ لا عن مدرك بل بقول الغير ، فكما أنّ الاجتهاد متقدّم على العمل فكذلك التقليد.
وأُجيب : إنّه لم يثبت تقابلهما بهذا المعنى بل هما متقابلان باعتبار العنوان للعمل كما في الاحتياط وأنّ التقابل بين العملين عمل المجتهد وعمل المقلّد.
الثالث : لو كان التقليد هو العمل للزم الدور في العبادات ، فإنّ وقوعها يتوقّف على قصد القربة وهو يتوقّف على العلم بكونها عبادة ، فلو توقّف العلم بكونها عبادة على وقوعها للزم الدور.
وأُجيب : أنّ مشروعيّة العمل لا تتوقّف على التقليد بل تتوقّف على الاستناد إلى الحجّة الدالّة على المشروعيّة كفتوى المجتهد.
وأمّا قول السيّد اليزدي (قدسسره) بأنّ التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن ، فقد قيل إنّ المتبادر منه أنّ من قوام التقليد أن يكون بقول مجتهد معيّن ، إلّا أنّه لا وجه لذلك ، فإنّه يتمّ التقليد مع تعدّد المجتهدين أيضاً ، فإنّه عند تعدّدهم إمّا ان
يتّفقوا في الفتوى أو يختلفوا فيها ، فمع الاتفاق يلزم أن يكون التقليد عن بعضهم تقليداً عن الجميع. فإنّه لا موضوعيّة لقائل القول في تحقّق التقليد ، فالحجّية باعتبار القول ولا مدخل للقائل إلّا باعتبار الجهة التعليليّة لحجّية القول ، ومع اتحاد الأقوال واتفاقهم لا اعتداد بالقائل. فالأقوال كلّها متساوية من جهة الحجّتية ، كما إنّ السيرة العقلائيّة تحكم برجوع الجاهل إلى العالم من دون اشتراط تعيّن العالم عند وحدة النظر بين الخبراء ، فإذا حصلت لهم معرفة برأيه يأخذون به من غير توقّف على معرفة صاحب الرأي والقول مطلقاً.
وقد أنكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسكة محتجّاً بأنّ الفرد المردّد ليس له خارجيّة كي يصلح أن يكون موضوعاً للحجّية أو غيرها من الأحكام.
وأُجيب : بأنّ الحجّية من الأحكام الوضعيّة وهي من الأُمور الاعتباريّة فلا تفتقر إلى معروض خارجي ، فإنّها تابعة لكيفيّة اعتباره لمن كان بيده الاعتبار.
هذا فيما لو اتّفق المجتهدون وأمّا مع اختلافهم في الفتوى ، فقيل : لا بدّ من التعيّن لامتناع أن يكون الجميع حجّة للتكاذب الموجب للتناقض ، ولا واحد معيّن لأنّه بلا مرجّح ، ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى فإنّه خلاف الإجماع والسيرة ، فيلزم أن يكون الحجّة هو ما يختاره.
وأُجيب بعدم تمامية الحصر لإمكان الرجوع إلى أحوط الأقوال أو ما وافق المشهور ، كما يمكن الرجوع إلى الأعدل والأصدق وغير ذلك من المرجّحات الداخليّة والخارجيّة.
كما إنّ لزوم التكاذب الموجب للتناقض إنّما يستلزم لو قيل ببقاء الجميع على
المنجّزية ، أمّا مع التعارض والتساقط تبقى المعذّريّة ولا مانع من ذلك.
آراء الأعلام :
في قوله : (التقليد) ،
قال الشيرازي : كون العمل على استناد لا يخلو عن قوّة ، والاحتياط بمعنى عدم العدول من الحيّ إلى الحيّ بعد الالتزام وقبل العمل ، وعدم البقاء إذا مات المجتهد قبل العمل لا ينبغي تركه.
وفي قوله : (الالتزام بالعمل) ،
قال الأصفهاني : مع الأخذ للعمل ، وهذا هو التقليد المصحّح للعمل ، وأمّا ما هو الموضوع لجواز البقاء على تقليد الميّت وعدم جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ فهو الالتزام والأخذ مع العمل.
وقال البروجردي : بل هو نفس العمل ولا مدخليّة للالتزام في شيء من الأحكام.
وقال الحائري : فيه إشكال ، بل لا يبعد كون التقليد عبارة عن متابعة المجتهد في العمل بأن يكون معتمداً على رأيه في العمل.
وقال الحكيم : بل هو العمل اعتماداً على فتوى المجتهد.
وقال الخميني : بل هو العمل مستنداً إلى فتوى المجتهد ولا يلزم نشوؤه عن عنوان التقليد ، ولا يكون مجرّد الالتزام والأخذ للعمل محقّقاً له.
وقال الخوانساري : الأقوى عدم تحقّق التقليد إلّا بالتزام مع العمل.
وقال الخوئي : بل هو الاستناد إلى فتوى الغير في العمل ، ولكنّه مع ذلك يكفي في
جواز البقاء على التقليد أو وجوبه ، تعلّم الفتوى للعمل وكونه ذاكراً لها.
وقال الفيروزآبادي : حين العمل.
وفي قوله : (معين) ،
قال النائيني : لا إشكال في تحقّقه بالعمل بفتواه ، وفي تحقّقه بتعلّم الفتوى للعمل بها إشكال ، أمّا الالتزام وعقد القلب وأخذ الرسالة ونحو ذلك فالأقوى عدم تحقّقه بشيء من ذلك ، لكنّ الأحوط الأخذ به ما لم يجب العدول عنه إمّا لموت ذلك المجتهد ، أو لأعلميّة الآخر منه ، أو نحو ذلك.
وفي قوله : (بل ولو لم يأخذ فتواه) ،
قال الگلپايگاني : فيه تأمّل ، والظاهر أنّه يتحقّق بأخذ فتوى المجتهد للعمل به ، وإن لم يعمل بعدُ ، ولكنّ الأولى والأحوط في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت الاقتصار على ما عمل به.
وفي قوله : (بما فيها) ،
قال الفيروزآبادي : وعمل.
وفي قوله : (تحقّق التقليد) ،
قال آل ياسين : الذي يناط به صحّة العمل ابتداءً ، أمّا في البقاء وحرمة العدول فاعتبار العمل فيه لا يخلو عن قوّة.
وقال الجواهري : لا يكفي الالتزام بل لا بدّ من العمل.
وقال كاشف الغطاء : بل يكفي الالتزام بالعمل بفتاويه ، فإنّ التقليد كالبيعة والعهد يتحقّق بإنشاء الالتزام.
المسألة السابعة والثامنة في المنهاج (1)
قال سيّدنا الأُستاذ (قدسسره):
7 ـ والأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت مطلقاً من غير تفصيل بين كون الميّت أعلم من الحيّ أو مساوياً أو مفضولاً بالنسبة إليه ومن غير تفصيل بين كون قوله أحوط الأقوال وعدمه وغير ذلك ، ثمّ تقيّد الجواز واختصاصه بالمسائل المعمولة للمكلّف زمن حياة مقلّده مبنيّ على بعض الوجوه دون كلّها.
8 ـ ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً.
(المسألة التاسعة في العروة)
قال المحقّق اليزدي (قدسسره):
مسألة 9 : الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت ، ولا يجوز
__________________
(1) منهاج المؤمنين 1 : 6 ، المسألة 7 و 8.
تقليد الميّت ابتداءً.
جاء في الغاية القصوى (1 :
:
في قوله : (الأقوى) ، قال : الأقوى ذلك مطلقاً من غير تفصيل بين كون الميّت أعلم من الحيّ أو مساوياً له أو مفضولاً بالنسبة إليه ، ومن غير تفصيل بين كون قوله أحوط الأقوال وعدمه وغير ذلك من التفاصيل المقولة أو المحتملة في المسألة ، ثمّ تقييد الجواز واختصاصه بالمسائل المعمولة للمكلّف زمن حياة مقلّده مبني على بعض الوجوه دون كلّها.
__________________
أقول : كان الأولى كما هو مقتضى الطبع تقديم مسألة عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً على مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت ، ولهذا نتعرّض أوّلاً لمسألة تقليد الميّت ابتداءً ثمّ مسألة البقاء ، فالكلام يقع في مقامين :
المقام الأوّل في تقليد الميّت ابتداءً.
سيذكر المحقّق اليزدي (قدسسره) في مسألة (22) عند تعرّضه لشرائط المجتهد أنّه يشترط فيه الحياة ، ولا يخفى أنّه اشتهر ذلك بين الإماميّة عند التمكّن من تقليد الحيّ ابتداءً ، وإن لم يتمكّن فيجوز تقليد الميّت ابتداءً كما صرّح بذلك صاحب الفصول.
ثمّ ثمرة النزاع تظهر عند اختلاف الحيّ والميّت في الفتوى.
وقد اختلف فقهاء المسلمين في اعتبار الحياة على أقوال : فمنهم من قال بالجواز مطلقاً ، ومنهم من قال بعدمه مطلقاً ، ومنهم من قال بالتفصيل بين التقليد الابتدائي فيعتبر الحياة وبين التقليد الاستمراري فلا يعتبر ، وعلى هذه الأقوال يتفرّع جواز البقاء وعدمه.
وبيان المختار يستلزم بيان أدلّة الأقوال.
وقبل البيان : اعلم أنّ من ديدن الأعلام في مثل هذا المقام تأسيس أصل أوّلي يرجع إليه عند عدم تماميّة الأدلّة في الأقوال.
وقد يقرّر الأصل الأوّلي في المقام بوجوه :
الأوّل : الأمارات إمّا أن تكون علميّة فهي حجّة يترتّب عليها آثار الحجّة من المنجّزيّة والمعذّريّة والإطاعة والعصيان والانقياد والتجرّي ، أو تكون غير علميّة فالأصل عدم حجّيتها إلّا إذا أُحرز التعبّد بها ، فمع الشكّ يقطع بعدم الحجّية ، فإنّ الشكّ في مثل هذا المقام يساوق العدم ، فعدم الدليل دليل العدم. والقدر المتيقّن من أدلّة مشروعيّة التقليد هو جواز تقليد الحيّ ، فلا تكون فتوى الميّت حجّة حينئذٍ للشكّ وعدم الدليل ، فالأصل الأوّلي يحكم بعدم حجّية كلّ أمارةٍ شكّ في حجّيتها ، فلا تترتّب الآثار عليها.
وإشعار المحقّق الخراساني إلى هذا الأصل قائلاً : (ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان).
وأورد عليه : بأنّ الحكم بعدم الحجّية عند الشكّ فيها مخصوص بالصورة التي
لم تكن تلك الأمارة مسبوقة بالحجّية ، وإلّا كان مجرى الأصل هو الحجّية.
وإلى هذا الأصل بهذا التقرير يشير سيّدنا الخوئي (قدسسره) كما جاء في التقريرات قائلاً : وكيف كان فمقتضى الأصل عدم حجّية قول المجتهد بعد موته كما هو الحال في كلّ أمارة يشكّ في حجّيتها ولا مخرج عن هذا الأصل سوى ما استدلّ به على الجواز من وجوه لا يخلو شيء منها من المناقشة (1).
الثاني : المراد من الأصل قاعدة الاشتغال العقلي بأنّ العقل يحكم بعدم براءة الذمّة عن الاشتغال بالتكليف المعلوم ولو إجمالاً بعد العمل بفتوى المفتي الميّت ، وبعبارة اخرى يدور الأمر بين التعيّن والتخيير ، فإنّه لو قلّد الحيّ يعلم بفراغ ذمّته عمّا اشتغلت به ، فإنّ فتواه أمّا حجّة تعيّنية لاحتمال اشتراط الحياة فيه ، أو حجّة تخييرية بينه وبين الميّت ، بخلاف تقليده الميّت فإنّه لم يعلم بفراغ ذمّته لاحتمال اعتبار الحياة ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والعقل يقول بالأوّل لا سيّما في الطرق ، فإنّه يرى الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.
وأورد عليه : أنّه لا ينفع للزوم الأخذ بفتوى الحيّ مطلقاً حتّى إذا كان الميّت أعلم بأن يكون أحسن استنباطاً وأجود دركاً ، فلو ثبت اشتراط الحياة فهو بشرط تعبّدي دون الأعلميّة فإنّه من الشرط العقلي ، فيحتمل تعيّن الرجوع إلى الأعلم فيدور الأمر بين التعيّنين ، فالأصل لا ينفع مطلقاً حتّى لو كان الميّت أعلم.
__________________
(1) فقه الشيعة 1 : 43.
وأُجيب : بأنّه لم يقل واحد من فقهاء الإماميّة بتعيّن تقليد الميّت الأعلم ، كما إنّ جواز الرجوع إلى المجتهد الحيّ ممّا تسالم عليه الأصحاب منذ زمن الأئمة (عليهمالسلام) ، فمع احتمال اشتراط الحياة يدور الأمر بين التعيّن والتخيير فيتمّ الأصل مطلقاً.
توهّم ودفع :
يذهب المحقّق القمّي (قدسسره) صاحب القوانين إلى القول بالانسداد ، ومن ثمّ يقول بحجّية الظنّ مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل كالقياس ، ثمّ في مقام العمل يرى وجوب العمل بأقوى الظنّين ، فربما يتوهّم فيما نحن فيه أنّه يجب تقليد الميّت الأعلم ولو ابتداءً لكون الظنّ الحاصل من فتواه أقوى من الحاصل من الحيّ غير الأعلم.
وأُجيب : إنّ ما يقوله من جواز تقليد الميّت ابتداءً وعدم اشتراط الحياة كما صرّح صاحب الكفاية بأنّ ذلك خيرة الأخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا ، ولعلّ مراده من بعض المجتهدين صاحب القوانين ، ليس من باب لزوم تقليد الأعلم بما هو أعلم ، بل باعتبار ما عنده من المبنى حيث يرى انسداد باب العلم والعلمي في زمن الغيبة الكبرى بتوهّم اختصاص الخطابات بالمشافهين وبمن قصد إفهامه ، فيعمل بكلّ ما يكون أقوى من غيره ، كما إنّ الأقربيّة في فتوى الأعلم مطلقاً حتّى في صورة مخالفة فتواه للمشهور أو الاحتياط ممنوعة ، فلم يظهر من المحقّق القمّي وجوب تقليد الأعلم بما هو أعلم (1).
__________________
(1) الدرّ النضيد 1 : 215.
الثالث : ربما المراد من الأصل قاعدة الاشتغال الشرعي بأن يستصحب الاشتغال بالتكليف بعد العمل بقول الميّت دون الحيّ.
وأُورد عليه : إنّما يثبت ذلك لو لم تكن الأمارة مسبوقة بالحجّية ، وإلّا كان مجرى الأصل هو الحجّية.
الرابع : ما قرّره المحقّق الأصفهاني (قدسسره) في رسالته (الاجتهاد والتقليد) قائلاً :
ولا ريب في أنّ مقتضى الأصل عدم حجّية رأى الميّت وفتواه وقصور الدليل العقلي على التقليد عن الاقتضاء لجوازه ، لأنّ العقل إن أذعن بلزوم الاستناد إلى من له الحجّة إلّا أنّه مع الدوران بين الاستناد إلى الحيّ والاستناد إلى الميّت لا يقضي إلّا بالاستناد إلى الحيّ لليقين معه ببراءة الذمّة ، دون الاستناد إلى الميّت فلا محالة يتعيّن تقليد الميّت (1).
الخامس : ما قرّره صاحب المستمسك سيّدنا الحكيم (قدسسره):
بأنّ العقل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير حاكم بالاحتياط بالرجوع إلى معلوم الحجّية وهو قول الحيّ ، فإنّ جواز الرجوع إلى الميّت غير معلوم. ومن ذلك تعرف الفرق بين تقليد الميّت ابتداءً واستمراراً ، وأنّه في الأوّل لا يقين بثبوت
__________________
(1) الاجتهاد والتقليد : 20 ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
أمر شرعي سابقاً كي يجري الاستصحاب فيه بخلاف الثاني (1).
ونوقش :
أوّلاً : بأنّ قول الميّت معلوم الحجّية أيضاً بالاستصحاب ، فلا يدور الأمر بين التعيين والتخيير.
وثانياً : إنّ الحكم بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيّن والتخيير لو كان التخيير المحتمل من قبيل التخيير الشرعي كما لو شكّ في حجّية الشهرة عدلاً لخبر الثقة فيكون محتمل التخيير بحسب الطبيعة مبايناً لمحتمل التعيين ، فيرجع الشكّ حينئذٍ إلى اتحاد المتباينين في الأثر ، فيقال من باب الأحوط بالتعيين. أمّا لو كان التخيير المحتمل من قبيل التخيير العقلي بأن يكون الأمران مصداقين لطبيعة واحدة ، فيرجع الشكّ إلى اعتبار أمر زائد على الطبيعة ويجري فيه البراءة فيكون التخيير في محلّه.
وما نحن فيه من التخيير العقلي لأنّ الشكّ في كون الميّت عدلاً للحيّ ينشأ من الشكّ في اشتراط الحياة في المجتهد.
وربما يكون من الشكّ السببي والمسبّبي ومع جريان البراءة في السبب لا مجال للمسبّب ، فالشكّ في حجّية قول الميّت مسبّب عن الشكّ في اشتراط الحياة في المفتي عند الشارع وحكم الشارع بعدم اشتراطها يوجب ارتفاع الشكّ في الحجّية ، فيلزم حينئذٍ جواز تقليد الميّت.
__________________
(1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 22.
أدلّة القول بجواز تقليد الميّت ابتداءً
كلّ المذاهب الإسلامية دون الفرقة الناجية من الأُصوليين من الإماميّة الاثني عشريّة يقولون بجواز تقليد الميّت ابتداءً ، وحصر أبناء العامّة التقليد في الأئمة الأربعة (أبي حنيفة ، وأنس بن مالك ، ومحمّد بن إدريس الشافعي ، وأحمد بن حنبل) بعد اجتماعهم في الأندلس وتقرير الدولة الحاكمة آن ذاك على ذلك ، وكان في عصر علم الهدى المتوفّى سنة 436 ق. وإنّما حصروا المذاهب في الأربعة لتغلّب الأهواء والرأي والاستحسانات الظنّية عليهم ، وعدم تمسّكهم بعدل القرآن الكريم العترة الطاهرة أهل البيت (عليهمالسلام) ولمآرب اخرى يذكرها التأريخ.
وأمّا الإمامية فذهب المشهور بل الأشهر منهم إلى عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً وشرذمة قليلة كما ينسب إلى المحقّق القمّي في جامع الشتات (الصفحة 155) وصاحب الحدائق ، بل وسائر الأخباريين ذلك.
وغاية ما يمكن أن يستدلّ به وجوه :
الأوّل السيرة العقلائيّة :
فإنّ العقلاء على مرّ التأريخ يرجع الجاهل منهم إلى العالم في كلّ فنّ وحرفة ومقام ومقال مطلقاً ، فلا يفرّقون بين الأحياء والأموات ، فربما المريض منهم يرجع إلى كتب ابن سينا كالقانون في الطبّ فيعالج نفسه ، كما لا فرق عندهم في طريقيّة الفتوى إلى الواقع بين الحيّ والميّت.
وأُجيب : إنّ الرجوع إنّما يكون بالنسبة إلى الخبراء ، فإنّهم يرجعون إلى أمثالهم لتتميم معلوماتهم ، وأمّا غير الخبراء فرجوعهم غير معلوم ، بل ربما يوبّخ من رجع إلى ميّت وأخطأ ، بأنّه لِمَ لم يرجع إلى الحيّ ، لا سيّما مع الاختلاف بين رأي الأموات والأحياء. كما لم تثبت السيرة في الأحكام الشرعيّة ، كما لم تقم حجّة على صحّة سيرتهم ، فلم يدلّ دليل على رضا الشارع بسيرتهم ، كما لم تكن الكتب الفتوائيّة في الصدر الأوّل حتّى يثبت رجوع العوامّ إليها من باب بناء العقلاء وسيرتهم ، كما لنا الدليل على حجّية فتوى الحيّ فهو كان في روع السيرة ، ولو كانت السيرة ثابتة للزم حصر التقليد في واحد لوجود الأعلم ولزوم تقليده ، وقد يدّعى الإجماع على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، فلم يتمّ بناء العقلاء حينئذٍ.
أدلّة عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً
الإجماع :
استدلّ المشهور على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً بالإجماع ، ولعلّه العمدة عندهم كما حكي ذلك عن جماعة منهم ، وأنّه من منفردات الإماميّة ، وعن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة عدم الخلاف ، والشهيد الثاني في المسالك وفي منية المريد كذلك ، وولده صاحب المعالم أنّه ظاهر الأصحاب ، وذهب الوحيد البهبهاني في الفوائد إلى الإجماع.
وفي رسالة ابن أبي جمهور الأحسائي ما يظهر منه دعوى الإجماع عند
الإماميّة وأنّ قول الميّت كالميّت ، وادّعى المحقّق النائيني في رسالته : إطباق الطائفة الأُصوليّة قديماً وحديثاً على عدم الجواز إلّا ما يظهر عن المحقّق القمّي وصاحب الحدائق من الميل إلى الجواز ، إلّا أنّ مخالفتهما لا يقدح في الإجماع الحدسي كما هو محقّق في محلّه ، فإنّ ما عند القمّي من ذهابه إلى اختصاص الخطابات الشرعيّة بالمشافهين ، ومن ثمّ انسداد باب العلم والعلمي وحجّية الظنّ المطلق ، ومنها قول الميّت وفتواه ابتداءً ، والمبنى هذا غير تامّ وإنّه مردود كما في علم أُصول الفقه.
وأمّا حجّية الإجماع فذهب الشيخ الأنصاري (قدسسره) في تقريراته : إنّه بعد التتبّع واعتراف بعض الأعاظم بأنّه بعد الفحص الأكيد لم نطّلع على خلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط على عدم تقليد الميّت ابتداءً ، فيفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متّفق عليه بينهم في الحجّية ، ولا أقلّ من الأصل السالم عن المعارض ، وما توهّم دليل على الجواز من إطلاق الآيات والروايات ، وذلك فإنّ عثورهم على تلك الأخبار والآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها ومصيرهم إلى ما تقضيه الأُصول والضوابط من المنع ممّا يقتصر بعدم انقطاع حكم الأصل ، فتطرّق الوهن في دلالتها على جواز تقليد الميّت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد.
فبناء العقلاء في الرجوع إلى المجتهدين الأموات وإن يدلّ على عدم اعتبار الحياة فيهم ، إلّا أنّ مع وجود هذا الإجماع وادّعائه يكشف عن حجّة معتبرة عندهم تدلّ على عدم تقليد الميّت ابتداءً.
وأُورد على هذا : إنّه من الإجماع المدركي المستند على الأدلّة الاعتباريّة