الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
اهل البيت
المواضيع الأخيرة
» المحكم في اصول الفقه ج3
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyاليوم في 7:32 من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyاليوم في 6:55 من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 20:49 من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:11 من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:36 من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 7:51 من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:46 من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:37 من طرف الشيخ شوقي البديري

»  فقه الحضارة
القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:25 من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:41

    الإهداء
    إلى وليّ الله الأعظم صاحب العصر والزمان مولانا الإمام المهدي من آل محمّد (عليهم‌السلام) وعجّل الله فرجه الشريف.
    إلى فقهاء الإسلام عبر الأعصار والأمصار ..
    إلى مؤسّس الحوزة العلميّة المباركة في النجف الأشرف شيخ الطائفة شيخنا الطوسي (قدس‌سره) (المتوفّى 460 ه‍ ق).
    إلى مؤسّس الحوزة العلميّة المباركة في قم المقدّسة شيخنا الكريم الحائري (قدس‌سره) (المتوفّى 1355 ه‍ ق).
    إلى القرّاء الأعزّاء.
    أُقدّم هذا المجهود المتواضع بأمل القبول والدعاء ..
    العبد
    عادل العلوي
    قم المقدّسة الحوزة العلمية


    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
    الحمد لله ربّ العالمين المحمود لآلائه ، المشكور لنعمائه ، المطاع في أقواله ، الرشيد في أفعاله ، والمعبود لكماله .. حمداً وشكراً لا يبلغه الحامدون والمجتهدون في حمده وثنائه .. والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأوّل الممكنات سيّد الكائنات ، أفضل المرسلين وخاتم النبيّين ، محمّد المصطفى الأمين ، وعلى آله الطاهرين وذرّيته المكرّمين ، واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم وفقههم من بدو الخلق إلى قيام يوم الدين.


    كتاب الاجتهاد والتقليد
    وفيه مسائل
    المسألة الاولى في المنهاج (1)
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره) :
    1 يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته بالمعنى الأعمّ الشامل للسياسات والعاديات أيضاً ، فالمراد ما يشمل كافّة الاختيارات فعلاً وتركاً ، أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    __________________
    (1) منهاج المؤمنين 1 : 3.


    (المسألة الاولى في العروة)
    جاء في العروة الوثقى (1)
    __________________
    (1) قد ذكر آية الله العظمى المحقّق السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس‌سره) قبل بيان المسائل مقدّمة نذكرها للتيمّن والبركة ، فقال :
    المقدّمة : الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد خير خلقه وآله الطاهرين.
    وبعد ، فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربّه محمّد كاظم الطباطبائي : هذه جملة مسائل ممّا تعمّ به البلوى وعليها الفتوى ، جمعت شتاتها وأحصيت متفرّقاتها ، عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون ، ويكون ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، والله وليّ التوفيق.
    أقول : قوله (هذه جملة مسائل ممّا تعمّ به البلوى) ربما حين التصنيف تكون بعض المسائل يبتلى بها الفقيه من باب الاستطراد ، وإلّا فكثير من مسائل هذا الكتاب القيّم ليس ممّا يبتلي بها المكلّف ، كمسائل العبيد والإماء في كثير من أبواب الفقه ، كما أنّ هناك مسائل قليلة الابتلاء ربما تلحق بالعدم لندرتها ، كبعض فروع العلم الإجمالي.
    ثمّ قوله (وعليها الفتوى) ليس المقصود الفتوى التي تقابل الاحتياط أي الفتوى المصطلحة في لسان الفقهاء ، بل المراد أنّ هذه المسائل هي مطرح أنظار الفقهاء ، وإنّها معنونة في مصنّفاتهم الفقهيّة ، أو من باب تسمية الكلّ باسم الجزء ، فيكون من التعبير المجازي.
    قوله (جمعت شتاتها وأحصيت متفرّقاتها) يدلّ على جهده الجهيد واشتغاله السديد في جمع الشتات وإحصاء المتفرّقات ، فإنّ أهل الخبرة أعرف بما يقوله ، وبما تحمّله من

    مسألة 1 يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    __________________
    الصعاب والمشاقّ في سبيل ذلك ، فإنّ الاجتهاد كما يقول شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) : دونه خرط القتاد ، فكيف بجمع هذه المجموعة الكبيرة من المسائل الفقهيّة والفروعات الكثيرة.
    ولعمري قد أجاد في الجمع والإحصاء والتدقيق والتحقيق ، حتّى صار كتابه القيّم (العروة الوثقى) التي لا انفصام لها ، محور الأبحاث الفقهيّة العليا والدراسات العميقة في الحوزات العلمية بين من يدرّسه ويشرحه ويعلّق ويهمّش عليه ، جزاهم الله خيراً عن الإسلام والمؤمنين والمسلمين.
    وكان من قبل ولا يزال عند بعض الأعلام محور بحوثهم في الفقه الاستدلالي ودروس الخارج الفقهيّة ، هو (شرائع الإسلام) للمحقّق الحلّي (قدس‌سره) ، وعند البعض (العروة الوثقى) ، كما أنّ غير واحدٍ من الأعلام المعاصرين من علّق على العروة ، ومنهم سيّدنا الأُستاذ آية الله العظمى السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس‌سره) ، فقد علّق عليها في مجلّدين باسم (الغاية القصوى لمن رام التمسّك بالعروة الوثقى).
    وقد حرّرت عام 1406 رسالة عملية مطابقة لفتاويه باسم (منهاج المؤمنين) في مجلّدين : العبادات والمعاملات ، وكان المرجع فيه (العروة) و (الغاية القصوى).
    وحين بدئي بتدريس الخارج الفقهي عام 1417 ه‍ ق في مجموعة من فضلاء حوزة قم العلميّة المباركة من جاليات إسلامية مختلفة جعلت المحور (العروة الوثقى) ، إلّا أنّه في تحرير الدروس حَفَفتُ مسائل (العروة) بما جاء في (المنهاج) و (الغاية القصوى) تكريماً وتعظيماً وإحياءً لفقه سيّدنا الأُستاذ قدس‌سره الشريف ، متقرّباً بذلك إلى الله ورسوله وعترته الأطهار (عليهم‌السلام) ض ، وما توفيقي إلّا بالله العليّ العظيم.

    وجاء في الغاية القصوى (1 : 5) :
    في قوله : (يجب على) : بوجوب تخييري عقلي ، بل فطري.
    وفي قوله : (ومعاملاته) : بالمعنى الأعمّ الشامل للسياسات والعاديّات أيضاً ، فالمراد ما يشمل كافة الاختيارات فعلاً وتركاً.
    وفي قوله : (أن يكون مجتهداً) : كون الطرق عرضيّة محلّ إشكال.
    __________________
    أقول : والله المستعان على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، أنّ ديدننا في شرح المسائل وبيان مداركها وأدلّتها التفصيليّة هو أن نذكر أوّلاً أهمّ ألفاظها لغةً واصطلاحاً ، ثمّ ندخل في صلب الموضوعات الفقهيّة والأُصوليّة ، وبيان النصوص الشرعية والمدارك والمسانيد وآراء الأعلام ونظرياتهم وما هو المختار ، ومن الله التوفيق والتسديد والصواب.
    والحكمة في بيان المعاني اللغوية والمصطلحات الفقهيّة ، أنّ المعنى المصطلح على لسان الفقهاء أو لسان الشرع المقدّس كثيراً ما ينقل من المعنى اللغوي ، المتكفّل لبيانه معاجم اللغة وقواميسها ، التابع لوضع الواضع التعيّني والتعييني. ثمّ النقل إمّا أن يكون مألوفاً كنقل المعنى العامّ إلى الخاصّ ، أو بالعكس كما هو في كثير من الموارد ، أو غير مألوف كالنقل من مباين إلى آخر. ولمّا كان الغالب في النقل من المألوف ، فإنّه يستلزم أوّلاً أن يبحث في الكلمات عن معانيها اللغوية ، فإنّه ممّا يزيد في معرفة المعاني المصطلحة ، كما يعرف به محلّ النزاع في التعاريف والمصطلحات

    الخاصّة.
    ولمثل هذا يدور البحث في البداية حول الألفاظ التالية الواردة في المسألة الأُولى لغةً واصطلاحاً وهي :
    1 الوجوب.
    2 التكليف والمكلّف.
    3 العبادات.
    4 المعاملات.
    5 الاجتهاد والمجتهد.
    6 التقليد والمقلّد.
    7 الاحتياط والمحتاط.

    الوجوب لغةً واصطلاحاً
    الوجوب لغةً : يعدّ من كلمات الأضداد ، وهي التي تحمّل معنيين متضادّين ، وهما في الوجوب : الثبوت والسقوط ، ومنه قوله تعالى (وَجَبَتْ جُنُوبُها)(1) أي سقطت ، ومنه وجبت الشمس إذا غابت وسقطت.
    والواجب يقال على أوجه :
    الأوّل في مقابلة الممكن وهو الحاصل الذي إذا قُدّر كونه مرتفعاً حصل منه محال ، نحو وجود الواحد مع وجود الاثنين ، فإنّه محال أن يرتفع الواحد مع حصول الاثنين.
    الثاني يقال في الذي إذا لم يفعله الإنسان استحقّ به اللوم ، وذلك ضربان : واجب من جهة العقل كوجوب معرفة الوحدانيّة ومعرفة النبوّة ، وواجب من جهة الشرع كوجوب العبادات الموظّفة (2).
    __________________
    (1) الحجّ : 36.
    (2) الراغب الأصفهاني ، مفردات القرآن : 548.

    ثمّ الوجوب مصدر وهو من المعاني الإضافيّة التي يتوقّف تعقّلها وتصوّرها على معانٍ اخرى ، فالوجوب بين من أوجب ، وما وجب ، وما تعلّق به الوجوب وهو الواجب ، وباعتبار كلّ واحد من الأركان ينقسم إلى تقسيمات أوّلية وثانويّة وهكذا. فباعتبار من أوجب ينقسم إلى الوجوب العقلي والفطري والشرعي.
    أمّا الشرعي فيعني ما أمر به الشارع المقدّس وهو الله سبحانه وتعالى ثمّ نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخلفاءه الأطهار (عليهم‌السلام) فيبتني على التكليف الإلهي.
    وأمّا الفطري فيبتني على فطرة الإنسان وجبلّته (1) وغريزته ، بل على مطلق الغريزة الحيوانيّة ، وملاك الوجوب الفطري هو دفع الضرر المحتمل ، فكيف بالمظنون ، أو يقال المراد من المحتمل هو المظنون أي المحتمل العقلائي.
    والوجوب العقلي هو الذي يستقلّ به العقل الإنساني ، والذي يبتني على الحسن والقبح العقليّين بملاكات منها فيما نحن فيه وجوب شكر المنعم ، وهذا أضيق دائرة من الوجوب الفطري ، فإنّه يختصّ بالعقلاء بخلاف الفطري فإنّ قاعدة (دفع الضرر المحتمل) تعمّ سائر الحيوانات ، فإنّها بمجرّد احتمال الخطر تفرّ أو تحمي نفسها من الخطر بأيّ نحوٍ كان ، فالفطري على ما يفهمه العرف في محاوراته هو الجبلّي الارتكازيّ الغريزي ، ضرورة أنّ الاتّقاء والحفظ من الضرر ارتكازي لكلّ ذي شعور ودرك جزئي من سائر الحيوانات فضلاً عن الإنسان ، كما أنّ الملكيّة
    __________________
    (1) الجبلة مأخوذة من الجبل بمعنى ما له جذور كالوتد في الأرض كما يطلق على الجبال ، والفطريات من الرواسخ كالإبرة المغروزة في بواطن ، الإنسان كالجوع والعطش والغريزة الجنسيّة ، فهذه غرائز وفطريات ، ومنها دفع الضرر المحتمل.

    الشخصيّة من الفطريات كرجوع الطير إلى وكره.
    ولا مجال حينئذٍ لإشكال المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) (1) : «بأنّ الفطري المصطلح عليه في فنّه (2) هي القضيّة التي قياسها معها لكون الأربعة زوجاً لانقسامها إلى متساويين ، وما هو الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نوراً وكمالاً للعاقلة في قبال الجهل ، لا لزوم التقليد عند الشارع والعقلاء ، ولا نفس رفع الجهل بعلم العالم ، والفطري بمعنى الجبلة والطبع هو شوق النفس إلى كمال ذاتها ، أو كمال قواها لا لزوم التقليد» (3).
    فجعل الفطري بمعنى القضيّة التي قياسها معها ، ولا تحتاج إلى النظر والاستدلال ، وما نحن فيه ليس كذلك ، وجوابه أنّ دفع المضارّ الأُخرويّة أو المضارّ الدنيويّة المهمّة ممّا هو في جبلّة الإنسان وفطرته السليمة ، بل دفع الضرر بهذا المعنى في غريزة كلّ حيوان ، فما أفاده إنّما هو من المصطلح عند أرباب المعقول ، وما يراد إثباته إنّما هو عند المتفاهم العرفي ، وفرق بين المقامين كما هو واضح.
    هذا في معنى الوجوب ، ثمّ قيل : الوجوب في عبارة الماتن إنّما هو من
    __________________
    (1) رسالة الاجتهاد والتقليد : 11.
    (2) القياس في علم المنطق باعتبار هيئته يتكوّن منه الإشكال الأربعة وباعتبار مادّته الصناعات الخمسة ومنها البرهان ، وهو ما كان مقدّماته الصغرى والكبرى من الأوّليّات ، وهي ستّة ، منها : الفطريات وهي عبارة عن القضايا التي قياساتها معها كاجتماع النقيضين وارتفاعهما مستحيل ، وكالزوجيّة للأربعة.
    (3) الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد : 20.

    الوجوب الفطري.
    «فقيل الوجوب التخييري بين الأُمور الثلاثة (الاجتهاد والتقليد والاحتياط) هو من قبيل وجوب الطاعة في قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ) فإنّه فطري بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل ، حيث إنّ في ترك جميع الأبدال والأقسام الثلاثة احتمال الضرر الدنيوي والأُخروي ، وإنّه عقلي بملاك وجوب شكر المنعم وهذا يستلزم أن يكون المكلّف حينئذٍ ملتفتاً غير غافل ، كما أنّه يكون ذلك في احتمال التكليف المنجّز فمع الغفلة عن التكليف أو احتمال التكليف غير الإلزامي أو الإلزامي غير المنجّز لم يجب شيء من ذلك ، لعدم احتمال الضرر في تركها ، ولا هو ممّا ينافي الشكر الواجب» (1).
    ثمّ إنّما يقال بالأُمور الثلاثة لما ثبت في علم الكلام وقرّر في محلّه أنّ حكم العقل وقاعدة اللطف (ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية لا على نحو الإلجاء) أوجب على الله من باب (كتب على نفسه الرحمة) أن يرشد العباد إلى ما فيه السعادة الدنيويّة والأُخرويّة وتعريفهم للثواب ودفع العقاب والفوز بلقاء الله ورضوانه ، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب السماويّة لبيان الشرائع السمحاء والمناهج الإلهيّة ، وتبليغ الأحكام والقوانين الربّانية ، ولئلّا يكون على الناس حجّة ، وقد فعل الله ذلك وأرسل الأنبياء والمرسلين مبشّرين ومنذرين ، وختم النبوّة بأفضلهم نبيّنا الأعظم محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) :
    __________________
    (1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 6.

    (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1).
    وقال الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حجّة الوداع في خطبته المشهورة : (يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه) (2).
    فقام بالرسالة الإسلامية ونشر الأحكام والمعارف وتتميم مكارم الأخلاق أيام حياته المباركة ، وكمل دين الإسلام بالولاية والإمامة وإمارة أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) والخلفاء المعصومين من بعده بنصّ آية الإكمال وغيرها ، ثمّ الناس غير مهملين ولم يتركوا من دون تكليف ، فلا بدّ للمكلّف أن يعرف حكمه ووظيفته الشرعية والدينية ، حتّى يتخلّص من العقاب ويفوز بالثواب ، ولولا ذلك فإنّه يحتمل الوقوع في الضرر ، بل يظنّ ذلك ، فكلّ واحد يعلم إجمالاً أنّه مكلّف شرعاً بأحكام ووظائف دينية.
    ثمّ معرفة الأحكام الشرعية والعلم بها إنّما يكون من طريقين :
    1 ـ العلم الوجداني والقطع اليقيني كالاستماع من لفظ المعصوم النبي أو الإمام (عليهما‌السلام) أو قيام خبر متواتر قطعي يفيد العلم ، أو خبر واحد محفوف بالقرائن القطعيّة ونحوها.
    2 ـ العلم التعبّدي الشرعي ، أي ما علم حجّيته شرعاً وهو على أنحاء ثلاثة :
    __________________
    (1) الجمعة : 2.
    (2) أُصول الكافي 2 : 74 ، باب الطاعة والتقوى.

    1 ـ الاجتهاد : بأن يعلم الحجّة الشرعيّة على الحكم الواقعي وتكون أمارة كاشفة عنه ، أو حجّة في مرحلة الظاهر عند الشكّ والجهل كما في الأُصول العمليّة اجتهاداً عن أدلّتها التفصيلية.
    2 ـ التقليد : بأن تستند أفعال المكلّف وتروكه إلى قول الغير الذي علم حجّية قوله.
    3 ـ الاحتياط : بأن يأتِ المكلّف بكلّ ما يحتمل وجوبه ويترك كلّ ما يحتمل حرمته ، كما سنذكر تفصيل ذلك عند تعاريف الأُمور الثلاثة.
    وحينئذٍ بحكم الفطرة السليمة من باب (دفع الضرر المحتمل) والعقل السليم من باب (شكر المنعم واجب) يجب على المكلّف في تكاليفه جميعاً العبادات والمعاملات إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    وممّا يدلّ على هذا الوجوب أيضاً ما يقال من باب الفطرة أو حكم العقل أنّه من باب قانون العبوديّة والمولويّة يجب ذلك ، بلحاظ أنّ في مخالفة المولى خروجاً عن رسم وزيّ العبودية ، فيحتمل الضرر ، أو يصير بذلك ظالماً لمولاه ، والعقل يستقلّ بقبح الظلم كما يذمّ فاعله.
    والظاهر أنّه من حكم العقل دون الفطرة لاختصاصه بالعقلاء ، والفطرة تعمّ الحيوانات ، كما أنّها مختصّة بمقولة الفعل ، ولا دخل للعقل في صدورها ولا صلة له بالإدراكات النفسيّة التي هي من مقولة الكيف ، كما أنّ صدور فعل عن الغريزة والفطرة أمر بالطبع لا بالعقل.
    إلّا أن يقال إنّ المراد من الفطرة هنا هي الفطرة الإنسانية التي تلازم العقل ،

    وربما ترادفه في الأحكام ، فتأمّل.
    وربما يقال أنّ شكر المنعم يؤول إلى دفع الضرر المحتمل ، فإنّه لولاه لكان المتنعّم عليه معرّضاً لزوال النعمة ونزول النقمة ، فيلزمه الضرر ، فدفعاً له عليه أن يشكر.
    كما أنّه ليس شكر المنعم واجب على نحو الكلّية ، بل إنّما هو حسن ، وليس كلّ حسن واجب ، حتّى يصل إلى أوج الحسن وشدّته.
    والجواب عن المناقشة الاولى أنّ حكم العقل في مستقلّاته العقليّة إنّما يبتني على التحسين والتقبيح العقليّين كما هو مقرّر في محلّه فهو مختصّ بذوي العقول والألباب وأمّا حكم الفطرة فإنّه يبتني على الجبلّيّات المغروزة التي تعمّ سائر الحيوانات كالجوع والعطش ومنها دفع الضرر المحتمل ، فإنّ الحيوان يدفع عن نفسه الضرر بمجرّد أن يحسّه أو يحتمله ، ففرق بين المناطين ، وحينئذٍ العقل يستقلّ بالحكم أنّه يقبح على من أُنعم عليه بأنواع النعم والمواهب أن لا يشكر منعمه ، ويعدّه ظالماً ، والظلم قبيح ومذموم.
    وأمّا الجواب عن المناقشة الثانية ، فإنّه يقال : وإن كان شكر المنعم إنّما يجب في الجملة لعدم الدليل على وجوب كلّ ما هو شكر للمنعم وبالنسبة إلى كلّ منعم ، إلّا أنّ ما نحن فيه وما يقتضيه المقام إنّما هو على نحو وجوب شكر المنعم.
    وعند المشهور أنّ كلا الملاكين (دفع الضرر المحتمل وشكر المنعم) إنّما هو من حكم العقل ، وربما يطلق عليه بالعقل الفطري ، والعقل الارتكازي.
    والظاهر عندي أنّه إذا كان الملاك في الفطري عموميّته وأنّه في سائر

    الحيوانات ، فإنّ كلا الموردين يكونان من الفطريات ، فإنّ غريزة الشكر من غرائز الإنسان بل الحيوان ، فإنّما يحرّك الكلب ذنبه عند ما يلقمه صاحبه بلقمة ليشكره.
    نعم إذا قيل : فطريات الإنسان تختلف عن سائر الحيوانات ، فهذا ادّعاء يحتاج إلى دليل. كما أنّه يكون نزاع مبنائي ولفظي ، أو يقال : المراد منها تلك القضايا التي قياساتها معها (1) ، فيكون من الاصطلاح ولا مشاحّة في الاصطلاحات ، ولا ينطبق على ما نحن فيه.
    فتلخّص ممّا مرّ ، أنّا نعلم إجمالاً بأنّا مكلّفون بتكاليف شرعيّة ووظائف دينيّة من العبادات وفي المعاملات ، والأثر المطلوب منها إنّما يتحقّق لو وقعت صحيحة ، والصحّة كما هو معلوم في محلّه من الفقه وأُصوله حكم شرعي وضعي ينتزع من مطابقة ما وقع في الخارج من أفعال المكلّفين لما جعل في الشرع المقدّس ، وتحصيل العلم بهذه المطابقة بين الخارج وما في الشرع لا يكون فعلاً إلّا بالاجتهاد أو التقليد أو بالاحتياط ، وهذا هو المقصود من وجوب أحد الأُمور الثلاثة.
    ثمّ وجوب أحد الإبدال الثلاثة ليس بشرعي ، إنّما هو بوجوب عقلي ، بمعنى أنّ العقل حاكم به ، والملاك في هذا الوجوب إمّا دفع الضرر المحتمل وهو مناط الوجوب الفطري ، وشكر المنعم وهو مناط الوجوب العقلي كما قيل ، وقد مرّ تفصيل
    __________________
    (1) عند أرباب صناعة الميزان وفي علم المنطق المراد من الفطري هو القضية التي يحكم بها العقل بواسطة لا يخلو الذهن عنها في حين من الأحيان ، وتسمّى بقضايا قياساتها معها كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، والوجوب المبحوث في هذا المقام ليس من هذا القبيل.

    ذلك ومناقشتهما.
    ويبدو لي أنّ وجوب الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط عقلي من باب وجوب إطاعة الله تعالى وأنّه أهلاً لذلك ، ومن باب تحقّق المصالح الذاتيّة الملزمة في أوامر الله وطاعته ، والمفاسد الملزمة الذاتية في نواهيه وترك طاعته.
    فالعقل بعد الالتفات إلى ثبوت التكاليف والتشريع من قبل الله سبحانه ، وأنّ الناس لم يتركوا سدى ولم يهملوا كالحيوانات ، وأنّ هناك وعداً ووعيداً للمطيع وللعاصي ، فإنّه يدرك استحقاق العقاب لمن خالف تلك التشريعات والتكاليف الإلهية ، ويحتمل الضرر في تركها أيضاً.
    فلنا حينئذٍ علم إجمالي بالأحكام الشرعية ، وانحلاله إنّما يكون إلى علم تفصيلي بعدد من التكاليف ، وإلى شكّ بدوي في وجود تكاليف اخرى بالاجتهاد أو بالتقليد في الأحكام غير الضرورية ، وإذا انتفى الاجتهاد أو التقليد فالعقل حاكم ، بلزوم العمل بالاحتياط حينئذٍ.
    وبمثل هذا نقول : يجب عقلاً على كلّ مكلّف ملتفت في عباداته ومعاملاته إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    بقي شيء :
    بقي هنا شيء لا بدّ من الإشارة إليه كما عند بعض الأعلام من أساتذتنا الكرام ، وذلك أنّه لماذا لا يجب بوجوب شرعي أحد الإبدال الثلاثة؟
    فنقول في جواب ذلك :

    أقسام الواجب
    اعلم أنّ للواجب الشرعي أقساماً ، فإنّه ينقسم باعتبار المكلّف إلى العيني والكفائي ، وباعتبار المكلّف به إلى التعيّني والتخييري ، وباعتبار الوقت إلى الموسّع والمضيّق ، وباعتبار المطلوبيّة بالذات وعدمها إلى النفسي والغيري ، وباعتبار تعلّق الخطاب به بالأصالة وعدمه إلى الأصلي والتبعي ، وباعتبار مقدّماته إلى المطلق والمشروط والمسمّى بالمقيّد ، وغير ذلك من الأقسام (1) ، ثمّ الوجوب من الأحكام التكليفية الخمسة ، وهو عبارة عن نفس الحكم ، والواجب فعل تعلّق به الحكم ، أو الوجوب عبارة عن الإرادة المؤكّدة في نفس المولى وتتعلّق بالفعل المراد ، أو الوجوب أمر انتزاعي ينتزعه العرف من طلب لفظي أو غير لفظي مؤكّد ، أي إتيان الفعل مع المنع من الترك ، وينقسم الوجوب كالواجب إلى أقسام.
    فما نحن فيه لو فرض كون الوجوب شرعيّاً فلا بدّ من حجّة شرعيّة على ذلك ، ولمّا لم نجد في لسان الشرع دليلاً عليه ، فعدم الدليل دليل العدم.
    __________________
    (1) القوانين للميرزا القمّي (قدس‌سره) : 99.

    نعم هناك من يذهب إلى بعض الوجوه في المقام إلّا أنّها قابلة للنقاش.
    فقيل : إنّما تدلّ على هذا الوجوب النصوص الواردة لبيان وجوب تعلّم الأحكام ، وجوابه إنّها لا تشمل وجوب الاحتياط ، فإنّه طريق إلى إطاعة التكاليف لا معرفتها ، فالعمل به غير واقع في طريق تعلّم الحكم.
    وقيل : يدلّ عليه شرعاً إجماع الفقهاء ، فإنّه من الأدلّة التفصيليّة ، وجوابه إنّما يكون ذلك لو كان تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه‌السلام) ، والحال في ما نحن فيه من الإجماع المدركي ، وربما يكون المدرك هو حكم العقل كما علم ذلك ، فحكم الفقهاء بهذا الوجوب غير كاشف عن تحقّق إجماع عليه ، فإنّه من قبيل اللازم الأعمّ للشيء.
    ثمّ الوجوب الشرعي فيما نحن فيه إمّا أن يكون نفسياً أو غيريّاً أو إرشاديّاً ، ولمّا لم يكن سبيل إلى أحد من هذا الوجوبات الثلاثة ، فإنّه لا وجوب شرعاً في المقام.
    بيان ذلك : من أقسام الواجب كما مرّ هو الواجب النفسي ويقابله الغيري والمقدّمي وهو عبارة عمّا فيه المصلحة التامّة ، وتحقّقه لا يتعلّق بشيء آخر ، فمورد التكليف مطلوب بنفسه ووجوبه يكون نفسياً كوجوب الصلاة والصوم.
    والاجتهاد وكذلك التقليد ليس مطلوباً في نفسه ، فلم يكونا كالصلاة والصوم ، وعلى فرض تسليم تعلّق الوجوب النفسي بهما ، لكن تعلّقه بالعمل بالاحتياط غير معقول. فإنّ الاحتياط طريق لتحصيل العلم بإتيان الواجب النفسي أو بترك المحرّم النفسي وسلوك الطريق يصدق عليه عنوان المقدّمية فهو غير صالح لأن يكون متعلّقاً للوجوب النفسي ، كما أنّ الاحتياط عمل خارجي

    ولا يكون أمارة على حكم لفعل خارجي ، كما أنّ الاحتياط لا يوصف ، فإنّه يكون في صورة خطأ الحجّية ، وتطرّق الخطأ في الاحتياط غير ممكن.
    وأمّا الوجوب الغيري المقدّمي فلا يصحّ ذلك في المقام ، فإنّ كلّ واحد من الأبدال الثلاثة ليس بمقدّمة وجوديّة لواجب نفسي ، كما أنّ مقدّمة الواجب واجب مطلقاً غير ثابت.
    وأمّا الوجوب الإرشادي (1) : بمعنى الإرشاد إلى المصالح والمفاسد في الأحكام ، أي الإيجاب بداعي الوصول إلى ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد وتلك الملاكات هي المرشد إليها بهذا الوجوب الإرشادي وشرطه المقوّم له أن لا يتطرّق الخطأ في الإرشاد ، وعدم تطرّق الخطأ في الأُمور الثلاثة غير ممكن عادةً ، فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ فيهما ، فلا يمكن أن يحفظ بهما جميع الملاكات ، فلا يصحّ الوجوب الإرشادي في المقام حينئذٍ (2).
    __________________
    (1) الأمر الإرشادي يقابله الأمر المولوي ، والثاني عبارة عن طلب حقيقي لما فيه من المصلحة يترتّب على إتيانها الثواب وتركها العقاب كالأمر بإقامة الصلاة. والإرشاد أمر وطلب ظاهري يخبر ويرشد إلى المصالح والملاكات الشرعيّة أو الإخبار عن المفاسد في النواهي المولويّة ، فكلّ واجب فيه أمران : أوّلي ومولوي حقيقي يترتّب عليه الثواب والعقاب وأمر ظاهري ثانوي إرشادي إلى الأمر الأوّلي ، وقيل : الإرشادي إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل كما في قوله (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فالأوّل : (أطيعوا الله) إرشادي ، والثاني : (أطيعوا الرسول) مولوي شرعي ، فالأوّل : ما يحكم به العقل مستقلا ، والثاني : ما يحكم به الشرع.
    (2) الاجتهاد والتقليد ؛ لسيّدنا الأُستاذ السيّد رضا الصدر (قدس‌سره) : 241.

    التكليف لغةً واصطلاحاً
    التكليف لغةً :
    بمعنى ما فيه المشقّة والكلفة والتعب.
    وفي المفردات : الكلَف الإيلاع بالشيء ، يقال : كلف فلان بكذا أو أكلفته به جعلته كَلِفاً. الكلف في الوجه سمّي لتصوّر كلفةٍ به ، وتكلّف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلف مع مشقّة تناله في تعاطيه ، وصارت الكلفة في التعارف اسماً للمشقّة ، والتكلّف اسم لما يفعل بمشقّةٍ أو تصنّع أو تشبّع ، ولذلك صار التكلّف على ضربين : محمود وهو ما يتحرّاه الإنسان ليتوصّل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ، ويصير كلفاً به ومحبّاً له ، وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلّف العبادات. والثاني : مذموم وهو ما يتحرّاه الإنسان مراءاةً أي رياءً وإيّاه عنى بقوله تعالى (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، وقول النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (وأنا وأتقياء أُمّتي براء من التكلّف) ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، أي ما يعدّونه مشقّة فهو سعة في المآل نحو قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

    حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ) ، وقوله (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(1).
    ومن الكلفة المذمومة ما جاء في الخبر الشريف : (شرّ الإخوان من تكلّف له).
    والتكليف اصطلاحاً :
    يعني الأحكام التكليفية الشرعية التي من ورائها الملاكات الملزمة في الواقع من المصالح والمفاسد الملزمتين أي الواجبات والمحرّمات ويلحقها بتأمّل وتجوّز المستحبّات والمكروهات والمباحات ، فتنقسم التكاليف حينئذٍ إلى خمسة : الواجب والحرام والمستحبّ والمكروه والمباح.
    ثمّ التكليف من المعاني الإضافيّة التي يتوقّف تعقّلها على معانٍ اخرى ، فالتكليف رابط بين المكلِّف اسم فاعل وهو الله سبحانه والمكلَّف اسم مفعول وهو العبد وما كُلّف به من المأمورات به والمنهيات عنه ، كالصلاة المأمور به ، والزنا المنهيّ عنه.
    ثمّ المكلّف أي الذي وضع عليه قلم التكليف الشرعي ودخل في خطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ) هو العاقل البالغ أي الإنسان الكامل والعقل والبلوغ يعتبران في جميع التكاليف ، فهما من الشرائط العامة في كلّ تكليف من العبادات والمعاملات ، فلا بدّ أن يبحث عنهما ولو إجمالاً.
    __________________
    (1) مفردات الراغب الأصفهاني : 456.

    العقل لغةً واصطلاحاً
    العقل لغةً :
    بمعنى الضبط والحبس والحصانة ، ومنه العقال ، وعقال البعير الحبل الذي يشدّ به قوائمه للبرك والنياخة. عقل عقلاً البعير : ثنى وظيفه مع ذراعه فشدّهما معاً بحبل هو العقال. وبمعنى الإمساك والدرك والخصم والفهم.
    وأمّا اصطلاحاً :
    فقد وقع في تعريفه وبيان مفهومه اختلاف بين الأعلام ، ففي كلّ علم ربما له تعريف خاصّ ، إلّا أنّه يرجع إلى المعنى اللغوي مع مئونة معنى جديد ليكون مصطلحاً جديداً ، فمفهومه عند علماء المنطق يختلف عمّا عليه علماء الأُصول ، وما في الأخلاق غير ما في الفلسفة وهكذا باقي العلوم والفنون (1).
    __________________
    (1) لقد ذكرت تفصيل ذلك في (العقل والعقلاء).

    والعقل إجمالاً بمعنى القوّة الدرّاكة والنفس الناطقة ، وإنّه نور روحاني به تدرك النفس ما لا تدركه بالحواسّ ، وقد سمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك أي يحبسه. وإنّها تختلف في مدركاتها كمّاً وكيفاً ، ومن ثمّ يكون التفاوت والاختلاف في العقول.
    ومن الوجدانيات أنّه (خلق الناس متفاوتين) ، قال سبحانه وتعالى (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(1) ، (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)(2) ، فمثل هذه الآيات الكريمة تشير إلى اختلاف الناس في عقولهم وسلوكهم وأرزاقهم وغير ذلك ، حتّى في ألوانهم وأجسادهم وألسنتهم كلّ ذلك لحكمة ربانية وأنّه من العدل الإلهي كما هو ثابت في محلّه فالناس في عقولهم وإدراكاتهم مختلفون ، وينقسمون ابتداءً بالتقسيم الثنائي إلى عاقل وغيره وهو المجنون ، ثمّ العقلاء على طوائف ومراتب أهمّها :
    1 ـ السفهاء : وهم من لا قدرة لهم على تمييز ما يصلح حالهم ، ويربح تجارتهم ، ويعظم أمرهم وما شابه. ففيهم خفّة عقل ونفس.
    2 ـ الحمقى : أُولئك الذين لهم قدرة التشخيص إلّا أنّهم يجهلون الأُمور الجارية بالعادة ، فتشخيصهم الخير من الشرّ يكون بعد صدور الفعل منهم ، فالأحمق قلبه وراء لسانه.
    __________________
    (1) نوح : 14.
    (2) البقرة : 253.

    3 ـ العقلاء : اولي الفكر والمعرفة يعرفون ما فيه الخير أوّلاً ، ثمّ هل يعدّ ذلك بصالحهم ثانياً ، فما يصدر منهم محاط بفكرين وأمرين.
    4 ـ الأولياء : هم ساسة الخلق ، وأركان البلاد ، وصفوة الله في أرضه ، وأُمنائه وخلفائه ومظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
    فالعقل جوهرة قدسية ربانية ، أفاض الله بها على الإنسان ليكرّمه على جميع مخلوقاته ، فإنّه بالعقل امتاز الإنسان عن العجماوات وتشرّف على الكائنات.
    وقد بحث العلماء عنه كثيراً ، وقسّموه إلى تقسيمات عديدة. وذكروا أنّ له تجلّيات ومقامات ومراتب تتعلّق بفيض الله وصنعه. منها : أنّه أوّل ما خلق الله من الروحانيين هو العقل وكان على يمين العرش ، وأنّه خلق من نور الله جلّ جلاله.
    هذا هو العقل الجوهري الأوّل ، وأمّا في الإنسان حيث أنّه مركّب من روح وعقل وجسد ، فإنّ العقل فيه باصطلاح المتكلّمين : عبارة عن مجموع علوم ضرورية ، إذا خلقها الله تعالى في الإنسان صحّ من الله تكليف الإنسان ، وهي بجملتها عشرة علوم :
    أوّلها : علم الإنسان بنفسه ، وبكثير من أحواله التي يجد الإنسان كون نفسه على أحواله.
    وثانيها : علمه بانتفاء ما لا يدركه من الأشياء المدركة.
    وثالثها : علمه بسلامة الأحوال.

    ورابعها : علمه بأنّه لو كان لأدركه.
    وخامسها : علمه بأنّ الذات لا يخلو من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها.
    وسادسها : علمه بالأُمور الاختيارية ، كالعلم بأنّ الزجاج ينكسر بالحديد.
    وسابعها : علمه بتعلّق الفعل بالفاعل على سبيل الجملة.
    وثامنها : علمه بمقاصد المخاطبين بعد الوقوف على المواصفة.
    وتاسعها : علمه بالأُمور الجليّة التي جرت عليه مع قرب العهد بها.
    وعاشرها : علمه بقبح كثير من المقبحات ، وحسن كثير من المحسّنات ، ووجوب كثير من الواجبات (1).
    أدلّة اشتراط العقل في التكليف :
    هذا ويدلّ على اشتراط العقل في التكاليف الشرعيّة الأخبار الشريفة والإجماعات والشهرة ، فلم نجد في ذلك مخالفاً من الأصحاب بل من فقهاء الإسلام وأهل القبلة.
    ومن الأخبار ما ورد في الوسائل والمستدرك والوافي والبحار ، في كتاب
    __________________
    (1) الحدود والحقائق ؛ القاضي أشرف الدين صاعد البريدي الآبي : 23.
    وقد ذكرت تفصيل الآراء والأقوال والآيات والروايات حول العقل والعقلاء في كتاب (ما هو العقل ومن هم العقلاء؟) ، فراجع.

    الصوم ومقدّمات العبادات والبيع والحجر والوصايا والنكاح والطلاق والعتق والحدود وغيرها ، فمنها صحيحة :
    1 ـ محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثني عدّة من أصحابنا منهم محمّد بن يحيى العطّار عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له : أقبل فأقبل ، ثمّ قال أدبر فأدبر ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا فيمن أُحبّ ، أمّا إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب. ورواه البرقي في المحاسن عن الحسن بن محبوب ، ورواه الصدوق في المجالس عن محمّد بن موسى بن المتوكّل عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن محبوب مثله (1).
    __________________
    (1) الوسائل 1 : 27 ، باب 3 اشتراط العقل في تعلّق التكليف ، وفي الباب 9 روايات ، الحديث 1.
    وجاءت ترجمة محمّد بن يعقوب الكليني صاحب الكافي في تنقيح المقال برقم 11540 وأنّه ثقة الإسلام وله ثلاث عدد والعدّة هم عليّ بن إبراهيم ومحمّد بن يحيى وعلي بن موسى بن جعفر وداود بن كورة وأحمد بن إدريس عن أحمد بن محمّد بن عيسى بكتبه. ومحمّد بن يحيى العطّار الأشعري القمي برقم 11501 وأنّه ثقة ، وأحمد ابن محمّد بن عيسى الأشعري القمي برقم 507 وأنّه ثقة ، والحسن بن محبوب السرّاد برقم 2710 وأنّه ثقة ، والعلاء بن رزين القلّاء مولى ثقيف الكوفي وأنّه ثقة ، ومحمّد بن مسلم برقم 11371 وأنّه ثقة من أصحاب الإجماع.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:42

    2 ـ وعن محمّد بن الحسن عن سهل بن زياد (1) عن أبي نجران عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : لمّا خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثمّ قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزّتي ما خلقت خلقاً أحسن منك ، إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُثيب وإيّاك أُعاقب. ورواه البرقي في المحاسن عن السندي بن محمّد عن العلاء بن رزين مثله.
    وروايات أُخرى في المقام لم نتعرّض لها طلباً للاختصار ، فراجع.
    __________________
    (1) يقال الأمر في سهل بن زياد سهل ، فهناك من لم يقبل روايته منفرداً ، وجاء في تنقيح المقال برقم (5396) سهل بن زياد الآدمي الرازي أبو سعيد وأنّه حسن إلّا أنّه في ج 2 ص 75 يذكر أقوال علماء الرجال فيه وأنّه ضعيف اتّهم بالكذب والغلوّ ، وأُخرج من قم إلى الريّ ، ويروي المراسيل ويعتمد المجاهيل ، وعند ابن الغضائري ضعيف جدّاً فاسد الرأي والدين ، وأنّه أحمق ، إلّا أنّ المصنّف يذكر حجّة القائلين بضعفه ويناقشها ، ثمّ يذكر وجوهاً تدلّ على مدحه وحسنه ، فراجع فإنّه وثّقه الشيخ وضعّفه النجاشي.

    البلوغ لغةً واصطلاحاً
    البلوغ لغةً :
    بمعنى الوصول إلى منتهى الشيء المطلوب ، وفي المفردات : البلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأُمور المقدّرة ، وربما يعبّر به عن المشارفة عليه وإن لم ينته إليه ، فمن الانتهاء : بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة ، وقوله عزوجل (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ، (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ، (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ)(1).
    والبلوغ اصطلاحاً :
    بمعنى الكمال الطبيعي في الإنسان ، أي بلوغ الإنسان الحُلُم والوصول إلى حدّ النكاح وتوليد المثل ، فإنّ الناقص لا يولّد ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا بلغ النكاح
    __________________
    (1) مفردات الراغب : 58.

    وتوليد المثل ، فإنّه يكشف عن كماله الجسدي. فتوليد المثل بسبب تكوّن المني وتحريك الشهوة والنزوع إلى المقاربة الجنسية ، وإنزال الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب ، الذي هو مبدأ خلق الإنسان بمقتضى الحكمة الربانية فيه ، بل وفي غيره لبقاء النوع.
    وبهذا يكون معنى البلوغ هو الكمال الطبيعي للإنسان ، يبقى به النوع الإنساني ، ويقوى معه العقل. وهو حالة انتقال الأطفال من عالم الصباوة والطفولة إلى حدّ الكمال والرجولة. ومثل هذا الكمال من أجل بقاء النوع سارٍ في الحيوانات كلّها ، بل في النباتات أيضاً ، عند ما تكون قابلة للّقاح وتوليد المثل وإثمار الثمرة.
    فالملاك في البلوغ هو حصول ذلك الكمال الطبيعي التكويني ، فمن حصل على ذلك ، صار موضوعاً ومحلّا للتكاليف الشرعية المجعولة على البالغ العاقل أي الكامل.
    فالتكاليف الشرعية مشروطة ببلوغ الإنسان ونضجه التكويني الفسيولوجي ، ومن أجل العلم بهذا الكمال الطبيعي جعل الشارع المقدّس علائم لتشخيص البلوغ ومرحلة الانتقال ، دفعاً للالتباس والاشتباه في تشخيص بعض المصاديق في الخارج عند العرف.
    والمستفاد من الأخبار الشريفة أنّها عبارة : عن إنبات الشعر الخشن على العانة التي هي حول الآلة الذكورية والأُنوثية أو فوقهما ، والاحتلام وهو خروج المني من الموضع المعتاد مطلقاً ذكراً كان أو أُنثى. وإكمال خمس عشرة سنة هلالية للمذكّر ، وإكمال تسع سنين للأُنثى ، وأمّا حكم الخنثى فسيعلم إن شاء الله تعالى.

    فنقول : لقد خلق الله سبحانه الإنسان مركّباً من روح وجسد ، فهو ذو بُعدين : معنوي ومادي ، فروحه من عالم المعنى من الروح الإلهية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(1).
    وبهذا يكون في الإنسان نزعة معنوية وروحية ومثالية إلهية ، وجسده من عالم العناصر الماديّة من التراب والماء وغيرهما ، وبهذا يكون له نزعة مادية وطبيعية عنصرية.
    وإنّه بروحه وجسده في سير تكاملي ، كما أنّ فلسفة خلقته وسرّ حياته (2) هو الوصول إلى كماله المنشود المودع في ذاته من خلافته لله سبحانه في أرضه وخلقه ، واتّصافه بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيكون مظهراً لها ، ويتخلّق بأخلاق الله جلّ جلاله حتّى تتجلّى فيه الأسماء والصفات كما في الإنسان الكامل الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها ، وهم الأنبياء والأوصياء (عليهم‌السلام) ، ثمّ ورثتهم الأمثل فالأمثل من العلماء الصالحين والناس المؤمنين.
    ثمّ السير التكاملي والكمال الممكن في الممكن لذاته ، إنّما هو من الكلّي المشكّك ، له مراتب طولية وعرضية ، عمودية وأُفقيّة ، وبداية كمال الإنسان الذي يتوجّه إليه الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية والوظائف الدينية ، ويكون مكلّفاً شرعاً باعتبار روحه هو العقل ، وباعتبار جسده هو البلوغ.
    __________________
    (1) الحجر : 29.
    (2) لقد ذكرت تفصيل ذلك في (سرّ الخليقة وفلسفة الحياة) مطبوع ، فراجع.

    فكمال المكلّف في المصطلح الفقهي المستفاد من الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، وأنّه من الشرائط العامّة في كلّ تكليف : أن يكون المكلّف عاقلاً بالغاً ، وأنّه قد رفع قلم التكليف عن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصبيّ حتّى يبلغ كما ورد في الأخبار الشريفة وهذا يستدعي أن نبحث عن العقل أوّلاً ثمّ ندخل في البلوغ ومسائله ثانياً ، والله المستعان.
    ولا يخفى أنّ اشتراط التكليف بالعقل والبلوغ ممّا نفي عنه الخلاف ، بل دلّ عليه الإجماع المستفيض ، بل المتواتر ، بل اتّفق عليه فقهاء الإسلام وأهل القبلة.
    ويبدو لي أنّه كاد أن يكون مثل الضروريات الدينية ، فأصل الاشتراط ثابت عند كلّ المذاهب الإسلامية ، إنّما الاختلاف في الكمّ والكيفيّة كما سيتّضح ذلك إن شاء الله تعالى.
    وقال الشهيدان في اللمعة وروضتها في كتاب الصوم في (المسألة الخامسة عشر : البلوغ الذي يجب معه العبادة : الاحتلام) وهو خروج المني من قبله مطلقاً في اليقظة أو المنام بجماع أو غيره في الذكر والأُنثى ومن فرجيه في الخنثى (أو الإنبات) للشعر الخشن على العانة مطلقاً بلغ السنّ المعيّن أم لا ، كان ذكراً أم أُنثى أم خنثى ـ (أو بلوغ) أي إكمال (خمس عشرة سنة) هلالية (في الذكر) والخنثى (و) إكمال (تسع في الأُنثى) على المشهور (وقال) الشيخ (في المبسوط وتبعه ابن حمزة : بلوغها) أي المرأة (بعشر ، وقال ابن إدريس : الإجماع) واقع (على التسع) ولا يعتدّ بخلافها لشذوذه والعلم بنسبهما فمخالفتهما للإجماع غير ضائرة ، فإنّ المخالف لو لم يكن معلوم النسب والشخصية ، فيحتمل أنّه الإمام (عليه‌السلام) فخالف

    لئلّا تجتمع الأُمّة على ضلال وتقدّم الإجماع على هذين العلمين وتأخّر هذا الإجماع المحصّل عنهما ، وأمّا الحيض والحمل للمرأة فدليلان على سبقه أي سبق البلوغ ، فلولا وصولها إلى سنّ البلوغ لما حاضت ، وما لم تحض لا تحبل غالباً وفي إلحاق اخضرار الشارب وإنبات اللحية بالعانة قول قوي ، ويعلم السنّ بالبيّنة والشياع ، لا بدعواه والإنبات يعلم بهما وبالاختبار ، فإنّه جائز مع الاضطرار إن جعلنا محلّ الإنبات من العورة ، أو بدون الاضطرار على المشهور بأنّه ليس من العورة ، بل العورة خصوص الآلة ، ثمّ يثبت الاحتلام بالبيّنة وبالشياع وبقوله أيضاً ، وفي قبول قول الأبوين أو الأب في السنّ (إكمال خمسة عشر سنة هلالية) وجه (1).
    هذا وقد تعرّضنا في مباحثنا الفقهيّة الاستدلالية (درس خارج الفقه) إلى علائم البلوغ في الرجل والمرأة بشيء من التفصيل ، وقد تصدّى لضبطها وتنقيحها بأُسلوب جميل في رسالة منفردة فضيلة الحجّة والخطيب البارع الشيخ حسين الصباح العوامي دام موفّقاً ، ويكون ما كتبه تقريراً لأبحاثنا ، ومن تمام ما حرّرناه في شرح (منهاج المؤمنين) و (العروة الوثقى) ، فراجع.
    __________________
    (1) اللمعة 2 : 144 ، طبعة جامعة النجف الأشرف ، بتصرّف وتوضيح.

    التخيير بين الأُمور الثلاثة
    التخيير لغة : بمعنى اختيار أحد الأمرين أو الأُمور المتعدّدة والمختلفة ، إلّا أنّه الخِيْرَة والخِيَرَة من الشيء أو القوم : الأفضل ، والخيار الاسم من الاختيار ، يقال : أنت بالخيار ، أي اختر ما شئت.
    واصطلاحاً : والذي يسمّى بأصالة التخيير ، فهو يكون عند إحراز أصل التكليف والترديد في المكلّف به ، فيكون الأصل الإلزامي قطعي إلّا أنّ تعلّقه بهذا أو ذاك مردّد ومشكوك فيه ، ولا يمكن الجمع بينهما من باب الاحتياط ، وترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح قبيح ، فالعقل يحكم حينئذٍ بالتخيير.
    ومن أهمّ موارد التخيير :
    1 ـ عند تعارض الأدلّة والأمارات ، فالقاعدة الأُصوليّة تقول بتساقط المتعارضين كالخبرين المتعارضين ، إلّا أنّه في كثير من الروايات ورد التخيير بينهما ، وذهب المشهور إلى القول بالتخيير ، لدلالة الروايات المستفيضة بل المتواترة كما عند الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) على ذلك ، وعند المحقّق الخراساني من جميع ما ذكر يستفاد

    حاكميّة إطلاقات التخيير ، ويسمّى بالتخيير الظاهري الشرعي يستعمله المجتهد الفقيه.
    2 ـ التخيير في المحذورين : كالترديد بين الوجوب والحرمة كصلاة الجمعة في زمن الغيبة الكبرى ، فلا يمكن الجمع بينهما ، فالعقل يحكم بالتخيير حينئذٍ ويسمّى بالتخيير العقلي الظاهري أو التكويني ، وهناك أقوال أُخرى في المسألة كما هو مذكور في محلّه كالقول بالإباحة الشرعيّة كما عند المحقّق الخراساني.
    3 ـ التخيير بين الحكمين المتزاحمين ، كنجاة غريقين لا يتمكّن الإنسان إلّا على أحدهما ، فمخيّر في نجاة أيّهما ، ويسمّى بالتخيير العقلي الواقعي ، وفي التخيير العقلي لا بدّ من وجود جامع بين الأطراف والأبدال.
    هذا ومن تقسيمات الواجب والوجوب كما مرّ أنّه ينقسم إلى الواجب التخييري والواجب التعيّني.
    والثاني كالصلاة الذي هو متعيّن شرعاً على كلّ مكلّف ، والأوّل فيما كان متعلّق التكليف متعدّداً والمكلّف في اختيار أيّهما شاء مخيّراً ، كمن أفطر في شهر رمضان متعمّداً ، فإنّه مخيّر بين الكفّارات الثلاثة إطعام ستّين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين أو عتق رقبة وهذا يسمّى بالتخيير الشرعي الواقعي.
    وخلاصة القول : أنّه في صناعة علم أُصول الفقه قسّموا الواجب التخييري إلى تخيير عقلي : ويقصد به التخيير بين أفراد طبيعة واجبة كتخيير المكلّف بين أفراد الصلاة المكانيّة أو الزمانيّة ، ولا بدّ فيه من القدر الجامع بين الأفراد وهو العنوان الكلّي. وإلى تخيير شرعي : وهو ما إذا لم يكن بين عدلي التخيير جامع حقيقي

    ويكون الواجب كلّ واحد من الأمرين ، لكنّه لو أتى بأحدهما سقط الآخر عن الوجوب كالتخيير بين خصال الكفّارة.
    وعند سيّدنا الأُستاذ أنّ المكلّف مخيّر بين أحد الأُمور الثلاثة ، بمعنى أنّ الواجب عند العقل أحد هذه الثلاثة على سبيل منع الخلوّ في اصطلاح المناطقة ، فالجمع بين عدلين في هذا التخيير كالجمع بين الاجتهاد والاحتياط لا يستلزم لغويّة أحدهما كما كان يستلزم ذلك في ذينك المعنيين من التخيير ، فالمراد من هذا التخيير أنّ العقل يحكم بانحصار طريق الإطاعة في العمل بأحد هذه الطرق الثلاثة لكلّ مكلّف مؤمن يعلم أنّه ليس بمُهْمَل من جانب الله في أفعاله ، وأنّ امتثال تلك الأحكام الواقعيّة على كلّ مكلّف أو احتمالها يلزم الخروج عن عهدتها بأحد الأُمور الثلاثة.
    فقول المصنّف : يجب على كلّ مكلّف .. أنّ المكلّف في مقام الأمن من العقاب وفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به ذمّته إجمالاً واحتمالاً لا يخلو غالباً عن واحد من الأُمور الثلاثة ، لا أنّه يجب على كلّ واحد من المكلّفين التخيير العقلي أو الشرعي بأحد الأُمور الثلاثة.
    فمتعلّق الوجوب العقلي فيما نحن فيه أحد الإبدال الثلاثة على سبيل التخيير بمعناه اللغوي دون المصطلح عند الفقهاء والأُصوليين ، فإنّه لا جامع بين الأبدال الثلاثة فلا تخيير عقلي ، ولا تخيير شرعي لعدم كون الوجوب شرعيّاً.
    ورفع الجميع غير جائز ، للزوم خلوّ المكلّف من التكاليف وهو خلاف الوجدان ، فيكون الوجوب العقلي التخييري بين الأبدال على سبيل منع الخلوّ ، دون

    منع الجمع فإنّه يمكن الجمع بين الاجتهاد والاحتياط أو التقليد والاحتياط.
    والحصر في الأُمور الثلاثة حصر استقرائي ، فإنّ الطرق العقلائيّة لتحصيل العلم بالإطاعة منحصر فيها (1).
    هل التخيير بين الأبدال الثلاثة عرضي أم طولي؟
    التخيير بين أُمور ، إمّا أن يكون عرضيّاً أي كلّ واحد في عرض الآخر فللمكلّف أن يختار أيّها شاء ابتداءً ، أو طوليّاً ، كلّ واحد في طول الآخر ، فمع تمكّن الأوّل لا يختار الثاني المتأخّر.
    فيا ترى هل الإبدال الثلاثة فيما نحن فيه على نحو الطولية أو العرضية؟ والكلام حول ذلك يقع تارةً باعتبار كلّ واحد من الثلاثة ، فأيّهما المقدّم وأيّهما المؤخّر لو كان طولياً؟ وأُخرى يقع في تقدّم الاجتهاد أو التقليد على العمل بالاحتياط أو بالعكس ، وثالثة يقع في تقدّم الاجتهاد على التقليد.
    ومن الواضح أنّ الأُمور الثلاثة معاً ليست في عرض واحد مورداً للتخيير لكلّ مكلّف ، فمن البديهي أنّ العامي الفاقد لملكة الاجتهاد لا يمكنه الاجتهاد ، كما أنّ العارف بالمسألة اجتهاداً لا معنى له أن يرجع إلى غيره وافقه أو خالفه. نعم من كان له ملكة الاجتهاد ولم يستفرغ وسعه ، فلم يكن مجتهداً فعلاً ، فهل يجوز له التقليد؟ اختلف الأعلام في ذلك كما سيأتي تفصيله.
    __________________
    (1) السيّد الصدر ؛ الاجتهاد والتقليد : 246.

    أمّا الاحتياط فهو في عرضها ، فيجوز لكلّ من المجتهد أو المقلّد أن يحتاط ، وبالعكس إلّا أنّ العامي يحتاط ، وهو الاحتياط في خصوص الفتاوى بعد معرفة موارد الاحتياط ، والمجتهد يحتاط فيها وفي غيرها.
    ولا يخفى كما سيأتي أنّ الاحتياط حسن ما لم يستلزم اختلال النظام فيكون مبغوضاً ، أو يستلزم العسر والحرج فيكون مرفوعاً شرعاً ، وكذا ما لم يستلزم الوسوسة. وحينئذٍ مثل هذا الاحتياط يكون مصيباً للواقع ولا يتطرّق إليه الخطأ في العمل فإنّه به يصل المكلّف إلى الحكم الواقعي والمصالح الملزمة أو المفاسد الملزمة ، وبعبارةٍ اخرى لا يوجبان الاجتهاد والتقليد القطع بالامتثال للأمر الواقعي وإنّما يوجبان الظنّ به بخلاف الاحتياط.
    ومن هذا المنطلق ربما يقال بتقدّم الاحتياط عليهما لتطرّق الخطأ فيهما دونه ، وجوابه : لا دليل لنا على وجوب الوصول إلى التكاليف الواقعيّة ، ولو كان لوجب الاحتياط في كثير من الأُمور الشرعية ، والثابت خلافه ، ولو كان لبان. كما أنّ دليل حجّية الأمارات مطلق يعمّ صورة تمكّن المجتهد من الاحتياط ، كما أنّ دليل حجّية الأمارة بالعلم التعبّدي نزّلها منزلة العلم الوجداني بالواقع لدى الشارع فلا حاجة إلى الاحتياط حينئذٍ كما يدلّ عليه سيرة العقلاء ، كما أنّ سيرة المتشرّعة المتّصلة بزمن المعصومين (عليهم‌السلام) كاشفة على عدم تقدّم الاحتياط عندهم على الاجتهاد والتقليد ، كما أنّ إطلاق أدلّة التقليد حاكم بعدم تقدّم الاحتياط عليه.
    وأمّا تقدّم الاجتهاد على الاحتياط أو التقليد ، فربما يتوهّم تقديم ذلك من باب تقديم العلم التفصيلي على العلم الإجمالي.

    فإنّ الاحتياط في العبادات وغيرها تارة لم يستلزم منه تكرار جملة العمل فهو حسن ويحرز به الواقع ، كتعدّد غسل الثوب النجس بالبول ، فيكرّر حتّى يحصل العلم بالطهارة ما لم يستلزم العسر والحرج والوسوسة واختلال النظم كما ذكرنا ، وأُخرى يستلزم منه تكرار جملة العمل كتكرار الصلاة مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فلو قلنا من المحتمل اعتبار قصد الوجه أو التمييز أو الجزم بالنيّة في المأمور به في العمل ، فحينئذٍ مع التكرار تنتفي هذه الأُمور ، ومن ثمّ يقال بتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، فكيف يحرز الواقع بالاحتياط في عرض الاجتهاد والتقليد بقول مطلق.
    وجوابه : أنّ اعتبار هذه الأُمور مبنويّة ، كما أنّها غير معتبرة في المعاملات والتوصّليات ، فيكون النزاع مبنوي حينئذٍ (1) ، كما أنّه لم يثبت تقدّم الامتثال
    __________________
    (1) جاء في (الاجتهاد والتقليد : 250) لسيّدنا الصدر (قدس‌سره) : علّق السيّد الشاهرودي على كلمة الاحتياط في العروة بقوله بعد أن اجتهد أو قلّد في مسألة عدم اعتبار الجزم بالنيّة ، وإلّا لا يتمكّن من الاحتياط أصلاً إلّا بالتشريع المحرّم.
    فأجابه الأُستاذ قائلاً : إنّ كثيراً من موارد الاحتياط غير محتاج إلى الجزم بالنيّة أمّا في المعاملات ، فقد لا يكون الترديد في النيّة حال الاحتياط مضرّاً ، كما لو أدّى المثل والقيمة معاً ، حال الشكّ في ضمان أيّهما. وكما لو احتاط ولم يتصرّف في العوض ولا في المعوّض عند فوات بعض ما يحتمل اشتراطه في العقد ، وقد يكون الجزم بالنيّة ، موجوداً في المعاملة بسبب الاحتياط. كما لو أجرى العقد حال وجود جميع ما شكّ في اشتراطه فيه ، أضف على ذلك ، أنّ الترديد في النيّة ، غير مضرّ بالاحتياط ، في ترك

    التفصيلي على الامتثال الإجمالي مطلقاً ، ثمّ لو سلّم ذلك فغايته عدم تحقّق الاحتياط في العبادات مطلقاً أو فيما إذا استلزم تكرار جملة العمل ، وربما يكون الاحتياط في المعاملات ، كما أنّ القول بجوازه إنّما هو بعد إمكانه وحُسنه ، ونقطع بحسنه فيما أمكن إحراز المأمور به بجميع محتملاته ، وهذا أمر فطري غير قابل للنقاش.
    وأمّا تقديم الاجتهاد على التقليد ، فإنّ الاجتهاد واجب كفائي كما عليه الأدلّة كما سنذكر بأنّ المتبادر من آية النفر (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(1) هو ذلك ، كما تدلّ عليه سيرة العقلاء فإنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم بين تمكّنه من العلم أو غيره ، كما إنّ إطلاقات أدلّة التقليد تعمّ لصورة تمكّن المستفتي من الاجتهاد ، كما ادّعى على ذلك سيرة المتشرّعة ، فتأمّل.
    وخلاصة القول : أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز العمل بالاحتياط في الجملة وأنّه في عرض الاجتهاد والتقليد في الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة والمعلومة في الشريعة المقدّسة ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والعالم بموازين الاحتياط اجتهاداً
    __________________
    ما يشكّ في كونه محرّماً ، وفي فعل ما يشكّ في كونه واجباً ، في الواجبات التوصّلية. وأمّا الحال في التعبّديات ، فقد يكون الجزم بالنيّة عند الاحتياط موجوداً ، كما في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، إذ يأتي المحتاط بالأكثر في صورة عدم احتمال كون المشكوك فيه مضرّاً ، ومن المعلوم أنّه يكفي للمحتاط في الاجتهاد في هذه المسألة ، إحراز حكم عقله ، بعدم اعتبار الجزم في النيّة ، فإذا حصل له الوثوق بذلك وبكفاية الإتيان الرجائي ، فلا يكون مؤاخذاً.
    (1) التوبة : 122.

    وبين العامي العارف بها تقليداً.
    ومن طريف ما يقال في المقام عن الآية العظمى كاشف الغطاء (قدس‌سره) : إنّ للناس بطريق الاحتياط وطريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى والأحكام ، ويسهل الخطب على من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد.
    وأخيراً العقل هو الحاكم في المقام ، بأنّ التعرّض للأحكام الشرعيّة إنّما يكون بأحد الأُمور الثلاثة على سبيل منع الخلوّ ، فإمّا أن يأتي بها حسب اجتهاده واستفراغ وسعه بمعرفتها عن أدلّتها التفصيليّة ، أو يستند على قول من يكون قوله حجّة ، بأنّه هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي هو حكم الله في حقّي بحسب العقل الارتكازي والفطري ، أو يحتاط ويأتي بجميع ما يحتمل دخالته فيه أو يترك جميع ما احتمل زجره وحرمته ، وهذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.
    ثمّ مورد التخيير بين الأُمور الثلاثة إنّما هو في غير اليقينيات والضروريات كما سيذكر ذلك المصنّف في المسألة السادسة ، فإنّه مع العلم الوجداني لا مجال للاجتهاد والتقليد بل ولا الاحتياط ، فإنّ الاجتهاد عبارة عن التعبّد بالأمارة أو الأصل عند الشكّ بالواقع والجهل به ، فإنّه مع حصول العلم الوجداني بالواقع لا معنى للتعبّد بالأمارات التي أخذ الشكّ فيها مورداً ولا بالأُصول العمليّة التي أُخذ الشكّ فيها موضوعاً ، فمع العلم لا مورد للأمارة ولا موضع للأصل ، كما يأتي تفصيل ذلك.

    العبادات لغةً واصطلاحاً
    العبادة لغةً : بمعنى التمهيد والتذليل ومنه (عبّد الطريق) أي مهّده و (عبّد البعير) أي ذلّله. ويقال طريق معبّد ، أي مذلّل بالوطء ، وبعير معبّد مذلّل بالقطران ، وعبّدت فلاناً أي ذلّلته وإذا اتّخذته عبداً قال تعالى (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).
    واصطلاحاً : العبودية إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لأنّها غاية التذلّل ولا يستحقّها إلّا من له غاية الإفضال ، وهو الله تعالى ، ولهذا قال (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) والعبادة ضربان : عبادة بالتسخير وهو كما ذكرناه في السجود ، وعبادة بالاختيار وهي لذوي النطق ، وهي المأمور بها في نحو قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (اعْبُدُوا اللهَ) ، والعبد يقال على أربعة أضرب :
    الأوّل : عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصحّ بيعه وابتياعه و (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ).
    الثاني : عبد بالإيجاد ، وذلك ليس إلّا لله ، وإيّاه قصد بقوله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

    والثالث : عبد بالعبادة والخدمة ، والناس في هذا ضربان : عبد الله مخلصاً ، وهو المقصود بقوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) ـ (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ، (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) ، وعبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، كما في الخبر (تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار) وعلى هذا النحو يصحّ أن يقال ليس كلّ إنسان عبداً لله ، فإنّ العبد على هذا بمعنى العابد ، لكن العبد أبلغ من العابد ، والناس كلّهم عباد الله ، بل الأشياء كلّها كذلك ، لكن بعضها بالتسخير وبالعبادة التكوينيّة. وبعضها بالاختيار (والعبادة التشريعيّة) ، وجمع العبد الذي هو مسترق عبيد ، وجمع العبد الذي هو العابد عباد ، فالعبيد إذا أُضيف إلى الله أعمّ من العباد ، ولهذا قال (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فنبّه أنّه لا يظلم من يختصّ بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين تسمّوا بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك (1).
    والعبادات جمع العبادة ، والأوامر التعبّدية التي يقابلها الأوامر التوصّليّة ، وما يشترط فيها قصد القربة لله سبحانه ، فلولاه لما صحّت العبادة ، بخلاف التوصّليات كما في المعاملات ، وإن كان دخيلاً في كماله.
    ومن المباحث الأخلاقية وفي السير والسلوك ، كما ورد في الأحاديث الشريفة ونهج البلاغة ، أنّ الناس في عبادتهم لله سبحانه طوائف ثلاث : فمنهم من عبد الله سبحانه حبّا وشكراً وأنّه أهل للعبادة ، وهذه عبادة الأحرار ، ومنهم من عبد الله خوفاً من ناره فهذه عبادة العبيد ، ومنهم من عبد الله طمعاً بجنّته ، فهذه عبادة التجار ، والحديث في هذا الباب ذو شجون.
    __________________
    (1) مفردات الراغب : 330.

    المعاملات لغةً واصطلاحاً
    المعاملة لغةً : من المفاعلة تتوقّف على طرفين في العمل ، والعمل كلّ فعل يكون من الحيوان بقصد ، فهو أخصّ من الفعل ، لأنّ الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات ، والعمل قلّما ينسب إلى ذلك ، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلّا في قولهم : البقر العوامل ، والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيّئة (1).
    وعامل معاملة وعامله : سامه بعمل.
    واصطلاحاً : المعاملات يعني الأحكام الشرعيّة بأمر الدنيا باعتبار بقاء الشخص ، كالبيع والشراء ونحوهما.
    وهي لا تفتقر إلى قصد القربة ، وإن كان دخيلاً في كمالها ، لأنّ أوامرها توصّلية كما هو واضح.
    __________________
    (1) مفردات الراغب : 360.

    ثمّ يرد على قول المصنّف (يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً) باعتبار العبادات والمعاملات أنّ متعلّق الوجوب العقلي هو كلّ فعل أو ترك لا يعلم حكمه الشرعي عند الابتلاء به. وخرجت الضروريات الدينية عن ذلك إذ لا يحتاج العلم بها إلى اجتهاد أو تقليد ، فلما ذا خصّه بالعبادات والمعاملات؟
    وأُجيب أوّلاً : أنّ المراد هو الحكم بالصحّة وهي تختصّ بالعبادات والمعاملات.
    وثانياً : سيرة المتشرّعة في غير العبادات والمعاملات على خلاف ذلك ، فإنّ المقلّد منهم لا يتقيّد بالتقليد في غير العبادات والمعاملات من المستحبّات والمكروهات والمباحات ، كما أنّ المجتهد غير مقيّد بذلك ، والمقلّد في هذه الأحكام الثلاثة المندوب والمكروه والمباح يعمل بقول كلّ من يدّعي العلم ، ومن ثمّ لا بأس بدعوى اتّصال هذه السيرة إلى زمان حضور الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، وممّا ذكر يظهر حال الاحتياط فإنّه لا يجري إلّا في الواجبات والمحرّمات.
    وثالثاً : من المرسوم عند الفقهاء عند تقسيم الفقه إلى أقسام ، تارة يقسّم إلى العبادات كالصلاة والصوم وإلى المعاملات ويراد بها المعنى الأعمّ لا خصوص ما توقّف على الطرفين من الإيجاب والقبول كما في المضاربة والمشاركة والبيع وما شابه ذلك فتعمّ حينئذٍ السياسات والعاديات. وتارة يقسّم الفقه إلى العبادات والمعاملات والسياسات ، فيراد من المعاملات حينئذٍ المعنى الأخصّ أي ما يتقوّم بالطرفين الموجب والقابل.

    فالمراد من المعاملة عند تصنيف أبواب الفقه إلى (خمسين ونيّف باباً) إلى العبادات والمعاملات كما في عبارة المحقّق اليزدي (قدس‌سره) غير المراد بها عند تثليث أبوابها إلى العبادات والمعاملات والسياسات ، أو تربيع أبوابها ، فالمعاملة الواقعة في متن العروة الوثقى تعمّ حينئذٍ جميع أفعال المكلّف وتروكه التي لا تتوقّف على قصد القربة الذي كان في العبادات ، فيشمل ما كان يتقوّم بإنشاء الطرفين في العقود وهي المعاملة بالمعنى الأخصّ ، أو بإنشاء طرف واحد في الإيقاعات كالطلاق والعتق وهي المعاملة بالمعنى الأخصّ على وجه ، أو سياسياتها وعادياتها.
    فما يذكره الأعلام من التعاليق على المتن ، لو كان باعتبار القيد الاحترازي ، فهو خلاف المعنى المصطلح ، ولو كان باعتبار القيد التوضيحي فلا يكون حينئذٍ من التعليق المصطلح ، بل يكون شرحاً على المتن ، فتدبّر.
    وسنذكر لك بعض تعاليق الأعلام في آخر كلّ مسألة إن شاء الله تعالى.

    الاجتهاد لغةً واصطلاحاً
    الاجتهاد لغةً : مصدر اجتهد ، واصلة الثلاثي إمّا أن يكون مأخوذاً من الجُهد (بالضمّ) بمعنى الطاقة ، ومنه : أفرغ جهده أي طاقته ، أو مأخوذاً من الجَهد (بالفتح) بمعنى المشقّة ، ومنه : أصاب جهداً أي مشقّة ، أو الطاقة ، فمعنى الاجتهاد بذل الطاقة والوسع ، أو طلب المشقّة وتحمّلها ، والمعنيان متلازمان أو مترادفان لأنّ بذل الطاقة والوسع لازمه ، أو يرادفه المشقّة.
    قال ابن الأثير : الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر ، وهو افتعال من الجهد والطاقة. وقال : الجهد بالضمّ الوسع والطاقة وبالفتح المشقّة. وفي أقرب الموارد : الاجتهاد بذل الوسع في تحصيل أمر مستلزم للكلفة.
    نقول : اجتهد في حمل الحجر ، ولا نقول : اجتهد في حمل الخردلة. وقال العلائلي : الاجتهاد مصدر بمعنى بذل غاية الوسع وأقصاه في نيل المقصود ، ولا يستعمل إلّا في ما فيه كلفة ومشقّة.
    وفي لسان العرب : الجهد بالضمّ في الحجاز وبالفتح في غيرهم : الوسع

    والطاقة ، وقيل : المضموم الطاقة والمفتوح المشقّة ، وقال : اجتهد في الأمر : بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته.
    ويظهر من مجموع ما ذكر في أُمّهات معاجم اللغة وعند أئمة اللغة ، أنّ الاجتهاد لغةً بمعنى الوسع والطاقة سواء كان بالفتح أو بالضمّ ، ويرى سيّدنا الأُستاذ السيّد الصدر أنّه لم يقل أحد منهم أنّ الاجتهاد من الجهد الذي بمعنى المشقّة كما أنّ كلّ من فسّر منهم الاجتهاد فسّره ببذل الوسع في طلب أمر ولم يفسّره بتحمّل المشقّة ، وبهذا يتهجّم على العلّامتين الخراساني والعراقي ، بأنّه ظهر الفساد فيما ذكراه في الكفاية والمقالات من المعنى اللغوي للاجتهاد :
    فقال المحقّق الخراساني : الاجتهاد لغة : تحمّل المشقّة ، وقال المحقّق العراقي : الاجتهاد مأخوذ من الجهد بمعنى المشقّة.
    والظاهر أنّ المعنيين مترادفان أو متلازمان ، فإنّ لازم استفراغ وبذل الوسع والطاقة هو تحمّل المشقّة والكلفة كما هو الواضح ، فيكون تعريف الاجتهاد لغة بمعنى تحمّل المشقّة من التعريف باللازم أو المرادف ، فتأمّل.
    فإنّ السيّد (قدس‌سره) في جواب سميح عاطف ينتهي إلى ما يقوله العلمين ، فهو من الكرّ بعد الفرّ ، فإنّ سميح عاطف يرى : أنّ المراد من الاجتهاد اجتهاد بالرأي كما في رواية معاذ فقال الأُستاذ : إنّ صحّة إطلاق الاجتهاد على استخراج الحكم بالرأي بحسب اللغة محلّ تأمّل من جهة كونه أمراً سهلاً ، فإنّ المعتبر في مفهوم الاجتهاد كون المطلوب فيه ذا كلفة ، فلا يقال : (اجتهد في حمل الخردلة) (1).
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 26.

    وأمّا الاجتهاد المصطلح عند الفقهاء وعلماء الأُصول من الفريقين السنّة والشيعة ـ : فقد ذكروا في ذلك تعاريف عديدة ، ومنشأ الاختلاف بينها باعتبار الأصالة والمفهوم والمحتوى ، فالاجتهاد عند السنّة يعدّ أصلاً مستقلا تجاه الكتاب والسنّة ، وهو عبارة عن القياس وما يوجب الظنّ المطلق من الاستحسانات العقلية وسدّ الذرائع وما شابه ممّا يوجب الحكم على طبق ما يرونه من المصالح والمفاسد الظنّية ، ولله درّ من سدّ باب هذا الاجتهاد ، فلو كان مفتوحاً لجاز دخول كلّ شيء في الدين ، وما ورد عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) من النهي عن الاجتهاد ، فإنّ المقصود به مثل هذا الاجتهاد الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً ، بل لو قيس الدين لمحق (1).
    __________________
    (1) اعلم أنّ الاجتهاد في مصطلح فقهاء الإسلام وعلماء أُصول الفقه يطلق ويراد به أحد معنيين :
    الأوّل : الاجتهاد بالمعنى الخاصّ : وهو المعنى المرادف للقياس أو نفس القياس وكذلك الاستحسان ، يقول الشافعي : «فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت : هما اسمان بمعنى واحد» (الرسالة للشافعي : 477) ، وعند مصطفى عبد الرزّاق أنّ القياس والاستنباط والاستحسان معاني مرادفة للاجتهاد فقال : «فالرأي الذي نتحدّث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعيّة وهو مرادنا بالاجتهاد والقياس ، وهو أيضاً مرادف للاستحسان والاستنباط» (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 138) وهذا الاجتهاد هو المقصود عند السنّة وقد أنكره أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ض وفقهاء الشيعة غاية الإنكار ، فقال الإمام الصادق (عليه‌السلام) لأبي حنيفة القائل بالقياس : «اتّق الله ولا تقس الدين برأيك» (حلية الأولياء 3 : 196) ، وكتب علماء الشيعة مصنّفات في ردّ هذا الاجتهاد كابن عبد الرحمن الزبيري وعليّ بن أحمد

    __________________
    الكوفي والشيخ المفيد وغيرهم.
    الثاني : الاجتهاد بالمعنى العامّ : وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال إلّا أنّه صار في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة أو استنباط الحكم من الأدلّة التفصيليّة أو إرجاع الفروع إلى الأُصول. ولهذا الاجتهاد تعاريف عديدة ومآلها إلى استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها الخاصّة ، والشيعة الإمامية تقول بهذا الاجتهاد وبفتح بابه في عصر الغيبة الكبرى ، قال المحقّق الحلّي المتوفّى سنة 676 : «الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّة الشرع اجتهاداً لأنّه يبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر» ، وقال المحقّق الحلّي بعد أن فصل بين الاجتهادين : «على هذا يلزم أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد؟ قلنا : الأمر كذلك لكن فيه إبهام من حيث أنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة التي ليس أحدها القياس» (معارج الأُصول : 117) فالشيعة رفضت الاجتهاد بالمعنى الأوّل وأقرّت وتبنّت المعنى الثاني.
    وأبناء العامّة إنّما قالوا بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة باسم الاجتهاد لنقص نصوصهم اللفظيّة عن الحوادث والوقائع الجديدة ، فلم يكن عندهم من النصّ النبوي مثلاً ما يغطّي وقائع الحياة المعاصرة ، لأنّهم بعد وفاة الرسول الأعظم وقفوا على عدم استمرار الإمامة والخلافة الحقّة ، ولمثل هذا يقول عمر بن الخطّاب لأحد عمّاله : «فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت ، وإن شئت أن تجتهد برأيك تتقدّم فتقدّم ، وإن

    وأمّا الاجتهاد عند الشيعة الإمامية
    فهو يعني استفراغ الوسع واستقصاء طرق كشف الأحكام من الأدلّة التفصيلية من الكتاب والسنّة ، فهو استنباط الفروع من الأُصول الثابتة والمأثورة في الدين من الآيات الكريمة والروايات الشريفة المعتبرة ، وبني الاجتهاد عندهم على قاعدتين أساسيّتين الكتاب والسنّة التي تعني قول المعصوم (عليه‌السلام) وفعله وتقريره ، وأمّا الإجماع فهو حاكٍ عن السنّة كما مرّ وأمّا العقل فهو الحاكم في مقام امتثال الأحكام الشرعيّة وليس في مقام التشريع ، وقد يكون حكمه طريقاً إلى معرفة حكم الشرع ، فكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.
    عن الحاجبي والعلّامة الحلّي : أنّه استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.
    __________________
    شئت تتأخّر فتأخّر» (دائرة المعارف الإنصاف في بيان سبب الاختلاف) 3 : 212).
    وأمّا الإمامية الاثني عشرية فقد آمنوا باستمرار الرسالة المحمّدية والقيام بها حفظاً وتبليغاً من قبل خلفاء رسول الله الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام) ض الذين نصّ عليهم في مواطن عديدة فقاموا بتغطية المستجدّات الزمانية والمكانية بالنصوص المودعة عندهم من قبل جدّهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فكانت مدرسة أهل البيت غنيّة بالنصوص ، ووضع الأئمة (عليهم‌السلام) القواعد الفقهية والأُصوليّة التي مهّدت للغيبة الكبرى وإعطاء دور عظيم للفقهاء العدول ، وبهذه القواعد الأوّلية أرى المذهب الشيعي أُصوله المحمّدية ، ولا فرع إلّا وله مدخل في أُصولنا ومخرج على مذهبنا كما قاله الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، وبهذا يبقى المذهب الشيعي يتماشى مع كلّ عصر وفي كلّ مصر ، فهو مذهب حيّ يعتقد بإمامة إمام حيّ المهدي من آل محمّد (عليهم‌السلام) ض.

    وقيل : إنّه استنباط الحكم الشرعي عن أدلّته التفصيلية.
    وقيل : عبارة عن العلم بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيلية ، أو أنّه تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.
    وقيل : إنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة قريبة من الفعل.
    وهذا الاختلاف إنّما ينشأ في مثل هذه المواقف عند ما يكون المقصود منها التعاريف والحدود التامّة التي تبيّن تمام ذوات المعرّف بالفتح وذلك بالجنس القريب والفصل القريب أو الرسومات التامّة بالجنس والخاصّة ، ولما يلزم من الحدّ التامّ أن يكون جامعاً لأفراده ومانعاً من أغياره ، أي يكون مطرداً منعكساً ، وهذا المعنى لا يصدق في كثير من التعاريف في المصطلحات الخاصّة ، لهذا يقع الاختلاف والنزاع بين الأعلام من حيث النقض والإبرام ، وإذا قلنا أنّها من باب شرح الاسم والإشارة إلى المرتكزات الموجودة من قبل في وجود الإنسان ، التي حصل عليها من خلال طرق المعرفة كالعلم الحسّي والخيالي والوهمي والعقلي ، فإنّه يكون من التعريف اللفظي ، وبهذا نتخلّص من كثير هذه المناقشات حينئذٍ ، وشرح الاسم مثلما لو سُئل ما هو الغضنفر فيقال : أسد ، والمتكفّل لبيانه معاجم اللغة ، فتدبّر.
    وبناءً على دأب القدماء أنّ هذه التعاريف من الحدود أو الرسوم التامّة فلا بدّ أن تكون جامعة ومانعة ، نرى وقوع نزاع في تعريف الاجتهاد عند الحاجبي والعلّامة بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً.
    توضيح ذلك : أنّ مسلك الإماميّة هو عدم حجّية الظنّ مطلقاً من أيّ طريق

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:43

    حصل ، سواء كان باب العلم مفتوحاً أو نقول بانسداده ، لعدم حجّية الظنّ في نفسه فلا يعتمد عليه في شيء من الأحكام الشرعيّة ، بل ولا في موضوع من موضوعاته إلّا في موارد نادرة كالظنّ بالقبلة ، فالواجب هو تحصيل العلم بالحكم الواقعي أو بالحجّة الشرعيّة من الأمارات والأُصول المعتبرة ، فلا يكفي الخبر الواحد غير الجامع لشرائط الحجّيّة كصحّة الصدور وجهة الصدور والدلالة وغير ذلك ، فهل يحصل الاطمئنان على الحكم الشرعي بمجرّد قيام خبر واحد يفيد الظنّ المطلق ، فيحكم بصدوره عن المعصوم (عليه‌السلام) ويحصل القطع أنّ ظاهره هو المقصود ، ولم يصدر للتقيّة وغيرها؟ هيهات أنّى يكون ذلك.
    ولمّا كان تعريف الحاجبي والعلّامة يواجه هذه المناقشة ، فقد كمّله الأعلام كالمحقّق الخراساني بتبديل الظنّ بالحكم بالحجّة عليه ، فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم.
    وإنّما فعل المحقّق الخراساني ذلك ليدفع هجوم الأخباريين على الأُصوليين ، فإنّهم طعنوا عليهم بلحاظ أخذ الظنّ في تعريف الاجتهاد ، إلّا أنّ الإمامية إذا قالوا بحجّية الظنّ فيما إذا كان معتبراً شرعاً كخبر الثقة فحينئذٍ طعن الأخباريين سيكون على الاجتهاد لا على المجتهدين ، ولو أبدلنا كلمة الظنّ بقيام الحجّة على الحكم الشرعي لارتفع الإشكال ووقع التصالح بينهما ، وكان النزاع لفظياً وصغروياً ، والنزاع في الصغرى واقع بين الأخباريين أنفسهم كما يقع بين الأُصوليين ، فإنّ الأخباري لا ينكر جواز العمل بما قطع بحجّيته ، وبما هو الوظيفة الفعلية من قبل الشارع المقدّس ، كما لا ينكر أصل رجوع الجاهل إلى العالم.

    ثمّ الظاهر من الاجتهاد هو الاجتهاد الفعلي أي استفراغ الوسع على تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، إلّا أنّه قيل إنّما الاجتهاد يتقوّم بالملكة ، فالتعريف المزبور أعمّ من ذلك ، فعرّف الاجتهاد كما عند الشيخ البهائي (قدس‌سره) من أنّه (ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلاً أو قوّة قريبة) (1).
    وأورد السيّد الصدر (قدس‌سره) : أنّ هذا التعريف غير مبيّن لحقيقة الاجتهاد ، فإنّ الاجتهاد ليس نفس الملكة وإلّا لكانت إضافة الملكة إلى الاجتهاد بيانيّة ، والحال أنّ إضافة الملكة إلى الاجتهاد كإضافتها إلى صفات العدالة والسخاوة ونحوها ، مضافاً إلى أنّه لا يصدق على من حصلت له هذه الملكة العناوين الواردة في النصوص مثل قوله (عليه‌السلام) : (من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا) فإنّ الظاهر من الملكة أنّه أمر بالقوّة ولذلك قال الشيخ البهائي (يقتدر بها) وظاهر النصّ وغيره من العناوين المترتّبة على الفقيه كالراوي لحديثنا ونحو ذلك أمر بالفعل أي تدلّ على فعليّة الاستنباط.
    فالتعريف المقبول : أنّ الاجتهاد استخراج الحكم من الحجّة ناشئاً عن الملكة (2).
    وقيل : الأوثق بالاعتبار والأسلم عن النقاش تعريف الاجتهاد بأنّه عبارة عن (تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي أو الحجّة على الوظيفة في مقام العمل ، وإن
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 21.
    (2) المصدر نفسه.

    شئت قلت إنّه عبارة عن استنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة (1).
    أقول : المراد من الظنّ في تعريف الاجتهاد هو الظنّ المعتبر أي الحجّة ، فلا إشكال حينئذٍ باعتبار الاجتهاد الفعلي ، أمّا الاجتهاد بمعنى الملكة فذلك موضوع آخر وتعريف آخر.
    وبعبارة اخرى : إنّ المجتهد يعمل على طبق الحجّة ، ولكن تحصيل الملكة ممّا فيه النصب والتعب كتحصيل ملكة السياقة (السائق للسيارة في عصرنا) واستعمال الملكة أصعب ، فإنّه ربما يحصل عليها إلّا أنّها تزول أو تضعف عند عدم استعمالها ومزاولتها ، فهل يمكن غمض العين عن الاجتهاد الفعلي وتقليد الآخرين؟
    والذي في الشريعة هو تعلّم الأحكام التي يبتلى به الإنسان أو يعلم بالابتلاء بها ولو إجمالاً ، فوجوب التعلّم وجوباً شرعياً كما تدلّ عليه الأخبار ، ومقتضى الوجوب تارة يكون بنحو التقليد وأُخرى بنحو الاجتهاد.
    وما قيل في تعريف الاجتهاد بأنّه استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، ليخرج علم العامي فإنّه أيضاً من تحصيل الحجّة والدليل باعتبار (أنّ هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي فهذا حكم الله في حقّي) إلّا أنّه ليس فيه استفراغ الوسع.
    ولكي يتمّ التعريف نقول : الاجتهاد الفعلي هو استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة التفصيليّة على الواقعة ، وحجّة العامي إنّما هي حجّة إجماليّة ، فأدلّة وجوب التعلّم
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 30.

    حينئذٍ يعمّ الاجتهاد والتقليد.
    ويبقى الاحتياط فيمن لم يقصد الاجتهاد الفعلي ، فإنّه أيضاً يمتثل التكليف الواقعي ما دام لم يضرّ بنيّة التقرّب. فعلى كلّ مكلّف ملتفت يجب في الحوادث الواقعة إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    ثمّ الملكة كما ذكرنا إنّما تحصل بالممارسة والتمرين والمداومة على الأفعال التي تنشأ منها ، فإنّ السخاوة قد تأتي من التسخّي ، وكما ورد في الروايات (تحلّموا فتحلموا ، وتزهّدوا فتزهدوا) ، إلّا أنّ ملكة الاجتهاد تمتاز عن باقي الملكات أنّها لا تحصل إلّا بمعرفة العلوم التي يتوقّف عليها حصول هذه الملكة.
    فالمجتهد الذي يقع موضوعاً لأحكام شرعية ، هو المستنبط للحكم من دليله التفصيلي عن ملكة تحصل دائماً لأيّ واحدٍ كان بسبب معرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط كما أشار إلى ذلك المدقّق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية (1) فليست ملكة الاجتهاد إلّا تلك القوّة الحاصلة من معرفة هذه العلوم وليست بقوّة اخرى تسمّى بالقوّة القدسيّة ، كما عند البعض ، بل الاجتهاد ممكن الحصول للمؤمن والمنافق ، وللصالح والطالح ، وإن كان في الصالحين مسحة قدسيّة ، ولطف إلهي خاصّ في اجتهاداتهم وفقههم الاستدلالي ، فتدبّر.
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 22.

    السير التاريخي للاجتهاد وأُصول الفقه
    لا يخفى أنّ الإسلام بالمعنى الأعمّ هو دين الله جلّ جلاله من آدم صفوة الله وإلى الخاتم حبيب الله (عليهم‌السلام) :
    (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(1).
    وأنّ التشريع الإلهي هو فيض قدسي ونعمة ربّانية أنزلها عزوجل لإسعاد الإنسان وتكامله ، وجعل صفوة خلقه محطّاً لنزول هذا الفيض المبارك ، ابتدأ بشيخ الأنبياء نوح (عليه‌السلام) وختاماً بمحمّد حبيب الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، قال سبحانه :
    (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(2).
    __________________
    (1) آل عمران : 19.
    (2) الشورى : 13.

    فأنزل معهم الكتاب حافظاً للتشريع وصائناً له عن الزوال والاندثار ، قال سبحانه :
    (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(1).
    ثمّ عزّز سبحانه كتبه بسنّة رسله وأنبيائه فعصمهم عن الخطأ وكلّ ما يشين بالإنسان وجعلهم أُسوة وقدوة وصارت سننهم ملاكاً للهداية والضلالة وغدت عدلاً لكتب الله وحجّة على العباد.
    فختمت الشرائع السماوية بخاتم النبيّين محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبزغ نور الإسلام بالمعنى الأخصّ ، الذي من يبتغي غيره فإنّه لن يقبل منه :
    (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(2).
    فجاء التشريع الإسلامي لهداية الناس ، وأغنى الأُمّة الإسلامية عن أيّ تشريع سواه ، ولبّى حاجة المجتمع منذ اليوم الأوّل وإلى يومنا هذا وغداً على اختلاف العصور والأمصار واختلاف الظروف والشرائط. كلّ هذا كان ببركة الاجتهاد والمجتهدين العظام الذين بذلوا ما في وسعهم لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية ، منابع الفقه والأحكام ومصدر التشريع الإسلامي ،
    __________________
    (1) الحديد : 25.
    (2) آل عمران : 85.

    أعني الكتاب والسنّة ، وما يؤول إليهما (2).
    فمحمّد رسول الله وخاتم النبيّين قد بلّغ رسالات الله سبحانه ، وقد خلّف من بعده حفظاً لرسالة الله من الضياع والانحراف والانعدام القرآن الكريم والعترة الطاهرة عِدل القرآن وترجمانه ، كما في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين السنّة والشيعة فكانت الشيعة الإمامية الطائفة الحقّة ترجع إليهما في مسائلهم الشرعية وأحكامهم الدينية ومعتقداتهم وسلوكهم ، وأمّا السنّة أبناء العامّة ، فإنّهم يعتقدون بخلافة الكتاب والسنّة النبويّة ، وبما أنّهما يحملان من العمومية والقواعد العامة التي لا تفي بأجوبة الحوادث الواقعة بعد رحلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، التجأوا إلى القياس والاجتهاد بالرأي والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع وما شابه ذلك من الأُمور الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً ، سدّاً للفراغ ، فكانت الصحابة تجتهد حتّى في حياة النبيّ كما حكى عن المقريزي أنّه قال : إنّ العشرة المبشّرة كانوا يجتهدون حتّى في حياة النبيّ.
    وبعد رحلة النبيّ ما زالت الصحابة تعمل بالاجتهاد أي العمل بالرأي ، وهو أصل للتقنين ، وأنّه ما يفتي به المجتهد برأيه هو حكم الله فقالوا بالتصويب ، ولمّا وجدوا خطورة هذا الاجتهاد أغلقوا بابه ، وتعبّدوا بالمذاهب الأربعة تقليداً ،
    __________________
    (2) إذا أردت تفصيل ذلك فراجع (موسوعة طبقات الفقهاء المقدّمة ، الفقه الإسلامي منابعه وأدواره القسم الأوّل ، تأليف العلّامة المحقّق جعفر السبحاني) وكذلك المجلّد الثاني ، ففيه فوائد وفرائد.

    فتولّد عندهم علم أُصول الفقه.
    إلّا أنّ أصحابنا الإمامية ، فإنّه نقل عن بعضهم أنّه يعتقد باستغناء الأصحاب عن الاجتهاد في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) لانفتاح باب العلم ، وربما يقال لئلّا يكون الاجتهاد في مقابل النصّ. والحقّ خلاف ذلك كما يظهر من الأخبار الشريفة ، فإنّ اجتهاد الأصحاب إنّما كان في طول النصوص لا في عرضها ، كما أنّ الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) بأنفسهم كانوا يرجعون الشيعة إلى كبار تلامذتهم والحواريين من أصحابهم ، بل قال الإمام الصادق (عليه‌السلام) : (علينا بإلقاء الأُصول وعليكم بالتفريع) (1) ، كما قال الإمام الرضا (عليه‌السلام) مضمون ذلك أيضاً.
    كما إنّ الغالب في سكنى الأئمة (عليهم‌السلام) أنّهم استوطنوا المدينة المنوّرة ، وكان من الصعب لقاءهم والتحدّث معهم في كلّ المسائل ، ومن كلّ البقاع الإسلامية آن ذاك ، كما كان معظمهم تحت الرقابة الحكومية الظالمة ، أو في سجون الطغاة ومعسكراتهم ، فمن الصعب درك فيض حضورهم. ولمثل هذا أرجعوا شيعتهم إلى رواة أحاديثهم ، وفيها العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والمتعارض ، واستخراج الحكم منها هو الاجتهاد والاستنباط ، فإنّها لم تختصّ بزمن الغيبة الكبرى كما هو الظاهر في الأخبار العلاجية ، كما في مقبولة ابن حنظلة (2) دلالة على ذلك ، في قوله (عليه‌السلام) : (ينظر في حلالنا وحرامنا) فهذا يعني أنّه صاحب نظر (عرف أحكامنا) وهذا نتيجة
    __________________
    (1) الوسائل ، كتاب القضاء 18 ، الحديث 51.
    (2) فروع الكافي 7 : 412 ، القضاء ، الحديث 5.

    اجتهادية بعد النظر وملاحظة الأدلّة ، فتدبّر.
    كما كان الأئمة يأمرون الشيعة برجوعهم إلى بعض أصحابهم الثقات.
    قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لأبان بن تغلب : (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس ، فإنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك).
    عن عبد العزيز بن المهتدي ، قال : سألت الرضا (عليه‌السلام) فقلت : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن.
    عن عليّ بن المسيّب الهمداني ، قال : قلت للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ عنه معالم ديني؟ قال : من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا.
    عن عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا يسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ قال : فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً.
    وفي كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (1) : إنّ الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما‌السلام) أوّل من أمليا على أصحابهما قواعد علم أُصول الفقه.
    وقد اختلف أبناء العامّة فيمن صنّف أوّلاً في الأُصول ، فقيل : أبو حنيفة المتوفّى 150 ، وقيل : محمّد بن الحسن الشيباني المتوفّى 182 أو 189 ، وقيل : محمّد
    __________________
    (1) الصفحة 310. للسيّد محسن الصدر (قدس‌سره).

    ابن إدريس الشيباني المتوفّى 205 ه‍.
    وذهب من أصحابنا إلى أنّ أوّل من صنّف وكتب في الأُصول هو هشام بن الحكم المتوفّى 179 ، وكتابه في الألفاظ ومباحثها ، ثمّ يونس بن عبد الرحمن وكتابه اختلاف الحديث ومسائله (1).
    هذا وفي الغيبة الكبرى ، فقيل أوّل من عمل بالأُصول وفتح باب الاجتهاد في المصطلح الشيعي هو أبو محمّد حسن بن علي بن أبي عقيل النعماني ، ويسمّى بالقديم الأوّل وكتابه (التمسّك بحبل آل الرسول) في الفقه ، ثمّ محمّد بن أحمد بن داود بن علي ابن الحسن المتوفّى 368 وكتابه (مسائل الحديثين المختلفين) ، ثمّ أبو علي محمّد بن أحمد بن جنيد الإسكافي المتوفّى 381 المسمّى بالقديم الثاني وكتابه (كشف التمويه والإلباس على إعمار الشيعة في أمر القياس وإظهار ما ستره أهل العباد في الرواية عن أئمة العترة في أمر الاجتهاد).
    ثمّ تصدّى للفتيا الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى 413 وكتب في الأُصول ، ثمّ تلميذه علم الهدى السيّد المرتضى المتوفّى 436 وكتابه في الأُصول (الذريعة إلى أُصول الشريعة) ، ثمّ تلميذه شيخ الطائفة الشيخ الطوسي المتوفّى 460 وكتابه (عدّة الأُصول) ، ثمّ لقرن كأنّه توقّف الاجتهاد اعتماداً على فتاوى الشيخ حتّى جاء دور الشيخ الحلّي محمّد بن إدريس المتوفّى 598 وكتابه
    __________________
    (1) لقد تحدّثت عن السير التاريخي لعلم أُصول الفقه بالتفصيل في (ملامح أوّليات علم أُصول الفقه).

    (السرائر) ، ثمّ انتهى أمر الزعامة الشيعية إلى المحقّق الحلّي المتوفّى 676 وكتابه القيّم في الفقه (شرائع الإسلام) وفي الأُصول (نهج الأُصول إلى معرفة الأُصول) و (المعارج) ، ثمّ جاء دور العلّامة الحلّي أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف ابن علي بن مطهر المتوفّى 726 وله مصنّفات في الأُصول منها (مبادئ الوصول إلى علم الأُصول) ، وحتّى القرن العاشر الهجري كان الأعلام في شعاع فتاوى العلّامة وآراءه وأفكاره ، واستمرّ الأمر حتّى عصر جمال الدين حسن بن زين الدين العاملي ابن الشهيد الثاني المتوفّى 1011 وكتابه في الأُصول (معالم الدين وملاذ المجتهدين).
    ثمّ مرّت أدوار ثلاثة على أُصول الفقه :
    1 ـ فترة السكون في القرن 11 و 12 فكان الغالب على كتب الأُصول إنّها تدور حول المعالم ، وتغلّب الخطّ الأخباري آن ذاك على الحوزات العلميّة.
    2 ـ فترة الحياة والتوسّع في الأُصول من القرن 13 بظهور المحقّق آقا أحمد باقر ابن محمّد أكمل المعروف بالوحيد البهبهاني ، فجمع بساط الأخباريين ، وكتب في الأُصول كثير من الأعلام كالميرزا أبي القاسم الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي المتوفّى 1231 وكتابه في الأُصول القوانين ، والشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري المتوفّى 1281 وكتابه (فرائد الأُصول) المعروف بالرسائل.
    3 ـ دوران التلخيص في بداية القرن 14 ، والذي تصدّى لذلك المحقّق الشيخ محمّد كاظم الخراساني المتوفّى 1329 وكتابه المعروف (كفاية الأُصول) الذي صار كالقوانين والمعالم والرسائل مدار الدروس الحوزويّة حتّى عصرنا الراهن.

    ثمّ الاجتهاد هو الغاية لعلم أُصول الفقه ، الذي هو العلم بالقواعد الممهّدة والتي تقع كبرى لاستنباط الحكم الشرعي ، وبهذا يخرج عن علم أُصول الفقه ، وإلّا يلزم دخول الغاية في المغيّا ، كما أنّه من الموضوعات الخارجيّة فليس بحكم شرعي فلا يكون داخلاً في علم الفقه ، كما إنّه ليس من مباحث أُصول الدين لخروجه عن موضوعه ، فقيل : هو علم مستقلّ من العلوم الإسلاميّة ، إلّا أنّ عند السلف الصالح منهم من يدخله في الأُصول وربما استطراداً كما في كفاية المحقّق الخراساني ، ومنهم من يدخله في الفقه ، وربما بملاحظة أدنى مناسبة في ذلك ، وكذلك الكلام في التقليد ، فتأمّل.
    ما ذا تعرف عن الأخباريّة :
    لقد ظهرت صولة الأخباريين ، وهم طائفة من الشيعة وعلماؤهم الأعلام في القرن الحادي عشر ، وظهورهم الأوّل كان في نهاية الغيبة الصغرى ، واستفحلوا في القرن الثاني عشر ، وانهزموا في نهايته ، ولم يبقَ منهم إلّا الشاذّ النادر.
    وخلاصة معتقداتهم الفقهيّة أنّهم يأخذون بالأخبار مطلقاً حتّى الضعاف في مقام العمل بالأحكام الشرعيّة ، وعندهم من الأُصول المسلّمة وجوب الاحتياط في كلّ شيء ، فما يحتمل وجوبه فهو واجب ، وما يحتمل حرمته فهو حرام ، ويرجعون إلى الكتب الأربعة بما فيها من الضعاف ، ولا يؤمنون بظواهر الكتاب الكريم ، بل يأخذون بالنصوص فقط ، بناءً على أنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به ، وهم أهل البيت (عليهم‌السلام) ، كما لا يعتقدون بالأدلّة العقليّة في الأحكام الشرعيّة ، ومن ثمّ

    يرون أنّ الاجتهاد بدعة ، وأنّ المجتهدين عيال على أبناء العامّة ، وما عندهم من الفتاوى أساسه منهم ، فهم بعداء عن مذاق أهل البيت (عليهم‌السلام) ومذهبهم. حتّى وصل الأمر بهم في أيام زعامتهم في كربلاء في القرن الثاني عشر يخاف أن يحمل كتاب أُصولي ، خوفاً من بطشهم وتكفيرهم.
    ثمّ يعدّ مؤسس الأخبارية هو ميرزا محمّد أمين الأسترآبادي المقتول سنة 1022 في الكاظمية المقدّسة ، وكتابه (الفوائد المدنية) كتبه عند ما كان ساكناً في المدينة المنوّرة ، ومن طريف ما ينقل عنه أنّه رأى في عالم الرؤيا النبيّ الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يخاطبه قائلاً : (قم وأنقذ ديني من الأُصوليّين)!! وفي عصرهم كانت كتب الأُصول تتبادل في الخفية ، حتّى بزغ شمس الوحيد البهبهاني فثار على الروح الأخبارية فولّت هاربة ، وأرجع المياه إلى مجاريها الطبيعية التي كانت من عصر الأئمة (عليهم‌السلام) وحتّى بداية الغيبة الكبرى ، وإلى يومنا هذا.
    فالأخباري يركّز على الأخبار ولهذا سمّي بها ، فيعتقد أنّ العقل وإن كان يميّز بين الخير والشرّ ، إلّا أنّ تشخيصه ليس بحجّة ، كما أنّ الأخبار في الكتب الأربعة قطعيّة الصدور إلّا ما لا يعمل به الشيخ في التهذيب ، كما لا يعمل بالقرآن الكريم إلّا بمدد من الروايات ، كما لا يعمل بالظنّ ، ولا معنى عنده لتقسيم الناس إلى مجتهد ومقلّد ، بل على الجميع العمل بالأخبار (1).
    __________________
    (1) فرهنگ تشريحى اصطلاحات أصول : 29.

    مقدّمات الاجتهاد
    لو قلنا بملكة الاجتهاد ، وأنّها تحصل بالممارسة ومعرفة علوم تسمّى مقدّمات الاجتهاد أو نقول بالاجتهاد الفعلي وأنّه استخراج الحكم من الحجّة ، فإنّه يتوقّف على تلك المقدّمات أيضاً. وعند الفاضل التوني (1) أنّ المجتهد في عصر الغيبة يفتقر في مقام الاستنباط إلى معرفة علوم تسعة ، ثلاثة من العلوم الأدبيّة ، وهي : اللغة والصرف والنحو ، وثلاثة من المعقولات ، وهي : الأُصول والكلام والمنطق ، وثلاثة من المنقولات ، وهي : تفسير آيات الأحكام ومعرفة الأحاديث أي علم الدراية وعلم الرجال.
    وعند الغزالي (2) عبارة عن ثمانية من العلوم.
    أقول : يتوقّف استنباط الأحكام الشرعيّة وتحصيل الحجّة على الحكم الواقعي أو الظاهري لعمل نفسه ولمقلّديه على مقدّمات ومبادئ ترجع إلى حصول قوّة الاستنباط وإلى عمل نفسه والإفتاء به ، وأمّا مقدار معرفة تلك المقدّمات فباعتبار أنّ الحجّة تحصل من الكتاب والسنّة فلا بدّ من الاطّلاع على العلوم العربية ومعرفة مفرداتها بمقدار ما يحتاج إليه في فهم الكتاب الكريم والأخبار الصادرة عن
    __________________
    (1) الوافية في أُصول الفقه : 250.
    (2) المستصفى من علم الأُصول 2 : 353.

    المعصومين (عليهم‌السلام) من جهة اللغة والنحو والصرف وعلوم البيان حتّى يعرف الحقيقة من المجاز وما شابه في المحاورات العرفيّة ، ولا يحتاج إلى التوغّل والانغمار في ذلك حتّى يغفل عن ذي المقدّمة.
    كما على الفقيه أن يعرف المحاورات العرفية وفهم الموضوعات المتعارفة بينهم ، ففي تشخيص الموضوعات قيل هو عيال على العوام لما يحمل من العلوم واختلاف الأقوال والآراء ممّا يوجب صعوبة معرفة الموضوع ، وقيل : عليه أن يجرّد نفسه من معلوماته ثمّ ينظر إلى الموضوع ، فما يفهمه يكون حجّة له ولغيره ، وإلّا يلزم رجوع العالم إلى الجاهل ، وقيل : في عدم المعرفة للموضوع يكون غير عارف فيرجع إلى من يعرف من العرف العامّ ، فلا يصدق رجوع العالم إلى الجاهل حينئذٍ.
    يقول سيّدنا اللنگرودي دام ظلّه : يتوقّف الاجتهاد على الانس بالمحاورات العرفيّة وفهم الموضوعات الدارجة بينهم والاحتراز عن خلط دقائق العلوم الفلسفيّة والعقليّات الدقيقة في المعاني العرفيّة السوقيّة الدارجة ، فإنّه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله في فهم معاني الكتاب والسنّة ، وقد وقع كثير من المشتغلين بل الأعاظم في خلاف الواقع من جهة خلط الاصطلاحات الرائجة في العلوم العقليّة والقواعد العقليّة ، بالمعاني العرفيّة الرائجة بين أهل المحاورة المبن
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:45

    وأمّا العلوم المعقولة ، فلا يخفى أنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ولمّا كان موضوع علم الكلام هو الله سبحانه وما يتعلّق به ، كان علم الكلام أشرف العلوم ومقدّم عليها ، وعلى كلّ مكلّف أن يعرف ذلك ويلمّ به بالمقدار اللازم في التوحيد والمعاد وما بينهما من النبوّة والإمامة بالاجتهاد لا بالتقليد ، إلّا أنّ المجتهد عليه أن يعرف من ذلك بالمقدار الذي لا يكون مقلّداً ، بل بالنظر والاستدلال على معتقداته الصحيحة.
    وأمّا المنطق ، كلّما كان النظر الاجتهادي متوقّف على الاستدلال والتفكّر والاستنتاج ، وربما يخطأ في ذلك فيحتاج إلى آلة قانونية تعصم ذهنه عن الخطأ في الفكر ، فلا بدّ من معرفة الحجّة من القياس والتمثيل والاستقراء ومقدّماتها من الحدود والرسوم وما يتعلّق بها من مباحث الألفاظ من دون التوغّل فيها حتّى ينسى ذي المقدّمة.
    وأمّا أُصول الفقه ، فإنّه بمنزلة المنطق للفلسفة ، فهو العمدة والمقدّمة الأساسية للفقه ومسائله وفروعه ، وقد دوّن أُصول الأُصول الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) كإملاء الإمامين الصادقين (عليهما‌السلام) كما جمع ذلك بعض الأعلام كالسيّد الشبّر في أُصوله الأصليّة.
    والعجب من الأعلام بين مفرط ومفرّط في حكم أُصول الفقه ، فمنهم من يرى أنّ تدوينه بدعة كما عند الأخباريين وأنّه يوجب محو الدين ، ومنهم من يذهب إلى معاني دقيقة وعقليّة في مباحثها كالمشتقّ والمعنى الحرفي وما شابه ، والأولى وخير الأُمور أوسطها ، بأن يشتغل بمعرفة مسائل أُصول الفقه بالمقدار الذي يحتاجه

    منها في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وترك الفضول فيها ، وصرف العمر فيما هو الأهمّ من معرفة علم الفقه الذي يعدّ من علوم النجاة في الدنيا والآخرة ، كما جاء في الحديث النبويّ الشريف : إنّما العلم ثلاث : آيةٌ محكمة (علم العقائد) ، وسنّة قائمة (علم الأخلاق) ، وفريضةٌ عادلة (علم الفقه).
    ثمّ معظم ما يتوقّف عليه الاجتهاد هو حجّية خبر الثقة والظواهر والأوامر والنواهي والمطلقات والعموم والأُصول العمليّة والتراجيح وغيرها (1).
    وأمّا علم التفسير ومعرفة الكتاب العزيز فإنّه يكفي أن يكون بمقدار ما يتوقّف على معرفة ألفاظ آيات الأحكام ولو بالمراجعة إليها حال الاستنباط ، والفحص عن معانيها لغةً وعرفاً ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمجمل والمبيّن والعامّ والخاصّ ، وشأن النزول وما ورد من تفسير الأئمة (عليهم‌السلام) وكيفيّة الاستدلال بها.
    وأمّا معرفة علمي الدراية والرواية بأن يعرف أقسام الخبر ، ومعنى الصحيح والموثّق والحسن والضعيف في صحّة صدور الخبر ، ثمّ معرفة جهة الصدور وأنّها للتقيّة أو غيرها ، فيقف على مذاق الأئمة (عليهم‌السلام) ، كما حكى عن زرارة لمّا اتي له بخبر قال إنّه (عليه‌السلام) (أعطاه من جراب النورة) على أنّه ما جاء به لم يكن من الحكم
    __________________
    (1) يقول صاحب الدرّ النضيد : 50 ، نعم لا بدّ فيها من الاقتصاد والاعتدال لا على نحو التفريط الذي ذهب إليه الأخباريون ، ولا على الإفراط الذي ابتليت به حوزات العلميّة ، فإنّ كلّا منها انحراف عن جادّة الصواب. ويذكر المصنّف وجه ذلك ، فراجع.

    الواقعي إنّما صدر للتقيّة.
    ولو تضلّع في الأخبار بتقوى وإخلاص ، فإنّه يفهم منها ما لا يفهمه غيره ، وحتّى في كثير من الموارد يعرف كيف يرفع التعارض بين الأخبار ، بل يراها كلّ من معدن واحد ، ولا اختلاف بينهما كما ورد عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب) (1).
    وما عن أبي حيون مولى الرضا عن الإمام الرضا (عليه‌السلام) قال : من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم. ثمّ قال (عليه‌السلام) : إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّدوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتهلكوا) (2).
    وهذا كلّه لما جاء في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، وأنّهما لن يفترقا إلى يوم القيامة ، فكلّ ما في القرآن الكريم هو عند العترة الطاهرة (عليهم‌السلام) ، وكلّ ما عندهم هو في القرآن لإطلاق عدم الافتراق ، وإذا كان القرآن له سبعون بطناً ، وأنّه يحمل وجوه ، وأنّه غضّ جديد لا يبلى ، ويتماشى مع كلّ عصر ومصر ، فكذلك كلمات المعصومين (عليهم‌السلام) (3) ، فهما من منبع واحد ، من العليّ الأعلى ، الفرد الصمد
    __________________
    (1) الوسائل ، باب 9 من صفات القاضي ، الحديث 27.
    (2) المصدر ، الحديث 22.
    (3) راجع الدرّ النضيد 1 : 54.

    الواحد الأحد جلّ جلاله.
    فالمجتهد لا بدّ أن يقف على معرفة أوّليات علوم الحديث.
    وأمّا علم الرجال : فلا يخفى أنّه يحتاج الفقيه إلى معرفة حال ثقاة الرجال الواقعين في أسناد الأخبار الواردة في بيان الأحكام الشرعيّة وتمييزهم عن غيرهم حتّى يعرف حال السند ، وما هو المقبول وما هو المردود ، ولا يتمّ الاستدلال بالخبر إلّا عند اجتماع شرائط العمل بالخبر ، كصحّة الصدور وجهته ودلالته وأن لا يكون مخالفاً لكتاب الله ولا للخبر المتواتر المفيد للعلم والقطع ولا لحكم العقل المستقلّ ، ثمّ الذي يتكفّل لبيان صحّة الصدور هو علم الرجال.
    هذا ما هو المشهور عند الأعلام في مبادئ الاجتهاد ، وما يحتاجه المجتهد من المقدّمات في مقام عمليّة الاستنباط.
    وقيل : يحتاج المجتهد أيضاً أن يفحص عن فتاوى الأصحاب ويعتني بمقالاتهم لا سيّما قدماءهم الذين من دأبهم الفتوى بمتون الأخبار كالصدوقين وشيخ الطائفة ومن يحذو حذوهم ، فإنّهم أساطين الفقه وقربوا من عصر الأئمة وعندهم ما ليس عند المتأخّرين وهذا من الحسن.
    هذا والمحقّق الآخوند في كفايته القيّمة يتعرّض لمبادئ الاجتهاد أيضاً ، ويذكر علوماً ثلاثة ، وهي :
    1 ـ العلوم العربيّة : أي اللغة والصرف والنحو ، والوجه في ذلك ، أنّ غالب المسائل عند استنباطها وأكثر الوقائع والحوادث عند استخراج حكمها من أدلّتها ومداركها إنّما يتمّ بالرجوع إلى الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ، ومعرفتهما متوقّفة

    على معرفة اللغة والصرف والنحو ، ولكن هذا لا يعني أنّ قولهم حجّة ، بل عند المراجعة إليهم ربما يحصل الوثوق والاطمئنان أنّ معنى الآية الشريفة والخبر الشريف هو هذا المعنى ، فمن أجل حصول الوثوق نقول بالرجوع إليهم.
    ثمّ ليس المراد من معرفة هذه العلوم حضورها في الذهن ، بل المقصود أنّه عند المراجعة يفهم ذلك.
    2 ـ علم التفسير كذلك في الجملة ولو بالمراجعة ، والتفسير بمعنى كشف القناع عن الظاهر ، ويطلق على معنيين ، فتارةً يكون اللفظ في نفسه مجملاً كقوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، ففي التفسير يرفع الإجمال عن اللمزة والهمزة ، فربما تكون الآية مجملة في نفسها أو في ألفاظها. وأُخرى يكون للفظ ظهوراً ، ولكن التفسير يبيّن خلاف ذلك كقوله تعالى (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ، فإنّه بظهوره يدلّ على الوجوب ، ولكن التفسير يذكر دلالته على الاستحباب فيكون التفسير بمعنى بيان خلاف الظاهر ، وبهذا يتّضح أنّ كتب التفسير ليست المصادر لهذه المعرفة ، فإنّه لا بدّ أن يكون التفسير حجّة ، وذلك فيما إذا كان ينتهي إلى قول المعصوم (عليه‌السلام) أو إلى النقل المتواتر ، فلا بدّ أن يرجع إلى ما فيه السند في مراد الشارع المقدّس. ومن هذا المنطلق نجد بعض الأعلام قد كتب في آيات الأحكام التي يستدلّ بها وبيان الروايات فيها مسنداً ، فمراد معرفة التفسير للمجتهد هذا المعنى ، فتدبّر.
    3 ـ علم الأُصول : وهو العمدة للمجتهد ، فما من واقعة يستنبطها المجتهد من مصدر التشريع الإسلامي أعني الكتاب والسنّة ، إلّا وهي متوقّفة على مقدّمة أو

    مقدّمات نقّحت ودرست في علم الأُصول ، ويعبّر عنها بالكبريات والعناصر المشتركة والقواعد العامّة ونتائج علم الأُصول.
    ولا يخفى أنّه لا فرق بين المجتهدين وبين الأخباريين في هذا المعنى ، فإنّه لا بدّ في الاستنباط من انضمام مقدّمة تذكر في نفس المسألة أو في مقدّمة الكتاب كما في الحدائق الناضرة للمحقّق الأخباري البحراني (قدس‌سره) ، فكيف يدّعي الأخباري عدم نفع علم الأُصول. ولو كان الأساس والأُصول محرّماً فكيف يبتني عليه الفقه ، ومجرّد أن يجمع هذا العلم ويدوّن في كتاب ويسمّى بعلم الأُصول لا يستلزم كلّ هذا الهجوم من الأخباريين ، وكذلك مجرّد أنّه لم يكن كتاباً في عصر النبيّ في علم الأُصول لا يعني بطلانه ، وإلّا يلزم بطلان وحرمة علم المنطق والنحو والصرف وغير ذلك من العلوم التي نعدّها إسلامية مباشرة أو بالواسطة والمقدّمة.
    ولا يخفى كما ذكرنا أنّ هذه المسائل والقواعد الأُصوليّة كانت من عصر النبوّة والإمامة ، إلّا أنّها مختصرة ومجملة ، ثمّ بمرور الزمن وكثرة الشبهات توسّعت المباحث الأُصوليّة ، فإنّ اجتماع الأمر والنهي وأنّه لا يجوز والتركيب الاتّحادي كان في عصر الصادقين وفي روايات زرارة. فلا يتمّ الفقه من دون أُصوله ، فإنّها مقدّمة لها كمقدّمة المنطق للفلسفة.
    هذا والآخوند ذكر هذه العلوم الثلاثة ولم يتعرّض إلى علم الرجال ، فلا بدّ من بيان ذلك.
    فقد قيل كثير من الروايات المسندة في الكافي هي غير مسندة في الفقيه ، وهذا يعني أنّ الشيخ الصدوق عليه الرحمة يرى عدم ضرورة نقل السند ، فإنّه يذكر من

    باب الزينة. ولكن هذا لا يتمّ ولا يصحّ ، فإنّ من الأخبار ما هي مقطوعة ومرسلة ، فلو ثبت بنحو الموجبة الكلّية أنّ الروايات في الكتب الأربعة كلّها مسندة ، ولكثرة سندها وتوافقها فلا نحتاج إلى السند ، فإنّه يثبت حينئذٍ أنّ السند إنّما يذكر للزينة والتبرّك مثلاً ، ولكن أنّى لهم ذلك فإنّ القضيّة على نحو الموجبة الجزئيّة ، كما إنّ بعض الروايات يتعدّد فيها السند ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود ، فلا بدّ من إحراز السند حينئذٍ ، وبهذا نقول يحتاج المجتهد إلى علم الرجال أيضاً.
    وأمّا مقولة الصدوق في بداية كتابه الشريف أنّ ما أوردته في الفقيه حجّة بيني وبين الله فهذا كان في بداية أمره ، وإلّا فإنّه لا يحتمل أنّ الصدوق عمل بكلّ الروايات المذكورة في الفقيه ، فقد نقل عن مجاهيل وعن عائشة وأنّ الإخوة في السند لا يتوارثون في زمن الظهور وأمثال ذلك ، فكيف يعمل بمثل هذه الروايات.
    فإمّا أن يكون نظره الشريف في البداية أن ينقل ما هو حجّة ، ثمّ في مقام الإفتاء لم يجد الدليل المحكم على المسائل فنقل هذه الروايات ، أو كان نظره باعتبار الغالب ، فإنّه غالباً لا ينقل إلّا الحجّة بينه وبين الله سبحانه (1).
    __________________
    (1) ومن الأعلام من يذهب إلى صحّة ما جاء في الفقيه بناءً على ما عند القدماء من الصحّة دون مصطلح المتأخّرين الذي تصدّى له السيّد ابن طاوس واشتهر في زمن العلّامة عند تقسيم الخبر إلى أربعة أقسام كما في علم الدراية ، وذكرت ذلك بالتفصيل في (دروس الهداية في علم الدراية) وفي تصحيح كتابي شيخ الطائفة التهذيب والاستبصار يأتي النزاع في تصحيح رواياتهما على مبنى القدماء دون المتأخّرين.

    ثمّ الكليني ليس في كلامه ما يدلّ بالصراحة أنّ ما ينقله كلّه حجّة ، وإن قيل بذلك لا سيّما بناءً على مبنى القدماء في الصحّة ، كما جاء في مقدّمة الكتاب (1).
    نعم في الأخبار التي لها حكم واحد بإسناد متعدّدة ، أو عمل المشهور بها فيدلّ على التسالم عليها ، فمثل هذا لا يحتاج إلى السند ، وربما الفقيه أحرز ذلك للقرائن الخاصّة في الرواية. وعلى كلّ حال فإنّ الفقيه المجتهد لا يستغني عن علم الرجال.
    وأمّا علم المنطق فلم يذكره الآخوند كذلك ، ولا يحتاجه الفقيه في مقام الاستنباط ، فإنّ الجميع يعرف أنّه في القياس لا بدّ أن تكون الكبرى موجبة كلّية وإن لم يعرفوا المصطلحات ، فليس علم المنطق من مبادئ الاجتهاد ، وكذلك علم الكلام ، فإنّ المراد ما يتوقّف عليه الاجتهاد لا ما يتوقّف عليه الإسلام ، كما إنّ الإيمان متوقّف على الولاية وليست هي من مقدّمات الاجتهاد.
    فتحصّل أنّ الاجتهاد إنّما يتوقّف على العلوم العربيّة الثلاثة وعلم الأُصول والتفسير بالمعنى المذكور وعلم الرجال.
    __________________
    (1) لا سيما في قوله عليه الرحمة : (وقلت إنّك تحبّ أن يكون كتاب كافٍ يجمع فيه من جميع فنون الدين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهم‌السلام) ض ، والسنن القائمة التي عليها العمل ، وبها تؤدّي فرض الله وسنن نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)) ، بأمثال هذه العبارة ذهب بعض الأعلام كالسيّد ابن طاوس والمحدّث النوري إلى صحّة ما في الكافي ، فتأمّل وراجع الدرّ النضيد 1 : 70 ، ومناقشة الكاتب للسيّد الخوئي (قدس‌سره).

    فظهر أنّ الاجتهاد وعملية الاستنباط إنّما يعني بذل الجهد وما في وسع الإنسان واستفراغ ما عنده في استنباط الحكم الشرعي من أدلّته التفصيليّة من الكتاب والسنّة ، ويتطلّب ذلك جهوداً علمية ضخمة تتمثّل بالإحاطة الكاملة والشمولية العامة لاستعمالات أهل اللغة ، مع فهم كامل لأحكام القرآن الكريم والسنّة الشريفة لا سيّما مع الابتعاد عن زمن صدور النصّ وامتداد الفاصل الزمني بين المجتهد وبين عصر الكتاب والسنّة ، بكلّ ما يحمله هذا الامتداد من مضاعفات كضياع جملة من الأحاديث وتغيير كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من الدسّ والافتراء في المجاميع الحديثية ممّا يتطلّب العناية البالغة في التمحيص والتدقيق في أسانيد الروايات وفي دلالاتها ، كما والحياة تتطوّر والحوادث الواقعة تتزايد وتتجدّد ، ولم يرد فيها الحكم الخاص ، فلا بدّ من استنباطها على ضوء القواعد الفقهية العامة ، وهذا يتطلّب تخصّص علمي في فهم تلك المصادر واستخراج الأحكام الشرعية ، فلا بدّ من الاستدلال عليها ، وهو الذي يعبّر عنه بالاجتهاد ، فيبذل الفقيه جهده في استخراج الحكم واستنباطه من أدلّته ومسانيده ومداركه ، والمقصود منه تحديد موقف عملي تجاه الحكم الشرعي ، ومثل هذا الاجتهاد يصبو إليه أتباع مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) ، ويدلّ عليه النصوص والسيرة وحكم العقل ، وليس هذا من الاجتهاد المذموم والمحارب من قبل أئمة الهدى وأتباعهم ، والذي يعني استعمال الرأي الشخصي في عرض وقبال الكتاب والسنّة ، فالاجتهاد الممدوح ما كان في طول الكتاب والسنّة ، فتدبّر.

    القوّة القدسيّة في الاجتهاد
    هذا ولا بأس أن نذكر مجمل ما يقوله المحقّق العظيم الوحيد البهبهاني صاحب المدرسة الأُصولية المتأخّرة في كتابه الفوائد (1) : إنّ شرط الاجتهاد هي معرفة العلوم اللغوية لأنّه إن لم يعرفها فربما يزلّ فيضلّ ويضلّ .. ومعرفة عرف العام والخاص الذي هو حجّة في الفقه .. وعلم الكلام لتوقّفه على معرفة أُصول الدين بالدليل وإلّا لكان مقلّداً .. والمنطق لشدّة الاحتياج إلى الاستدلال في الفقه وفي العلوم التي هي شرط في الاجتهاد لأنّ الجميع نظريات .. وأُصول الفقه والحاجة إليه من البديهيات كما صرّح به المحقّقون وهذا العلم ليس بحادث بل كان في زمان المعصوم (عليه‌السلام) .. والعلم بالأحاديث المتعلّقة بالفقه والعلم بالتفسير ومعرفة فقه الفقهاء وكتب استدلالهم وكونه شرطاً غير خفي على من له أدنى فطانة إذ لو لم يطّلع عليها رأساً لا يمكن الاجتهاد والفتوى .. ومعرفة الرجال للوثوق بالسند من حيث العدالة أو الانجبار أو لأجل الترجيح .. ومن الشرائط القوّة القدسيّة والملكة القويّة وهو أصل الشرائط لو وجد ينفع باقي الشرائط ، وينتفع من الأدلّة والأمارات والتنبيهات بل وبأدنى إشارة يتفطّن بالاختلالات وعلاجها .. واعلم أنّ هذا الشرط يتضمّن
    __________________
    (1) ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد : 212 ، الفائدة 36. في ذكر شرائط الاجتهاد على سبيل الإجمال.

    أُموراً :
    الأوّل : أن لا يكون معوجّ السليقة فإنّه آفة للحاسّة الباطنة ، كما أنّ الحاسّة الظاهرة بما تصير مألوفة .. وطريق معرفة الاعوجاج العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم ، فإن وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله ويشكره ، وإن يجد يخالفها فليتّهم نفسه .. ربما يلقي الشيطان في قلوبهم أنّ موافقة الفقهاء تقليد لهم وهو حرام ونقص فضيلة ، فلا بدّ من المخالفة حتّى يصير الإنسان مجتهداً فاضلاً ، ولا يدري أنّ هذا غرور من الشيطان ..
    الثاني : أن لا يكون رجلاً بحّاثاً ، في قلبه محبّة البحث والاعتراض والميل إليه متى ما سمع شيئاً يشتهي أن يعترض عليه إمّا حبّا لإظهار الفضيلة أو أنّه مرض قلبي كالكلب العقور كما نشاهد الحالين في كثير من الناس ، ومثل هذا القلب لا يكاد يهتدي ولا يعرف الحقّ من الباطل ..
    الثالث : أن لا يكون لجوجاً عنوداً ، فإنّا نرى كثيراً من الناس أنّهم إذا حكموا بحكم في بادي نظرهم أو تكلّموا بكلام غفلة أو تقليداً أو من شبهة سبقت إليهم أنّهم يلجّون ويكابرون ، ومن قبيل الغريق يتشبّثون بكلّ حشيش للتتميم والتصحيح ، وليس همّتهم متابعة الحقّ بل جعلوا الحقّ تابع قولهم ..
    الرابع : أن لا يكون في حال قصوره مستبدّاً برأيه ، فإنّا نرى كثيراً من طلاب العلم في أوّل أمرهم في نهاية قصور الباع وفقد الاطلاع ، ومع ذلك مستبدّون بهذا الرأي القاصر الجاهل الغافل ، فإذا رأوا كلام المجتهدين ولم يفهموا مرامهم لقصورهم وفقدان اطلاعهم يشرعون في الطعن عليهم ، بأنّ ما ذكرتم من أين وكلّ

    ما لا يفهمون ينكرون بل ويشنّعون عليهم ، ولا يتأمّلون أنّ الإنسان في أوّل أمره قاصر عن كلّ علم ، وكذا عن كلّ صنعة ، وكذا عن كلّ أمر جزئي سهل فضلاً عن الأُمور الكلّية العظام المشكلة ..
    الخامس : أن لا يكون له حدّة ذهن زائدة بحيث لا يقف ولا يجزم بشيء مثل أصحاب الجربزة.
    السادس : أن لا يكون بليداً لا يتفطّن بالمشكلات والدقائق ، ويقبل كلّما يسمع ويميل مع كلّ قائل ، بل لا بدّ فيه من حذاقة وفطنة يعرف الحقّ من الباطل ويردّ الفروع إلى الأُصول ..
    السابع : أن لا يكون مدّة عمره متوغّلاً في الكلام أو الرياضي أو النحو أو غير ذلك ممّا هو طريقته غير طريقة الفقه ، ثمّ يشرع بعد ذلك في الفقه ، فإنّه يخرّب الفقه بسبب انس ذهنه بغير طريقته ..
    الثامن : أن لا يأنس بالتوجيه والتأويل في الآية والحديث إلى حدّ يصير المعاني المؤوّلة من جملة المحتملة المساوية للظاهر ، المانعة عن الاطمئنان به ..
    التاسع : أن لا يكون جريئاً غاية الجرأة في الفتوى كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة ، فإنّهم يقتلون كثيراً بخلاف المحتاطين منهم.
    العاشر : أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط فإنّه أيضاً ربما يخرّب الفقه كما شاهدنا من كثير ممّن أفرط في الاحتياط ، بل كلّ من أفرط فيه لم نرَ له فقهاً لا في مقام العمل لنفسه ، ولا في مقام الفتوى لغيره.
    واعلم أيضاً أنّ علم المعاني والبيان والبديع والحساب والهيئة والهندسة

    والطبّ من مكمّلات الاجتهاد ، وجعل جمع : علم المعاني والبيان والبديع من شروط الاجتهاد ، مثل السيّد المرتضى ، والشهيد الثاني والشيخ أحمد بن المتوّج البحراني ، بل الأخيران عدّا علم البديع أيضاً من الشرائط ، وقد أشرنا إلى أنّه ربما يحصل العلم من جهة الفصاحة والبلاغة بكون الكلام عن الإمام (عليه‌السلام) فمن هذه الجهة ربما يكون لهما مدخليّة في الاشتراط ، بل البديع أيضاً ، وأمّا الهيئة فبعض مسائله ربما يكون شرطاً أيضاً مثل ما يتعلّق بالقبلة ، وكون الشهر ثمانية وعشرين يوماً بالنسبة إلى بعض الأشخاص وواحدة وثلاثين بالنسبة إلى البعض ، والقدر الذي هو شرط من جميع العلوم المذكورة هو الذي يندفع به الضرورة ، وإن كان لا يحصل إلّا بعد الاطلاع على الجميع من كلّ واحد واحد منها ، لكن اطلاع في الجملة من دون حاجة إلى المبالغة والإكثار ، وصرف العمر الكثير في تحصيل المهارة التامة الشديدة كما لا يخفى. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    أقول : ما ذكره من القوّة القدسيّة وتضمّنها أُموراً ، إنّما ترجع إلى حدّ الاعتدال في مقام الاستنباط ، كما هو شرط لكمال الاجتهاد ، وإنّه من أخلاقيات المجتهد ، فهو بالأخلاق أشبه من شرائط الاجتهاد ، ومثل معرفة القبلة إنّما هو باعتبار أنّها من الفروعات الفقهيّة ، وربما تتوقّف على معرفة الهيئة ولكن هذا لا يعني أنّها من شرائط الاجتهاد ، وإلّا للزم أن يلمّ المجتهد بكلّ العلوم كالاقتصاد والسياسة والكيمياء والفيزياء وغير ذلك ، فإنّ للجميع دخل بنحو من الأنحاء في الفروعات الفقهيّة ، كما أنّ هذه النصائح القيّمة تعمّ طلّاب العلوم ، ولا تختصّ بالمجتهدين ، فكيف تكون من شرائط الاجتهاد ، فتدبّر ، فإنّ المصنّف أشار إلى ذلك في خاتمة كلامه

    بقوله : وأيضاً لا بدّ من صرف مدّة من العمر في تهذيب الأخلاق لما عرفت من اشتراط القوّة القدسيّة ، ولأنّ العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء سيّما الفقه ، والنور لا يقذف في قلب رديء مع أنّه لو قذف ، فنعوذ بالله من العالم الرديء ، فإنّه شرّ الناس بعد فرعون وشدّاد وفلان وفلان وأنّه من الضالّين عن سبيل الله وقطّاعي الطريق إليه تعالى ، وصرف العمر فيما ذكر من العلوم يمنع عن التهذيب ، بل ربما يورث القساوة كما ورد الحديث في معرفة النحو (من تنحّى سلب منه الخشوع) ، ونشاهد في غيرها مع أنّ تهذيب الأخلاق من أوجب الأشياء كما لا يخفى والله الهادي إلى طريقه ، ولا يحصل الهداية إلّا بالإرشاد وتوفيقه (1).
    التخطئة والتصويب في الاجتهاد
    القضايا التي يعيشها الإنسان إمّا أن تكون عقلية محكومة بحكم العقل ، أو شرعية في نطاق الشرع المقدّس. والعقل إنّما هو حجّة الله الباطنية لدرك وفهم الواقعيات والأُمور الحقيقية التي لا تتغيّر ، فإنّ حكم العقل غير قابل للتخصيص ، وأمّا الشرعيات وهي مورد البحث فهي اعتبارية مؤطّرة بإطار الحجّة الظاهريّة من
    __________________
    (1) ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد : 222 ، هذا وقد ذكرت مجموعة من أخلاق طالب العلم وخصائص القائد الإسلامي والمبلّغ الرسالي في موسوعة رسالات إسلامية ، المجلّد الثالث ، فراجع.

    الوحي المقدّس ومن كان في خطّه ووراثته.
    وحينئذٍ هل الوقائع والحوادث تختلف أحكامها باعتبار فتاوى المجتهدين عند اختلافهم؟ كما عليه القائلون بالتصويب من أبناء العامّة ، بأنّ الحكم الواقعي تابع لرأي المجتهد ، وأنّه يختلف باختلافه.
    ولا يخفى أنّ القائل بالتصويب إنّما يقول به في الكبريات ، أمّا الصغريات وتشخيص الموضوعات الذي يتعهّده العامي فإنّه كالمخطئة يقول بالتخطأ أيضاً ، كالحيوان المذبوح فلو كان يدّعي أحدهما الذبح الشرعي ، والآخر ينكره ويراه من الميتة ، فأحدهما يصيب الواقع من فري الأوداج حسب الشرائط الشرعية فيرجع إلى الأمر الواقعي والآخر بخلافه ، ولا يجتمع النقيضان كما لا يرتفع ، ولا فرق في ذلك بين المجتهد والعامي. فالاختلاف بين العامة والخاصة في الكبريات ، فعندهم الاعتبارات الشرعية بعدد آراء المجتهدين وأنظارهم ، وهي قابلة للتغيير دون العقليات والواقعيات. فمن المجتهدين من يرى حلّية ذبيحة الكتابي لو ذكر اسم الله ، ومنهم من يرى حرمة ذلك ، فمن يراه حلالاً فإنّه واقعاً يكون عنده حلالاً وكذلك الحرام ، ويرون إمكان التصويب ووقوعه.
    وأمّا المخطئة من أصحابنا الإمامية فإنّهم يرون أنّ الحكم في الواقعة الكلّية على نحو واحد وعلى حدّ سواء ، فإنّ المسافر مثلاً إنّما يجب عليه الصلاة قصراً سواء علم بذلك أو لم يعلم ، فهناك أحكام يشترك فيها العالم والجاهل ، القادر والعاجز ، فإن وصل إليها المجتهد بعد استفراغ وسعه وما في طاقته وأصاب الواقع فله حسنتان ، للاستفراغ والإصابة ، وإن أخطأ الواقع فله حسنة

    واحدة لتعبه ونصبه واستفراغ وسعه. هذا عند الأُصوليين من الشيعة ، وأمّا الأخباريون فيرون فيما أصاب له حسنة واحدة ، وإن أخطأ فلا شيء عليه لا أنّه يثاب بحسنة ، فتأمّل.
    والمحقّق الآخوند يذكر وجوهاً ثلاثة للتصويب ، واحد منها غير ممكن والآخران ممكنان عقلاً.
    الأوّل : وهو من الممكن ، أنّ القائل بالتصويب يرى إمكان أن يعلم الله من الأزل ماذا سيستنبط المجتهد الأوّل مثلاً فوضع له ذلك الحكم ، والآخر الذي يخالفه في الفتوى أيضاً من الأزل أو من حين تشريع الأحكام جعل له حكماً واقعياً ، نظير القول بالتخيير في كفّارة إفطار شهر رمضان المبارك. فالواجب عند الله سبحانه أحد الثلاثة من الخصال ، وأنّه يعلم من الأزل بأنّ زيد سيختار العتق وعمرو يختار الصوم وخالد يختار الإطعام ، فأوجب لزيد من الأزل العتق وكذلك عمرو وخالد. ويمكن هذا التصويب لعدم المحذور المتصوّر في القسم الثاني.
    الثاني : وهو التصويب المحال بأنّ الله سبحانه لم يجعل أيّ حكم في الواقعة في نفس الأمر والواقع لأيّ فرد قبل اجتهاد المجتهد ، وإنّما يجعل الحكم بعد الاجتهاد وفعليّته ، وهذا محال فإنّه لو لم يكن في الواقعة قبل الاجتهاد حكماً ، فعن أيّ شيء يبحث المجتهد ، وأيّ مدلول يكون لدليله ولا حكم في البين ، فإنّه يلزمه الخلف.
    الثالث : يذكر المحقّق بكلمة (إلّا) بعد استحالة القسم الثاني ، وهو أن ينشئ الشارع الحكم بعد الاجتهاد ، وهذا إنّما يتمّ على مسلكه القائل بالإنشاء والحكم الإنشائي ، فإنّ منشأ الطلب الإنشائي الذي يبرز بألفاظ الإنشاء ربما يكون الطلب

    الحقيقي والشوق المؤكّد القائم بنفس الإنسان ، وفي الله سبحانه عند نزول الإرادة إلى النفس النبويّة والولويّة ، فيكون الحكم فعليّاً ، وهذا عندنا محال فكيف تتعلّق الإرادة بفعل الغير ، بل الإرادة إنّما تتعلّق بفعل المقدور وهو إرادة فعل نفسه ، وذلك في الانبعاث والطلب الحقيقي ، فالأحكام الشرعيّة في مقام الجعل طلب حقيقي ، فإنّه ليس من الصوري والإنشائي ، وفعليّتها ليس باعتبار النفس النبويّة بل باعتبار تحقّق الموضوع ، فما دام لم يكن الموضوع فالتكليف في مقام الإنشاء ، وعند تحقّقه يكون الحكم فعليّاً.
    والمحقّق الخراساني الآخوند عليه الرحمة يذهب إلى الحكم الإنشائي ، وهو المترتّب على الطلب الإنشائي ، والمجتهد إنّما يبحث عن الطريق إلى الحكم الإنشائي ليجعله في مقام الفعليّة ، فهذا من التصويب الممكن عنه ، وكذا فيما قاله العلّامة الحلّي (قدس‌سره) (وظنّية الطريق لا ينافي علميّة الحكم) إلّا أنّه خلاف الأدلّة والإجماع.
    وشيخنا الأعظم الأنصاري في فرائده يرى وجود أخبار تدلّ على أنّ لنا أحكاماً يشترك فيها العالم والجاهل ، ويذكر رواية لم أجدها في كتب الأصحاب على أنّ المصيب له حسنتان والمخطئ له حسنة واحدة ، فلا بدّ من حكم في نفس الأمر وفي علم الله حتّى يلزم الخطأ.
    وعندنا أنّ لنا أحكاماً مشتركة ولها مرحلتان : مرحلة الجعل يجعلها الشارع بمفاد القضيّة الحقيقيّة. كالمثال الآتي : لو كان الميّت مسلماً فيجب تغسيله ، فلا يكون نظر الشارع إلى الخارج عند جعل الحكم ، والمرحلة الفعليّة وذلك بمفاد القضيّة الخارجيّة ، فبعد وجود الميّت في الخارج وكونه مسلماً فيجب فعلاً تغسيله.

    وجعل الشارع إنّما هو حكم حقيقي بداعي العمل في الخارج ، فالحكم الحقيقي جعل الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة ليصل إلى العباد لعلّهم يعملون به عند فعليّته بعد تحقّق الموضوع ، فيقال : هذا سارق والسارق يجب قطع يده فهذا يجب قطع يده.
    ثمّ لو قلنا في الأمارة بالطريقية ، فإنّ الأحكام الحقيقيّة لم يؤخذ فيها علم المكلّف وجهله. فمن كان الميّت أمامه فإنّ له الحكم الواقعي بوجوب تغسيله (غُسل الميّت) فمن لم يعلم ذلك الحكم ، فإن كان الجهل عن تقصير فلا يعذر في جهله ، وإن كان عن قصور فإنّه يعذر شرعاً ، فالأمارات تقوم على القضايا الحقيقيّة ، فلو كانت مطابقة للواقع فقد أصابت ، وإلّا فقد أخطأت ، وهذا معنى التخطأ في مقام الاستنباط.
    هذا ولا يخفى أنّ مسالك الأعلام في جعل الأمارة مختلفة :
    فمنهم من جعل مدلول الأمارة علم أو بمنزلة العلم وهو جعل الأحكام ، يذهب إلى هذا المسلك الشيخ الأنصاري ومن تبعه ، والآخوند الخراساني يقول وإن كان كذلك إلّا أنّ الأحكام ليست الأحكام الحقيقيّة بل الأمارة طريق إليها ، فالحكم الواقعي واحد سواء وصل المجتهد إليه أو لم يصل وهذا معنى التخطأ.
    ومنهم ، وهو مسلك الآخوند (قدس‌سره) : جعل في مدلول الأمارة المنجزية والمعذرية ، فإنّ الأمارة منجزة ومعذرة عن الواقع فإن أصابت فمنجزة وإلّا فمعذّرة ، فالأحكام الواقعية على ما هي إلّا أنّها غير منجّزة عند عدم إصابة الأمارة ، بل غير فعليّة بناءً على مسلكه في الفعليّة أي إرادة المولى وشوقه المؤكّد للفعل في بعض الموارد.

    وهذا لا يتنافى مع ما يقوله في الأمارة بأنّ الأحكام الواقعيّة فعليّة ، وهنا يقول بأنّ الحكم الواقعي غير منجّز عند عدم إصابة الأمارة بل غير فعلي ، فقوله غير فعلي هنا باعتبار مقولة الشيخ ، وما قاله بالفعليّة هناك باعتبار الفعليّة المغيّاة ، فلا تهافت بين كلامه ، فتدبّر.
    ثمّ ما قاله من معقوليّة التصويب غير معقول ، فبناءً على قوله بماذا يظنّ المجتهد ، فإنّ الحكم الذي يصل إليه من خلال اجتهاده ، كيف يتعلّق به الظنّ والعلم وهما متنافيان؟ فإنّ الظنّ غير العلم؟
    نعم المعقول منه لو كان الحكم جعل في حقّ العالمين دون الجاهل ، بناءً على دفع الدور كما ذكر في حجّية القطع ، فغرض الشارع ينبعث لمن يصل إليه الحكم الواقعي الحقيقي بالعلم ، فالمجتهد يفحص عن حكم العالمين ، وعند الظنّ به ، فإنّه يتولّد في حقّه حكم آخر حقيقي كما يكون حكماً شرعياً في حقّ المقلّدين.
    ثمّ لازم المسالك في الأمارات أنّ في الواقع تكاليف قد جعلها الشارع على المكلّفين مع قطع النظر عن علمهم وجهلهم ، وتتنجّز في حقّهم عند وصولهم إليها ، ومع وجود الموضوع يكون الحكم فعليّاً ، فيراعى التكليف عند التنجّز ، ففي الأحكام الواقعيّة نقول بالتخطأ عند عدم الوصول إليها ، فلم يؤخذ علم المكلّف وجهله في التكليف في الخطابات الشرعيّة.
    ثمّ المحقّق النائيني يقول بالتصويب في الأحكام الظاهريّة لم نتعرّض له طلباً للاختصار ، ولأنّ موضعه علم أُصول الفقه ، كما نتعرّض له في خارج الأُصول إن شاء الله تعالى ، ونقول إجمالاً أنّ الحكم الظاهري كالواقعي قابل للتخطأ والتصويب.

    الاجتهاد واجب كفائي :
    لا يخفى أنّ الإنسان مكلّف بالأحكام الشرعيّة والوظائف الدينية ، وليست معرفتها والعلم بها من الأُمور البديهيّة ، بل لا بدّ من بذل الوسع والطاقة وتحمّل المشاقّ والكلفة في تحصيل الحجّة عليها ، وإذا وصل الفقيه إلى الحكم بعد استفراغ الوسع ، فإنّه ما يستنبطه حجّة عليه وعلى من يرجع إليه ، ولا سبيل إلى الردع عن اتّباعه ، ويدلّ عليه سيرة المتشرّعة ، بل وردت النصوص كما مرّ في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) بالرجوع إلى أصحاب الفتيا وأهل النظر والمعرفة ، كأبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم وأمثالهم رضوان الله عليهم ، ولو لا جواز الاجتهاد في نفسه لما صحّ إرجاع الغير إليهم من قبل الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) ، فالاجتهاد جائز في نفسه لا محالة خلافاً للأخباريين كما هو واضح.
    إلّا أنّه وقع نزاع على كونه واجباً عينياً أو كفائياً؟
    حكى عن بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب أنّه من
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:47

    الواجب العيني على كلّ مكلّف ذلك ، فيجب عليه الاستدلال في مقام الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّه يكتفي بمعرفة الإجماع الحاصل من كلمات العلماء عند الحاجة إلى الواقع أو النصوص الظاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع هو الإباحة ، وفي المضارّ هو الحرمة عند فقد النصّ.
    وقيل يحرم التقليد ويجب على العامي الرجوع إلى عارف ثقة يذكر له مدارك

    المسألة من الكتاب والسنّة ، فإن عرفها فبها ، وإلّا ترجم له إن لم يعرف اللغة العربية ، ويوكّل فهمها إليه ، وإذا كانت الأدلّة متعارضة فيعلّمه كيف يجمع بينها بالجمع العرفي بحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد وهكذا ، أو أنّه يرجع إلى الأخبار العلاجية في المرجّحات الداخلية والخارجية ، كما يعرّفه بحال الرواة.
    إلّا أنّ هذا المعنى واضح الردّ ، فإنّه يلزمه العسر والحرج ، بل يوجب اختلال النظام لصعوبة الاجتهاد ، لا سيّما في عصرنا هذا ، فدونه خرط القتاد ، كما أنّه يلزم القول بعينية الاجتهاد حرمة التقليد وعدم الاحتياط ، وهو خلاف السيرة المتشرّعة والنصوص الواردة ، كما لنا روايات مطلقة دالّة على جواز التقليد ، بل ويلزم القول بالعينية مخالفة آية النفر (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) بل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1).
    فظهور الآية الشريفة يدلّ على كون الاجتهاد وتحصيل الحجّة على الأحكام الشرعيّة واجباً كفائياً ، كما يؤيّده الروايات الواردة في تفسير الآية (2) ،
    __________________
    (1) التوبة : 122.
    (2) الوسائل 18 : باب 8 11 من أبواب صفات القاضي.
    منها : عن الصدوق بسنده في العيون والعلل عن فضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) في حديث إنّما أُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزوجل ، وطلب الزيادة والخروج من كلّ ما اقترف العبد ، إلى أن قال : مع ما فيه من المنفعة ونقل أخبار الأئمة (عليهم‌السلام) ض إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

    كما أنّ العقل يحكم بذلك ، فلولا وجود مجتهد عالم بالأحكام لما تحقّقت الإطاعة اللازمة.
    فالاجتهاد واجب كفائي في الإسلام كردّ السلام ، فإنّه إذا أقامه البعض سقط الوجوب عن الباقين ، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع.
    وذهب المشهور إلى وجوبه النفسي الكفائي كما حكي عن السيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والمحقّق في المعارج ، والعلّامة في بعض كتبه وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد وشرح المبادئ ، والشهيد الأوّل في الذكرى ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة ، وغيرهم رضوان الله عليهم.
    ثمّ الاجتهاد تارة ينظر إليه باعتبار عمل الإنسان لنفسه ، وأُخرى بلحاظ
    __________________
    وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وليشهدوا منافع لهم.
    ومنها : عن الكافي بسنده عن عليّ بن حمزة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : تفقّهوا في الدين فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي إنّ الله يقول في كتابه (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
    ومنها : ما رواه الصدوق في معاني الأخبار والعلل عن عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : اختلاف أُمّتي رحمة ، فقال : صدقوا. فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ فقال : ليس حيث تذهب وذهبوا إنّما أراد قول الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم في البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد.

    رجوع الغير إليه.
    أمّا الأوّل : فإنّ الاجتهاد الذي هو عدل التقليد والاحتياط واجب عقلي ارتكازي كما مرّ في معنى الوجوب لغةً واصطلاحاً وهو تارة تخييري فيما لو تمكّن المكلّف من الاحتياط وفي الجملة ، كما كان في بلده مثلاً من يجوز تقليده والرجوع إليه ، وأُخرى تعييني وذلك فيما لم يتمكّن من الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين أو يوجب العسر والحرج أو اختلال النظام ، أو لا يكون من يجوز تقليده ولم نقل بجواز تقليد الميّت ابتداءً وهكذا حتّى ينحصر طريق الامتثال بالاجتهاد ، فيكون واجباً بحكم العقل من باب لزوم الإطاعة فيجب تعييناً.
    ومن الأعلام من قال بوجوب الاجتهاد شرعاً ، من باب وجوب التعلّم واختلف فيه على أقوال ثلاث :
    الأوّل : نسب إلى المشهور من وجوبه الطريقي ، فلا يلزم العقاب إلّا عند مخالفة الواقع.
    الثاني : نسب إلى المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وجماعة من المتأخّرين من وجوبه النفسي ، وأنّ العقاب يترتّب على نفس ترك التعلّم مطلقاً سواء صادف عمله الواقع أم لم يصادف.
    الثالث : ما يظهر من المحقّق النائيني (قدس‌سره) من استحقاق العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع ، ويظهر الفرق بينه وبين الأوّلين فاستحقاق العقاب يكون على نفس ترك التعلّم عند مخالفة العمل للواقع ، أمّا الأوّل إنّما يلزم عند مخالفة الواقع والثاني على نفس ترك التعلّم إلّا أنّه مطلقاً.

    الاجتهاد الفعلي والاجتهاد الشأني
    هل يرجع المجتهد بالملكة إلى المجتهد الفعلي؟ أو عليه الاجتهاد الفعلي أو الاحتياط؟
    لا يخفى أنّ المجتهد يعمل على ما ثبت عنده مطابقاً للحجّة الشرعيّة ، وقد اختلف المجتهد الانفتاحي القائل بانفتاح باب العلم والمجتهد الانسدادي في وجه الحجّية وهذا لا يضرّ في أصل صدق عنوان الاجتهاد.
    ثمّ تحصيل ملكة الاجتهاد من الأمر الصعب ، والأصعب منه استعمال الملكة ، فربما تحصل للمجتهد الملكة ، إلّا أنّها تضعف وتزول لو لم يمارسها ويتمرّن عليها ، فحينئذٍ يكون لنا مجتهد فعلي يستعمل الملكة ، وآخر له مجرّد الملكة ، فهل يمكن غمض العين عن الاجتهاد الفعلي والرجوع إلى صاحب الملكة؟
    وما جاء في الشريعة المقدّسة هو تعلّم الأحكام التي يبتلى بها ، أو يعلم أنّه يبتلي بها ولو إجمالاً ، ووجوب التعلّم وجوباً شرعيّاً كما تدلّ عليه الأخبار ، إلّا أنّه تارة مقتضاه بنحو التقليد ، وأُخرى بنحو الاجتهاد ، وما قيل في تعريف الاجتهاد أنّه استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة ، فمن أجل إخراج علم العامي فإنّه أيضاً من تحصيل الحجّة ، وهو دليل (هذا ما أفتى به المفتي وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ، فهذا حكم الله في حقّي) ولكن هذا ليس فيه استفراغ الوسع بل جارٍ في كلّ المسائل الشرعيّة.

    وإنّما يتمّ تعريف الاجتهاد الفعلي لو قلنا هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة التفصيليّة على الواقعة ، فيخرج علم العامي فإنّ حجّته إجماليّة.
    فأدلّة وجوب التعلّم تعمّ التقليد والاجتهاد ، ويبقى الاحتياط فيمن لم يقصد الاجتهاد الفعلي ، فإنّه يتمثّل التكليف الواقعي أيضاً ، ولم يضرّ ذلك بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه ، فيصحّ منه الاحتياط ، فيجب على كلّ مكلّف في الحوادث الواقعة الشرعيّة إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    والكلام فيمن له ملكة الاجتهاد إلّا أنّه يترك الاجتهاد الفعلي ويكتفي بالتقليد فهل يجوز له ذلك؟
    نقل عن رسالة شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري أنّه يذهب إلى عدم تماميّة التقليد له ، بل إمّا أن يجتهد فعلاً أو يحتاط ، وقال : المعروف عندنا العدم بل لم ينقل الجواز عن أحد منّا ، وإنّما حكي عن مخالفينا. وقيل : العامي الجاهل إنّما يرجع إلى أهل الخبرة في كلّ أمر ممّا يدلّ عليه سيرة العقلاء ، فيرجع إلى المجتهد الفعلي لما عنده من الحدس على الحكم الواقعي بعد استفراغ الوسع ، وفي السيرة العقلائيّة لا يرجع صاحب الحدس إلى حدس الآخرين.
    وما يدّعى من الإجماع في هذا الباب فلا معنى له ، فإنّه ممّا حدث عند المتأخّرين ، كما ليس عليه المعظم ، فكيف يدّعى الإجماع؟
    وأمّا السيرة العقلائيّة فلا تنفع فيما نحن فيه لضعفها ، نعم لنا السيرة المتشرّعة ، فإنّه من زمن الأئمة (عليهم‌السلام) كان الناس يرجعون في معالم دينهم إلى أصحاب الحدس وإلى الرواة الثقات والفقهاء الأعلام بإذن من الأئمة (عليهم‌السلام) ، كما من بينهم من كان

    مجتهداً ، فسيرة المتشرّعة تدلّ على جواز التقليد ورجوع العامي إلى العارف بالأحكام كما عليه مجموعة من الروايات (1).
    منها :
    الرواية الرابعة : وعن محمّد بن عبد الله الحميري ومحمّد بن يحيى جميعاً ، عن عبد الله ، عن جعفر الحميري ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : سألته وقلت : من أُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون.
    قال : وسألت أبا محمّد (عليه‌السلام) عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان.
    فقوله (عليه‌السلام) : (فعنّي يقول) ليس بمعنى أنّه يروي عنّا ، بل يدلّ على النظر والاجتهاد.
    والرواية السابعة والعشرون وعنه محمّد بن قولويه عن سعد عن محمّد بن
    __________________
    (1) الوسائل ، كتاب القضاء ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة ، فيما رووه عن الأئمة (عليهم‌السلام) ض كما جاء في الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم ، وفي الباب 48 رواية.

    عيسى عن أحمد بن الوليد عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : من زكريا ابن آدم القمّي ، المأمون على الدين والدنيا ، قال عليّ بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم ، فسألته عمّا احتجت إليه.
    فظاهر الخبر يدلّ بوضوح على النظر والاجتهاد الفعلي بقوله (معالم ديني) (عمّا احتجت إليه).
    والحديث 32 وعنه محمّد بن مسعود عن محمّد بن نصير عن محمّد بن عيسى عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا (عليه‌السلام) قال : قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : نعم (1).
    راجع روايات الباب وغيره تجد فيه الكفاية. ويكفيك شاهداً حديث حمّاد الرازي قال : دخلت على عليّ بن محمّد (عليهما‌السلام) بسرّمن رأى فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها ، فلمّا ودّعته قال (عليه‌السلام) : إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني وأقرئه منّي السلام (2).
    __________________
    (1) الوسائل 27 : 138 ، طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم‌السلام) ض.
    (2) الاجتهاد والتقليد : 42 ، عن جامع أحاديث الشيعة 1 : 51.

    ثمّ ما يقال بعدم جواز رجوع من له ملكة الاجتهاد إلى الغير ، بل عليه الاجتهاد الفعلي أو الاحتياط فعمدة أدلّته ، أنّ هذا الشخص له علم إجمالي أنّه سيقع في مسائل يبتلى بها ، فلو أراد أن يفعل بقول الغير ، فإنّه يشكّ في حجّية قوله بالنسبة إليه ، والشكّ فيها مساوغ لإنكارها ، فلا يصحّ الرجوع حينئذٍ.
    وأُجيب أنّ من له الملكة لو سأل عن تقليده للآخرين ، فإنّه سيجيب أنّه لم يكن له علم بتكاليف اخرى غير التكاليف التي عيّنها المجتهد الآخر ، أو أنّه يحتمل أنّ بعض التكاليف مطابقة للواقع ، فينحلّ العلم الإجمالي الكبير إلى الصغير ، فيأخذ بالقدر المتيقّن ويجري البراءة في الزائد المشكوك.
    عودٌ على بدء :
    وبعبارة اخرى : قيل لا يجوز رجوع المجتهد بالملكة إلى غيره ، فإنّ أدلّة مراجعة الجاهل إلى العالم وتعلّم المسائل المبتلى بها لا تعمّ هذا المجتهد ، فإنّما يرجع العامي إلى المجتهد باعتبار حدس العالم وحجّيته باعتبار السيرة العقلائيّة ، فمن كان له الحدس كيف يرجع إلى الآخرين ، فلا يرجع أهل الخبرة إليهم.
    وأُجيب :
    أوّلاً : جواز التقليد لا يبتني على هذه السيرة العقلائيّة ، كما أنّه ليس من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، وإنّ رجوع الجاهل إلى العالم من الأُمور الفطريّة.
    وثانياً : كما قاله الشيخ الأعظم من جواز ذلك للإجماع إلّا أنّه غير تامّ ، فإنّ مثل هذه المسائل المستحدثة لم تعنون في كتب القدماء ، فلا معنى للإجماع عليه.

    وثالثاً : إنّ صاحب الملكة يعلم أنّ في المسائل التي يبتلى بها فيها تكاليف شرعيّة ، وباعتبار هذا العلم الإجمالي إمّا أن يحتاط أو يجتهد فعلاً أو يرجع إلى الغير ، إلّا أنّه قيل لم يثبت حجّية قوله بالنسبة إليه للشكّ في ذلك ، والشكّ في الحجّية مسواغ لعدم الحجّتية ولعدم الاعتبار ، فقول الغير لا دليل على منجّزيته ومعذّريته بالنسبة إلى هذا المجتهد. وأُجيب أنّه ربما يحتمل أنّ في تلك المسائل المبتلى بها لا تكليف غير ما وقف عليه المجتهد الفعلي الآخر ، فيحصل عنده علم إجمالي ، وحينئذٍ ما علم وعرف تكليفه فإنّه يعمل به ، وما لم يبيّن فلا علم بها ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى ما فيه التكليف المعلوم ، وما ليس فيه ، وفي الشقّ الثاني عليه الفحص وعند عدم الدليل ، يرجع إلى أصالة البراءة. وإذا التفت غير الأعلم إلى دليل يدلّ على التكليف فإنّه لا يرجع إلى الأعلم.
    وربما يناقش الوجه الثالث بقولنا : إنّ ما يدلّ على ذلك هو أدلّة وجوب التعلّم فإنّ الجهل لا يكون عذراً كما ورد في الروايات ، ففي أمالي الشيخ قوله (عليه‌السلام) : (أفلا تعلّمت حتّى تعمل).
    فالجهل ابتداء ليس معذّراً في الأحكام والمسائل التي يبتلى بها ، فصاحب الملكة لو لم يكن لنا دليل على جواز رجوعه إلى الغير ، فإنّه يلزمه الاجتهاد باعتبار هذه الأخبار ، لا باعتبار العلم الإجمالي حتّى يقال بانحلاله ، ولكن قد ظهر أنّ العامي يرجع إلى المجتهد للروايات التي مرّت ، ولرجوع الجاهل إلى العالم ، وإنّ قول المجتهد بالنسبة إليه يكون من العلم ، وكذلك قوله لذات الملكة ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، كما يدلّ عليه بعض الروايات كإرجاع بعض من يتمكّن من فهم الحكم

    إلى يونس بن عبد الرحمن ، وإنّ معنى بقوله يؤخذ وأنّه ثقة ، لا بمعنى أخذ روايته وحسب ، بل بمعنى الأخذ بما يجتهد ، ففي رواية ابن المغيرة كما في الوسائل :
    وبالإسناد عن الحجّال عن يونس بن يعقوب قال : كنّا عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال : أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟ (1)
    فإنّ الخبر الشريف يدلّ على الرجوع والاستراحة إلى ابن المغيرة ليس من باب أنّهم يروون عنه ، بل من جهة ما يفهمه ابن المغيرة من الروايات.
    نعم لا يخفى أنّ الاجتهاد آن ذاك كان قليل المئونة لوجود جلّ الأخبار على الأحكام الشرعيّة ، ويدلّ على المطلوب أيضاً رواية (ما يمنعك عن محمّد بن مسلم فإنّه سمع كثيراً) فإنّ من سمع كثيراً سيكون فهمه وعلمه كثيراً أيضاً ، وحينئذٍ يُسأل منه ويرجع إليه ، فلا شبهة في رجوع العالم إلى الأعلم ، ولا يلزم عليه تحصيل العلم والاجتهاد فعلاً وإن كان متمكّناً من ذلك بتملّكه الملكة ، فيجوز لصاحب الملكة أن يجتهد فعلاً أو يحتاط أو يقلّد المجتهد الفعلي.
    نعم ظاهر صاحب العروة المحقّق اليزدي (قدس‌سره) أنّ المكلّف إمّا أن يكون مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً ، أي مجتهداً فعليّاً ، فإنّه لم يذكر العامي.
    ثمّ لنا روايات تمنع عن الأخذ من الناس وهي على قسمين : فتارة تمنع الشيعة من الرجوع إلى العامّة ، وأُخرى تمنعهم عن أخذ ما عندهم من القياس وما شابه.
    __________________
    (1) الوسائل 27 : 145 ، باب 11 ، الحديث 24.

    ففي الكافي :
    جعلت فداك فقّهنا في الدين أي لم نكن من المحدّثين والرواة فقط بل من أهل الفقه والفهم في الدين وأعفانا الله عن الناس حتّى أنّ الجماعة منّا في مجلس يسأل فنجيب .. فربما ورد علينا الشيء لم يأتنا عنك وعن آبائك شيء ، فننظر إلى ما يشابه ذلك منكم ، فنأخذ منه ، فقال (عليه‌السلام) : هيهات هيهات ، ثمّ قال : لعن الله أبا حنيفة كان يقول : قال علي ، وقلت (1).
    فهذه الرواية وأمثالها إنّما هي في ردّ القياس وبطلانه ، وإلّا فإنّ الاستظهار من أقوال الأئمة (عليهم‌السلام) واستنباط الحكم منها ، فلا مانع فيه.
    فما قاله صاحب العروة أنّ المكلّف إمّا أن يكون مجتهداً فإنّه ناظر إلى الاجتهاد الفعلي لأنّه عدل الاحتياط والتقليد ، وهذه الأعدال الثلاثة الاجتهاد والاحتياط والتقليد إنّما هو بحسب نظر المجتهد ، فإنّه يرى من أدلّة وجوب التعلّم للمسائل الشرعيّة التي يبتلى بها المكلّف يستفاد الاجتهاد والتقليد ، ولا مانع من الاحتياط. ولمثل هذا يقال : لا يجوز للعامي أن يقلّد في جواز التقليد ، فإنّه يلزمه الدور والمصادرة بالمطلوب ، إلّا أنّه يجاب أنّه يكفي في تقليده ما يكفي في أُصول دينه ، فيكفي أن يقال إنّه من الصِّغر علمنا من آبائنا أنّه من لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ، فعليه أن يقلّد ، وبهذا المقدار من العلم يخرج من الدور ، فيكفي في جواز التقليد حينئذٍ.
    __________________
    (1) الكافي 1 : 56 ، الحديث 6.

    الاجتهاد المطلق والمتجزّئ
    من الأعلام كصاحب الكفاية المحقّق الخراساني (قدس‌سره) قسّم الاجتهاد إلى قسمين : المطلق والمتجزّي.
    وحدّ الأوّل : يطلق على من كان له ملكة الاجتهاد في كلّ واقعة يتعرّض لها ، فيمكنه أن يشخّص الوظيفة الشرعيّة في الواقعة من خلال الأدلّة التفصيليّة والمدارك والمسانيد ، سواء كانت الوظيفة عبارة عن الحكم الواقعي أو الحكم الظاهري. فلا مانع في أنّ يعيّن المجتهد الحكم الظاهري ، بل ربما لا يعيّن الحكم الشرعي ، بل يعيّن الحكم العقلي ، لما يملك من القدرة على استنباط الحكم الواقعي ، فالقصور لا يكون من جهة الملكة ، بل من جهة عدم الدليل على الحكم الواقعي ، فيقول بالحكم الظاهري لفقد الدليل أو إجماله أو تعارضه ، فاجتهاده يكون مطلقاً.
    وتعريف الثاني : بأنّه توجد لديه المدارك والأدلّة إلّا أنّه لا يمكنه أن يستنبط الحكم منها ، أو لم يذهب وراءها.
    ولا إشكال بأن يعمل باجتهاده لو كان فعليّاً ، إذ المفروض أنّه حصل على الحجّة وعرف الحكم الواقعي ، فتكون الحجّة منجّزة ومعذّرة في حقّه.
    شبهة وجوابها :
    ترد هنا شبهة وهي أنّ هذا المجتهد لو كان انسدادياً وكان مقلّداً ، فإنّه يبقى

    على تقليده ولا يصحّ منه الاجتهاد.
    بيان ذلك : المجتهد الانسدادي الذي يقول بانسداد باب العلم والعلمي في الغيبة الكبرى وينكر الظنّ المعتبر شرعاً ، ويبقى عنده الظنّ المطلق حجّة وهو إمّا على الحكومة أو الكشف.
    والأوّل : يعني أنّه لا اعتبار للظنّ ، فلو كان في الموافقة القطعيّة محذورٌ فإنّه يراعى التكليف المحتمل في المظنونات بظنّ مطلق بحكم العقل ، وأمّا الموهومات فيرجع فيها إلى الأُصول النافية ، فعند الانسداد يحكم العقل أنّه لا يصحّ من الشارع أن يطالب بأكثر من الموافقة الظنّية في معظم الأحكام لئلّا يلزم العسر والحرج ، فيلزم التبعيض في الاحتياط ، هذا بناءً على الحكومة عند تماميّة مقدّمات الانسداد كما في علم الأُصول.
    والثاني : أنّه عند عدم تماميّة المقدّمات يكشف أنّ الشارع اعتبر مطلق الظنون إلّا ما خرج بالدليل كالظنّ القياسي ، فبناء على الكشف اعتبر الشارع الظنّ المطلق النوعي والشخصي.
    فلو كان المجتهد انسدادياً فإنّه يلزمه البقاء على التقليد ، كما لا يرجع إليه العامي لوجهين مذكورين في كفاية الآخوند :
    الأوّل : بناء على الحكومة كما أنّ العامي جاهل بالحكم الواقعي في معظم الوقائع كذلك المجتهد الانسدادي ، فإنّه لا يدري الحكم الواقعي فأدلّة جواز التقليد لا تعمّ هذا المورد ومثل هذا المجتهد الذي لا يدري الحكم الواقعي.
    الثاني : إنّما يقول العقل بالظنّ بعد تماميّة مقدّمات الانسداد ، كما كان ذلك

    للمجتهد والحال لا تتمّ المقدّمات عند العامي ، فكيف يرجع إلى من تمّت عنده؟
    هذا بالنسبة إلى من يقول بالانسداد بناء على الحكومة ، وكذلك لا يرجع العامي إلى المجتهد الانسدادي القائل بالكشف ، فإنّ المجتهد الانسدادي الكشفي عند اعتبار الشارع الأمارة فيما لم يعلم بالواقع إنّما تعتبره في حقّ من تمّ عنده مقدّمات الانسداد وهي غير تامّة في حقّ العامي ، فإنّ من مقدّماته أن لا يكون لحكم الواقعة طريق خاصّ ، والعامي له طريق خاصّ وهو فتوى المجتهد.
    هذا ويرد على المحقّق الخراساني النقض بالانفتاحي ، فإذا كان الانسدادي غير عالم بالحكم الواقعي فكذلك الانفتاحي ، وأدلّة التقليد تدلّ على رجوع الجاهل إلى العالم ، والحال يلزم ما نحن فيه رجوع الجاهل إلى الجاهل في الانفتاحي ، فإنّه على مبناه لا يوجب خبر الثقة العلم بالواقع وإن اعتبره الشارع بمعنى جعل الحجّية فيه أي المنجّزية والمعذّرية ، فالانفتاحي أيضاً في معظم الوقائع لا يدري الحكم الواقعي ، وهذا الإشكال إنّما يرد بناءً على مبنى الآخوند المحقّق الخراساني (قدس‌سره) في جعل الأمارة ، لا على مبنى الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) القائل في جعل الأمارة بمعنى جعل مدلولها بأن يكون حكماً واقعياً وأنّها بمنزلة العلم.
    ثمّ أجاب الآخوند عن الإشكال بأنّ المجتهد الانفتاحي إنّما يرجع إليه العامي في تقليده في أمرين :
    الأوّل : كبرى ، وهو خبر الثقة منجّز ومعذّر ، وهذا يعمّ الجميع ، فإنّه طريق خاصّ إليهم واعتباره عامّ ، وليس مثل الانسداد على الكشف بأنّ الظنّ معتبر لمن تمّ في حقّه المقدّمات.

    الثاني : صغرىً ، وهو أنّ حرمة هذا الخمر قام عليه الخبر ، فالمجتهد الانفتاحي يعلم بذلك ، والعامي جاهل به ، فيرجع إليه. فيرجع إليه في الكبرى والصغرى ، وإن كان عبارة الكفاية توهم الرجوع إليه في الصغرى ، وبهذا يخرج الانسدادي فلا فائدة في الرجوع إليه.
    ولكن يرد عليه أنّ الانفتاحي ربما يتمسّك بالعقليات فيما لم يكن له أمارة أو أصل شرعي كالحكم بوجوب الاحتياط لدفع الضرر المحتمل ، فكيف يرجع الجاهل إليه؟ وليس من الرجوع إلى الأمارة ولا الأصل؟
    إلّا أنّه يجاب : أنّ العامي لو حكم عقله بما حكم به عقل المجتهد ، فإنّه يعمل بما استقربه عقله ، ولو خالف عقل المجتهد ، فكذلك يعمل بعقله ولا ضير في ذلك.
    ونقول في جواب المحقّق الخراساني القائل بعدم رجوع العامي إلى المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة أو الكشف ، أنّ الشارع قد اعتبر الأمارة علماً مطلقاً سواء بنصّ خاصّ أو بناء على مقدّمات الانسداد ، والعلم يكون للمجتهد نفسه علماً وجدانياً ، فإنّه قاطع بذلك إجمالاً ، وقطعه على نفسه حجّة ، فحجّية العلم الوجداني للمجتهد نفسه كما في الانفتاحي ، وإنّما يرجع إليه العامي لأدلّة جواز التقليد على أنّ علم المجتهد يكون علماً لمقلّده أيضاً ، وحينئذٍ لا فرق بين الانسدادي والانفتاحي في رجوع العامي إليهما ، فإنّ علم المجتهد من مقدّمات الانسدادي كما في الانسدادي يكون علماً للعامي ، فكيف لا يرجع إليه؟
    وقيل : إنّ الإشكال الذي أورده المحقّق الخراساني لا يصحّ على إطلاقه ، فإنّ المجتهد الانفتاحي الذي يرجع إلى الدليل العقلي أو الشرعي في نفي التكليف ،

    ربما يكون أعلم من المجتهد الآخر الانفتاحي القائل بالطريق إلى التكليف ، وثبوته في الواقعة ، فإنّ فتوى المجتهد الثاني لا ينفع حينئذٍ ، إذ كلّ طريق شرعي ابتلي بمعارض من جنسه أو من رتبته كمعارضة الخبر الثقة مع الإجماع المنقول بناءً على حجّيته ، فإنّه حسب السيرة العقلائية يؤخذ بمن يكون قوله أكثر وأقوى خِبرةً ، كما في تقويم الشيء ، ولمّا كان الاجتهاد من الرجوع إلى أهل الخبرة لكون المجتهد من أهل الحدس ، فلو كان أحد المجتهدين أقوى خبرة ، فإنّه يقدّم قوله ، وبهذا الاعتبار يقال في تشخيص الأعلم يرجع إلى أهل الخبرة ، وعند الاختلاف يقدّم من كان أقوى خبرة ، حتّى مع قلّتهم ، وهذه السيرة من السير الممضاة ولم يردعها الشارع المقدّس. وإذا كان علمهما في رتبة واحدة ، فإمّا أن يعلم باختلاف فتاويهما أو لا يعلم ، فإن كان الثاني ، فإنّه يجوز الرجوع إلى أحدهما ، فإنّ أدلّة التقليد تجوّز له الرجوع إليه ، كما تشمله إطلاق الروايات ، وإذا كان الأوّل ، فقيل يلزم التعارض بين قوليهما فيتساقطان ، فيأخذ بالاحتياط بين القولين.
    هذا ولكن لا يتمّ هذا الجواب فإنّ فيه اعتراف بأنّ التقليد على الانسدادي لا يضرّ ، إذا كان المجتهد الانسدادي أعلم وأكثر خبرة بالنسبة إلى المعاصرين حتّى ولو كان انفتاحياً ، فإنّه يجوز له الرجوع إلى الأعلم الانسدادي ، فكيف بالعامي لا يرجع إليه ، بل كيف يرجع العامي إلى الانفتاحي؟ والانسدادي الأعلم يرى عدم صحّة طريقه ، وإن كان ما وصل إليه حجّة ، حجّة لنفسه.
    وإذا قيل في الانسدادي إنّما قوله بناء على الكشف حجّة على العامي لو تمّت المقدّمات له ، والحال لم تكن تامّة للعامي ، فجوابه إذا كانت تامّة

    للمجتهد فهي تامّة للعامي أيضاً ، إلّا أنّه للمجتهد على التفصيل وللعامي على نحو الإجمال.
    والإفتاء لو كان عن علم فإنّه لا يلحقه وزر ، ولا وزر من عمل بالفتوى ، ومن أفتى بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ، كما ورد في الأخبار. فيجوز للعامي تقليد الانسدادي الأعلم حينئذٍ ، فتأمّل.
    ثمّ يقال لمن استنبط حكماً أن يعمل به وجاز له الإفتاء به للناس أيضاً لا سيّما إذا حصل على الملكة المطلقة ، وعليه أن يقلّد فيما لم يستنبط ، ولا يلزم التركيب بين الاجتهاد والتقليد بل من التفصيل في الأبواب الفقهيّة ، ثمّ لو أفتى المجتهد المتجزّئ بما علم ، فهل يجوز للعامي تقليده فيه أو يجب عليه تقليد المجتهد المطلق؟ يظهر من الأدلّة جواز ذلك لا سيّما إذا كان أعلم من غيره في تلك المسألة التي استنبطها ، وإذا ساوى الآخرين فالظاهر كما عليه المشهور تقليد المجتهد المطلق كما هو الأحوط الواجب ، فتدبّر.
    هل يجوز للمجتهد القضاء؟
    المجتهد إنّما يرجع إليه العامي في تقليده ، كما عليه الأدلّة والفطرة ، فيا ترى هل للمجتهد منصب القضاء شرعاً؟ أي إنّه منصوب من قبل الشارع لهذا المقام ، فحكمه حكم الشارع؟
    جاء في الوسائل : عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن

    الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر ابن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقّا ثابتاً له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وما أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله ، الحديث (1).
    ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسن بن شمّون ، عن محمّد بن عيسى (2) ، وبإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب ، عن محمّد بن عيسى ، نحوه (3).
    يظهر من هذا الخبر الشريف المعروف بمقبولة عمر بن حنظلة ، وعند البعض باعتبار سنده الآخر من المصحّحة ، أنّ من اجتمعت فيه هذه الأوصاف الثلاث وهو
    __________________
    (1) الوسائل 27 : 136 ، الباب 11 ، الحديث 1.
    (2) التهذيب 6 : 218 ،
    (3) التهذيب 6 : 301.

    المجتهد المطلق الفعلي كما هو الظاهر ، وهي : رواية الحديث والنظر في الحلال والحرام والمعرفة بالأقضية وبموازين القضاء عندهم عليهم صلوات الله أبد الآبدين. ولا فرق فيمن صدق عليه الأوصاف بين أن يكون مجتهداً انفتاحياً أو انسدادياً ، فإنّ الانسدادي عارف بالأحكام أيضاً ، إذ ليس للأئمة (عليهم‌السلام) أحكام غير الأحكام التي عرفها المجتهد الانسدادي ، وإن اختلف في وجه الحجّية لثبوت هذه الأحكام ، فإنّ حصول المعرفة بها عنده غير ما عند الانفتاحي ، إلّا أنّ اختلاف أسباب حصول العلم لا يوجب سلب صفة العلم كما هو واضح.
    ثمّ القضاء والحكم على صورتين :
    الاولى : عبارة عن فصل الخصومة بين المتنازعين ، وهو يتصوّر في فرضين : فتارةً رفع الخصومة لا في كبرى الموضوع ، بل يكون النزاع في صغرياته كادّعاء أحدهما وجود دَين والآخر ينكره ، فالحاكم يحكم بالبيّنة والايمان ، وأُخرى في الكبرى كاختلافهما في الفتوى. كادّعاء المرأة إرثها من الأرض بناءً على فتوى مقلّدها ، والأولاد ينكرون ذلك بناءً على فتوى مجتهد آخر يمنعها من إرث الأرض.
    فمقتضى الأدلّة في جواز القضاء للفقيه الجامع للشرائط عند الرجوع إليه أن يحكم بفتواه ، فإنّه من المجتهدين وإن كان بنظر الخصمين ليس أعلم ، فإنّ فتوى مقلّدي الخصمين ساقطان عن الاعتبار ، لنفوذ حكم القاضي ، للأدلّة الدالّة على ذلك ، فإنّ قضاءه لا يردّ بعد ما كان بحسب الموازين الشرعيّة ، فالقضاء تارةً لرفع الخصومة كما مرّ.

    والثاني : فيما لو حكم المجتهد ابتداءً من دون وجود الخصومة والمنازعة كحكمه بيوم العيد وإن لم يرجع إليه أحد ، وذلك فيما كان الفعل في نفسه مباحاً ، فيحكم من أجل مصلحة عامّة الناس ، أو لمصلحة شخص مثلاً فهو من الحكم الابتدائي ، وليس من مصاديق الفتوى ، بل باعتبار منصبه ، وهي الحكومة فيحكم ، وهذا القسم من الحكم المسمّى بالحكم الابتدائي ، وقيل إنّه ليس من القضاء ، قد وقع الاختلاف في نفوذه ، حتّى فيما لو كان أعلم ، فمن قال بنفوذه فدليلهم مقبولة عمر بن حنظلة في قوله (عليه‌السلام) : (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله) فإنّ معنى حكم بحكمنا ، أي يحكم بحسب الموازين الشرعيّة. ومن لا يقول بنفوذ حكم الحاكم ، إمّا باعتبار مناقشة سند المقبولة ، أو عدم دلالتها على ذلك ، فإنّ صدر الحديث في المتخاصمين ، فإذا حكم بحكمنا إشارة إلى القاضي بينهما ، وكذا قول الإمام (عليه‌السلام) : (ينظران أي المتنازعين من كان منكم ممّن قد روى حديثنا). بل قد ناقش بعض بأنّ المقبولة لا تدلّ على أنّ الفقيه له منصب القضاء ، وإنّما تدلّ عند المراجعة إليه ، فإنّه يتمكّن من ذلك لرفع الخصومة والنزاع.
    كما إنّ جعل منصب القضاء لمن كان بيده السلطان ، وهذه قرينة عامّة ، فإنّ الأئمة (عليهم‌السلام) لم يكن بيدهم الحكم والسلطنة الظاهرية ، كما إنّ الرواة لم يكن لهم ذلك ، فليس في المقبولة ما يدلّ على المنصب الخاصّ.
    وأمّا ما يقال بأنّ الانسدادي لا يدخل في عبارة (من عرف أحكامنا) فقضاءه غير نافذ ، فأُجيب بأنّه من باب عدم القول بالفصل ، كما أنّ الانسدادي

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:48

    الكشفي يدخل في المفهوم وكذلك على نحو الحكومة ، فهو كالانفتاحي يعرف الأحكام ، إلّا أنّ المقصود ليس عدم معرفة الأحكام كلّها أو هناك أحكام ضروريّة يعرفها الانسدادي على نحو الحكومة.
    ونقول : إنّ العنوان الوارد في الروايات (رجل عرف حديثنا وعرف أحكامنا) بناءً على أنّ الأمارة علم أو بمنزلة العلم كما يدلّ عليه سيرة العقلاء ، فإنّه يصدق في مورد الأمارات ، فإنّ المجتهد يعرف ذلك حتّى عند المتخاصمين المختلفين في مقلّديهما ، فإنّ حكم الحاكم نافذ في حقّهما ، فإنّه من مصاديق (من عرف أحكامنا) نعم على مسلك الآخوند في الأمارة بناءً على المنجّزية والمعذّرية ، فإنّ المجتهد الانفتاحي يصدق عليه أنّه (من عرف) ولكن لو كان النزاع بين الخصمين في الحكم الكلّي ، فقضاءه ليس من العلم ، فإنّ الشارع لم ينزل الأمارة منزلة العلم ، فلا يدخل تحت عنوان (من عرف أحكامنا) في معظم الفقه ، أو لا أقلّ هذه الواقعة لم يعلمها فلم يدخل تحت العنوان ، وإذا كان المقصود مجرّد أن يعرف المنجّزية والمعذّرية فإنّ المجتهد الانسدادي على الحكومة أيضاً يكون عارفاً بهذا المقدار ، فكيف يقال بعدم نفوذ حكمه.
    ثمّ صاحب العروة السيّد اليزدي (قدس‌سره) ، يرى أنّه من ليس من أهل القضاء أو الإفتاء فإنّه يحرم عليه القضاء والإفتاء ، كما يأتينا تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
    ويبدو لنا أنّ هذا على إطلاقه لا يتمّ ، فإنّما يحرم ذلك لو كان يلزمه الحرام كالإغراء بالجهل فإنّه يحرم عليه الإفتاء ، وأمّا القضاء فمن لم يكن بيده موازين

    القضاء ، ولا يمكنه أن يشخّص بين المدّعى والمنكر مثلاً ، فمقتضى الأدلّة حرمة القضاء عليه كما في صحيحة سليمان بن خالد (1) : وعن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى عن أبي عبد الله المؤمن عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ. ورواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.
    ويخرج من الصحيحة المجتهد الجامع للشرائط لمقبولة عمر بن حنظلة ، فإنّه ممّن عرف الأحكام وروى الأحاديث ونظر في الحلال والحرام. نعم ورد في الخبر الشريف في أقسام القضاة منهم (رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار) (2) ، ولكن هذا في القضاء الذي له آثار ، وكان القضاء من قبل نفسه ومن دون علم ، أمّا لو كان الحكم مذكوراً في الرسالة العمليّة لمجتهد مثلاً والقاضي يحكم بذلك ، فإنّه ليس من القضاء ، بل من قبيل نقل الفتوى وما في الرسالة ، وهو جائز ، حتّى لو كان يقضي بين الخصمين على طبقه ونحوه ما دام مأذون من قبل الإمام (عليه‌السلام) أو الفقيه الجامع للشرائط ، فهذا من مصاديق الحكم تطبيقاً لما في الفتوى. نعم لو قال : حكمت بكذا ، أو قضيت بكذا ، فهذا من الحكومة التي لا يجوز إلّا للإمام المعصوم (عليه‌السلام) أو الفقيه الجامع ، وأمّا غيرهما فيحرم عليه ذلك.
    __________________
    (1) الوسائل 27 : 17 ، باب 3 صفات القاضي ، الحديث 3.
    (2) الوسائل 27 : 22 ، باب 4 صفات القاضي ، الحديث 6.

    حكم قضاء المجتهد المتجزّي وإفتاؤه
    من الواضح أنّ الناس يختلفون في استعداداتهم وقابليّاتهم وطاقاتهم ، كما أنّ المسائل تختلف بحسب المقدّمات ، فإنّ منها ما هي عقليّة لا تحتاج إلى النقل ، وبهذا الاعتبار ولوجوه اخرى يمكن التجزّي في الاجتهاد ، فإنّه ربما يجتهد الإنسان في بعض المسائل لمعرفته بمقدّماتها العقليّة ، ومباني الفقه تختلف في المسائل والفروعات ، فيمكن أن يكون المجتهد مقتدراً في بعض المسائل دون البعض الآخر ، فتختلف القدرة في مراتبها ومصاديقها ، فيمكن التجزّي حينئذٍ والمقصود من الإمكان هو الإمكان الوقوعي ، وقيل : إنّ الاجتهاد المطلق لا محالة مسبوق بالاجتهاد المتجزّي ، فإنّ المجتهد شيئاً فشيئاً يصل إلى المراتب العليا ، ولا نقول بلزوم المطلق للتجزّي أوّلاً ، بل من الغالب سبق التجزّي للمطلق ، ولا يلزم في غيره الطفرة حينئذٍ ، فإنّ التقدّم تقدّم عادي لا عقلي. فيمكن التجزّي في الاجتهاد ، فإنّ من حضر علم الأُصول وأتقنها عند أُستاذ الفنّ فإنّه يسهل عليه الاجتهاد في المسائل الجزئيّة سهلة المئونة ، كأن تكون لها رواية واحدة مثلاً.
    ثمّ العامي من باب رجوع الجاهل إلى العالم يجوز له الرجوع في المسائل التي اجتهد فيها المجتهد المتجزّي فيما لم يعلم الاختلاف إجمالاً وتفصيلاً مع الأعلم ، وهذا من مدلول الروايات الشريفة ، فإرجاع الأئمة (عليهم‌السلام) إلى بعض الأصحاب بما لهم كتاب في الفقه ككتاب الصلاة أو كتاب الحجّ من هذا الباب.

    ولو احتمل العامي مخالفة آخر لمجتهده المتجزّي ، فإنّه يجوز له الرجوع أيضاً لإطلاق الروايات ولفتوى الأصحاب ، بأنّ العامي لو احتمل وجود الأعلم ومخالفته لمجتهده فإنّه يلزم عليه الفحص ، فإنّ الروايات الدالّة على الإرجاع تشمله ، نعم لو علم بالاختلاف فيلزمه التساقط بعد التعارض ، وتبقى السيرة العقلائيّة هي الحاكمة ، فإنّه فيما وقع الاختلاف بين أهل الخبرة ، فإنّه يرجع إلى أعلمهم حتّى ولو كان واحداً وأمامه مجموعة من الفقهاء ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة ، ومع تساوي المجتهدين أو تساوي الفقهاء في عصره ، فإنّه يأخذ بأحوط القولين أو الأقوال ، فإنّ أدلّة التقليد لا تعمّه ولا تشمله ، كما لا مجال للسيرة العقلائيّة ، فتأمّل فإنّ هذا المعنى قابل للنقاش.
    وأمّا قضاءه فقيل بعدم نفوذه ، فإنّه لا يدخل في العناوين الواردة في الروايات فإنّ الظاهر منها فيما لو كان مطلقاً بالفعل ، وإلّا فمن كان مطلقاً ولمّا يستعمل ملكة الاجتهاد ، أو استنبط القليل ، أو كان متجزّياً ، فإنّه لا يثبت قضاؤه.
    ما هو حكم تبدّل رأي المجتهد؟
    من تفريعات موضوع تخطئة المجتهد فيما لو رجع عن فتواه وتبدّل رأيه بسبب من الأسباب كما لو كان معتمداً على أمارة فظهر له عدم حجّيتها ، أو عمل بمطلق أو بعموم فوجد له مقيّداً أو مخصّصاً له أو اعتمد على أصل فرأى الخلاف فيه ، أو أفتى

    بخبر فعثر على معارض ونحو ذلك فحينئذٍ ماذا يكون موقف المجتهد من نفسه وموقف مقلّديه؟
    وهذا النزاع يجري بناءً على القول بتخطئة المجتهد ، وإلّا فعلى القول بالتصويب لا ثمرة للنزاع فيها كما هو واضح ، وعند تبدّل رأيه لا يصحّ منه العمل بالرأي السابق لانكشاف خطئه ، وللسيرة العقلائيّة ووجود الحجّة على فساد قوله الأوّل ، فعليه أن يعمل بالرأي الجديد أو العمل بالاحتياط.
    ثمّ البحث في هذه المسألة يعمّ جميع العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات وغيرها ، فلا يختصّ بالواجبات كما في بحث الإجزاء ، إلّا أنّه لا يعمّ الموضوعات كما كان في الأجزاء ، فبينهما عموم من وجه.
    هذا والعمدة في هذا البحث هو حكم الأعمال السابقة التي وقعت مطابقة للاجتهاد السابق ، ولا يخلو الأمر من حالين : إمّا أن لا يكون لها أثر إلى زمان كشف الخلاف فلا معنى للبحث حينئذٍ ، وإمّا ان يكون لفساد عمله أثر في زمان انكشاف الخلاف ، ويتصوّر هذا في موارد :
    الأوّل : لو كان يقول في اجتهاده السابق بعدم اعتبار شيء في الصلاة وصلّاها كذلك ، ثمّ تبدّل رأيه وقال بالاعتبار ، ولا زال وقت الصلاة باقٍ فهل تجب عليه وعلى مقلّديه الإعادة؟
    الثاني : كالأوّل إلّا أنّه فاته وقت الصلاة فهل يجب عليه القضاء؟
    الثالث : لو كان يقول بطهارة مائع قد أصابه جسده أو ثوبه ، ثمّ قال بنجاسته ، فهل يجب تطهير محلّ الإصابة؟

    الرابع : لو كان يقول بعدم اعتبار شرط في عقد من العقود ثمّ أجراه فاقداً لذلك ، ثمّ قال باعتباره ، فهل يجب تجديد العقد السابق؟
    ثمّ البحث في هذه الموارد تارةً يكون كبرويّاً وأُخرى صغروياً ، فتارة يقال : هل تبدّل رأي المجتهد يوجب نقض آثار الحكم المتبدّل؟ وأُخرى يبحث عن أثر وقوع التبدّل في كلّ واحد من الموارد.
    أمّا الكبرى فالعقل يحكم بالانتقاض في الحكم المتوهّم ، كما ادّعى الإجماع على عدم لزوم الإعادة أو القضاء ، وإنّ الحكم بفساد المأتيّ به مستلزم للعسر والحرج المنفيين شرعاً ، وهذا لو تمّ فإنّه يعمّ الموارد كلّها.
    إلّا أنّه يشكل على الإجماع بأنّ المسألة لم تكن في كتب القدماء ، وربما يكون من الإجماع المدركي كما لو كان مدركه لزوم العسر ، فلا تعبّد فيه ، كما أنّ المتيقّن من الإجماع باعتبار أنّه من الدليل اللبّي هو فيما لو كان الخلل من ناحية غير الأركان.
    وأمّا العسر والحرج فالإشكال فيهما أنّه وإن كانا منفيّين في الشرع المقدّس ، لكنّهما يقدّران بقدرهما ، فلو كان يلزم من أحدهما ترتيب آثار الفساد فإنّه يلزم نفيهما ، وإلّا فلا.
    ويمكن أن يقال بترتّب آثار الصحّة على جميع ما وقع فاسداً بحسب الاجتهاد الثاني لما ورد في حديث الرفع النبويّ في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (رفع عن أُمّتي تسعة ، وعدّ منها : ما لا يعلمون).
    وما جاء في الكافي بسنده عن عبد الأعلى بن أعين : (سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) : من لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال (عليه‌السلام) : لا).

    وكيفيّة الاستدلال بهما أنّ الذي لا يعلمه ولا يعرفه فإنّه مرفوع عنه ، والمقصود من الرفع في حديث الرفع كما هو ثابت في محلّه من علم أُصول الفقه إمّا أن يكون المرفوع هو معظم الآثار أو المؤاخذة أو الرفع الواقعي بمعنى ما كان شرطاً فعند عدم العلم به لا يكون شرطاً.
    فإن قيل رفع المجهول إنّما يصدق فيما لم يكن العلم ومعه يرتفع الرفع ، فإنّه يقال : عدم العلم لم يجعل في النصوص قيداً للرفع ، بل جعل ما لا يعلم وصفاً عنوانياً للمجهول ، فهو مرفوع بلا قيد إلّا في الأعمال المتجدّدة فإنّها غير مرفوعة لخروجها عن عنوان ما لا يعلمون ودخول في (ما يعلم) فتأمّل.
    وأمّا البحث باعتبار الصغريات والعناصر الخاصّة والحكم الجزئي فإنّه يقال : لا تعاد الصلاة في وقتها لحديث (لا تعاد الصلاة إلّا من خمس) فهذا المورد ليس من الخمسة ، فلا تعاد حاكمة بعدم لزوم الإعادة إن كانت الصلاة فاقدة لغير الجزء الركن والشرط الركني ، فيقيّد به إطلاق حديث الرفع.
    ثمّ الظاهر من كلمة (لا تعاد) ليس الإعادة المصطلحة بل بمعنى استيناف العمل وهذا أعمّ من الأداء والقضاء.
    وإن قيل : (لا تعاد) يختصّ باستيناف العمل في الوقت ، فيجاب أنّ وجوب القضاء مترتّب على الفوت وهو غير ثابت.
    وقيل : القضاء مترتّب على الفوت المساوق لذهاب شيء من المكلّف مع ترتّب حصوله منه لكونه فرضاً فعليّاً أو ذا ملاك لزومي ، فهو عنوان ثبوتي ، فلا ينتزع من عدم الفعل في الوقت لأنّ المفاهيم الثبوتيّة يستحيل انتزاعها من العدم

    والعدمي ، فاستصحاب عدمه في الوقت المضروب يلازم الفوت لا أنّه عينه ، فيكون الأصل مثبتاً بالنسبة إليه.
    وأُجيب أنّ الفوت ليس بعنوان ثبوتي محض ، بل هو عنوان مركّب من النفي والثبوت ، مع صحّة انتزاع بعض العناوين الثبوتيّة عرفاً من العدم فإنّ الجاهل منتزع من لا عالم.
    وأمّا المورد الثالث : فربما يقال بجريان قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية فيها ، فلا شيء عليه. وقيل بعدم دليل خاصّ يثبت لانتقاض الحكم بالطهارة أو لبقائه.
    وأمّا المورد الرابع : فقد قيل إنّ الأحكام الوضعيّة من حيث أنّها أُمور اعتبارية فحقيقتها نفس اعتبارها فلا كشف خلاف فيها. وأُجيب هذا إنّما يتمّ كبروياً ، والكلام في الصغرى فهل الشارع حكم بترتّب الأثر على العقد الفاقد للشرط عند الجهل باعتبار الشرط أم لا؟ (1)
    وخلاصة الكلام : عند تبدّل رأي المجتهد هل يقال بالإجزاء بالنسبة إلى الأعمال الواقعة على الرأي الأوّل؟
    يقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : هل الإجزاء أو عدمه على القاعدة؟
    الثاني : بعد ثبوت عدم الإجزاء على القاعدة هل الاجتهاد يكشف وجداناً أنّ الأعمال السابقة مخالفة للواقع ، والدليل في الاجتهاد الثاني إنّما هو بالنسبة إلى
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 64.

    الأعمال اللاحقة دون السابقة؟
    فلو كان الاجتهاد الأوّل الزائل بالثاني معتبراً أيضاً بالنسبة إلى الأعمال الاولى ، ولا منافاة أن يتعبّد الشارع بهذا المعنى ، فإنّه يرد على مثل هذا الاعتبار في الاجتهاد الأوّل أمران :
    الأوّل : لا يزيد هذا الاعتبار على العلم الوجداني ، فلو تيقّن بقضيّة ، ثمّ زال اليقين وشكّ أنّ اليقين الأوّل هل كان تامّاً؟ أو تيقّن أنّه كان فاسداً ، فإنّه يلزم عدم اعتبار اليقين الأوّل حينئذٍ ، وكذلك فيما نحن فيه بطريق أولى ، فلا يتوهّم الإجزاء ، فإنّ ما كان في السابق لا يكون أكثر رتبة من العلم الوجداني ، وما يكون في اللاحق ينزل منزلة العلم من أوّل الأمر ، فحينئذٍ كيف يقال بالإجزاء؟ ولا يقال به إلّا على التصويب الباطل في مذهبنا.
    ولا يخفى ما ذكرناه إنّما يتمّ لو كان المراد من الانكشاف باعتبار الانكشاف الواقعي الوجداني ، أمّا لو كان الانكشاف انكشافاً اعتبارياً ظاهرياً ، كما في ظهور كلمات النكاح أنّه إيجاب وقبول بتعيّن الشارع ، فالاجتهاد الثاني لم يكن من الانكشاف الواقعي عمّا في اللوح المحفوظ ، فيمكن حينئذٍ للشارع اعتبار اليقين السابق حتّى بعد الزوال مع القول ببطلان التصويب ، وكذلك في العلم الاعتباري كإقرار زيد : أنّ الدار لعمرو ثمّ رجوعه عن الإقرار الأوّل بإقرار آخر أنّها لبكر ، ويحتمل صحّة الإقرار الثاني ، كما يحتمل المطابقة للواقع في الإقرار الأوّل أنّ الدار في علم الله لعمرو ، فالإقرار الثاني ليس كشفه كشف وجداني ، وكذلك الأوّل ، ومن هذا المنطلق يقال : إنّ الدار لعمرو كما على زيد أن يدفع قيمتها لبكر ، لحجّية إقراره

    على نفسه ، فبالأوّل يلزم أنّه أتلف الدار على بكر بتسليمه لعمرو فعليه قيمتها ، باعتبار أنّها قيميّة ، وكذلك في المثليّات ، فيعتبر الإقراران مع العلم الإجمالي أنّ أحدهما مطابق للواقع. وكذلك فيما نحن فيه ، فلم يكن الانكشاف الواقعي الوجداني ، فالاجتهاد الأوّل المطابق للظهور حجّة منجّزة ومعذّرة ، كما يجب العمل بالثاني بالنسبة إلى الآثار اللاحقة ، فنقول بالإجزاء في مثل هذا المورد ، ولا يلزمه التصويب.
    نعم يبقى الإشكال عليه أنّه لا دليل شرعاً على هذا الممكن العقلي ، بمعنى أنّه لم يقع في لسان الدليل ، فلا دليل على اعتبار الاجتهاد الأوّل مع وجود الاجتهاد الثاني كما لا دليل لنا على عدم ذلك ، فيلزم القول بعدم الإجزاء أيضاً ، وإن كان باعتبار التوجيه ممكناً إلّا أنّه غير واقع.
    ولا يقال إنّه يتمسّك بأدلّة العسر والحرج المنفيين حتّى يكون المورد شخصيّاً فلا يثبت الاجتهاد الأوّل ، بل من جهة مذاق الشارع المقدّس وأنّ الشريعة سهلة سمحة ، فإنّه يتنافى لو قلنا بعدم الإجزاء ووجوب التدارك ، فكيف يقال بإعادة العبادات والمعاملات بعد كشف الخلاف عند تبدّل الاجتهاد الأوّل بالثاني ، والدين سهلة سمحة؟
    نعم إنّما يقال بالإجزاء مع عدم الموضوع ، وإلّا فمع بقاء الموضوع كما في الذبيحة ، فإنّه لا يقال بالإجزاء بالنسبة إلى الأثر اللاحق ، فمعنى العسر والحرج هنا لا بمعنى دليل الحرج حتّى يقال إنّه من الشخصي ، بل بمعنى العسر النوعي ، وأنّ الشارع لم يحكم بمثل هذا العسر ، وهذا إنّما يتعلّق بفهم المجتهد واطمئنانه ، ومن ثمّ

    يقال بالإجزاء.
    ولكن ربما يقال إنّ الدين سهلة في الأُمور الواقعيّة ، لا فيما يكون سلوك الطريق بنحو الاشتباه ، فتأمّل.
    وزبدة المخاض وما نذهب إليه في هذه المسألة وأمثالها كالآتيات ، أنّ الانكشاف لو كان واقعياً كما لو أخبر المعصوم به فيلزم فساد الأوّل والقول بعدم الإجزاء ، ولما لم يكن واقعياً بل من الانكشاف الظاهري التعبّدي الاعتباري ، فلو قيل ببطلان الأوّل واقعاً فإنّه يلزم القول بالتصويب الباطل ، فنقول بعدم البطلان واقعاً ويلزمه الإجزاء لا سيّما مع العسر والحرج واختلال النظام ولزوم الهرج ، وإلّا فالأحوط وجوباً رعاية الآثار السابقة وتداركها مع الإمكان فيما لو كان الموضوع موجوداً ، للعلم الإجمالي في وجود الحكم الواقعي بين القولين فيلزم الشبهة المحصورة ووجوب الاحتياط فيها ، ولا مانع أن تكون الذبيحة الواحدة نصفها حلال ونصفها حرام للاجتهادين وكلاهما من الدين ، وهل الدين إلّا هذا التسليم كما ورد في الأخبار الصحيحة ، فتدبّر.
    حكم اختلاف المجتهدين في العبادات والمعاملات
    من فروعات مسألة التخطئة ما يذكره السيّد المحقّق اليزدي في عروته الوثقى في (مسألة 25) في التقليد :
    من أنّه لو اختلف المجتهد الأوّل مع الثاني في العبادات كالتسبيحات الأربعة

    فيراها أنّها مرّة واحدة في الركعتين الأخيرتين والثاني يذهب إلى تكرارها ، وفي التيمّم مثلاً يرى الأوّل كفاية الضربة الواحدة ويرى الثاني ضربتين ، وتكون الصلاة صحيحة كما يكون التيمّم ، ومن ضمّ المسألتين يعلم أنّ المستند ليس حديث (لا تعاد الصلاة) ، ثمّ قال : وكذلك المعاملات والعقود ، فلو كان عند الأوّل صحيحاً كالنكاح باللغة الفارسية وعند الثاني باطلاً ، فرجع إلى الثاني ، فإنّ الأوّل يكون صحيحاً ، نعم لو ذبح الحيوان وكان الثاني يعتقد بحلّيته لو كان الذبح بالحديد ، ويرى الأوّل مطلق ذلك ، فلو ذبح بالزجاجة ثمّ قلّد من قال بالحديدة ، فما أكله سابقاً لا يكون محرّماً ، ولكن ما تبقّى منه فإنّه لا يجوز بيعه ولا أكله فهو بحكم الميتة ، ومثل هذا الفرض لو قلّد من يقول بطهارة شيء كعدم التنجّس بالمتنجّس والثاني يقول بالتنجّس ، فما صلّاهُ في الثوب على الفتوى الاولى تكون صحيحة ، أمّا الصلوات اللاحقة فلا يجوز أن يصلّي بذلك الثوب.
    هذا والقاعدة التي تبتنى المسألة عليها في العبادات والمعاملات بالمعنى الأخصّ أي العقود والإيقاعات هي قاعدة الإجزاء ، وفي غير هذه الموارد فيمكن أن يقال بمراعاة الاجتهادين ، وذلك في الموضوعات ، فإنّه في الأحكام مطلقاً العبادات والمعاملات فلا يمكن الجمع بين الاجتهادين.
    إلّا أنّ صاحب الفصول ذهب إلى عدم الإجزاء وأنّه لا بدّ من تدارك الماضيات لأنّ الأصل عدم الإجزاء ، إلّا أن يقال بلزوم العسر والحرج والهرج والمرج الموجب للتلف والإتلاف بين الناس ، فإنّه لا إعادة حينئذٍ ، ويقال بالإجزاء. ولكن حسب أدلّة العسر والحرج إنّهما انحلاليان ، ولكلّ واحد من الناس حكمه

    الخاصّ ، فإذا لم يؤدّ الإعادة إلى العسر والحرج ، فإنّه لا يسقط التكليف والإعادة ، أو يسقط بمقدار الحرج ، فدليل العسر لا يثبت الإجزاء مطلقاً.
    وأمّا ما يوجب التلف والإتلاف والمنازعة بين الناس ، فيلزم رجوعهم إلى المحكمة ودار القضاء لفصل الخصومة وحلّ المنازعات ، فيرتفع الإشكال.
    هذا والمحقّق الآخوند عليه الرحمة يرجع إلى القاعدة الأوّلية من عدم الإجزاء إلّا أنّه يقول لا في موارد ثبوت حديث لا تعاد وحديث الرفع ، ولم يفهم مراده ، فإنّ حديث الرفع يرفع التكليف لا أنّه يثبته ، فلسانه النفي لا الإثبات.
    حكم تقليد المجتهد الثاني بعد فوت الأوّل واختلافهما
    يمكن القول بصحّة تقليد المجتهد الأوّل مع منافاته للثاني ، فإنّ الشارع يعبّدنا بالأوّل ولو بحكم ظاهري ، فإنّ الاجتهاد الثاني لا ينكشف الواقع به انكشافاً وجدانياً ، ولو سئل الثاني عن حكمه الأوّل لقال يحتمل أن يكون هو الواقع ، لكنّ الأدلّة فعلاً تدلّ على الثاني ، فالشارع يمكنه أن يعبّدنا بالأوّل ولو بعد زواله ، والدليل على ذلك ما يفهم من مذاق الشارع أنّه لم يكلّف بالأحكام السابقة بشرط تداركها لو تبيّن الخلاف ، كما إنّ الشريعة سهلة سمحة ، ويلزم العسر في تدارك الماضي لا سيّما لو كان الجهل عن عذر ، وإنّ الاجتهاد الأوّل يكون عذراً ، فيكفي الموافقة الاحتمالية عند عدم الانكشاف الواقعي ، كما يدلّ على ذلك سيرة المتشرّعة ، فإنّهم لم يتداركوا أعمالهم السابقة عند تبدّل الاجتهاد ، إلّا أنّه أشكل على السيرة

    بأنّها لم تتّصل بزمن الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) ، وجوابه أنّه تحقّق ذلك لكن بنحو آخر ، فإنّه حينما ترد إليهم رواية من أئمّتهم كانوا يعملون بها ، وإذا وردت اخرى تخالف الاولى عملوا بها أيضاً من دون تدارك مفاد الاولى ، كما ورد في خبرين الثاني ينسخ الأوّل من دون إعادة الأعمال الواقعة على طبق الاولى ، فهذا يدلّ على الإجزاء.
    نعم يختلف الكلام في القضاء ، فإنّه لو حكم بشيء في مقام القضاء ، ثمّ تبدّل رأيه ، فإنّه لا ينقض الحكم الأوّل ، لعدم العلم بالخلاف واقعاً ، فلو قضى لزوجة بعدم الإرث في الأرض وحكم بذلك ، فإنّه لو تبدّل رأيه الاجتهادي فإنّه لا ينقض الحكم الأوّل ، نعم في زوجة ثانية وقضيّة اخرى يحكم برأيه الثاني دون الأوّل.
    ثمّ هنا مباحث أُصوليّة كمسألة الإجزاء وعدمه على مسلك السببيّة في الأمارات كما يتعرّض لذلك الآخوند في كفايته ويقول بالإجزاء على مبنى السببي ، وكذا لو حكم المجتهد بمقتضى الاستصحاب أو البراءة النقليّة التي تكون من الحكم الظاهري ، ثمّ يجد طريقاً للحكم الواقعي يخالف الاستصحاب أو البراءة النقليّة ، فإنّه لا محالة يحكم بالأجزاء ، إلّا أنّه في مسألة الإجزاء لم يقل بهذه السعة بأنّه حينما لم يعلم الواقع فيستصحب الحالة السابقة ، ويجزي ذلك ما دام لم يعلم الخلاف ، وأُجيب بأنّه بالاستصحاب يلزم الحلّية والطهارة الظاهريّة ، فإذا انكشف بالانكشاف الوجداني كالأمارة فإنّه يلزم عدم الإجزاء.
    ثمّ عند الآخوند الانكشاف التعبّدي كذلك وأُجيب في محلّه من علم أُصول الفقه ، فلا نتعرّض له طلباً للاختصار.

    كلمة موجزة في تأثير عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد
    لقد مرّ علينا تعريف الاجتهاد بأنّه استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة الشرعيّة في أفعال المكلّفين ، وقد مرّ الاجتهاد بأدوار مختلفة بين قبض وبسط ، كما اختلف معناه عند السنّة والشيعة ، فإنّه في مدرسة أبناء العامّة جعل الاجتهاد في عرض النصّ من الكتاب والسنّة ، فيفتي أوّلاً بهما وإلّا فبرأيه الاجتهادي ولو مثل القياس والمصالح المرسلة الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً ، حتّى أدّى الأمر ان اجتهدوا في مقابل النصّ ، فحرّموا ما كان حلالاً في زمن الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كتحريم المتعتين ، وقتلوا سيّد الشهداء سبط رسول الله الحسين بن علي (عليهما‌السلام) اجتهاداً من يزيد شارب الخمور سفّاك الدماء.
    وعلى مثل هذا الاجتهاد بالرأي الذي امتاز به أصحاب المدرسة السنّية شنّ أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) هجوماً عنيفاً ، وتبعهم على ذلك رواتهم وأصحاب مدرسة المذهب الإمامي من العلماء الأعلام حتّى القرن السابع ، إلّا أنّ العلّامة الحلّي (قدس‌سره) المتوفّى (676 ه‍) هذّب الاجتهاد وفتح باباً جديداً فيه وجعله في طول النصّ ، وإنّه عبارة عن عملية الاستنباط ، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ثمّ توسّع هذا الاجتهاد ، ممّا أوجب التوسّع في علم أُصول الفقه الذي يبتنى عليه الفقه ، لما فيه من القواعد العامّة والكبريات والعناصر المشتركة السيّالة في كلّ الفقه ، وصار الاجتهاد عبارة عن

    عملية تفاعل بين الفقه وأُصوله من أجل استنباط الحكم الشرعي.
    وكان الاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية ، يتقدّم ويتطوّر بتقدّم العلم وتطوّر الزمان ، فيزاد على ثروته العلمية والعملية ، وتثرى مباحثه ومحتوياته بين آونة وأُخرى.
    وأخيراً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أكّد قائد الثورة الإمام الخميني (قدس‌سره) على تأثير الزمان والمكان في الاستنباط. وعقدت ندوات ومؤتمرات ومحافل علمية وحوزوية لتبيّن هذا الموقف الجديد في الاجتهاد المعاصر إن صحّ التعبير.
    ومن أجل تتميم الفائدة وتعميمها نتعرّض لذلك إجمالاً وعلى نحو الإيجاز ، فنقول :
    يطلق الزمان والمكان على معنيين : فتارة يراد منهما الظرفية الزمنية والمكانية للحوادث والطوارئ الحادثة فيهما ، وأُخرى يراد بهما المظروف أي الحوادث والوقائع التي تقع في الحياة وأساليبها والظروف الاجتماعية التي تقدّم الحضارة وتغيّرها. والمقصود من عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد هو المعنى الثاني.
    ثمّ لنا في الشريعة الإسلامية ثوابت ومتغيّرات ، فلا بدّ حين تفسير مدخلية الزمان والمكان في الاجتهاد ملاحظة الثوابت ، وأنّه لا تعارض بين الاجتهاد المذكور وبين الأُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي ، فإنّ من الأُصول أنّ التشريع والتقنين من مراتب التوحيد الإلهي ، فإنّه لا مشرّع سواه كما في قوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا

    يَعْلَمُونَ) (1) ، والمراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله تعالى (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
    وفي قوله تعالى (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(2).
    ومنها : أنّ الشريعة الإسلامية بالمعنى الأخصّ خاتمة الشرائع السماوية ، فحلال محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
    روى زرارة قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحلال والحرام قال : (حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره) (3).
    وقال أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) : (ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة).
    ثمّ ربما أوّل من أشار إلى مدخليّة الزمان والمكان من أصحابنا هو المحقّق الأردبيلي (قدس‌سره). حيث قال : «ولا يمكن القول بكلّية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيّات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو ظاهر ، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز
    __________________
    (1) يوسف : 40.
    (2) يونس : 15.
    (3) الكافي 1 : 58 ، الحديث 19 ، وبهذا المضمون أحاديث كثيرة.

    أهل العلم والفقهاء ، شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم» (1).
    وهناك كلمة مأثورة عن الإمام السيّد الخميني (قدس‌سره) حيث قال : إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج (السنّتي القديم) بين فقهائنا ، وبالاجتهاد على النهج الجواهري أي جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام وهذا الأمر لا بدّ منه ، لكن لا يعني ذلك أنّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر ، بل إنّ لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد ، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتّخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده) (2).
    هذا والمحافظة على كرامة الأحكام الأوّلية المنصوصة في الشريعة الإسلامية ممّا اتّفق عليه أتباع مدرسة السنّة أيضاً ، فإنّه عندهم إنّما يقبل التغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة وذلك من خلال القياس وغيره.
    قال مصطفى أحمد الزرقاء :
    «وقد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحيّة ، أي التي قرّرها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة ، وهي المقصودة من القاعدة المقرّرة (تغيير الأحكام بتغيّر الزمان).
    أمّا الأحكام الأساسيّة التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها
    __________________
    (1) موسوعة طبقات الفقهاء 1 : 320 ، عن مجمع الفائدة والبرهان 3 : 436.
    (2) المصدر نفسه ، عن صحيفة النور 21 : 98.

    الأصليّة الآمرة الناهية كحرمة المحرّمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود .. إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعيّة الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ، فهذه لا تتبدّل بتبدّل الأزمان ، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال ، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة» (1).
    فلا بدّ عند القول بتأثير العنصرين في الاجتهاد أن يحافظ على الأصلين المتقدّمين فنحترز عن تشريع الحكم وجعله فإنّه مختصّ بالله سبحانه ، كما نقدّس ونؤيّد الأحكام الأوّليّة ، ومن ثمّ يقال للزمان والمكان تأثير في استنباط الأحكام الشرعيّة والأحكام الحكومية ، كما تعرّض إلى تفصيل ذلك بعض الأعلام.
    فالأوضاع والأحوال الزمنية لها تأثير خاصّ وكبير في استنباط الحكم الشرعي ، وهذا التأثير تارة باعتبار الموضوع وأُخرى باعتبار الحكم.
    توضيح ذلك : لمّا كانت القضيّة مركّبة من موضوع ومحمول فتأثير العنصرين تارة يرجع إلى ناحية الموضوع وأُخرى إلى الحكم باعتبار الملاك أو كيفيّة تنفيذ الحكم.
    والأوّل : قد يراد من تبدّله انقلابه إلى موضوع آخر كصيرورة الخمر خلّا ، هذا خارج عمّا نحن فيه ، وقد يصدق الموضوع على مورد في زمان ومكان ونفس الموضوع لا يصدق على ذلك المورد في زمان ومكان آخر لمدخليّة الظروف الخاصّة
    __________________
    (1) موسوعة طبقات الفقهاء 1 : 321 ، المقدّمة ، عن المدخل الفقهي العام 2 : 924.

    فيها. كالاستطاعة في الحجّ والفقر والغنى وبذل النفقة للزوجة وما شابه ذلك كصدق المثلي والقيمي ، فربما في زمان يكون الشيء من القيميّات ، ثمّ يكون من المثليّات ، كالأواني وكصدق المكيل والموزون فربما في بلد يكون البيض بالوزن وفي آخر بالعدّ فهذا كلّه من تبدّل الموضوع باعتبار الزمان والمكان.
    والثاني : كما نعتقد أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للملاكات والمصالح والمفاسد الملزمة في علم الله يشترك فيها العالم والجاهل ، وربما يكون مناط الحكم مجهولاً وربما يكون معلوماً بتصريح من الشارع المقدّس ، وفي الثاني يدور الحكم مدار مناطه وملاكه ، فإذا تبدّل الملاك يتبدّل الحكم كبيع الدم ، ففي زمان لم يكن للدم قيمة وثمن ، فكان ممّا يحرم بيعه ، وفي زمان آخر أو مكان آخر يثمّن ذلك فيجوز بيعه ، وكقطع الأعضاء فكان من المثلة ، واليوم في خدمة الطبّ لزرع الأعضاء ، فوقف الفقهاء على ملاك الحكم عبر تقدّم الزمان وتطوّر العلم.
    والثالث : كتأثير الزمان والمكان في تنفيذ الحكم وكيفيّته كتقسيم الغنائم الحربيّة بين المقاتلين ، فكان من السهل ذلك في صدر الإسلام ، لقلّة أدوات الحرب بخلاف عصرنا هذا والتطوّر الهائل في الأسلحة وفي الحافلات والمدرّعات والصواريخ والقنابل والطائرات المقاتلة ، فالفقيه لا بدّ أن يتّخذ موقفاً جديداً في تنفيذ الحكم من تقسيم الغنائم فتغيّر الأوضاع والأحوال الزمنيّة تعطي للمجتهد نظرة جديدة نحو القضايا المعاصرة باعتبار القديم والحديث ، فالبيع في القديم يختلف في الجديد ، فكان منحصراً بنقل الأعيان واليوم يجوّزون بيع الحقوق والامتيازات العامّة أو الخاصّة كامتياز شركة أو مجلّة وما شابه ذلك.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:50

    كما يؤثّر الزمان والمكان في كيفيّة الأساليب وتعيّنها في القوانين الثابتة ، فإنّ الشارع في بعض الموارد الشرعيّة ربما لم يجدّد الأُسلوب المتّخذ فيه ، بل ترك ذلك ليختار بما يطابق الزمان والمكان كالدفاع عن بيضة الإسلام ، فإنّه قانون ثابت لا يتغيّر ، إلّا أنّ الأساليب المتّخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلى مقتضيات الزمان والمكان التي تتغيّر بتغيّره ، وكنشر العلم والثقافة فهو أصل ثابت تتغيّر أساليبه بتغيّر الزمان والمكان ، وكالتشبّه بالكفّار ، فمنع عن ذلك النبيّ الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتّى أمر بخضب الشيب وقال : (غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود) إلّا أنّه لمّا ازدادت رقعة الإسلام واعتنقه شعوب مختلفة وكثر فيهم الشيب تغيّر الأُسلوب ، ولمّا سئل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عن ذلك فقال : (إنّما قال ذلك والدين قلّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار) (1).
    هذا ولا بدّ في تأثير عنصري الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة أن لا يؤثّر في كرامة حصر التشريع في الله سبحانه ، ولا يمسّ بقداسة الكبريات والأُصول الثابتة الشرعيّة ، وهذا من الفقه الحيّ الذي يتماشى مع كلّ عصر ومصر ، وهذا إنّما يتحقّق في فقه المذهب الإمامي الذي يعتقد بحياة إمامه المعصوم (عليه‌السلام).
    ولا يحقّ لنا أن نفسّر التأثير بتفسير خاطئ ومردود ، بأنّه بمعنى تغيير الأحكام الشرعيّة حسب المصالح الزمنية ، حتّى يبرّر بذلك مخالفة بعض الخلفاء
    __________________
    (1) موسوعة طبقات الفقهاء 1 : 327 ، المقدّمة ، عن نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم 16.

    للكتاب والسنّة ، بأنّ الحاكم له الأخذ بالمصالح وتفسير الأحكام على ضوئها ، كما فعله (الثاني) في وقوع الطلاق ثلاثاً من دون التخلّل والرجوع ، فقال : (إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم (1).
    وإبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأيّ عنوان ، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح والفساد.
    ثمّ ما ذكرناه من تأثير عنصري الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة وتغييرها بالمعنى الصحيح إنّما كان باعتبار مقام الإفتاء ، وكذلك الأمر في الأحكام الحكومتيّة ، حيث إنّه يقسّم الحكم إلى الحكم الشرعي والحكم الحكومتي ، والأوّل إلى الأوّلى والثانوي أي الأحكام الواقعيّة والأحكام الظاهريّة ، وعند التعارض بين الأحكام الأوّلية والثانوية تقدّم الثانية من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفي ، كتقدّم قاعدة لا حرج على الأحكام الضررية ، كالميتة يحرم أكلها إلّا من اضطرّ غير باغ ، ويرجع هذا إلى مقام الإفتاء والاستنباط.
    وربما يكون التزاحم بين نفس الأحكام الواقعيّة ، فلو لم يرفع التزاحم لحصلت مفاسد ، فالفقيه الحاكم الجامع للشرائط المتصدّي لمنصب الولاء يقوم بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض بتعيّن المورد من صغريات أيّ الكبرتين الواقعتين ، ولا يحكم الحاكم إلّا بعد ملاحظة الظروف الزمانية والمكانية ومشاورة
    __________________
    (1) المصدر : 329 ، عن مسلم الصحيح ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث 1.

    العقلاء والخبراء في كلّ مورد بما يناسبه ، فالحاكم يرفع التزاحم في مقام الإجراء بملاحظته للزمان والمكان ، بأنّ المورد من صغريات أيّ الكبريات والأحكام الواقعيّة؟ فحكمه بتقديم إحدى الكبريين باعتبار مقام الولاية والحكم الولائي والحكومتي ، ويعرف ذلك بما عنده من المقاييس والدقّة في الظروف المحيطة بالمسألة والقضيّة ، ويحكم حكمه حكماً حكومياً ولائياً في طول الأحكام الأوّلية والثانوية ، ويسمّى بالحكم الحكومي لرفع التزاحم والحفاظ على الأحكام الواقعيّة في ظلّ العناوين الثانوية ، كالضرورة والاضطرار والتضرّر والضرار والعسر والحرج والأهمّ فالأهمّ والتقيّة والذرائع للواجبات والمحرّمات والمصالح العامّة للمسلمين ، وهذه العناوين أدوات بيد الحاكم ، يحلّ بها مشكلة التزاحم بين الأحكام الواقعيّة والأزمات الاجتماعية ، وبهذا لا يخرج حكم الحاكم الإسلامي الفقيه العادل عن إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.
    يقول العلّامة الشيخ جعفر السبحاني دام ظلّه : (وبالجملة الفقيه الحاكم بفضل الولاية الإلهيّة يرفع جميع المشاكل المماثلة في حياتنا ، فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسدّ بها كلّ فراغ حاصل في المجتمع ، وهي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات ، ولا تمسّ بكرامة الكبريات).
    ثمّ يأتي بأمثلة لتوضيح المقام وتبيّن مدخليّة المصالح الزمانية والمكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي ، كقضيّة التنباك وحكم الميرزا الشيرازي ، وكفتح الشوارع والتصرّف في مال الغير ، وكبيع أموال المحتكر فيما لم تنفعه النصيحة ، وكالمعاملة من الشركات الداخليّة والخارجيّة وحرمة بيع

    العنب إذا كان يصنع منه الخمر ، إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه الحاكم غضّ النظر عن الظروف المحيطة به ، حتّى يتّضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أيّ الحكمين على الآخر وتشخيص الصغرى. ثمّ يتعرّض الشيخ إلى دراسة في تأثير الزمان والمكان في الفقه السنّي ، ومناقشة ذلك ، فراجع (1).
    فوائد
    وهنا فوائد :
    الأُولى : لقد وردت بعض العناوين على المجتهد في الروايات الشريفة كالعارف بالأحكام والراوي للأحاديث والناظر في الحلال والحرام ، ووقع في لسان الفقهاء عناوين اخرى لا سيّما في العصور المتأخّرة كالمجتهد والفقيه والمفتي والقاضي وحاكم الشرع وهذه العناوين عبارة عن شخص واحد ولكن بجهات عديدة ، فإنّه بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة الواقعيّة يسمّى مجتهداً لما يبذل من الجهد والطاقة واستفراغ الوسع للوصول إلى الواقع من الطرق الشرعيّة من الأدلّة التفصيليّة ، وتسمّى الأدلّة حينئذٍ بالدليل الاجتهادي كالأمارات كخبر الثقة والظواهر ، وبالقياس إلى الأحكام الظاهريّة يسمّى فقهاً لكونه عالماً بها على نحو العلم واليقين ، ومعنى الفقه ذلك أو الفقه كما في اللغة الفهم وهو مرادف للعلم أو ملازمه. وبالقياس
    __________________
    (1) موسوعة طبقات الفقهاء 1 : 336 ، المقدّمة.

    إلى أنّه يفتي بين الناس يسمّى مفتياً ، وبالقياس إلى أنّه يرفع خصومة المتنازعين إليه يسمّى قاضياً ، ومع قطع النظر عن الترافع إليه يسمّى حاكم الشرع بالنسبة إلى مثل الأُمور الحسبيّة كولاية الأيتام والقصّر والغائبين ، وباعتبار ولايته يعبّر عنها بولاية الفقيه ، والأعلام بين من يحدّدها بمواردها الخاصّة التي وردت في النصوص الشرعيّة من الأُمور الحسبيّة ، وبين من يقول بولايته المطلقة ، وإنّه ممّا ينتظم به أمر المعاد والمعاش للعباد ، وأنّ حكمه مثل حكم القاضي ماضٍ على العباد مجتهدين أو مقلّدين له أم لغيره أو لا يكونوا قلّدوا واحداً لاشتراك العلّة ، وهي كونه منصوباً من المعصوم (عليه‌السلام) ، ولأنّ حصول النظام لا يكون إلّا بذلك ، ولأنّه نائب المعصوم (عليه‌السلام) ، والمعروف من المتأخّرين أنّ ثبوت الهلال من مناصبه (1).
    ثمّ المجتهد هذا بالقياس إلى شرائط الاجتهاد التي مرّت يسمّى أُصوليّاً رجاليا محدّثاً إلى غير ذلك.
    وقيل : المجتهد لا يجوز أن يقلّد المجتهد الآخر ، لأنّه إمّا أن يقول بما يقوله فيلزم اللغو ، أو يخالفه فيلزم رجوع العالم إلى الجاهل ، فإنّه يرى نفسه عالماً وغيره المخالف جاهلاً ، وإلّا يلزم العكس ، فينتفي الاجتهاد وحينئذٍ فلا يقلّد المجتهد مجتهداً آخر ، نعم ربما يستند إلى قوله من باب التأييد والمرجّحات الاجتهادية عند المعارضة ، وكذا استناده إلى قول علماء الرجال واللغة وأمثالهما فليس من باب التقليد ، فإنّه لا يستند إلى قولهم رأساً ، بل يبذل الجهد لمعرفة المعارض وما هو الصواب في
    __________________
    (1) ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد : 352.

    الترجيح والجمع والحجّية.
    ولا بدّ للمجتهد أن يكون في مقام الاستنباط من الكتاب والسنّة جازماً بدلالتهما على الأحكام الشرعيّة ، حتّى قيل : لا يكفيه الظنّ ، فليس الغاية تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي كما عند البعض كالحاجبي ومن يحذو حذوه ، حتّى فسح المجال للأخباريين بالهجوم على المجتهدين الأُصوليين بأنّهم يعملون بالظنّ ، وأنّه لا يغني من الحقّ شيئاً ، بل المجتهد يفتي بالكتاب والسنّة ويقول : هذا ما دلّ عليه الكتاب أو السنّة أو هما معاً ، وكلّما دلّ عليه الكتاب والسنّة فهو حكم الله في حقّي وحقّ من اتّبعني ، فهذا حكم الله جلّ جلاله.
    الثانية : لقد ثبت في علم أُصول الفقه أنّ مدارك الأحكام والتي تسمّى بالأدلّة التفصيليّة عبارة عن الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فالفقيه يعتمد على هذه المدارك في مقام الاستنباط ، وهي الحجّة له ولمن يقلّده ، لما دلّت الروايات على ذلك ، فإنّه يصدق عليه العارف بالأحكام والناظر في الحلال والحرام والراوي للأحاديث ، وهذه من الأوصاف العلميّة للمجتهد كما أنّه مخالف لهواه مطيع لأمر مولاه صائناً لنفسه حافظاً لدينه من الأوصاف العمليّة ، فمثل هذا الفقيه قطعه حجّة لنفسه ولمن تبعه ، وأمّا من حصل له القطع من غير هذه الطرق باختياره أو بغير اختياره كالجفر والرمل أو الرؤيا وما شابه ذلك ، فقطعه وإن كان لنفسه حجّة ، بناء على حجّية القطع الذاتيّة سواء كان معذوراً أو مقصّراً في ذلك ، إلّا أنّه لا يجوز أن يقلّده العامي ، كما لا يكون قضاؤه نافذاً لأنّ الروايات الدالّة على الإرجاع إلى

    القاضي والفقيه منصرفة عن ذلك ، والظاهر منها أنّها ناظرة في جواز الرجوع إلى من علم بالحكم من الطرق المألوفة كما هو واضح ، لا سيّما على القول بالاجتهاد الانفتاحي بل الانسدادي الحكومتي والكشفي أيضاً ، فإنّ العامل بالاحتياط لجهله بالحكم الشرعي لا يصدق عليه العالم والفقيه ليشمله إطلاقات أدلّة جواز التقليد ، كما إنّ ظنّه ليس حجّة في حقّ المقلّد ، للتمكّن من تقليد من يقول بالانفتاح ، فلم ينسدّ باب العلمي على المقلّد ، الذي هو من مقدّمات الانسداد.
    الثالثة : يا ترى هل بحث الاجتهاد والتقليد من مباحث علم الفقه أو علم أُصول الفقه أو علم الكلام؟
    عند ما نرجع إلى مصنّفات أصحابنا الإماميّة نرى الاختلاف في ذلك ، فمنهم من أدخله في علم أُصول الفقه كما جاء في خاتمة (كفاية الأُصول) للمحقّق الآخوند الخراساني (قدس‌سره) ، ومنهم من أدخله في الرسائل العمليّة التي تعدّ من كتب الفقه باعتبار بحثها عن أفعال المكلّفين كما في العروة الوثقى للمحقّق السيّد اليزدي (قدس‌سره) المعاصر للمحقّق الخراساني ، ومن الأعلام من أفرز له بحثاً مستقلا وكتاباً خاصّاً ، ومنهم من بحثه ضمن كتاب القضاء.
    وعند سيّدنا الأُستاذ السيّد رضا الصدر (قدس‌سره) (1) أنّ علم الاجتهاد علم قائم بنفسه لأنّه بالنسبة إلى علم أُصول الفقه يعدّ من الغاية فلا يدخل فيه ، وإلّا لزم
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 23.

    دخول البحث عن الغاية في البحث عن المغيّا ، وإنّه ليس بحكم شرعي فإنّه من الموضوعات الخارجيّة فلا يدخل في علم الفقه الباحث عن الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، كما إنّه ليس من علم الكلام لأنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، ولا يرتبط هذا بالكلام الباحث عن الله وأفعاله ، فيكون علم الاجتهاد علم مستقلّ من العلوم الإسلامية ، وكذلك علم التقليد ، فإنّ التقليد ليس نفس فعل المكلّف حتّى يدخل في علم الفقه ، بل من العوارض الطارئة لفعله ، وكذلك بالنسبة إلى أُصولي الفقه والكلام.

    التقليد لغةً واصطلاحاً
    لغةً :
    قال الفيومي في المصباح : قلّدت المرأة تقليداً : جعلت القلادة في عنقها ومنه تقليد الهَدي ، وهو أن يعلّق بعنق البعير قطعة من جلد ليعلم أنّه هدي ، فيكفّ الناس عنه ، وتقليد العامل توليته ، كأنّه جعل قلادة في عنقه.
    وقال العلائلي في المرجع : تقليد : تطويق العنق بحبل ومثله ، وتعليق القلادة فيه ، وشرعياً : الاتباع من غير نظر وتأمّل في الدليل ، والانقياد من غير تثبّت.
    قال سيّدنا الأُستاذ السيّد رضا الصدر (قدس‌سره) : المعنى الأخير ليس بمعنى شرعي للتقليد ، بل هو معنى عرفي متّخذ من معناه الشرعي.
    ويشهد لذلك كلام صاحب أقرب الموارد حيث قال : قلّده في كذا : تبعه من غير نظر وتأمّل.
    فالمعنى الشرعي كالنواة لذلك المفهوم العرفي الوسيع ، لكونه اتباع الغير في الأحكام من غير نظر وتأمّل.

    ويبدو لي عدم تماميّة الإشكال فإنّ تعريف العلائلي إنّما هو على مبنى القوم في تعريف الاجتهاد والتقليد ، وما يقوله الأُستاذ على مبنى أصحابنا الكرام ، فالنزاع حينئذٍ يكون مبنائيّاً ، فتأمّل.
    وأمّا التقليد اصطلاحاً :
    فقد اختلف الأعلام في ذلك على أقوال : فقيل التقليد هو الالتزام ، وقيل هو العمل ، وقيل التطبيق أو المطابقة ، وغير ذلك.
    توضيح ذلك : منهم من جعل التقليد أمراً سابقاً على العمل بفتوى المجتهد ، فقد عرّفه في العروة الوثقى : بأنّه الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل.
    وقال صاحب الفصول : أنّه الأخذ بفتوى الغير.
    وقال المحقّق الخراساني في الكفاية : إنّه الأخذ بفتوى الغير للعمل في الفرعيات والالتزام في الاعتقاديّات.
    ويرى السيّد الحكيم في المستمسك : إنّ الأخذ عندهم بمعنى العمل ، ولكن هذا يتنافى مع تعريف الكفاية ، كما هو واضح.
    هذا لمن جعل التقليد بمعنى الالتزام والأخذ ، ومنهم من جعله نفس العمل.
    قال العلّامة في النهاية : إنّ التقليد هو العمل بقول الغير ، من غير حجّة معلومة.
    وقال صاحب المعالم : إنّه العمل بقول الغير من غير حجّة.
    والمحقّق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية وفي رسالته في الاجتهاد والتقليد

    قال : إنّه العمل استناداً إلى رأي الغير ، وقال : إنّ مفهومه اللغوي أوفق بالعمل من الأخذ للعمل.
    وقال السيّد الحكيم : إنّ العمل اعتماداً على رأي الغير.
    وذهب الشيخ المؤسس الحائري اليزدي : إنّه متابعة المجتهد في العمل ، بأن يكون معتمداً على رأيه في العمل.
    وعند السيّد صدر الدين الصدر : إنّه تطبيق العمل على رأي الغير.
    ويذهب سيّدنا الأُستاذ السيّد رضا الصدر إلى أنّ التحقيق مع الطائفة الثانية في قولهم : إنّ التقليد هو العمل وأنّ الطائفة الأُولى قد خلطوا بين التقليد وبين بعض مقدّماته ، ثمّ يذكر أُموراً تؤيّد ذلك (1) :
    من أنّ التقليد صفة عارضة لما فيه التقليد ، والتقليد في العمل بالأحكام الشرعيّة أمر من مقولة العمل لعروضه عليه ووجوده بوجوده ، ولا يجوز سبق الصفة على الموصوف في الوجود ، فكيف يكون التقليد سابق على العمل ، كما عند صاحب الكفاية فهو فاسد. وإنّ السنخيّة بين الصفة والموصوف والعارض والمعروض شرط في الاتصاف أو العروض ، فإنّ السنخيّة علّة الانضمام ، والالتزام من الأفعال القلبيّة ولا يصحّ عروضه على الأفعال الخارجيّة ، نعم الالتزام والأخذ من مقدّمات التقليد كالعزم والقصد ، ويدلّ على ذلك سيرة العقلاء التي هي من أُصول التقليد ، فمن التزم باتّباع طبيب في علاج مرضه لا يعدّ متابعاً له ما دام لم يعمل بقوله. فالالتزام
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 69.

    والأخذ من مقدّمات الاتباع لا نفسه ، ثمّ من اللوازم العقليّة لحجّية قول المفتي للمقلّد المعذّرية وهذا لا يتحقّق إلّا بالعمل ، فالاعتذار يصحّ عند صدور عمل مطابق للفتوى ، كما إنّ الظاهر من آية النفر (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) هو الحذر العملي الخارجي ، كما إنّ الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : (فللعوام أن يقلّدوه) هو العمل على طبق قول العالم الموصوف بتلك الصفات ، وكذلك قوله (عليه‌السلام) : (فارجعوا إلى رواة أحاديثنا) هو عمل المأمور بقول المرجع ، وصحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه) (1) فالظاهر تقليد المفتي في العمل ، فالتقليد هو العمل دون غيره.
    ثمّ يذكر السيّد حجج من قال : إنّ التقليد سابق على العمل ويناقشها.
    ويبدو لي أنّ التقليد هو : مطابقة العمل لرأي المجتهد الجامع للشرائط ، فإنّ المطلوب في صحّة العبادة هو مطابقة العمل للواقع مع وجود قصد القربة فيه. نعم الطريق للواقع بالنسبة إلى العامي هو قول المفتي الجامع ، أعمّ من أن يكون ذلك بنحو الالتزام والأخذ أو نفس العمل مطلقاً أو مع الاستناد ، وذلك لما سيأتي من أنّه عمل العامي من دون تقليد ولا احتياط باطل ، وحكموا أيضاً إذا كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي يجوز تقليده فإنّه يصحّ عمله ، مع أنّ هذا العامي لم يكن مقلّداً له بحسب الالتزام والقصد القلبي ، كما لم يكن الاستناد في عمله. وهذا يكشف عن كون مجرّد
    __________________
    (1) فروع الكافي 2 : 358.

    المطابقة كافياً في تحقّق التقليد ، فتأمّل لعلّ ذلك من جهة مطابقة عمله للحجّة التي هي بمنزلة الواقع ، لا من باب تحقّق التقليد منه ، كما إنّ التقليد من باب التفعيل والمطابقة من باب المفاعلة ، وفرق واضح بين البابين كما في علم الصرف ، فالذي يتلائم مع التقليد هو التطبيق.
    زبدة الكلام
    إنّ الكلام في التقليد يقع في مقامين :
    المقام الأوّل :
    في معنى التقليد لغةً واصطلاحاً ، وقد ذكرنا مجمل القول فيهما إلّا أنّ المحقّق الخراساني يرى أنّ التقليد هو الأخذ بقول الغير الذي يعيّن الحكم الشرعي الفرعي العملي ، وفي الاعتقادات هو الالتزام بقول الغير ، والأوّل يكون بنحو التعبّد أي من دون مطالبة دليل ، وقيد التعبّد ليس للأخذ بقول ، بل بمعنى أنّ متابعة قول الغير تعبّدياً ، فالعامي تعبّداً يأخذ بالحكم الشرعي من مقلّده المجتهد من دون مطالبة الدليل على ذلك.
    وأهمّ الأقوال في التقليد ثلاثة :
    1 ـ كما قاله الآخوند ففي الفرعيات أخذ وتعلّم قول الغير للعمل ، وفي الاعتقادات الالتزام.
    2 ـ التقليد نفس الالتزام بالعمل بقول الغير وإن كان لم يعلم قول الغير ولكن

    يلتزم به وكذا في الاعتقادات ، ومن هنا قيل أخذ الرسالة العمليّة للعمل بمعنى التقليد وإن لم يعلم بما في الرسالة.
    3 ـ التقليد نفس العمل بقول الغير ، فما دام لم يعمل لا يحصل التقليد. ويرى صاحب الكفاية عدم تمامية هذا القول لوجود المحذور فيه ، فإنّ التقليد قبل العمل ، فلو كان نفس العمل يلزم أن يكون العمل بلا تقليد.
    نقول :
    أوّلاً : إنّ الاجتهاد ليس بمعنى صرف الاستنباط ، بل بمعنى أن يكون العمل بالاجتهاد ويكون الاجتهاد مؤمّناً من العقوبة أي في أمان من العقاب ، وكذلك التقليد بمعنى الأمان من العقوبة ، فلو ثبت أنّ قول المجتهد للعامي مثل الأمارات للمجتهد فتكون مؤمّنة له ، فهذا يعني أنّ اعتبار الشارع للاجتهاد والتقليد ، وكذلك الاحتياط بمعنى التأمين من العقاب ، وهذا ما يحكم به العقل.
    وثانياً : الاستناد لا يلزم أن يكون قبل العمل بل يحكم العقل به أيضاً لو كان حين العمل وبعده ، فلو صلّى في المدينة المنوّرة صلاة تامّة وهو مسافر وكان عليه أن يصلّي قصراً رجاءً متقرّباً ، ثمّ رجع إلى المجتهد فوجده يجوّز ذلك ، فالعقل يحكم بكفاية ذلك ، وأنّه من مصاديق التأمين من العقاب ، فالشائع كما اعتبر ظاهر خبر الثقة للمجتهد كذلك التقليد معتبر في الظاهر للعامي ، والعقل يرى كفاية الاستناد إلى المجتهد ولو بعد العمل.
    وثالثاً : لنا أدلّة وروايات تدلّ على وجوب التعلّم للمسائل التي يبتلى بها المكلّف ، أو يحتمل احتمالاً عقلائياً أنّه سوف يبتلى بها ، وطلب العلم فريضة لكلّ

    مسلم ومسلمة ، باعتبار الوجوب الطريقي ، فإنّ الشارع أراد أن يسقط الجهل عن الاعتذار به ، ولهذا يقال لمن لا علم له (هلّا تعلّمت) إذا أراد أن يعتذر بالجهل ، فالجهل ليس عذراً بالنسبة إلى التكاليف في حقّ الجميع سواء الرجل أو المرأة ، فكما أنّ وجوب التعلّم في الوقائع بالتعلّم الوجداني ، ووجوبه طريقي للمجتهد ، فلو قام دليل أنّ مثل خبر الثقة للمجتهد كقول المجتهد للعامي كما يذكر في المقام الثاني ، فإنّ أدلّة وجوب التعلّم يدلّ على التقليد أيضاً ، ولكن لا على نحو النفسيّة ، بل يجوز الاحتياط أو الاستناد بعد العمل ، فوجوب التقليد بهذا النحو سيكون بمعنى وجوب التعلّم ، ولا ربط له بالعمل ، كما إنّ الاجتهاد الفعلي هو التعلّم بمعنى أنّ الجهل يسقط عن كونه معذّراً ، ثمّ يترتّب على التعلّم العمل ، كذلك التقليد هو من التعلّم المستلزم للعمل عقلاً. ولهذا جاء في العروة عمل العامي بلا اجتهاد ولا تقليد باطل أي باطل عقلاً لا شرعاً ، وإلّا للزم التنافي بين هذه المسألة والمسألة الأُخرى التي تقول لو عمل العامي من دون الرجوع إلى الفقيه ، ثمّ رأى أنّ عمله يطابق قول المجتهد ، فعمله صحيح ، فالمراد من الباطل البطلان العقلي لا الشرعي ، وإنّما يبطل عمله عقلاً ، لأنّه لم يستند إلى دليل ، كما أنّ الجهل ليس معذّراً.
    وربما يقال إنّ سيرة المتشرّعة وكذلك العقلائيّة جارية على أن يأخذ العامي بقول الأعلم ، إلّا أنّه يصعب عليه تشخيص ذلك ، فلا تنفعه السيرة بقسميها ، ويقال برجوعه إلى أهل الخبرة وفي مورد اختلافهم يأخذ بالأقوى منهم ولو بنفر واحد ، ولمّا كانت الحجّة ما يلتزم به الإنسان ولا حجّة في الخبر المتعارضين كذلك في تعارض أهل الخبرة ، فيلزم القول بالتخيير حينئذٍ ، لمطلوبيّة الجامع بين الطريقين ، إلّا

    أنّ هذا لا يصدق في الأمارات لتنافي الطريقين ، فيأخذ بأحدهما في ما نحن فيه ، وهذا يعني الالتزام وهو التقليد.
    ولكن يرد عليه أنّه يتمّ بناءً على القول بالتخيير في تعارض المجتهدين أو اختلاف الأعلمين كما يدّعي الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري الإجماع على ذلك ، إلّا أنّ المسألة من المستحدثات فلا ينفعها الإجماع ، ولو قيل به أو برواية تدلّ على التخيير ، إلّا أنّه من يقول بأنّه بمجرّد الالتزام تتمّ الحجّة ، بل القدر المتيقّن في الإجماع على أنّه دليل لبّي هو العمل بالالتزام فتكون الحجّة.
    أمّا مجرّد الالتزام من دون عمل لا يكون من الحجّة ، ومجرّد التزام العامي بقول المجتهد ليس من العمل ، بل لا بدّ من العمل الخارجي بفتوى المجتهد حتّى تكون الحجّة.
    فأخذ الرسالة العمليّة من مرجع التقليد من دون العمل لا يصدق عليه التقليد ومجرّد الالتزام كما يظهر من السيّد اليزدي (قدس‌سره) لا يكون من التقليد.
    ثمّ المؤمّن من العقاب في العمل هو المطابقة للواقع أو لقول المجتهد فهذا هو التقليد كما نذهب إليه.
    وقيل : التقليد هو نفس العمل ، ولهذا لو مات المجتهد وكان العامي عاملاً بفتاواه فيجوز له البقاء على تقليده. إلّا أنّ هذا لا يتمّ فإنّ العمل غير معتبر لإطلاق الروايات الدالّة بالرجوع في معالم الدين إلى الفقيه والتعلّم منه كالرجوع إلى يونس ابن عبد الرحمن مثلاً ، فإنّه إنّما يرجع إليه في حياته ، إلّا أنّه في العمل فهي مطلقة ، فإنّه يعمل بقول يونس أعمّ من أن يكون حيّاً أو ميّتاً ، وفي السيرة العقلائيّة لو تعلّم

    من الأعلم ، فإنّه يبقى أن يعمل بقوله حتّى لو مات. نعم لو لم يتعلّم فإنّه يرجع إلى الحيّ كما سيعلم.
    ثمّ لو قلّد الأعلم فإنّه لا يصحّ منه الرجوع إلى غيره ، إلّا إذا ثبت أعلميّة الثاني ، فيجب العدول ، فإنّ العلم حينئذٍ عند الأعلم.
    ثمّ التقليد لم يكن موضوعاً للحكم الشرعي ، إنّما الموضوع هو وجوب التعلّم.
    أدلّة تقليد المجتهد الجامع
    المقام الثاني : في الأدلّة الدالّة على تقليد المجتهد الجامع للشرائط.
    وقبل بيان الأدلّة من الكتاب والسنّة والسيرة العقلائيّة والمتشرّعة لا بأس أن نذكر الأصل الأوّلي والثانوي في التقليد عند العقل ، أي حكم العقل في التقليد.
    فنقول : من الواضح أنّ العقل يرى قبح الاتباع لكلّ أحد من دون دليل وحجّة ، ويذمّ من يميل مع كلّ ريح ، وينعق مع كلّ ناعق ، وهذا ما يسمّى بالتقليد الأعمى ، فالأصل الأوّلي الحاكم به العقل هو عدم جواز التقليد ، وأنّ الشكّ في حجّية قول يلازم الحكم بعدم حجّيته ، والاتباع لكلّ قول يشترط فيه ثبوت حجّيته. كما أنّ قول الغير لا يفيد الوثوق غالباً ، فلا يعتمد عليه.
    نعم لو عرف الإنسان من يتبعه ، وعرف مورد الاتباع وذلك بالحجّة والدليل

    فإنّه يخرج عن التقليد المذموم ، كما يدلّ عليه السيرة العقلائيّة. فإنّهم في شؤونهم عند جهلهم بشيء يتبعون العارف به ، بل ويدلّ عليه العقل الفطري برجوع الجاهل إلى العالم (1) ، وإنّ من لا يعرف الطريق يسأل العارف به.
    ثمّ المقصود من تقليد العامي للمجتهد في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة هو هذا المعنى المعقول والممدوح ، واعتمد الشارع على حكم العقل البشري في ذلك. كما لم يردع عن هذا السيرة العقلائيّة ، ولو كان لبان ، أضف إلى ذلك الأدلّة النقليّة الدالّة على التقليد كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
    ثمّ يذهب صاحب الكفاية إلى بديهيّة جواز التقليد متمسّكاً بوجوه :
    1 ـ إنّه حكم جبلي فطري لا يحتاج إلى دليل.
    2 ـ وإلّا لزم سدّ باب العلم على العامي مطلقاً غالباً ، لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه الكتاب والسنّة.
    3 ـ ولا يجوز التقليد في التقليد أيضاً ، وإلّا لدار أو تسلسل.
    وأُشكل عليه :
    أوّلاً : أنّه لو كان بديهيّاً لما اختلف فيه اثنان ، والحال وقع الاختلاف فيه ، كما يشير إليه على ما حكي عن الشهيد في الذكرى قائلاً :
    «خالف فيه بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب فأوجبوا على العوام الاستدلال واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع والنصوص الظاهرة ، وأنّ الأصل في المنافع
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 79.

    الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة ، مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته ، والنصوص محصورة.
    ثمّ قال عليه الرحمة : ويدفعه إجماع السلف والخلف على الاستغناء من غير نكير ولا تعرّض لدليل» (1).
    كما ذمّ القرآن الكريم اتباع الظنّ فإنّه من التقليد الأعمى كما في قوله تعالى :
    (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(2).
    (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(3).
    (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(4).
    (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(5).
    فالذي يجب أن يتّبع هو العلم والعلمي دون غيره ، فتقليد العالم مستحسن عقلاً ونقلاً ، وهذا هو الأصل الثانوي في التقليد.
    وقال صاحب الفصول عليه الرحمة : شرذمة أوجبوا على العامي الرجوع إلى
    __________________
    (1) هذا وإن كان إلّا أنّه ربما يقال بأنّه أجنبيّ عن التقليد التعبّدي في الأحكام الشرعيّة الذي هو مورد البحث والكلام.
    (2) النجم : 28.
    (3) يونس : 36.
    (4) النساء : 157.
    (5) الإسراء : 36.

    عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب والسنّة ، فإن ساعد نعته على معرفة مدلولهما وإلّا ترجم له معانيها بالمرادف من نعته ، وإن كانت الأدلّة متعارضة ذكر له المتعارضين ونبّهه على طريق الجمع ، وبعد تعذّره يذكر أخبار العلاج ، وإذا احتاج إلى معرفة الراوي ذكر له حاله.
    ثمّ قال صاحب الفصول : ووضوح فساده يغني عن البيان.
    فالمسألة حينئذٍ اختلافية ، وإن كان القائل بوجوب الاجتهاد على العامي نادراً وفاسد القول. فإنّه يلزمه العسر والحرج واختلال النظام ، كما أنّ الرجوع إلى عارف عدل هو من التقليد ، فتأمّل.
    وثانياً : لو كان جواز التقليد بديهيّاً لما احتاج القوم إلى إثباته في الفروع بالدليل ، كما لا حاجة إلى أن يقول حينئذٍ : (وإلّا لزم سدّ باب التقليد على العامي).
    وثالثاً : إن أُريد من الفطرة كما في علم النفس بمعنى الغريزة في الإنسان ، فجواز التقليد في الأحكام لم ينشأ من الغريزة ، فكيف كان الحكم به جبلّي فطري؟
    وإن أُريد به المعنى المصطلح المنطقي أي القضايا التي قياساتها معها ككون الأربعة زوجاً ، لانقسامها إلى متساويين فهو غير تامّ (فإنّ الفطري بهذا المعنى كون العلم نوراً وكمالاً للعاقلة في قبال الجهل ، لا لزوم رفع الجهل بعلم العالم ولا نفس رفع الجهل ، وإن أُريد من الفطري أنّ جواز التقليد جبلّي طبعي فهو غير وجيه لأنّ ما هو جبلّي طبعي شوق النفس إلى كمال ذاتها وكمال قواها لا لزوم

    التقليد ، بل ولا لزوم تحصيل العلم حقيقة بما هو لزوم من قبل الشارع أو العقلاء ، فليس وجوب التقليد تعبّداً إمّا من الشارع أو من العقلاء فطرياً ولا جبلّياً) (1).
    ورابعاً : قوله : ولا يجوز التقليد في التقليد نفسه وإلّا للزم الدور إذا كان يتوقّف عليه ، أو يلزم التسلسل إذا كان يتوقّف على ما لا نهاية. فجوابه : أنّه لو كان جواز التقليد في الأحكام موقوف على سيرة العقلاء أو تقليد العقلاء في أُمورهم ، ولكن لا يتوقّف تقليد العقلاء في أُمورهم على جواز التقليد في الأحكام ، فلا يلزم توقّف الشيء على نفسه الذي هو ملاك الدور الباطل ، كما إنّ جواز تقليد العقلاء ممّا يحكم به العقل السليم فلا تسلسل حينئذٍ.
    هذا ولمّا لم يكن التنافي بين الحجّتين الباطنيّة (العقل) والظاهريّة (النقل) فإنّهما صادران من الواحد الأحد جلّ جلاله ، فلا من التطابق بينهما ، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فلمّا كان الأصل الأوّلي عند العقل مذمّة التقليد وقبحه ، فكذلك الأصل الأوّلي عند الشرع ، فإنّه يذمّ التقليد الأعمى من دون دليل لتقليد الآباء في باطلهم ، كما في قوله تعالى :
    (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(2).
    __________________
    (1) بحوث في الأُصول ؛ للمحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني ، رسالة في الاجتهاد والتقليد : 16.
    (2) المائدة : 104.

    وقال عزوجل :
    (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(1).
    فالقرآن الكريم وكذلك السنّة الشريفة ليوبّخان من يتّبع أباه الجاهل الضالّ الذي لا يعلم ولا يهتدي.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:51

    أدلّة جواز التقليد
    وأمّا الأدلّة النقليّة الدالّة على جواز التقليد وصحّته فيما يبتنى على العلم والحجّة فهي كما يلي في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة والسيرة العقلائيّة.
    أوّلاً : إنّ في القرآن الكريم لآيات شريفة تدلّ على جواز التقليد بل حسنه ورجحانه ، بل لزومه :
    1 ـ منها : آية النفر : قوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2).
    وكيفية الاستدلال بها أنّ الله سبحانه يحرّض طائفة وجماعة من المؤمنين ويأمرهم بالتفقّه في الدين أوّلاً ، ثمّ الإنذار ثانياً ، والظاهر من الإنذار هو بيان
    __________________
    (1) البقرة : 170.
    (2) التوبة : 122.

    الأحكام الشرعيّة التي تفقّهوا فيها كما يظهر من صدر الآية ، ثمّ بيان الأحكام تارة يكون بحكاية قول المعصوم (عليه‌السلام) وأُخرى بما يستفاد من قوله أو فعله أو تقريره ، ويسمّى الثاني بالاجتهاد.
    ثمّ كلمة (لعلّ) في مثل هذا المورد لا يحمل على معناه الحقيقي من التوقّع ، فإنّه يلزمه الجهل على الله سبحانه لأخذ الشكّ في مفهوم التوقّع ، بل بمعنى أنّه مطلوب لله تعالى ، والحذر من الأفعال الاختياريّة وهو في الآية غاية للإنذار الواجب فيكون واجباً أيضاً ، فإنّه إذا وجب المغيّا فبالأولويّة تجب الغاية ، لظهور أنّ وجوب المغيّا ينشأ من وجوب الغاية ، ثمّ الحذر بمعنى التحرّز والخوف وقد جعل كناية عن العمل بما أخبر الفقهاء والرواة. فالعمل أو المطابقة بما أخبر المجتهد الفقيه هو التقليد عنه.
    2 ـ آية الذكر في قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(1).
    وكيفيّة الاستدلال بها أنّ المخاطب بالسؤال هو من لا يعلم ممّن يعلّم للمقابلة ، وهذا ما يدلّ عليه السيرة والفطرة ، فإنّ الجاهل لرفع جهله يرجع إلى العالم ، فلا بدّ للعامي من التقليد حينئذٍ بمطابقة أفعاله لمن يجب عليه تقليده كالأعلم فيما نشترط ذلك ، وإنّما من سنّ البلوغ نقول بالتقليد ليعرف الأعلم ، وإلّا فيقلّد أحدهم عند تساويهم ، ولا منافاة حينئذٍ بين المطابقة والرجوع إلى المجتهد ، والمقصود المطابقة إلّا
    __________________
    (1) النحل : 42.

    أنّه إنّما يؤمّن من العقاب بالرجوع مطلقاً سواء بالأخذ أو الالتزام أو التطبيق أو نفس العمل أو الاستناد ، فهذه من لوازم المطابقة ، فتأمّل.
    وأُورد على الاستدلال بها :
    أوّلاً : بأنّه يحتمل أن يكون المقصود من الإرجاع هو تحصيل العلم في الأُصول والاعتقادات لا للأخذ تعبّداً في الفرعيّات.
    وثانياً : كما أنّ المسئول فيها في تفسيرها الظاهر هم علماء أهل الكتاب وفي تأويلها أهل البيت (عليهم‌السلام).
    إلّا أنّه يجاب عن الأوّل : أنّ تحصيل المعرفة تارة مطلوب لنفسه وأُخرى للعمل أو معرفة المطابقة للواقع أو ما ينزل منزلته ، فلا تختصّ الآية بأُصول الدين فقط بل بكلّ ما يتعلّق بالدين في أُصوله وفروعه.
    وعن الثاني : إنّ المورد لا يوجب تخصيص العامّ وحصر الكلّي عليه ، فعموم الآية يتناول السؤال من المجتهد الجامع أيضاً.
    وممّا يستدلّ على جواز أصل التقليد شرعاً بآية الكتمان كما يستدلّ بها وبغيرها على حجّية قول خبر الثقة كما هو في الأُصول مفصّلاً ، إلّا إنّه ثبت في محلّه ضعف الاستدلال بها على حجّية الفتوى ، فتدبّر.
    ثانياً في السنّة الشريفة :
    وهي تعني قول المعصوم (عليه‌السلام) وفعله وتقريره ، فلنا روايات كثيرة تدلّ على جواز التقليد في الأحكام الشرعيّة ، وهي على نحوين : فتارة تتعلّق بعصر الحضور ،

    وأُخرى بعصر الغيبة ، وكلّ واحد منهما على طوائف ، وإليك تفصيل ذلك بذكر نماذج من كلّ طائفة ، فتدبّر فبعضها قابلة للنقاش في كيفية الاستدلال بها ، كما يناقش سند البعض ، إلّا أنّه من حيث المجموع نقطع بجواز التقليد شرعاً.
    النحو الأوّل الطائفة الأُولى :
    المستفاد من هذه الطائفة أنّ الأئمة (عليهم‌السلام) قرّروا التقليد المتداول بين المسلمين برجوع العامي الجاهل إلى العالم الفقيه ، وإن خطّأوا الحكم المأخوذ بذلك.
    كما في مرفوعة إبراهيم بن هاشم :
    سألت امرأة أبا عبد الله (عليه‌السلام) فقالت : إنّي كنت أقعد من نفاسي عشرين يوماً حتّى أفتوني بثمانية عشر يوماً؟ فقال (عليه‌السلام) : ولِمَ أفتوك بثمانية عشر يوماً؟! فقال رجل : للحديث الذي روي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لأسماء بنت عميس حين نفست بمحمّد بن أبي بكر. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إنّ أسماء سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد أتى بها ثمانية عشر يوماً ولو سألته قبل ذلك لأمرها أن تغتسل وتفعل ما تفعله المستحاضة ، ومثلها الخبر الوارد في امرأة محمّد بن مسلم عن حمران بن أعين (1).
    قالت امرأة محمّد بن مسلم وكانت ولوداً : أقرئ أبا جعفر السلام وأخبره أنّي كنت أقعد في نفاسي أربعين يوماً ، وإنّ أصحابنا ضيّقوا عليّ فجعلوها ثمانية عشر يوماً؟
    __________________
    (1) فروع الكافي 1 : 28.

    فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : من أفتاها بثمانية عشر يوماً؟! قلت : للرواية التي رووها في أسماء بنت عميس (1).
    فالإمام (عليه‌السلام) قرّر أصل تقليد المرأتين عن بعض وإن كان خطّأ فتوى ذلك البعض ، فلم ينكر عليهما أصل التقليد ، فلو كان غير جائز لكان المفروض أن ينكر ذلك أوّلاً فهو الأصل فإذا انتفى انتفى الحكم الباطل أيضاً.
    عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه‌السلام) قلت : إنّ أُناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان الشيء يبتلى به بعض أصحابنا وليس في ذلك شيء بعينه وعندهم ما يشبهه ، أيسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال (عليه‌السلام) : لا (2).
    فالظاهر رجوع الناس إلى الأصحاب في فتاواهم ، إلّا ما يبتنى على القياس الباطل.
    عن عليّ بن أسباط قلت للرضا (عليه‌السلام) : يحدث الأمر لا أجد بُدّاً من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ فقال (عليه‌السلام) : ائت فقيه البلد فاستفته عن أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه.
    __________________
    (1) المنتقى 1 : 191 الاجتهاد والتقليد : 87.
    (2) الجامع 1 : 48.

    والظاهر أنّ سيرة الأصحاب كانت على الاستفتاء من فقهاء تلامذة الأئمة (عليهم‌السلام) ، وأمضاها الإمام (عليه‌السلام).
    النحو الأوّل الطائفة الثانية :
    يظهر من هذه الطائفة أنّ الإفتاء من فقهاء أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كان متداولاً في عصر الحضور ، وقد أقرّه الإمام (عليه‌السلام).
    مثل خبر حمزة بن حمران (1).
    سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : من استأكل بعلمه افتقر ، فقلت : جعلت فداك ، إنّ في شيعتك ومواليك قوماً يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البرّ والصلة والإكرام؟ فقال (عليه‌السلام) : ليس أُولئك بمستأكلين ، إنّما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله عزوجل ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدنيا.
    والظاهر أنّ بثّ علوم أهل البيت لم ينحصر بنقل الأحاديث ، بل يعمّ الإفتاء بالأحكام ، ولازمه جواز التقليد.
    النحو الأوّل الطائفة الثالثة :
    وردت نصوص كثيرة عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) أرجعوا شيعتهم إلى رواة وفقهاء أصحابهم وتلامذتهم ، وهذا يعني صحّة الرجوع والتقليد.
    روى الكليني في أُصوله الكافي بسنده عن أبي الحسن الهادي (عليه‌السلام) في جواب
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب القضاء ، باب 9 صفات القاضي ، الحديث 36.

    سؤال أحمد بن إسحاق : من أُعامل؟ أو عمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ قال (عليه‌السلام) : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع وهذا بوضوح يدلّ على لزوم التقليد ، وليس الجواز ورجحانه وظاهر السؤال طلب المعرفة عمّن يصلح للإفتاء وليس المراد رواية الحديث لمكان الاستماع والإطاعة.
    ومثل هذا السؤال سأله أحمد عن أبي محمّد العسكري (عليه‌السلام) فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان.
    ومن الأخبار رواية شعيب العرقوفي : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال (عليه‌السلام) : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير.
    وظاهر السؤال عن الشيء حكم الشيء وهذا من الإفتاء والإرجاع إلى المفتي وجواز تقليده.
    عن عبد الله بن أبي يعفور : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّي ليس كلّ ساعة ألقاك ويمكن القدوم ، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ قال (عليه‌السلام) : فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه قد سمع أبي

    وكان عنده مرضياً وجيهاً (1).
    وظاهر السؤال هو معرفة الحكم وليس الحديث وروايته فيدلّ على جواز الإفتاء والتقليد.
    وعن يونس بن يعقوب كنّا عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال (عليه‌السلام) : أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة البصري (2).
    وكيفيّة الاستدلال : أنّ المفزع ومن يستريح إليه إنّما هو في القضايا الدينية ، وهذا يعني صحّة الإفتاء وجواز التقليد.
    وعن عليّ بن المسيّب قلت للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال (عليه‌السلام) : من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا.
    قال ابن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه.
    وظاهر الخبر أنّ الإمام (عليه‌السلام) أرجع ابن المسيّب إلى ابن آدم في معرفة
    __________________
    (1) رجال الكشّي : الرقم 291.
    (2) جامع أخبار الشيعة 1 ، باب 5 ، حديث 51.

    الأحكام ، وليس نقل الحديث.
    عن عبد العزيز بن المهتدي وكان وكيل الرضا (عليه‌السلام) وخاصّته ، سألت الرضا (عليه‌السلام) فقلت : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال (عليه‌السلام) : خذ عن يونس بن عبد الرحمن.
    وظاهر أنّ أخذ معالم الدين لا يعني نقل الحديث وروايته ، بل ما يعمّ ذلك فيشمل الإفتاء والحكم ومن ثمّ جواز التقليد والرجوع إلى مثل يونس الفقيه.
    عن أبي علي بن راشد عن أبي جعفر الثاني (عليه‌السلام) قلت : جعلت فداك ، قد اختلف أصحابنا فأُصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال (عليه‌السلام) : عليك بعليّ بن حديد. قلت : فآخذ بقوله؟ فقال : نعم. فلقيت عليّ بن حديد فقلت له : تصلّي خلف أصحاب هشام بن الحكم؟ قال : لا (1).
    وهذا صريح في الإفتاء والرجوع إلى الفتوى وتقليد الفقيه.
    عن أبي محمّد العسكري (عليه‌السلام) في فضل بن شاذان : أغبط أهل خراسان بمكان فضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم.
    فالخبر يدلّ على جلالة ومكانة الفضل ، إلّا أنّه يعمّ إرجاع أهل خراسان
    __________________
    (1) قاموس الرجال 6 : 441.

    إليه.
    النحو الأوّل الطائفة الرابعة :
    لقد عرفنا فيما مرّ أنّه كيف الأئمة (عليهم‌السلام) أرجعوا الناس إلى العلماء الفقهاء بنحوٍ عامّ بتعيّن المصاديق الذي يستفاد منه الحكم العامّ. وأمّا الطائفة الرابعة فتدلّ على أنّ الأئمة أمروا بعض أصحابهم بأن يتصدّوا للإفتاء ، ولازمه رجوع الناس إليهم وجواز تقليدهم ، وأنّ أعمالهم تطابق فتوى أبان بن تغلب وأمثاله ، فالإفتاء مقدّمة العمل والنتيجة مطابقة الواقع أو ما ينزّل منزلته.
    فمن الأخبار :
    قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لأبان بن تغلب : اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.
    فالإفتاء يلازمه العمل ، لا أنّ المقصود إظهار الفتوى أو إظهار الحقّ حتّى يقال بعدم دلالته على جواز الأخذ والاتباع ، ومن ثمّ لزوم المطابقة بين عمل العامي وفتوى المجتهد.
    عن معاذ بن مسلم النحوي ، عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) ، قال لي أبو عبد الله : بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت : نعم ، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج : إنّي أقعد في المسجد فيجيئني الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ، ويجيئني الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأُخبره بما جاء عنكم ، ويجيئني الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو. فأقول : جاء عن فلان

    كذا وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال (عليه‌السلام) لي : اصنع كذا فإنّي كذا أصنع.
    هذا الخبر وإن كان يدلّ على التقيّة وحكاية قول الأئمة (عليهم‌السلام) ، إلّا أنّه يظهر أيضاً من قوله (فيسألني عن الشيء) أي عن حكم الشيء وهذا يعمّ الاستفتاء.
    النحو الثاني الطائفة الأُولى :
    يستفاد من هذه الطائفة أنّ الأئمة أرجعوا الناس إلى من يحمل صفات الإفتاء عند سؤالهم عن معرفة المفتي.
    مثل ما رواه الكشّي (1).
    عن أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : كتبت إليه يعني أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك. فكتب (عليه‌السلام) إليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله.
    وظاهر المسنّ أي كثير السنّ الذي قضى أكثر عمره في محبّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، وكلّ كثير القدم في ولاية الأئمة (عليهم‌السلام) هو المتفقّه الفاهم لدينه بالنظر ، فيدلّ على الإفتاء والتقليد.
    النحو الثاني الطائفة الثانية :
    يستفاد من هذه الطائفة بيان وظيفة الإمامية في عصر الغيبة الكبرى
    __________________
    (1) اختيار معرفة الرجال : 5.

    في المسائل الجديدة والقضايا المستحدثة التي يجهل حكمها بسبب حدوثها وعدم وقوعها في عصر الحضور مثل التوقيع المبارك.
    «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم».
    والرجوع إلى الرواة إنّما هو لمعرفة حكم الواقعة ، فيدلّ على الإفتاء والاستفتاء ، فالفقيه حجّة الإمام والإمام حجّة الله.
    النحو الثاني الطائفة الثالثة :
    وهي تدلّ على إرجاع الناس إلى الفقهاء وأنّهم يستخلفون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).
    حكي عن التفسير المنسوب إلى أبي محمّد العسكري (عليه‌السلام) قوله : وأمّا من كان من العلماء (الفقهاء) صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه.
    قال الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في فرائده : هذا الخبر الشريف لائح عنه آثار الصدق وهذه المقولة من مثل هذا العملاق في العلم والتقوى ، ممّا يوجب الاعتماد على الخبر ، ولا يلتفت إلى ما أُورد عليه بضعف السند ، فتأمّل.
    وفي أمالي الصدوق بسنده عن عيسى بن عبد الله العلوي ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ (عليه‌السلام) ، قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : اللهمّ ارحم خلفائي ثلاثاً ـ ، قيل : يا رسول الله ، من خلفاؤك؟ قال : الذين يبلّغون حديثي وسنّتي ثمّ يعلّمونها

    أُمّتي (1).
    على أنّ تبليغ السنّة وتعليمها تارة يكون بالحكاية ، وأُخرى بالإفتاء كما هو ظاهر العموم.
    وفي عيون أخبار الرضا (عليه‌السلام) :
    عن عبد السلام بن صالح الهروي ، قال : سمعت الرضا (عليه‌السلام) يقول : رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت : وكيف يحيي أمركم؟ قال (عليه‌السلام) : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس (2).
    على أنّ من التعليم الإفتاء ولازمه جواز التقليد لئلّا يلزم اللغويّة.
    النحو الثاني الطائفة الرابعة :
    ما يستدلّ بالسنّة على جواز التقليد تارة يكون بالمنطوق كما ذكرنا ، وأُخرى بالمفهوم ، كما يستفاد من هذه الطائفة ، فإنّ الإفتاء على نحوين تارة عن علم وهدى وأُخرى دونهما ، والثاني باطل فيلزم صحّة الأوّل.
    ومن هذا الباب الروايات التي تنهى عن الإفتاء بالقياس وبغير علم.
    قال أمير المؤمنين (قدس‌سره) : من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس.
    __________________
    (1) أمالي الصدوق : 106.
    (2) عيون أخبار الرضا : 171.

    كما ورد في تحريم الفتوى بغير العلم بالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.
    عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك.
    والذي يظهر من هذا الخبر وأمثاله أنّ شرط جواز الإفتاء هو أن يكون عن علم واجتهاد ، ولو بقرينة الحكمة ، فتجوز الفتوى عن علم ويلازمه عرفاً جواز العمل به فثبت المطلوب ، إلّا أنّه قيل إنّ المفهوم المذكور من سنخ مفهوم القيد فالأولى الاستدلال بالنصوص الدالّة بالمنطوق على جواز الفتوى عن علم.
    النحو الثاني الطائفة الخامسة :
    تدلّ على أنّ الأئمة (عليهم‌السلام) بيّنوا الأُصول في الأحكام ، وأمّا التفريعات فذلك على شيعتهم الكرام ، فمن اجتمع فيه شرائط الإفتاء فهو القدر المتيقّن في المقام ، كما يدلّ على التقيّد النصوص الأُخرى.
    ورد عن الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما‌السلام) ما مضمونه : (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأُصول وعليكم أن تفرّعوا) (1) ، (علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع) (2) ، ومن الأُصول الاستصحاب والبراءة وقاعدة لا ضرر وما شابه.
    ولازم ذلك متابعة الفروع ، كما كان يجب متابعة الأُصول ، فيدلّ على التقليد والاجتهاد.
    __________________
    (1) الوسائل 18 : 41 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 51.
    (2) الوسائل 18 : 41 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 52.

    بل يذهب أبو جمهور الأحسائي في كتابه (كاشفيّة الحال عن أحوال الاستدلال) في الفصل الثالث في بحث أدلّة العقل إلى أنّ الاجتهاد واجب مع حضور الإمام (عليه‌السلام) عملاً بمضمون النصّ المروي بطريق صحيح عن زرارة وأبي بصير عن الصادقين (عليهم‌السلام) : (علينا أن نلقي الأُصول وعليكم أن تفرّعوا) فلفظة (على) إنّما تستعمل للوجوب لظهور صيغة الأمر في الوجوب كما هو مقرّر في الأُصول ، فأوجبا علينا التفريع على أُصولهم.
    وجرى على هذه السيرة الاتباع بل وقدماء الأصحاب أيضاً كابن الجنيد وابن أبي عقيل والصدوق والشيخ المفيد ثمّ وصلت النوبة إلى الشيخ الطوسي ليدخل الميدان من أوسع أبوابه وليكتب النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى ، بلا ذكر للروايات ، وليفرّع ما شاء له أن يفرّع في المبسوط ، ثمّ يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن يأتي بعده.
    ومن ذلك الحين أخذت الأبحاث الاستدلالية مسلكها الذي شاء لها أن تسلكه ضمن الحدود التي رسمها المذهب ، وتشكّلت الجامعات الكبرى التي تعتبر مفاخر يفتخر بها في دنيا العلم في بغداد والنجف الأشرف والحلّة والشام وأصفهان وقم والأحساء والقطيف والأماكن الإسلامية الأُخرى وكتبت الموسوعات الاستدلالية الضخمة التي تمثّل تراثاً عزيزاً يعكس العقلية الفذّة التي وصلت إليها العبقرية الشيعية (1).
    __________________
    (1) كاشفية الحال عن أحوال الاستدلال (مؤسسة أُمّ القرى) : 21.

    النحو الثاني الطائفة السادسة :
    يستدلّ بها أنّ كلّ شيء حكمه في القرآن والسنّة ، فلا بدّ من اجتهاد فيهما واستخراج حكم كلّ شيء منهما.
    منها : ما رواه بصائر الدرجات بسنده عن سعيد الأعرج قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا؟
    فقال (عليه‌السلام) : كذبوا ليس شيء إلّا وقد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة (1).
    ورواه الشيخ المفيد (2) بهذا السند مثله.
    النحو الثاني الطائفة السابعة :
    النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم ، وتعليمه وتعلّمه والانتفاع به والرجوع للعلماء في القضاء وأخذ الأحكام منهم ونحو ذلك الدالّة على جواز الاعتماد على العلماء في معرفة الأحكام والعمل عليها ، ولكن يرد عليه أنّه لا يستفاد حجّية قول المفتي منها ، فإنّها ربما وردت تبعاً لسيرة العقلاء الدالّة برجوع الجاهل إلى العالم.
    __________________
    (1) بصائر الدرجات 2 : 221 ، كما جاء في المستدرك 17 : 258 ، تحقيق مؤسسة آل البيت.
    (2) الاختصاص : 272.

    النحو الثاني الطائفة الثامنة :
    النصوص الواردة في تعليم الأئمة أصحابهم وتلامذتهم بالرجوع في مقام الاستنباط إلى القرآن الكريم كما في قوله (عليه‌السلام) : (يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله) (1). وقوله (عليه‌السلام) : (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) (2).
    دفع شبهة
    بعد إثبات جواز التقليد ، فلو أفتى المفتي فإنّه يكون من العلم الذي يتبع ، ولا فرق في ذلك بين الإنذار وغيره ، فإنّه لو كان الفقيه المجتهد في مقام بيان الأحكام الوضعيّة أو الاستحباب والكراهة فكذلك على العامي في مقام العمل أن يقلّده ، فإنّ الغرض العمل ومطابقة قول المفتي.
    فلو قيل فرضاً إنّه وجد عاميّ يحتمل الردع عن الحكم العقلي الفطري أو السيرة العقلائية لشبهة حصلت له من خلال اختلاف العلماء مثلاً كمخالفة الأخباريين للأُصوليين ، فينسدّ عليه باب العلم عند الشكّ والشبهة ، فقيل يلزمه الاحتياط في الحوادث الواقعة التي أفتى بها علماء عصره ، ولا يلزمه ذلك فيما لو تكن لهم الفتوى ، كما لا يعتني باحتمال التكليف ، لأنّه وإن كان له علم إجمالي
    __________________
    (1) الوسائل 1 : باب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث 5.
    (2) الوسائل 18 ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 27.

    أنّه سيبتلى في طول حياته بمسائل ، إلّا أنّ هذا العلم الإجمالي الكبير ينحلّ إلى إجمالي صغير ، وذلك أنّ معظم المسائل قد أتعب الفقهاء أنفسهم في استنباطها ، وجلّها مطابقة للواقع ، فينحلّ العلم الإجمالي ، فيعمل بالاحتياط في التكاليف الاحتمالية لتنجّز العلم الإجمالي ، ولا يحتاط فيما لم يكن من التكاليف الاحتمالية لعدم تنجّز العلم بعد انحلاله ، فإنّه إنّما يتنجّز فيما لو أفتى أحد المجتهدين بالتكاليف ، أمّا مع نفي التكاليف من قبلهم ، فلا يجب عليه الاحتياط ، فيلزم فيما لو كان الاختلاف فعليه الاحتياط ومع اتّفاقهم لنفي التكليف فلا احتياط حينئذٍ.
    وربما يقال ما ورد من انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير ليس في كلّ مورد ، بل فيما لم يكن الكبير منجّزاً ، كما في الشبهة الموضوعية لو قيل بالاستصحاب ، فمن أنكر فعليه أن يعمل بقاعدة الطهارة وإنّما ينحلّ لأنّ الأصل النافي عند تساقطه بالعلم الإجمالي يرجع لو خرج العلم من الشبهة المحصورة كخروج أحد الطرفين من الشبهة فينحلّ إلى الفرد المتيقّن والفرد المشكوك الذي يجري فيه الأصل النافي ويبقى بلا معارض ، ولكن لو كان الأصل غير نافٍ ، ويحتمل التكليف المثبت فلا انحلال فيه ، إذ يكفي احتمال التكليف في تنجّزه ، فالعامي الذي يحتمل التكليف عليه أن يراعي ذلك ، إلّا أن يدّعي العلم بعد الفتوى للمجتهدين في الواقعة ، فلا تكليف ، أو يكون مجتهداً في البراءة ، فلا يراعى التكليف المحتمل بالاحتياط.
    وإنّما يجتهد العامي في أصالة البراءة بناءً على أنّه لا فرق في التمسّك بحديث الرفع بين الشبهات الموضوعية والحكميّة ، وأنّه لا مخصّص للثاني. وإذا قيل بالتخصيص لإخبار وجوب التعلّم ، فيجاب أنّ ذلك للقادر وهذا العامي فعلاً يعجز

    عن معرفة التكليف تفصيلاً بحسب الأمارات ، فحينئذٍ في أطراف العلم الإجمالي الكبير ينقلب الأصل المثبت إلى النافي ، ويكون بلا معارض فلا يجب عليه الاحتياط ، كما كان يجب في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة. ومع حصوله على فتوى المجتهدين ، يجوز له أن يختار أحدهم بشرط أن لا يختار هذا تارة وأُخرى تلك ، فإنّه يلزم العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة.
    هذا وبعد تماميّة أدلّة جواز التقليد ، وبحكم العقل على المكلّف أن يتمثّل التكاليف بالوجدان أو يكون له أمارة شرعيّة على ذلك اجتهاداً أو تقليداً ، والامتثال الوجداني الذي هو الاحتياط لا فرق فيه بين العبادات وغيرها ، وسواء أوجب التكرار أم لم يوجب ذلك ، ولا بدّ من استناد الاحتياط إلى فتوى المجتهد.
    ثمّ ظهر ممّا سبق أنّ الشارع المقدّس لمّا أمر بالأخذ من مثل يونس بن عبد الرحمن فإنّه الثقة ، فإنّ أمره إنّما كان طريقياً ، أي قول يونس حجّة ومعتبر لمن تبعه ، فيكون حينئذٍ للتابع علماً ، وبهذا يستدلّ كما سيأتي إنّه لا تقليد في الضروريات الدينية والمسلّمات الفقهيّة ، فإنّه لم يكن الجهل بها حتّى يعلم بالمتابعة ، فالتقليد كما في العروة الوثقى إنّما هو في غير القطعيات اليقينيات والضروريات من المسائل الدينية الفرعيّة والتكاليف الشرعيّة ، فمع العلم لا معنى للتعبّد بالأمارة بما لا يخفى.
    وحينئذٍ لو علم العامي أنّه لا يجب عليه الاستهلال ، ولكن لا يدري هل يستحبّ له ذلك أو يباح له؟ فإذا أراد أن يأتي بقصد القربة ، فعليه أن يقلّد في ذلك حتّى لا يلزم التشريع المحرّم ، وإدخال ما ليس من الدين في الدين ، فتأمّل.

    حرمة التقليد في أُصول الدين
    لقد أثبتنا في علم الأُصول أنّ الأمارات الشرعيّة تنزّل منزلة العلم ، والعلم مرآة الواقع ، فالخطاب الوارد في التنزيل يتوجّه إلى المرآتية ، هذا إنّما يتمّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.
    وأمّا العقائد فالمطلوب فيها هو اطمئنان النفس وعقد القلب ، فلا ينفع فيها فتوى المجتهد المبتنية على الأمارات ، بل يشترط في العقائد تحصيل العلم ليطمئنّ القلب ، ولو كان هذا العلم بمقدار استدلال العجوز والأعرابي بأنّ البعرة تدلّ على البعير ، فإنّ مثله يتيقّن بوجود الصانع والخالق ممّا يألفه ويعيش معه ، من دلالة البعرة على البعير.
    فلا يجوز التقليد في أُصول الدين لمثل هذا السبب ، والروايات الدالّة على جوازه ، لا تعمّ الأُصول كما لا يخفى ، وهذا ما ذهب إليه المشهور أيضاً فقال بتحريم التقليد في أُصول الدين.
    وقيل بجوازه ، وقيل بوجوبه وتحريم النظر والاجتهاد.
    وإنّما يقال بالجواز بناء على أنّ الاعتقاد بأُصول الدين من أفعال القلب والجوانح ، فالتقليد فيها بمعنى عقد القلب بها ، بعد عقد العلم ، وهو عقد الموضوع بالمحمول ، ثمّ عقده بالقلب ويسمّى بالعقيدة والإيمان القلبي ، فالتقليد فيها يحصل من قول الغير ، فيكون بمعناه العرفي أي اتباع الغير.

    والتقليد في كلّ شيء إنّما يكون من سنخه ، ففي العقائد يكون من مقولة أوصاف النفس.
    فيستدلّ على الجواز بأنّ النبيّ الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقبل إسلام كلّ من أقرّ بالشهادتين ولا يكلّفه بالاستدلال والنظر في البراهين والحجج (1) ، بل كان يأمرهم بتعلّم الفروع والأحكام الإسلامية.
    هذا ولكن عدم السؤال لا يدلّ على جواز التقليد في أُصول الدين ، وإذا كان المراد من التقليد معناه العرفي من اتباع الغير فهذا خارج عمّا نحن فيه ، فالمقصود اتباع المجتهد في الفتوى المبتنية على الأمارات الظنية المنزلة منزلة العلم.
    كما تمسّك القائل بالجواز بإطلاق قوله تعالى :
    (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
    فإطلاقه متناول لصورة إسلامهم من دون نظر ودليل ، ولكن يمنعه الانصراف ، فلا تتمّ مقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق ، واستدلّ أيضاً بسيرة المسلمين على عدم مطالبة الدليل ممّن كان مسلماً على إسلامه ، إلّا أنّه يجاب أنّ السيرة جرت بعد ما جرت أيضاً على أنّ الأُصول لا بدّ من إثباتها بالنظر والدليل ، ولا يكفي فيه التقليد.
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 230.

    تقليد الأعلم
    من المسائل الخلافية منذ العصور المتقدّمة مسألة تقليد الأعلم ، فهل يجب على العامي تقليد الأعلم فيما تمكّن من الرجوع إليه ، أو أنّه مخيّر بين الأعلم وغيره؟ والمراد من تقليد الأعلم هو تقديم قوله على غيره عند التعارض ، لا بمعنى انحصار الحجّية في كلّ عصر بشخص واحد وهو الأعلم حتّى تكون الأعلميّة من مقوّمات الحجّية لعدم نهوض الأدلّة النقليّة والعقلية على ذلك. فالمراد من الأعلمية المرجّحية عند المعارضة ، وإلّا كيف يرجع إلى غير الأعلم في احتياطات الأعلم ، وكيف يقلّد غير الأعلم نفسه.
    فلرأي كلّ منهما الكاشفية والحجّية ، إلّا أنّ للأعلم فعليّة وللعالم شأنية عند المعارضة ، فهما كالخبرين المتعارضين وتقديم من معه المرجّحات الداخلية والخارجية ، فلكلّ منهما كاشفية ذاتية إلّا أنّ الأعلم فعليّة والعالم شأنية. وليس شأنهما شأن الأمارة والأصل ، فإنّ الأصل دليل من لا دليل له ، فلا كاشفيّة في الأصل عند وجود الدليل أصلاً ، لا ناقصاً ولا شأناً ، فتدبّر.
    قال السيّد المرتضى علم الهدى (قدس‌سره) : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض أو أورع أو أدين فقد اختلفوا فمنهم من جعله مخيّراً ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم والدين ، وهو أولى ، لأنّ الثقة منها أقرب وأوكد والأُصول بذلك كلّها شاهدة ..

    ويذهب السيّد الحكيم (قدس‌سره) (1) : أنّ المشهور بين أصحابنا هو الأوّل ، وعن ظاهر السيّد من الذريعة كونه من المسلّمات عند الشيعة.
    ولكن للنظر فيما ينسبه إليه مجال كما يعلم من عبارة الذريعة المذكورة آنفاً. كما إنّ القول بالتخيير حكي عن جماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني ، ومال إليه صاحب الفصول وقوّاه بعض الأعلام كما هو مختار سيّدنا رضا الصدر. كما ذهب سيّدنا الأُستاذ المرعشي النجفي (قدس‌سرهما) على عدم لزوم تقليد الأعلم ، فالمسألة ذات أقوال عديدة كما يعلم من التعليقات على العروة الوثقى. فذهب المشهور إلى وجوب تقليد الأعلم ، كما حكي ذلك عن جملة من مصنّفات الأصحاب كالمعارج والإرشاد والنهاية والتهذيب والدروس والقواعد والذكرى والجعفريّة وجامع المقاصد وتمهيد القواعد والمعالم والزبدة وغيرها.
    وقال الشيخ الأعظم الأنصاري في رسالته (التقليد والاجتهاد) : المشهور على تعيّن العمل بقول الأعلم ، بل لم يحك الخلاف فيه من معروف (2).
    فقيل بوجوب تقليد الأعلم مطلقاً ، وقيل : عند العلم بمخالفة قوله للآخرين تفصيلاً أو إجمالاً ، وقيل بالاحتياط الوجوبي مع الإمكان ، كما أوجب الفحص ، وذهب بعض إلى الاحتياط اللزومي فيما علم بوجود الأعلم ومخالفته مع غيره في المسائل الابتلائية ، وعدم موافقة غيره للاحتياط ، وجمع ذهب إلى التخيير أو جواز
    __________________
    (1) المستمسك.
    (2) رسالة التقليد : 76.

    تقليد غير الأعلم مطلقاً.
    وقبل بيان المختار نذكر أدلّة الأقوال ومناقشتها ولو إجمالاً ، ومن الله التوفيق.
    ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية يتعرّض لتقليد الأعلم ، ويقول فيما إذا علم اختلاف الأحياء ، فادخل العلم في الاختلاف ، ولم يقل إذا اختلف الأحياء ، ثمّ العلم مطلق سواء كان بالعلم التفصيلي أو الإجمالي.
    فالعامي عند ما يرى اختلاف المجتهدين فما هو وظيفته بينه وبين الله سبحانه؟
    يقول المحقّق الخراساني يأخذ بقول الأعلم ، لقطعه أنّ قوله معتبر بعد الفراغ من جواز التقليد ، فيحرز كفاية قول الأعلم ، وأمّا في غيره فيشكّ في الاعتبار فعلاً ، والشكّ فيه يساوق في عدم الاعتبار الفعلي وإن كان له الاعتبار الشأني فيلزم عدم المنجّزية والمعذّرية عند العمل بفتواه مع العلم بوجود الاختلاف ، فلا يعذر بمطابقة عمله للمجتهد غير الأعلم ، وإن كان يرى عدم وجوب تقليد الأعلم فلا يصحّ للعامي أن يعتمد على قوله للشكّ في اعتباره ، فيلزم الدور في اعتبار قوله بعدم وجوب تقليد الأعلم ، نعم يجوز للعامي أن يقلّد غير الأعلم لو اجتهد في هذه المسألة بأنّه لا يجب تقليد الأعلم ، أو يقلّد الأعلم الذي يقول بعدم وجوب تقليد الأعلم ، فلا يلزم الدور.
    ثمّ التكلّم في موضوع تقليد الأعلم تارة باعتبار نظر العامي وأنّه ما هو وظيفته بالنسبة إلى الأعلم بما يستقلّ به عقله في وجوب الرجوع إلى الأعلم بلا تقليد في ذلك ، وأُخرى بنظر الفقيه باعتبار ما يستظهره المجتهد من الأدلّة النقليّة والعقليّة من حيث الإفتاء بجواز تقليد الأعلم وعدمه.

    فالعامي لمّا علم إجمالاً بتنجّز التكاليف الشرعية عليه ، وأنّه لا طريق لامتثالها إلّا من طريق فتوى المجتهدين ، فإنّه يستقلّ عقله بتقليد الأعلم ، لدوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجّية ، والعقل يستقلّ بتقديم محتمل التعيين وهو فتوى الأعلم.
    توضيح ذلك : لماذا يقال بالتخيير بين الأعلم وغيره؟ وقد يحتمل الاعتبار في قول الأعلم كما يحتمل في العالم ، فلما ذا يلزم تعيين الأعلم والقول بالمضايقة في مقام التقليد؟
    والجواب : أنّه لا يمكن القول بالحجّة في الجامع بينهما ، كما كان في خصال الكفّارة ، فإنّ معنى التخيير فيها أنّه بأيّها أخذ فقد أخذ بالمعتبر ، وهذا لا يجري في الأعلم وغيره ، للقطع بأنّ قول الأعلم هو المعتبر ، وغيره مشكوك فيه ، والمشكوك بمنزلة العدم ، فإنّ الشكّ من الجهل ، والجهل عدم العلم ، فيؤخذ بجانب الحجّة أي تقليد الأعلم.
    وأمّا الفقيه فنظره تابع لما يثبت عنده من الأدلّة ، وهذا يعني قبل بيان المختار لا بدّ من عرض أدلّة الطرفين ، وعند عدم تماميّتها لا بدّ من الرجوع إلى أصل أوّلي يتمسّك به عند الشكّ وعدم قيام الأدلّة.
    فمن الأعلام كالمحقّق الخراساني في الكفاية يذهب إلى تقليد الأعلم بنظر الفقيه ، على أنّ الروايات الواردة في مشروعيّة التقليد لا تشمل هذه الصورة أي العلم باختلاف الأحياء فإنّ الإمام (عليه‌السلام) عند ما يرجع الناس إلى مثل يونس والحارث بن المغيرة ، بناءً على أنّ حكمهما حكم للجميع ، فإنّ قولهما إخبار عن

    الحكم الشرعي وهو للجميع ، والإرجاع إليهما بمعنى أنّهما يفهمان كلام الإمام (عليه‌السلام) جيّداً ، وواضح أنّه من كان أفهم فإنّه يؤخذ بقوله.
    غاية الأمر أنّ الروايات مطلقة ، فتشمل الاحتمال في المخالفة وغيرها ، إلّا أنّه مع العلم بالخلاف بينهما ، لا يصحّ الإرجاع إليهما معاً ، بل يرجع إلى الأعلم لإحراز حجّية قوله دون غيره. فهو مشكوك ويكون بمنزلة المعدوم. والأدلّة القائلة بجواز التقليد إنّما هي ناظرة إلى أصل التقليد لا مع الاختلاف والمعارضة في الفتاوى.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:53

    وجوب تقليد الأعلم
    استدلّ المشهور على وجوب تقليد الأعلم بالسنّة والإجماع والسيرة العقلائيّة وحكم العقلاء ، بيان ذلك :
    السنّة الشريفة :
    أمّا السنّة : فمن الروايات الدالّة على لزوم تقليد الأعلم مقبولة عمر بن حنظلة المشهورة.
    ومورد الاستدلال فيها قوله (عليه‌السلام) جواباً عن سؤال الراوي : قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، إلى أن قال : (فإن كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فأجاب (عليه‌السلام) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى

    ما حكم به الآخر (1).
    ومثلها ما أجابه (عليه‌السلام) في خبر داود بن حصين جواباً عن سؤاله : فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ فقال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه.
    ومثلها خبر موسى بن أكيل ، فقال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه.
    ثمّ كيفيّة الاستدلال بالمقبولة بناءً على أنّ منشأ الاختلاف في الحكم كما يظهر من صدر الرواية إنّما هو الاختلاف في الأحاديث الواردة عنهم (عليهم‌السلام) ، وفي ذيلها دلالة على ذلك أيضاً بملاحظة المرجّحات الداخلية والخارجية بين الروايات المتعارضة ، وهذا يعني أنّ الشبهة من الشبهات الحكمية أو مطلقاً ، فلا بدّ من رفعها بمراجعة النصّ. كما إنّ الفتوى تلحق بالحكم لعدم القول بالفرق بينهما ، فيتمّ بالإجماع المركّب.
    إلّا أنّه أشكل على المقبولة سنداً ودلالة :
    فقد ذهب بعض الأعلام (2) إلى ضعف السند ، بناءً على أنّ الأصحاب لم ينصّوا على توثيق ابن حنظلة كما لم ينصّوا بجرحه.
    إلّا أنّ المشهور قال بوثاقته كما ذهب إليه المحقّق التستري في قاموس الرجال
    __________________
    (1) دروس في فقه الشيعة 1 : 80.
    (2) الوسائل ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.

    حيث يدلّ على ذلك ما رواه الكافي عن يزيد بن خليفة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : أنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت؟ فقال (عليه‌السلام) : إذن لا يكذب علينا.
    ورواية التهذيب عنه : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : القنوت يوم الجمعة؟ فقال (عليه‌السلام) : أنت رسولي إليهم.
    ورواية البصائر عنه : قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : أظنّ أنّ لي عندك منزلة؟ قال (عليه‌السلام) : أجل.
    ورواية العوالم عن أعلام الديلمي عن كتاب الحسين بن سعيد أنّ أبا عبد الله (عليه‌السلام) قال له : يا أبا صخر كنية عمر بن حنظلة أنتم والله على ديني ودين آبائي.
    ورواية الروضة عنه قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإنّ الناس لا يحملون ما تحملون.
    وممّا يدلّ على وثاقته قبول الأصحاب رواياته ، كما أنّ مستند الرؤية منحصر بروايته (1).
    وقال العلّامة التبريزي في تعليقته على الرسائل ، وهي المسمّاة بأوثق الوسائل : وصف المقبولة في البحار بالصحّة ، ووصفها في الوافية بالموثّقية ، وليس في السند من يوجب القدح فيه إلّا رجلان.
    1 ـ داود بن حصين ، وقد وثّقه النجاشي وقال : كوفي ثقة ، وعن الشيخ محمّد
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : 192.

    ابن صاحب المعالم أنّه إذا قال النجاشي : ثقة ، ولم يتعرّض لفساد المذهب فظاهره أنّه عدل إمامي لأنّ ديدنه التعرّض للفساد ، فعدمه ظاهر في عدم ظفره ، وهو ظاهر في عدمه ، لبعد وجوده مع عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته ، وعليه جماعة من المحقّقين.
    وقال الشيخ في رجاله في أصحاب الكاظم (عليه‌السلام) : إنّه واقفيّ. فمن وصف الرواية بالصحّة نظر إلى توثيق النجاشي ، ولا يعارضه قول الشيخ لكون النجاشي أثبت وأضبط كما قيل. ومن وصفها بالتوثيق جمع بين الوقف والثقة ، وإلى عدم ثبوت كون مراد النجاشي هو التعديل ، وإلى تقدّم الجرح على التعديل.
    2 ـ عمر بن حنظلة : ولم يذكره أصحاب الرجال بمدح ولا ذمّ ، إلّا الشهيد الثاني في شرح بداية الدراية حيث قال : إنّ عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب عليه بجرح ولا تعديل ولكن حقّقت توثيقه من محلّ آخر. وقال ولده المحقّق الشيخ حسن : فيه ما هو غير خفي على من راجع كتب الرجال. وكيف كان فلا تأمّل في قبول الرواية ، لقبول الأصحاب لها مضافاً إلى رواية المشايخ الثلاثة في كتبهم. انتهى (1).
    ويرى العلّامة السيّد رضا الصدر (قدس‌سره) : إنّ قبول الأصحاب رواية راوٍ لم يوصف بجرح كالمعدّل له ، كما يقرّ به من حدّ الوسط والشكّ إلى طرف الوثاقة والتعديل. كما صرّحوا في باب العدالة بأنّ الشهادة الفعليّة بعدالة أحد تقوم مقام
    __________________
    (1) المصدر : 193.

    الشهادة القوليّة. كما أنّ الحديث يكون صحيحاً في اصطلاح القدماء للصحيح فإنّ الوثوق بصدوره حاصل من رواية المشايخ المحامد الثلاثة ، ومن اشتهاره بين الأصحاب ، ومن تلقّيهم له بالقبول ، وعملهم به في باب التعارض بين الأخبار.
    وقد ترجمه العلّامة المامقاني (قدس‌سره) بالتفصيل في كتابه القيّم (تنقيح المقال) (1) ، وقد ذكر بعض الروايات كما ذكرناها وأنّها تدلّ على وثاقة الرجل كما ذكر مؤيّدات لذلك وقال أخيراً : الأقوى وثاقة الرجل.
    ولهذا اشتهرت بين الأصحاب بالمقبولة ، كما أنّ في سندها صفوان بن يحيى وهو من أصحاب الإجماع ، فالسند لا غبار عليه ، كما هو المختار.
    وأمّا المناقشة في الدلالة :
    1 ـ فقيل : إنّ المراد من المقبولة هو قاضي التحكيم المختصّ بزمان الحضور ، فإنّه لا سبيل إلى حملها على باب القضاء ؛ لأنّ القاضي في الإسلام لا يكون في المرافعة إلّا واحداً ، كما إنّه ليس تعيين القاضي بيد المتخاصمين معاً ، بل هو من حقّ المدّعى أوّلاً ، كما لا سبيل إلى حملها على باب الفتوى ، لظهور قوله : فتحاكما إلى السلطان هو غير المفتي ، كما إنّه ليس من وظائف المستفتي عند تعارض أقوال المفتين هو الرجوع إلى المرجّحات ، وصعوبة ذلك عليه غالباً ، فيتعيّن حمل المقبولة على قاضي التحكيم المختصّ بزمان الحضور ظاهراً كما يشهد بذلك قوله (عليه‌السلام) في ذيل
    __________________
    (1) تنقيح المقال 1 : 242.

    الرواية : (فأرجه حتّى تلقى إمامك) فالشبهة وإن فرضت حكمية ، إلّا أنّ إزالتها بهذه الكيفية ليس بيد المستفتي.
    2 ـ ثمّ عدم القول بالفصل وبطلان الإجماع المركّب كما مرّ ، لا ينفع في مقام الاحتجاج ، فإنّ المفيد هو نفي الفصل وهو غير ثابت في المقام.
    قال المحقّق الأصفهاني : والإجماع على الملازمة ، بين لزوم الرجوع إلى الأفضل ولزوم الترافع عنده غير مسلّم ، وعهدته على مدّعيه. وعلى فرض ثبوته لا دلالة للمقبولة على لزوم الترافع عند الأفضل حتّى يجب تقليده بالإجماع على الملازمة.
    3 ـ هذا ويمتاز المجتهد عن الحاكم بمزايا عديدة ، فلا يقاس أحدهما على الآخر ، فإنّه لا يجوز تقليد المجتهد عن غيره ، وإن جاز ترافع المجتهدين إلى ثالث.
    4 ـ كما لا يجوز الحكم عن مجتهد بما يخالف حكم القاضي ، وإن جاز الإفتاء بخلاف فتوى المجتهد الثاني.
    5 ـ كما في القضاء إنّما يكون مع عنوان الخصومة ، ولكن في الإفتاء إنّما هو التسليم لأمر الله سبحانه ، فترجيح حكم أحد الحكمين على ما حكم به الآخر بمزايا وصفات لا يستلزم لترجيح فتوى أحد المجتهدين على ضوء الآخر.
    6 ـ كما أنّ الخصومة لا ترتفع بالتخيير عند مساواة الحكمين في جميع الصفات بخلاف المجتهدين ، فتأمّل.
    7 ـ كما أشكل على الدلالة أيضاً بأنّ الأوصاف الأربعة في الرواية إنّما ذكرت بواو الجمع ، لا (أو) التخيير ، فيلزم اجتماع الأوصاف ، لا الاكتفاء بالأعلمية فقط

    لقوله (أفقههما).
    8 ـ كما إنّ غاية ما يدلّ الخبر هو نفوذ حكم الأعلم ، ولا يعني عدم نفوذ حكم من هو دونه من الفقهاء.
    9 ـ كما لا ملازمة بين نفوذ حكم الأعلم ونفوذ فتواه ، فلا يلزم من المقبولة تعيّن المراجعة إلى فتوى الأعلم وعدم اعتبار فتوى غيره ، فلا مانع بالرجوع إلى الأعلم وغيره عند المعارضة ، وغاية ما يدلّ على سلب حكم غير الأعلم عدم نفوذ حكمه لا عدم نفوذ فتواه. وقد ذكرنا أنّ قياس الفتوى على الحكم قياس مع الفارق.
    10 ـ فلا معنى للتخيير بين الحكمين فإنّه لا ترتفع الخصومة بالتخيير ولمثل هذا قال (عليه‌السلام) : (أرجه إلى أن تلقى إمامك) فأمره بالتوقّف بخلاف إمكان التخيير في الفتوى.
    11 ـ ثمّ الشارع حفظاً لحقوق الناس أمر بأخذ الأعلم في الحكم لقربه بنظره إلى الواقع وهذا بخلاف الفتوى ، فدعوى القطع بوحدة الملاك في باب القضاء وباب الفتوى تهكّم وتحكّم.
    12 ـ كما إنّ الأصدقيّة يصدق في المرجّحية في باب القضاء دون الفتوى.
    13 ـ كما إلحاق الفتوى بالقضاء لعدم القول بالفصل غير ظاهر.
    14 ـ كما إنّ تقديم أفقه الحكمين لو كان في بلد واحد فيكفي ذلك ، بخلاف الأفقه في الفتوى ، فإنّه لا بدّ من ملاحظة كلّ البلاد ، فلو كان في البلد فقيهان أحدهما أعلم من الآخر لا يجوز تقليد الأعلم منهما ، إذا كان في بلد آخر من هو أعلم منهما.

    15 ـ كما أنّها تقتضي ترجيح الأعلم من الحكمين لا الأعلم من جميع الناس المدّعى في المقام.
    فالمقبولة كما لا تدلّ بصدرها على أصل التقليد لا تدلّ بذيلها على لزوم تقليد الأعلم ، فتدبّر.
    ومن الروايات الشريفة : ما ورد في اختصاص الشيخ المفيد بسنده عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال : من تعلّم علماً ليماري به السفهاء ويباهي به العلماء ويصرف به الناس إلى نفسه ، يقول أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ قال : إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر إليه يوم القيامة (1).
    فالرواية تدلّ على أنّه لا يجوز لغير الأعلم أن يتصدّى مقام الإفتاء ودعوة الناس إلى نفسه مع وجود الأعلم ، ولازم ذلك عدم جواز تقليده ، فإنّه لو كان جائزاً لما كان محرّماً؟
    وأُورد عليها بضعف سندها للإرسال ، كما نوقش في دلالتها بأنّه لعلّ المراد من الرئاسة بمعنى الخلافة والإمامة ، فهي التي لا تصلح إلّا لأهلها ، ولا وجه لاشتراط الأعلميّة في الرئاسة المجرّدة عن دعوة الخلافة والإمامة. إلّا أنّه هذا من المصادرة بالمطلوب أوّلاً ، وثانياً ذهب المشهور إلى اعتبار الأعلمية في المفتي المرجع ، نعم
    __________________
    (1) الاختصاص : 251 ، وفي البحار 2 : 110.

    ربما يقال إنّ الحكم فيها إنّما هو من الأحكام الأخلاقيّة الإنسانية ، ولا يستفاد منه الحكم التكليفي الشرعي ، ولكن مع وجود المقتضي وعدم المانع لا ضير في استفادة الحكم الشرعي أيضاً ، فتأمّل.
    ومنها : ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : (أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به) (1).
    فالخبر يدلّ بوضوح على أولويّة الأعلم ، حتّى قال صاحب الذريعة : يستفاد من ذلك تعيّن تقليد الأعلم زائداً على ما استدلّوا به عليه (2).
    لكن قيل في مناقشة الخبر إنّه يدلّ على رجحان تقديم الأعلم ، وما نحتاجه وجوب التقليد شرعاً ، كما إنّ المقصود تقليد الأعلم في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، والأولويّة عامّة ، فأولى الناس بالأنبياء بما جاؤوا به من الأُصول والفروع والمعارف الإلهيّة.
    ومن الروايات التي يستدلّ بها على تقليد الأعلم ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في عهده لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر فقال (عليه‌السلام) : ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم .. إلى أن قال :
    __________________
    (1) قصار الحكم من نهج البلاغة : 96.
    (2) الذريعة 5 : 290 ، الدرّ النضيد 1 : 214.

    وأفقههم في الشبهات وآخذهم بالحجج .. (1).
    والاستدلال إنّما يتمّ به بناءً على شمول الحكم للإفتاء أيضاً. كما ورد الذمّ على من يتصدّى للقضاء وفي المصر من هو أفضل منه.
    فأمير المؤمنين (عليه‌السلام) أمر مالك بأن يختار الأفضل من رعيّته للحكم الذي هو أعمّ من القضاء المصطلح فيعمّ الفتوى ، فيدلّ على وجوب تقليد الأعلم.
    وقد وقعت المناقشة أيضاً من جهة السند والدلالة.
    فقيل بضعف السند للإرسال ، وجوابه واضح فإنّ العهد العلويّ قد ورد في نهج البلاغة ، وقد حقّق أساطين العلم والفنّ سنده بالتفصيل ، كما أنّ هذا العهد بالخصوص ممّا تلقّاه الأصحاب بالقبول خلفاً عن سلف ، وقد شرحوه بشروح كثيرة ومصنّفات قيّمة ، ومتنه أصدق شاهد على صحّته ، فإنّه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ، وإنّه كلام الإمام وإمام الكلام ، فمن يمكنه أن يتفوّه بذلك لولا أبو الحسن أمير المؤمنين أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام).
    وجامع نهج البلاغة السيّد الشريف الرضيّ فإنّه العدل الثقة عند العامّ والخاصّ المؤالف والمخالف ، وقد وثّق أسناد نهج البلاغة وكفى بذلك دليلاً ، فهو كالقرآن الكريم على نسق واحد أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره ، فلا نقاش في السند.
    وأمّا مناقشة الدلالة :
    1 ـ فقيل : ربما المقصود من مراعاة الأفضليّة والأعلميّة في الرعيّة هو من
    __________________
    (1) نهج البلاغة ، الكتاب 53.

    شروط كمال القضاء ، لا من شروط الصحّة.
    2 ـ كما يلزم أن يكون مالك الأشتر أعلم من غيره في مصر وضواحيها ، وأنّى لنا بإثبات ذلك.
    3 ـ كما أنّه غاية ما في الخبر مراعاة الأعلميّة بالنسبة إلى رعيّته ، لا على نحو الإطلاق في الفتوى.
    4 ـ كما إنّ قياس باب القضاء بباب الإفتاء إنّما يتمّ مع تنقيح المناط ووحدة الملاك وإلغاء الخصوصيّة ، وأنّى لنا بإثبات ذلك ، كما مرّ في المقبولة.
    5 ـ كما لا يستفاد العموم بالنسبة إلى النائب العامّ ، بل تعتبر تلك الأوصاف في القاضي المنصوب من قبل الإمام (عليه‌السلام) بالمباشرة أو نائبه الخاصّ كمالك الأشتر.
    6 ـ كما إنّ الأفضليّة لا تساوي الأعلميّة ، بل ربما تكون بمزايا اخرى كالأعدليّة والحنكة السياسيّة وما شابه ذلك ، فلا تساوي بين الدليل والمدّعى كما هو المفروض.
    ومنها : ما عن عيون المعجزات أنّه لمّا قبض الرضا (عليه‌السلام) كان سنّ أبي جعفر (عليه‌السلام) نحو سبع سنين فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد ، وفي الأمصار في حقّه فخرج جماعة من الفقهاء إلى المدينة ، وأتوا دار جعفر الصادق (عليه‌السلام) فسألوا عن عبد الله بن موسى عن مسائل فأجابهم عنها بغير الواجب ، فأوجب حيرتهم وغمّهم واضطرابهم ، إلى أن دخل عليهم الإمام أبو جعفر الجواد (عليه‌السلام) فسُئل عن مسائل فأجاب عنها بالحقّ ففرحوا ودعوا الله ، وأثنوا عليه فقالوا له : إنّ عمّك

    عبد الله قال كيت وكيت ، فقال (عليه‌السلام) : لا إله إلّا الله يا عم : إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتِ عبادي بما لا تعلم ، وفي الأُمّة من هو أعلم منك (1).
    فيحرم الإفتاء من غير الأعلم ، ولازمه عدم جواز تقليده ، ومفهومه وجوب تقليد الأعلم.
    إلّا أنّه نوقش أوّلاً في السند بضعفه للإرسال ، وثانياً ظاهر الخبر أنّه يتعلّق بأمر الخلافة والإمامة فلا تدلّ على المطلوب إلّا مع إلغاء الخصوصيّة ، وإثبات وحدة الملاك وتنقيح المناط ، كما إنّ فتوى عمّ الإمام كان من دون علم ، وهذا خارج عمّا نحن فيه ، فتأمّل.
    الإجماع :
    لقد حكي عن المحقّق الثاني دعوى الإجماع على وجوب تقليد الأعلم ، إلّا أنّ السيّد المرتضى في الذريعة نقل الاختلاف ، كما إنّ الشيخ الطوسي في العدّة وابن زهرة في الغنية عند تعرّضهما لشرائط المفتي لم يذكرا شرط الأعلميّة ، وقد اشتهر ابن زهرة بكثرة دعواه للإجماع. كما حكى صاحب المعالم القول بالتخيير ، ومنع في الفصول وقوع الإجماع ، فما قاله المحقّق ربما يكون بمعنى اتّفاق الفقهاء في عصره (2).
    __________________
    (1) بحار الأنوار 50 : 100.
    (2) الاجتهاد والتقليد ؛ للسيّد رضا الصدر.

    هذا والإجماع المعتبر فيما لو كان تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه‌السلام) ، وأمّا إذا كان مدركيّاً يعتمد على مدرك ، فليس بحجّة ، بل نرجع إلى المدرك ، فإن قلنا به ، فندخل مع المجمعين وإلّا فلا.
    ومن الأعلام من منع عن الإجماع في الصغرى لمخالفة جملة من المتأخّرين في ذلك ، وفي الكبرى لاحتمال استناد المجمعين إلى سائر الوجوه.
    وقيل : عمدة من حكى عنه دعوى الإجماع السيّد المرتضى والمحقّق الثاني ، وفي الجواهر : (لم نتحقّق الإجماع على المحقّق الثاني ، وإجماع المرتضى مبنيّ على مسألة تقليد المفصول في الإمامة العظمى مع وجود الأفضل وهو غير ما نحن فيه ، وظنّي والله أعلم اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك).
    سيرة العقلاء :
    ممّا يستدلّ على وجوب تقليد الأعلم بناء العقلاء وسيرتهم ، فإنّهم في قضاياهم العامّة والخاصّة ، الفرديّة والاجتماعية يرجعون إلى الأفضل عند تعارض آراء الخبراء.
    والسيّد الخوئي (قدس‌سره) يرى أنّ عمدة أدلّة القائلين بوجوب تقليد الأعلم إذا اختلف مع غيره هو بناء العقلاء (1).
    ويرى السيّد الحكيم (قدس‌سره) : ومقتضى بناء العقلاء تعيّن الرجوع إلى الأفضل ، إنّ
    __________________
    (1) دروس في فقه الشيعة 1 : 79.

    التشكيك في ثبوت بناء العقلاء يندفع بأقلّ تأمّل (1).
    ثمّ العمدة في قبول بناء العقلاء وكفايته أن لا يرد ردع بذلك من الشارع المقدّس ، وما نحن فيه لو كان الردع لبان ، ولمّا لم يكن فنكشف إمضاءه لهذه السيرة ، فيلزم تقليد الأعلم في أحكام الشرع أيضاً. هذا غاية ما يقال في بناء العقلاء في الباب.
    ولكن ربما يناقش بوجوه :
    الأوّل : لا يستفاد منه اعتبار الأعلميّة مطلقاً ، بل يقلّد الأعلم إذا كان فتوى غيره مخالفة للاحتياط ، وإلّا فيرجع إلى غير الأعلم فيما لو وافق الاحتياط ، كأن يفتي الأعلم بالإباحة وغيره بالوجوب.
    وعند موافقتهما في الفتوى فإنّهم يحرزون المراجعة إلى أيّ منهما ، وإن كان يرجّح الرجوع إلى الأعلم لا سيّما مع احتمال المخالفة ، وإنّما يجوّزون الرجوع إلى أحدهما عند موافقتهما لوجود الملاك في رأي كلّ منهما ، وكاشفيّة كلّ منهما عن الواقع.
    وعند العلم بمخالفتهما في الفتوى إجمالاً أو تفصيلاً ، وكان فتوى غير الأعلم مخالفة للاحتياط ، أو كان كلّ منهما موافقة من جهة ومخالفة من جهةٍ أُخرى ، فالظاهر من سيرتهم هو الرجوع إلى الأعلم ، وإذا كان غيره يوافق الاحتياط أو يقول به فيؤخذ بقوله من باب الاحتياط لا الحجّية ، فتدبّر.
    __________________
    (1) المستمسك 1 : 28.

    الثاني : ليس على نحو الإطلاق عند العقلاء يرجعون إلى الأعلم عند اختلاف الرأي ، فلو قال الطبيب الأعلم بإجراء عملية جراحيّة لمريض ولو لا ذلك لمات ، وقال الآخر بخلافه بأنّه لو أتى بالعملية فإنّه يموت ، ففي مثل هذا الموقف لا يأخذون برأي الأعلم ، وكذا لو قوّم الأفضل الدار بثمن قليل وغيره قوّم بالأكثر ، فلا يعمل بقول الأعلم من دون تأمّل وتردّد.
    الثالث : أنّ ملاك السيرة في اتباع الأعلم والأفضل هو الوثوق والاطمئنان النفسي بقوله ، وربما يحصل هذا الملاك في غير الأعلم ، كما لو كان قوله موافقاً للاحتياط.
    حكم العقل :
    ويقرّر ذلك بوجوه :
    الأوّل : قيل : لو خلّي العقل ونفسه فإنّه يحكم بلزوم تقليد الأعلم عند الاختلاف ، وذلك من الشكل الأوّل وهو بديهي الإنتاج ، من صغرى وجدانيّة أو عقليّة وكبرى عقليّة ، بأنّ رأي الأعلم أقرب إلى الواقع من رأي غيره ، وكلّما كان كذلك فيجب اتباعه ، فرأي الأعلم يجب اتباعه.
    وإنّما رأي الأعلم أقرب ، لمعرفته على خصائص أكثر من غيره ، سواء أكانت الخصائص عبارة عن الأحكام التي نزلت على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو الطرق الشرعيّة أو العقلائيّة الممضاة شرعاً أو الأُصول العمليّة أو غير ذلك.
    ولمّا كان مؤدّى الأمارات وقول المجتهد هو الطريقيّة للواقع ، فيجب الأخذ

    بكلّ طريق يوصلنا إليه ، ولا يجوز العدول إلى غيره ، فيجب تقليد الأعلم.
    وأُورد عليه صغرويّاً وكبرويّاً بمنع الأقربيّة وبمنع وجوب الترجيح بالأقربيّة عند التعارض ، توضيح ذلك :
    ففي الصغرى أنّه لا يلزم ذلك دائماً ، فإنّه قد يوافق نظر غير الأعلم نظر المجتهد الميّت الأعلم منهما ، أو الأعلم الفاسق الفاقد لشرائط التقليد أو كان موافقاً لقول المشهور فيلزم أن يكون أقرب للواقع من الأعلم ، إلّا أن يقال بأنّ المراد من الأقربيّة هي الاقتضائيّة ، فهو أقرب في ذاته وطبعه ، إلّا أنّ العقل لا يرى الفرق في ذلك.
    وأمّا الإيراد في الكبرى فقيل إنّ الأحكام العقليّة تارةً على نحو البتّ والقطع كاجتماع النقيضين محال ، وأُخرى في مقام الامتثال فإنّه يحكم بوجوبه عند الاشتغال فيما لو خلّي ونفسه ، وللشارع أن يجعل الأمارة حجّة في عرضه ويعبّدنا بذلك ويكفي عن الامتثال العلمي القطعي ، فيجوز للشارع أن يعبّدنا برأي غير الأعلم أو التخيير بينه وبين الأعلم إذا كانت المفسدة في الرجوع إلى الأعلم أو كانت المصلحة في التوسعة على المكلّف ، فلم تتمّ الكبرى حينئذٍ ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات ، فإذا قيل كلّ إنسان جسم وكلّ جسم متحيّز ويمكن أن لا يكون متحيّزاً ، فإنّه لا ينتج كلّ إنسان متحيّز.
    كما نوقشت الكبرى بنحو آخر : بأنّ المدعي لوجوب تقليد الأعلم لا بدّ له من إثبات أحد أمرين : إمّا إثبات أنّ الأخذ بفتوى غير الأعلم أو التخيير بينه وبين الأعلم من ترجيح المرجوح على الراجح ، كما يقبح عقلاً الحكم بالتساوي بينهما مع

    أعلميّة أحدهما (1).
    أو إثبات أنّه علم من الشارع بأنّه لا يرضى بترك الواقعيّات على كلّ حال وإن لزم ما لزم. ودون إثباتهما خرط القتاد. للأخذ بالنصّ القاطع في ذلك ، كما أمضى الشارع الأمارات والأُصول العقلائيّة حتّى لو خالف الواقع ، ونكشف بذلك عدم لزوم مراعاة الأحكام الواقعيّة وإن لزم ما لزم ، فيجوز حينئذٍ للشارع أن يرجع إلى غير الأعلم ، كما أنّه لو تمّ الأمر الثاني للزم العسر والحرج واختلال النظام المنفي ذلك في الشرع المقدّس ، فإنّ فتوى الأعلم ليست مصيبة للواقع دائماً فتدبّر ، فإنّه لو تمّ الأمر الثاني للزم انهدام أساس الفقه المبتني على الأخبار الآحاد والأُصول العمليّة وما شابه.
    الثاني : لقد ثبت في لزوم التقليد أنّ العامي في مقام العمل لا بدّ له من الحجّة الشرعيّة ، فإن لم يحصل له بنفسه فلا بدّ أن يستند إلى من له الحجّة ، ولمّا كان الأعلم أكثر إحاطة بالجهات الموجبة للاستنباط والدخيلة فيه ، وأكثر شمولاً بالمدارك الشرعيّة والعقليّة للأحكام ، فيلزم أن يكون أقوى نظراً من العالم.
    فهو أوثق بمقتضيات الحجج الشرعيّة والعقليّة ، فيكون بالنسبة إلى غيره كنسبة العالم إلى الجاهل ، فالعقل في مقام إبراء الذمّة يرى حجّية رأيه وفتواه بناء على أنّه أوثق بمقتضيات الحجج ، فيجب تقليد الأعلم حينئذٍ عقلاً ، وإلّا يلزم التسوية بين الجاهل والعالم وهو غير جائز بحكم العقل.
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 317 ، نقلاً عن الإمام الخميني (قدس‌سره).

    وأُجيب أنّه من مصاديق الأقربيّة ، فيرجع إلى الوجه الأوّل ، ثمّ كيف يلزم أن تكون النسبة بين العالم والأعلم نسبة الجاهل والعالم ، وكلاهما مجتهدان ، كما لا يرجع العالم إلى الأعلم ، فلو كان بمنزلة الجاهل لوجب عليه تقليد الأعلم ، والحال ربما يخطأه في مقام الاستنباط. كما إنّ السيرة العقلائيّة بعدم رجوعهم إلى الجاهل دون الفاضل مع وجود الأفضل فلا يردّون قوله مطلقاً. ثمّ الحكم على العالم بالجهل يحتاج إلى دليل تعبّدي وتنزيل من جانب الشرع ، وكيف يسلب منه العناوين الواردة في الروايات كالعارف والفقيه والراوي بمجرّد مخالفته لقول الأعلم. كما إنّ قول العالم حجّة عند عدم مخالفته للأعلم بخلاف الجاهل فلا حجّة في قوله أصلاً. فقياسه بالجاهل قياس مع الفارق من وجوه عديدة ، فليس تعارض الحجّتين كتعارض الحجّة واللاحجّة. كما يمكن أن يكون ملاك الحجّية في التقليد هو الإحاطة بمقدار من الجهات الموجب لصدق عنوان الفقيه والعالم ، فعنوان العالم والجاهل من الأُمور الإضافيّة فربما يكون جاهلاً بالمقدار الزائد الملغى اعتباره في ملاك الحجّية ..
    الثالث : بحكم العقل لا يجوز العدول من الأفضل إلى المفضول ، فإنّه عدول عن أقوى الأمارتين إلى أضعفهما.
    وأُجيب : إنّ هذا من المصادرة بالمطلوب ، فإثبات قول الأفضل أقوى الأمارتين شرعاً أوّل الكلام ، وكذا عدم جواز العدول مطلقاً عن أقوى الأمارتين ، كما إنّ هذا الوجه قريب إلى ما سبق فهو من مصاديقه ، وقد عرفت ما في الوجهين السابقين ، فتأمّل.

    وجوه جواز تقليد غير الأعلم ومناقشتها
    ذهب جمع من الأعلام إلى جواز الرجوع إلى العالم مع وجود الأعلم ، ويستدلّ على ذلك بالكتاب والسنّة وسيرة المتشرّعة وحكم العقل.
    الكتاب الكريم :
    أمّا الكتاب الكريم ففي قوله تعالى في آية النفر :
    (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
    وقد مرّ الكلام في الاستدلال بها عند بيان مشروعيّة أصل التقليد. فهي تدلّ على وجوب التحذّر العملي عند إنذار المنذر مطلقاً ، سواء أكان هناك من هو أعلم منه أم لا؟ إلّا أنّه يقال ظاهر الآية في التحذّر هو التحذّر النفساني من إنذار المنذرين بذكر الجحيم وما فيها من العذاب ، ولا يكاد يحصل بمجرّد الفتوى والأخبار ، ولكن العموم يشمله ، كما يحصل الإنذار والتخويف عند مخالفة الفتوى.
    وفي قوله تعالى في آية الذكر :
    (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
    فإنّها مطلقة وإنّ المراد هو السؤال عمّن شاؤوا من أهل العلم والذّكر ، مع العلم باختلافهم في الفهم والعلم ، واتّفاقهم في رأي قليل نادر ، والمسؤول في الآية إمّا جميع أهل العلم وهو مقطوع البطلان ، أو الواحد المعيّن منهم أو غير المعيّن

    وكلاهما غير مراد ، فيبقى الفرض الرابع بأن يسأل عمّن شاء من أهل العلم سواء كان غيره أفضل منه أو لا؟ ولكن ربما يقال أنّ الآية ناظرة إلى أهل الكتاب في التفسير ، أو الأئمة الأطهار في التأويل ، ولكنّ المورد لا يخصّص ، إلّا أنّه ربما يقال بأنّ الانصراف إلى رجوع مطلق الجاهل إلى العالم يمنع عن الإطلاق وشمولها لاختلافهم ، أو تعارض الأفضل مع الفاضل ، فالآية لبيان أصل الحكم والمعنى العرفي الارتكازي وهو رجوع الجاهل إلى العالم.
    وأمّا السنّة الشريفة :
    فمنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، ومورد الاستدلال صدرها في قوله (عليه‌السلام) : من كان منكم ممّن روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً.
    كيفية الاستدلال : أنّها دلّت على نفوذ حكم من جمع هذه الأوصاف مطلقاً ، وهي : العارف ، الراوي ، الناظر في الحلال والحرام. فصدر المقبولة يدلّ على نفوذ حكم الفقيه مطلقاً حتّى لو كان من هو أفضل منه ، وفي ذيلها دلّت على الأفقه وترجيح الأعلم إلّا أنّه عند الاختلاف في الحكم ، ثمّ مورد المقبولة وإن كانت الخصومة والقضاء إلّا أنّ إطلاقها يعمّ الشبهات الحكميّة وباب الإفتاء ، ولازم نفوذ حكم الحاكم نفوذ فتواه المستندة لحكمه أيضاً ، فمن باب تنقيح المناط يتعدّى من باب القضاء إلى باب الإفتاء ، ولا يلتفت إلى تضعيف السند فثبت المطلوب.
    ولكن قد مرّت المناقشات الدلاليّة ، ومن الصعب تعدّي الحكم من القضاء

    إلى الإفتاء مع وجود الفوارق الكثيرة بينهما ، ومن الصعب إلغاء الخصوصيّة في باب القضاء ، كما يصعب استفادة الأولويّة لعدم فهم العرف من ذلك كما في المفهوم الموافق في آية الافّ (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ).
    ومثل المقبولة سنداً ودلالة روايتا أبي خديجة (1) ، قال : بعثني أبو عبد الله (عليه‌السلام) إلى أصحابنا فقال : قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداعي في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى سلطان جائر (2).
    قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا ن خ) فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه).
    ومنها : قوله (عليه‌السلام) كما مرّ في جواب أحمد بن حاتم وأخيه في الكتاب الشريف : فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما
    __________________
    (1) الوسائل ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.
    (2) الوسائل ، باب 1 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.

    كافوكما إن شاء الله.
    كيفيّة الاستدلال : بإطلاق الخبر وأنّ المقصود من كلّ مسنّ وكلّ كثير القدم بيان صفات المفتي ولشخص واحد فكما يحصل الفقه للمسنّ في محبّة أهل البيت (عليهم‌السلام) كذلك يحصل لمن كان كثير القدم في أمرهم وإن لم يكن مسنّاً. فعموم الخبر وإطلاقه يدلّ على جواز تقليد غير الأعلم مع وجوده واختلافه ، فكما يدلّ الخبر على التخيير في المتساويين في الفضل كذلك يدلّ على المتفاضلين في العلم.
    وأُورد عليه بضعف السند للإهمال ، إلّا أنّه رواه الكشّي في مقدّمة كتابه في مقام مدح الرواة ، فيكشف عن وثوقه بصدوره وصحّته عنده ، فإنّه يستبعد الاحتجاج والاستشهاد بحديث ضعيف في مثل هذا الكتاب الذي وضع لبيان الموثّق من غيره. نعم في دلالة الخبر ربما يمنع الإطلاق الانصراف إلى جواز التقليد من الفاضل مع وجود الأفضل عند عدم اختلافهما ، وإلّا فيرجع إلى الأعلم.
    ومنها : ما رواه الصدوق في كتاب إكمال الدين ، والشيخ في كتاب الغيبة ، والطبرسي في الاحتجاج في التوقيع المبارك عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت عليّ ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه‌السلام) : أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك .. إلى أن قال : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله (1).
    __________________
    (1) الوسائل ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.

    كيفيّة الاستدلال : الظاهر من مناسبة الحكم والموضوع أنّ المراد من الحوادث الواقعة هي القضايا الدينيّة والأحكام الشرعيّة المشتبهة التي لم يعلم حكمها ، كما إنّ الظاهر من الإرجاع إلى الرواة ليس مجرّد روايتهم بل على نحو يوجب حلّ المشكلة الواقعة بإبداء رأيهم في المقام ، كما إنّ كثير من الرواة كانوا من أهل الفتوى أيضاً ، ثمّ قولهم حجّة وهذا يعني بيان آرائهم وفتواهم ، كما قوله (عليه‌السلام) : (أنا حجّة الله) يعني كما يجب اتباعه كذلك يجب اتباع الفقيه في رفع المشاكل والحوادث الواقعة مطلقاً.
    ثمّ لا يتوهّم الرجوع إلى كلّ الرواة ولا خصوص الأعلم منهم ، بل الظاهر حجّية كلّ واحد منهم كما هو مقتضى الإطلاق.
    وأُورد على التوقيع بضعف السند لعدم الاطلاع على حال إسحاق بن يعقوب ولم ينقل منه في المجاميع الروائية إلّا هذا الخبر ، وبمجرّد هذا لا يستدلّ على وثاقته.
    وأُجيب أنّ الظاهر من نهاية التوقيع أنّ إسحاق بن يعقوب هو أخ محمّد بن يعقوب الكليني (قدس‌سره) ، ففي الإكمال في آخر التوقيع (السلام عليك يا إسحاق بن يعقوب الكليني) (1).
    كما يذكر جامع الرواة جلالة الرجل بعد بيان التوقيع قائلاً : وقد يستفاد ممّا تضمّنه علوّ رتبة الرجل ، فتدبّر (2). ثمّ كيف يروي الكليني مع جلالة قدره عن
    __________________
    (1) إكمال الدين : 262.
    (2) جامع الرواة 1 : 89.

    رجل مجهول الحال ، وكيف يقول بخطّ صاحب الزمان ، وكيف ينقلها الصدوق من دون اعتباره.
    كما أُورد على التوقيع بضعف الدلالة ، فإنّه ربما ورد في خصوص القضاء ولا يقاس عليه الإفتاء فلا عموم في المقام ، كما إنّه لو دلّ على العموم فإنّه لا يدلّ على إطلاق يعمّ ما لو اختلف مع الأعلم فلم يثبت عند العقلاء حجّية كلّ من الفاضل والمفضول وكشفهما الواقع عند معارضتهما ، بل إمّا حجّية الأعلم أو سقوطه.
    ومنها : ما ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) وروى الشيخ الحرّ العاملي شطراً منها في الوسائل عن احتجاج الطبرسي ، فقال (عليه‌السلام) : (وأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه) (1).
    كيفيّة الاستدلال : أنّ من كان واجداً لهذه الصفات المذكورة في الرواية فإنّه يصحّ المراجعة إليها مطلقاً سواء خالف الأعلم أو لم يخالف. كما إنّ الاختلاف بين الأعلام كثير ، فحمل الرواية على توافقهما من الحمل على الفرد النادر وهو قبيح.
    وأُورد على السند بأنّ التفسير ممّا ثبت عدم صحّته وصدوره عن المعصوم (عليه‌السلام) والمحقّق التستري قد ناقش السند وأنّه كيف يثبت الحكم الشرعي برواية انفرد به هذا التفسير (2). ولم ينجبر بعمل الأصحاب لاحتمال اعتمادهم على
    __________________
    (1) الوسائل ، باب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20.
    (2) الأخبار الدخيلة 1 : 152.

    الأدلّة الأُخرى. إلّا أنّ الشيخ الحرّ العاملي في خاتمةٍ ، وكذا الشيخ النوري في خاتمة المستدرك وصاحب الذريعة دافعوا عن السند.
    كما نوقشت الدلالة بأنّها وردت في تقليد عوام اليهود من علمائهم ، والتقليد في أُصول الدين باطل ، كما إنّ الرواية في صدد بيان الفرق بين عوام اليهود وعوام وعوامنا فلا إطلاق فيها يعمّ وجود الأفضل فكيف مع العلم بالمخالفة.
    أضف إلى ذلك ربما وردت الرواية لبيان اشتراط الإيمان في المرجع من دون تعرّض لمن يرجع إليه حتّى يقال بعمومه ، وكم لها من نظير كما في كتاب أبي الحسن (عليه‌السلام) لعليّ بن سويد من قوله : (لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين) (1).
    ومنها : ما يستدلّ بالنصوص الكثيرة التي تتضمّن إرجاع الأئمة (عليهم‌السلام) إلى آحاد أصحابهم كأبي بصير ومحمّد بن مسلم والحارث بن المغيرة والمفضّل بن عمر ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم والعمري وابنه كما جاء في الوسائل ورجال الكشّي ، ومع إلغاء الخصوصيّة فيها والتعدّي لجميع موارد سيرة العقلاء يحكم بالعموميّة ، لا سيّما مع ما في بعضها من التنبيه بأنّ ملاك الإرجاع هو الأمانة والوثاقة وما شابه من شرائط المفتي وبإطلاق هذه الطائفة من الروايات يستدلّ على تقليد الفقيه مطلقاً وكفاية الوصول إلى رتبة الفقاهة في المرجع وعدم اشتراط وصف
    __________________
    (1) الوسائل : 18 ، باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 21.

    الأفضليّة عندهم (عليهم‌السلام) فيه.
    إلّا أنّه أُورد عليه بأنّ الملاك فيها هو وثوق الأئمة بدين الشخص وعلمه ، وهذا لا يستلزم جواز التقليد لكلّ من يثق به المكلّف.
    ومنها : ما رواه الكشّي بسنده عن جميل بن درّاج ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : (بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) بالجنّة : بريد بن معاوية العجلي ، وأبا بصير ليث ابن البختري المرادي ، ومحمّد بن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أُمناء الله على حلاله وحرامه ، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست (1).
    وما رواه بسنده عن سليمان بن خالد ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلّا زرارة وأبا بصير ليث المرادي ومحمّد ابن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، ولو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط ، هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة (2).
    فظاهر الخبرين هو الإرجاع إلى أيّهم على سبيل التخيير ، ويبعد تساويهم في الفضيلة ، وربما يستحيل عادةً. كما إنّ إطلاق قوله (عليه‌السلام) يشمل اتفاقهم في الفتيا أو اختلافهم.
    __________________
    (1) اختيار معرفة الرجال ، الجزء 2 ، في ترجمة أبي بصير ليث بن البختري المرادي.
    (2) المصدر ، الجزء 2 ، الرقم 219.

    ومنها : الخبر المشهور عند جمهور العامّة عن الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، أنّه قال : (أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم).
    وكيفيّة الاستدلال كما أشار إليه الشيخ الأعظم (قدس‌سره) أنّه يستفاد من الخبر بعد إلغاء خصوصيّة الصحابيّة ، إنّ من كان في رتبتهم ومنزلتهم من العلم والفضيلة يصحّ المراجعة إليه مع وجود الاختلاف بينهم ، فيجوز الرجوع إلى أيّهم وإن لم يكن الأعلم.
    وأُجيب : بضعف السند فإنّها عاميّة ، ثمّ ربما المراد كما هو الظاهر اتباعهم في أفعالهم الصالحة وليس تقليدهم في الأحكام الفرعيّة ، وإن قيل بالعموم ففي الصدر الأوّل لم يكن الاختلاف في الفتوى إلّا نادراً.
    سيرة المتشرّعة :
    إنّ سيرة المتشرّعة الإماميّة منذ عصر الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) إلى عصر الشيخ الأنصاري جارية على رجوع العوام إلى المجتهدين الذين بحواليهم وبقربهم وإن احتمل أن يكون فقيهاً أعلم بعيداً عنهم ، كما يشهد على ذلك كلام عليّ بن أسباط : (قلت للرضا (عليه‌السلام) : يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال : فقال : ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه) (1).
    __________________
    (1) الوسائل ، باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 24.

    واحتمال عدم علمهم بالاختلاف في الفتوى أو بالتفاضل بين الفقهاء بعيد جدّاً ، بل الاطمئنان على خلافه.
    ويظهر من سيرة الأئمة (عليهم‌السلام) أنّهم كانوا يرجعون الشيعة في كلّ ناحية إلى الفقيه الذي كان قريباً منهم ، فالإمام الهادي (عليه‌السلام) يرجع أهل الريّ إلى السيّد الكريم عبد العظيم الحسني ، فلو كان الأعلم شرطاً لكان الإرجاع منهم إلى الأوحديّ من صحابتهم.
    وأورد المحقّق الخراساني في الكفاية على الاحتجاج بالسيرة بأنّها ممنوعة عند العلم بالاختلاف في الفتوى ، ومن دون الفحص عن الأعلم مع العلم بأعلميّة أحدهم.
    وأُجيب بأنّ سيرتهم في عصر المعصومين عند الاستفتاء لم تكن قائمة على الفحص عن الأعلم فإنّها لو كانت لبانت ، فإنّها ليس ممّا تخفى وموردها ممّا يبتلى به الناس. كما يبعد عادة اتفاقهم في جميع الفتاوى ، بل قيل نسبة مورد اتفاق الفتاوى في الأحكام إلى مورد الاختلاف كنسبة الآحاد إلى المئات ، فالعلم بالاختلاف في الفتوى كان محقّقاً وثابتاً ، والذي لم يتحقّق هو العلم بعدم الاختلاف ، كما يكفي صرف عدم قيام السيرة على الفحص عن الأعلم عند قصد الرجوع.
    كما أورد السيّد الحكيم في المستمسك : بأنّ مجرّد قيام السيرة على الرجوع إلى المختلفين في الفضيلة لا يجدي في جواز الرجوع إليهم مع الاختلاف في الفتوى ، فالرجوع إلى المفضول مع العلم بالخلاف وإمكان الرجوع إلى الأعلم بعيد جدّاً.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:55

    وجوه ونقاش
    وهنا وجوه أُخرى قابلة للنقاش أكثر من غيرها ، نتعرّض لها تبعاً للأعلام :
    منها : في الاقتصار على الأعلم يلزم العسر والحرج المنفيين شرعاً ، وذلك من جهة تشخيص مفهوم الأعلم وفي معرفة مصداقه ، وصعوبة تعلّم آرائه وتعسّر تحصيل فتاواه ، فيلزم نفي وجوب تقليد الأعلم بدليل نفي الحرج ، ولو في بعض المراحل.
    وأُجيب : إنّ مفروض الكلام فيما لم يلزم العسر ، كما تشهد سيرة المتشرّعة المعاصرة على خلاف ذلك ، ولكن هذا مع التطوّر العلمي وسهولة الارتباط ، وهذا بخلاف العصور المتقدّمة ، فإنّه يصدق العسر والحرج في الجملة.
    ومنها : لو وجب الرجوع إلى الأعلم لوجب الرجوع إلى الأئمة (عليهم‌السلام) ، وذلك خلاف السيرة.
    وأُجيب : إنّ مفروض الكلام في الفقهاء العارفين بأقوال الأئمة (عليهم‌السلام) ، فإنّ الأئمة (عليهم‌السلام) خرجوا عن محلّ البحث موضوعاً ، وإلّا لزم التقليد من الله عزوجل مباشرةً. وهو كما ترى.
    ومنها : عدم الدليل دليل العدم ، فلو كان تقليد المفضول حراماً عند الشرع

    لبان ذلك بإشارة أو دلالة كما ورد حرمة التقليد ممّن لا يصلح للإفتاء ، كما لو كان تقليد المفضول حراماً لورد من الشرع الأمر بوجوب الفحص عن الأعلم ، ولمّا لم يصل إلينا ذلك ، فإنّه يدلّ على عدم الحرمة.
    وأُجيب : يكفي في وجوب تقليد الأعلم والرجوع إليه ما يقال من الأدلّة الاجتهادية كما مرّ ، والأصل العملي من قاعدة الاشتغال كما سيأتي.
    ومنها : الإطلاق الأحوالي في إرجاعات المعصومين (عليهم‌السلام) إلى فضلاء صحابتهم حاكم بجواز الرجوع إلى ذلك الشخص مطلقاً سواء أكان أفضل من غيره أم لا ، وسواء خالف الغير في الفتوى أم لا.
    وأُجيب : إنّ الإرجاع على نحو الخصوص كالإرجاع على نحو العموم ، إنّما يقتضي الحجّية في الجملة ولا يعمّ صورة الاختلاف كما هو مفروض الكلام ، وإلّا لزم التعارض مع ما دلّ على الإرجاع إلى غير ذلك الشخص بالخصوص.
    إلّا أنّه أشكل على الجواب بأنّ الإرجاعات الواردة من المعصومين (عليهم‌السلام) مطلقاً إنّما تفيد الحجّية الإرشادية فلا تعارض حينئذٍ في المقام ، فإنّ من لوازم الحجّة الإرشاديّة تخيير من له الحجّة في الرجوع إلى أيّ الحجج.
    توضيح ذلك :
    إنّ الدليل ما يقع بعد (لأنّه) ، وهو الحدّ الوسط في القياس ، كما يقال : العالم حادث لأنّه متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث ، فالذي دلّنا على حدوث العالم ، هو التغيير ، وهو الحدّ الوسط ، ويسمّى بالحجّة أيضاً ، كما تقسّم الحجّة في

    المنطق إلى قياس وتمثيل واستقراء. والحجّة بمعنى ما يصحّ الاحتجاج به ، وما يحتجّ به المولى على العبد في مقام المنجّزية ، ويحتجّ به العبد على المولى في مقام المعذّرية.
    ثمّ الحجّة تنقسم بالتقسيم الأوّلي إلى : عقلية وشرعيّة. والأولى هي التي يصحّ التعويل عليها بصورة عامّة عن كلّ سؤال عن السبب ، والثانية هي التي يصحّ الاحتجاج بها في الأُمور الشرعيّة ، أي ما يصحّ التعويل عليها في الفتاوى للفقيه فهي بصورة خاصّة ، وبين الحجّتين نسبة العموم المطلق ، فكلّ شرعيّة عقليّة ، ولا عكس ، فإنّ الحاكم بصحّة الحجّة ، هو العقل.
    وكلّ واحد من القسمين ينقسم إلى حجّة إلزامية وإلى حجّة إرشاديّة ، والأولى بمعنى ما يجب عند العقل التعويل عليه والإلزام ممّا يقتضيه نفس الحجّة ، والثانية ما يجوز التعويل عليه ، والإرشاد يكون من خواصّها.
    1 ـ فالحجج الإلزامية العقليّة : كالبراهين الدالّة على المبدأ وعلى المعاد والنبوّة ونحو ذلك.
    2 ـ والحجج الإرشاديّة العقليّة : كإخبار العالم ، ورأي المتخصّص ، وقول الخبير ، وتصير إلزاميّة عند الرجوع إليها والتعويل عليها.
    3 ـ والحجج الإلزاميّة الشرعيّة : كالأنبياء وأوصيائهم المعصومين فإنّهم حجج الله على العباد فيجب الأخذ بأقوالهم وأفعالهم وتقريرهم والذي يعبّر عنها القول والفعل والتقرير بالسنّة ، وكذلك خبر الثقة. ومن هذا الباب ما ورد عن الإمام الكاظم (عليه‌السلام) : (أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر فلا يجوز لي ردّه) (1).
    __________________
    (1) اختيار معرفة الرجال : 2 ، في ترجمة أحمد بن هلال.

    ولمّا كانت حجّية خبر الثقة إلزاميّة ، فعند تعارض الخبرين يلزم الإشكال ، فإنّ التعويل على المتعارضين لا يجوز عقلاً ، ولمثل هذا يسأل المعصوم عن الخبرين المتعارضين ويتفضّل بالجواب ، كما في الأخبار العلاجيّة.
    4 ـ والحجج الإرشادية الشرعية : التي يجوز التعويل عليها في الشرع هي الفقهاء وأهل الذكر ورواة الأحاديث والناظرون في الحلال والحرام ، فيجوز ابتداءً الأخذ بآرائهم وأقوالهم وفتاواهم إلّا أنّه إذا رجع إلى أحدهم فإنّه تصير حجّة إلزاميّة له ، وإذا رجع إلى آخر فيكون الآخر إلزاميّاً ، ويعود قول من رجع عنه إلى حجّة إرشاديّة ، ومن الواضح عدم وقوع المعارضة بين الحجج الإرشاديّة لعدم وجوب الأخذ بكلّ منهم ، ولذلك لم يقع سؤال عن المعصوم (عليه‌السلام) عن حكم اختلاف فقيهين في الفتوى مع كثرة اختلاف الفقهاء في الفتيا (1).
    وممّا يستدلّ به على جواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل في التقليد هو سيرة أبناء العامّة ، فإنّها كانت في عصر المعصومين (عليهم‌السلام) على مرأى ومسمع منهم ، فإنّهم يرجعون إلى أيّ واحد من فقهائهم ، فلو كانت غير مرضيّة لهم لأخبروا شيعتهم بذلك ، كما أخبروا ببطلان القياس والاجتهاد بالرأي ، وهذه السيرة في الأُمور الشرعيّة نظير السيرة العقلائيّة في الأُمور العاديّة.
    وأُجيب : بإنكار الأئمة (عليهم‌السلام) بأصل الرجوع إليهم مطلقاً ، بل عند المعارضة
    __________________
    (1) اقتباس من الاجتهاد والتقليد ؛ لسيّدنا الصدر (قدس‌سره) : 210.

    بين الأخبار إنّما يكون الرشد في خلافهم ، كما في الأخبار العلاجية ومثل خبر علي ابن أسباط.
    وممّا يستدلّ به أيضاً إجماع صحابة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ففي المسالك في جواب وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردّد ، والوجه الجواز ، يقول الشارح الشهيد الثاني : لاشتراك الجميع في الأهليّة ، ولما اشتهر من أنّ الصحابة كانوا يفتون ، مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضليّة ، ويجوز عندهم تقديم المفضول على الفاضل ، فيكون إجماعاً منهم على جواز ذلك.
    الأصل الأوّلي في تقليد الأعلم وغيره
    لقد لاحظتم أدلّة القائلين بوجوب تقليد الأعلم أو الجواز والتخيير ، ومرّت عليكم المناقشات السنديّة والمتنيّة والدلالات والوجوه التي جاءت في أدلّة الفريقين ، فمع عدم تماميّة الأدلّة أو إجمالها أو تساقطها يرجع إلى القواعد العامّة والأُصول الأوّلية في المقام ، فما هو الأصل الأوّلي في المسألة فيما لو لم يتمّ شيء من أدلّة الطرفين؟ بعد القول إنّه لا يجب الاحتياط للإجماع أو بناء العقلاء أو غير ذلك.
    لقد ثبت في موضعه أنّ رأي المجتهد وفتواه إنّما هو طريق إلى الواقع كما هو الشأن في سائر الأمارات المعتبرة ، وليس له إلّا تنجيز التكليف عند الإصابة ، والمعذّرية عند المخالفة ، فالبحث عن الأصل سيكون بناءً على الطريقيّة في الفتوى

    دون السببيّة ، وهو يقرّر تارة بنحو ينتج عدم لزوم تقليد الأعلم ، وأُخرى لزومه.
    بيان ذلك على النحو الأوّل :
    ويقرّر بوجهين :
    الأوّل : أنّه يجوز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم مطلقاً وذلك بالاستصحاب ، فإنّه لو كان التساوي بين مجتهدين فإنّ العقل يحكم بعدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه ، فيجوز تقليد أيّهما كان ، فلو تجدّدت أعمليّة أحدهما فإنّه يشكّ في تقليد الآخر ، فيستصحب ذلك ، وإنّه وارد على قاعدة الاشتغال ، ويتمّ في غير هذه الصورة بعدم القول بالفصل ، كما إنّ حكم العقل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وإن كان بالتعيين وهو الأخذ بفتوى الأعلم ، إلّا أنّه إذا لم يكن هناك دليل على التخيير ، واستصحاب التخيير حاكم عليه.
    وأُجيب :
    أوّلاً : إنّ ذلك إنّما ينفع لمن استند على وجوب تقليد الأعلم بقاعدة الاشتغال الذي هو من الدليل الفقاهتي ، ولا ينفع لمن حكم به اعتماداً على الدليل الاجتهادي.
    ثانياً : إنّه ينتقض ومعارض باستصحاب عدم جواز تقليد المفضول إذا حصل له الاجتهاد عند سبق تقليد الأفضل وبعبارةٍ اخرى لو سلّم هذا الاستصحاب لعارضه استصحاب آخر عند انحصار المجتهد في شخص واحد فيجب تقليده متعيّناً ، فلو ساواه آخر في العلم ، فيشكّ في التخيير ، فيستصحب التعيين ويتمّ في غيره بعدم القول بالفصل.
    ثالثاً : ثمّ إنّما يتعدّى الحكم من مورد إلى آخر بسبب عدم القول بالفصل

    لو ثبت المورد الأوّل بالدليل الاجتهادي كالأمارات لا بالفقاهتي كالأُصول ، ومنها الاستصحاب.
    رابعاً : إنّما يتمّ الاستصحاب لو تمّ أركانه ، ومنها بقاء نفس الموضوع ، وعند تبدّله لا معنى للاستصحاب. بيان ذلك إنّ العقل هو الذي حكم بالتخيير بينهما وذلك باعتبار تساويهما في الفضيلة ، فمع وجود مزيّة أو احتمالها في أحدهما ، فإنّه لا يحكم بالتخيير ، وما يقال بالملازمة بين الحكم العقلي والشرعي بناء على أنّ الحكم الشرعي يجري على العنوان الذي حكم به العقل لا أكثر من ذلك ، والحكم الشرعي إنّما هو على عنوان المتساويين في الفضيلة والعلم ، وقد زال بحصول الأعلم فتبدّل الموضوع ، فكيف يستصحب؟
    وربما يقال بالاستصحاب الكلّي القسم الثالث باعتبار الجامع بينهما ، وأُجيب أنّه إنّما ينفع فيما لو كان حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والجامع بينهما لم يكن منهما ، فهو أمر انتزاعي والحكم المنكشف شرعاً هو حكم واحد لعنوان المتساويين ، فلم يحرز بقاء الموضوع ، فإنّ التخيير الثابت إنّما هو في مورد تساوي المجتهدين في الفضيلة.
    خامساً : لا وجه للتمسّك في المسألة العقليّة بالقول بعدم الفصل ، كما إنّ نفي الفصل غير موجود في المقام ، فالإجماع المركّب غير حاصل.
    الثاني : لو كان في العالم الخارجي مجتهداً واحداً فإنّه يتعيّن تقليده على العامي ، فلو وجد آخر وصار أعلم من الأوّل ، فيشكّ في بقاء التقليد المتعيّن الأوّل ، فيستصحب البقاء ، ويتمّ في غير الفرض بالقول بعدم الفصل.

    وأُجيب : بتبدّل الموضوع أوّلاً ، فإنّ الملاك في وجوب المراجعة كان باعتبار انحصار الاجتهاد فيه. فلا معنى لإبقاء ما كان على ما كان بعد وجود مجتهد آخر أعلم منه ، كما لا يتمسّك في العقليّات بالإجماع المركّب والقول بعدم الفصل ثانياً.
    النحو الثاني :
    الذي ينتج من تقريره لزوم تقليد الأعلم وذلك بقاعدة الاشتغال بناء على الدوران بين التخيير والتعيين في الحجّية ، ويقرّر بوجهين أيضاً :
    الأوّل : ذهب القدماء من الأصحاب إلى زمان الشهيد (قدس‌سره) إلى وجوب تقليد الأعلم ، والقول بالتخيير بينه وبين غير الأعلم إنّما تولّد في الأعصار المتأخّرة.
    ثمّ ممّا لا ريب فيه أنّ الناس كلّهم مكلّفون بالأحكام الواقعيّة ، ولا بدّ من امتثالها إمّا بعلم تفصيلي وجداني أو بعلم عادي بالظنّ المتاخم للعلم المفيد للاطمئنان وإمّا بالعلم الإجمالي وذلك بالعلم بالاحتياط ، ولا يتنزّل عن هذا ويكتفى بغيره في مقام الامتثال إلّا بدليل خاصّ.
    وحيث قام الإجماع والضرورة على عدم لزوم الامتثال التفصيلي والإجمالي حفظاً للنظام من جهة اختلاله وللزوم العسر والحرج المنفيين شرعاً ، كما إنّ سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة تدلّان برجوع العالم إلى الجاهل ، وقد أمضاه الشرع ، لعدم الردع ، فإنّه لو كان لبان ، فحينئذٍ لو شككنا في اعتبار الأعلميّة لما ذهب إليه القدماء ، كما إنّ القدر المتيقّن من الخروج عن حرمة العمل بالظنّ هو العمل بفتوى الأعلم ، وأمّا فتوى غيره فمشكوك فيه ، وقاعدة الاشتغال تقول بلزوم الفراغ اليقيني لمن اشتغلت ذمّته ، فإنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى براءة يقينيّة ، وذلك لا يكون إلّا

    بمطابقة فتوى الأعلم.
    الثاني : لمّا ثبت اشتغال ذمّة المكلّف بالتكليف ، فلا بدّ أن يأتي بعمل يصحّ الاحتجاج به على المولى ، ولمّا لم يجب الامتثال التفصيلي والإجمالي ، فيدور أمره بين كون فتوى الأعلم هو الحجّة متعيّناً أو أنّه أحد فردي الحجّة مخيّراً ، والاحتجاج بفتوى الأعلم يقيني معلوم بخلاف فتوى المفضول فإنّه مشكوك فيه ، وكلّما دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الإطاعة والامتثال ، فإنّ العقل يحكم بتقديم محتمل التعيين ، فيتعيّن تقليد الأعلم.
    وبهذا الأصل يكون المختار الاحتياط الوجوبي في تقليد الأعلم لا سيّما عند العلم بالاختلاف ومع الإمكان.
    هذا خلاصة ما أردنا بيانه في مسألة أصل التقليد وأمّا مسائله وفروعاته فتأتينا عند ما نتعرّض لمسائل التقليد في العروة الوثقى ومنهاج المؤمنين ، إن شاء الله تعالى.

    الاحتياط لغةً واصطلاحاً
    كان الكلام في بيان المسألة الاولى من العروة الوثقى ومنهاج المؤمنين ، وتعرّضنا بشيء من التفصيل إلى معرفة كلماتها لغةً واصطلاحاً ، وما يتعلّق بها من المباحث الفقهيّة والأُصوليّة وغيرهما ، والكلمات كانت كما يلي : الوجوب والتكليف والعبادات والمعاملات والاجتهاد والتقليد ، وبقي الاحتياط.
    فهو لغةً :
    من حوط حاط وحيطة وحياطة : حفظه وصانه وتعهّده ، واحتاط الرجل : أخذ في أُمور بالجزم الذي من لوازمه المحافظة على نفسه ، وبمعنى الاهتمام ، والأحوط : الأشدّ احتياطاً ، والأقرب إلى الثقة ، وأحاط واحتاط به : أحدق به من جوانبه ، يقال : أحاط بالأمر علماً ، أي أحدق به علمه من جميع جهاته.
    واصطلاحاً :
    بمعنى الإتيان بجميع المحتملات وإحراز الواقع به ، بشرط أن لا يكون مبغوضاً لدى الشارع ، كما لو أوجب الاحتياط اختلال النظام أو العسر والحرج المنفيين

    شرعاً ، أو الوسوسة المذمومة التي تعدّ من الأمراض النفسيّة. أعاذنا الله منها.
    ويكفي الاحتياط في سقوط التكليف الواقعي مطلقاً ، وقيل : عند عدم التمكّن من الاجتهاد أو التقليد في العبادات ، فيكونا مقدّمين على الاحتياط حينئذٍ.
    ومن الواضح كما مرّ بعد وجود العلم إجمالاً بأنّ العبد مكلّف بتكاليف شرعيّة ، يحكم العقل بتنجّز الأحكام الواقعيّة على كلّ مكلّف ، فيلزم الخروج عن عهدتها إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، فكما قال المحقّق اليزدي (يجب بوجوب عقلي فطري على كلّ مكلّف في العبادات والمعاملات إمّا أن يكون مجتهداً أو مقلّداً ومرّ الكلام في أصلهما مفصّلاً كما سيأتي في فروعهما ومسائلهما أو محتاطاً.
    ويبقى المكلّف بحاجة إلى الأبدال الثلاثة حتّى بعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بجملة من التكاليف بالاجتهاد أو التقليد ، لأنّه في الشبهات الحكميّة ، بل قيل في الموضوعيّة لا يجري الأصل النافي للتكليف كأصالة البراءة إلّا بعد الفحص ، فمجرّد احتمال التكليف الإلزامي يكفي في تنجّزه ، ولا يصحّ مخالفته إلّا إذا كان هناك مؤمّن للعقاب عقلاً ، وذلك بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.
    حسن الاحتياط
    والاحتياط حسن في نفسه عقلاً ، كما ورد ذلك في الشرع المقدّس أيضاً ، ما لم يستلزم العسر والحرج والوقوع في الوسوسة ، فالنصوص الشرعيّة تدلّ على

    رجحانه ومطلوبيّته ، فيلزم التطابق بين الحجّتين الباطنيّة والظاهريّة ، العقل السليم والشرع المقدّس ، وهذا ممّا لا ينكر ، فإنّه حسن حتّى لو تمكّن من الاجتهاد أو التقليد.
    وإذا ورد الإشكال على الاحتياط شرعاً عند بعض الأعلام ، فإنّه في مجال العبادات أوّلاً ، ثمّ بناءً على اعتبار قصد الوجه أو التمييز أو الجزم بالنيّة ثانياً ، وكلّها قابلة للنقاش كما هو ثابت في محلّه ، ولا يضرّ ذلك في كبرى القول وأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ما لم يستلزم العسر والحرج والوسوسة واختلال النظام.
    فقيل مع اعتبار قصد الوجه أو التمييز أو غير ذلك لا يكاد يحرز الواقع بالاحتياط حينئذٍ بل لا بدّ من العلم التفصيلي في ذلك ، وجوابه واضح بعد المناقشة في الصغرى بعدم اعتبار شيء من ذلك ، وأنّه لو أحرز المأمور به بأيّ نحوٍ من الأنحاء ولو أتى بجميع المحتملات كما في الاحتياط ، فإنّه يأمن من العقاب للقطع بالامتثال والعلم بمطابقة المأتي به للواقع.
    وقيل : مع التمكّن من الاحتياط وقطعيّة الامتثال به لا مجال للاجتهاد أو التقليد ، لعدم القطع بالامتثال فإنّ غايتهما هو الظنّ بالامتثال ، والامتثال القطعي مقدّم على الظنّي كما هو واضح ، وجوابه بعد قيام الدليل على اعتبار الأمارات الظنّية كخبر الثقة وأنّها بمنزلة الواقع ، وكاشفة له وطريق إليه ، فلا يرى العقل أيّ فرق بين الامتثالين في أداء الوظيفة وإسقاط التكليف مطلقاً ، فلا فرق في العمل به في العبادات وغيرها ، فإنّه يتحقّق الامتثال به بحكم العقل.

    نعم ، ربما يتصوّر وجود رادع لإجراء هذا الحكم العقلي ، وهو أُمور :
    الأوّل : عن الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد أنّه يعتبر في العقود والإيقاعات الجزم ، ومع الاحتياط يلزم الترديد المنافي للجزم ، فكيف يصحّ ذلك.
    وأُجيب : إنّ الترديد إمّا أن ينافي تحقّق الإنشاء أو تأثيره ، والأوّل باطل فإنّه يتحقّق الإنشاء مع القطع بالخلاف فضلاً عن الترديد ، والثاني فاسد لاستحالة التفكيك بين الإنشاء والمنشأ. ثمّ مقتضى الاحتياط حينئذٍ هو عدم التصرّف في كلا العوضين أو إجراء العقد حال وجود جميع ما شكّ في اشتراطه فيه حتّى يحصل القطع بوجود الأثر. وإن كان وجود الترديد ينافي فيما هو الممضى شرعاً من الأسباب فإنّه لا يضرّ ذلك.
    الثاني : منع الاحتياط في العبادات فقط مطلقاً سواء يستلزم تكرار العبادة أو لم يستلزم ، أو خصوص ما يستلزم ، كما ذهب إليه بعض ، على أنّ الجاهل بأحكام الصلاة مثلاً ، لا يكاد يقطع بإتيان المأمور به على ما هو عليه بمجرّد إتيان ما يزعمه ، وادّعى الأخوان السيّد المرتضى علم الهدى والشريف الرضي الإجماع على بطلان صلاة الجاهل بالقصر ، قال (قدس‌سره) : (إنّ عقد إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاةً لا يعلم أحكامها).
    وقال الشيخ الأعظم في رسالة القطع : (أمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على

    التكرار ، كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءاً ، فالظاهر عدم ثبوت الاتفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيلي ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك).
    وجوابه :
    أوّلاً : إنّه بالاحتياط يلزم إحراز الواقع يقيناً بحكم العقل كما مرّ ـ ، فيكفي عن العلم التفصيلي في معرفة الأحكام.
    ثانياً : قول المشهور ناظر إلى عدم تحقّق موضوع الاحتياط في خصوص العبادات لبعض المناقشات لا عدم جوازه مطلقاً فيما أمكن الاحتياط ، كما هو المرتكز عند الناس.
    ثالثاً : ربما كان الإجماع المدّعى مدركيّاً وهو ليس بحجّة ، وعلى فرض تعبّديّته فإنّه مختصّ بالصلاة فلا يعمّ جميع العبادات ، كما لا يمنع القول بجواز الاحتياط في محلّ البحث ، فإنّ المتيقّن منه فيما لو كان جاهلاً بمقدار كثير من الصلاة ، والصلاة حينئذٍ تكون باطلة قطعاً.
    الثالث : دلّت الأدلّة الشرعيّة على لزوم تعلّم الأحكام ، كما ورد في الصحيح عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : سئل جعفر بن محمّد (عليهما‌السلام) عن قوله تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ، فقال (عليه‌السلام) : إنّ الله تعالى ، يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال : أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال : كنت جاهلاً. قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟! فيخصمه وذلك الحجّة البالغة لله

    عزوجل في خلقه (1).
    وكيفيّة الاستدلال أنّ الله يطالب عبده بالعلم والمعرفة ، ولا يتمّ ذلك في الاحتياط.
    وأُجيب :
    أوّلاً : لمّا كان المقصود من الاحتياط هو إتيان جميع المحتملات فإنّه يدرك الواقع ويصل إلى ما يصل إليه العلم أيضاً ، فالنتيجة واحدة.
    ثانياً : ظاهر الحديث الشريف أنّه ناظر إلى من يعصي الله سبحانه ولم يعمل بتكاليفه الإلهيّة ، والمحتاط إنّما يصدق عليه أنّه في أعلى مراتب الإطاعة والانقياد.
    ثالثاً : الأمر في الحديث إرشادي ، وليس فيه ما يدلّ على الوجوب النفسي للتعلّم حتّى يتنافى مع الاحتياط ، فوجوب التعلّم ولزومه إرشاد إلى امتثال التكاليف والأحكام ، وإنّ الجهل فيها لا يكون عذراً لترك المكلّف به.
    وقيل : أنّ وجوبه طريقي وليس بنفسي ، والشاهد عليه أنّ السؤال أوّلاً عن العمل (هلّا عملت) لا عن التعلّم ، ولكن الظاهر أنّ السؤال عن التعلّم أوّلاً (أكنت عالماً).
    هذا ، ومجمل الأقوال في وجوب التعلّم ثلاثة :
    فمن الأعلام كما نسب إلى المحقّق الأردبيلي وجماعة من المتأخّرين من يذهب إلى الوجوب النفسي وأنّه يستحقّ الإنسان العقاب على نفس ترك التعلّم ،
    __________________
    (1) جامع أحاديث الشيعة 1 : 5 ، وأمالي الشيخ المفيد ، وبحار الأنوار 2 : 29 181.

    فإنّه يعاقب مطلقاً سواء طابق عمله الواقع أو لم يطابق.
    ومنهم كما نسب إلى المشهور يذهب إلى الوجوب الطريقي ، فلا عقاب إلّا مع مخالفة الواقع.
    ومنهم كما يظهر من المحقّق النائيني (قدس‌سره) ـ : أنّه يستحقّ العقاب على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع ، فالعقاب يكون على نفس ترك التعلّم عند المخالفة للواقع ، وعلى القول المشهور يكون على نفس مخالفة الواقع.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:57

    إشكال وجوابه
    قيل : إنّما يتمكّن المكلّف من الاحتياط فيما لو اجتهد أو قلّد في عدم اعتبار الجزم بالنيّة ، وإلّا فلو كان الجزم بالنيّة معتبراً ، لما تمّ الاحتياط إلّا بالتشريع المحرّم أي إدخال ما ليس في الدين في الدين ، فإنّه يلزمه البدعة وهي ضلالة ، والضلالة في النار وإلّا هذا المعنى أشار إليه الآية العظمى السيّد الشاهرودي (قدس‌سره) في تعليقته على العروة الوثقى قائلاً على كلمة الاحتياط الواردة في عبارة الماتن : (بعد أن اجتهد أو قلّد في مسألة عدم اعتبار الجزم بالنيّة ، وإلّا لا يتمكّن من الاحتياط أصلاً إلّا بالتشريع المحرّم).
    وأُجيب :
    أوّلاً : إنّه لم يثبت اعتبار الجزم بالنيّة.
    وثانياً : لا يلزم في الاحتياط أن يكون الترديد دائماً ، فإنّه يكون مع الجزم بها

    في العبادات والمعاملات.
    فالأوّل كما لو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين كالتسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين ، فإنّه يأتي الاحتياط بالأكثر عند عدم احتمال كون المشكوك فيه مضرّاً. كما يكفي للمحتاط حصول الوثوق بما يفعل.
    والثاني : كما لو أجرى العقد حال وجود جميع ما شكّ في اشتراطه فيه. كما قد لا يكون الترديد في النيّة مضرّاً حال الاحتياط كما في الشكّ في الضمان يؤدّي المثل أو القيمة معاً ، وكما لو احتاط في عدم التصرّف بالعوض والمعوض عند الشكّ فيما يحتمل اشتراطه في العقد. بل ربما يقال لا يضرّ الترديد في النيّة بالاحتياط في الواجبات التوصّلية مطلقاً.
    مناقشات جواز الاحتياط وأجوبتها
    لقد أورد الأعلام مناقشات عديدة في جواز الاحتياط ، فمنهم من أنكر ذلك مطلقاً ، ومنهم من قال بالمنع مع التمكّن من العلم التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد ، ومنهم من جوّز ذلك مطلقاً في المعاملات بالمعنى الأعمّ والأخصّ ، وفي العبادات مطلقاً الواجب النفسي أو الضمني ، فيما أوجب التكرار أم لم يوجب ، سواء أكان الشكّ في أصل المحبوبيّة أو في كيفيّتها ، ومنهم من قال بالتفصيل في هذه الموارد.
    والظاهر أنّ المناقشات إنّما هي في تحقّق موضوع الاحتياط لا أصل جوازه ، والأقوى جواز الاحتياط الذي بمعنى إتيان جميع المحتملات مطلقاً في المعاملات

    والعبادات ، تمكّن من الامتثال التفصيلي أو لم يتمكّن ، استلزم التكرار أو لم يستلزم ، كان الاحتياط في التكليف المستقلّ النفسي أو الضمني إلى غير ذلك.
    والمقصود من المعاملات بالمعنى الأعمّ الواجب التوصّلي بمعنى تحقّق المتعلّق في الخارج كيف اتّفق ، مثل تطهير النجس بغسلتين أو ثلاث ، أو بالمطلق أو المضاف ، وغاية ما ينافيه أدلّة وجوب التعلّم وذكرنا أنّه إرشادي أو من الواجب النفسي التهيّؤ والمقصود منه عدم معذّرية الجهل عند مخالفة الواقع ، ويحصل المؤمّن من العقاب ودرك الواقع بالاحتياط ، بل قيل : ربما يكون أقوى من الاجتهاد والتقليد.
    والمقصود من المعاملات بالمعنى الأخصّ العقود والإيقاعات ، والاحتياط فيها جائز خلافاً للشيخ الأنصاري والشهيد الثاني لاشتراطهما الجزم في الإنشاء ، فلا يكون جازماً بإنشاء صيغة النكاح المتكرّرة أو صيغة الطلاق بالجملة الفعليّة والإسميّة ، ولكن لا يضرّ الاحتياط فيه ، فإنّ الترديد فيه باعتبار الممضى شرعاً لا في الإنشاء نفسه ، والمنشئ جازم بنيّته ، وإنّما الشكّ في أمر خارج عن جملة إنشائه وهو إمضاء الشارع وحكمه بصحّة النكاح أو الطلاق ، وذكرنا أنّه ربما يتحقّق الإنشاء مع القطع بعدم الإمضاء فكيف مع الترديد ، كما لا انفكاك بين الإنشاء والمنشأ.
    والمحتاط إنّما يقصد إيجاد علقة زوجيّة ، أو يبرزها بمبرز لفظي ، فإنّ الإنشاء إمّا بمعنى إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الوجود الاعتباري في نفس المتكلّم بمبرز ، فالترديد فيما هو الممضى شرعاً لا فيما أنشأه المنشئ ، وترتّب الأثر شرعاً على عقد أو إيقاع غير مرتبط بالترديد في قصد الإنشاء ، ومن هذا المنطلق جرت سيرة السلف

    الصالح على الاحتياط في صيغ النكاح بعدم الاكتفاء بواحدة.
    أمّا الاحتياط في العبادات التي يعتبر فيها قصد القربة والامتثال ، وهو مصبّ المناقشات فالمشهور يمنع منه مع التمكّن من العلم التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد.
    والكلام فيه تارة مع التمكّن وأُخرى مع عدمه ، والأوّل مثل الصلاة في ثوبين يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ، فأفتى المشهور كما هو المختار بجواز الاحتياط ، ومنع المحقّق الحلّي منه ، وأفتى بالصلاة عارياً لسقوط شرطيّة الستر عند ذلك ، واختصاصها بصورة العلم التفصيلي بالطهارة ، واستدلّ بوجهين :
    الأوّل : بأنّ الاحتياط بصلاتين تشريع محرّم.
    الثاني : وأنّ التكرار يوجب إلغاء قصد الوجه المعتبر.
    وأُجيب : إنّ الاحتياط يعني إتيان ما يحتمل أنّه من الدين برجاء إحراز ما هو الواقع فيه وهذا ليس من التشريع ، وإدخال ما ليس في الدين ، ثمّ لا يعتبر قصد الوجه مطلقاً ، وإن قيل به فهو في صورة التمكّن منه ، وإلّا يلزم عدم جواز العمل بالاحتياط في العبادات مطلقاً ، وهو كما ترى.
    وأمّا مع التمكّن من العلم التفصيلي ، فتارةً لا يستلزم الاحتياط تكرار العمل كالشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ويكون الشكّ تارةً في العبادة النفسيّة ، وأُخرى في جزئيّة شيء أو شرطيّته ، فيكون الشكّ في عبادة ضمنيّة ، وأُخرى يستلزم التكرار كاشتباه القبلة ، والأوّل تارة الشكّ في خصوصيّات الطلب والمحبوبيّة بعد إحراز أصلهما ، وأُخرى في أصل الطلب والمحبوبيّة كالشكّ في الوضوء بعد غسل الجنابة.

    وفي المسألة وجوه ، بل أقوال ، والمقصود بيان المناقشات في الباب.
    فقيل : مقتضى أدلّة وجوب التعلّم لزوم تعلّم الأحكام تفصيلاً بالاجتهاد أو التقليد ، فلا يجوز الاكتفاء بالاحتياط مع التمكّن ، وأُجيب بأنّه من الواجب الإرشادي أو النفسي التهيّئي ، ولا ملازمة بين العلم والعمل لإمكان إحراز الواقع والعلم به بالاحتياط ، فالمقصود من وجوب التعلّم إرشاد إلى عدم مخالفة الواقع وعدم معذّرية الجهل.
    وقيل : يخلّ الاحتياط باعتبار قصد الوجه والتمييز بعد اشتراطهما للإجماع ولحكم العقل بحسنهما في العبادة ، وأُجيب : إنّما يعتبر ذلك عند المتكلّمين وشرذمة من الفقهاء ، وربما الإجماع باعتبار حكم العقل ، وقيل فيه إنّه من الكلام الشعري الذي لا أساس له ، كما إنّ العقل لا يستقلّ بذلك ، ولو تمّ فيكون في الواجبات النفسيّة دون الضمنيّة ، فيمكن أن يؤتى بالصلاة وجوباً حتّى لو لم يكن بعض أجزائه يتّصف بذلك ، ولا يحتاج أن يقصد الوجوب في كلّ جزء وشرط ، فالحسن في المجموع بما هو مجموع ، ومع الشكّ تجري البراءة ، فلم يدلّ على اعتبارهما شرعاً ، ولو كان لبان ، وعدم الدليل دليل العدم.
    وقيل : لازم الاحتياط الشكّ في صدق الامتثال مع التمكّن من العلم التفصيلي ، والحاكم في المقام قاعدة الاشتغال للشكّ في صدق الإطاعة والامتثال المتأخّر عن الأمر المتأخّر عن المأمور به ، فلا مجال للبراءة حينئذٍ فإنّها لو كانت فيما لو كان الشكّ في أصل التكليف والأمر.
    وأُجيب : من المسلّم عدم اعتبار قصد الوجه في تحقّق الإطاعة عند العرف

    والعقلاء ، وأنّ الفرق بين العبادة وغيرها قصد القربة ، فمن يأتي بالجزء أو الشرط رجاءً يعدّونه ممتثلاً ، حتّى لو تمكّن من العلم التفصيلي ، كما قد صرّح الشيخ الأنصاري بعدم اعتبارهما في العبادة ، كما يتمسّك بالإطلاق المقامي أن يكون المولى في مقام بيان تمام الحكم في نفي قصد الوجه ، فيكون من الدليل الاجتهادي ومعه لا مجال للدليل الفقاهتي من الأُصول العمليّة حينئذٍ. كما إنّ مقتضى الأصل هو البراءة لا الاشتغال ، فإنّ الشكّ فيه ليس في مفهوم العبادة ، بل في الواقع منها ، فالقول بعدم صحّة الامتثال الإجمالي في الأمر العبادي إذا لم يستلزم التكرار مع التمكّن من الامتثال التفصيلي غير وجيه.
    وقيل بالتفصيل بين المعلوم أصل الطلب فيجوز فيه الاحتياط وبين ما لا يعلم فلا احتياط ، فمع تعلّق الطلب وإن كان عنوان الوجوب والاستحباب مشكوكاً لكن لا ينافي الاحتياط وإتيان العمل بداعي الأمر للعلم بوجوده وتعلّقه بالفعل ، ولا يمكن إتيانه بقصد الوجه فإنّه غير معتبر ، وأمّا إذا لم يعلم أصل المحبوبيّة كالوضوء بعد غسل الجنابة فلا مجال للاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي فإنّه لم يتحقّق البعث في الاحتياط حينئذٍ ، فالاحتياط وإن يعدّ امتثالاً إلّا أنّه في طول امتثال العلم التفصيلي ، ولو شكّ في العرض والطول فالحاكم قاعدة الاشتغال للشكّ في كيفيّة الامتثال ، فإنّه من الشكّ في التعيين والتخيير.
    وأُجيب : إنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي في عرض واحد كما يشهد به العرف ، فكلاهما مطيعان ومنقادان ولا فرق في ذلك بين العبادي وغيره إلّا باعتبار قصد القربة ، كما لا فرق بين الواجب النفسي والضمني ، وسواء أكان أصل المحبوبيّة معلوماً

    أو غير معلوم ما لم يستوجب الاحتياط تكرار العمل.
    وأمّا لو استوجب ذلك ، فهل يصحّ الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي بالاجتهاد أو التقليد كالصلاة بالجهر والإخفات والقصر والتمام عند الشكّ بهما.
    فقيل : الاحتياط في هذا المورد يستلزمه الإخلال بقصد الوجه والتمييز ، فإنّ حقيقة الطاعة أن يكون الانبعاث عن بعث مولوي ، والداعي إلى الفعل إرادة المولى ، ولا يتوقّف هذا على معرفته بنحو إلزامي أو غيره عند العقلاء ، فلو كان قصد الوجه معتبراً فلا بدّ أن يكون بأمر شرعي ، ولا دليل لنا على ذلك ، كما إنّ الاحتياط غير مخلّ بقصد الوجه ، للإتيان بداعويّة امتثال الأمر الوجوبي المتعلّق بأحدهما ، وهي غير متميّزة ، إلّا أنّه يخلّ بقصد التمييز وهو غير معتبر ، والشكّ فيه يرجع إلى اعتبار قيد في المأمور به شرعاً زائداً عمّا يعتبره العقد ، والمرجع حينئذٍ البراءة.
    وقيل : لازم الاحتياط في مثل هذا المورد لزوم اللعب والعبث عند العقلاء ، وذلك عند التمكّن من التفصيلي ، فلا يقع مصداقاً للامتثال لمذموميّته.
    وأُجيب : إنّ الاحتياط مع التكرار لا يلازم العبثيّة واللعب واللغوية لتعلّق غرض عقلائي بذلك كما لو كان العلم التفصيلي يوجب المئونة الزائدة على الاحتياط كالرجوع إلى المصادر والتحقيق ، وكيفيّة الامتثال لا يضرّ بصحّته ، فيصحّ حينئذٍ الاحتياط في العبادات وإن استلزم التكرار.
    ويذهب المحقّق النائيني (قدس‌سره) إلى أنّ مراتب الامتثال عند العقل أربعة :
    1 ـ التفصيلي : مطلقاً بالعلم الوجداني كالقطع أو العلم العادي كالأمارات

    والأُصول المحرزة للواقع.
    2 ـ الإجمالي : كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الوجداني والشكّ.
    3 ـ الظنّي.
    4 ـ الاحتمالي : كما في الشبهات البدويّة أو المقرونة بالعلم الوجداني عند تعذّر الامتثال الإجمالي والظنّي.
    ولا تصل النوبة إلى الرابع إلّا بعد تعذّر الثالث ، وكذلك الثالث بالنسبة إلى الثاني. والكلام في الأُوليين فقيل في عرض واحد ، وقيل بتقديم التفصيلي مع الإمكان على الإجمالي ، فيلزمه بطلان الاحتياط مع التمكّن من التفصيلي بالاجتهاد والتقليد وهو الأقوى.
    وحقيقة الإطاعة والامتثال هو الانبعاث عن بعث مولوي ، ومع تكرار العمل في مقام الاحتياط لا يتحقّق ذلك ، فإنّ الداعي في أفراد الاحتياط هو احتمال تعلّق الأمر به. ولا يخفى أنّه بعد العمل يعلم بتحقّق ما ينطبق عليه المأمور به ، ولكن المطلوب في العبادات أن يكون ذلك حين العمل والانبعاث عند احتمال البعث وإن كان نحواً من الطاعة ، إلّا أنّ رتبته متأخّرة عن التفصيلي ، فمن ادّعى القطع بتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة مع التمكّن من إزالة الشبهة بالاجتهاد أو التقليد لا يكون مجازفاً في دعواه.
    ومع الشكّ يقال بالاشتغال للشكّ في التعيين والتخيير (1).
    __________________
    (1) الدرّ النضيد ، عن فوائد الأُصول 4 : 93.

    وأُجيب :
    أوّلاً : إنّه لا دليل لنا على انحصار الإطاعة في الانبعاث عن البعث القطعي ، بل ربما يعمّ الانبعاث عن احتمال البعث ووجود الأمر أيضاً ، بل ربما يقال إنّه أطوع من القطعي.
    وثانياً : ليس الانبعاث عن بعث المولى وأمره الواقعي ، وإلّا لزم عدم التخلّف ، لعدم تخلّف المراد عن الإرادة الإلهيّة ، بل الباعث ربما يكون تصوّر أمر الآمر وما يترتّب عليه من الثواب عند الإطاعة والعقاب عند المعصية ، وهذا يتمّ مع احتمال البعث أيضاً ، فيكون الباعث عن المبادي الموجودة في نفس المطيع من خوف النار وحبّ الجنّة أو شكراً لله سبحانه ، وهذا المعنى موجود في كلا الامتثالين سواء العلم بالأمر أو احتماله.
    وثالثاً : إنّما يكون العلم دخيلاً في داعويّة الأمر إلى الفعل لا أنّه داعياً إليه ، وغاية ما يقتضيه الاحتياط مع التكرار هو فقدان التمييز ولا يضرّ ذلك لعدم اعتباره كما مرّ.
    ورابعاً : لا يستقلّ العقل بكون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال الجزمي ، بل شأنه إدراك إتيان ما تعلّق به أمر المولى من دون أن يكون له دخل في الحكم بوجوب شيء أو بعدمه.
    ثمّ لو ثبت أنّ الإجمالي في طول التفصيلي في ما يوجب التكرار لكان ذلك في الامتثال الإجمالي في الأجزاء أو الشرائط أيضاً ، والحال لا إشكال في جواز الاحتياط فيهما.

    ثمّ الأصل عند الشكّ هنا هو البراءة ، فإنّ الشكّ إنّما هو باعتبار العلم بالأمر في تحقّق الطاعة وعدمه ، فهو من قبيل الأقلّ والأكثر لا التعيين والتخيير ، فالشكّ في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة وهو لزوم الانبعاث عن بعث المولى دون احتماله ، فتأمّل.
    الفارق بين احتياط العامي والمجتهد :
    من الواضح اختلاف احتياط العامي عن المجتهد ، فهما يشتركان في أصل الاحتياط بمعنى إتيان جميع المحتملات ويختلفان في موارده ، فشأن العامي أن يكون عارفاً بموارد الاحتياط في خصوص الفتاوى بين الأحياء ، وأمّا المجتهد فيحتاط فيها وفي غيرها.
    فالاحتياط في عرض الاجتهاد والتقليد ويجوز في الجملة ، ويوجب الخروج عن عهدة التكليف الثابت في الشريعة ، ولا فرق في ذلك بين العامي العارف بموازين الاحتياط والعالم بها ، إنّما الفرق هو أنّ العامي إنّما يحتاط في خصوص الفتاوى الموجودة ، لكون وظيفته الأخذ بفتاويهم ، وأمّا المجتهد فيحتاط فيها وفي غيرها ، فيلاحظ آراء الفقهاء مطلقاً الأحياء والأموات ، ولا بدّ له أن يعرف ذلك اجتهاداً.
    فاحتياط العامي موضوعاً وحكماً وهو من كان على أبواب الاجتهاد هو الرجوع إلى أقوال المجتهدين الذين يصحّ له المراجعة إليهم ، وأمّا المجتهد فاحتياطه بمعنى الاحتياط من جميع الجوانب ، فهو أوسع دائرة من احتياط العامي.
    وعن الإمام كاشف الغطاء عليه الرحمة : (إنّ للناس بطريق الاحتياط

    وطريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى والأحكام ، ويسهل الخطب على من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد).
    ثمّ العمل بالاحتياط لا يكاد يتحقّق إلّا بعد معرفة الاحتياط وموارده اجتهاداً أو تقليداً وإلّا فلا يقدر على الاحتياط ولا يكاد يحصل له المؤمّن من العقوبة كما هو واضح ، والحاكم بوجوب المعرفة هو العقل ، فوجوبها إرشادي من باب لزوم المطابقة للواقع.
    صور الاحتياط وموارده
    لقد اتّضح ممّا مرّ أنّ أصل الاحتياط إنّما يكون مع الشكّ ، وأنّه يختلف بحسب متعلّقاته وبذلك يتولّد للاحتياط صوراً وموارد.
    فمتعلّق الشكّ قد يكون واقعة واحدة وقد يكون واقعتين :
    والأولى على نحوين :
    فتارةً يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها ، حتّى لا يكون الأمر من باب دوران الأمر بين المحذورين ، كالواجب والحرام الذي يستحيل فيه الاحتياط ، فالاحتياط فيه يكون بإتيان الفعل ، سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليّاً كالدعاء عند رؤية الهلال ، أو ضمنيّاً كجلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية في الركعة الأُولى والثالثة.
    وتارةً يحتمل حرمتها مع القطع بعد وجوبه فالاحتياط يكون في الترك

    كشرب التتن والنظر إلى الأجنبيّة في المرآة والماء.
    والثانية : فيما لو تعدّدت الواقعة فالاحتياط فيها على أنحاء :
    فتارةً يكون في الجمع بين الفعلين ، وأُخرى في تركهما معاً ، وثالثةً يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين وترك الآخر.
    والأوّل : على نحوين :
    فتارةً مع عدم تكرار أصل الواجب كالإخفات والجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة ، فينوي أحدهما بنيّة القراءة الواجبة ، والآخر بنيّة الاستحباب بعنوان الذكر أو القرآنيّة المطلقة ، أو في كليهما بنيّة القرآنيّة.
    وأُخرى مع التكرار في أصل الواجب كصلاة الظهر والجمعة في يوم الجمعة.
    والثاني : كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الآخر كترك الخنثى لبس اللباس المختصّ بالرجال والمختصّ بالنساء.
    والثالث : فيما يكون الاحتياط في فعل أحد الفعلين وترك الآخر ، كما إذا علم بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني كتردّد الدم في المرأة بين الحيض والاستحاضة ، فتجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة.
    هذا والاحتياط ربما يكون واجباً كما في الشبهات الحكميّة في العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة أو في الشبهة الحكميّة قبل الفحص ، وقد يكون مستحبّاً وغير واجب كما في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً أو البدويّة الحكميّة بعد الفحص كما ذكر في أُصول الفقه. وهذا الاحتياط حسن عقلاً وشرعاً ما لم يستوجب العسر والحرج والوسوسة واختلال النظام ، فإنّ الاحتياط حينئذٍ في ترك الاحتياط.

    عودٌ على بدء :
    لا زلنا وإيّاكم في المسألة الاولى من كتاب الاجتهاد والتقليد في (منهاج المؤمنين) و (العروة الوثقى) ، وكان البحث حولها في دروسنا الحوزوية خلال ستّة أشهر ، وذكرنا فيها شيئاً من التفصيل ليكون اللّبنات الاولى في المسائل الآتية ، ولزيادة الفائدة سنختم كلّ مسألة إن شاء الله تعالى بذكر بعض الفتاوى والآراء الفقهيّة لجمع من الأعلام (1) والآيات العظام ، وهم كما يلي :
    1 ـ الجواهري : الشيخ علي بن الشيخ باقر بن الشيخ محمّد حسن (المتوفّى : 1340).
    2 ـ الفيروزآبادي : السيّد محمّد بن السيّد محمّد باقر الفيروزآبادي (المتوفّى : 1345).
    3 ـ النائيني : الميرزا حسن النائيني (المتوفّى : 1355 ه‍).
    4 ـ الحائري : الشيخ عبد الكريم الحائري (المتوفّى : 1355).
    5 ـ آقا ضياء : الشيخ آقا ضياء الدين العراقي (المتوفّى : 1361).
    6 ـ الأصفهاني : السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني (المتوفّى : 1365).
    7 ـ كاشف الغطاء : الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (المتوفّى : 1373).
    __________________
    (1) أخذنا ذلك من العروة الوثقى مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ، طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة ، سنة الطبع 1417.

    8 ـ البروجردي : السيّد حسين البروجردي (المتوفّى : 1380).
    9 ـ الشيرازي : الميرزا السيّد عبد الهادي الحسيني الشيرازي (المتوفّى : 1382).
    10 ـ الحكيم : السيّد محسن الطباطبائي الحكيم (المتوفّى : 1390).
    11 ـ آل ياسين : الشيخ محمّد رضا آل ياسين (المتوفّى : 1370).
    12 ـ الخوانساري : السيّد أحمد الخوانساري (المتوفّى : 1405).
    13 ـ الخميني : السيّد روح الله الموسوي الخميني (المتوفّى : 1409).
    14 ـ الخوئي : السيّد أبو القاسم الخوئي (المتوفّى : 1413).
    15 ـ الگلپايگاني : السيّد محمّد رضا الگلپايگاني (المتوفّى : 1414).
    وأمّا فتاوى الأعلام في المسألة الأُولى :
    فقد قال صاحب العروة الوثقى آية الله العظمى السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (المتوفّى : 1337) في الاجتهاد والتقليد :
    مسألة 1 ـ يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً.
    ففي قوله : (يجب) ،
    قال السيّد الگلپايگاني : (بإلزام العقل).
    وفي قوله : (مكلّف) ،
    قال السيّد الفيروزآبادي : (ملتفت).

    وفي قوله : (عباداته) ،
    قال السيّد الخميني : (وكذا في مطلق أعماله كما يأتي).
    وقال الفيروزآبادي : (في غير المعلومات منها كما سيجيء).
    وفي قوله : (ومعاملاته) ،
    قال السيّد الگلپايگاني : (بل وعاديّاته أيضاً كما سيأتي منه (قدس‌سره) في مسألة 29).
    وقال السيّد الحكيم : (وسائر أفعاله وتروكه كما سيأتي).
    وقال السيّد الشيرازي : (أي ما يحتاج إليه في أُموره وأفعاله التي يشكّ في حكمها).
    وفي قوله : (أو محتاطاً) ،
    قال كاشف الغطاء : (بناءً على ما ذكره في المسألة الثالثة والخامسة تكون القسمة ثنائيّة إلّا بتكلّف لا يخلو من نظر).

    (المسألة الثانية في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره) :
    مسألة 2 : الأقوى جواز العمل بالاحتياط مجتهداً كان أو لا ، لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 5):
    في قوله : (الأقوى جواز العمل) ، قال : في معاملاته وعباداته بل رجحانه عقلاً ونقلاً بشرط عدم استلزامه أحد المحاذير من الوسوسة وفقدان الجزم وقصد التمييز ومخالفة الاحتياط من جهةٍ أُخرى ، كالاحتياط في صورة انحصار الماء بالقليل الملاقي بالمتنجّس مع عدم سعة الوقت لتكرار الصلاة ونحوها ممّا هو مجتنب عنه ومتبرّأ منه.
    وفي قوله : (بالاحتياط) ، قال : سواء أكان بالتكرار بإتيان فعلين أم أزيد أم التكرار بترك شيئين أو أزيد أو الاحتياط بالفعل والترك معاً كما في جمع المرأة بين تروك ذات الحمرة وأفعال الطاهرة في بعض

    الموارد ، أو الاحتياط في فعل واحد أو ترك واحد وسيأتي منه (قدس‌سره) التصريح ببعض هذه الصور.
    وفي قوله : (لكن يجب) ، قال : بوجوب عقلي في عباداته ومعاملاته.
    __________________
    أقول : لقد تعرّضنا إلى المسألة الأُولى وعرفنا معنى الوجوب والمكلّف وعلائم بلوغه والعبادات والمعاملات لغةً واصطلاحاً ومعنى الاجتهاد والتقليد والاحتياط كذلك ، ثمّ الأُستاذ يتعرّض لبيان صور الاحتياط وموارده تبعاً لما جاء في العروة الوثقى ، ونحن نقتفي آثارهما ، فنذكر أوّلاً المسألة الثانية في العروة ثمّ ما يذكره في المسألة الثالثة ومن ثمّ يعلم ما جاء في منهاج المؤمنين ، وسنتّبع هذا الديدن في المسائل والفروعات الآتية إن شاء الله تعالى.
    والمختار جواز العلم بالاحتياط مطلقاً حتّى عند التمكّن من الاجتهاد أو التقليد ، فإنّ العقل يحكم بتحقّق الامتثال به ودرك الواقع بإتيان جميع المحتملات ، ولا يمنع منه ما دلّ على وجوب تعلّم الأحكام ، فإنّه من الحكم الإرشاديّ أو النفسي التهيّئي كما مرّ بالتفصيل كما لا يضرّه القول بالجزم في المعاملات بالمعنى الأخصّ ، ولا يردعه الإخلال بقصد الوجه والتمييز لعدم اعتبارهما.
    ولا فرق في العمل بالاحتياط بين المجتهد وغيره ، فما ذكره السيّد اليزدي (قدس‌سره) للتوضيح فقط ، والمراد من جواز الاحتياط ما لم يخلّ بالنظام فإنّه من الإخلال غير مشروع في نفسه مطلقاً ، وأمّا ما يستلزم العسر والحرج فقيل نفيهما يدلّ على

    نفي وجوب الاحتياط وهو لا ينافي جوازه ، فالاحتياط المستلزم للوقوع في الحرج داخل في البحث حينئذٍ.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (أو بالتقليد) ،
    قال السيّد الشيرازي : إن كانت الكيفيّة من المسائل النظريّة.

    المسألة الثانية في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ المرعشي (قدس‌سره):
    2 ـ وقد يكون الاحتياط في الفعل أو الترك والجمع بين أمرين مع التكرار والأقوى جواز الاحتياط ، ولو كان مستلزماً للتكرار مع صدق الإطاعة عليه وأمكن الاجتهاد أو التقليد.
    (المسألة الثالثة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 3 : قد يكون الاحتياط في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً ، وكان قاطعاً بعدم حرمته ، وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل ، وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 6):
    في قوله : (قد يكون) : قد عرفت بعيد هذا في الحاشية أنّ الوجوه

    المتصوّرة في الاحتياط أكثر ممّا أفاده (قدس‌سره) ، ثمّ من الواضح اختلاف صوره في الحكم من حيث الوجوب وعدمه.
    __________________
    أقول : إنّ السيّد اليزدي (قدس‌سره) في هذه المسألة إنّما هو في مقام بيان صور الاحتياط وموارده ، والظاهر أنّه لم يكن في صدد حصر الصور ، فإنّها تزيد على ما ذكر كما أشرنا إلى ذلك في ما مرّ ـ والاحتياط تارة يكون مستحيلاً وأُخرى ممكناً ، والأوّل كدوران الأمر بين الواجب والحرام.
    والثاني ذو صور :
    منها : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومقتضى الاحتياط فيه هو الترك ، كشرب التتن والنظر إلى الأجنبيّة في الماء.
    ومنها : دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام ، والاحتياط مقتضٍ للفعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال وكجلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية.
    ومنها : دوران الواجب بين فعلين ، والاحتياط يقتضي فعلهما معاً ، كصلاة الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، والإخفات والجهر في صلاة الظهر يوم الجمعة.
    ومنها : دوران الحرام بين فعلين ، ومقتضى الاحتياط تركهما معاً ، كترك الخنثى لبس المختصّ بالرجال وبالنساء.
    ومنها : دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة ، وهو على نحوين : فتارةً يمكن الجمع بينهما في فعل واحد كالجهر والإخفات في القراءة ، وأُخرى لا يمكن فيأتي بالمأمور به أوّلاً مع المشكوك فيه ، وثانياً بدونه.

    (المسألة الرابعة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 4 : الأقوى جواز الاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار وأمكن الاجتهاد والتقليد.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 6):
    في قوله : (الأقوى جواز) ، قال : والمناقشات الخمسة أو الستّة الواردة عليه كلّها مدفوعة والتفصيل في محلّه.
    وفي قوله : (ولو كان مستلزماً للتكرار) : مع صدق الإطاعة عليه وعدم لزوم أحد المحاذير التي مرّ ذكرها في الحواشي السابقة.
    __________________
    أقول : على سبيل منع الخلوّ إمّا أن يتمكّن المكلّف مع الاحتياط من الاجتهاد أو التقليد ، أو لا يتمكّن ، والثاني لا ريب ولا إشكال في جواز الاحتياط حينئذٍ. والكلام في الشقّ الأوّل ، فمنهم من أنكر جوازه مطلقاً ، ومنهم من قال بجوازه مطلقاً

    كما هو المختار ، ومنهم من قال بالتفصيل بين العبادات والمعاملات ، وبين ما يوجب التكرار وغيره.
    وإنّما نذهب إلى الجواز كما هو الأقوى عند السيّد اليزدي وسيّدنا الأُستاذ وكثير من الأصحاب لقضاء العقل بتحقّق الامتثال ، وفي العبادات مع قصد المكلّف الإطاعة بإتيان جميع المحتملات حال كونه عالماً بأنّ أحدها مأمور به. فلا فرق عقلاً بين أن يأتي المكلّف بفعل واحد يعلم أنّه المأمور به وبين الامتثال بإتيان المحتملات التي منها المأمور به ، ففي كلاهما درك الواقع المؤمّن من العقاب.
    كما يحكم بذلك الشرع أيضاً ، ويدلّ عليه ترك الاستفصال الوارد في الخبر في السؤال عن قبلة المتحيّر؟ فأمر الإمام (عليه‌السلام) أن يصلّي إلى أربع جوانب ، فلم يسأله عن فحصة للقبلة ، وترك الاستفصال كالإطلاق ، يعمّ صورة إمكان الفحص عن القبلة أيضاً (1).
    فالمقتضي لجواز الاحتياط عقلاً ونقلاً موجود ويبقى إثبات عدم المانع حتّى يتمّ المطلوب.
    فيقال : قد ذكروا موانعاً قابلة للنقاش :
    أحدها : الإجماع بأنّه لا يكتفى بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة.
    وأُورد عليه أنّه لم يثبت تعبّديّته ، بل ربما يكون من المدركيّ لاعتماد المجمعين على بعض الوجوه الاستحسانيّة من الظنّ المطلق ، كما أنّه لم يذكر الفقهاء في العبادات
    __________________
    (1) جامع أحاديث الشيعة 2 : 194.

    أنّ التكرار من مبطلاتها ، بل أفتوا في بعض الموارد بالاحتياط بالتكرار.
    الثاني : السيرة العمليّة بين المسلمين على الاجتهاد والتقليد وإعراضهم عن الاحتياط.
    وأُجيب بأنّ الإعراض لما في الاحتياط من المشقّة والصعوبة ، فليست شرعيّة محضة.
    الثالث : ما حكي عن ابن إدريس الحلّي في السرائر في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين أنّه قال بعد جواز التكرار للاحتياط حتّى في صورة عدم التمكّن من العلم التفصيلي بالمتنجّس لفوات قصد الوجه المعتبر عنده في العبادات وصفاً أو غاية ، كما يقال أُصلّي صلاة الظهر لوجوبها أو أُصلّي الواجب.
    فباعتبار قصد الوجه وكذا قصد التمييز منعوا عن العمل بالاحتياط.
    وأُجيب : إنّ قصد الوجه في العبادات غير ثابت شرعاً ، فإنّه ممّا يغفل عنه الناس عامّة ، فلو كان واجباً لكان على الشارع بيان ذلك ، فإنّ عدم الاعتبار مخلّ بمقصوده ، وعدم البيان دليل العدم ، كما يقتضيه الإطلاق المقامي ، وكذلك قصد التمييز.
    الرابع : إنّ التكرار ممّا يصدق معه اللعب والعبث بأمر المولى عزوجل ، وربما يزيد على العشرات المرّات كمن يصلّي إلى أربع جهات مع الشكّ في بعض

    الشرائط.
    وأُجيب بمنع الكلّية ، فإنّ في التكرار شدّة اهتمام بأمر المولى وأبلغ في الإطاعة واستشعار العبوديّة ، كما قد يكون في الفحص بالاجتهاد أو التقليد من المشقّة ما لا يكون في الاحتياط ، كما إنّ العبثيّة لو ثبتت فإنّها في كيفيّة الإطاعة والامتثال لا في أصلها فلا يقدح في حصولها.
    الخامس : إنّ الاحتياط يستبطنه الترديد ، فالامتثال به احتمالي بخلاف الامتثال في الاجتهاد أو التقليد ، فإنّه من الجزمي ومن الواضح عدم صحّة الاحتمال مع الجزم.
    وأُجيب : إنّ الامتثال في الاحتياط ممّا يصدق عليه الجزم ، فإنّ المفروض إتيان جميع المحتملات ، فيقطع المكلّف بدرك الواقع وإتيان المأمور به.
    السادس : يشترط في العبادة أن يكون بنيّة القربة وقصد الامتثال ونيّة الأمر ، ومع تكرار العبادة بالاحتياط يلزم الإخلال بهذه النيّة ، فإنّ الفعل يكون بداعي احتمال الأمر لا بداعي نفس الأمر.
    وأُجيب : إذا كان المقصود من فوات نيّة الأمر في أحد الفعلين فالمفروض باعتبار الاحتياط والتكرار أن لا يكتفى به ، وإن أُريد به المجموع فقصد ذات الأمر متحقّق باعتبار أنّ الإتيان بهما قد كان بداعي ذات الأمر الإلهي المعلوم إجمالاً لا مجرّد احتماله. ثمّ المأتيّ به بداعي احتمال الأمر إنّما قصد به نفس الأمر فإنّه

    لا موضوعيّة للاحتمال ، فإنّ المقصود من الاحتياط هو قصد الرجاء الذي يلزمه قصد المرجوّ ، والاهتمام بالاحتمال من أجل الاهتمام بالمحتمل ، وسلمنا فوات نيّة الأمر بالاحتياط فإنّه لا يضرّ ذلك بالعبادة ، فإنّه لا دليل لنا على اعتبار قصد الأمر بالعبادة ، فتأمّل.
    السابع : ما يذهب إليه المحقّق النائيني (قدس‌سره) كما مرّ من تقديم الامتثال التفصيلي على الإجمالي المستلزم للتكرار في العبادة لفوات الانبعاث من بعث المولى في الإجمالي ، فإنّ الانبعاث فيه باعتبار احتمال البعث لا نفسه.
    وأُجيب : إنّ الانبعاث الحقيقي في الانبعاث الإجمالي من نفس بعث المولى متحقّق كما يشهد بذلك الوجدان ، كما لا دليل لنا على الانبعاث في الإجمالي من جهة احتمال البعث لا نفسه ، فإنّه لا موضوعيّة للاحتمال ، وإلّا للزم كفاية الفعل الواحد.
    ثمّ يرى أنّه لو وقع الشكّ في ذلك فإنّ الأصل يقتضي الاشتغال لأنّه من موارد التعيين والتخيير ، وأجبناه بأنّ الشكّ فيه إلى اشتراط أمر زائد على الطبيعة المأمور بها ، فهو مورد البراءة.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (للتكرار) ،
    قال الفيروزآبادي : مع صدق الإطاعة وأن لا يعدّ العمل لعباً.

    وفي قوله : (أو التقليد) ،
    قال النائيني : إلّا إذا كانت عبادة فإنّ الأحوط بل الأقوى حينئذٍ تعيّن الاجتهاد أو التقليد ، نعم لو أتى بالمحتمل الآخر رجاءً للمحبوبيّة وإدراك الواقع بعد الإتيان بما أدّى إليه تقليده أو اجتهاده كان حسناً.

    (المسألة الخامسة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 5 : في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلّداً لأنّ المسألة خلافيّة.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 6):
    في قوله : (مجتهداً) ، قال : فيما لو درى كون الاحتياط في العمل سبباً لأداء الواجب المستلزم للأمن من كوارث مخالفته.
    وفي قوله : (أو مقلّداً) ، قال : فيما لو أدرك عقله حجّية رأي الغير إذا كان من أهل الخبرة.
    وفي قوله : (لأنّ المسألة خلافيّة) ، قال : لا مساغ لهذا التعليل بعد انتقاضه طرداً وعكساً.
    __________________
    أقول : اختلف الأعلام في جواز الاحتياط مطلقاً أو مع التمكّن من الاجتهاد

    أو التقليد ، فمنهم من لم يجوّز الاحتياط لو لم يكن عن اجتهاد أو تقليد ، والاحتياط بلا اجتهاد أو تقليد ليس باحتياط ، فإنّه يلزم من وجوده عدمه ، فالاحتياط في ترك الاحتياط.
    وقيل : أصل تحقّق الاحتياط مشروط بأن يكون اجتهاداً أو تقليداً.
    وقيل : لمّا كان ملاك الاحتياط هو امتثال الواقع ولو إجمالاً وأنّه مبرئ للذمّة ومسقط للتكليف فلا بدّ من حكم العقل بجوازه ، فإن أدرك ذلك بحسب عقله فهو مجتهد ، وهذا الاجتهاد يختلف عن الاجتهاد في المسائل والفروع الفقهيّة. وإن تبع في ذلك غيره فهو مقلّد في المسألة.
    فكان الصواب أن يعلّل ذلك بهذا الوجه لا بأنّ المسألة خلافيّة كما في المتن. فإنّه لو كانت المسألة إجماعيّة أيضاً كان يلزم عليه الاجتهاد أو التقليد في حجّية الإجماع وفي تحصيله. وربما يحمل قوله (خلافيّة) على كون المسألة نظريّة وليست بضروريّة حتّى لا يحتاج إلى الاجتهاد أو التقليد (1).
    آراء الأعلام :
    في قوله : (أو مقلّداً) ،
    قال كاشف الغطاء : لكن لو عمل بالاحتياط بغير اجتهاد ولا تقليد أجزأه ، لأنّه أحرز الواقع.
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : 264.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:58

    المسألة الثالثة في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    3 ـ وفي الضروريات لا معنى للتقليد كوجوب الصلاة وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يمكن الاحتياط وإن أمكن تخيّر بينه وبين التقليد.
    (المسألة السادسة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 6 : في الضروريات لا حاجة إلى التقليد كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما. وكذا في اليقينيات إذا حصل له اليقين ، وفي غيرهما يجب التقليد إن لم يكن مجتهداً إذا لم يتمكّن من الاحتياط ، وإن أمكن تخيّر بينه وبين التقليد.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 7):
    في قوله : (لا حاجة) ، قال : لو كانت الضروريّة محرزة لدى

    المكلّف لا معنى للتقليد فيها إلّا أنّه لا حاجة إليه.
    __________________
    أقول : لمّا كان التقليد بمعنى رجوع الجاهل إلى العالم ، فإنّه إنّما يتمّ في المسائل النظريّة من الفقه الإسلامي ، فلا تقليد ولا اجتهاد في ما كان بديهيّاً ضرورياً في الإسلام كوجوب الصلاة والصوم فكلّ واحد يعرف ذلك حتّى الأولاد الذين لم يبلغوا سنّ التكليف ، وكذا لا اجتهاد ولا تقليد في ما حصل له اليقين ، فإنّ المقصود منهما هو حصول العلم واليقين فإذا كان له ذلك فإنّه يلزم تحصيل الحاصل ، فيصحّ عمل العامي لو حصل له اليقين بالأحكام الشرعيّة من أيّ طريق كان.
    ويذهب السيّد الحكيم (قدس‌سره) في تعليل عدم التقليد في الضروريّات واليقينيّات بأنّ وجوب العمل شرعاً برأي الغير حكم ظاهريّ وهو يختصّ بحال الشكّ ، فيمتنع جعل حجّية رأي الغير الذي هو عبارة عن التقليد مع وجود العلم واليقين.
    وأُجيب : إنّ وجوب العمل برأي الغير كوجوب العمل بسائر الحجج فإنّه حكم واقعي والحكم الظاهري ما يستفاد من مداليل تلك الحجج ، كما إنّ وجوب التقليد إرشاد من العقل للحكم بصحّة عبادات العاميّ ومعاملاته بالتقليد.
    ثمّ إذا لم يكن مجتهداً ولم يتمكّن من الاحتياط فيتعيّن عليه التقليد ، فإنّه من الواجب التخييري وإذا تعذّر أحدهما تعيّن الآخر بحكم العقل.
    والتقليد إنّما هو طريق لحصول العلم بامتثال الأحكام.

    آراء الأعلام :
    في قوله : (في الضروريات) ،
    قال الشيرازي : إذا كان عنده ضروريّاً ، وأمّا الشاكّ فيجب عليه التقليد ، ولو في ما كان ضرورياً عند الناس.

    المسألة الرابعة في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    4 ـ وعمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل.
    (المسألة السابعة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 7 : عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 7):
    في قوله : (باطل) ، قال : ظاهراً بنظر العقل في مقام الامتثال فلا يجوز الاكتفاء به والاقتصار عليه في الاطمئنان بالبراءة والأمن من العقوبة ما لم تنكشف صحّة العمل ، وأمّا لو انكشفت مطابقة عمله مع الواقع أو مع فتوى من يجوز تقليده فلا ريب في الصحّة.
    __________________
    أقول : لمّا كان المقصود هو الخروج عن عهدة التكاليف الثابتة إجمالاً ،

    والأمن من العقاب بالامتثال ودرك الواقع ولو تعبّداً ، فالعقل يحكم حينئذٍ بأنّ من لم يكن مجتهداً في الخلاص من عهدة التكاليف لا بدّ أن يكون مقلّداً أو محتاطاً ، فإنّ عمل العامي غير المجتهد بلا تقليد ولا احتياط باطل عقلاً لاحتمال عدم مطابقة العمل للواقع ، فلو علم بعد العمل بصحّته واقعاً أو ظاهراً لمطابقته لرأي من يجب عليه تقليده أو كان مطابقاً لرأيه فإنّه يكتفى به بحكم العقل ، أي لا يصحّ عقلاً أن يقتصر على التقليد في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحّته ومطابقته للواقع أو لرأي من يجوز تقليده فلا يجب عليه الإعادة حينئذٍ ، فلا يلزم البطلان رأساً بحيث يجب عليه الإعادة أو القضاء مطلقاً حتّى يكون المراد من البطلان حينئذٍ البطلان الشرعي كما توهّمه بعض المحشّين فقيّد البطلان بما إذا لم يصادف الواقع أو لم يتحقّق منه قصد القربة.
    وهذا البطلان العقلي إنّما استظهرناه من الوجوب المذكور في المقام في المسألة الاولى في قوله (يجب على كلّ مكلّف ..) كما مرّ مفصّلاً ، فراجع.
    فعمل العامي لو كان جاهلاً بالحكم لا يجزي ما دام جاهلاً لاحتمال فساد العمل عقلاً ، فإذا انكشف مطابقته للواقع أو لمن كان يجب عليه تقليده يحكم بالصحّة ويترتّب عليه آثارها.
    فمن غسل ثوبه المتنجّس بالماء الطاهر مرّة واحدة وهو لا يعلم كفايتها ، فلا يترتّب آثار الطهارة عليه لاحتمال عدم حصولها ومقتضى الاستصحاب نجاسة الثوب ظاهراً ، فإذا علم حصول الطهارة بالغسل مرّة أو كان مطابقاً لفتوى من يجب تقليده ، فإنّه يجتزى به ويرتّب عليه آثار الطهارة. وهذا معنى البطلان العقلي.

    آراء الأعلام :
    في قوله : (باطل) ،
    قال الأصفهاني : إذا كان مخالفاً للواقع ، أو كان عبادة ولم يحصل منه قصد القربة
    كما سيأتي.
    وقال النائيني : إذا لم يكن مطابقاً لرأي من يتبع قوله تعييناً ، وإلّا فلا وجه لإطلاقه بعد حجّية رأيه في حقّه كذلك بلا اعتبار البناء على اتباع قوله في حجّيته كما هو الشأن في سائر الحجج الشرعيّة ، ولذا نلتزم بعدم وجوب الموافقة الالتزامية فيها ، نعم مع عدم تعيين اتّباع رأيه لا محيص من دخل الالتزام والبناء على اتّباعه في حجّية رأيه ، ومن هذا البناء أيضاً ينتزع التقليد وإن لم يعمل فسقاً ، ولا اختصاص لهذه الجهة في المقام ، بل في جميع موارد التخيير في المسألة الأُصوليّة يعتبر للبناء على الأخذ بأحدهما في حجّيته ، فقبل البناء المزبور لا يكون في البين ملزم شرعي ، وإنّما يلزم العقل بالأخذ المزبور بمناط وجوب تحصيل الحجّة عند التمكّن كما هو ظاهر هذا.
    وقال آل ياسين : إذا خالف الواقع أو كان عبادة ولم يتأتّ منه قصد القربة ، وإلّا صحّ مطلقاً.
    وقال البروجردي : يأتي التفصيل.
    وقال الجواهري : إلّا إذا وافق الواقع أو رأي من يقلّده.
    وقال الحكيم : بمعنى أنّه لا يجتزى به حتّى يعلم أنّه صحيح بنظر المجتهد الذي يقلّده

    بعد العمل.
    وقال الخميني : إلّا إذا طابق رأي من يتّبع رأيه.
    وقال الخوانساري : إذا خالف الواقع وأمّا إذا اعتمد على قول من يجوز الرجوع إليه ، فيحكم بالصحّة وإن خالف الواقع لكن مع الاعتماد على قوله ، ومع عدم الاعتماد مشكل.
    وقال الخوئي : بمعنى أنّه لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال ما لم تنكشف صحّته.
    وقال الشيرازي : إن لم يطابق الواقع أو فتوى من يجب عليه تقليده.
    وقال الفيروزآبادي : إلّا مع تحقّق القربة والمطابقة.
    وقال كاشف الغطاء : أي لا يحصل به يقين البراءة ، فلو انكشف مطابقته للواقع وكان من المعاملات أو الإيقاعات أو الواجبات التوصّلية بل والتعبّدية إذا حصلت منه نيّة القربة صحّ على الأقوى ، بل لا إشكال في الصحّة.
    وقال الگلپايگاني : يأتي تفصيله إن شاء الله.
    وقال النائيني : إذا خالف الواقع ، أو كان عبادة ولم يتمكّن من قصد القربة لتزلزله وجهله.

    المسألة الخامسة في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    5 ـ أمّا لو انكشفت مطابقة عمله مع الواقع أو مع فتوى من يجوز تقليده فلا ريب في الصحّة.
    __________________
    أقول : ما ذكر في هذه المسألة إنّما هو تتمّة المسألة السابقة ، فلمّا كان المراد من البطلان هو البطلان العقلي ، فلا معنى لهذه الإشارة ، فإنّها إنّما تتلائم مع البطلان الشرعي كما يستظهر ذلك من كلمة الصحّة ، فتدبّر.

    المسألة السادسة في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    6 والتقليد هو العمل المستند إلى فتوى الغير أو الاستناد إليه في مقام العمل أو تطبيق عمله على فتواه ، فلما لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد فهو عنوان العمل.
    (المسألة الثامنة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 8 : التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن ، وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ بفتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 7):
    في قوله : (التقليد هو الالتزام) ، قال : الأقوى إنّ التقليد هو العمل المستند إلى فتوى الغير أو الاستناد إليه في مقام العمل أو تطبيق عمله

    على فتواه فما شئت فعبّر ، وعلى أيّ حال ما لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد فهو عنوان للعمل ، فبالعمل الأوّل يتحقّق التقليد مقارناً ولا إشكال فيه ، وأمّا ما قيل في معناه من الوجوه ككونه الالتزام بالعمل بفتاويه ، أو أخذها للعمل أو تعلّمها للعمل أو غيرها ، فكلّها مدخولة والتفصيل موكول إلى محلّه ، والإشكال بكونه قسيماً للاجتهاد المتقدّم على العمل مندفع بأدنى تأمّل ، ثمّ قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المكلّف يقال له المقلّد لتقليده عمله على عنق المجتهد.
    وفي قوله : (بقول مجتهد) ، قال : لقد أجاد (قدس‌سره) حيث عبّر بالمجتهد بدل لفظ الغير لشمول ذلك الأخذ بقول البيّنة ونحوها ، لكن الذي يسهّل الخطب إرادة الرأي من القول.
    وفي قوله : (معيّن) ، قال : التقيّد بالتعيّن لا وجه له في صورة اتحاد المجتهد لعدم التعدّد ولا في صورة التعدّد مع اتفاق الفتاوى لمكان حجّية الجامع بينها ، ولا في صورة التعدّد والاختلاف لو قيل بالسقوط عند التعارض وكون المرجع الاحتياط.
    __________________
    أقول : التقليد لغةً : بمعنى وضع القلادة في عنق الغير فيقال : قلّدت الفتاة أو جعلت القلادة في عنقها.
    واختلف الأعلام في معنى التقليد المصطلح على أقوال عديدة كما ذكرنا تفصيل ذلك.

    1 ـ ففي النهاية والمعالم وشرح المختصر ورسالة الشيخ الأنصاري نسبته على علماء الأُصول ، أنّه (العمل بقول الغير من غير حجّة ومطالبة دليل).
    2 ـ وعن جامع المقاصد وبعض ، أنّه : (قبول قول الغير).
    3 ـ وعن فخر المحقّقين : (قبول قول الغير في الأحكام الشرعيّة من غير دليل على خصوص ذلك الحكم). بل بنحو الإجمال يقبل قوله بأنّه في كلّ مسألة يقول : (هذا ما أفتى به المجتهد والمفتي ، وكلّ ما أفتى به فهو حكم الله في حقّي ، فهذا حكم الله في حقّي).
    4 ـ وعن الفصول والكفاية أنّه : (الأخذ بقول الغير ورائه للعمل به في الفرعيّات أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه).
    5 ـ وذهب السيّد اليزدي (قدس‌سره) وجمع أنّه (الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ).
    6 ـ وقيل : إنّه تعلّم الفتوى للعمل.
    7 ـ وقيل : إنّه (متابعة قول الغير ورائه).
    8 ـ وقيل : إنّه (الالتزام والتعلّم كليهما).
    ثمّ يا ترى هل الاختلاف عند الأعلام لفظيّاً وإنّ المعنى واحد ، أو جوهريّا معنويّاً يترتّب عليه آثار مختلفة؟
    قال صاحب المستمسك (قدس‌سره) : (هذا الاختلاف وإن كان بدواً ظاهراً في الاختلاف في معنى التقليد ومفهومه إلّا أنّ عدم تعرّضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة ، يدلّ على كون مراد الجميع واحداً وأنّ

    اختلافهم بمحض التعبير) (1).
    والظاهر خلاف ذلك ، فإنّ بين معنى التقليد العمل ومعناه الأخذ أو الالتزام بون واسع ربما على طرفي نقيض أو تضادّ. كما إنّهم فرّعوا على الخلاف في معنى التقليد بعض الأحكام الشرعيّة كمسألة البقاء على تقليد الميّت ، فمن قال بالعمل فيما إذا مات المجتهد بعد الالتزام بفتواه دون العمل فإنّه يكون مقلّداً له على القول بالالتزام دون القائل بالعمل ، وكذلك في مسألة العدول عن الحيّ إلى الحيّ ، كما إنّ المحقّق الخراساني صرّح بأنّ التقليد في العبادات لو كان نفس العمل للزم الدور لتوقّف التقليد على التقليد ، فإنّ العامي إذا لم يقلّد لا يتمكّن من الإتيان من الفعل.
    نعم ، ربما الأقوال ترجع بعضها إلى بعض وتكون ثلاثة : عبارة عن الالتزام كما عند الماتن ، أو الأخذ بقول الغير كما عند صاحب الكفاية ، أو نفس العمل مستنداً إلى رأي الغير.
    حجّة من قال بأنّ التقليد هو الأخذ والالتزام وجوه :
    الأوّل : لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل على طبق فتوى الغير فإنّه يلزم أن يكون أوّل عمل يصدر من المكلّف يصدر من غير تقليد ، لأنّه غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل ، وكما أنّ المجتهد يستند إلى اجتهاده وهو أمر سابق على عمله فكذلك العامي لا بدّ أن يستند إلى التقليد فيكون تقليده سابقاً عليه ، فالتقليد قبل العمل وهذا معنى الالتزام.
    __________________
    (1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 11.

    وأُجيب بأنّ التقليد عنوان للعمل استناداً إلى رأي الغير ، ولا تقابل بين الاجتهاد والتقليد حتّى يكون سبق الأوّل على العمل موجباً لسبق الثاني عليه ، بل التقابل بين عمل المجتهد وعمل المقلّد ، فالعمل المستند إلى ما حصله من المدرك عمل المجتهد ، والعمل المستند إلى رأي الغير عمل المقلّد. فالتقليد عنوان ينطبق على نفس العمل فبينهما المقارنة ولا يلزم السبق الزماني ، ولا دليل على اعتبار السبق. فإنّ الواجب سبق تحصيل الحجّة على العمل ليأمن من العقاب.
    الثاني : إنّ الاجتهاد والتقليد متقابلان ، والأوّل بمعنى أخذ الحكم عن المدرك ويكون الثاني كذلك عبارة عن الأخذ لا عن مدرك بل بقول الغير ، فكما أنّ الاجتهاد متقدّم على العمل فكذلك التقليد.
    وأُجيب : إنّه لم يثبت تقابلهما بهذا المعنى بل هما متقابلان باعتبار العنوان للعمل كما في الاحتياط وأنّ التقابل بين العملين عمل المجتهد وعمل المقلّد.
    الثالث : لو كان التقليد هو العمل للزم الدور في العبادات ، فإنّ وقوعها يتوقّف على قصد القربة وهو يتوقّف على العلم بكونها عبادة ، فلو توقّف العلم بكونها عبادة على وقوعها للزم الدور.
    وأُجيب : أنّ مشروعيّة العمل لا تتوقّف على التقليد بل تتوقّف على الاستناد إلى الحجّة الدالّة على المشروعيّة كفتوى المجتهد.
    وأمّا قول السيّد اليزدي (قدس‌سره) بأنّ التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن ، فقد قيل إنّ المتبادر منه أنّ من قوام التقليد أن يكون بقول مجتهد معيّن ، إلّا أنّه لا وجه لذلك ، فإنّه يتمّ التقليد مع تعدّد المجتهدين أيضاً ، فإنّه عند تعدّدهم إمّا ان

    يتّفقوا في الفتوى أو يختلفوا فيها ، فمع الاتفاق يلزم أن يكون التقليد عن بعضهم تقليداً عن الجميع. فإنّه لا موضوعيّة لقائل القول في تحقّق التقليد ، فالحجّية باعتبار القول ولا مدخل للقائل إلّا باعتبار الجهة التعليليّة لحجّية القول ، ومع اتحاد الأقوال واتفاقهم لا اعتداد بالقائل. فالأقوال كلّها متساوية من جهة الحجّتية ، كما إنّ السيرة العقلائيّة تحكم برجوع الجاهل إلى العالم من دون اشتراط تعيّن العالم عند وحدة النظر بين الخبراء ، فإذا حصلت لهم معرفة برأيه يأخذون به من غير توقّف على معرفة صاحب الرأي والقول مطلقاً.
    وقد أنكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسكة محتجّاً بأنّ الفرد المردّد ليس له خارجيّة كي يصلح أن يكون موضوعاً للحجّية أو غيرها من الأحكام.
    وأُجيب : بأنّ الحجّية من الأحكام الوضعيّة وهي من الأُمور الاعتباريّة فلا تفتقر إلى معروض خارجي ، فإنّها تابعة لكيفيّة اعتباره لمن كان بيده الاعتبار.
    هذا فيما لو اتّفق المجتهدون وأمّا مع اختلافهم في الفتوى ، فقيل : لا بدّ من التعيّن لامتناع أن يكون الجميع حجّة للتكاذب الموجب للتناقض ، ولا واحد معيّن لأنّه بلا مرجّح ، ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى فإنّه خلاف الإجماع والسيرة ، فيلزم أن يكون الحجّة هو ما يختاره.
    وأُجيب بعدم تمامية الحصر لإمكان الرجوع إلى أحوط الأقوال أو ما وافق المشهور ، كما يمكن الرجوع إلى الأعدل والأصدق وغير ذلك من المرجّحات الداخليّة والخارجيّة.
    كما إنّ لزوم التكاذب الموجب للتناقض إنّما يستلزم لو قيل ببقاء الجميع على

    المنجّزية ، أمّا مع التعارض والتساقط تبقى المعذّريّة ولا مانع من ذلك.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (التقليد) ،
    قال الشيرازي : كون العمل على استناد لا يخلو عن قوّة ، والاحتياط بمعنى عدم العدول من الحيّ إلى الحيّ بعد الالتزام وقبل العمل ، وعدم البقاء إذا مات المجتهد قبل العمل لا ينبغي تركه.
    وفي قوله : (الالتزام بالعمل) ،
    قال الأصفهاني : مع الأخذ للعمل ، وهذا هو التقليد المصحّح للعمل ، وأمّا ما هو الموضوع لجواز البقاء على تقليد الميّت وعدم جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ فهو الالتزام والأخذ مع العمل.
    وقال البروجردي : بل هو نفس العمل ولا مدخليّة للالتزام في شيء من الأحكام.
    وقال الحائري : فيه إشكال ، بل لا يبعد كون التقليد عبارة عن متابعة المجتهد في العمل بأن يكون معتمداً على رأيه في العمل.
    وقال الحكيم : بل هو العمل اعتماداً على فتوى المجتهد.
    وقال الخميني : بل هو العمل مستنداً إلى فتوى المجتهد ولا يلزم نشوؤه عن عنوان التقليد ، ولا يكون مجرّد الالتزام والأخذ للعمل محقّقاً له.
    وقال الخوانساري : الأقوى عدم تحقّق التقليد إلّا بالتزام مع العمل.
    وقال الخوئي : بل هو الاستناد إلى فتوى الغير في العمل ، ولكنّه مع ذلك يكفي في

    جواز البقاء على التقليد أو وجوبه ، تعلّم الفتوى للعمل وكونه ذاكراً لها.
    وقال الفيروزآبادي : حين العمل.
    وفي قوله : (معين) ،
    قال النائيني : لا إشكال في تحقّقه بالعمل بفتواه ، وفي تحقّقه بتعلّم الفتوى للعمل بها إشكال ، أمّا الالتزام وعقد القلب وأخذ الرسالة ونحو ذلك فالأقوى عدم تحقّقه بشيء من ذلك ، لكنّ الأحوط الأخذ به ما لم يجب العدول عنه إمّا لموت ذلك المجتهد ، أو لأعلميّة الآخر منه ، أو نحو ذلك.
    وفي قوله : (بل ولو لم يأخذ فتواه) ،
    قال الگلپايگاني : فيه تأمّل ، والظاهر أنّه يتحقّق بأخذ فتوى المجتهد للعمل به ، وإن لم يعمل بعدُ ، ولكنّ الأولى والأحوط في مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت الاقتصار على ما عمل به.
    وفي قوله : (بما فيها) ،
    قال الفيروزآبادي : وعمل.
    وفي قوله : (تحقّق التقليد) ،
    قال آل ياسين : الذي يناط به صحّة العمل ابتداءً ، أمّا في البقاء وحرمة العدول فاعتبار العمل فيه لا يخلو عن قوّة.
    وقال الجواهري : لا يكفي الالتزام بل لا بدّ من العمل.
    وقال كاشف الغطاء : بل يكفي الالتزام بالعمل بفتاويه ، فإنّ التقليد كالبيعة والعهد يتحقّق بإنشاء الالتزام.

    المسألة السابعة والثامنة في المنهاج (1)
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    7 ـ والأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت مطلقاً من غير تفصيل بين كون الميّت أعلم من الحيّ أو مساوياً أو مفضولاً بالنسبة إليه ومن غير تفصيل بين كون قوله أحوط الأقوال وعدمه وغير ذلك ، ثمّ تقيّد الجواز واختصاصه بالمسائل المعمولة للمكلّف زمن حياة مقلّده مبنيّ على بعض الوجوه دون كلّها.
    8 ـ ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً.
    (المسألة التاسعة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 9 : الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت ، ولا يجوز
    __________________
    (1) منهاج المؤمنين 1 : 6 ، المسألة 7 و 8.

    تقليد الميّت ابتداءً.
    جاء في الغاية القصوى (1 : Cool:
    في قوله : (الأقوى) ، قال : الأقوى ذلك مطلقاً من غير تفصيل بين كون الميّت أعلم من الحيّ أو مساوياً له أو مفضولاً بالنسبة إليه ، ومن غير تفصيل بين كون قوله أحوط الأقوال وعدمه وغير ذلك من التفاصيل المقولة أو المحتملة في المسألة ، ثمّ تقييد الجواز واختصاصه بالمسائل المعمولة للمكلّف زمن حياة مقلّده مبني على بعض الوجوه دون كلّها.
    __________________
    أقول : كان الأولى كما هو مقتضى الطبع تقديم مسألة عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً على مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت ، ولهذا نتعرّض أوّلاً لمسألة تقليد الميّت ابتداءً ثمّ مسألة البقاء ، فالكلام يقع في مقامين :
    المقام الأوّل في تقليد الميّت ابتداءً.
    سيذكر المحقّق اليزدي (قدس‌سره) في مسألة (22) عند تعرّضه لشرائط المجتهد أنّه يشترط فيه الحياة ، ولا يخفى أنّه اشتهر ذلك بين الإماميّة عند التمكّن من تقليد الحيّ ابتداءً ، وإن لم يتمكّن فيجوز تقليد الميّت ابتداءً كما صرّح بذلك صاحب الفصول.
    ثمّ ثمرة النزاع تظهر عند اختلاف الحيّ والميّت في الفتوى.

    وقد اختلف فقهاء المسلمين في اعتبار الحياة على أقوال : فمنهم من قال بالجواز مطلقاً ، ومنهم من قال بعدمه مطلقاً ، ومنهم من قال بالتفصيل بين التقليد الابتدائي فيعتبر الحياة وبين التقليد الاستمراري فلا يعتبر ، وعلى هذه الأقوال يتفرّع جواز البقاء وعدمه.
    وبيان المختار يستلزم بيان أدلّة الأقوال.
    وقبل البيان : اعلم أنّ من ديدن الأعلام في مثل هذا المقام تأسيس أصل أوّلي يرجع إليه عند عدم تماميّة الأدلّة في الأقوال.
    وقد يقرّر الأصل الأوّلي في المقام بوجوه :
    الأوّل : الأمارات إمّا أن تكون علميّة فهي حجّة يترتّب عليها آثار الحجّة من المنجّزيّة والمعذّريّة والإطاعة والعصيان والانقياد والتجرّي ، أو تكون غير علميّة فالأصل عدم حجّيتها إلّا إذا أُحرز التعبّد بها ، فمع الشكّ يقطع بعدم الحجّية ، فإنّ الشكّ في مثل هذا المقام يساوق العدم ، فعدم الدليل دليل العدم. والقدر المتيقّن من أدلّة مشروعيّة التقليد هو جواز تقليد الحيّ ، فلا تكون فتوى الميّت حجّة حينئذٍ للشكّ وعدم الدليل ، فالأصل الأوّلي يحكم بعدم حجّية كلّ أمارةٍ شكّ في حجّيتها ، فلا تترتّب الآثار عليها.
    وإشعار المحقّق الخراساني إلى هذا الأصل قائلاً : (ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان).
    وأورد عليه : بأنّ الحكم بعدم الحجّية عند الشكّ فيها مخصوص بالصورة التي

    لم تكن تلك الأمارة مسبوقة بالحجّية ، وإلّا كان مجرى الأصل هو الحجّية.
    وإلى هذا الأصل بهذا التقرير يشير سيّدنا الخوئي (قدس‌سره) كما جاء في التقريرات قائلاً : وكيف كان فمقتضى الأصل عدم حجّية قول المجتهد بعد موته كما هو الحال في كلّ أمارة يشكّ في حجّيتها ولا مخرج عن هذا الأصل سوى ما استدلّ به على الجواز من وجوه لا يخلو شيء منها من المناقشة (1).
    الثاني : المراد من الأصل قاعدة الاشتغال العقلي بأنّ العقل يحكم بعدم براءة الذمّة عن الاشتغال بالتكليف المعلوم ولو إجمالاً بعد العمل بفتوى المفتي الميّت ، وبعبارة اخرى يدور الأمر بين التعيّن والتخيير ، فإنّه لو قلّد الحيّ يعلم بفراغ ذمّته عمّا اشتغلت به ، فإنّ فتواه أمّا حجّة تعيّنية لاحتمال اشتراط الحياة فيه ، أو حجّة تخييرية بينه وبين الميّت ، بخلاف تقليده الميّت فإنّه لم يعلم بفراغ ذمّته لاحتمال اعتبار الحياة ، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والعقل يقول بالأوّل لا سيّما في الطرق ، فإنّه يرى الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة.
    وأورد عليه : أنّه لا ينفع للزوم الأخذ بفتوى الحيّ مطلقاً حتّى إذا كان الميّت أعلم بأن يكون أحسن استنباطاً وأجود دركاً ، فلو ثبت اشتراط الحياة فهو بشرط تعبّدي دون الأعلميّة فإنّه من الشرط العقلي ، فيحتمل تعيّن الرجوع إلى الأعلم فيدور الأمر بين التعيّنين ، فالأصل لا ينفع مطلقاً حتّى لو كان الميّت أعلم.
    __________________
    (1) فقه الشيعة 1 : 43.

    وأُجيب : بأنّه لم يقل واحد من فقهاء الإماميّة بتعيّن تقليد الميّت الأعلم ، كما إنّ جواز الرجوع إلى المجتهد الحيّ ممّا تسالم عليه الأصحاب منذ زمن الأئمة (عليهم‌السلام) ، فمع احتمال اشتراط الحياة يدور الأمر بين التعيّن والتخيير فيتمّ الأصل مطلقاً.
    توهّم ودفع :
    يذهب المحقّق القمّي (قدس‌سره) صاحب القوانين إلى القول بالانسداد ، ومن ثمّ يقول بحجّية الظنّ مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل كالقياس ، ثمّ في مقام العمل يرى وجوب العمل بأقوى الظنّين ، فربما يتوهّم فيما نحن فيه أنّه يجب تقليد الميّت الأعلم ولو ابتداءً لكون الظنّ الحاصل من فتواه أقوى من الحاصل من الحيّ غير الأعلم.
    وأُجيب : إنّ ما يقوله من جواز تقليد الميّت ابتداءً وعدم اشتراط الحياة كما صرّح صاحب الكفاية بأنّ ذلك خيرة الأخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا ، ولعلّ مراده من بعض المجتهدين صاحب القوانين ، ليس من باب لزوم تقليد الأعلم بما هو أعلم ، بل باعتبار ما عنده من المبنى حيث يرى انسداد باب العلم والعلمي في زمن الغيبة الكبرى بتوهّم اختصاص الخطابات بالمشافهين وبمن قصد إفهامه ، فيعمل بكلّ ما يكون أقوى من غيره ، كما إنّ الأقربيّة في فتوى الأعلم مطلقاً حتّى في صورة مخالفة فتواه للمشهور أو الاحتياط ممنوعة ، فلم يظهر من المحقّق القمّي وجوب تقليد الأعلم بما هو أعلم (1).
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 215.

    الثالث : ربما المراد من الأصل قاعدة الاشتغال الشرعي بأن يستصحب الاشتغال بالتكليف بعد العمل بقول الميّت دون الحيّ.
    وأُورد عليه : إنّما يثبت ذلك لو لم تكن الأمارة مسبوقة بالحجّية ، وإلّا كان مجرى الأصل هو الحجّية.
    الرابع : ما قرّره المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) في رسالته (الاجتهاد والتقليد) قائلاً :
    ولا ريب في أنّ مقتضى الأصل عدم حجّية رأى الميّت وفتواه وقصور الدليل العقلي على التقليد عن الاقتضاء لجوازه ، لأنّ العقل إن أذعن بلزوم الاستناد إلى من له الحجّة إلّا أنّه مع الدوران بين الاستناد إلى الحيّ والاستناد إلى الميّت لا يقضي إلّا بالاستناد إلى الحيّ لليقين معه ببراءة الذمّة ، دون الاستناد إلى الميّت فلا محالة يتعيّن تقليد الميّت (1).
    الخامس : ما قرّره صاحب المستمسك سيّدنا الحكيم (قدس‌سره):
    بأنّ العقل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير حاكم بالاحتياط بالرجوع إلى معلوم الحجّية وهو قول الحيّ ، فإنّ جواز الرجوع إلى الميّت غير معلوم. ومن ذلك تعرف الفرق بين تقليد الميّت ابتداءً واستمراراً ، وأنّه في الأوّل لا يقين بثبوت
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 20 ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

    أمر شرعي سابقاً كي يجري الاستصحاب فيه بخلاف الثاني (1).
    ونوقش :
    أوّلاً : بأنّ قول الميّت معلوم الحجّية أيضاً بالاستصحاب ، فلا يدور الأمر بين التعيين والتخيير.
    وثانياً : إنّ الحكم بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيّن والتخيير لو كان التخيير المحتمل من قبيل التخيير الشرعي كما لو شكّ في حجّية الشهرة عدلاً لخبر الثقة فيكون محتمل التخيير بحسب الطبيعة مبايناً لمحتمل التعيين ، فيرجع الشكّ حينئذٍ إلى اتحاد المتباينين في الأثر ، فيقال من باب الأحوط بالتعيين. أمّا لو كان التخيير المحتمل من قبيل التخيير العقلي بأن يكون الأمران مصداقين لطبيعة واحدة ، فيرجع الشكّ إلى اعتبار أمر زائد على الطبيعة ويجري فيه البراءة فيكون التخيير في محلّه.
    وما نحن فيه من التخيير العقلي لأنّ الشكّ في كون الميّت عدلاً للحيّ ينشأ من الشكّ في اشتراط الحياة في المجتهد.
    وربما يكون من الشكّ السببي والمسبّبي ومع جريان البراءة في السبب لا مجال للمسبّب ، فالشكّ في حجّية قول الميّت مسبّب عن الشكّ في اشتراط الحياة في المفتي عند الشارع وحكم الشارع بعدم اشتراطها يوجب ارتفاع الشكّ في الحجّية ، فيلزم حينئذٍ جواز تقليد الميّت.
    __________________
    (1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 22.

    أدلّة القول بجواز تقليد الميّت ابتداءً
    كلّ المذاهب الإسلامية دون الفرقة الناجية من الأُصوليين من الإماميّة الاثني عشريّة يقولون بجواز تقليد الميّت ابتداءً ، وحصر أبناء العامّة التقليد في الأئمة الأربعة (أبي حنيفة ، وأنس بن مالك ، ومحمّد بن إدريس الشافعي ، وأحمد بن حنبل) بعد اجتماعهم في الأندلس وتقرير الدولة الحاكمة آن ذاك على ذلك ، وكان في عصر علم الهدى المتوفّى سنة 436 ق. وإنّما حصروا المذاهب في الأربعة لتغلّب الأهواء والرأي والاستحسانات الظنّية عليهم ، وعدم تمسّكهم بعدل القرآن الكريم العترة الطاهرة أهل البيت (عليهم‌السلام) ولمآرب اخرى يذكرها التأريخ.
    وأمّا الإمامية فذهب المشهور بل الأشهر منهم إلى عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً وشرذمة قليلة كما ينسب إلى المحقّق القمّي في جامع الشتات (الصفحة 155) وصاحب الحدائق ، بل وسائر الأخباريين ذلك.
    وغاية ما يمكن أن يستدلّ به وجوه :
    الأوّل السيرة العقلائيّة :
    فإنّ العقلاء على مرّ التأريخ يرجع الجاهل منهم إلى العالم في كلّ فنّ وحرفة ومقام ومقال مطلقاً ، فلا يفرّقون بين الأحياء والأموات ، فربما المريض منهم يرجع إلى كتب ابن سينا كالقانون في الطبّ فيعالج نفسه ، كما لا فرق عندهم في طريقيّة الفتوى إلى الواقع بين الحيّ والميّت.

    وأُجيب : إنّ الرجوع إنّما يكون بالنسبة إلى الخبراء ، فإنّهم يرجعون إلى أمثالهم لتتميم معلوماتهم ، وأمّا غير الخبراء فرجوعهم غير معلوم ، بل ربما يوبّخ من رجع إلى ميّت وأخطأ ، بأنّه لِمَ لم يرجع إلى الحيّ ، لا سيّما مع الاختلاف بين رأي الأموات والأحياء. كما لم تثبت السيرة في الأحكام الشرعيّة ، كما لم تقم حجّة على صحّة سيرتهم ، فلم يدلّ دليل على رضا الشارع بسيرتهم ، كما لم تكن الكتب الفتوائيّة في الصدر الأوّل حتّى يثبت رجوع العوامّ إليها من باب بناء العقلاء وسيرتهم ، كما لنا الدليل على حجّية فتوى الحيّ فهو كان في روع السيرة ، ولو كانت السيرة ثابتة للزم حصر التقليد في واحد لوجود الأعلم ولزوم تقليده ، وقد يدّعى الإجماع على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، فلم يتمّ بناء العقلاء حينئذٍ.
    أدلّة عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً
    الإجماع :
    استدلّ المشهور على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً بالإجماع ، ولعلّه العمدة عندهم كما حكي ذلك عن جماعة منهم ، وأنّه من منفردات الإماميّة ، وعن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة عدم الخلاف ، والشهيد الثاني في المسالك وفي منية المريد كذلك ، وولده صاحب المعالم أنّه ظاهر الأصحاب ، وذهب الوحيد البهبهاني في الفوائد إلى الإجماع.
    وفي رسالة ابن أبي جمهور الأحسائي ما يظهر منه دعوى الإجماع عند

    الإماميّة وأنّ قول الميّت كالميّت ، وادّعى المحقّق النائيني في رسالته : إطباق الطائفة الأُصوليّة قديماً وحديثاً على عدم الجواز إلّا ما يظهر عن المحقّق القمّي وصاحب الحدائق من الميل إلى الجواز ، إلّا أنّ مخالفتهما لا يقدح في الإجماع الحدسي كما هو محقّق في محلّه ، فإنّ ما عند القمّي من ذهابه إلى اختصاص الخطابات الشرعيّة بالمشافهين ، ومن ثمّ انسداد باب العلم والعلمي وحجّية الظنّ المطلق ، ومنها قول الميّت وفتواه ابتداءً ، والمبنى هذا غير تامّ وإنّه مردود كما في علم أُصول الفقه.
    وأمّا حجّية الإجماع فذهب الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في تقريراته : إنّه بعد التتبّع واعتراف بعض الأعاظم بأنّه بعد الفحص الأكيد لم نطّلع على خلاف بين الأصحاب المجتهدين في الأوائل والأواسط على عدم تقليد الميّت ابتداءً ، فيفيد القطع بوجود دليل عند القدماء متّفق عليه بينهم في الحجّية ، ولا أقلّ من الأصل السالم عن المعارض ، وما توهّم دليل على الجواز من إطلاق الآيات والروايات ، وذلك فإنّ عثورهم على تلك الأخبار والآيات التي نتلوها عليك مع عدم اعتدادهم بشأنها ومصيرهم إلى ما تقضيه الأُصول والضوابط من المنع ممّا يقتصر بعدم انقطاع حكم الأصل ، فتطرّق الوهن في دلالتها على جواز تقليد الميّت بعد فرض دلالتها على أصل التقليد.
    فبناء العقلاء في الرجوع إلى المجتهدين الأموات وإن يدلّ على عدم اعتبار الحياة فيهم ، إلّا أنّ مع وجود هذا الإجماع وادّعائه يكشف عن حجّة معتبرة عندهم تدلّ على عدم تقليد الميّت ابتداءً.
    وأُورد على هذا : إنّه من الإجماع المدركي المستند على الأدلّة الاعتباريّة

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 13:59

    واللفظيّة ، فلم يكن من التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم (عليه‌السلام) حتّى يكون من الدليل ومن السنّة المعتبرة.
    إلّا أنّه يقال عدم تقليد الميّت كاد أن يكون من منفردات الإماميّة كما قيل ، بل كاد أن يكون من ضروريّات المذهب.
    ثمّ ممّا يستدلّ به ظواهر الكتاب والسنّة ، وأنّها تدلّ على الرجوع إلى نفس الفقيه لا إلى فتواه حتّى يتوهّم حجّيتها حتّى بعد موته ، كما كان ذلك في الرجوع إلى الراوي والرواية ، ففرق بين الفتوى والرواية ، فإنّ ظاهر الرجوع إلى المفتي هو نفسه ، بخلاف الرجوع إلى الراوي فالمقصود روايته ، فتكون حجّة حتّى بعد موت الراوي ، وبهذه الظواهر يرفع اليد عن بناء العقلاء في رجوعهم إلى الأموات ، فالشارع إمّا أن يكون بهذه رادعاً ، أو لا أقلّ لم يمضِ المبنى ، وهذا يكفي في ردّه ، فعدم الإمضاء يعدّ ردعاً.
    وربما يقال إنّ الظواهر تدلّ على اشتراط الحياة ، ولا تدلّ على الحصر في ذلك وعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، كما يدلّ عليه بناء العقلاء ، إلّا أنّه يقال : لم يتمّ دليل شرعي على اعتبار بناء العقلاء في الرجوع إلى المجتهد الميّت ، فلا يتمّ الاستدلال بسيرة العقلاء وبنائهم ما لم يحرز رضا الشارع بذلك كما يظهر من بعض الأدلّة حصر الحجّية في المجتهد الحيّ ، أضف إلى ذلك لو لم يتمّ الإجماع ولا الظواهر فإنّ الأمر يقتضي الرجوع إلى الدليل الفقاهتي من الأُصول العمليّة ، والحاكم في المقام في دوران الأمر بين التعيين في فتوى الحيّ والتخيير بينه وبين الميّت ، فيقدّم الأوّل للعلم بكفايته لبرء الذمّة بخلاف الثاني ، فإنّه مشكوك فيه ، فيقدّم المعلوم على المشكوك

    والمتعيّن على التخيير للاشتغال العقلي ، فإنّ العقل يحكم بسلوك الطريق الموصل قطعاً دون المحتمل والمشكوك كما هو واضح.
    وقيل : ربما الأحياء يكونوا أعلم من الأموات ، وبهذا لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ، وأُجيب ربما يكونوا عيال عليهم ، فلا إطلاق في المقام.
    المقام الثاني
    في البقاء على تقليد الميّت وأنّه هل يشترط الحياة في البقاء كما كان ابتداءً؟ وقد اختلف الأعلام في ذلك ما يزيد على عشرة أقوال :
    فقيل باعتبار الحياة مطلقاً ، فلا يجوز تقليد الميّت مطلقاً ، ابتداءً وبقاءً ، ذهب إلى هذا المحقّق النائيني.
    وقيل بعدم اعتبار الحياة بقاء ، فيجوز ذلك مطلقاً ، كما ذهب إلى المصنّف المحقّق اليزدي (قدس‌سره).
    وقيل بالتفصيل بين الميّت الأعلم يجب البقاء عليه والحيّ الأعلم فيجب الرجوع إليه ، والتخيير بينهما إن تساويا وإن كان الأحوط والأولى العدول إلى الحيّ ، ذهب إلى ذلك السيّد الميلاني (قدس‌سره).
    وذهب إلى التفصيل أيضاً المحقّق آقا حسين القمّي إنّ الأقوى الرجوع إلى الحيّ في جميع المسائل إلّا فيما يعلمه فعلاً من فتاوى الميّت التي توافق الاحتياط فيعمل بها ، ولا يلزم الفحص عنها مع عدم العلم فعلاً.

    وقال المحقّق السيّد البروجردي (قدس‌سره) بجواز البقاء في خصوص المسائل التي عمل بها.
    وذهب المحقّق الحائري المؤسس (قدس‌سره) : بأنّه إن أخذ الفتوى من الميّت في زمان حياته ولم يعمل به حتّى مات فلا يبعد كون العمل بتلك الفتاوى داخلاً في تقليد الميّت ابتداءً ، فالأحوط في هذه الصورة الرجوع إلى الحيّ ، نعم لو عمل ببعض فتاويه بانياً على الرجوع إليه في كلّ مسألة يحتاج إليها فالأقوى جواز البقاء مطلقاً.
    وذهب المحقّق السيّد أحمد الخوانساري (قدس‌سره) بتعيّن البقاء إلّا إذا كان الحيّ أعلم من الميّت ولم يكن قول الميّت مطابقاً للأعلم من الأموات.
    وقال الإمام الخميني (قدس‌سره) بجواز البقاء على تقليد الميّت بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل مطلقاً ، ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر ، ويجوز الرجوع إلى الحيّ الأعلم ، والرجوع أحوط.
    وذهب المحقّق السيّد الخوئي (قدس‌سره) إلى جواز البقاء وإن لم يعمل بعد ، نعم لا بدّ من تعلّم فتواه وعدم نسيانه ، فلو لم يتعلّم فتاواه ، أو تعلّمه ولكن طرأ عليه النسيان يلزم عليه الرجوع إلى الحيّ.
    وذهب المحقّق السيّد الكلبايكاني (قدس‌سره) : بالبقاء على رأي الميّت إذا تعلّم فتواه أو التزم بالعمل ، وإن لم يعمل بفتواه حال حياته.
    هذا واستظهر الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) كما في رسالة التقليد والتقريرات من كلمات المشهور ومعاقد إجماعاتهم عدم تقليد الميّت مطلقاً ابتداءً وبقاءً ، إلّا أنّه أُجيب بأنّه لم يثبت الإجماع على المنع مطلقاً ، بل كان ذلك في التقليد

    الابتدائي كما ذكرنا.
    وحكي عن المحقّق النائيني أنّه يرى اشتراط الحياة في المجتهد كاشتراط العدالة والعقل وما شابه ، فإذا زالت العدالة فلا يجوز تقليده ، كذلك الحياة ، فلو مات فلا يجوز تقليده ، إلّا أنّه أُجيب بأنّ تلك الشرائط إنّما ثبتت بدليل لفظي ، ومقتضى إطلاقه اعتبارها ابتداءً وبقاءً ، بخلاف شرط الحياة فقد ثبت بالإجماع أوّلاً وإن أُقيم على اعتبارها بعض الأدلّة اللفظيّة من الظواهر ، إلّا أنّها كانت قابلة للنقاش ، والإجماع دليل لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن وهو التقليد الابتدائي ، فيشترط فيه الحياة. وأُشكل عليه بأنّ الدليل في تلك الشرائط هو الإجماع أيضاً ، كما إنّه يعتبر الحياة بالاشتغال العقلي كما مرّ ، فلا ينحصر بالإجماع.
    ويرى السيّد الخوئي (قدس‌سره) الفرق بين الحياة وسائر الشرائط ، بأنّ نقصها يوجب سقوط المجتهد عن الأنظار كما لو أُصيب بالجنون أو الفسق بخلاف الموت ، فإنّه لا يكون من النقص بل يعدّ كمالاً للإنسان ، لتجرّد نفسه من عالم المادّيات إلى عالم المجرّدات.
    وأجاب بعض الأعلام بأنّ الموت وإن كان انتقال من عالم إلى آخر ، إلّا أنّ المجتهد الميّت لا يصلح لزعامة المسلمين ، إلّا أنّه لا يتمّ هذا الإشكال ، فإنّ الكلام ليس في صلاحيّة زعامة المسلمين ، إنّما هو العمل والمطابقة مع فتوى المجتهد. وعلى كلّ حال لم يقم دليلٌ تامّ على عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ، إلّا أن يقال إنّ مقتضى الأصل هو عدم الحجّية ، ولكنّ الأصل دليل عند عدم الدليل ، ولنا أدلّة تقول بالجواز ، كما سنذكر.

    أدلّة جواز البقاء على تقليد الميّت :
    استدلّ المشهور على جواز البقاء على تقليد الميّت بوجوه :
    الأوّل الإطلاقات :
    فإنّ ظهور الأدلّة اللفظيّة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة يدلّ على اعتبار الحياة في المجتهد الذي يرجع إليه في الفتوى كما مرّ ، ومقتضى إطلاقها أن تشمل كلّ من رجع إلى المجتهد في حياته بأخذ رسالته بقصد العمل بها ، أو بتعلّم فتواه ، أو كلّ ما يصدق عليه الرجوع إلى راوي الحديث والناظر في الحلال والحرام وأهل الذكر وما شابه من العناوين التي وردت في تعريف المجتهد في لسان الأدلّة ، وبعد موته يعمل بفتواه أيضاً جرياً على رجوعه السابق ، ولا يعتبر العمل في صدق الرجوع ، فإنّه لو سأل أهل الذكر وقبل العمل مات المسئول فعمل بجوابه ، فإنّه يصدق عليه أنّه رجع إلى أهل الذكر. وكذا من أخذ فتوى راوي الحديث ، فلم يكن من الرجوع الابتدائي إلى الميّت حتّى يمنع عنه ، فظاهر الأدلّة تدلّ على الرجوع إلى من يحمل مثل عنوان الناظر في الحلال والحرام وراوي الحديث حال حياته ، حتّى لو كان العمل بعد موته ، ولم تدلّ على تحقّق العنوان حال العمل أيضاً ، فمقتضى الإطلاق صحّة العمل بعد الموت أيضاً لو رجع إليه في حياته ، فيجوز البقاء على تقليد الميّت.
    الثاني بناء العقلاء :
    فإنّ السيرة العقلائيّة تدلّ على رجوع الناس إلى أهل الخبرة كرجوع المريض

    إلى طبيب حاذق فبعد أخذ الوصفة الطبيّة لو مات الطبيب ، فإنّهم يعملون بوصفته ، فلا يفرّقون بين الطبيب الحيّ والميّت بعد الرجوع إليه.
    ولا يقال : إنّ السيرة العقلائيّة إنّما تنفع لو أمضاها الشارع ، ولمّا يثبت ذلك كما كان في التقليد الابتدائي.
    فإنّه يقال : إنّه لم يكن في الابتدائي معهوداً في الشريعة فلا يمكن استكشاف رضا الشارع به ، بخلاف البقاء على آراء أهل الخبرة بعد موتهم فإنّه لم يردع الشارع عنه ، ولمّا كان منهم بل هو رئيسهم فيكشف حينئذٍ رضاه بذلك ، بل مقتضى الإطلاق كما مرّ في الوجه الأوّل إمضاء ما هم عليه من جواز البقاء على تقليد الميّت ، بل وجوبه في بعض الموارد ، كما لو كان الميّت أعلم من الحيّ.
    الثالث سيرة المتشرّعة :
    والتي تعني سيرة المؤمنين في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) على أمر شرعي ، فإنّه لم يسمع منهم أنّهم عند رجوعهم إلى أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) بأمر منهم أنّهم لم يأخذوا بقولهم بعد موتهم ، فلو كان لبان ، لا سيّما والمسألة كثيرة الابتلاء ، ومن القضايا التي توفّرت الدواعي لنشرها وانتشارها ، إلّا أنّه قيل في ردّها أنّ غاية ما فيها دلالتها على أخذ قول الأصحاب بعد موتهم ، وفي حياتهم وإن كان الرجوع إليهم بحسب الظاهر كما مرّ باعتبار الفتوى والنظر لا باعتبار الرواية والراوي ، إلّا أنّ الاطمئنان بقولهم باعتبار كاشفيّة الواقع وذلك إمّا لنقلهم الفتوى بنصّ الرواية كما ينقل ذلك عن الشيخ الصدوق في المقنع ، أو باعتبار نقل الرواية بالمعنى مع اطمئنان السامع بعدم وجود المعارض له وعدم صدوره للتقيّة ، أو باعتبار إفادته القطع للسامع ففي

    مثل هذه الموارد الثلاثة ربما تثبت بالسيرة المتشرّعة ، بخلاف ما نحن فيه من فتاوى الأصحاب بعد عصر الأئمة (عليهم‌السلام) ، فلم تثبت فيها سيرة المتشرّعة ، فتأمّل.
    الرابع العقل :
    فإنّه لو كان العدول من الميّت إلى الحيّ جائزاً أو واجباً للزم توارد تقليدين على قضيّة واحدة ، فيكون مثل توارد العلّتين على معلول واحد ، فكما لا يصحّ هذا في العقليّات كذلك لا يصحّ ذلك في الشرعيّات ، فلا يصحّ أن تكون الواقعة في الواقع ذات حكمين مختلفين باعتبار التقليدين ، فلا بدّ من البقاء على تقليد الميّت لوحدة القضيّة.
    وأُجيب :
    أوّلاً : إنّما يتمّ الإشكال في الوحدة الشخصيّة. والحال المراد من الوحدة في القضايا المبتلى بها الوحدة النوعيّة التي لها مصاديق شخصيّة مختلفة.
    وثانياً : إنّما يتمّ الإشكال بناءً على القول بالتصويب ، والحال نحن من المخطئة كما مرّ ، فإنّ فتوى المجتهد كسائر الأمارات ربما تصيب الواقع وربما تخطئ ، والباب باب المعذّرية والمنجّزية ، فلا مانع من تحمّل الواقعة للتقليدين المختلفين.
    الخامس العسر والحرج :
    فإنّه لو كان العدول جائزاً أو واجباً ، فإنّه يلزم العسر والحرج على المقلّدين العوام ، فإنّ التقليد كان يلزمه معرفة فتوى المجتهد الذي قلّده أوّلاً ، لتكون المطابقة المصحّحة للعمل ، وتعلّم الفتاوى على غالب الناس ليس من الأمر السهل ، ثمّ بعد موته لو أراد أن يتعلّم فتاوى الثاني فإنّه يقع في عسر وحرج فكيف بالثالث

    والرابع ، كما إنّ اختلاف الميّت والحيّ ربما يوجب قضاء ما فات فيلزمه العسر أيضاً.
    وأُجيب : إنّه بعد معرفة فتاوى الفقيه الميّت لا يصعب معرفة فتاوى الفقيه الثاني لقلّة الاختلاف بينهما كما في موارد الاحتياطات ، وأمّا القضاء فهو من القليل أيضاً ، كما يمكن أن لا يقضى تمسّكاً بحديث لا تعاد الصلاة مثلاً ، أو أنّه يقضى ما لم يستلزم العسر والحرج ، فإنّهما من الشخصي ويقدّران بقدرهما.
    السادس الاستصحاب :
    عند عدم تماميّة الدليل الاجتهادي في المقام ، فإنّه يرجع إلى الفقاهتي والأصل الحاكم هو الاستصحاب ، وقد قرّر بنحوين :
    الأوّل : كانت فتوى الفقيه حجّة حال حياته ، وبعد موته يشكّ في ذلك فيستصحب.
    الثاني : كان يجوز التقليد منه حال حياته وكذلك بعد موته استصحاباً.
    والفرق بين التقريرين أنّ الأوّل يعمّ التقليد الابتدائي دون الثاني.
    وأُشكل على التقريرين بإشكالات ثلاثة ، بأنّ الحجّية لم تكن حكماً شرعيّاً ، وأنّ الحياة مقوّم وأنّ الاستصحاب معارض بآخر.
    توضيح ذلك :
    أوّلاً : إنّ الاستصحاب إنّما يؤخذ به لو كان مفاده حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعي ، والحجّية في الفتوى أمر انتزاعي غير قابل للجعل ، بل إنّما هي من الحكم المجعول في مورده ، وإنّه بحكم العقل.

    وبعبارة اخرى : ما يؤخذ في موضوعات الأحكام يتصوّر على أنحاء ثلاثة :
    1 ـ أن يكون لمجرّد الإشارة إلى ما هو الموضوع واقعاً من دون دخل في الحكم لا في مقام الحدوث ولا في مرحلة البقاء ، كقولك اعمل بما في القانون. ولا مجال للاستصحاب حينئذٍ.
    2 ـ ما له دخل في مقام الحدوث ويشكّ في دخالته في مرحلة البقاء كتغيّر الماء بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة ، ولا فرق أن يكون ذلك بالوصف كقولنا الماء المتغيّر لونه أو طعمه أو رائحته بالنجاسة نجس ، أو بالشرط كأن يقال : إذا تغيّر الماء فهو نجس ، فالتغيّر من حالات الموضوع لا من مقوّماته فهو من الواسطة في الثبوت لا في العروض ، فعند الشكّ بزوال التغيّر بنفسه أو بعلاج يستصحب النجاسة.
    3 ـ أن يكون له دخل في الحكم حدوثاً وبقاءً ، فيكون مقوّماً للموضوع ، كقولنا قلّد المجتهد العادل ، فالعدالة من مقوّمات الموضوع في وجوب التقليد ، فلا مجال للاستصحاب بانتفاء الموضوع ، فقيل اشتراط الحياة في المجتهد من هذا النحو بالنسبة إلى حجّية الفتوى ، فلا مجال للاستصحاب حينئذٍ.
    وقيل : الظاهر أنّه من قبيل الثالث فلا يجري فيه الاستصحاب ، أو أن يقال عند الشكّ في كونه من الثالث ، فلا مجال للاستصحاب لارتفاع الموضوع على تقدير الشكّ في بقائه على تقدير آخر.
    وقد يقرّر عدم الاستصحاب بأنّ موضوع الحجّة هو الرأي ، وقد علمنا بزواله عند موته ويكون كمن تبدّل رأيه أو نسيه أو أُصيب بالجنون ، فلا يرجع إليه.

    هذا ما يقال في مقام الإشكال على الاستصحاب ، إلّا أنّه أُجيب (1) بأنّ الحجّية حكم وضعي مجعول وليس انتزاعيّاً ، كالفوقيّة من الفوق ، بل كلّ مقنّن نافذ الرأي ما يجعله يكون حكماً سواء أكان تكليفيّاً أو غيره كالوضعي ، سواء أكان أصليّاً كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة أو تبعيّاً ، كما لو كان مجعولاً بتبع التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.
    والحجّية الشرعيّة من الأحكام الوضعيّة دون الحجّية التكوينية التي هي بحكم العقل ، فلا يخلط بين الحجّيتين ، ففي التكوينيات انتزاعية غير قابلة للجعل لا أصلاً ولا تبعاً ، فإنّ المجعول ذات السبب كالنار ، لا السببيّة بين النار والحرارة ، فهي من لوازم الذات ، وأمّا في الشرعيات فهي اعتباريّة ، قابلة للجعل ، كقول الطالق : هي طالق.
    ففتوى المجتهد الحيّ كانت حجّة شرعيّة حال حياته ، وبعد موته يستصحب ذلك ، فيتمّ المطلوب.
    وإن نوقش في ذلك فيصحّ استصحاب الحكم الشرعي في مورد الحجّية الذي انتزعت منه ، وهو إمّا وجوب العمل أو جواز العمل على طبق فتوى هذا الفقيه في زمن حياته ، فيستصحب ذلك بعد موته.
    وأمّا الإشكال الثاني فتوضيحه : أنّ الحجّية في التقليد متقوّم بالحياة ، وبعد الموت يرتفع الموضوع ، أو لا أقلّ من الشكّ فيه ، فلا مجال للاستصحاب حينئذٍ
    __________________
    (1) أجاب بذلك السيّد الإمام (قدس‌سره) كما حكاه الدرّ النضيد.

    لاشتراط وجود الموضوع ووحدته في القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة.
    وأُجيب : إنّ الظاهر أخذ الحياة في المجتهد من حالات الموضوع لا مقوّماته ، فهو كالتغيير في الماء المحكوم بالنجاسة ، وليس من باب تبدّل الرأي وإصابة الجنون ، فإنّ أصابه الجنون وفقد العدالة يعدّ نقصاً ، بخلاف الموت فإنّه انتقال من عالم إلى آخر ومن المادّة إلى المعنى ، فهو كمال للفقيه لتجرّده كما مرّ ، فلا إشكال في الاستصحاب من هذه الجهة.
    وأمّا الإشكال الثالث :
    فأُشكل على الاستصحاب أيضاً بعدم جريانه في الأحكام الكلّية ، إلّا في استصحاب عدم النسخ ، وإنّما لا يجري في الكلّية لأنّه معارض باستصحاب آخر ، فإنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّي في غير عدم النسخ معارض دائماً باستصحاب عدم الجعل.
    توضيح ذلك : أنّ الشكّ في بقاء الحجّية إنّما يكون من جهة سعة المجهول وضيقه ، فلازم الاستصحاب في المقام سعة نطاق حجّية الفقيه فتعمّ حتّى بعد موته ، إلّا أنّه معارض باستصحاب عدم جعل الحجّية على رأيه وفتواه في هذا الحال ، ونتيجة الاستصحاب الثاني ضيق دائرة الحجّية ، كالاستصحاب في الماء المتغيّر بعد زواله بنفسه أو بعلاج ، فإنّه يدلّ على التوسعة إلّا أنّه معارض بعدم جعل النجاسة لهذا الموضوع في هذا الحال.
    وأُجيب هذا الإشكال بأنّه من الاستصحاب السببي والمسبّبي ، ومع جريانه في السبب لا مجال للمسبّب كالثوب المغسول بالماء المشكوك نجاسته وطهارته ،

    فاستصحاب طهارة الماء يرفع الشكّ في نجاسة الثوب المغسول به ، فيقال استصحاب عدم الجعل محكوم باستصحاب الحكم الفعلي من جعل الحجّية في الفتوى حال حياته ، فإذا جرى الأصل في المجعول واستصحبنا الحجّية إلى ما بعد الموت ، فلا يبقى الشكّ في الجعل أصلاً ، لحكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.
    إلّا أنّه أشكل على هذا الجواب بأنّه إنّما يتمّ لو كان المسبّب من الآثار الشرعيّة للسبب كالثوب المغسول بالماء المشكوك ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الحجّية والسببيّة والمسببيّة من الأُمور العقليّة ، لأنّها من الانتزاعيات.
    إلّا أنّه أشكل على هذا الإشكال أنّ الحجّية في المقام من الأُمور المجعولة شرعاً كما مرّ ، فاستصحاب الحجّية يلزمه رفع الشكّ في عدم جعل الحجّية ، فتأمّل.
    وربما أشكل على استصحاب عدم جعل الحجّية بأنّه لا يترتّب عليه حكم فعلي ، فلا مجال لمعارضته مع استصحاب بقاء المجعول إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت ، وهو كما ترى.
    وأُجيب : بأنّه لا يتمّ هذا الإشكال لترتّب الأثر ، فإنّ أثر كلّ شيء بحسبه ، فاستصحاب الجعل عند الشكّ في النسخ كما يجري ويلزمه التحرّك والانبعاث كذلك عدم الجعل لازمه الترخيص والإباحة حينئذٍ.
    كما أنّ استصحاب عدم جعل الحجّية لفتوى الميّت من الآثار الشرعيّة ، فليس أثراً عقليّاً له حتّى يكون من الأصل المثبت ، فتدبّر.
    فلا يبعد جريان استصحاب حجّية فتوى المجتهد بعد موته ، وإشكال عدم بقاء الموضوع أو معارضته باستصحاب عدم الجعل غير تامّ ، أضف إلى ذلك

    أنّ العمدة في الاستدلال في المقام هو الدليل الاجتهادي من إطلاق الأدلّة اللفظيّة وبناء العقلاء كما مرّ.
    هذا وما ذكر من جواز البقاء على تقليد الميّت فيما علم بتوافقه مع الحيّ ، أو احتمل ذلك ، وأمّا إذا علم بالمخالفة بينهما ، فإنّه لا يستدل حينئذٍ بإطلاق الأدلّة لسقوطها عن الحجّية في هذا الحال لعدم إمكان شمولها لكلا المتعارضين للتكاذب كما هو واضح ولا لأحدهما لعدم المرجّح بينهما.
    فعند الاختلاف والعلم به أو احتماله تكون المسألة ذات صور : فتارةً يعلم بأعلميّة الميّت فيجب البقاء عليه ، إذا لم تكن فتوى الحيّ مطابقة للاحتياط وإلّا يرجع إليه من باب الاحتياط لا التقليد ، وإنّما يرجع إلى الميّت عند كونه أعلم ، لبناء العقلاء وحكم العقل بالاشتغال من تقديم التعيين على التخيير في دوران الأمر بينهما. وكذا الكلام فيما إذا علم بأعلميّة الحيّ فإنّه يجب عليه الرجوع إليه للوجهين : بناء العقلاء وحكم العقل ، إلّا إذا كان فتوى الميّت مطابقاً للاحتياط فيجوز العمل بها احتياطاً.
    وإن علم بتساويهما أو احتمل أعلميّة كلّ منهما من الآخر ، فالاحتياط مهما أمكن ، وإلّا فنقول بالتخيير العقلي كما في دوران الأمر بين المحذورين ، فتأمّل.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (جواز البقاء) ،
    قال آقا ضياء : وذلك ولو من جهة استصحاب وجوب تطبيق العمل على قوله ، أو

    استصحاب بقاء الأحكام الناشئة من قبل حجّية رأيه عليه تعييناً ولو من جهة احتمال بقاء حجّية رأيه السابق عليه فعلاً فيصير موجباً لليقين بالحدوث والشكّ في البقاء لاحتمال قيام حجّة أُخرى ، فلا ينتقض بالجنون والفسق المجمع على عدم قيام شيء في بقاء الحكم الظاهري. نعم ، لا يتمّ استصحاب نفس حجّية الرأي إذ يرد عليه إشكال عدم بقاء الموضوع في مثله. نعم ، الأحوط حينئذٍ هو الأخذ بأحد القولين.
    وقال البروجردي : في المسائل التي عمل بها المقلّد.
    وقال الجواهري : بل الأقوى عدم الجواز.
    وقال الحكيم : بل وجوبه إذا كان الميّت أعلم ، ووجوب العدول إذا كان الحيّ أعلم ، أمّا مع التساوي فيتخيّر ، وإن كان العدول أولى وأحوط.
    وقال الخوانساري : بل يتعيّن البقاء ، إلّا أن يكون الحيّ أعلم من الميّت ولم يكن قول الميّت مطابقاً للأعلم من الأموات.
    وقال الخوئي : بل الأقوى وجوبه فيما تعيّن تقليد الميّت على تقدير حياته.
    وقال النائيني : بل الأقوى عدم جوازه مطلقاً.
    وفي قوله : (على تقليد الميّت) ، قال الشيرازي : فيما عمل به من المسائل.
    وقال كاشف الغطاء : في خصوص المسائل التي عمل بها ، وإن كان الأولى العدول فيها إلى الحيّ أيضاً.

    وفي قوله : (تقليد الميّت ابتداءً) ،
    قال الحائري : إذا أخذ الفتوى من الميّت في زمان حياته ولم يعمل به حتّى مات ، فلا يبعد كون العمل بتلك الفتوى داخلاً في تقليد الميّت ابتداءً ، فالأحوط في هذه الصورة الرجوع إلى الحيّ. نعم ، لو عمل ببعض فتاواه بانياً على الرجوع إليه في كلّ مسألة يحتاج إليها فالأقوى جواز البقاء مطلقاً.

    (المسألتان العاشرة والحادية عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 10 : إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ فلا يجوز له العدول إلى الميّت.
    مسألة 11 : لا يجوز العدول عن الحيّ إلى الحيّ إلّا إذا كان الثاني اعلم.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 9):
    في قوله : (لا يجوز العدول) : على الأحوط.
    وفي قوله : في مسألة 11 : (لا يجوز العدول) ، قال : الأقوى جوازه مطلقاً.
    وفي قوله : (إذا كان الثاني اعلم) : وذلك على مبنى الماتن حيث لا يكون قول المعدول عنه مطابقاً لقول من كان من الأموات أعلم من المعدول إليه.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:02

    أقول : من الأولى أن تذكر المسألة الحادية عشر أوّلاً ، وقد اختلف الأعلام في العدول من الحيّ إلى الحيّ على أقوال :
    فذهب صاحب النهاية والمحقّق الثاني والشهيد الثاني والمحقّق الأصفهاني إلى الجواز مطلقاً.
    وفي التهذيب وشرحه والذكرى والمحقّق القمّي والشيخ الأنصاري في رسالة التقليد ، فيما لو عمل برأي الأوّل عدم الجواز.
    وحكي عن المحقّق الحائري التفصيل بين العدول في الواقعة الشخصيّة فعدم الجواز دون الوقائع المستقبليّة إن قلنا : التقليد هو العمل وإلّا الجواز لو كان الالتزام.
    وقيل بأحوط القولين إن كانا متساويين ، أو كان الثاني اعلم ، إلى غير ذلك من الأقوال.
    واستدلّ القائل بجواز العدول بوجهين :
    الأوّل إطلاق الأدلّة :
    فإنّ الأدلّة مطلقة ولم تقيّد بعدم العدول أو الاستمرار في التقليد الأوّل أو ما شابه ذلك ، ولكن لا يتمّ هذا على إطلاقه ، لأنّ المجتهدين إمّا متساويان في فضيلة العلم والفقه ، أو مختلفان ، ثمّ إمّا متّفقان في الفتوى أو مختلفان ، فمع إحراز اتّفاقهما أو عدم إحراز مخالفتهما في الفتوى ، وبناءً على عدم وجوب تقليد الأعلم لعدم العلم بالمخالفة ، فلا مانع حينئذٍ من تقليدهما عملاً بالإطلاقات ، وأمّا مع العلم بالمخالفة وأعلميّة من قلّد ، فلا يجوز العدول عنه ، لعدم حجّية قوله ، كما يجب العدول إلى

    الأعلم ، ومع تساويهما فالإطلاق لا يشملهما لتعارضهما ثمّ التساقط ، وإلّا يلزم ترجيح بلا مرجّح ، ولكن مقتضى ما ورد في الأخبار العلاجيّة هو التخيير بين الأمارتين عند عدم المرجّحات الداخليّة والخارجيّة.
    وعن الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) : ثبوت الإجماع على التخيير بين الفتويين المتعارضين.
    وربما تدلّ سيرة المتشرّعة على ذلك ، ففي عصر الأئمة (عليهم‌السلام) كان الأصحاب مخيّرين في الرجوع إلى أصحاب الأئمة في أخذ الحديث والفتوى. بعد اجتماع شرائط الأخذ.
    ويدّعي السيّد الإمام الخميني (قدس‌سره) تسالم الأصحاب على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين وعدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين.
    هذا ولكنّ التخيير إنّما هو في الابتداء وأوّل الأمر ، ولا دليل لنا على الاستمرار ، فبعد أخذ أحد الخبرين المتعارضين لا يصحّ الرجوع إلى الخبر الآخر حينئذٍ ، لخروج المتحيّر الذي هو ملاك التخيير عن التحيّر.
    ثمّ الإجماع دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقّن فيه وهو التخيير الابتدائي دون الاستمراري ، فلا يصحّ العدول حينئذٍ ، لا سيّما على القول بأنّ التقليد هو الالتزام.
    الثاني الاستصحاب :
    عند عدم تماميّة الدليل الاجتهادي فإنّ الاستصحاب يدلّ على جواز العدول ، فقبل الأخذ بفتوى أحدهما كان يجوز الرجوع إلى أيّهما شاء ، فكذلك بعد

    الأخذ ، فإنّه يستصحب الجواز وبقاء الحجّية في فتوى الآخر.
    وأُشكل عليه :
    أوّلاً : بعدم اتحاد القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة لعدم اتّحاد الموضوع فيهما ، فإنّ التخيير الابتدائي إنّما كان لمن لم تقم له حجّة فعليّة ، فكان متحيّراً بين حجّتين شأنيّة ، وأمّا بعد الاختيار والخروج من التحيّر وفعليّة الحجّية ، فلا مجال للتخيير حينئذٍ ، فكيف يستصحب؟ فالمتيقّنة من لم يكن له حجّة فعليّة ، والمشكوكة من كان له ذلك ، فلا يجري الاستصحاب حينئذٍ ، لعدم إحراز الموضوع أو عدم وحدته.
    ثمّ دليل التخيير كان لُبيّاً باعتبار الإجماع أو سيرة المتشرّعة أو تسالم الأصحاب ، فلا إطلاق في البين حين يقال ببقاء الموضوع فيه.
    وثانياً : يلزمه تعارض استصحاب التخيير باستصحاب الحجّية الفعليّة للفتوى المختارة ، فلا يعقل بقاء حجّية التخيير مع الحجّية الفعليّة ، إلّا أنّ شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) يقول بحكومة الاستصحاب التخييري على الحجّية العقليّة من باب السببي والمسبّبي كالثوب المغسول ، وأُجيب بأنّ الملازمة بين بقاء الحجّية التخييريّة لفتوى المجتهد الثاني وعدم الحجّية للفعليّة التعيّنيّة لفتوى المجتهد الأوّل عقليّة ، باعتبار وجود أحد الضدّين ملازم لعدم الضدّ الآخر كالبياض والسواد للتضادّ بين الحجّتين التخييريّة الشأنيّة والفعليّة التعيّنيّة فليس عدم الحجّية الفعليّة من الآثار الشرعيّة ، وكذلك بقاء الحجّية التخييريّة حتّى يقال بالحكومة ، فإنّه يكون من الأصل المثبت.
    فما قيل من الوجوه على جواز العدول مطلقاً غير تامّ.

    أدلّة القائلين بعدم الجواز
    واستدلّ على عدم جواز العدول بوجوه :
    الأوّل الإجماع :
    حكى ذلك المحقّق القمّي في القوانين ، إلّا أنّه أُورد عليه بمخالفة جمع من الأصحاب كما مرّ كالعلّامة والمحقّق والشهيد الثانيين ، كما أنّ المسألة لم تكن معنونة عند القدماء حتّى يستكشف الاتفاق ، فإنّها حدثت في زمن المحقّق والعلّامة ، أضف إلى ذلك أنّه إجماع منقول بخبر الواحد فيدخل تحت الظنّ المطلق ولم يثبت حجّيته ، كما أنّه من الإجماع المدركي ، فلا ينفع ، لرجوعنا إلى الوجوه عند المجمعين ، فإمّا أن ندخل معهم أو نخالفهم.
    الثاني العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة :
    فإنّ جواز العدول لازمه العلم الإجمالي بالمخالفة القطعيّة في بعض الموارد ، بل العلم التفصيلي في العملين المترتّبين أحدهما على الآخر كصلاة الظهر والعصر ، فمن كان يفتي بالقصر عند طيّ أربعة فراسخ من دون نيّة الرجوع فقلّد العامي في صلاة الظهر ، ثمّ قلّد آخر يقول في المسألة بصلاة تامّة ، فصلّى العصر تماماً ، فإنّه يعلم قطعاً ببطلان العصر ، وباعتبار عدم القول بالفصل يقال بعدم العدول مطلقاً.

    وأُورد عليه بالنقض بموارد وجوب العدول كما لو كان الثاني أعلم أو طرأ النسيان على الأوّل ، أو عدل عن فتواه بعد العمل ، فمقتضى القاعدة الأوّلية بناءً على الطريقيّة عند العدول هو إعادة الأعمال التي أتى بها على طبق الفتوى الأُولى ، إلّا أن يقال بالإجماع على عدم الإعادة كما ادّعي ذلك ، وإلّا فلا بدّ من ملاحظة دليل كلّ مورد بالنسبة إلى الإجزاء وعدمه ، ففي الصلاة مثلاً يرجع إلى حديث لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة .. فإذا قيل باختصاصها بالنسيان فلا تشمل المورد فيلزمه الإعادة ، وإن قيل بعمومها للجاهل القصوري فلا يعيد حينئذٍ ، إلّا أن يقال : النقص في التمام في الركعتين الأخيرتين فهي من الموارد الخمسة ، فيعيد على كلّ حال عند العدول إلى الثاني.
    الثالث العدول يلزمه التبعيض أو نقض الأعمال السابقة :
    أشار إلى هذا الوجه المحقّق الأصفهاني بأنّ جواز العدول يستلزمه أحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ ، ولا يمكن المساعدة على شيء منهما ، أمّا التبعيض في المسألة الكلّية ، أو نقض آثار الأعمال السابقة إذا قلّد المجتهد الثاني في المسألة الكلّية.
    وأُجيب بأنّ مورد الفتوى هو المسألة الكلّية دون كلّ جزئيّ من جزئيّاته ، فلا يلزم فيه التبعيض ، نعم يلزم نقض الآثار المتقدّمة لمخالفتها لما هو الحجّة فعلاً على المكلّف ، والقاعدة الأوّلية تحكم بعدم الإجزاء ، إلّا إذا قام دليل على خلاف ذلك ، فهو شأن العدول الواجب.

    الرابع الاستصحاب :
    فإنّ فتوى المجتهد الأوّل بأخذها والالتزام بها صارت حجّة فعليّة في حقّ العاميّ المكلّف ، فإن شكّ أنّ الأخذ والالتزام علّة لحجّية فتواه حدوثاً وبقاء حتّى يتعيّن البقاء ، أو حدوثاً فقط حتّى لا يتعيّن البقاء ، فمع الشكّ يستصحب حجّية فتواه الفعليّة فلا يجوز العدول إلى آخر فإنّه لا معنى لحكمين فعليين لشخص واحد.
    وأُجيب بعدم تماميّة الاستصحاب بعدم بقاء الموضوع وعدم وحدته ، وبالمعارضة باستصحاب الحجّية التخييريّة الثابتة قبل الأخذ بفتوى أحدهما.
    الخامس الاشتغال :
    وهو العمدة في الوجوه التي يستدلّ على عدم جواز العدول ، وتقريبه على القول بالطريقيّة في الأمارة كما عند المشهور وهو المختار ، فإنّه بعد العلم الإجمالي بتنجّز الأحكام في الجملة ، ولا بدّ من تحصيل ما يؤمّن من العقاب بلزوم امتثالها أو ما جعله الشارع مبرءاً للذمّة تعبّداً ، والعمل بفتوى الأوّل مبرئ للذمّة مطلقاً سواء قلنا بالحجّية التخييريّة الشأنيّة ، أو الحجّية التعيّنية الفعليّة ، بخلاف العمل بفتوى الثاني ، فإنّه مشكوك فيه فيكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بين مقطوع ومعلوم الحجّية وبين محتمل الحجّية ، والعقل من باب الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البراءة اليقينيّة يحكم بالأوّل.
    وأمّا تقريبه على القول بالسببيّة والموضوعيّة في الأمارة ، فإنّه باعتبار أنّ الفتويين المتعارضين تدخلان في باب التزاحم ، والعقل يحكم أوّلاً بالجمع بينهما

    مهما أمكن ، وإلّا فيقدّم الأهمّ إن كان معلوماً أو محتملاً ، وإلّا فالتخيير بينهما ، وما نحن فيه فتوى المجتهد الأوّل محتمل الأهمية ولا يمكن الجمع فيقدّم.
    وبهذا الوجه على التقريرين يقال بالاحتياط الوجوبي في عدم العدول من الحيّ إلى حيّ آخر عند تساويهما في الفضيلة ، ومع القول بتقليد الأعلم فإنّه يقال بوجوب العدول لو كان الثاني اعلم وعلم بذلك ، وإلّا فلا يجوز العدول فتوى ، أو من باب الاحتياط الوجوبي لوجود الخلاف كما هو المختار.
    فرع :
    لو أراد أن يعدل من الحيّ إلى الميّت بعد تقليده والعدول منه إلى الحيّ ، فالمسألة ذات صور :
    بعد القول باشتراط الحياة في المجتهد كما سيأتي في شرائط المجتهد تفصيله فلا بدّ من المراجعة بعد موت المجتهد الأوّل إلى من كانت فتواه حجّة في حقّه من الأحياء ، وحينئذٍ إمّا أن يكون مساوياً له ، أو أعلم منه أو بالعكس. فإن كان الميّت أعلم واشترطنا الأعلميّة كما هو الأحوط فيجب البقاء عليه ، فيرجع إلى الميّت مرّةً أُخرى ، وإن كان الحيّ أعلم فيجب تقليده والبقاء عليه ولا يجوز العدول منه إلى الميّت مرّةً أُخرى ، وعند تساويهما ، فالأحوط عدم العدول أيضاً ، وحكمها حكم العدول من الحيّ إلى الحيّ.
    وقيل بعدم جواز العدول من الحيّ إلى الميّت لوجهين :
    الأوّل : كما في المستمسك للسيّد الحكيم (قدس‌سره) أنّه من التقليد الابتدائي الذي قام

    الإجماع على المنع عنه ، بناءً على الالتزام في التقليد ، وأمّا القول بالعمل ، ولم يعمل بفتوى الحيّ فإنّه يجوز له الرجوع فليس من الابتدائي.
    وأُجيب بأنّه إنّما يتمّ لو لم يرجع إلى الأوّل من قبل أو لم يعمل بفتواه ، والمفروض فيمن قلّده من قبل بأيّ نحو من الأنحاء ، ولو بالمطابقة والعلم بها ، ثمّ رجع إلى الحيّ ، فلم يكن تقليده مرّة أُخرى ابتدائياً كما هو واضح.
    الثاني : أنّ حجّية فتوى الميّت بعد العدول منه إلى الحيّ مشكوكة ، والأصل عدمها.
    وأُجيب : إنّه مقتضى الأصل في المفروض هو استصحاب الحجّية ، إلّا أن يقال بالاشتغال ودوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فيقال بالاحتياط بعدم جواز العدول كما هو المختار.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (لا يجوز له) ، قال آقا ضياء : إلّا إذا كان مساوياً أو أعلم ، وإلّا فلا بأس به بعد صدق الشكّ في بقاء أحكامه الظاهريّة.
    وقال الخميني : على الأحوط.
    وقال الخوانساري : تقدّم الكلام فيه.
    وفي قوله : (إلى الميّت) ،
    قال الحائري : على الأحوط.

    وقال كاشف الغطاء : حتّى لو كان الحيّ يرى جواز البقاء ، إذ العود يكون حينئذٍ كتقليد الميّت ابتداءً لمكان العدول.
    وفي قوله : المسألة 11 ـ (لا يجوز) ،
    قال الشيرازي والگلپايگاني والحائري : على الأحوط.
    وقال الفيروزآبادي : لا يبعد الجواز وإن كان أحوط.
    وقال كاشف الغطاء : لا يبعد جواز العدول وكونه استمرارياً.
    وفي قوله : (الثاني أعلم) ، قال آقا ضياء : أو مساوياً لكون التخيير استمرارياً.
    وقال الجواهري : ولا يبعد الجواز في المساوي.
    وقال الخميني : أو مساوياً.
    وقال الخوانساري : لا وجه للرجوع إلى قول الأعلم مع مطابقة قول غير الأعلم مع الأعلم من الأموات.

    (المسألة الثانية عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 12 : يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط ، ويجب الفحص عنه.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 9):
    في قوله : (يجب تقليد الأعلم) ، قال : لا يخلو عن شوب الإشكال ، والوجوه التي أُقيمت على لزومه من بناء العقلاء وأصالة التعيين والمقبولة وكلام عليّ (عليه‌السلام) في كتابه إلى الأشتر ، وأقربيّة قوله إلى الواقع وغيرها ، كلّها مدخولة ، وعلى فرض تسليم الاشتراط تشخيصه في كلّ المسائل من عوائص الدهر ومشكلاته ، ثمّ ما يذكره من الفروع الآتية مبنيّ على اشتراط الأعلميّة.
    وفي قوله : (ويجب الفحص عنه) ، قال : هناك صور شتّى مختلفة الحكم بناءً على اشتراط الأعلميّة ، فإطلاق الحكم بالوجوب لا يخلو

    عن إشكال.
    __________________
    أقول : اعتبار الأعلميّة في مرجع التقليد إمّا بمعنى انحصارها في شخص واحد في كلّ زمان ، أو اعتبارها عند التعارض في الفتوى بين الفقهاء ، والأوّل من فروع الإمامة فتكون الأعلميّة من مقوّمات الحجّية في الفتوى فيجب اتباعه حتّى على المجتهد غير الأعلم ، وهذا لم يكن المقصود من الأعلم في العبارة ، ولا في مقام التقليد ، وأمّا اعتبار الأعلميّة عند التعارض فهو المقصود للقول بالتخطأ في رأي المجتهد ، وأنّه من الأمارة الكاشفة عن الواقع ، ولهذا عند فقد الأعلم يرجع إلى غيره ، فلكلّ منهما كاشفيّة وطريقيّة ، إلّا أنّه حجّية المفضول شأنيّة ، وحجّية الفاضل فعليّة ، ولكلٍّ منهما كاشفيّة ذاتيّة ، فليس هما كالأصل والأمارة عند التعارض ، بل وزانهما وزان الخبرين المتعارضين.
    ثمّ اختلف الأعلام في لزوم تقليد الأعلم وعدمه على أقوال :
    فحكي عن الإرشاد والمعارج والنهاية والتهذيب والدروس والقواعد والذكرى والجعفريّة وجامع المقاصد وتمهيد القواعد والمعالم والزبدة القول بوجوب تقليد الأعلم.
    وفي رسالة تقليد الشيخ الأعظم : المشهور على تعيّن العمل بقول الأعلم ، بل لم يحك الخلاف فيه عن معروف. وفي كلام المحقّق الثاني التصريح بدعوى الإجماع عليه ، وظاهر الذريعة : كونه من مسلّمات الشيعة ، وعن الشهيد الثاني أنّه لم يعلم فيه خلافاً.

    وعن بعض المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين التخيير بين الفاضل والمفضول ، كما حكي استظهاره من صاحب الفصول ، وذهب إليه سيّدنا الأُستاذ النجفي المرعشي (قدس‌سره).
    وهناك من ذهب إلى التفصيل : كمن أوجب تقليد الأعلم عند العلم بمخالفة فتواه لفتوى غيره تفصيلاً أو إجمالاً في المسائل المبتلى بها. ومن احتاط وجوباً تقليد الأعلم مطلقاً مع الإمكان وأوجب الفحص عنه. ومنهم من أوجب الرجوع إليه لو لم يكن قول غيره موافقاً للاحتياط.
    ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسألة تبحث تارةً باعتبار عقل العامي المرتكز أي العقل الفطري ، وأُخرى باعتبار نظر المجتهد والفقيه بحسب ما يستنبطه من الأدلّة الشرعيّة.
    وباعتبار عقل العامي كما يدعوه إلى أصل التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، فإنّه يدعوه إلى تقليد الأعلم لا سيّما عند المعارضة والاختلاف بينهم ، فإنّه بحسب فطرته يرى أنّ رأي الأعلم أقرب للواقع ، فلا طريق له للمؤمّن من العقاب بعد علمه الإجمالي بالتكاليف وعدم وجوب الاحتياط عليه إلّا تقليد الأعلم ، للاشتغال ودوران الأمر بين التعيين والتخيير ، ويصحّ منه تقليد غير الأعلم لو رجع إلى الأعلم ، وكانت فتواه جواز تقليد غير الأعلم ، فتدبّر.
    وأمّا نظر المجتهد فلما علم اختلاف الأعلام في تقليد الأعلم وعدمه ، لا بدّ من عرض الأقوال والأدلّة ثمّ بيان المختار ، كما هو الديدن ، إلّا أنّه من باب المقدّمة يؤسس أصلاً يرجع إليه عند عدم تماميّة الأدلّة والأقوال.

    فنقول : لمّا كان المختار في أماريّة قول المجتهد هو الطريقيّة كما هو المشهور فتأسيس الأصل عليه تارةً يكون بنحو ينتج عدم لزوم تقليد الأعلم ، وأُخرى لزومه عقلاً.
    بيان ذلك :
    فيما لا يوجب تقليد الأعلم ، بأنّه لو كان مجتهدان متساويان في العلم ولا ثالث لهما ، فإنّ العقل يحكم بعد وجوب الاحتياط أو عدم جوازه فيتخيّر العامي بينهما ، وبعد الأخذ لو صار الآخر أعلم فيشكّ في بقاء التخيير فيستصحب ، وبعدم الفصل يتمّ في غير المفروض ، واستصحاب التخيير حاكم على دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
    وأُجيب بعدم وحدة الموضوع في القضيّتين ، ولا ينفع الاستصحاب الكلّي القسم الثالث لعدم الحكم الشرعي أو موضوعاً له في المقام ، فإنّ الجمع بين الحكم أمر انتزاعي اختراعي ، كما إنّه معارض باستصحاب آخر فيما لو انحصر أوّلاً التقليد في واحد لكونه أعلم ، فوصل الآخر إلى مرتبته فيستصحب تقليد الأعلم ويتمّ في غيره بالقول بعدم الفصل ، بل لا معنى للتمسّك بعدم الفصل في المسألة العقليّة ، فلا يتمّ هذا الأصل.
    وأمّا فيما يوجب تقليد الأعلم ، فبعد العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ولا بدّ من الخروج عن عهدتها تفصيلاً أو إجمالاً ، ولا يلزم الاحتياط ، بل ربما يقال بعدم جوازه للزوم اختلال النظام والعسر والحرج ، فيرجع الجاهل إلى العالم ، وعند دوران الأمر في الأعلم بين التعيين والتخيير ، فإنّ العقل الحاكم بالبراءة اليقينيّة

    للاشتغال اليقيني يحكم بالتعيين ، فالقدر المتيقّن من الخروج عن حرمة العمل بالظنّ هو العمل بفتوى الأعلم وأمّا فتوى غيره فمشكوك فيه.
    كما لا بدّ للمكلّف بعد اشتغال ذمّته بالتكاليف أن يأتي بما يصلح للاحتجاج به ، ويدور أمره بين حجّية الأعلم وغيره ، والاحتجاج بالأوّل معلوم دون الثاني فهو مشكوك فيه ولهذا يقدّم الأوّل فيلزم تقليد الأعلم باعتبار هذا الأصل ، ولمثل هذا لو لم تتمّ أدلّة الطرفين نقول بالاحتياط الوجوبي في تقليد الأعلم كما هو المختار.
    وأمّا أدلّة القائلين بجواز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم :
    فإنّه يستدلّ على جواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل بوجوه :
    الأوّل الآيات الكريمة :
    كقوله تعالى :
    (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
    فأهل الذكر يختلفون في العلم والفهم ، والمسؤول إمّا جميعهم ، أو واحد المعيّن منهم أو غير المعيّن ، والأوّل مقطوع البطلان ، والآخران غير مراد ، فيلزم أن يكون المراد السؤال عمّن شاؤوا من أهل العلم ، فإطلاق الآية يعمّ المفضول مع وجود الفاضل.
    وأُجيب باختصاصها ببني إسرائيل أو الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) ، أو موردها النبوّة دون الفتاوى ، وأنّها تدلّ على الرجوع من دون ملاحظة اختلافهم في الفضيلة كما هو المفروض مع تعارض الأفضل مع الفاضل ، فلا إطلاق فيها حتّى تشمل المخالفة في الفتوى والفضيلة.

    وكقوله تعالى في آية النفر :
    (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).
    فيدلّ على وجوب التحذّر العملي عند إنذار المنذر مطلقاً أعمّ من أن يكون أعلم منه.
    وأُجيب : بأنّ الظاهر منها هو التحذّر النفساني الحاصل بالمواعظ والنصائح دون نقل الفتاوى والإفتاء. ويظهر ممّا ذكر ضعف الاستدلال بآيتي الكتمان والشهادة أيضاً كما هو مذكور في المطوّلات.
    الثاني الروايات الشريفة :
    كمقبولة عمر بن حنظلة ، رواها المشايخ الثلاثة والشاهد في قوله : (من كان منكم فمن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً). فدلّت على نفوذ حكم الحاكم ، ولازمه نفوذ فتواه ، كما إطلاقها يشمل اعتبار الحكم في الشبهات الحكميّة ، ولا خصوصيّة في باب القضاء ، ومقتضى الإطلاق شموله لمفضول أيضاً.
    وأُورد عليه : بضعف السند لعدم ورود مدح وقدح في عمر بن حنظلة.
    وأُجيب كما مرّ بالتفصيل بشواهد تدلّ على مدح الرجل وقبول روايته إن لم تكن مصحّحة كما عند البعض من المعاصرين ، فلا غبار عليها من حيث السند ، نعم ربما يقع النقاش في دلالتها ، فإنّها تدلّ على نفوذ حكم الحاكم ونفوذ فتواه ، وتعميمه إلى فتوى الفقيه مشكل ، وليس المورد من باب إلغاء الخصوصيّة لاحتمالها باعتبار دخالة خصوصيّة معتدّة بها عرفاً كقول الخصومة والنزاع في

    ما نحن فيه ولم تكن ذلك في الفقيه والفتوى والإفتاء ، وكذلك عدم الأولويّة في الإفتاء فلا يتمسّك بالمقبولة في مسألة أصل التقليد وكذلك الأعلميّة ، فافهم.
    ومنها : التوقيع المبارك (أمّا الحوادث الواقعة) والحوادث بمناسبة الحكم والموضوع هي المرتبطة بالدين وهي تعمّ الرواية وما يفهم منها ، فتعمّ الفتوى ، ومقتضى الإطلاق عموم المراجعة فيعمّ المفضول مع وجود الفاضل.
    وأُجيب بضعف السند لإسحاق بن يعقوب ، ولكنّ الظاهر أنّه أخ محمّد بن يعقوب الكليني ، ويظهر من سلام الإمام (عليه‌السلام) إيّاه في آخر التوقيع جلالته كما جاء في التوقيع في إكمال الدين للصدوق والغيبة للشيخ الطوسي والاحتجاج للطبرسي ، فنقبل السند إلّا أنّه وقع نقاش في الدلالة ، بأنّ المقصود باب القضاء دون الإفتاء ، ويدفع بالأصل ، والتعميم للمفضول عند المخالفة مشكل ، فإنّها تدلّ على أصل الرجوع ، فلا إطلاق.
    ومنها : ما ورد في تفسير العسكري (عليه‌السلام) (وأمّا من كان من الفقهاء ..) ، فإطلاقها يقتضي الرجوع مطلقاً وحملها على الاتفاق في الفتوى حمل على الفرد النادر.
    وأُجيب : بضعف السند واختصاصها بمسألة النبوّة وتقليد اليهود ، فراجع.
    وهناك روايات اخرى كلّها قابلة للنقاش سنداً ودلالة ، فلا نطيل.
    الثالث لزوم العسر والحرج في تشخيص مفهوم الأعلم ومصداقه ، وتحصيل فتواه.
    وأُجيب : عدم لزوم الحرج في بيان المراحل الثلاثة لمعرفة المفهوم وتطبيقه

    على المصداق ، الشياع أو البيّنة أو العلم الوجداني ، كما يتيسّر جميع فتواه في رسالته العمليّة.
    الرابع سيرة المتشرّعة في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) إلى يومنا هذا ولو بالاستصحاب القهقرائي ، فإنّهم يرجعون إلى الفقيه من دون الفحص عن الأعلم.
    وأُجيب : إنّها ثابتة في الجملة ، فهي أخصّ من المدّعى ، فإنّها ثابتة مع عدم العلم بالاختلاف في الفتوى ، وأمّا مع العلم بالاختلاف فادّعاء السيرة من الصعب الصعاب.
    الخامس لو وجب الرجوع إلى الأعلم للزم عدم صحّة الرجوع إلى أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) مع حضورهم.
    وأُجيب : بأنّه لا يقاس بهم ، ولا اعتبار لقول الأصحاب مع العلم باختلاف مع قول الأئمة (عليهم‌السلام) ، فحجّية فتواهم إنّما هي في طول قول المعصوم (عليه‌السلام) لا في عرضه حتّى تقع المزاحمة.
    هذا وممّا ذكرنا ظهر ضعف ما يستدلّ على جواز تقليد غير الأعلم مع العلم بالمخالفة.
    أدلّة وجوب تقليد الأعلم
    وقد يستدلّ على وجوب تقليد الأعلم كما مرّ تفصيله ونشير إلى ذلك إجمالاً تعميماً للفائدة بوجوه :

    الأوّل بناء العقلاء ، بناءً على إمضائه شرعاً ولو بعدم الردع ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه لا يدلّ على تقليد الأعلم مطلقاً ، بل عند اختلافهما ، وأن يكون فتوى غير الأعلم مخالفاً للاحتياط ، وإلّا فيرجع إليه إن كان موافقاً للاحتياط ، وفي صورة توافقهما في الفتيا يرجع إلى أيّهما شاء كما هو المتعارف من رجوع الناس إلى بيوت الفقهاء العظام والمراجع الكرام رحم الله الماضين وحفظ الباقين.
    الثاني الإجماع ، كما حكي عن المحقّق الثاني وصاحب المعالم وعن السيّد المرتضى أنّه من مسلّمات الشيعة وإن كان في هذه النسبة تأمّل إلّا أنّه خالف الإجماع جماعة من الأصحاب ، كما يحتمل قويّاً أنّه من الإجماع المدركي فلا يتعبّد به ، لعدم كاشفيّته لقول المعصوم (عليه‌السلام).
    الثالث الروايات الشريفة ، منها : كذيل مقبولة عمر بن حنظلة عند اختلاف الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليهم‌السلام) بأنّه يؤخذ بأعدلهما وأفقههما وأصدقهما وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، وظاهر شمولها للشبهات الحكميّة كذلك ، ومن ثمّ يتمّ نفوذ فتوى الحاكم أيضاً ، وبعد إلغاء الخصوصيّة باعتبار ورودها في باب الميراث والدين يستفاد أنّ فتوى الأعلم بما هو فتواه يقدّم على غيره.
    لكن نوقش في السند والدلالة كما مرّ تفصيل ذلك ، بأنّ الجمع كان بالواو ولا بأو ، فلا بدّ من اجتماع الأُمور الأربعة ، كما يستفاد نفوذ حكم الأعلم ولا يعني عدم نفوذ حكم الغير ، ولا ملازمة في البين ، كما يصعب إلغاء الخصوصيّة بين باب القضاء الذي هو لرفع الخصومات والمنازعات توسعة على الناس ، وبين باب

    الإفتاء. فلا وحدة ملاك بينهما ، ثمّ بناءً على تماميّة إلغاء الخصوصيّة فإنّما يؤخذ بالأفقه في البلد الواحد كما كان في الحَكمين ، والحال فما يؤخذ في الفتوى باعتبار الأفقه والأعلم في كلّ البلاد الإسلاميّة ، وهذا فرق آخر بين البابين ، فتأمّل.
    ومنها : عن شيخنا الصدوق عليه الرحمة بإسناده عن داود بن الحصين عن مولانا الإمام الصادق (عليه‌السلام) في رجلين اتفقا على عدلين بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلفا على قول أيّهما يمضي الحكم ، قال (عليه‌السلام) : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر.
    وكذلك ما رواه الشيخ بإسناده.
    ويرد عليهما ما ورد على المقبولة سنداً ودلالة.
    ومنها : ما جاء في عهد مالك الأشتر لأمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) : (ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم .. إلى أن قال : وأفقههم في الشبهات وآخذهم بالحجج) ، فأمره (عليه‌السلام) أن يأخذ قول الأفقه سواء في القضاء أو الإفتاء.
    ونوقش في الدلالة : إنّه من شرط الكمال لا من شروط صحّة القضاء لعدم إمكان ذلك عادة ، كما إنّه يستفاد منه الأعلميّة الإضافيّة بالنسبة إلى رعيّة الوالي المعين له ، وهو غير الأعلمية المطلقة في الفتوى التي نبحث عنها. كما إنّ التعدّي من باب القضاء إلى باب الإفتاء دونه خرط القتاد ، كما يظهر أنّ ذلك من باب النائب الخاصّ فإنّه يتّصف بمثل هذه الصفات دون المنصوب العامّ ، إلّا أن يقال بوحدة الملاك وتنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة ، ثمّ الأفضليّة غير مساوقة للأعلميّة لصدقها

    على مطلق المزيّة ولو من جهة الأعدليّة وما شابه ذلك.
    ومنها : ما عن شيخنا المفيد (قدس‌سره) بسنده عنه (عليه‌السلام) : (إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ، فإنّه يدلّ على عدم جواز الإفتاء مع وجود الأعلم ، فلا يجوز إليه الرجوع حينئذٍ ، فيلزم تقليد الأعلم.
    ونوقش بضعف السند للإرسال ، كما إنّ المراد الرئاسة المنافسة للخلافة الحقّة التي لا تصلح إلّا لأهلها ، وإلّا فالرئاسة من دون الخلافة لا يشترط فيها الأعلميّة ، كما أنّ الظاهر من الحكم فيه هو الإشارة إلى موضوع أخلاقي وتربوي ، لا أن يستفاد منه الحكم الفقهي ، فتأمّل.
    وهنا روايات اخرى يرد عليها سنداً ودلالة لم نتعرّض لها طلباً للاختصار.
    الرابع حكم العقل ، بأنّ رأي الأعلم أقرب للواقع ، وكلّما كان كذلك فيجب اتّباعه ، وأُورد عليه في الصغرى بعدم الدوام فيها لموافقة غير الأعلم مع فتوى الميّت الأعلم منهما ، أو الحيّ غير الواجد لشرائط التقليد ، كما يرد النقاش في الكبرى بأنّ حكم العقل تارة يكون قطعياً فيؤوّل النقل معه ، وأُخرى في مقام الامتثال ، ويجوز للشارع أن يجعل بدلاً منه ، كما في الأمارات الشرعيّة ، ومع إمكان التعبّد بما يخالف رأي الأعلم فإنّه لا تتمّ الكبرى.
    ثمّ للمحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) توجيه آخر لحكم العقل : بأنّ فتوى الأعلم مقدّم على غيره باعتبار أنّه أكثر إحاطة على المدارك الفقهيّة والأُصوليّة ، فيكون أكثر حجّية ، فهو بالنسبة إلى المفضول كنسبة العالم إلى الجاهل.

    وأُجيب : إنّ ذلك عبارة أُخرى عن الأقربيّة للواقع ويرد عليه ما ورد عليها ، كما أنّ الاختلاف في الأذواق الفقهيّة لا في أصل الاستنباط وكيفيّته.
    وخلاصة الكلام : إنّ تقليد الأعلم إنّما يجب احتياطاً في بعض الصور ، وكذلك لزوم الفحص العقلي عنه إنّما يكون في بعض الصور لا مطلقاً وهو المختار ، كما يظهر من عبارة المصنّف المحقّق السيّد اليزدي (قدس‌سره) ومتّعنا الله سبحانه بأنفاسه القدسيّة.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (تقليد الأعلم) ،
    قال الحائري : إذا علم الاختلاف في الفتوى.
    وقال الفيروزآبادي : يحتاج إلى تفصيل وبيان من حيث المعنى المراد في المقام وموارد الاستثناء.
    وفي قوله : (على الأحوط) ،
    قال الأصفهاني : على الأقوى.
    وقال آل ياسين : وإن كان الأقوى جواز تقليد المفضول مطلقاً لا سيّما مع عدم العلم بمخالفته لفتوى الأفضل فضلاً عن صورة الموافقة ، وعليه فيسقط الكلام في الفروع الآتية المتعلّقة بتقليد الأعلم.
    وقال البروجردي والجواهري والحكيم والنائيني : بل الأقوى.
    وقال الخوئي : بل وجوبه مع العلم بالمخالفة ولو إجمالاً فيما تعمّ به البلوى هو الأظهر.

    وقال الشيرازي : في كونه أحوط مطلقاً ، حتّى فيما إذا تخالفا في الفتوى ولم تكن فتوى الأعلم موافقة للاحتياط ، بالإضافة إلى فتوى غيره نظر بل منع.
    وقال الگلپايگاني : مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى غير الأعلم تفصيلاً أو إجمالاً في المسائل المبتلى بها.
    وفي قوله : (يجب الفحص عنه) ،
    قال الشيرازي : إذا علم بوجوده ومخالفته مع غيره فيما هو محلّ الابتلاء وعدم موافقة فتوى غيره للاحتياط بالإضافة إليه.
    وقال الفيروزآبادي : في بعض الموارد.

    (المسألة التاسعة في المنهاج)
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    9 ـ وإذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما ، والأقرب الأخذ بأحوط القولين إذا كان أحدهما كذلك ، وإن كان صاحبه غير أورع (1).
    (المسألة الثالثة عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 13 : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخيّر بينهما ، إلّا إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 10):
    في قوله : (يتخيّر) ، قال : حيث لا يعلم مخالفتهما في الفتوى ،
    __________________
    (1) منهاج المؤمنين : 6.

    وإلّا فالأقرب الأخذ بأحوط القولين إن كان أحدهما كذلك وإن كان صاحبه غير أورع وإلّا فالتخيير كما أفاد.
    وفي قوله : (فيختار) ، قال : على الأحوط الأولى.
    وفي قوله : (الأورع) ، قال : في مقام العمل بالتجنّب عن المشتبهات أو الأخذ بالاحتياط في الخلافيّات لا في مقام الاستنباط بأن يكون منفقاً وسعه باذلاً جهده في البحث والتنقيب عن مستند الأحكام ، فإنّه لعلّه آئل إلى الأعلميّة المفروض عدمها في صورة التساوي.
    __________________
    أقول : يقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : ما حكم ما لو كان المجتهدان متساويين في الفضيلة أي العلميّة؟
    الثاني : ما حكم ما لو كان أحدهما يمتاز بالأورعيّة؟
    أمّا المقام الأوّل :
    فالمكلّف الملتفت إمّا أن يعلم توافقهما في الفتوى ، أو يعلم تخالفهما فيها بالإجمال أو التفصيل أو يحتمل التخالف ، فإنّ المسألة ذات صور :
    الاولى : لو علم بتوافقهما في الفتوى مع تساويهما في الفضيلة ، فالظاهر جواز تقليد أيّهما شاء ، كما يجوز تقليدهما معاً.
    الثانية : مع احتمال تخالفهما في الفتوى كذلك يكون الأمر فإنّه إذا جاز تقليد

    غير الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة مع الأعلم فبالأولويّة يجوز تقليد أيّهما شاء ، كما يشمل إطلاق أدلّة حجّية الفتوى لكلّ من المجتهدين المتساويين.
    الثالثة : وهي موضع الخلاف وذلك فيما عُلم باختلافهما في الفتوى بعلم تفصيلي أو إجمالي ، فقد ذهب المشهور إلى التخيير ، وذهب بعض إلى الأخذ بأحوط القولين ، وذهب آخر إلى الأخذ بما هو أحوط.
    ثمّ من الأعلام من ألحق هذه المسألة اختلاف الفتويين بمسألة اختلاف الخبرين. وفي بحث التعادل والترجيح من علم أُصول الفقه ذهب جمع إلى التساقط بينهما باعتبار الأصل الأوّلي من حكم العقل وبناء العقلاء ، فالمفروض عدم كاشفيّتهما معاً بالفعل للواقع للتكاذب بينهما باعتبار تعارضهما ، فالواقع ليس إلّا واحد منهما ، ولمّا لم يكن أحدهما مرجّح على الآخر ، وتقديم أحدهما على الآخر من دون مرجّح يلزمه الترجيح بلا مرجّح وهو ممنوع فيلزم تساقطهما عن الاعتبار ، فالأصل الأوّلي في الخبرين المتعارضين هو التساقط وعدم حجّيتهما.
    إلّا أنّه يمكن التعبّد بأحدهما ، فإن كان دليل على الأخذ بأحدهما لا على التعيّن بالتخيير الابتدائي فإنّه يؤخذ به ، وقد ورد في الأخبار العلاجيّة ، أنّه بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك القول.
    فقيل : باب اختلاف الفتويين باب اختلاف الخبرين ، إمّا لكون الفتوى بالدقّة من الخبر أو خلاصة الخبر ، أو بإلغاء خصوصيّة الخبريّة ، أو لإحراز المناط القطعي أنّهما من باب واحد.
    وأُجيب : لم يتمّ ذلك بالدليل ، ويبقى الشكّ في الإلحاق ، كما أنّ العرف لا يفهم

    كونهما الخبر والفتوى من باب واحد ، كما بينهما فرق واضح ولا مجال لإحراز المناط القطعي إلّا بشقّ الأنفس.
    وربما يستدلّ على التخيير حتّى مع العلم باختلافهما وتعارضهما بإطلاق الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، إلّا أنّه يردّه أنّ الإطلاق لا يعمّ المتعارضين ولا أحدهما المعيّن للزوم الترجيح بلا مرجّح والجمع بين الضدّين أو النقيضين.
    وقد يستدلّ على التخيير ببناء العقلاء وسيرة المتشرّعة بعدم توقّفهم بأخذ فتوى أحد المجتهدين المتساويين ، إلّا أنّه يدفعه بعدم تحقّق ذلك فإنّهم يحتاطون في اختلاف الأطباء مع تساويهم في الطبّ ، ولم تثبت السيرة المتشرّعة ، كما لم يثبت اتّصالها بزمن المعصوم (عليه‌السلام) ، فربما نشأت من فتوى المفتين.
    ولا يستدلّ بالإجماع لحدوث المسألة ولم يتعرّض لها القدماء في عبائرهم ، ويحتمل أن يكون مدركيّاً ، وأنّه من المنقول بخبر الواحد والأصل عدم حجّيته.
    والمختار أنّه يتخيّر بين المجتهدين المتساويين إذا لم يعلم مخالفتهما في الفتوى فيما هو محلّ الابتلاء ، وإن علم بالمخالفة فالأحوط الأخذ بأحوط القولين مع التمكّن ، وإلّا تخيّر في مطابقة العمل على إحدى الفتويين.
    المقام الثاني :
    أمّا المقام الثاني في تساوي المجتهدين في الفضيلة مع كون أحدهما أورع من الآخر ، فالكلام فيه تارة من جهة معنى الأورع ، وأُخرى من جهة حكم المسألة.
    فقيل : المراد من الأورع هو الأتقى ومن كان أكثر ورعاً لزهده وتقدّسه

    واجتنابه عن المشتبهات فهو الأورع في مقام العمل.
    وقيل : المراد منه في مقام الاستنباط إمّا بمعنى أنّ فحص أحدهما عن الدليل في استنباطه أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه فيبذل جهده في الإحاطة بمدارك الأحكام ومسانيدها ، وإمّا بمعنى عدم الإفتاء في المسائل الخلافية واحتياطه فيها دون الآخر.
    ثمّ حكى عن النهاية والتهذيب والذكرى والدروس والجعفرية والمقاصد العلية والمسالك وغيرها ترجيح الأورع من المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، واستظهر الشيخ الأنصاري الشهرة على ذلك ، وحكى عن المحقّق الثاني الإجماع عليه.
    قال الشهيد الثاني : إذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فإن اتّفقوا في الفتوى أخذ بها ، وإن اختلفوا وجب عليه الرجوع إلى الأعلم الأتقى ، فإن اختلفوا في الموضعين رجع إلى أعلم الورعين وأورع العالمين ، فإن تعارض الأعلم والأورع قلّد الأعلم ، فإن جهل الحال أو تساووا في الوصف تخيّر وإن بعد الفرض ، وربما قيل بالتخيير مطلقاً لاشتراك الجميع في الأهليّة وهو قول أكثر العامّة ، ولا نعلم به قائلاً منّا ، بل المنصوص عندنا هو الأوّل (1).
    ولا يخفى أنّ الكلام في المسارة تارةً باعتبار عقل العامي من غير تقليد في أورع المجتهدين وأُخرى باعتبار نظر الفقيه المجتهد بحسب ما يستنبطه من الأدلّة.
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 328 ، عن منية المريد : 304.

    فالأوّل ما يدركه عقل العامي ابتداءً هو الرجوع إلى الأورع بل إلى كلّ من له مزيّة وخصيصة مرجّحة ذاتاً أو عرضاً.
    وأمّا الثاني فالمسألة ذات صور :
    فتارةً يعلم المجتهد موافقة أحدهما للآخر في الفتوى ، فلا تكون الأورعيّة مرجّحة حينئذٍ وأُخرى لا يعلم مخالفته للآخر ، فكذلك لا ترجيح للأورعيّة لقيام السيرة على ذلك. وإن علم بالمخالفة فالمشهور تقديم الأورع ، واستدلّ بوجوه :
    الأوّل : الإجماع ، وهو كما ترى من طرح المسألة عند المتأخّرين ، وأنّه ربما يكون من المدركي الذي لا حجّية فيه بنفسه ، كما أنّه من المنقول الذي هو من الظنّ المطلق الذي ليس بحجّة.
    الثاني : الأخبار ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، قال (عليه‌السلام) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما وأورعهما ، ولا يلتفت إلى الآخر.
    ونحوها : رواية داود بن حصين ، قال (عليه‌السلام) : (ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفّذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر).
    ومنها : المرسل المروي أنّه (لا يحلّ الفتيا إلّا لمن كان أتبع أهل زمانه برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)).
    وأُجيب : أنّها وردت في القضاء ، وإلحاقه الإفتاء به دونه خرط القتاد ، لخصوصيّة القضاء باعتبار رفع الخصومة المطلوبة شرعاً كما مرّ سابقاً ، والمرجّح في القضاء لا يلزمه أن يكون مرجّحاً في باب الإفتاء والتقليد ، كما أنّ بعض الروايات ضعيفة السند ، كما أنّ مفروضها ترجيح الأورعيّة في أصل التقليد لا في مورد

    التعارض.
    الثالث : كون فتوى الأورع أقرب إلى الواقع من غيره. وقد مرّ جوابه.
    الرابع : الأصل العقلي من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، ويقدّم الأوّل.
    ففتوى الأورع مقطوعة الحجّية بخلاف غيره مع وجود الأورع فهو مشكوك الحجّية ، والشكّ في الحجّية يساوق عدمها ، فالأورعيّة مرجّحة لا محالة. تمسّك بهذا سيّدنا الحكيم (قدس‌سره).
    وأُجيب : أنّه لا مدخليّة للأورعيّة في مقام العمل في زيادة المناط في حجّية الفتوى ، فلا يكاد تجري أصالة التعيين عند الدوران بينه وبين غيره ، إلّا فيما احتمل دخل الخصوصيّة المشكوكة في الكاشفيّة والحجّية ، لا في مطلق الخصوصيّة ، وإلّا يلزم الأخذ بفتوى الأسنّ أو الأكثر حفظاً وذاكرةً من الآخر أو كونه هاشمياً وهو كما ترى.
    نعم لا يبعد القول بترجيح الأورعيّة في مقام الاستنباط ، فربما الأورعيّة لها دخل في قوّة الاستنباط.
    فالمختار من الأولى ترجيح الأورع في مقام العمل على غيره ، وأمّا الأورع في مقام الاستنباط فالأحوط لزوماً تقديمه ، والله العالم بحقائق
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:03

    آراء الأعلام :
    في قوله : (يتخيّر بينهما) ، قال السيّد الخوئي : مع عدم العلم بالمخالفة ، وإلّا فيأخذ بأحوط القولين ، ولو فيما كان

    أحدهما أورع.
    وفي قوله : (فيختار الأورع) ، قال المحقّق آقا ضياء : في وجوبه نظر لأنّ المناط حكم العقل في باب رجوع الجاهل إلى العالم ليس إلّا لأقربيّته إلى الواقع ، وفي هذه الجهة لا يكون لجهة الورع والعدالة دخل البتّة ، غاية الأمر حيث كان حكم العقل تعليقيّاً ، لا بدّ من الرفع عنه بمقدار ما ثبت من قبل الشرع اتّباعه ، وليس هو إلّا اعتبار طبيعة العدالة في المفتي ليس إلّا ، ومن هذه الجهة نلتزم بأنّ الأعلم العادل مقدّم على الأعدل العالم ، وإلّا فليس في البين إطلاق يستكشف منه هذه الجهة كما لا يخفى.
    وقال الشيخ آل ياسين : على الأحوط وإن كان لا يجب.
    وقال الشيخ الجواهري : لا يجب اختيار الأورع ، نعم هو أحوط.
    وقال الإمام الخميني والسيّد الفيروزآبادي والسيّد الگلپايگاني : على الأحوط الأولى.
    وقال السيّد الخوانساري والسيّد الشيرازي والشيخ النائيني : على الأحوط.

    (المسألة الرابعة عشرة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 14 : إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 10):
    في قوله : (من غير الأعلم) مع رعاية الأعلم فالأعلم بناءً على الاشتراط ، ثمّ ما ذكره (قدس‌سره) يتمّ إذا لم يكن مدرك غير الأعلم ، ومستنده في الفتوى مخدوشاً عند الأعلم ، وإلّا فالأحوط الرجوع إلى الاحتياط.
    وفي قوله : (وإن أمكن) ، قال : بناءً على ما تقدّم الطريقين عليه أو عرضيّة الطرق الثلاثة ، وأمّا لو قيل بتقدّمه على التقليد في صورة عدم لزوم المحاذير المذكورة سابقاً كما عن بعض فيشكل الرجوع إلى الأعلم فكيف إلى غيره. (1)

    أقول : لا يخفى أنّ عدم الفتوى للأعلم في الحكم الواقعي وقوله بالاحتياط يكون لأحد أُمور أربعة حسب التصوّر الأوّلي.
    1 ـ لعدم استفراغ الوسع في استنباط الحكم فيقول بالاحتياط.
    2 ـ لعدم الفحص والمراجعة التامّة في مدارك ومسانيد المسألة فيشير إلى هذا المعنى بقوله مثلاً : إنّ المسألة تحتاج إلى التأمّل ، أو مزيد التأمّل ، أو غير خالٍ عن الإشكال ، أو لا يخلو عن النظر وما شابه ذلك ، فتكون الشبهة له بدويّة فيحكم بالاحتياط.
    3 ـ أن يخدش بمدارك المسألة عند غيره ، فيخطأ الآخر في فتواه.
    4 ـ أن يكون له فتوى بالحكم الظاهري ، كأن يفتي بوجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي وتعارض الأدلّة.
    في الأوّلين يجوز الرجوع إلى غير الأعلم مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، فإنّ قوله حجّة من غير معارض له ، فإنّ تقليد الأعلم إنّما يجب لو كان له فتوى ، وإلّا فلا ، فمراجعة المقلّد إليه يكون بمنزلة مراجعة الجاهل إلى مثله ، ولا فرق في ذلك بين أن يتمكّن العامي من الاحتياط أو غيره ، لعدم وجوب الاحتياط عليه ، بل الواجب رجوعه إلى العالم مطلقاً حتّى لو تمكّن من الاحتياط.
    وفي الأخيرين لا يصحّ رجوع العامي إلى غير الأعلم ، لأنّه في الثالث يرى عدم تماميّة أدلّة الغير فيلزم العامي حينئذٍ الاحتياط في العمل ، وفي الرابع له حكم ظاهري ولا يلزم في تقليد الأعلم أن يكون في الحكم الواقعي ، ففتواه بالحكم الظاهري يمنع عن حجّية فتوى الغير.

    آراء الأعلام :
    في قوله : (من غير الأعلم) ،
    قال الشيخ آقا ضياء : مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، لأنّه المتيقّن بالإضافة عند التنزيل من الأعلم بقول مطلق.
    وقال السيّد البروجردي : مع رعاية الأعلم منهم فالأعلم.
    وقال الشيخ الجواهري : لكن الأعلم فالأعلم.
    وقال السيّد الخميني : مع رعاية الأعلم منهم على الأحوط.
    وقال السيّد الخوانساري : إذا كان عدم إفتاء الأعلم من جهة عدم المراجعة بمدرك المسألة ، وأمّا إذا كان عدم الإفتاء من جهة الخدشة والإشكال في المدرك وعدم تماميّة المدرك عنده في المسألة فلا وجه للرجوع إلى غير الأعلم ، لأنّ مدرك فتواه في المسألة مخدوش في نظر الأعلم ، فالمتعيّن حينئذٍ الاحتياط.
    وقال السيّد الشيرازي : مع رعاية الأعلم فالأعلم على النحو الذي مرّ في مسألة (12) عند قوله : ويجب الفحص عنه.

    (المسألة الخامسة عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي قدس‌سره الشريف :
    مسألة 15 : إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميّت فمات ذلك المجتهد ، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، بل يجب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 11):
    في قوله : (في هذه المسألة) ، قال : مع الاتكال على فتوى ذلك الميّت والاستناد إليه من دون مدخليّة الحيّ أصلاً.
    وفي قوله : (بل يجب) ، قال : الصور المتصوّرة هنا كثيرة تبلغ التسع ، بل تربو عليها باعتبار كون فتوى الميّت حرمة البقاء أو جوازه أو وجوبه ، وكذا الحيّ المرجوع إليه ، وحكم تلك الصور غير خافية على المتدرّب.

    أقول : ظاهر المسألة أنّ العامي لو قلّد مجتهداً فمات ، فقلّد آخراً فمات ، فيقلّد ثالثاً ، فإذا كان الثاني يقول بجواز البقاء على تقليد الميّت ، فبقي على الأوّل ، فعند موت الثاني هل يبقى على الأوّل ، أو يرجع إلى حيّ ثالث. يقول السيّد بوجوب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه أي يرجع إلى المجتهد الثالث.
    كما إنّ ظاهر العبارة يحتمل أن يقلّد الثاني في خصوص المسائل الفرعيّة ، ومنها مسألة البقاء ، كما يحتمل خصوص البقاء ، ولمّا كان التقليد عند المصنّف هو الالتزام فيحتمل أن يكون المراد ما هو الأعمّ.
    ثمّ الوجوب هنا كما في أصل التقليد وتقليد الأعلم إنّما هو الوجوب الفطري الارتكازي ، فما يدركه عقل العامي في باب التقليد هو تحصيل المؤمّن من العقاب بعد العلم الإجمالي بأنّه مكلّف بتكاليف شرعيّة. والمؤمّن للعقاب في المقام يكون بتقليد الحيّ الأعلم للقطع بحجّية فتواه ، فيقدّم في دوران الأمر بين التعيين والتخيير للاشتغال العقلي قول الأعلم كما ذهبنا إليه ، فيسقط فتوى الميّت عن الحجّية بموته ، كما لا يعتمد على تقليده بتقليده ، للزومه الدور.
    فالعقل الفطري الارتكازي كما يقوده إلى أصل التقليد ، ثمّ تقليد الأعلم ، كذلك يقوده بعد موت الأعلم إلى تقليد الحيّ للأعلم.
    ولا منافاة بين هذه المسألة والمسألة التاسعة من جواز البقاء على تقليد الميّت ، فإنّه من المطلق والمقيّد ، فيجوز البقاء إلّا في البقاء ، كما أنّ هنا باعتبار العقل الارتكازي للعامي ، وهناك باعتبار نظر المجتهد وفتواه في البقاء ، فلو رجع إلى الحيّ الأعلم ، وأفتى بالجواز ، لجاز البقاء على تقليد الميّت.

    ثمّ فتوى الميّت في مسألة البقاء لا تخلو من ثلاث حالات ، إمّا جواز البقاء أو وجوبه أو حرمته ، وكذلك فتوى الحيّ ، فتكون الصور من ضرب ثلاث في ثلاثة تسعة. وهي كما يلي إجمالاً :
    1 ـ فإذا أفتى الحيّ بحرمة البقاء ، لم يجز له البقاء على تقليد الميّت مطلقاً سواء قال بالجواز أو الوجوب أو الحرمة.
    2 ـ وإذا قال بجواز البقاء أو وجوبه والميّت يقول بحرمة البقاء فهذا ما يذكره السيّد اليزدي في مسألة (26) ، وحاصلها لزوم متابعة الحيّ والعمل بفتواه ، فيجوز البقاء أو يجب في غير مسألة البقاء ، لسقوطها عن الحجّية بموته ، ولا مانع من ذلك.
    3 ـ وإن أفتى بالجواز كالحيّ فلا إشكال في جواز البقاء مطلقاً.
    وربما يقال بعدم الجواز في مسألة الجواز لأمرين :
    الأوّل : لزوم اللغويّة وتحصيل الحاصل حينئذٍ.
    الثاني : استلزام ذلك أخذ الحكم في موضوع نفسه وهو محال.
    وأُجيب عن الأوّل باختلاف الموضوع لكثرة الأقوال في معنى التقليد من الالتزام والعمل والمطابقة وغيرها.
    وعن الثاني بترتّب الأحكام على الموضوعات وإن لم يعمل به في المسائل ، فإذا ثبت حجّة فتواه ثبتت أحكام موضوعات المسائل ، فلم يلزم أخذ الحكم في موضوع نفسه.
    4 ـ وإذا كان فتوى الحيّ والميّت بجواز البقاء ، فإنّه يجوز البقاء على رأي الميّت في سائر المسائل مستنداً بفتوى الحيّ القائل بجواز البقاء ، وكذلك لو قالا

    بوجوب البقاء.
    5 ـ وإذا أفتى الحيّ بوجوب البقاء والميّت بجواز البقاء ، فقد ذهب الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) إلى أنّ فتوى الحيّ لا تشمل مسألة جواز البقاء ، للزوم التناقض حينئذٍ ، فإنّه يلزم كون فتوى الميّت حجّة تعيّنيّة باعتبار فتوى الحيّ ، وحجّة تخييريّة باعتبار فتوى الميّت ، فالحيّ يفتي بعدم جواز الرجوع ويعيّن تقليد الميّت ، والميّت يفتي بجواز الرجوع ، وهذان متناقضان.
    وأُجيب : إنّما يلزم ذلك لو كان موضوع الجواز عند الميّت متّحداً مع ما هو الموضوع لمسألة الوجوب عند الحيّ ، وعلى تقدير الاختلاف كانت دائرة موضوع الوجوب عند الحيّ أوسع منها عند الميّت ، فلا يلزم المحذور المتوهّم لو كان فتوى الميّت بجواز البقاء بمجرّد الالتزام ، وإن لم يعمل ، وفتوى الحيّ بوجوب البقاء مع العمل ، فحجّة تعينيّة في خصوص المسائل التي عمل بها ، وأمّا فيما لم يعمل بها فليس فيها إلّا فتوى الميّت بجواز البقاء ، وهي حجّة تخييريّة ، فلا يلزم اجتماع حجّتين تعيّنيّة وتخييريّة حتّى يلزم التناقض.
    ثمّ لا مانع من اجتماعهما إذا كانا من جهتين كما هو المفروض ، فتعيّنيّة من جهة الحيّ وتخييرية من جهة فتوى الميّت ويشترط في التناقض الوحدات الثمانية كما في علم المنطق ولم يتحقّق هذا المعنى في المقام فهما نظير فتوى غير الأعلم ، فتقليد الأعلم وتقليد الأعلم لغير الأعلم.
    وإذا أفتى الحيّ بالجواز والميّت بالوجوب ، فمعناه أنّ المكلّف مخيّر حدوثاً وبقاءً بين البقاء على تقليد الميّت والعدول عنه ، ولا تأثير لفتوى الميّت بوجوب

    البقاء لسقوطه عن الحجّية الفعليّة بموته ، فالمقلّد مخيّر بين العدول عن الميّت إلى الحيّ والبقاء على آرائه ، وإذا رجع إلى مسألة البقاء ، فلا يجب عليه ذلك في بقيّة المسائل الفرعيّة ، فله أن يعدل إلى الحيّ ويعرض عن البقاء.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (في هذه المسألة) ،
    قال السيّد الخوانساري : إذا كان متّكلاً في البقاء إلى الميّت من دون الاتّكال إلى الحيّ ، ومع الاتّكال يجوز حتّى في هذه المسألة.
    وفي قوله : (إلى الحيّ الأعلم) ،
    قال السيّد الخميني : على الأحوط.

    (المسألة السادسة عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 16 : عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل وإن كان مطابقاً للواقع ، وأمّا الجاهل القاصر أو المقصّر الذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً ، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.
    جاء في الغاية القصوى (1 : 11):
    في قوله : (الملتفت) ، قال : الملتفت إلى امتثال الأحكام حتّى حين العمل ، ولو كان تاركاً للتعلّم تهاوناً.
    وفي قوله : (باطل) ، قال : إذا لم يطابق الواقع ولا فتوى من يجوز تقليده ولم يتمشّ منه قصد القربة كما في فرض المتن ، وإلّا فالأقوى الصحّة خصوصاً في المعاملات والتوصّليات التي يترتّب عليها أثر

    عمليّ ، نعم لا مؤمّن له ظاهراً ما لم تنكشف المطابقة كما أشرنا إليه.
    وفي قوله : (وحصل منه) ، قال : تمشّي القربة من المقصّر الملتفت لا ريب في إمكانه فكيف بالقاصر والمقصّر الغير الملتفت ، نعم الذي لا يتحقّق من الملتفت هو الجزم بالنيّة ، ولا دليل على لزومه في صحّة الأُمور العباديّة ، والتحقيق موكول إلى محلّه.
    وفي قوله : (غافلاً) ، قال : حين العمل الذي أتى به جازماً به ولو كان ملتفتاً إلى الأحكام قبل العمل وغفل حينه.
    وفي قوله : (مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلّده) ، قال : المعيار مطابقة عمله للواقع والطريق إليه فتوى المجتهد الذي يجوز تقليده سواء أكان من قلّده أم غيره.
    __________________
    أقول : لقد مرّ في المسألة السابعة عند المحقّق اليزدي أنّ عمل العامي من دون تقليد ولا احتياط باطل ، والبطلان إنّما هو باعتبار حكم العقل ، فليس البطلان رأساً حتّى لو انكشف العمل مطابقاً للواقع ، بل بمعنى عدم جواز الاكتفاء بعمله ما لم ينكشف مطابقته للواقع أو ما بحكم الواقع كالأمارات ، وهذا بحكم العقل لقاعدة الاشتغال. وما أفاده المحقّق السيّد (قدس‌سره) هنا إنّما هو لبيان حكم أقسام الجهل بالحكم بلحاظ المطابقة مع الواقع أو ما بحكمه وعدم المطابقة.
    والجاهل بالحكم إمّا أن يكون قاصراً في ذلك كأن يكون في البلاد النائية التي لم يصل إليه الحكم أو يكون مقصّراً كمن كان متمكّناً من معرفة الحكم إلّا أنّه

    لم يسأل تهاوناً وما شابه ذلك ، ثمّ المقصّر إمّا أن يكون ملتفتاً حين العمل أو يكون غافلاً عند ذلك ، والعمل إمّا أن يطابق الواقع أو فتوى من يجب عليه تقليده حين العمل أو حين الرجوع وهو ما بحكم الواقع ، أو لا يطابق. فالمسألة ذات صور.
    ثمّ الجاهل القاصر لا يتحقّق في حقّه العقاب فيما إذا لم يطابق عمله الواقع ، وكذلك من استند إلى حجّة شرعيّة ولم يطابق الواقع ، وأمّا المقصّر فمن أجل تهاونه يعاقب إذا لم يطابق عمله للواقع بل قيل حتّى مع المطابقة للتجرّي إذا كان ملتفتاً حين العمل ، لاحتمال الصحّة والفساد وعدم مبالاته.
    والجاهل بقسميه إذا طابق عمله الواقع فإنّه يصحّ في العبادات كالصلاة في وقتها أو خارجه ، والعبادات بالمعنى الأخصّ كالنكاح أو الأعمّ كغسل الثوب المتنجّس بالبول من دون تعدّد بالماء الكثير ، فإنّه لا يبطل العمل عند المطابقة ، لأنّ الاجتهاد والتقليد ليسا من شرط الصحّة في العمل سواء كان توصّليّاً أو معامليّاً أو عباديّاً ، بل لأجل كونهما طريقاً لامتثال الأحكام الواقعيّة ، وفي التوصّليّات الأمر واضح لعدم قصد القربة ، وكذلك العباديات ، إلّا أنّه يشترط فيها استناد الفعل إلى الله سبحانه ويصدق هذا مع قصد الرجاء في الجاهل المقصّر الملتفت ، وإن كان لا يمكنه الجزم بالنيّة إلّا بالتشريع المحرّم إلّا أنّه ليس بشرط عندنا ، لعدم دليل معتبر على ذلك كما مرّ تفصيله بل يكفي مجرّد الإضافة إلى الله عزوجل ولو بقصد الرجاء.
    وإن قيل : إنّ هذا يتنافى مع ما حكاه الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) من ذهاب المشهور أو الإجماع إلى بطلان العمل في مثل هذه الصورة ، كما حكى عن السيّد

    الرضي وقرّره السيّد المرتضى (قدس‌سرهما) في مسألة الجاهل بحكم القصر ببطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها. فأُجيب إنّ هذا من الإجماع المنقول ، كما إنّه لم يحرز أنّه من التعبّدي ، ويحتمل أن يكون معقد الإجماع أنّ مراد المجمعين البطلان العقلي بمعنى عدم الاكتفاء بالعمل رأساً ما لم يطابق الواقع أو الحجّة معتبرة.
    وربما يحكى عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس‌سره) في رسائله عدم صحّة العمل في المقام ، وذلك أوّلاً فيما أفاده في الشبهة الوجوبيّة بأنّه من قصد الاقتصار على أحد المحتملات مع البناء على عدم الإتيان لسائر المحتملات ، فإنّه يدلّ على أنّ الباعث للعمل ليس أمر المولى.
    وثانياً : كما ذكره في خاتمة الأُصول في مسألة العمل قبل الفحص من عدم تحقّق نيّة القربة ، فإنّ الشاكّ في المأتيّ به كيف يتقرّب به؟
    وأُجيب : إنّ الاكتفاء ببعض المحتملات ربما لضعف الإيمان في مقام الامتثال ، فإنّ من له إيمان راسخ يأتي بتمام المحتملات ، فعدم إتيان جميع المحتملات ليس لعدم إرادة الامتثال ، فربما يكون الإنسان خائفاً من المخالفة القطعيّة دون المخالفة الاحتماليّة ، ومن ثمّ يأتي ببعض المحتملات دون الجميع.
    ثمّ ما ذكره الشيخ لم يكن لدليل معتبر ، إلّا من باب الاستصحاب وهو ليس بدليل ، فربما يكون احتمال المأتيّ به كالعلم به.
    فعمل الجاهل مطلقاً إذا طابق الواقع فإنّه يكون صحيحاً ، فإطلاق الماتن (قدس‌سره) لا يتمّ ، إلّا أن يقال كان مراده بطلان خصوص الأعمال العباديّة من المقصّر الملتفت لعدم تمشّي قصد القربة منه ، إلّا أنّه ذهبنا إلى تماميّة ذلك ولو بقصد الرجاء

    رجاء المطلوبيّة ببعض المحتملات وعند المطابقة يسقط الأمر حينئذٍ ، وهذا لا ينافي حكم العقل الأوّلى بأنّ عمل الجاهل ابتداءً محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر ، ما لم ينكشف مطابقته للواقع ، فإنّ الحكم العقلي باعتبار الاشتغال وعدم الاكتفاء بذلك في مرحلة الظاهر ، ويرتفع عند المطابقة للواقع أو ما بحكم الواقع ، فتدبّر.
    هذا فيما لو اتّفق المطابقة للواقع ، وهو إنّما يتحقّق في مثل الضروريّات واليقينيّات الدينيّة ، فحينئذٍ لا بدّ في غيرها أن يرجع إلى المجتهد الذي يجب عليه تقليده ، فإن كان عمله مطابقاً لفتواه صحّ العمل. إلّا أنّه وقع نزاع على أنّ المطابقة حين العمل وفي ظرفه ، أو حين الرجوع إلى المجتهد ، أو غير ذلك ، ومجرّد أن يكون مطابقاً مطلقاً.
    ففي الأوّل مع المطابقة يصحّ عمله ، وكذلك عند تعدّد الفقهاء واتّفاقهم في الفتوى ، وإن خالف قولهم ، فلا بدّ من القول بالفساد وإعادة العمل أو القضاء ، وإذا كان مخالفاً لأحدهما أو أحدهم ففي المسألة وجوه :
    فقيل : الملاك هو حين العمل فيجزي ذلك ، ولكن إنّما يتمّ هذا بناءً على القول بالسببيّة في الأمارات ، أمّا على الطريقيّة كما هو المشهور والمختار ، فإنّه تسقط حجّية قول المجتهد الأوّل بموته ، فالمتعيّن عليه تقليده في ظرف الرجوع ، فأعمال العامي حين العمل غير مستند إلى الحجّة ، وحجّيته حين العمل أشبه بتقليد الميّت ابتداءً ، فتأمّل.
    ثمّ المجتهد عند الرجوع وفي ظرفه وإن لم يكن فتواه حجّة حين العمل ، إلّا أنّه

    فعلاً قوله حجّة ، ومفاد حجّيته حكم كلّي لا يختصّ بزمان دون زمان ، بل يعمّ جميع الأزمنة الثلاثة.
    وبما ذكرنا يظهر سائر الأقوال في المسألة.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (باطل) ،
    قال السيّد الحكيم : قد عرفت المراد منه ، وأنّه إذا كان صحيحاً بنظر المجتهد الذي يقلّده بعد ذلك كان مجزياً.
    وقال السيّد الخميني : إذا كان عباديا لعدم موافقته للواقع مع اعتبار قصد التقرّب فيه.
    وقال السيّد الفيروزآبادي : إلّا مع تحقّق قصد القربة.
    وقال الشيخ كاشف الغطاء : في العبادات مع عدم حصول قصد القربة ، وأمّا إذا حصل أو كان غير عبادة فلا بطلان.
    وقال الشيخ النائيني : على ما تقدّم من التفصيل.
    وفي قوله : (مطابقاً للواقع) ،
    قال السيّد الأصفهاني : إذا كان عبادة.
    وقال الشيخ الجواهري : الأظهر الصحّة كما مرّ.
    وقال السيّد الخوانساري : أمّا في التوصّليات فالظاهر عدم الإشكال فيها ، وأمّا العبادات فالظاهر تحقّق قصد القربة فيها رجاءً.

    وقال السيّد الخوئي : الظاهر هو الصحّة في هذا الفرض.
    وقال السيّد الشيرازي : إذا كان عبادة ولم يتمشّ منه قصد القربة.
    وقال السيّد الگلپايگاني : إن كان عباديّاً ولم تتمشّ منه القربة.
    وفي قوله : (مطابقاً لفتوى المجتهد) ، قال السيّد الشيرازي : أو للواقع.
    وفي قوله : (كان صحيحاً) ، قال السيّد البروجردي : مناط صحّة عمل الجاهل قاصراً كان أو مقصّراً ، عبادةً كان العمل أو غيرها ، هو وقوعه مطابقاً للواقع أو لفتوى من كان يجب عليه تقليده حين العمل ، نعم يكفي في إحراز الواقع فتوى من يجب عليه تقليده فعلاً.
    وقال السيّد الخوانساري : مع الاتّكال ، وعدم الاتّكال مشكل.
    وقال السيّد الخوئي : العبرة في الصحّة بمطابقة العمل للواقع ، والطريق إليها هو فتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً.
    وقال السيّد الگلپايگاني : المناط في صحّة العمل مطابقته للواقع ، وفتوى المجتهد الذي يجب تقليده فعلاً طريق إليه.
    وفي قوله : (والأحوط) ،
    قال السيّد الشيرازي : كفاية أحد الأمرين لا تخلو عن قوّة.
    وقال الشيخ الحائري : يكفي الحكم بصحّة العمل وعدم لزوم الإعادة ، أو القضاء ممّن يقلّده فعلاً.
    وقال السيّد الخوانساري : الظاهر عدم لزوم رعاية هذا الاحتياط.

    (المسألة السابعة عشرة في العروة)
    قال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 17 ـ المراد بالأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة ، وأكثر اطلاعاً لنظائرها ، وللأخبار ، وأجود فهماً للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً ، والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 13):
    في قوله : (المراد بالأعلم) ، قال : من كان أجود استنباطاً للوظيفة الفعليّة للمكلّف ، وأحذق في تفريع الفروع على الأُصول المتلقّاة ، وتطبيق الأدلّة والمبادي الكبروية عليها ، وإليه يؤول ما أفاده بقوله : والحاصل.
    وفي قوله : (وأكثر اطلاعاً) ، قال : الموجب لجودة استنباطه.
    وفي قوله : (وأجود فهماً) ، قال : هو من مهام الأُمور في مقام

    الاستنباط واختلاف المراجعين إلى الكتاب والسنّة في فقههما ممّا ليس بقابل للإنكار ، وبالجملة من أهمّ ما لا محيص للمستنبط عنه الوقوف على معاريض الأصلين الأصيلين المذكورين ومداليلهما الخفيّة ، كي لا يتسرّع إلى الحكم بفقدان الدليل والالتجاء إلى الوظائف المقرّرة لفاقد الحجّة ، ثبّت الله أقدام الأفهام في تلك المزالق.
    __________________
    أقول : يقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : معنى الأعلم.
    والثاني : كيفية تعيينه وتشخيصه.
    أمّا الأوّل : فربما يتصوّر للأعلم معانٍ متعدّدة باعتبار هيئة (أفعل) الدالّة على التفضيل.
    الأوّل : يراد به من يكون عنده المعلومات أكثر من غيره ، فلو عرف أحدهما مسائل العبادات ، وزاد الآخر عليه بمسائل المعاملات ، فإنّه يكون أعلم منه ، فالأعلم من كان أكثر إحاطة بالفروع والمسائل.
    والظاهر أنّ هذا المعنى يقرب من مفهوم الأعلم لهيئة (أفعل) الدالّ على التفضيل ، إلّا أنّه ليس المراد عند من يقول بوجوب تقليد الأعلم.
    فإنّه يرد عليه : أنّ الملاحظ في صيغة العالم والأعلم إنّما هو باعتبار موضوع واحد ، فيقال : فلان في العبادات عالم والآخر أعلم منه في نفس العبادات ، فلو كان

    الآخر عالم بالمعاملات لا يقال أعلم منه في العبادات ، بل يتساويان في العبادات ، ويكون الآخر عالم بالمعاملات دون الأوّل ، فإنّه غير عالم.
    الثاني : كما في عبارة الماتن ومال إليه بعض الأعلام أن يكون أجود استنباطاً للأحكام الشرعيّة الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة ، فيلزم أن يكون أعرف بتطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأدقّ في استنباط الأحكام منها كما في الصناعات الأُخرى ، فإنّ الطبيب الأعلم من كان أعرف بتطبيق كبريات الطبّ على مصاديقها ، فلا دخل لكثرة العلم بالمسائل والفروعات كما في المعنى الأوّل.
    ويرد عليه : أنّ تصوير الأعلم بهذا المعنى مشكل وتشخيصه أصعب فلا يقاس بالصناعات.
    الثالث : الأعلم من كان أقرب وأكثر انكشافاً للواقع من غيره ، فالجازم بحكم مقدّم على المطمئن به ، والمطمئن به على الظانّ به ، فيكون الجازم أقوى وأشدّ علماً ، فالتفضيل باعتبار الشدّة والقوّة لا باعتبار العدد ولا الكيف ، كما كان في المعنيين المتقدّمين.
    ويرد عليه : إنّ الاجتهاد لا يدور مدار الانكشاف وعدمه ، أو شدّة الانكشاف وضعفها ، بل المدار على قيام الحجّة وعدمه ، سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزماً أو ظنّاً أو لم ينكشف.
    ثمّ الأقربيّة للواقع يتمّ بأخذ جانب الاحتياط كما هو واضح ، وهذا لا يعدّ خبرة عند العقلاء.
    الرابع : الأعلم من كان أقوى مبنى من غيره بحيث لا يزول بتشكيك

    المشكّك ، وغير الأعلم من يمكن التشكيك في مبناه وسرعان ما يأخذ منه ذلك.
    ويرد عليه : أنّ المدار في باب الاجتهاد هو قيام الحجّة ، ولا يدور مدار قوّة المبنى وعدم زواله بالتشكيك ، فإنّ مجرّد قوّة المبنى مع عدم الإحاطة بأطراف وجهات المسألة ، لا تكفي في الأعلمية بالوظيفة الشرعية الفعلية.
    الخامس : الأعلم من كان أشدّ اقتداراً في الكبريات والقواعد الأُصوليّة ، كما يقال فلان مرجع أقوى من فلان في علم أُصول الفقه فهو أعلم.
    ويرد عليه : أنّ مجرّد ذلك لا يكفي ما لم ينضمّ إليه حسن التطبيق بين الكبريات والصغريات ، فربّ عالم بالأُصول لا يعرف كيف يطبّق الكبريات على صغرياتها ، أو يكون ضعيفاً في ذلك ، أو ليس له حسن السليقة في التطبيق.
    السادس : أن يعرف الأعلم باللوازم كأن يكون واجداً لهذه الأُمور التي يذكرها الماتن في قوله :
    1 ـ أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة.
    2 ـ أكثر اطلاعاً لنظائرها وأمثال المسألة.
    3 ـ وللأخبار في كلّ مسألة ، والظاهر هو الاطلاع على معانيها لا على ألفاظها.
    4 ـ وأجود فهماً للأخبار.
    5 ـ والجامع لهذه المعاني المقوّمة للأعلميّة (والحاصل أن يكون أجود استنباطاً) فالملاك في الأعلمية هو الأجوديّة في الاستنباط ، وذلك باعتبار تشخيص الوظيفة في المسائل للمكلّف.

    ويرد عليه ما ورد في المعاني السابقة ، فما ذكره من باب تعريف الشيء بلوازمه كما هو الظاهر ، فيكون المراد من الأعلم من كان أشدّ ملكةً للاستنباط من غيره ، فإذا كان المراد من الأشدّية بمعنى أكثر علماً بالفروع والمسائل فهو المعنى الأوّل ، وإن كان بمعنى أجود استنباطاً فهو المعنى الثاني ، وإن كان بمعنى أكثر انكشافاً أو أقوى مبنى أو أشدّ اقتداراً ، فهو المعاني الأُخرى القابلة للنقاش.
    ثمّ السيّد الأُستاذ يرى الاختلاف في هذه الأوصاف الثلاثة للمجتهد كونه عارفاً بالقواعد والمدارك ، وكونه مطلعاً على الأخبار والمسائل ، وكونه فهيماً للأخبار فإنّ الوصف الأوّل أقوى تأثيراً لتحقّق ملكة الاجتهاد وأمّا الوصفان الآخران فلهما تأثير أقوى في تحقّق فعليّة الأعلميّة.
    فيقول : وإذا تعارضت الأوصاف بأن يفرض هناك مجتهدون ثلاثة كلّ واحد منهم قوي في أحد هذه الأوصاف. فمن هو الأعلم منهم؟ ولعلّ المقدّم يدور بين الموصوف بأحد الوصفين الأخيرين (1).
    ولكن الظاهر أنّ الأوصاف هذه إنّما هي من لوازم الأعلميّة لا نفسها ، فعند اجتماعها تتحقّق الأعلميّة.
    فالأولى أن يقال : لمّا كان لزوم تقليد الأعلم احتياطاً كما ذهبنا إليه باعتبار بناء العقلاء ومن باب حكم العقل باعتبار قاعدة الاشتغال ، وأنّه لم ترد كلمة الأعلم وتقليده في آية أو رواية خاصّة ، فلم يكن بتعبّد شرعي حتّى يعرف
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : 302.

    معناها ، والمتفاهم من لفظتها باعتبار هيئة التفضيل ، وظهورها في شيء وعدم ظهوره ، فكان الأولى أن يعرف معناها بما هو المتفاهم العرفي وما هو موضوع الحكم عند العقل والعقلاء ، فإنّ الأعلم في الفقه كالأعلم في سائر العلوم.
    ومعنى الأعلم حينئذٍ هو أن يكون أعرف بالكبريات وأدقّ في استنباط الأحكام منها ، وأكثر إحاطة وأجود استنباطاً ، ثمّ أحسن سليقة في تطبيق تلك الكبريات على صغرياتها.
    والخلاصة : مجرّد الأقوائيّة وشدّة المعرفة بالكبريات لا ينفع ما لم ينضمّ إليه حسن السليقة في تطبيق الكبريات على الصغريات ، فيكون أعلم بالأُصول والفقه. فالطبيب الأعلم ليس من كان أعلم بقواعد وكليات الطبّ ، وأعرف بطرق معالجة الأمراض ، ما لم ينضمّ إليه حسن التطبيق بين تلك الكليات وبين المصاديق.
    (فالاجتهاد إنّما هو تخصّص في تشخيص الوظيفة الفعلية في كلّ مسألة ، والأعلم هو الذي صار واجداً لهذه الملكة على النحو الأكمل) (1).
    وأمّا المقام الثاني : أي تعيين الأعلم والمرجع فيه.
    فربما يقال : إنّ الشهادة إنّما تكون على المحسوسات لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشيراً إلى الشمس (على مثل هذا فاشهد) وما نحن فيه لم يكن منها فكيف يشهد بذلك؟
    وأُجيب : إنّ ممّا لم يكن من المحسوسات ربما يعرف من آثاره ، وباعتبار ذلك
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد ؛ السيّد رضا الصدر : 301.

    يشهد به ، كالسخاء والشجاعة والعدالة من الملكات النفسانية ، فكذلك فيما نحن فيه ، فلمّا كان الاجتهاد ملكة نفسانية ، فيعرف ذلك من خلال الآثار والأمارات الواضحة الدالّة على ذلك. فإذا قايس تلك الملكة بعد معرفتها بالآخرين ، فإنّه يعرف من هو الأعلم منهم ، إلّا أنّ إثبات ذلك دونه خرط القتاد ، فإنّه من الصعب المستصعب ، فلا يحصل معرفة الأعلم إلّا بعد جهد جهيد وإتعاب النفس والدقّة الشديدة ، وعدم الحبّ والبغض ، وتخلية النفس من الأهواء والرغبات.
    فيمكن معرفة الأعلم في الخارج ، إلّا أنّه وقع نزاع أنّه هل يختصّ ذلك بأهل الخبرة والاستنباط أي من كان مجتهداً كما يهذب إليه الماتن ، أو يعمّ غيره كما ذهب إليه البعض.
    والظاهر أنّه يمكن لغير المجتهد إن كان من أهل العلم أو قريب للاجتهاد أن يعرف ذلك ، كما يعرف المجتهد كما يظهر من المسألة الآتية (مسألة 20) إلّا أنّه لا يحصل إلّا مع تحمّل الصعاب والعناء الشاقّ ، فإنّه من الصعب أن يحصل للمجتهد فكيف بغيره؟! والله المستعان.
    وإنّما تحصل المعرفة بحضور دروس المراجع ، وقراءة أبحاثهم الفقهيّة والأُصوليّة ، أو مطالعة تقريراتهم أو النظر الدقيق في آرائهم ورسائلهم العمليّة وما شابه ذلك ، فتدبّر.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (المراد من الأعلم) ، قال الشيخ الجواهري : بل المراد بالأعلم هو الأوصل ، ولعلّ بعض هذه الأُمور لها

    مدخليّة في الأوصليّة.
    وفي قوله : (لنظائرها) ،
    قال السيّد الفيروزآبادي : مع تميّز المناط المنقّح المقطوع بحيث لا يشتبه بالقياس ، وعدم كون كثرة الاطلاع منشأً لفقد جهة أُخرى لقلّة المجال واشتغال الوقت بذكرها فيحرم عن التعمّق في الفروع والتدقيق.
    وفي قوله : (أجود استنباطاً) ،
    قال السيّد الخوانساري : هذا التفسير للأعلم أولى.
    وفي قوله : (والاستنباط) ،
    قال السيّد الفيروزآبادي : ويمكن أن يكون المرجع العارف بالقواعد قريباً من الاجتهاد وإن لم تكن له ملكة الاستنباط.

    (المسألة الثامنة عشرة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 18 ـ الأحوط عدم تقليد المفضول ، حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 13):
    في قوله : (الأحوط) ، قال : لزومه محلّ إشكال ، سيّما بعد المصير إلى ثبوت الحجّية لصرف الوجود من الفتوى.
    __________________
    أقول : لمّا كان التقليد بمعنى المطابقة لمن كان قوله مع الحجّة الفعليّة كما ذهبنا إليه ، أو بمعنى صحّة الاستناد في مقام العمل أو الالتزام أو نفس العمل.
    فاعلم أنّ تقليد الأعلم إنّما يلزم كما مرّ تفصيل ذلك في المسألة 12 إذا كانت فتواه مخالفة لفتوى غيره ، مع العلم بالمخالفة ، أو حتّى مع مجرّد احتمال المخالفة كما قيل. كما لم يكن قول الغير موافقاً للاحتياط ، وهذا يتمّ بمقتضى حكم العقل

    وبناء العقلاء.
    وحينئذٍ يجوز تقليد غير الأعلم إذا وافق قوله قول الأعلم ، فيجوز الاستناد إلى فتواه أو تطبيق العمل على رأيه ، أو كفاية المطابقة مع رأيه ، فإنّ تقليد المفضول يكون بعينه تقليداً للأفضل ، فلو علم بأعلميّة أحد المجتهدين تفصيلاً أو إجمالاً وشكّ في اختلافهما في الفتوى ، فإنّه لا يجب تقليد الأعلم منهما ، لشمول إطلاق ما دلّ على الحجّية لفتوى المفضول ، فيتخيّر أيّهما شاء. فكيف لا يجوز تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل؟
    ويكفينا السيرة القطعية على الرجوع إلى غير الأعلم في صورة عدم العلم بالمخالفة فضلاً عمّا إذا علم بالموافقة ، فيكفي المطابقة أو الاستناد إلى واحد منهما وإن كان فتوى غير الأعلم ، فمع اتفاق الآراء فالجميع حجّة ، والعمل المطابق لواحد منها مطابق للجميع ، فلا وجه إلى الاحتياط الوجوبي في عدم تقليد المفضول كما في عبارة الماتن (إلّا إطلاق قولهم : لا يجوز تقليد المفضول ، إلّا أنّه غير تامّ ، ولو تمّ فليس معقداً لإجماع واجب العمل) (1).
    «والظاهر أنّ فتوى السيّد اليزدي (قدس‌سره) تبتني على ما ذهب إليه في معنى التقليد من أنّه الالتزام ، وما يمكن أن يكون وجهاً للقول بالاحتياط هو الشكّ في إطلاق وجوب تقليد الأعلم ، وفي شموله لصورة الموافقة في الفتوى. فإنّه على فرض الإطلاق تكون فتوى المفضول ساقطة عن الحجّية ، وعلى فرض الشكّ تكون
    __________________
    (1) المستمسك 1 : 37.

    مشكوك الحجّية ، فيتمّ المعلوم.
    فقيل في الجواب : إنّه على فرض تماميّة هذا الوجه إنّما يصلح لأن يكون وجهاً للاختبار لا للاحتياط والتحقيق شاهد على القول بالجواز. حتّى بناءً على أخذ الالتزام في مفهوم التقليد ، وبناءً على وجوب تقليد الأعلم ، لأنّ المستند للوجوب إن كان هو الإجماع فإنّه دليل لبّي ، والقدر المتيقّن منه صورة المخالفة بين الأعلم وغيره ، وإن كان النصوص فالإرجاع إلى الأفقه مختصّ بصورة العلم التفصيلي بالمخالفة ، وإن كان حكم العقل بالتعيين عند الدوران بين التعيّن والتخيير فإنّه مختصّ بصورة المخالفة أيضاً ، وإن كان بناء العقلاء فعندهم سيّان عند الموافقة ، فإنّ الملاك هو الوثوق ويتمّ في موافقتهما في الفتوى ، فعدم جواز تقليد المفضول مع موافقته للأفضل موقوف على نصّ خاصّ ، وعدم الدليل دليل العدم ، فلا وجه للاحتياط (1).
    آراء الأعلام :
    في قوله : (تقليد المفضول) ،
    قال السيّد الشيرازي : لا يجب هذا الاحتياط وإن كان حسناً.
    وقال الشيخ الجواهري : مع العلم بالموافقة يجوز تقليده قطعاً.
    وقال الشيخ كاشف الغطاء : الأقوى الجواز ، لأنّ التقليد لا موضوعيّة له.
    __________________
    (1) اقتباس من الاجتهاد والتقليد : 304.

    وفي قوله : (فتوى الأفضل) ،
    قال السيّد الأصفهاني : وإن كان الأقوى الجواز في هذه الصورة.
    وقال السيّد الحكيم : الظاهر الجواز حينئذٍ.
    وقال السيّد الخميني : والأقوى هو الجواز مع الموافقة.
    وقال السيّد الخوانساري : لا مانع من تقليده في المسألة المتوافق عليها ، وتظهر الثمرة في صورة ثبوت الأعلم إن قلنا بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت.
    وقال السيّد الگلپايگاني : وإن كان الأقوى الجواز في هذه المسألة ، بل ومع الجهل بالمخالفة كما مرّ.
    وقال السيّد الفيروزآبادي : الظاهر جواز تقليده هنا.
    وقال السيّد الخوئي : لا بأس بتركه في هذا الفرض.
    وقال الشيخ النائيني : الأقوى جواز تقليد المفضول في هذه الصورة ، بل الظاهر أنّه بعينه تقليد الأفضل ، ولا يخرج بقصد الغير عن كونه تقليداً له.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:04

    المسألة العاشرة في المنهاج
    و
    (التاسعة عشرة في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 19 لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم ، كما إنّه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 13):
    في قوله : (لا يجوز) ، قال : لعدم كونه طريقاً وذلك واضح ، بعد فرض عدم صدق العالم والفقيه وأهل الذكر والناظر في حلالهم وحرامهم وغيرها من العناوين عليه.
    وفي قوله : (كما أنّه يجب) ، قال : لو لم يأخذ بالاحتياط.
    __________________
    أقول : يقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : عدم جواز تقليد غير المجتهد مطلقاً.
    الثاني : وجوب التقليد على غير المجتهد إذا لم يكن محتاطاً.

    أمّا المقام الأوّل : فنقول : لقد مرّ الكلام بالتفصيل في معنى المجتهد وإنّه الواجد والحامل لملكة الاستنباط بالفعل بإرجاع الفروع إلى الأُصول ، أو استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة ، أو كما جاء في لسان الروايات الشريفة بأنّه يجمع بعض الصفات الخاصّة مثلاً :
    1 ـ الراوي للأحاديث الشريفة.
    2 ـ والعارف بالأحكام الدينيّة.
    3 ـ والناظر في الحلال والحرام.
    أي يكون من أهل النظر والاستدلال والاستنباط ، فمن لم يكن كذلك فإنّه غير مجتهد اصطلاحاً ، وإن كان من أهل العلم ورجال الدين وأصحاب الفضيلة. لصحّة سلب العناوين الواردة في النصوص عنه ، كالفقيه وأهل الذكر والعالم وما شابه ذلك ، فلا يصحّ تقليده.
    وأمّا المقام الثاني : فالعمدة في التقليد أنّه من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، فمن لم يصدق عليه العناوين والصفات الواردة ، فإنّه بحكم الجاهل وإن كان من أهل العلم ، فما دام لم يعمل بالاحتياط فعليه أن يقلّد ، لأنّ المكلّف لو لم يكن مجتهداً بالفعل ولم يلتزم بالاحتياط ، فإنّه يجب عليه عقلاً كما مرّ في المسألة الاولى ، أن يقلّد من كان واجداً لشرائط التقليد. فيشمله الإطلاقات المجوّزة للرجوع إلى الغير ، أي المجتهد الجامع للشرائط. فمن لم يكن من الفقهاء فهو من العوام وإن كان من أهل العلم.
    فمن وجد ملكة الاستنباط واستنبط بالفعل لا يجوز له الرجوع إلى الغير ، فإنّه

    من رجوع العالم إلى الجاهل.
    وإذا توقّف في مسألة ، فإن كان يرى تزيف دليل الآخر وإن كان جازماً ، فلا يجوز الرجوع إليه ، فإنّه من الرجوع إلى الجاهل بنظره ، وإذا احتمل أنّه استند إلى وجه لم يطلع إليه ، فقيل بجواز الرجوع وقيل بالعدم كما عند السيّد الخوئي (قدس‌سره) (1) لانصراف الإطلاقات المشرعة للتقليد عن مثل هذا الشخص الذي يصدق عليه حقيقة أنّه من أهل الذكر والفقيه وغيرها من العناوين. وكذا من لم يجتهد بالفعل وهو متمكّن من الاستنباط ، لانصراف الإطلاقات أيضاً عمّن يتمكّن من الوصول إلى الواقع بنفسه.
    وظاهر آية السؤال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إنّه على نحو الانحصار إنّما يشرع السؤال لمن لم يعرف الأحكام ، أو تكون الآية مجملة فلا يستدلّ بها على مطلق الرجوع إلى الغير ، ومقتضى الأصل عدم حجّية قول الغير.
    وربما يقال فيما نحن فيه بالاستصحاب ، أي استصحاب جواز الرجوع إلى الغير قبل الوصول إلى مرتبة الاجتهاد الفعلي ، فيعمّ من كان مجتهداً ، إلّا أنّه لم يستنبط الأحكام بالفعل.
    ويرد عليه : أنّه من أركان الاستصحاب إحراز الموضوع ووحدته بين القضيّتين المشكوكة والمتيقّنة ، وهنا لم يحرز الموضوع ، فإنّه يحتمل أن يكون المراد من جواز الرجوع إلى الغير لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد ، لا مطلق من لا يعلم بالحكم
    __________________
    (1) دروس في فقه الشيعة (تقريرات) 1 : 112.

    بالفعل وإن كان مجتهداً.
    ويتفرّع على ما ذكرنا أنّه من كان مجتهداً متجزّياً في مسألة أو مسألتين مثلاً ، فإنّه لا يجوز تقليده أيضاً ، ما لم يستنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام ، لعدم صدق العناوين الواردة كالعارف بالحلال والحرام والناظر فيهما والفقيه وما شابه ذلك عليه.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (يجب على غير المجتهد التقليد) ،
    قال السيّد الگلپايگاني : أو الاحتياط.

    المسألة الحادية عشر في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره)
    11 ـ ويعرف اجتهاد المجتهد : بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ، وبشهادة عدلين من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد ، وبالشياع المفيد للعلم ، ولكن للتأمّل في كفاية الشياع لإثبات هذه الشؤون مجالاً متّسعاً.
    (المسألة العشرون في العروة)
    وقال المحقّق اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 20 ـ يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني ، كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ، وعلم باجتهاد شخص ، وكذا يعرف بشهادة عدلين ، إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد ، وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم ، وكذا الأعلميّة

    تعرف بالعلم ، أو البيّنة غير المعارضة ، أو الشياع المفيد للعلم.
    وجاء في الغاية القصوى (1 : 14):
    في قوله : (شهادة عدلين) ، قال : بناءً على حجّية البيّنة في مطلق الموضوعات ، وفي النفس منها شيء ، وفي ثبوته بأخبار العدل الواحد أو بقول الثقة الغير العادل مجال للتأمّل ، إلّا أن يستفاد المناط الاطمئناني من حجّيتهما في بعض الموارد المنصوصة ، وهو كما ترى.
    وفي قوله : (أهل الخبرة) ، قال : التقييد به صحيح في كلّ موضوع يحتاج إلى إعمال الفكر والنظر في الموضوعات.
    وفي قوله : (بالشياع المفيد) ، قال : في جعله قسيماً للأوّل نوع تساهل من قلمه الشريف السيّال ، والخطب سهل بعد وضوح المراد ، ثمّ الأقوى كفاية الوثوق الحاصل بالشياع ، ولكن للتأمّل في كفاية الشياع لإثبات هذه الشؤون مجالاً متسعاً ورحباً فسيحاً ما ترى من مناشئه في هذا العصر.
    وفي قوله : (المفيد للعلم) ، قال : يتوجّه إليه جميع ما أشرنا إليه في ثبوت الاجتهاد به حرفاً بحرف.
    __________________
    أقول : يظهر من عبارة السيّد اليزدي (قدس‌سره) أنّ معرفة وتشخيص اجتهاد المجتهد وكذلك أعلميّته إنّما يثبت بواحد من ثلاث طرق ، وهذه الطرق تجري في كلّ الموضوعات الخارجيّة التي لها آثار شرعيّة ، فإنّها تعرف بالحجّة العقلائيّة كالعلم

    الوجداني ، أو بالحجّة الشرعيّة كالبيّنة التي في اصطلاح المتشرّعة عبارة عن شهادة عدلين.
    ولا يخفى أنّ الحجّية عند الشرع أخصّ ممّا عند العقلاء ، فكلّ حجّة شرعيّة حجّة عقلائيّة أيضاً ، ولا عكس.
    1 ـ العلم الوجداني ، كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة ورجال العلم وإن لم يكن مجتهداً.
    2 ـ البيّنة إذا كانت من أهل الخبرة أيضاً ، ولم تكن معارضة ببيّنة اخرى تنفي الاجتهاد أو الأعلميّة.
    3 ـ الشياع المفيد للعلم ، وإن لم يبلغ حدّ التواتر.
    وهذا الثالث أحد أسباب حصول العلم الوجداني ، فعدّه قسيماً له من باب التسامح.
    ثمّ المراد من العلم الوجداني هو القطع واليقين والجزم بالمعلوم ، ويلحق به الظنّ المتاخم للعلم والذي يسمّى بالعلم الاطمئناني أو العلم العادي.
    1 ـ العلم الوجداني :
    لقد ثبت في علم أُصول الفقه أنّ قطع القاطع حجّة ، وإنّ حجّيته ذاتيّة فهي ليست بجعل جاعل ، لا نفياً ولا إثباتاً ، وإنّ القاطع يرى الواقع ونفس الأمر بلا احتمال خلاف فيه ، وبحكم العقل والعقلاء يكون القطع حينئذٍ منجّزاً من قبل المولى للتكليف ، ومعذّراً من قبل العبد عند المخالفة للواقع ، كما يصحّ الاحتجاج به ،

    فالقاطع بزعمه يرى الواقع على ما هو عليه ، فيصحّ للمولى أن يحتجّ به فيكون منجّزاً وكذلك يصحّ للعبد الاحتجاج به فيكون معذّراً ، فالقاطع بزعمه يرى الواقع ، وبهذا يحتجّ عليه كما يحتجّ به من دون جعل تشريعي.
    فلا يمكن لأحد أن يردع القاطع عن قطعه ، إلّا أن يهدم مقدّمات قطعه ، والنتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات كما هو واضح ، كمن يقطع من طريق القياس ، فإنّه نبطل القياس فيبطل قطعه ، كما في قصّة أبان بن تغلب مع الإمام الصادق (عليه‌السلام) في مسألة قطع أصابع المرأة وقوله (عليه‌السلام) : (مهلاً يا أبان ، هذا حكم رسول الله ، يا أبان ، أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين) (1).
    فنتصرّف في مقدّمات القطع ، أو كما قيل يتصرّف في المتعلّق لا في العلم (2) ، فلا يحصل العلم بالحكم من طريق القياس مثلاً ، وبهذا أراد الأخباريون نفي العلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، على أنّ الشارع من حقّه أن يحدّد حجّية القطع بلحاظ حصوله من بعض المبادي ، وإن كان حجّية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل لا إثباتاً ولا نفياً ، فهذا باعتبار أصل الحجّية وذاتيّتها ، وتضييق الشارع وتحديده إنّما هو باعتبار متعلّقات القطع أو مقدّماته ، فما دام لم يثبت تحديد الشارع فلا ينبغي الإشكال في حجّية العلم الوجداني والقطع اليقيني في إثبات متعلّقه.
    فلا إشكال في ثبوت الاجتهاد أو الأعلميّة بالعلم الوجداني مطلقاً من أيّ
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب الدية ، باب 44 من أبواب دية الأعضاء ، الحديث 1.
    (2) عن المحقّق النائيني (قدس‌سره).

    سبب كان سواء أكان بالاختبار لمن كان من أهل الخبرة ، أو بالشياع المفيد للعلم أو بغيرهما.
    نعم ، يبقى الكلام في الشهرة دون الشياع فمن الأعلام (1) من منع عن حجّيتها في المقام ، وإن حصل منها العلم ، وأنّها مثل القياس ، وإنّ الذي حصل من الشهرات في طول حياته كانت مخالفة للواقع ، ربّ مشهور لا أصل له ، إلّا أنّه هذا لا يعني عدم حجّية الشهرة مطلقاً أو نفيها مطلقاً ، بل إذا كان لها مبادي صحيحة وكافية تفيد العلم ، فإنّها تلحق حكماً بالشياع.
    كما يلحق بالعلم الوجداني الظنّ الاطمئناني ، فإنّه من العلم العادي والحجّة العقلائيّة ، ولم يردع الشارع عنها.
    وربما ما جاء في موثّقة مسعدة بن صدقة (2) إشارة إلى ذلك في قوله (عليه‌السلام) : (.. الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) ، بناءً على أنّ الاستبانة أعمّ من العلم الوجداني والعلم العادي الذي هو متداول به عادة عند الناس ، لندرة العلم الوجداني عندهم. وألحق بعضهم العلم التعبّدي بالعلم العادي أيضاً ، بناءً على أنّه لولا اعتبار ذلك ، للزم العسر والحرج المنفيّان شرعاً ، فتأمّل.
    هذا ويظهر من عبارة السيّد (قدس‌سره) أنّ معرفة اجتهاد المجتهد وأعلميّته مختصّ بالعلم الوجداني ، والحال المتعارف إنّما هو الوثوق والاطمئنان فيشمل العلم العادي
    __________________
    (1) صاحب معالم الزلفى : 35.
    (2) الوسائل : باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

    أيضاً ، إلّا أنّ ظاهر العبارة نفي ذلك.
    فأشكل عليه أنّ ما نحن فيه لا يلحق بالقضاء الذي يشترط فيه العلم الوجداني للقاضي ، ولا يكتفى بالاطمئنان الوثوقي ، وذلك لأدلّة القضاء وللحصر في تقسيم القضاة إلى أربعة ، فواحد منهم يقضي بالحقّ وهو يعلم ، فإنّه من أهل الجنّة ، وأمّا الباقي فهم في النار ، وما نحن فيه ليس من الدعاوي والقضاء حتّى يقال بالعلم الوجداني ، بل يكفي الوثوق ، فتدبّر.
    2 ـ البيّنة :
    الطريق الثاني لإثبات اجتهاد المجتهد أو أعلميّته هو البيّنة أعني شهادة عدلين من أهل الخبرة ، فإنّها من الأمارات الظنّية الخاصّة المعتبرة شرعاً ، وقد ثبت عند الشيخ الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) كما في فرائده بالأدلّة الأربعة أنّ الأصل الأوّلي في مطلق الظنّ هو عدم حجّيته إلّا ما خرج بالدليل ، ويسمّى بالظنّ الخاصّ ، ويقابله الظنّ المطلق ، فكان عند القدماء حجّية مطلق الظنّ ، إلّا ما خرج بالدليل كالقياس ، إلّا أنّ الشيخ ومن تبعه وهو الحقّ ، عدم حجّية مطلق الظنّ إلّا ما خرج بالدليل ، كظواهر الكتاب وخبر الثقة ، ومنها البيّنة.
    ثمّ لا إشكال في حجّية البيّنة في باب القضاء ورفع الخصومات ، وأمّا في غيره فربما يناقش ذلك على أنّه لم يثبت للفظة البيّنة حقيقة شرعيّة أو متشرّعة بمعنى شهادة عدلين ، بل ما جاء في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة إنّما استعملت بمعناه اللغوي والعرفي ، أي بمعنى الوضوح وما به البيان وما يثبت به الشيء ، وهذا

    يستدعي البحث عنها لغةً واصطلاحاً.
    البيّنة لغةً :
    البيّنة صفة مشبّهة من بان يبين بياناً وتبياناً ، ويعني الوضوح والظهور وما به البيان والاستبانة ، فإن كان موضوعها مذكّراً فإنّه يقال : هو بيّن ، وإن كان مؤنّثاً فيقال : هي بيّنة ، وما نحن فيه لمّا كان الموضوع هو الحجّة فيقال : إنّها بيّنة ، أي حجّة واضحة وظاهرة لا خفاء فيها ، فتوجب اليقين والاطمئنان وتكون بحكم البرهان. وتأتي لازماً ومتعدّياً.
    البيّنة اصطلاحاً :
    لقد وردت كلمة البينة في القرآن في ما يزيد عن خمسة عشر موضعاً ، وهي بمعنى الواضح والظاهر الذي يفيد العلم واليقين ، كما في معجزتي موسى الكليم (عليه‌السلام) في قوله تعالى :
    (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(1).
    وفي قوله تعالى :
    (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ)(2).
    __________________
    (1) الأعراف : 105.
    (2) القصص : 32.

    وأمّا في الروايات الشريفة فقد وردت كلمة (البيّنة) وأُريد منها ما زاد عن قول الواحد أو شهادة عدلين ، فعند الشارع قولهما حجّة وأمارة معتبرة ، فهي بيّنة واضحة. فتنصرف كلمة البيّنة في لسان الشرع إلى شهادة العدلين من باب انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه ، فنذهب إلى المعنى المصطلح بالتبادر والانصراف وما هو المتفاهم عند الفقهاء.
    ويدلّ على ذلك ما ورد في جملة من الأخبار.
    ففي صحيحة هشام بن الحكم عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، قال : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان (1).
    وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يحكم بين الناس بالبيّنات والايمان في الدعاوي.
    وفي صحيح جميل وهشام قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه.
    إلى غير ذلك من روايات الباب ، والمتبادر منها كما عند الفقهاء أنّ المراد من البيّنة شهادة عدلين ، لا مطلق الحجّة الواضحة كما قيل ، فإنّه لو كان ذلك لما كان فرقاً بين المدّعى والمنكر ، فإنّ لكلّ منهما حجّة ، كما إنّ في قول الإمام الصادق (عليه‌السلام) في موثّقة مسعدة بن صدقة : (الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) ، فلو كان المقصود من البيّنة مطلق الحجّة الواضحة للزم أن يكون
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب القضاء ، باب 2 من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث 1.

    قسم الشيء قسيماً له ، فإنّ الاستبانة قسم من الحجّة الواضحة. فالمراد من البيّنة في الأخبار خصوص شهادة عدلين كما هو الظاهر والمتبادر.
    قال العلّامة الكني (قدس‌سره) : البيّنة ، وهي في اللغة من البيان وهو الاتضاح ، لازم ومتعدٍّ ، كغيره من مشتقّاته على ما في القاموس ، وفي الشريعة على الثاني كاختصاصها فيها بالإطلاق على ما فوق الواحد على ما هو من الواضحات بأدنى رجوع إلى كلماتهم والأخبار ، فبسببه بعد اشتهار قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (البيّنة على المدّعى) جعلت شهادة خزيمة بن ثابت بمنزلة شهادتين ، وسمّي حتّى اشتهر بذي الشهادتين ، وبه اتّفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على شهادة اثنين ..) (1).
    فالمراد من البيّنة شهادة ما فوق الواحد ، وإن كان في الأخبار تطلق على معناها اللغوي أيضاً إلّا أنّه من القليل والنادر.
    ولمزيد الاطمئنان نذكر بعض الأبواب الفقهيّة التي ورد في أخبارها كلمة البيّنة وأُريد منها شهادة ما فوق الواحد.
    الوسائل 18 : 290 ، باب 48 من أبواب الشهادات ، الحديث 3 ـ 4.
    الوسائل 18 : 331 ، باب 18 من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث 3.
    الوسائل 18 : 365 ، باب 10 من أبواب حدّ الزنا ، الحديث 8 ـ 9.
    الوسائل 18 : 374 ، باب 14 من أبواب حدّ الزنا ، الحديث 2.
    الوسائل 18 : 376 ، باب 15 من أبواب حدّ الزنا ، الحديث 1.
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 379 ، عن القضاء والشهادة : 259.

    الوسائل 18 : 419 ، باب 2 من أبواب حدّ اللواط ، الحديث 3.
    الوسائل 18 : 425 ، باب 1 من أبواب حدّ السحق والقيادة ، الحديث 4.
    الوسائل 18 : 467 ، باب 2 من أبواب حدّ المسكر ، الحديث 5.
    الوسائل 18 : 501 ، باب 10 من أبواب حدّ السرقة ، الحديث 2.
    الوسائل 18 : 509 ، باب 18 من أبواب حدّ السرقة ، الحديث 4.
    الوسائل 18 : 529 ، باب 30 من أبواب حدّ السرقة ، الحديث 3.
    الوسائل 18 : 531 ، باب 33 من أبواب حدّ السرقة ، الحديث 2.
    الوسائل 18 : 580 ، باب 7 من أبواب بقيّة الحدود ، الحديث 2.
    الوسائل 19 : 112 ، باب 8 من أبواب دعوى القتل ، الحديث 5.
    الوسائل 19 : 114 ، باب 9 من أبواب دعوى القتل ، الحديث 3 ـ 4 ـ 6.
    الوسائل 19 : 119 ، باب 10 من أبواب دعوى القتل ، الحديث 7.
    الوسائل 19 : 121 ، باب 13 من أبواب دعوى القتل ، الحديث 1.
    الوسائل 19 : 192 ، باب 20 من أبواب موجبات الضمان ، الحديث 1.
    الوسائل 19 : 307 ، باب 9 من أبواب العاقلة ، الحديث 1 (1).
    وخلاصة الكلام : المتبادر عند الفقهاء العظام والمحدّثين الكرام من لفظة (البيّنة) في الروايات الشريفة ، هو شهادة ما زاد على الواحد ، وفي أغلب الأبواب الفقهيّة عبارة عن شهادة عدلين ، إلّا أنّ بعض الأعلام ذهب إلى أنّ المراد من البيّنة
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 380.

    في الكتاب والسنّة هو المعنى اللغوي لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ولا المتشرّعة.
    فما جاء في الكتاب الكريم كقوله تعالى :
    (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(2).
    (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)(3).
    (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)(4).
    وغير ذلك إنّما هو بمعنى ما به البيان وما به يثبت الشيء.
    وكذلك ما جاء في السنّة في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان) ، أي بالحجج وما به يتبيّن الشيء ويظهر ، والمراد من قوله (إنّما أقضي بينكم) أي عدم العمل بعلمه اللّدني في رفع الخصومات بين الناس. وهذا المعنى جارٍ في الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) إلّا صاحب الزمان (عليه‌السلام) فإنّه يعمل ويقضي بعلمه الواقعي كما ورد في الأخبار الشريفة.
    فلم يثبت أنّ البيّنة بمعنى العدلين في الأخبار حتّى في رواية (مسعدة بن صدقة) فلا دلالة لها على اعتبار البيّنة بمعنى شهادة العدلين بل لا بدّ من إحراز حجّيتها من الخارج (1).
    __________________
    (2) الفاطر : 25.
    (3) هود : 28.
    (4) البيّنة : 1.
    (1) التنقيح 2 : 285 ، والدروس 1 : 113.

    ويرد عليه أنّه خلاف ما هو المتفاهم والمتبادر عند الفقهاء الأعلام ، كما لو لم يتمّ المعنى في الموثّقة فإنّه يلزم أن يكون قسم الشيء قسيماً له كما مرّ ، كما أنّه أشار البعض إلى أنّه متى ما ورد لفظ القيام مع البيّنة ، فإنّه أُريد منها شهادة العدلين ، ففي الموثّقة (الأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين لك غير ذلك) ، أي يعلم ويظهر خلافه (أو تقوم به البيّنة) أي يشهد شاهدان عادلان على غير ذلك.
    أدلّة حجّية البيّنة
    لا إشكال في اعتبار البيّنة عقلائياً فقد قامت السيرة العقلائيّة على حجّيتها سيّما في الأُمور الهامّة ، وشرعاً في الجملة بل قيل : إنّها من ضروريات الفقه كما ورد في النصوص والفتاوى ، والقدر المتيقّن من اعتبارها وحجّيتها في موارد الخصومات ورفعها. وأمّا في غيرها فقد اختلف الأعلام فيها ، كما في الموضوعات الخارجيّة.
    ففي الجواهر في كتاب الطهارة في إثبات النجاسة بالبيّنة بعد نفي الخلاف في اعتبارها ، قال : إلّا عن القاضي ابن البرّاج والكاتب والشيخ.
    والظاهر اعتبارها مطلقاً في الأُمور المحسوسة والشهادة الحسّية أو الحدسية القريبة من الحسّ التي يقف عليها الشاهد من خلال الآثار والأمارات كالعدالة والشجاعة.
    قال المحقّق الهمداني (قدس‌سره) : المتتبّع في ما دلّ على اعتبار البيّنة إذا أمعن النظر لا يرتاب في عدم مدخليّة خصوصيّات الموارد التي ثبت اعتبار البيّنة فيها ، فهي

    طريق شرعي تعبّدي لم يلغها الشارع في شيء من مواردها. نعم اعتبر في بعض المقامات شهادة الأربعة ، أو كون الشاهد رجلين ، وأمّا نفي اعتبارها رأساً فلم يعهد في الشرعيات.
    وقال المحقّق الحائري في كتاب الصلاة : يعلم ممّا ورد في الشرع أنّ اعتبارها وكونها كالعلم مفروغ عنه.
    ويقول السيّد الأُستاذ السيّد الصدر (قدس‌سره) : ويمكن أن يقال : بعد ما ثبت حجّية البيّنة عند العقلاء مطلقاً وعند الشرع في الجملة ، فهي مرتكزة في جميع الأذهان. فإذا لم تكن حجّة عامّة عند الشارع لوجب عليه الإعلام ، تخطئة لما تقرّر في جميع الأذهان. كما صنع ذلك في ثبوت الزنا. وحيث لم يصدر إعلام منه ، في موضوعات أُخرى ، إذ لو كان لبان فيحكم العقل بحجيّتها عند الشارع في جميع الموضوعات. ويشعر بكون حجّية البيّنة لإثبات جميع الموضوعات من الأُمور المسلّمة في الشرع. ما رواه في الكافي والتهذيب عن الكاظم (عليه‌السلام) : (كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة) ، فقد أقام البيّنة مقام العلم الوجداني ، أو جعل كناية عنه (1). انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    وقد استدلّ المشهور على حجّية البيّنة بوجوه :
    الوجه الأوّل : الإجماع كما ادّعى ذلك جماعة من الأصحاب ، وإن البيّنة
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 333.

    حجّة في كثير من الموارد كثبوت النجاسة والطهارة والوقت للصلاة والصيام والقبلة وفي باب ثبوت الوكالة والعزل ، وفي أسباب التحريم في باب النكاح من النسب والرضاع وفي الوصايا وغير ذلك ، ومن خالف في ذلك فإنّه شاذّ ، كما أنّه معروف فلا يضرّ بالإجماع ، كمخالفة ابن البرّاج في عدم ثبوت النجاسة بالبيّنة لأنّها لا تفيد العلم ، فلا ترتفع الطهارة إلّا بالعلم بالنجاسة والبيّنة ليست بعلم ، وهو مردود على أنّ البيّنة حجّة شرعيّة حاكمة على قاعدة الطهارة.
    إلّا أنّه يرد على هذا الإجماع بأنّه ليس من التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم (عليه‌السلام) حتّى يتمّ الاستدلال به ، بل ربما يكون من المدركي لاحتمال استناده إلى أحد الوجوه المذكورة في المقام كالروايات الشريفة.
    الوجه الثاني : الروايات.
    منها : موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سمعته يقول كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عنه لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة) (1).
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب التجارة ، باب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

    ويقع الكلام في سند الرواية ودلالتها :
    أمّا السند : فقد عبّر الشيخ الأنصاري عنها بالموثّقة ، بناءً على أنّ السند حتّى مسعدة صحيحاً ، وأمّا مسعدة فهو من العامّة كما صرّح بذلك الشيخ (قدس‌سره) ، وقد ذكره العلّامة الحلّي في القسم الثاني ، وضعّفه العلّامة المجلسي في الوجيزة.
    إلّا أنّه قيل في مدحه إنّ رواياته غير مضطربة المتن وأنّ مضامينها موجودة في سائر الموثّقات. وحكي عن العلّامة المجلسي الأوّل أنّه قال : وإن كان عاميا إلّا أنّه معتمد في النقل ، ومن تتبّع أخباره يحصل له العلم بأنّه أثبت من كثير من العدول ، مع أنّه وقع في سند كتاب (كامل الزيارات) للمحدّث القمّي ابن قولويه وقد صرّح في مقدّمة كتابه : إنّه لم يروِ فيه إلّا الأخبار التي رواها الثقات غير المتّصفة بالشذوذ ، مضافاً إلى عمل الأصحاب بالرواية فينجبر السند. إلّا أن يقال بعدم الانجبار بناءً على أنّه لم يثبت لنا حجّية البيّنة في الموضوعات بهذه الرواية فقط ، بل يعدّ من المسلّمات اعتبارها في الموضوعات عند المتشرّعة ، فتكون الرواية مع القول بضعف السند وكذلك الروايات الأُخرى مؤيّدات لما هو المرتكز عند المتشرّعة ، بأنّ الموضوعات مطلقاً المحلّلة والمحرّمة ، وما هو موضوع الحكم الشرعي تثبت بشهادة العدلين.
    كما إنّ السيّد الخوئي (قدس‌سره) كان يرى تضعيفه أوّلاً كما في تقريراته ، إلّا أنّه عدل عن ذلك ووثّقه باعتبار وقوعه في طريق كامل الزيارات ، وكان مبناه من قبل توثيق ما جاء في الكامل ، وإن قيل بتراجعه عن هذا المبنى في آخر حياته الشريفة ، فتأمّل.

    ولمثل هذه الوجوه ربما اشتهرت بين الأعلام بالموثّقة. وأمّا تضعيف العلّامة والمجلسي عليهما الرحمة فلا يضرّ بوثاقة الرجل ، لاعتماد المتأخّرين في تضعيفاتهم على الاجتهادات والحدسيّات فلا يكون من الشهادة الحسّية حتّى يعتمد عليه ، كما في توثيق وتضعيف مثل الشيخ الطوسي والنجاشي عليهما الرحمة. فالرواية من حيث السند لا غبار عليها.
    وأمّا الدلالة : فبعد التبادر عند الفقهاء من لفظة (البيّنة) في الأخبار بأنّها شهادة عدلين ، وما زاد على الواحد ، فإنّها تدلّ على عموم حجّيتها في كلّ موضوع ، فلا تختصّ بباب القضاء ورفع الخصومات ، فإنّ الجمع المعرّف باللام في قوله (عليه‌السلام) (الأشياء) يفيد العموم ، أضف إلى ذلك تأكيده بكلمة (كلّها) فجميع الموضوعات الخارجيّة على حالها حتّى يعلم ويستبين خلافها ، أو تقوم عليه ما هو بمنزلة العلم وهو البيّنة مثل شهادة العدلين.
    فالرواية الشريفة تدلّ على أنّ اليد في مثل الثوب والمملوك وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة حجّة معتبرة ، لا بدّ من العمل بها حتّى يعلم أو تقوم البيّنة على الخلاف ، فالبيّنة حجّة شرعيّة لإثبات الموضوعات المذكورة في الرواية ولأمثالها حتّى في مثل الاجتهاد والأعلميّة.
    وممّا يدلّ على العموم أيضاً ، جعل البيّنة في عرض العلم ، ولمّا كان العلم عامّاً ومطلقاً جارٍ في كلّ الأحكام والموضوعات ، فكذلك البيّنة وإنّما الاختلاف في كيفيّة الحجّية ، فإنّها في العلم ذاتية غنية عن الجعل والاعتبار ، وفي البيّنة محتاجة إلى الجعل ولو إمضائيّاً.

    كما استدلّ السيّد الحكيم على العموم بما حاصله :
    إنّ المراد من قيام البيّنة بالحرمة أعمّ من كونها مدلولاً مطابقيّاً أو تضمّنياً أو التزامياً لا خصوص مدلولها المطابقي ، فإذا قامت البيّنة وشهدت بموضوع خارجي تلزمه الحرمة أو لازم لها ، أو كان ملازم لها ، مثل كون المائع خمراً أو بولاً أو دماً أو نحوها ، وكذا أعمّ من شهادتها بعنوان اعتباري مثل إخوة امرأة أو نجاسة مائع أو حرية رجل ، إذا كان بينه وبين الحرمة ملازمة ، فإنّ البيّنة في جميع ذلك قائمة بالحرمة ، فلا يختصّ اعتبارها بالشهادة على خصوص الحرمة ، بل يعمّ سائر الموضوعات) (1) ، كما يذكر وجهاً آخر لدلالتها على العموم ، فراجع.
    ثمّ الشكّ في الحلّية في موارد الرواية كلّها من الشبهات الموضوعيّة ، فيستفاد عموم حجّية البيّنة في كلّ شبهة موضوعيّة ، فالمشهود به هو نفس الموضوع كالسرقة أو بيع الحرّ نفسه ، لا الحكم المترتّب عليه وإن صحّ الشهادة على الحكم أيضاً.
    ثمّ ذكر الحلّية في الرواية من باب ذكر المورد فلا خصوصيّة فيها ، فإنّ المراد هو بيان الأصل الأوّلي في كلّ شيء ، فالأشياء كلّها على حالتها الاولى الذي يقتضيه أصل كلّ شيء من الحلّية أو الوجوب أو غيرها ، فكلّ شيء على حاله الأوّل سواء كان إلزاميّاً أو غيره ، وجوبياً أو غيره ، نفسياً أو غيره ، فثبت حجّية البيّنة مطلقاً في الأحكام والموضوعات.
    نعم إذا أردنا الجمود على ألفاظ الروايات كما هو مبنى الأخباريين
    __________________
    (1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 203.

    والحشويين ، فربما يقال بعدم دلالتها على العموم ، بل مختصّة بما ورد في الرواية من إثبات خصوص الحرمة ، فلا يستفاد منها إثبات موضوع حينئذٍ ، ولكن هذا المبنى مردود وباطل كما هو ثابت في محلّه.
    فثبت المطلوب مع توثيق الرواية سنداً وتمامية دلالتها ، أنّ البيّنة (شهادة عدلين) حجّة مطلقاً ، إلّا ما خرج بالدليل ، كما في الزنا.
    ويقول السيّد الخوئي (قدس‌سره) : وحيث إنّ مورد الموثّقة هو الموضوعات الخارجيّة ، لا يُصغى إلى دعوى أنّ الموثّقة إنّما دلّت على اعتبار البيّنة في الأحكام فلا يثبت بها حجيتها في الموضوعات ، فالموثّقة يدلنا على حجّية البيّنة في الموضوعات مطلقاً ، ويؤيّدها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الجبن : (قال : كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة) ، وحيث إنّ سندها غير قابل للاعتماد عليه جعلناها مؤيّدة للموثّقة.
    وأيضاً نقول في عمومية البيّنة حتّى في الموضوعات الخارجية : إنّه نتمسّك بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان) ، فإنّه جعلت البيّنة طريقاً للواقع ، والقضاء ليس مبيّناً للحكم الواقعي ، بل اعتبار القضاء بنحو الطريقية لا السببية ، ولهذا لو علم المدّعى أنّ الحقّ مع المنكر ، فلا يجوز له أن يتصرّف فيما أخذه بحكم الحاكم وبالقضاء. فالبيّنة مثبتة للأشياء قبل القضاء حتّى يكون قول النبيّ إنّما أحكم بينكم وأقضي بما هو يوجب الإثبات ، وهو البيّنة ، فليس معنى (إنّما أقضي بينكم) أنّ البيّنة مختصّة بباب القضاء ، وإلّا لما عطف عليها الأيمان ، فإنّ اليمين من البيّنات وهذا شاهد واضح على أنّ المراد من البيّنات ليست المختصّة بالقضاء ، بل ما تعمّ

    الموضوعات كلّها ، وبمثل هذا وباعتبار قصّة خزيمة بن ثابت ربما نقول بالحقيقة الشرعية بأنّ المراد من البيّنة شهادة ما زاد على الواحد أو شهادة العدلين ، وليس معناها اللغوي ، وإن لم نقل بالحقيقة الشرعية فلا أقلّ أنّها من المتشرّعة. ومن المسلّم اعتبارها في الموضوعات في زمن الصادقين (عليهما‌السلام) وفيما بعد ، فالمرتكز عندهم من البينة شهادة العدلين وليس المعنى اللغوي ، وهو الكشف التكويني عن الواقع كما كان في العلم الوجداني.
    ومنها : ما رواه الصدوق في الأمالي عن علقمة عن الإمام الصادق (عليه‌السلام).
    وفيه : فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر (1).
    وكيفية الاستدلال بها : أنّه جعل شهادة العدلين طريقاً لإثبات الذنب كالرؤية بالعين ، ولا خصوصية للمورد ، فيعمّ سائر الموضوعات.
    ومنها : ما رواه الكافي عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الجبن.
    قال : كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة (2).
    كيفية الاستدلال : أنّه بمناسبة الحكم والموضوع إنّ شهادة العدلين طريق معتبر كالعلم في إحراز متعلّقه ، ولا خصوصيّة للمورد وإن ورد في وجود الحرمة
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب القضاء والشهادات ، باب 41 من أبواب الشهادات ، الحديث 13.
    (2) الوسائل : كتاب الأطعمة والأشربة ، باب 61 من أبواب الأطعمة والأشربة ، الحديث 2.

    بقيام البيّنة.
    ومنها : ما رواه الكليني عن أبي ضمرة عن أبيه ، عن جدّه.
    قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية من أئمة الهدى (عليهم‌السلام) (1).
    كيفية الاستدلال : أنّ أحكام المسلمين عامّة ، وكما أنّ سيرة الأئمة عامّة ، وأنّ اليمين يعمّ سائر الموضوعات كذلك الشهادة العادلة أي البيّنة.
    وغير ذلك من الأخبار الشريفة كالتي وردت في اعتبار شهادة الرجال في ثبوت الهلال أو القتل أو الرجم دون شهادة النساء ، وكذلك في اعتبار شهادة النساء في موارد خاصّة كالبكارة والنفاس ، ممّا يدلّ على حجّية البيّنة إلّا ما خرج بالدليل.
    الوجه الثالث : من باب الأولويّة وتنقيح المناط.
    بيان ذلك : من المتسالم عند الفقهاء أنّ الشارع المقدّس جعل البيّنة حجّة في رفع المخاصمات ، وقد قدّمها على مثل قاعدة اليد غير الإقرار ، فإذا كانت حجّة مع وجود المعارض وتكذيب المنكر وإنكارها ، فبطريق أولى تكون حجّة مع عدم وجود المعارض والتكذيب.
    وأُورد عليه : إنّ بقاء التخاصم والنزاع مبغوض للمولى ، فإنّ الصلح عنده
    __________________
    (1) فروع الكافي 7 : 432.

    خير ، وإنّ الشيطان يلقي بينكم العداوة والبغضاء ، فأحبّ الشارع دفع المخاصمة ورفعها بأيّ نحو كان ، فلا مناص من حلّها بشيء ، فإنّ بقاء النزاع بحاله ينجرّ إلى اختلال النظام ، فجعل البينة رفعاً للمخاصمة وما به رفع المخاصمات لا يلزم أن يكون حجّة حتّى في غيرها ، فإنّ اليمين تفصل بها الخصومة شرعاً ولا تعتبر في غير المرافعات والمخاصمات ، فما يكون حجّة في موارد التخاصم لا يلزم أن يكون حجّة على الإطلاق ، فكيف القول بالأولوية ، فإنّه من القياس مع الفارق. فلا تبتنى على أساس صحيح.
    الوجه الرابع : مفهوم آية النبأ مع موثّقة مسعدة.
    قيل : إنّ مفهوم قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) يدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً في الأحكام والموضوعات ، وبناء على ما جاء من الحصر في الموثّقة يخرج من العموم خبر العدل الواحد في الموضوعات ، فتصير البيّنة معتبرة مطلقاً.
    إلّا أنّه يرد عليه : أنّ الموثّقة ليست بصدد الحصر ، لأنّ الأشياء كما أنّها تثبت بالاستبانة أي العلم الوجداني والحجّة العقلائية ، والبيّنة أي العلم العادي والحجّة الشرعيّة ، كذلك ثبت بالاستصحاب والإقرار وحكم الحاكم وغيرها ، فلو كانت بصدد حصر المثبت فيهما لاستلزم ذلك تخصيص الأكثر المستهجن (1).
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 211.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:07

    إشكال وجواب
    ربما يقال إنّ من شرط الشهادة أن تكون حسّية ، لما ورد عن الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مشيراً إلى الشمس : (على مثل هذا فاشهد) أي يكون المشهود به واضحاً كوضوح الشمس ، وهذا يلزمه الحسّ ، فلا يكتفى بالشهادة الحدسية ، والاجتهاد وكذلك الأعلمية ليستا من الأُمور الحسّية ، فإنّ ملكة الاجتهاد إنّما تستكشف بالحدس والاختبار ، والشهادة إنّما تقبل في المحسوسات ، ولا اعتبار بها في الحدسيات مطلقاً.
    وبعبارة اخرى : من الواضح أنّ الشهادة غير الخبر ، فإنّها خبر عن حسّ ، ولهذا لا اعتبار في شهادة أربعة من أربعة في الزنا ، فإنّ الأخبار به لم يكن عن حسّ ورؤية ، فلو كانت البيّنة فيما نحن فيه أمارة عن أخبار الواقعة عن الحسّ بها ، فإنّ العدلين حدسا ذلك ، فلم تكن شهادتهما عن حسّ بل عن حدس ، فلا تكفي البيّنة في مثل موردنا من معرفة اجتهاد المجتهد وأعلميّته.
    وأُجيب : إنّ الأُمور الحدسية على نحوين : فتارةً قريبة من الحسّ وهي ممّا يقلّ فيه الخطأ وتكون مقدّماته موجبة للحدس ، وأُخرى بعيدة عن الحسّ ، والأوّل حجّة ببناء العقلاء الممضاة شرعاً ، وتكون كالشهادة على الأُمور الحسّية ، فالاجتهاد كالعدالة والشجاعة في الجملة ، من الأُمور التي تقبل الشهادة والإخبار. فالبيّنة حجّة في تمام الموضوعات ومنها اجتهاد المجتهد.

    نعم ، لا بدّ في مثل هذه الشهادة أن تكون عن خبرة ، كما اشترط الماتن بأن تكون البيّنة من قبل أهل الخبرة ، فإنّ المشهود به على نحوين تارة لا يحتاج إلى فكر ونظر كالمحسوسات فلا يشترط أن يكون الشاهد فيه من أهل الخبرة ، وأُخرى بحاجة إلى إعمال الفكر والنظر كمعرفة الأرش والقيمة ومنه معرفة المجتهد والأعلم فإنّه يشترط واقعاً أن يكون الشاهد من أهل الخبرة كما هو واضح.
    إلّا أنّ المراد من أهل الخبرة ليس كونه مجتهداً كما يظهر من مبنى الماتن في المسألة السابقة ، بل يكفي أن يكون من أهل العلم والتشخيص حتّى ولو لم يبلغ درجة الاجتهاد كما هو المختار. فلو كان العامي أي غير الفقيه من أهل الخبرة ويمكنه تشخيص اجتهاد المجتهد أو أعلميّته حسب الموازين الشرعية ، فإنّ علمه حجّة ، وحجّيته ذاتية ، ولا أقلّ من كونها معذّرة ومنجّزة.
    ولا دليل خاصّ على عدم اعتبار علم العامي في مثل هذا المقام ، ثمّ كونه من أهل الخبرة لا دليل شرعي عليه ، إنّما الدالّ سيرة العقلاء من رجوعهم في مثل الطبّ إلى أهل الخبرة ، وليس الاجتهاد كالعدالة يعرفها الجميع.
    هذا ويشترط في قيام البيّنة أن لا تكون معارضة بمثلها ، لعدم إمكان شمول الدليل الدالّ على حجّيتها للمتعارضين لاستحالة التعبّد بالضدّين أو النقيضين ، كما لا يقدّم أحدهما على الآخر للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فيلزم حينئذ تساقطهما ، أو القول بالتخيير عند تكافئهما على اختلاف المباني.
    ومع وجود الترجيح يقدّم من كان فيه ذلك ، فلو كانت إحدى البيّنتين المتعارضتين أكثر عدداً من الأُخرى ، فقيل بتقديمها وقيل بالعدم ، لأنّ الترجيح

    بالأكثرية يختصّ بباب المراجعة عند القاضي لرفع الخصومة ، والتعدّي إلى غيره يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، وعدم الدليل دليل العدم.
    ولو كان مستند البيّنة النافية الاستصحاب ، ومستند الأُخرى العلم الوجداني ، فإنّه يقدّم الثاني ، فتأمّل.
    والظاهر عدم اعتبار الظنّ بصدقهما ، لإطلاق حجّيتها ، فالبيّنة حجّة مطلقاً سواء ظنّ بالوفاق أم الخلاف أم غيرهما.
    ثبوت الاجتهاد بخبر الثقة :
    من الطرق المذكورة في الكتب الفقهيّة لإثبات اجتهاد المجتهد وأعلميّته ، هو خبر الثقة.
    واختلف الأعلام في ذلك ، فمنهم من أثبت حجّية خبر الثقة في إثبات الموضوعات الخارجيّة كما يثبت به الأحكام ، ومنهم من أنكر ذلك في الموضوعات مطلقاً ، ومنهم من قال بالتفصيل ، فيما لو كان الموضوع ما يقع في إثبات الحكم الكلّي فيثبت بخبر الثقة ، وإلّا فلا ، ومنهم من احتاط فقال بالتوقّف. ولعلّ عدم تعرّض السيّد اليزدي لخبر الثقة لما فيه من الاختلاف والإشكال حول حجّيته في مطلق الموضوعات كما عند كثير من المتأخّرين والمعاصرين.
    أقول : إذا ثبت لحوق العلم العادي وهو ما فيه الاطمئنان والوثوق بالعلم الوجداني الواقعي كما هو المختار ، فإنّه تثبت الموضوعات الخارجية ومنها الاجتهاد والأعلمية بكلّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان ومنه خبر الثقة ، لو قلنا بحجّيته للسيرة

    العقلائية ، وعدم ردع الشارع عنها ، وللآية والروايات.
    ولمّا كان قبول قول الثقة في الموضوعات مورد ابتلاء ، فلا بدّ من تنقيح هذا الموضوع لجريانه في كثير من المسائل الفقهيّة ، والمعروف بين المتأخّرين عدم الثبوت. وظاهر السيّد الحكيم في المستمسك والسيّد الأُستاذ السيّد رضا الصدر في الاجتهاد والتقليد والسيّد الخوئي في التنقيح الثبوت.
    أدلّة حجّية خبر الثقة في الموضوعات
    واستدلّ من يذهب إلى حجّية خبر الثقة في الموضوعات بوجوه :
    الأوّل : وهو العمدة في المقام وهو عبارة عن بناء العقلاء وسيرتهم ، فإنّهم يأخذون بخبر الثقة ، ولا يفرّقون بين قيامه على الأحكام أو الموضوعات ، بل في كثير من الموارد يأخذون بالأخبار التي لا يعرفون قائلها لا بالوثاقة ولا بعدمها ، فإنّهم يعتمدون على أقوال أهل الخبرة والأخصائيين عموماً من دون ملاحظة الوثاقة والصدق ، كما يعتمدون على من يدلّهم على عنوان دار أو هاتف ، أو يرتّبون الأثر على النُّصب واللوحات المنصوبة في الطرق ، الدالّة على المسافات من دون أن يعرفوا من نصبها ، كما يرتّبون الأثر على أخبار الصحف والمذياع من دون أن يعرفوا المذيع والصحفي ، كما يعتمدون على أخبار الناس عن أحوالهم وأنفسهم وعلى أخبار المؤرّخين في كتبهم ، فهم يثقون بهذه الأخبار ولا يحتملون في حقّ مخبريها الكذب ، نعم في موضع الموارد الهامّة يطالبون بالوثاقة ، أو تعدّد المخبر كما في

    رفع الخصومات ، فالملاك عندهم هو الوثوق الشخصي ، وهو يختلف باختلاف الموارد.
    ثمّ الشارع لم يردع عنها بما هو المطلوب ، فإنّ الردع من قبله لا بدّ أن يكون مناسباً للموضوع ، فإذا كان أمراً راسخاً في الأذهان كالقياس والعمل بالاستحسانات الظنية ، فإنّ ردع الشارع يكون مكرّراً لإزالة هذا الأمر الجاري في سيرتهم ، ويكون بلسان لاذع كما في العمل بالقياس ، بأنّه إذا قيس الدين أو السنّة مُحق.
    وأُورد عليه أنّه لم يقم على اعتبار السيرة دليل من آية أو رواية حتّى يؤخذ بإطلاقها ، نعم إمضاء الشارع أو عدم ردعه يكون حجّة ، وربما موثّقة مسعدة بناء على الحصر ، وأنّ البيّنة شهادة عدلين يكون رادعاً عن السيرة. فتأمّل.
    الثاني : مفهوم آية النبأ ، فإنّها تدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً ، بل مورد الآية هو الإخبار عن الموضوع وهو ارتداد بني المصطلق بإخبار الوليد بن عتبة.
    وأُورد عليه أنّه يخصّص ذلك بموثّقة مسعدة بناءً على الحصر والبيّنة المصطلحة ، فيعتبر التعدّد في الموضوعات ، كما يخصّص بخبر عبد الله بن سليمان بعد إلغاء الخصوصيّة ، وفي الردّ تأمّل وتدبّر بضعف السند والدلالة.
    كما إنّ الارتداد لا يثبت إلّا بالبيّنة ، فيلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، وفيه تأمّل أيضاً.

    هذا ما قيل في الإشكال على السيرة العقلائيّة من ردع الشارع إيّاها ، ولكن كما ترى قابل للنقاش سنداً ودلالة ، فإنّه يبتني على من يقول بوثاقة مسعدة وبإفادة الموثّقة الحصر أوّلاً ، وأنّ المراد من البيّنة شهادة عدلين أو ما زاد عن الواحد ثانياً ، فالمسألة تكون مبنويّة حينئذٍ.
    ثمّ هناك من حاول إثبات إمضاء الشارع لمثل هذه السيرة ، فإنّهم لم يعملوا بقول من يسيئون الظنّ به ، وهذا ثابت في الشرع بمنطوق آية النبإ الشريفة ، كما أنّهم يأخذون بكلّ مخبر لا يساء الظنّ به في جملة من أُمورهم المعاشية وحياتهم اليومية ، كما يشترطون وثاقة المخبر أو تعدّده في بعض الموارد الهامّة كرفع الخصومات.
    والشارع أمضى هذه الأُمور ، فمن الصنف الأوّل في باب صلاة المسافر في بيان مقادير المسافة المعتبرة في قصر الصلاة والإفطار في نهار شهر رمضان ، فتعيّنها في الطرق قد تحقّق من قبل من لا معرفة لنا بحاله من حيث الوثاقة ، وكذا ما ورد في الحجّ في أحكام الحرم ، وما ورد في باب المعاملات من الاعتداد بخرص الخارصين لبيع الثمار على الأشجار ، وبقول المرأة عند إخبارها بكونها خليّة ، وفي إخبار ذي اليد وشهادة القابلة ، وخبر ابن سفيان في غسل الجنابة في غَسل اللمعة المتبقية على الظهر (1) ، واعتماد أبي الحسن موسى الكاظم (عليه‌السلام) في سجن الفضل بن ربيع على قول الغلام عند إخباره بدخول وقت الصلاة (2) ، وغير ذلك من الموارد.
    __________________
    (1) الوسائل : باب 47 من أبواب النجاسات.
    (2) عيون أخبار الرضا (عليه‌السلام) : 60.

    وأمّا الصنف الثاني فقد وردت أخبار تدلّ على حجّية قول الثقة في الموضوعات بعضها بالإطلاق وبعضها بإلغاء الخصوصية عن المورد بحسب المتفاهم العرفي.
    ومنها : إطلاق قوله (عليه‌السلام) في موثّقة سماعة : سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة ، فقال : إنّ هذه امرأتي وليست لي بيّنة؟ فقال (عليه‌السلام) : إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه. فالجواب مطلق ، وربما يقال بطرح الرواية لأنّها وردت في باب الخصومات. ويشترط فيها البيّنة شهادة العدلين ، وأُجيب عنه بأنّ الراوي ليس بصدد معرفة وظيفة القاضي عند فقدان البيّنة ، وإلّا لزم لغويّة فرض المدّعى بالوثاقة أو عدمها كما أنّ إنكار الخالي المرأة غير مقوّم للخصومة ، فلا بدّ من الإنكار الصريح الفعلي ، كما أنّ المتبادر من السؤال هو معرفة السائل عن حكم هذا الزوج مع زوجته كما يشهد الجواب بذلك.
    ومنها : صحيح هشام بن سالم الواردة في باب ثبوت عزل الوكيل بإبلاغ الثقة وبالمشافهة.
    قال (عليه‌السلام) : والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة (1).
    فجعل المشافهة بالعزل في عرض تبليغ الثقة ذلك. فكما أنّ المشافهة يفيد العلم فكذلك قول الثقة. ومع إلغاء الخصوصيّة في المورد ، يقال بحجّية خبر الثقة في
    __________________
    (1) الوسائل : باب 3 من أبواب الزكاة.

    كلّ الموضوعات الخارجيّة.
    ومنها : في صحيح أو موثّقة إسحاق بن عمّار (بن حيان الصيرفي الكوفي فتكون الرواية صحيحة فإنّه من الإمامية الثقات وإن كان الساباطي كما في فهرست الشيخ فتكون موثّقة فإنّه فطحيّ المذهب).
    عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، سألته عن رجل كانت له عندي دنانير ، وكان مريضاً فقال : إن حدث لي حدث فأعطِ فلاناً عشرين ديناراً وأعطِ أخي بقية الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنّه أمرني أن أقول لك : انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير ، اقسّمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً؟ فقال (عليه‌السلام) : أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير.
    فكونه صادقاً موثّقاً يؤخذ بقوله ، ولم تكن الرواية في باب الخصومات للانصراف كما يشهد قوله (ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً) فلا تعارض ما ورد من البيّنة (شهادة عدلين) في خصوص رفع الخصومات وربما يقال بمعارضة هذه الروايات مع موثّقة مسعدة الدالّة على الحصر وأنّ البيّنة شهادة عدلين.
    وأُجيب بضعف السند ، وأنّها لا تقاوم هذه الصحاح ، فلا تصلح للمعارضة كما لا تصلح للردع عن السيرة.
    كما إنّ الظاهر في الروايات الدالّة على شهادة العدلين في مثل ثبوت الهلال والطلاق والعتق والرضاع وموت الزوج أنّها ناظرة إلى عمل القاضي فتدخل في باب الحكم والقضاء الذي يشترط في بيّنتها شهادة العدلين أو البيّنتين كما في الزنا.

    الثالث : الروايات الشريفة ،
    وهي على طوائف مختلفة يمكن أن يصطاد منها حجّية خبر الثقة ، فيكون كالقاعدة المصطادة ، ومن الأخبار الشريفة :
    1 ـ ما دلّ على ثبوت الوقت بأذان الثقة (1).
    2 ـ ما دلّ على ثبوت عزل الوكيل بإخباره (2).
    3 ـ ما دلّ على ثبوت الوصيّة به (3).
    4 ـ ما دلّ على ثبوت استبراء الأمة بإخبار الرجل إذا كان بائعاً (4).
    5 ـ ما دلّ على ثبوت أصل النجاسة بخبره (5).
    6 ـ ما دلّ على النهي عن إعلام الغير بنجاسة ثوبه في أثناء الصلاة ، فلولا ثبوت النجاسة بمجرّد الإعلام لم يكن وجه لهذا النهي (6).
    وموارد اخرى يقف عليها المتتبّع.
    إلّا أنّه ورد على الاستدلال بها أنّها في موارد جزئيّة ، لا يظهر منها استفادة العموم في كلّ الموضوعات والموارد.
    __________________
    (1) الوسائل : كتاب الصلاة ، باب 3 من أبواب الأذان والإقامة.
    (2) الوسائل : كتاب الزكاة ، باب 2 من أبواب الزكاة.
    (3) الوسائل : كتاب الإرث والوصايا ، باب 97 من أبواب الوصايا.
    (4) الوسائل : كتاب النكاح ، باب 5 من أبواب نكاح العبيد.
    (5) الوسائل : كتاب الصلاة ، باب 33 من أبواب مقدّمات الصلاة.
    (6) الوسائل : كتاب الطهارة ، باب 47 من أبواب النجاسات. نقلاً عن الدرّ النضيد 2 : 393.

    الرابع : من باب عموم الأدلّة ، فإنّ الأدلّة الدالّة على حجّية خبر الثقة في الأحكام تدلّ بالعموم على حجّيته في الموضوعات أيضاً ، ففي الحكم لا يخبر الراوي عن الحكم ابتداءً ، بل المخبر به في كلامه ظهور كلام الإمام ، وهذا إخبار عن الموضوع ، فدليل حجّية خبر الثقة عن الحكم بنفسه ، دليل لحجّية خبره عن الموضوع.
    وأُشكل عليه : أنّ ظهور كلام الإمام غير ملحوظ استقلالاً ، بل الملحوظ الاستقلالي هو الحكم دون غيره. إذ الظهور ملحوظ آلة وفانياً في الظاهر ، وإخبار الراوي إنّما يكون عن الحكم حقيقة لا عن الموضوع ، وإسراء حكم موضوع غير ملحوظ استقلالاً إلى موضوع ملحوظ مستقلا من قبيل القياس ، بل هو القياس نفسه (1).
    الخامس : من باب تنقيح المناط والأولويّة.
    فإنّ الشارع قد اهتمّ بأحكامه وما يترتّب عليه من الثواب والعقاب ، واعتمد في إيصالها أو نفيها على خبر الثقة ، فبطريق أولى أنّه يعتمد عليه في إثبات الموضوع الذي دونه في ترتّب المهامّ.
    وأُجيب : ربما يعتمد الشارع في إثبات الموضوعات بخبر الثقة بما يرتبط به من موضوعات أحكامه فلا يعمّ الموضوعات كلّها ، ومع هذا الاحتمال فلا يقال بالتعدّي
    __________________
    (1) الاجتهاد والتقليد : 311.

    والأولوية ، كما أنّا نعلم أنّه قد تصرّف الشارع في ثبوت بعض الموضوعات بالبيّنة الواحدة ، وهي شهادة عدلين أو البيّنتين ، فكيف يقال بالأولوية.
    السادس : سيرة المتشرّعة.
    فإنّ المتشرّعة كما يقولون بحجّية خبر الثقة في الأحكام في رواية الراوي ، فإنّهم لا يفصّلون فيما يرويه من لفظ الإمام كما في حكاية الأدعية والأذكار أو يخبرون عمّا تفضّل به الإمام في غير الأحكام أو يخبرون عن فعله (عليه‌السلام) من غير أن يقصدوا به إفادة حكم شرعي ، وهذه الحكايات كلّها إخبار عن الموضوع.
    وأُجيب عنه : إنّ مثل هذه السيرة المتشرّعة لا يستفاد منها الإطلاق والعموم حتّى تشمل خبر الثقة في جميع الموضوعات ، فإنّها من الدليل اللبّي كالإجماع ، فيؤخذ فيها بالقدر المتيقّن.
    يقول بعض الأعلام بالتفصيل في حجّية خبر الثقة في الموضوعات ، بأنّ الإخبار عن الموضوع تارةً يكون إخباراً عن الحكم الكلّي بمدلوله الالتزامي ، فهو حجّة ، وأُخرى لا يكون كذلك بل يكون إخباراً عن الحكم الجزئي ، فيكون الأوّل كالإخبار عن قول المعصوم (عليه‌السلام) فإنّه من الموضوع الخارجي لازمه الحكم الكلّي ، فالإخبار يحكي عن موضوع خارجي ، وأدلّة حجّية خبر الثقة تدلّ على حجّيته في الموضوعات الخارجية التي تقع في طريق إثبات الحكم الكلّي ، فلا تعارضها موثّقة مسعدة ، فإنّها تدلّ على عدم الحجّية في الموضوعات التي تقع في طريق إثبات الحكم الجزئي.

    وإذا كان خبر الثقة حجّة في الأحكام بالدلالة المطابقية ، فكذلك حجّة في ما يقع طريقاً للأحكام بالدلالة الالتزامية. والشهادة بالاجتهاد أو الأعلمية من إثبات الموضوع في طريق الحكم الكلّي ، فمدلوله المطابقي هو أصل الاجتهاد وهو إخبار عن الموضوع ، ومدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الكلّي الذي يؤدّي إليه نظر المجتهد ، نظير أخبار زرارة عن قول المعصوم الذي هو إخبار عن الموضوع يكون أيضاً إخباراً عن الحكم الكلّي ويكون حجّة على المجتهد.
    يقول السيّد الحكيم في مستمسكه (1) :
    وتوهّم اختصاص أدلّة حجّية خبر الثقة بالإخبار عن الحسّ فلا تشمل الإخبار عن الاجتهاد الذي هو أمر حدسي ، مدفوع بأنّ الإخبار عن الاجتهاد من قبيل الإخبار عن الحسّ كالإخبار عن قول الإمام (عليه‌السلام) ودلالتهما على الحكم الكلّي بالالتزام إنّما هو بتوسّط الحدس ، غاية الأمر أنّ الحدس في الثاني من المجتهد وحجّة عليه ، والحدس في الأوّل من المجتهد وحجّة على العامي المقلّد له. وعلى هذا المبنى يكفي توثيق رجال السند بخبر الثقة ، وكذا في إثبات المعنى بإخبار اللغوي الثقة ، ولو قلنا بحجّية خبر الثقة في الموضوعات كما عليه بناء العقلاء فالحكم أظهر ، لكنّه محلّ تأمّل ، لإمكان دعوى تحقّق الردع عنه.
    وأُجيب عنه : بأنّ أدلّة حجّية خبر الثقة بناءً على سيرة العقلاء غير مختصّة بالموضوعات التي تحكي عن الحكم الكلّي بل تعمّ مطلق الموضوعات. كما أنّ
    __________________
    (1) مستمسك العروة الوثقى 1 : 38.

    الإخبار عن الاجتهاد لا يلزم أن يكون خبراً عن الحكم الكلّي بمدلوله الالتزامي ، بل به يثبت ملكة الاجتهاد أعمّ من أن تكون فعليّة وإخبار عن الحكم الإلهي أو بالقوّة. ثمّ الفرق بين قول زرارة واجتهاد المجتهد ، فإنّ في الأوّل لا يرى للموضوع الخارجي وهو قول المعصوم (عليه‌السلام) واسطة أصلاً ، بخلاف الإخبار عن الاجتهاد ، فلا يعدّ إخباراً عن الحكم. وفي الكلّ تأمّل ونقاش.
    فتحصّل : أنّه يثبت اجتهاد المجتهد أو أعلميّته بالعلم الوجداني الحاصل بالاختبار ، أو الشياع المفيد للعلم ، بالبيّنة أي شهادة عدلين ، وخبر الثقة على قول. والأحوط عدم الإثبات به.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (بشهادة عدلين) ،
    قال السيّد الخوئي : لا يبعد ثبوته بشهادة عدل واحد بل بشهادة ثقة أيضاً مع فقد المعارض وكذا الأعلميّة والعدالة.
    وفي قوله : (للعلم) ،
    قال السيّد الخوانساري : الظاهر كفاية الوثوق والاطمينان.

    (المسألة الحادية والعشرون في العروة)
    قال السيّد اليزدي (قدس‌سره):
    مسألة 21 إذا كان مجتهدان لا يمكن العلم بأعلمية أحدهما ولا البيّنة ، فإن حصل الظنّ بأعلمية أحدهما تعيّن تقليده ، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدّم ، كما إذا علم أنّهما متساويان أو هذا المعيّن أعلم ولا يحتمل أعلمية الآخر ، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميّته.
    وفي غاية القصوى (1 : 15) قال سيّدنا الأُستاذ :
    في قوله : (لا يمكن) : في المسألة صور تظهر هي وحكمها بالتأمّل.
    وفي قوله : (تعيّن تقليده) ، قال : لا مساغ للعمل بالظنّ بل الأحوط لو لم يكن الأقوى الأخذ بأحوط الأقوال في صورة مخالفتها ، والتخيير في صورة التساوي.

    وفي قوله : (يقدّم) ، قال : على تأمّل.
    __________________
    أقول : عطفاً على ما سبق في مسألة تقليد الأعلم ودورانه بين ما زاد على الواحد واختلاف مراجع التقليد في الفتوى مع العلم بالمخالفة أو عدم العلم.
    والسيّد اليزدي في المسألة 12 قال بالاحتياط الوجوبي في تقليد الأعلم مع الإمكان ، كما كان الأقوى ذلك فيما إذا علم بوجوده في الخارج ، أو احتمل أعلميّته مع العلم بوجود الخلاف في الفتوى ، إذا لم يكن قول غير الأعلم موافقاً للاحتياط.
    فتعيين تقليد الأعلم إنّما ذهبنا إليه في صورة العلم بالمخالفة بينه وبين غيره إجمالاً أو تفصيلاً ، وإن لم يعلم المخالفة فإنّه مخيّر في تقليد أيّهما شاء ، لوجود الحجّية في قولهما ، فإنّ تقليد الأعلم حجّته فعليّة وغيره شأنيّة ، فإن لم يثبت تقليد الأعلم فتكون الأُخرى فعليّة أيضاً ، ومع عدم الترجيح فيكون مخيّراً بينهما.
    وفي مفروض المسألة إذا لم يعلم بالمخالفة فهو مخيّر في تقليد أيّهما شاء ، ومع العلم التفصيلي أو الإجمالي بالمخالفة ، فإنّه يأخذ بأحوط القولين إن أمكن الاحتياط ، وإلّا فيقلّد الأعلم.
    ويظهر من السيّد اليزدي (قدس‌سره) أنّه فرق بين من ظنّ بأعلميّته فيتعيّن تقليده وبين من يحتمل أعلميّته فالأحوط تقديمه ، والظاهر عدم الفرق بين صورتي الظنّ بالأعلميّة واحتمالها.
    ومسألة الظنّ بأعلميّة أحدهما أو احتمالها ذات صور :

    الاولى : يحتمل تساويهما في الأعلمية ، أي يحتمل أن يكون زيد مثلاً أعلم من عمرو ويحتمل العكس.
    الثانية : يحتمل أعلمية أحدهما دون الآخر ، لا على التعيين.
    الثالثة : يحتمل أعلميّة أحدهما على نحو التعيّن ، وكذلك الظنّ في الصور الثلاثة.
    ثمّ إمّا أن يعلم بمخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً في المسائل المبتلى بها أو لا يعلم ، ثمّ مع العلم إمّا أن يتمكّن من الاحتياط بين القولين أو لا يتمكّن ، كما إمّا أن يكون قول غير الأعلم موافق للاحتياط أو غير موافق. فلا بدّ من القول بالتفصيل خلافاً للسيّد اليزدي الذي يظهر من كلامه الإطلاق.
    والأقوى أو الأحوط وجوباً تقليد الأعلم في صور العلم بالخلاف ، مع عدم كون قول الآخر موافقاً للاحتياط ، ولا يمكن الأخذ بأحوط القولين على قول ، وكذلك الحكم فيمن ظنّ أو احتمل فيه الأعلمية دون الآخر ، أمّا مع عدم العلم بالمخالفة واحتمال الأعلميّة فيهما فنقول بالتخيير بينهما.
    ويذهب السيّد الخوئي (قدس‌سره) كما في تقريراته : عند مخالفتهما من حيث الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً فإنّه يؤخذ بأحوط القولين ، لمناقشته في أدلّة التخيير وحكمه بتساقط الفتويين (1).
    __________________
    (1) الدروس 1 : 117 ، وجاء في التنقيح 1 : 213 : ذكرنا عند التكلّم عن مسألة وجوب الفحص عن الأعلم أنّه إذا لم يشخّص الأعلم من المجتهدين ، ولم يتمكّن من

    وذهب المشهور إلى القول بالتخيير عند المعارضة والتكافؤ وعدم الرجحان في أحد الأطراف ولا يجب الاحتياط ، بناءً على تحقّق الإجماع على التخيير بين الفتويين المختلفين والروايات الدالّة على التخيير بين الخبرين بضميمة عمل الأصحاب الجابر لضعفها ، وإلحاق الفتويين بالخبرين حكماً.
    __________________
    تحصيل العلم بأعلميّة أحدهما مع العلم بمخالفتهما في الفتوى فإن تمكّن من الاحتياط وجب لما مرّ غير مرّة من أنّ الأحكام الواقعيّة قد تنجّزت على المكلّفين بالعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزاميّة في الشريعة المقدّسة ، ولا طريق للعامي إلى امتثالها سوى العمل على طبق فتوى الأعلم وهو مردّد بين شخصين ومعه لا مناص من الاحتياط تحصيلاً للعلم بالموافقة لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب كما هو الحال في بقيّة موارد العلم الإجمالي.
    ولا أثر للظنّ بالأعلميّة أو احتمالها في أحدهما حينئذٍ ، لأنّ أدلّة الحجّية غير شاملة للمتعارضين ومعه لم يجعل شيء من الفئويين المتعارضين حجّة وعلى المكلّف ليجب الأخذ بما ظنّ أو احتمل حجّيته ، بل الوظيفة وقتئذٍ هو الاحتياط حتّى يقطع بخروجه عن عهدة ما علم به من التكاليف الإلزامية.
    وأمّا إذا لم يتمكّن من الاحتياط إمّا لعدم سعة الوقت للجمع بين الفئويين ، وإمّا لأنّ أحدهما أفتى بوجوب شيء والآخر بحرمته ، فلا محالة يتخيّر بينهما للعلم بوجوب تقليد الأعلم وهو مردّد بين شخصين ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، وفي هذه الصورة إذا ظنّ بأعلميّة أحدهما أو احتملها وجب الأخذ به.
    ثمّ فرق بين الصورتين بأنّه في الصورة الأُولى عند التعارض يوجب السقوط وفي الثانية لا يمكن الاحتياط لتعذّره فلم يجب عليه العمل إلّا بفتوى أحدهما ، فما أفاده الماتن لا يمكن المساعدة على إطلاقه ، بل يقال بالتفصيل.

    فإذا كان أحدهما المعيّن مظنون الأعلميّة أو محتملها فإنّه عقلاً من باب الاشتغال العقلي ودورانه بين التعيين والتخيير يقدّم قوله ، فإنّ قوله حجّة على كلّ حال وحجّية الآخر غير ثابتة وغير محرزة.
    وقيل : إذا لم يتمكّن من الجمع بين القولين احتياطاً لضيق الوقت أو للزومه الجمع بين المحذورين فإنّه يتخيّر بينهما فيما لم يعلم بالمخالفة تفصيلاً أو إجمالاً.
    والظاهر أنّ الأخذ بمظنون الأعلميّة أو محتملة في التقليد الابتدائي. هذا وكان المفروض أنّ السيّد (قدس‌سره) يشير إلى الطرق الأُخرى غير العلم بالأعلميّة والبيّنة من الطرق المثبتة كالذي يوجب الوثوق والاطمئنان من العلم العادي ، وأخبار العدل الثقة على قول.
    آراء الأعلام :
    في قوله : (فإن حصل الظنّ) ،
    قال الشيخ الحائري : هذا في الابتداء ، أمّا العدول إلى من ظنّ أو احتمل أعلميّته فالاحتياط في تركه.
    وقال السيّد الفيروزآبادي : إن كان الأخذ بقول الأعلم من باب وجود المرجّح في أحد الطريقين تعبّداً فالاكتفاء بالظنّ مشكل وبالاحتمال أشكل ، وهكذا الإشكال إن كان من باب بناء العقلاء.
    وفي قوله : (تعيّن تقليده) ،
    قال الشيخ آقا ضياء : مع عدم احتمال أعلميّة غيره ، وإلّا فاتّباع الظنّ بالترجيح

    نظر ، بل العقل يحكم بالتخيير في الأخذ بأيّ واحدٍ منهما ، اللهمّ إلّا أن يدّعى بأنّ مظنون الأعلميّة رأيه أقرب إلى الواقع ما لم يكن قول غيره مطابقاً للاحتياط فيتبع حينئذٍ أحوطهما فتأمّل.
    وقال السيّد الخميني : على الأحوط فيه وفي ما بعده.
    وقال السيّد الخوانساري : لا دليل على حجّية الظنّ ، بل الظاهر لزوم الاحتياط.
    وقال السيّد الخوئي : الظاهر أنّه مع عدم العلم بالمخالفة يتخيّر في تقليد أيّهما شاء ، ومع العلم بها ولو إجمالاً يأخذ بأحوط القولين ، ولا اعتبار بالظنّ بالأعلميّة فضلاً عن احتمالها هذا فيما إذا أمكن الأخذ بأحوطهما ، وإلّا وجب تقليد من يظنّ أعلميّته أو يختصّ باحتمال الأعلميّة على الأظهر.
    وقال السيّد الشيرازي : بالشروط المتقدّمة في تقليد الأعلم ، وكذلك في الصورة التالية.
    وفي قوله : (فالأحوط) ، قال السيّد الحكيم : بل هو الأقوى.
    وقال الشيخ النائيني : بل الأقوى.

    المسألة الثانية عشر والثالثة عشر في المنهاج
    قال سيّدنا الأُستاذ (قدس‌سره):
    12 ـ ويشترط في المجتهد أُمور : البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والرجوليّة والحياة فلا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ، وأن لا يكون متولّداً من الزنا ، وأن يكون صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه.
    13 ـ والأقوى جواز تقليد المجتهد المتجزّى فيما استنبطه كما هو حقّه.
    (المسألة الثانية والعشرون في العروة)
    جاء في العروة الوثقى :
    مسألة 22 ـ يشترط في المجتهد أُمور : البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والرجوليّة والحرّية على قول ، وكونه مجتهد مطلقاً ، فلا يجوز تقليد المتجزّي ، والحياة فلا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ، نعم يجوز

    البقاء كما مرّ ، وأن يكون أعلم فلا يجوز على الأحوط تقليد المفضول مع التمكّن من الأفضل ، وأن لا يكون متولّداً من الزنا ، وأن لا يكون مقبلاً على الدنيا وطالباً لها ، مكبّاً عليها ، مجدّاً في تحصيلها. ففي الخبر : من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه.
    وفي الغاية القصوى (1 : 15):
    في قوله : (يشترط في المجتهد أُمور) ، قال السيّد الأُستاذ : في اعتبار بعض تلك الأُمور تأمّل ، ثمّ إنّ هناك أُموراً أُخر قيل باعتبارها فيه ، كعدم كونه كثير التبدّل في الرأي ، وعدم كونه حسن الظنّ بعلمه ، معجباً بنفسه في العلميّات بحيث يصدّه ذلك عن البحث والتنقيب والغور والدقّة وإعمال النظر في مستند الحكم ، وعدم كونه بليداً غير متفطّن بمعاضل المسائل ، وعدم كونه معوجّ السليقة ، وعدم كونه متسرّعاً إلى الفتوى ، وعدم كونه لجوجاً عنوداً ، وعدم كونه مفرطاً مكثاراً في الاحتياطات إلى غير ذلك ، وتفصيل هذه الشروط وما يتوجّه على القول باعتبارها موكول إلى محلّه.
    وفي قوله : (البلوغ) ، قال : على الأحوط الأولى.
    وفي قوله ، (العقل) ، قال : الحكم في عدم جواز الرجوع في المجنون الإطباقي مسلّم ، وأمّا الأدواري فالظاهر عدم المانع من الرجوع إليه في حال إفاقته ، إلّا أن يكون هناك إجماع على العدم ، كما

    ادّعي هذا بالنسبة إلى حديث التقليد ، وأمّا البقاء ففيه تفصيل يطلب من محلّه.
    وفي قوله : (الإيمان) ، قال : لو تمّ الإجماع وسائر الوجوه التي تمسّك بها غير بناء العقلاء.
    وفي قوله : (العدالة) ، قال : الحال فيها هو الحال في اشتراط الإيمان.
    وفي قوله : (الرجولية) ، قال : الحال على المنوال.
    وفي قوله : (الحريّة) ، قال : لا مستند لها سوى بعض الوجوه الاستحسانية التي لا اعتداد بها في الفقاهة ، فالأقوى عدم اعتبارها.
    وفي قوله : (فلا يجوز تقليد المتجزّي) ، قال : الأقوى جواز تقليده فيما استنبطه كما هو حقّه.
    وفي قوله : (وأن يكون أعلم) ، قال : قد مرّ التأمّل فيه.
    وفي قوله : (وأن لا يكون متولّداً من الزنا) ، قال : لو تمّ الإجماع المدّعى أو أصالة التعيين في الدوران بين التعيين والتخيير ، أو فحوى اعتباره في الإمامة وغيرها ممّا تمسّك بها.
    وفي قوله : (وأن لا يكون مقبلاً) ، قال : إن كان بحيث ينسيه هول المطّلع ويوقعه في المهالك فلا وجه لذكره بعد اعتبار العدالة واشتراطها ، وإن كان المراد به شيئاً زائداً على العدالة كالزهد البالغ والورع الأكيد ، فلا دليل على اعتباره سوى ما توهّم من الخبر المروي في التفسير

    المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) وسبيل الخدشة إليه مفتوح سنداً ودلالة كما بيّن في محلّه.
    وفي قوله : (ففي الخبر من كان) ، قال : إشارة إلى المرويّ في كتابي التفسير والاحتجاج.
    تمّ قولهما رفع الله مقامهما وحشرنا في زمرتهما مع محمّد وآل محمّد (عليهم‌السلام).
    __________________
    أقول : لقد ذكر السيّدان عليهما الرحمة شرائط المجتهد وعندهما عبارة عن أحد عشر شرطاً ، وإن اختلفا في الموارد ، كما هناك شرائط أُخرى قد اختلف فيها الأعلام ، والظاهر أنّ هذه الشرائط إنّما هي شرائط مرجع التقليد وليس المجتهد بما هو مجتهد ، فإنّ قوله وفتواه حجّة على نفسه ، وإن لم يكن واجداً لهذه الأوصاف والشرائط.
    ثمّ قيل : الظاهر أنّ هذه الأوصاف ما عدا العقل إنّما هو باعتبار الشرع المقدّس ، وإلّا فإنّ بناء العقلاء وسيرتهم على عدم اعتبار هذه الشرائط في الرجوع إلى الخبراء في كلّ فنّ وعلم كالرجوع إلى الطبيب الخبير ، فلا يشترط فيه سوى العقل ، وفيه تأمّل.
    ويقع الكلام في مقامين :
    الأوّل : طرح المسألة باعتبار عقل العامي وما يفهمه بنفسه.
    الثاني : طرحها باعتبار عقل المجتهد وما يقتضيه الأدلّة الشرعيّة.

    المقام الأوّل
    لقد مرّ الكلام بالتفصيل في مسألة أصل التقليد وتقليد الأعلم وتقليد الميّت ، إنّ العقل الارتكازي في العامي وفطرته السليمة تدعوه إلى التقليد أوّلاً ، لأنّه يعلم إجمالاً أنّ ذمّته قد اشتغلت بتكاليف شرعيّة ، وإنّه لم يخلق عبثاً ، ولا بدّ من إفراغ الذمّة والخروج عن عهدة التكاليف ، ومن باب رجوع الجاهل إلى العالم ، كما يحكم به العقل والفطرة ، لا بدّ من تقليد العالم العارف بالأحكام وهو المجتهد ، ثمّ العقل يحكم أيضاً مع وجود الأعلم والعلم بالمخالفة في الفتاوى لا بدّ من الرجوع إليه ، كما أنّه يرجع إلى المجتهد الحيّ دون الميّت ابتداءً. والعقل حينئذٍ يحكم أيضاً أنّه إنّما يرجع إلى المجتهد الجامع لشرائط التقليد التي يحتمل دخالتها في الرجوع إليه ، فإنّه لو رجع إلى من يشكّ في شرط من شرائطه فإنّه يشكّ في إفراغ ذمّته. إلّا إذا رجع إلى من يصحّ الرجوع إليه وأفتى بعدم الشرط المشكوك فيه ، فتدبّر.
    المقام الثاني
    وهو تارة باعتبار الأصل الأوّلي ، وأُخرى باعتبار الأدلّة الظاهرة :
    فمقتضى الأصل الأوّلي في المسألة ، هو أنّه إذا شكّ في اعتبار شرط في حجّية فتوى المجتهد الفقيه هو اعتباره. لأنّه من الشكّ في مقام الامتثال وسقوط التكليف

    المعلوم إجمالاً. وبعبارة اخرى كما في علم أُصول الفقه ، إنّ الشكّ تارةً يكون في أصل التكليف فهو مجرى أصالة البراءة ، وأُخرى يكون الشكّ في إسقاط التكليف في مقام الامتثال والمعلوم ولو إجمالاً ، فإنّه مجرى أصالة الاحتياط وقاعدة الاشتغال العقلي. والمقام من الثاني فيقال باشتراط الشرط المشكوك ، إلّا أن يقوم دليل على عدم اعتباره شرعاً.
    فالأصل الأوّلي في باب المناصب والولايات هو عدم ولاية أحد على أحد إلّا ما خرج بالدليل القطعي ، كولاية النبيّ والإمام المعصوم (عليه‌السلام) (1) ، ففي ولاية المجتهد لو شكّ في شرط ، فإنّه لا بدّ من اعتباره ، فإنّه مع عدمه يشكّ في حجّية الفتوى ، إلّا أن يقوم دليل معتبر شرعاً على عدم اعتباره واشتراطه.
    والدليل العامّ على مشروعيّة أصل التقليد والأعلمية وكونه حيّاً ، هو بناء العقلاء وسيرتهم المبتني على العقل على رجوع الجاهل إلى العالم ، فيرجع غير المجتهد إلى المجتهد في معرفة الأحكام الشرعيّة للعمل بها.
    وأمّا باعتبار الأدلّة الظاهرة فاشترط في المفتي ومرجع التقليد شروط :
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:08

    الشرط الأوّل البلوغ :
    يشترط في المجتهد أن يكون بالغاً وقد ذكرنا سنّ البلوغ والكلام يقع فيه
    __________________
    (1) وكذلك الأصل الأوّلي في باب التقليد والاتباع هو عدم المشروعية وعدم حجّية رأي أحد من البشر على أحد في كلّ شأن من الشؤون ، إلّا ما خرج بالدليل ، كالنبيّ والإمام المعصوم (عليهما‌السلام) ، والفقيه المجتهد من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

    باعتبارين : تارة باعتبار النظر إليه مجرّداً عن الشرائط الأُخرى المعتبرة في المجتهد كالعدالة والحياة ، وأُخرى مع ملاحظتها ، بمعنى أنّه يبحث في شرط البلوغ أنّه هل يصحّ الرجوع إلى المجتهد الجامع لجميع الشرائط ما عدا البلوغ أم لا يصحّ ، بل لا بدّ من بلوغه أيضاً؟
    فقيل : الظاهر أنّ مورد البحث هو الثاني ، فما يقال في الإشكال على عدم اعتبار البلوغ ، أنّه لا يطمئنّ إلى آراء الصبي واستنباطه بعد رفع القلم عنه ، وأنّه لا رادع له في ارتكاب المعاصي ، لا وجه له. وفيه تأمّل.
    ثمّ اختلف الأعلام في اشتراط واعتبار البلوغ ، فمنهم من نفى ذلك ، ومنهم من أثبت.
    حجّة النافين وجوه :
    الأوّل : بناء العقلاء ، فإنّهم يرجعون إلى الصبيان أصحاب الصنعة والخبرة ، كما يرجعون إلى الطبيب الصبي من غير احتشام.
    وأُجيب عنه : بأنّ ذلك من الفرد النادر والنادر كالمعدوم ، ثمّ مسؤولية المرجعية تختلف عن مثل الطبّ الذي هو مجرّد علم ، فإنّ المرجع على عاتقه زعامة المسلمين فكيف يفوّض إلى صبيّ وهو موضع اتهام.
    الثاني : الإطلاقات الواردة في أصل التقليد ، فإنّها تصدق على غير البالغ أيضاً بأنّه من أهل الذكر ، وأنّه العالم والناظر في الحلال والحرام ، والراوي للحديث.
    وأُجيب عنه : بالانصراف فإنّه يمنع الإطلاق ، فإنّه ينصرف إلى

    ما هو المتعارف ، لا إلى من كان نادر الوجود كالصبيّ البالغ مرتبة الاجتهاد ، وهذا ممّا يوجب الشكّ في الإطلاق فلا يستدلّ به. كما أنّه على فرض الإطلاق قد قيّد بالروايات الدالّة على الرجوليّة ، كقول الإمام الصادق (عليه‌السلام) في حديث أبي خديجة :
    (ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا) (1).
    (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا).
    فأمر (عليه‌السلام) بالرجوع إلى الرجل. كما أنّ المتبادر من كلمة (منكم) في مقبولة عمرو بن حنظلة (ينظران من كان منكم فمن روى حديثنا ونظر في حلالنا) كون الراوي من الرجال. كما إنّ المتبادر من الجمع المحلّى بالألف واللام في قوله (عليه‌السلام) (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه) أنّه من الرجال.
    إلّا أن يقال إنّ ذكر الرجولة لا باعتبار ما يقابلها من الصباوة ، باعتبار الغالب في ذلك. كما في روايات الشكّ في الركعات في قوله (إذا شكّ الرجل) فلا خصوصيّة للرجل في مقام الشكّ ، بل يعمّ المرأة والصبي كما أنّ المقابلة باعتبار المرأة لا باعتبار الصبي.
    حجّة المثبتين وجوه :
    الأوّل : الإجماع وتسالم الأصحاب واتفاقهم على اعتبار ذلك.
    __________________
    (1) الوسائل : باب 1 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.

    قال الشيخ الأعظم شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) : يعتبر في المجتهد أُمور : البلوغ والعقل والإيمان ولا إشكال في اعتبار الثلاثة.
    فقوله : لا إشكال ، يستفاد منه الإجماع والتسالم. كما أشار إلى ذلك المحقّق الأصفهاني (قدس‌سره) بعد ذكر شرائط المفتي ومنها البلوغ قال : ولو لا التسالم على الكلّ من الكلّ لأمكن المناقشة في الكلّ.
    هذا ومثل هذه العبائر لا تدلّ على الإجماع التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم (عليه‌السلام) ، بل ربما يكون من الإجماع المدركي المعتمد على الوجوه المذكورة في المقام ، وهذا يعني إنّا نرجع إليها فإن قلنا بها فندخل ضمن المتّفقين والمجمعين ، وإلّا فلا ، فتدبّر فإنّ الإجماع كما ترى قابل للنقاش في أصله وكيفيّته وحجّيته.
    الثاني : من البعيد ان يرضى الشارع بتصدّي الصبي للمرجعية العظمى ، فإنّه ربما لا يرضى لمن كان في أوّل بلوغه ، بل ربما يحبّذ في من يرجع إليه أن يكون شيخاً كما يستفاد ذلك من قوله (عليه‌السلام) (اصمدا في دينكما على كلّ مسنٍّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا) (1).
    وأُجيب عنه : إنّه مجرّد استبعاد ، ولم يكن ذلك دليلاً يعتمد عليه ، وليس أمر الفتوى من حيث المنصب بأعظم من النبوّة والإمامة.
    فاستبعاد أن يكون المقلّد للمسلمين صبيّاً مراهقاً إذا كان واحداً لسائر الشرائط ممّا لا وقع له ، كيف؟ ومن الأنبياء كعيسى ويحيى والأوصياء كالإمام
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 45.

    الجواد والإمام الهادي (عليهما‌السلام) وصاحب الزمان (عليه‌السلام) من بلغ مرتبة النبوّة أو الإمامة فلا تكون منافية للمرجعية أبداً ، ولم نستفد من مذاق الشارع أنّ تصدّي غير البالغ للإفتاء والمرجعيّة أمر مرغوب عنه في الشريعة المقدّسة (1).
    ولكن قياس المرجع بالنبيّ والوصيّ قياس مع الفارق لوجود العصمة فيهما واشتراط العدالة في المرجع ، وبين البابين بون شاسع. فمن لم يكن عادلاً موثّقاً غير معرّض للاتهام والخطأ والزلل كيف يفوّض إليه أمر المسلمين زعامتهم ويكون على عاتقه مسؤولية أعمالهم وأفعالهم؟
    الثالث : كون الصبيّ محجوراً في تصرّف أمواله ، فكيف يكون حافظاً لأموال القصّر مجهول المالك في الأُمور الحسبية ، فإنّ محجوريّته تنافي المرجعية للفتوى.
    وأُجيب عنه : إنّ المراد هو حجّية فتواه ولا ينافي ذلك محجوريّته في أمواله ، ففرق بين باب المرجعية في الفتوى ، والمرجعية في حفظ الأموال وصرفها في مواردها. فإنّه قياس مع الفارق.
    الرابع : ما ورد في عمد الصبي بأنّه خطأ ، فليزم تخطئة أعماله وفتواه.
    وأُجيب عنه : أخبار عمد الصبي خطأ أجنبيّ عمّا نحن فيه ، فإنّها ناظرة إلى أنّ ديته على عاقلته لا أنّه في نفس الأمر والواقع خطأ ، وإلّا يلزم في تكلّمه عمداً في صلاته بناءً على مشروعية صلاته أن لا تبطل صلاته ، وأنّى لكم بذلك.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 215.

    كما أنّه لا إطلاق في تلك الأخبار حتّى تعمّ آراءه وفتاواه ، بل ناظرة إلى أفعاله وتروكه.
    الخامس : ما ورد في رفع قلم التكليف عنه حتّى يحتلم ، ومن كان كذلك كيف يتصدّى أمر المرجعية ويصحّ تقليده.
    وأُجيب عنه : إنّ الظاهر من الرفع ، رفع قلم المؤاخذة في أفعاله وتروكه ، ولا يقتضي ذلك الحكم ببطلان أقواله وآرائه.
    وخلاصة الكلام : إن تمّ الإجماع التعبّدي على اعتبار البلوغ فهو ، وإلّا فإنّ الوجوه الأُخرى كلّها قابلة للخدشة والنقاش ، كما إنّ السيرة العقلائية وبنائهم على عدم الفرق بين البالغ وغيره في رجوعهم إلى الخبير في علم وصنعة. فيلزم القول بعدم اشتراط البلوغ ، إلّا أنّه مع ادّعاء تسالم الأصحاب وذهاب المشهور إليه وعظمة مسؤولية المرجعية وأنّه يفهم من مذاق الشارع أن لا تفوّض إلى الصبيّ فإنّه معرّض للاتهام. فالأحوط وجوباً اعتباره.
    ثمّ اعتبار بلوغ المجتهد أو مرجع التقليد إنّما هو باعتبار زمان العمل بفتياه ، أمّا إذا استنبط الأحكام قبل البلوغ ولم يعدل عنها بعد البلوغ ، فإنّه يجوز الرجوع إليه.
    قال شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) : الظاهر أنّ الاجتهاد في حال الصغر أو عدم الإيمان وكذا الإفتاء حالهما لا يضرّ إذا كان في زمان العمل بالغاً مؤمناً) (1).
    __________________
    (1) رسالة التقليد : 59.

    الشرط الثاني العقل :
    يشترط العقل في المجتهد ومرجع التقليد ، ويدلّ عليه بناء العقلاء ، فإنّه لا يوثق بقول المجنون ولا نعتمد عليه ، كما أنّ المرتكز عند المتشرّعة هو عدم تسليم أُمور الشيعة والتشيّع بيد مجنون ، فإنّه ممّا يوجب وهن المذهب.
    كما يدلّ على اعتباره جميع الأدلّة من الآيات والروايات وحكم العقل ، فإنّ عنوان الفقيه والعارف بالأحكام والناظر في الحلال والحرام والعالم وغيرها من العناوين لا تنطبق على من كان مجنوناً ولا عقل له ، وإنّما يرجع الجاهل إلى العالم بشرط أن يكون عاقلاً. كما عرفت من شيخنا الأعظم تسالم الأصحاب على اعتباره ، وأنّه ممّا لا خلاف فيه.
    وقيل : تسالم الفقهاء والأصحاب لا يدلّ على إثبات هذه الشروط من الناحية العلمية والصناعية ، بل التسالم في مقام الفتوى ناشئ من إيثار جانب الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقّن ، وليس لأنّ الدليل دلّ على اشتراطها في مرجع التقليد.
    ومهما يكن الأمر فإنّ الكلام يقع في مقامين :
    الأوّل كما يشترط في حجّية فتواه العقل حدوثاً عند تقليده ، فهل يشترط بقاءً كذلك ، أي يشترط في حجّية فتاواه بقائه على العقل والدراية؟
    الثاني هل يجوز تقليد المجنون الأدواري حين إفاقته؟
    أمّا المقام الأوّل : فهل وزان العقل وزان الحياة؟ فلو قلّده حينما كان عاقلاً

    فطرأ عليه الجنون ، فهل يجوز له البقاء كما لو قلّده حيّاً فمات؟
    ربما يتوهّم أنّ الملاك والمقام واحد فكما يجوز البقاء على تقليد الميّت فيما لو قلّده حيّاً ، فكذلك لو قلّده عاقلاً فجنّ فيجوز البقاء.
    ولكن الحقّ خلاف ذلك ، فإنّ المتسالم عليه والذي يعرف من مذاق الشارع المقدّس أن لا يسلّم زمام أُمور الشيعة وزعامة المسلمين بيد مجنون كما في البلوغ بناءً على اشتراط العقل في المجتهد الذي يرجع إليه في الفتيا ، لا مطلق المجتهد. ولا يقاس الجنون بالموت ، فإنّ الموت لا يعدّ نقصاً بل يعدّ كمالاً لتجرّد النفس عن المادّة ، بخلاف الجنون. ولمثل هذا يطرأ الموت على الأنبياء والأوصياء دون الجنون.
    وأمّا المقام الثاني : وهو تقليد المجنون الأدواري الذي يعقل تارة ويجنّ اخرى ، فهل يجوز تقليده حين تعقّله وإفاقته؟ في المسألة وجهان :
    من عدم المحذور في الرجوع إليه حين إقامته لشمول إطلاقات الأدلّة وبناء العقلاء وحكم العقل. كما ذهب سيّدنا الحكيم (قدس‌سره) إلى أنّه لا مانع عند العقلاء من الرجوع إلى الأدواري حال إفاقته ، ونقل حكاية القول بذلك عن بعض متأخّري المتأخّرين وهما صاحب (المفاتيح) و (الإشارات) ، وقال : (لا بأس به إن لم ينعقد إجماع على خلافه لعموم الأدلّة أيضاً) (1).
    كما ذهب سيّدنا الخوئي إلى ذلك أيضاً فقال : وأمّا المجنون الأدواري فالظاهر أنّه لا محذور في الرجوع إليه حال إفاقته لشمول الإطلاقات والسيرة له) (2).
    __________________
    (1) المستمسك 1 : 42.
    (2) دروس في فقه الشيعة 1 : 120.

    ومن كون طروّ الجنون ولو في زمان دون زمان يوجب النقص فيه ، فيوجب سقوطه وانحطاطه عند الناس فكيف يرجع إليه ، ويسلّم زعامة المسلمين بيده. وهو المختار.
    فالأحوط وجوباً عدم تقليد المجنون مطلقاً سواء كان إطباقياً أو أدوارياً.
    فيعتبر في الفقيه المرجع للتقليد دوام العقل واستقراره ، أي ابتداءً واستدامة ، حدوثاً وبقاءً ، فإذا عرض له الجنون الأدواري فضلاً عن الإطباقي فإنّه تزال أهليّته للتقليد ابتداءً واستدامة.
    وكمال الإنسان إنّما هو بعقله وبلوغه ، ولهذا يعدّ البلوغ والعقل من الشرائط العامّة في التكاليف الشرعيّة.
    كما إنّ الفقيه نائب الحجّة ، وإنّه (حجّتي عليكم) ولا يصلح للاحتجاج قول من يعرض له الجنون فضلاً عن المجنون.
    وإرجاع الأئمة (عليهم‌السلام) إلى بعض الأصحاب في أخذ معالم الدين باعتبار الوثوق بقولهم وركون النفس إليهم ، وذلك لمن كان عاقلاً مستقرّاً عقله ، وليس المجنون ومن يعرض له الجنون.
    الشرط الثالث الإيمان :
    يطلق الإيمان ويراد منه تارة معناه الأعمّ ، وهو من كان موحّداً وآمن بالله سبحانه وتعالى ويقابله الكافر والمشرك ، فيعمّ أهل الكتاب. وتارة يراد منه المعنى العام وهو المسلم ويقابله الكافر الكتابي كاليهود والنصارى ، وأُخرى يطلق ويراد

    منه المعنى الخاصّ ، وهو يقابل المخالف للمذهب الاثني عشري مطلقاً ، فيراد منه خصوص الشيعي الاثني عشري ، وأُخرى يطلق ويراد منه المعنى الأخصّ ، وهو المؤمن الكامل الذي ورد صفاته في الروايات الشريفة كما جاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام).
    هذا ما يستفاد من النصوص الشريفة ولسان الروايات في خصوص كلمتي الإيمان والمؤمن (1).
    والبحث عن الإيمان إنّما هو باعتبار أُصول عقائد المجتهد ، وهذا النزاع جارٍ عند أبناء العامّة أيضاً بأنّه يشترط تطابق التمذهب بين الأُصول العقائدية والفروع العملية ، فلا يصحّ عند أهل السنّة (الأشاعرة) أتباع المعتزلي أو الإمامي في فتاواهما ، وإن كانت على طبق أُصول أهل السنّة وطريقتهم في الاستنباط (2).
    والمقصود في لسان الفقهاء من المؤمن ومن اشتراط الإيمان فيه في بعض المسائل كما في الزكاة والاجتهاد هو المعنى الثالث : أي الشيعي الإمامي الاثني عشري.
    فيشترط الإيمان في المجتهد ومرجع التقليد ، وإن كان بناء العقلاء وحكم العقل على خلاف ذلك ، فإنّهم يرجعون إلى أهل الخبرة وإلى العالم مطلقاً في أُمورهم وحياتهم الاجتماعية من دون ملاحظة دينهم ومذهبهم وعقائدهم الخاصّة.
    __________________
    (1) ذكرت تفصيل ذلك في كتاب (زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار) ، وهو مطبوع في المجلّد الثاني من موسوعتنا (رسالات إسلامية) ، فراجع.
    (2) الاجتهاد والتقليد ؛ العلّامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين : 267.

    أمّا الوجوه المذكورة لاشتراط الإيمان في المجتهد فهي كما يلي :
    الأوّل القرآن الكريم :
    ففي آيات شريفة نهى الله سبحانه عن اتباع الظالم والركون إليه واتباع الضالّ والمضلّ ، والمنحرف وصاحب الأهواء الباطلة مطلقاً حتّى ولو كان ذا رحم ، فكيف يرجع إلى فاسد المذهب في الفتيا ، وتُقلّد الأعمال في عنقه ، ويُستند إليه في أُمور الدين والدنيا؟
    قال سبحانه وتعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(1).
    فصاحب المذهب الفاسد ظالم لنفسه ، فلا يركن إليه بأخذ الفتوى والرأي منه ، فإنّه ممّا يوجب النار ، وفرق بين أخذ الفتوى فإنّه من مصاديق الركون إليه ، وبين أخذ الخبر منه ، فإنّه يكفي أن يكون من الثقات حتّى ولو كان فاسد المذهب.
    وقال سبحانه (ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(2).
    فأيّ ضلال أعظم من فساد المذهب ، وأيّ اعتماد وعضد أعظم من مرجعيّة الفتوى وتقليد الأُمور؟ فمن الواضح لا يرجع إلى غير الشيعي الإمامي الاثني عشري في الفتاوى والتقليد.
    وقال سبحانه (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(3).
    بناءً على أنّ المرجعيّة ممّا يصدق عليه عنوان الخلافة الإلهية والعهد الإلهي في
    __________________
    (1) هود 11 : 113.
    (2) الكهف : 51.
    (3) البقرة : 124.

    زمن الغيبة الكبرى امتداداً للإمامة المعصومة التي هي امتداد خطّ النبوّة التي هي خلاصة التوحيد. فرجوع الأُمّة الإسلامية إلى شخص فيما يتعلّق بمعاشهم ومعادهم خلافة إلهية ، كما احتمله صاحب الجواهر (قدس‌سره) ، فلا ينالها من كان ظالماً ، وأيّ ظلم أبشع من فساد المذهب؟ فلا ينال مرجعية مذهب الحقّ من كان فاسد المذهب.
    وقال سبحانه وتعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(1).
    وجه الاستدلال : إنّ غير المؤمن فاسق فلا يجوز قبول قوله ، كما ذهب إليه المتأخّرون كالشهيد الأوّل والعلّامة بالنسبة إلى عدم قبول روايات أبناء العامة ومن كان فاسد المذهب ، كأبان بن عثمان الأحمر والنوفلي والسكوني على أنّه لا فسق أعظم من عدم الإيمان بالولاية ، ونوقش الاستدلال بأنّ من كان عادلاً في مذهبه لا يعدّ فاسقاً داخلاً في عموم الآية أوّلاً ، وثانياً : إنّ الآية دلّت على التبيّن في قول الفاسق من جهة صدقه وكذبه ، وإن حكم عليه بفسقه لكونه مخالفاً ، ولا تدلّ على اشتراط الإيمان في جواز تقليده لو أفتى عند الشيعة من طرقهم وأُصولهم الخاصّة ، فتأمّل.
    الوجه الثاني الأخبار الشريفة :
    فقد وردت روايات كثيرة يستفاد من ظاهر مجموعها اشتراط الإيمان في القاضي ومرجع التقليد ، وباعتبار العلم والتواتر الإجمالي بأنّ واحدة منها لا أقلّ قد صدرت من المعصوم (عليه‌السلام) فلا يناقش السند فيها حينئذٍ ، وربما كان بعضها صحيحاً أو بعضها حسنة ومعتبرة.
    __________________
    (1) الحجرات : 6.

    فمن الروايات :
    ما جاء في الاحتجاج والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) أنّه قال : إنّ من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة (1).
    __________________
    (1) الوسائل : باب 10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 20.
    وسيّدنا الخوئي (قدس‌سره) قد ناقش في السند والدلالة : بأنّ التفسير المنسوب لم يثبت بطريق قابل للاعتماد عليه ، فإنّ في طريقه جملة من المجاهيل كمحمّد بن القاسم الأسترآبادي ويوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار. هذا إن أُريد من التفسير المنسوب هو الذي ذكره الصدوق (قدس‌سره) بإسناده عن محمّد بن القاسم الأسترآبادي وأنّه مجلّد واحد كما هو الملاحظ من التفسير الذي بأيدينا ، وأمّا إذا أُريد من التفسير ما ذكره محمّد بن عليّ بن شهرآشوب على ما حكاه في المستدرك فالسند إليه صحيح ، فإنّه ذكر أنّ للحسن بن خالد البرقي وهو أخو محمّد بن خالد كتب منها التفسير من إملاء الإمام العسكري (عليه‌السلام) وهو مائة وعشرون مجلّداً ، والحسن ممّن وثّقه النجاشي ، كما للمشايخ الثلاثة إليه طرق صحيحة. إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا التفسير غير التفسير الأوّل ، وما وصل إلينا يتطابق لما نقله الصدوق.
    ثمّ الرواية وردت في مذمّة اليهود لتقليد علمائهم مع علمهم بأنّهم يكذبون ومن أهل الفسق والفجور ، فإذا كان عوام الشيعة يفعلون كذلك فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد الأعمى لفسقة علمائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه .. فللعوام أن يقلّدوه ، ولا يكون هذا لكلّ فقهاء الشيعة ، فمنهم من هو مقبل على دنياه فلا يقلّد ، وهذا غير اشتراط (الإيمان أو) العدالة.

    والاستدلال بها واضح لمكان (بعض فقهاء الشيعة) فإن كان البعض من الشيعة ينال ذلك فما بالك بغيرهم من أصحاب الأهواء والمذاهب الفاسدة.
    ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة ، وفيها : ينظران من كان منكم ممّن روى حديثنا) (1) ، وقد مرّ الكلام في سندها ودلالتها.
    وكذلك رواية أبي خديجة (2) ، وفيها : (ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم) (3).
    وقريب منهما روايته الأُخرى.
    ووجه الاستدلال باعتبار كلمة (منكم) فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّه من الشيعة الاثني عشريّة.
    ولا يقال إنّ المقبولة وغيرها وردت في باب القضاء ، وهو غير باب الإفتاء ، فالدليل لا يطابق المدّعى ، ومن آداب المناظرة مطابقة الدليل للدعوى ، ولا ملازمة بين البابين ، لعدم وحدة الملاك.
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.
    (2) جاء في هامش التنقيح 1 : 224 أنّ أبا خديجة سالم بن مكرم الجمّال ممّن وثّقه النجاشي وضعّفه الشيخ في موضع ووثّقه في موضع آخر ، وقد وقع في أسانيد كامل الزيارات ، فتضعيف الشيخ غير مضرّ بحاله لتعارض القولين لو كانا في زمان واحد ، وكذا لو كان تضعيفه قبل توثيقه للعدول عن التضعيف ، ولمّا لم يعلم تأريخهما اندرج في الشبهات المصداقية للتضعيف فلا يعتمد عليه. فيقدّم قول النجاشي.
    (3) المصدر ، الحديث 1.

    فإنّه يجاب : ربما في بعض الموارد يقال بالفرق فيما قام الدليل على ذلك ، وإلّا فاعتبار الإيمان في خصوص القضاء دون الإفتاء جموداً على المورد ممّا لا وجه له ، كما هو الظاهر ، فتأمّل.
    ومنها : ما جاء في مكاتبة أبي الحسن الثالث (الإمام الكاظم (عليه‌السلام)) لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه فارس وهو متّهم بالغلوّ والكذب كما أنّ ابن ماهويه مجهول الحال ، وفي السند ضعاف بعد ما سألاه عمّن نأخذ معالم الدين ، فكتب (عليه‌السلام) : (فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله).
    فكلّ مسنّ في حبّ أهل البيت وكثير القدم في أمرهم (عليهم‌السلام) ، أي الولاية كما يدلّ على ذلك الأخبار الأُخرى الواردة فيها كلمة (الأمر) فيدلّ على التشيّع الكامل أي ولاية الأئمة الاثني عشر (عليهم‌السلام) ، فإلى مثل هذا يرجع في أخذ معالم الدين ، ومنها الفتوى والعمل بها.
    وربما يقال بانصراف الخبر إلى بيان أفضل الأفراد ، وما يشترط في الاجتهاد هو مجرّد الإيمان ، كما إنّ أخذ معالم الدين يعمّ نقل الروايات وفي الراوي يكفي الوثاقة دون اشتراط الإيمان ، فلا يتمّ الاستدلال بها.
    وأُجيب عنه : بأنّها تدلّ إجمالاً على أخذ الفتوى ممّن هو ثابت القدم في أمر الولاية ، وحصول هذا المعنى في مرجع التقليد أولى من غيره.
    كما إنّ ظاهر الرواية في أخذ معالم الدين أخذها من دون رويّة وتحمّل المشاقّ في جرح القائل ووثاقته ، كما كان في الراوي والرواية ، وبهذا ربما لم يكن المقصود

    من الرجوع إليهم في الرواية ، فتأمّل.
    ومنها : مكاتبة أبي الحسن الإمام الكاظم (عليه‌السلام) وهو في السجن لعليّ بن سويد السابي في رسالة قال : وأمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة (1).
    والرواية من حيث السند ضعيفة لمحمّد بن إسماعيل الرازي وعليّ بن حبيب المدائني ولم يوثّقا في علم الرجال ، وكذلك عليّ بن سويد ضعيف في نفسه.
    فظاهر الخبر الشريف أنّ المخالف خائن ، ولا انفكاك بين مخالفته للحقّ وفساد مذهبه وبين الخيانة ، فكيف يؤتمن الخائن على المذهب الحقّ ويرجع إليه في الفتيا وتقليد الأُمور وزعامة الشيعة؟!
    وذهب بعض الأعلام مناقشاً : بأنّ المدّعى هو اشتراط الإيمان في المجتهد ، وظاهر الخبر أنّ المانع من قبول قول المخالف هو عدم الإيمان لا مجرّد اعتقاد الخلاف ، فالحيثيّة تعليليّة لا تقييدية في قوله (شيعتنا) كما أنّ النهي الوارد في الخبر عن الأخذ عن غير الشيعة إنّما هو من جهة عدم الوثوق بهم ، لأنّهم خونة حيث خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ومنها الولاية العظمى فيكون مختصّاً بنقل الخبر ، وهذا
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 42.

    خارج عمّا نحن فيه (1).
    وأُجيب : ربما ذيل الخبر باعتبار التعليل يدلّ على ذلك ، بأنّه لا يؤخذ منهم لعدم الأمانة في النقل ، إلّا أنّ صدره يدلّ بظهوره على مطلق أخذ معالم الدين ومنها الفتاوى ، فلا تؤخذ من غير الشيعة على نحو الحصر.
    وإن قيل : إنّ أخذ معالم الدين كما يتحقّق بالرجوع إلى الفتوى ، كذلك يتحقّق بالرجوع إلى رواة الحديث ، ومن الظاهر أنّ حجّية الرواية لا تتوقّف على الإيمان في رواتها ، بل يكفي وثاقة الراوي كما قرّر في محلّه.
    وأُجيب : إنّ الظاهر والمنصرف من الرجوع في معالم الدين هو الأخذ مطلقاً ، ولو من دون تحمّل الصعاب في جرح القائل ووثاقته ، وهذا بخلاف الخبر ونقله ، فإنّه يشترط فيه ممّا يوجب تحمّل المشاقّ من أجل معرفة الراوي ووثاقته ، ثمّ فرق بين الخبر والفتوى ، فإنّ ناقل الخبر ناقل لكلام المعصوم (عليه‌السلام) فيقبل منه لو كان من الثقات وإن كان مخالفاً ، بخلاف الفتوى فإنّه ينسب الحكم إلى نفسه بأنّه استفاد ذلك من الأدلّة التفصيليّة ، وحينئذٍ كيف يتبصّر في الفروع ولا يتبصّر في عقائده؟ والمرجعيّة الحقّة تتلو منصب الإمامة المعصومة ، فمن وهن المذهب الحقّ أن يسلّم مقاليد الأُمور وزعامة المؤمنين إلى من كان فاسد المذهب وباطل العقيدة.
    هذا ويستفاد من مجموع الروايات المذكورة وغيرها أنّها صدرت على ما هو المتفاهم العرفي أنّ التشيّع واشتراط الإيمان في المرجع إنّما هو لما فيه من الخصوصيّة
    __________________
    (1) المستمسك 1 : 42 ، والتنقيح 1 : 219 ، والدروس 1 : 121.

    الموضوعيّة ، لا أنّ غير الشيعي يحكم بغير ما صدر عن أهل البيت (عليهم‌السلام).
    فما قيل : إنّ منصرف الرواية هم القضاة من العامّة الذين كانوا يعتمدون على القياس ونحوه من الحجج الظنّية في قبال فتوى المعصومين (عليهم‌السلام) وليس مثلهم محلّ الكلام (1) ، فإنّه غير تامّ.
    الوجه الثالث الإجماع :
    كما حكي ذلك عن السلف والخلف الصالح ، وذهب الشيخ إلى عدم الإشكال في اعتبار الإيمان كاعتبار البلوغ والعقل فاتّفق الكلّ على ذلك. إلّا أنّه ربما كما هو الظاهر أنّه من الإجماع المدركي فلا يعتمد عليه دليلاً ، إنّما يكون مؤيّداً ، فتأمّل ، كما أنّه لم تعنون هذه المسألة في كلام القدماء ليمكن دعوى الإجماع فيها وإنّما هي من تفريعات المتأخّرين. ثمّ ربما يرد النقاش في الوجوه الدالّة على اعتبار الإيمان في المرجع باعتبار الدليل الصناعي ، إلّا أنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار الإيمان كما يفهم ذلك من مذاق المتشرّعة المستلهم من الشارع المقدّس ، على مدى تأريخ الاجتهاد وطيلة القرون والأحقاب ، حتّى بلغ بهم الأمر إلى أن يعتزلوا عمّن انحرف في بعض معتقداته عن المذهب الحقّ ، فكيف بمن خالف المذهب ، ولمثل هذا يقال باشتراط الإيمان في المجتهد وفي مرجع التقليد حدوثاً وبقاءً.
    وما قاله بعض الأعلام : (بأنّه لو سلّم جميع ذلك وبنينا على شرطيّة الإيمان والإسلام في حجّية الفتوى بحسب الحدوث فلا ملازمة بينها وبين اعتبارهما
    __________________
    (1) المستمسك 1 : 42.

    في حجّيتها بقاءً أيضاً بحيث لو أخذ العامي فتوى المجتهد حال استقامته وإيمانه ثمّ انحرف عن الحقّ لم يجز له أن يبقى على تقليده ، لسقوط فتواه عن الاعتبار فإنّه يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على اعتبارهما في الحدوث) (1). غير تامّ باعتبار مذاق الشارع والمتشرّعة. وإن كان باعتبار إطلاق الأدلّة وبناء العقلاء وعدم دليل لفظي على شرطيّة الأيمان ممّا يوجب النقاش الصناعي المدرسي إن صحّ التعبير.
    وممّا يدلّ على ما نذهب إليه وما هو المختار من اشتراط الإيمان على كلّ حال ، ما جاء في تقريره الآخر قائلاً : (لا ينبغي التردّد في اعتبار الإيمان في المقلَّد حدوثاً وبقاءً لارتكاز أذهان المتشرّعة الواصل إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا إيمان له بالأئمة الهداة ، ولا يحتمل أحد التديّن وأخذ الفتوى ممّن لا يتديّن بدين أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ويذهب يميناً وشمالاً إلى مذاهب باطلة) (2).
    وقال أيضاً بعد مناقشة الأدلّة الدالّة على اشتراط العدالة : إلّا أنّ مقتضى دقيق النظر اعتبار العقل والإيمان والعدالة في المقلّد بحسب الحدوث والبقاء ، والوجه في ذلك أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عقل له ، أو لا إيمان أو لا عدالة له ، بل لا يرضى بزعامة كلّ
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 220.
    (2) الدروس 1 : 22.

    من له منقصة مسقطة له عن المكانة والوقار ، لأنّ المرجعيّة في التقليد من أعظم المناصب الإلهية بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين له ، وهل يحتمل أن يرجعهم إلى رجل يرقص في المقاهي والأسواق أو يضرب بالطنبور في المجامع والمعاهد ويرتكب ما يرتكبه من الأفعال المنكرة والقبائح ، أو من لا يتديّن بدين الأئمة الكرام ويذهب إلى مذاهب باطلة عند الشيعة المراجعين إليه؟!! فإنّ المستفاد من مذاق الشرع الأنور عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية. إذاً احتمال جواز الرجوع إلى غير العاقل ، أو غير العادل مقطوع العدم ، فالعقل والإيمان والعدالة معتبرة في المقلّد حدوثاً ، كما أنّها معتبرة فيه بحسب البقاء لعين ما قدّمناه في اعتبارها حدوثاً.
    ولعلّ ما ذكرنا من الارتكاز المتشرّعي هو المراد ممّا وقع في كلام شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) من الإجماع على اعتبار الإيمان والعقل والعدالة في المقلّد إذ لا تحتمل قيام إجماع تعبّدي بينهم على اشتراط تلك الأُمور (1). انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    ونقول : يجري هذا الكلام والوجه نفسه في اشتراط البلوغ ، فكيف يذهب إلى أنّه من مذاق الشارع يفهم عدم اعتبار البلوغ؟ فتدبّر.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 224.

    الشرط الرابع العدالة :
    يشترط في الفقيه المرجع أن يكون عادلاً ، ويدلّ على ذلك وجوه :
    الوجه الأوّل القرآن الكريم :
    في قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(1).
    وجه الاستدلال : أنّ الفاسق قد ظلم نفسه وجعله مرجعاً من أبرز مصاديق الركون إليه ، إلّا أنّه ربما يقال المقصود من الظالم خصوص من يظلم كالطغاة أو خصوص الكفر ، لا مطلق من يفعل المعصية فالانصراف يمنع الإطلاق.
    وفي قوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فإنّ مفهومه يدلّ على اشتراط العدالة ، إلّا أنّه نوقش بأنّها تدلّ على مجرّد الوثاقة لعدم حصول الندامة من اتباع قوله ، كما أنّها معارضة بما تدلّ على كفاية الوثاقة من دون اشتراط العدالة ، ومقتضى الجمع العرفي بينهما حمل التبيّن فيها على تحصيل الوثوق ، فغاية ما في الآية الشريفة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع هو طرح قول الفاسق وقبول قول العادل باعتبار الوثوق ، فلا يعتبر في الخبر إلّا الوثوق وأدلّة حجّية الخبر والفتوى واحدة.
    الوجه الثاني الأخبار الشريفة :
    منها : خبر الاحتجاج عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) كما مرّ ، فيستفاد منه العدالة بل المرتبة العالية منها ، إلّا أنّه نوقش في السند والدلالة ،
    __________________
    (1) هود : 113.

    كما مرّ. وإنّ اعتبار العدالة فيه لو تمّ فهو باعتبار الأمن من الكذب والخيانة لا تعبّداً ، كما أنّ التفسير نفسه يشتمل على أُمور مخالفة لمذهب الإمامية.
    ومنها : التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة بإرجاع الأُمّة في زمن الغيبة الكبرى إلى الفقيه الجامع للشرائط وأنّه حجّة الأئمة (عليهم‌السلام) على الناس ، فقال (عليه‌السلام) : (أنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله) (1).
    ووجه الاستدلال واضح ، فإنّ الفاسق لا ينوب حجّة الله الأعظم الذي بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء ، وأنّ الحجّة من قبله لا يصلح أن يكون فاسقاً ، بل لا بدّ أن يحمل المرتبة العالية من العدالة والتقوى.
    ومنها : ورد في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : (قطع ظهري رجلان من الدنيا : رجل عليم اللسان فاسق ، ورجل جاهل القلب ناسك ، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنسكه عن جهله ، فاتّقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبّدين) (2).
    وهذا ما يحدث في كثير من المجتمعات الإسلامية على مرّ العصور ، كما نرى في عصرنا الراهن من العلماء الفسقة من يغطّى على فسقه بحلاوة لسانه ولباقته حتّى يصوّر فسقه عبادة ، وأمّا الجاهل العابد ، فالويل منه فإنّه الطامة الكبرى ، فإنّه جاهل ولا يدري أنّه جاهل ، ويصرّ على جهله ، ويغطّى ذلك بظاهر العبادة ، وكثير
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
    (2) البحار 2 : 106.

    من أئمة الجماعات في مساجدهم يبتلون بمثل هذه النماذج إن هم إلّا كالخوارج يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وقد ضلّوا وأضلّوا ، وهذان العالم الفاسق والجاهل العابد من أخطر الناس على الدين ، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أيضاً (قصم ظهري اثنان عالم متهتّك وجاهل متنسّك) ووجه الاستدلال بالخبرين على ما نحن فيه واضح ، فإنّه يشترط في مطلق العالم العدالة ، فبطريق أولى في مرجع التقليد.
    ومنها : ورد في مجالس المفيد عن محمّد قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : (لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله) (1).
    وجه الدلالة واضح فلا تقبل الطاعة ممّن يأخذ معالمها وأحكامها ممّن عصى الله على نحو يدين بذلك كالتقليد له ، لا مجرّد الأخذ ، فتأمّل.
    ويؤيّد هذا المعنى الروايات الكثيرة الواردة في مذمّة متابعة العالم الذي لا يعمل بعلمه وأنّه مقبل على الدنيا.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:09

    الوجه الثالث تنقيح المناط الاطمئناني :
    ويعلم ذلك بالسبر والتقسيم حيث نكشف وحدة الملاك بين باب الشهادة في الطلاق وإمامة الجماعة ، وما نحن فيه ، فإنّه إذا كان يشترط في الشاهد العدالة وكذلك في إمام الجماعة كما هو ثابت في محلّه ، ففي مرجع التقليد بطريق أولى ، لما يحمل من المسئولية العظمى من زعامة المؤمنين. إلّا أنّه نوقش بأنّا لا نعرف حقيقة الملاكات الشرعيّة في الأحكام فلا يصحّ التعدّي من باب إلى باب ، فلكلّ باب ملاكه الخاصّ
    __________________
    (1) البحار 2 : 121.

    والله العالم بحقائق الأُمور.
    وما يصل إليه العقل البشري إنّما هو من الظنون المطلقة والاحتمالات التي لا يتعبّد بها شرعاً.
    الوجه الرابع الإجماع :
    كما حكاه السلف الصالح والخلف الملتزم ، وأنّه لا خلاف في ذلك ، إلّا أنّه لم يحرز كونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم ، فربما يكون من الإجماع المدركي للوجوه المذكورة في المقام ، فلا يكون دليلاً يتعبّد به ، إلّا أنّه يفيد للتأييد.
    والذي يقتضيه الاعتبار كما هو المختار ، أنّه يفهم بحسن سليقة من روح الشريعة ، وما وراء الفقه ، باعتبار المرتكز عند المتشرّعة ، المستفاد من لسان الشرع المقدّس ، في نصوصه القرآنية والروائية ، هو عدم رضاه بأن يتصدّى للزعامة الدينية والمرجعية العظمى رجل فاسق ، ومن به منقصة دينية أو دنيوية تسقطه عن أنظار المؤمنين ، بل من وُجد في حياته نقطة سوداء ، فإنّ المتشرّعة لا يرضون به مرجعاً حتّى ولو تاب عن ذلك ، لقداسة أمر المرجعية في أنظارهم الصائبة. وإن كان في عصرنا الأخير قد تزلزلت عملاً هذه النظرة شيئاً ما ، لتغلّب الأهواء وحبّ الدنيا والرياسة على بعض القلوب المريضة والتي لم تهذّب نفسها من قبل ، فادّعت ما ليس فيها ، ولكن سيرجع الأمر إلى رشده مرّة أُخرى ، وستزول الغيوم السوداء عن سماء الأُمّة ، وتنكشف شمس الحقيقة مرّة أُخرى لتسطع على عالم التشيّع ، وتعلن أنّ الحقّ يرجع إلى أهله ، وأنّ الرئاسة الدينية لا تصلح إلّا من كان أهلاً لها ، والله الهادي للصواب.

    فتجويز تقليد الفاسق خلاف ما تسالم عليه أصحابنا الكرام ، كما أنّه مخالف للمرتكز عند المتشرّعة.
    فالأحوط وجوباً اشتراط العدالة مطلقاً حدوثاً وبقاءً ، وإن كانت باعتبار بناء العقلاء وإطلاق الأدلّة عدم اعتبارها ، فالسيرة العقلائيّة إنّما تدلّ على اعتبار الوثاقة في قول الخبير من كلّ علم وفنّ ، واعتبار الوثاقة غير اعتبار العدالة كما هو واضح ، فتأمّل.
    الشرط الخامس الرجولة :
    ويستدلّ على اعتبار الرجولة في مرجع التقليد بوجوه :
    الأوّل الأخبار :
    منها : روايتا أبي خديجة المتقدّمة ، وفي قوله (عليه‌السلام) : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا).
    وجه الاستدلال : إنّ الخبر ورد في باب القضاء وفي هذا الأمر اشتراط الرجوليّة لا فرق بينه وبين باب الإفتاء ، فإنّ القضاء حكم لرفع الخصومات ، والإفتاء حكم يبتلى به عامّة الناس.
    ونوقش الاستدلال : بأنّ الخبر ورد مورد الغالب ، فإنّ الغالب في المرافعة أن تكون عند الحاكم الرجل ، والقضاوة إنّما كان للرجال دون النساء ، كما أنّه لا ملازمة بين البابين.
    إلّا أنّه أُجيب : لا يبعد استفادة الاختصاص ، فلا إطلاق الذي يتمّ بإلغاء

    الخصوصيّة لاستظهار جملة من الأعلام اعتبارها. كما ورد في بعض الأخبار عدم تولّي المرأة دفّة القضاء (1).
    كما إنّ الملاك واحد في مثل جهة الرجوليّة ، إلّا أن يقوم دليل على الفارق بين البابين.
    ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة كما مرّ ، وفيها : ينظران من كان منكم ..) والكلام فيها كما في الروايتين السابقتين استدلالاً ومناقشةً سنداً ودلالة ، كما أنّ كلمة (من) تدلّ على الإطلاق والعموم فلا تختصّ بالرجال ، إلّا أنّ كلمة (منكم) من الجمع المذكّر فكيف لا يدلّ على الرجولة ، فتدبّر.
    فإطلاق الأخبار ينصرف إلى الرجال دون النساء ، فإنّه لم نعهد تصدّي المرأة مقام المرجعية من عصر النبيّ وإلى يومنا هذا ، وإن بلغن ما بلغن من العلم. فلا إطلاق حينئذٍ مع هذا الانصراف. ولمّا كانت المرجعية خلافة إلهية في الأرض في زمن الغيبة الكبرى ، وأنّها تمثّل الإمامة المعصومة ، كما أنّ الإمامة تمثّل النبوّة المطلقة والخاصّة ، ولم يعهد بين الأنبياء والأوصياء امرأة تحمل عبء الرسالة النبوية والولويّة ، مع أنّه قد بلغن بعض النسوة مقام الولاية والاجتهاد ، إلّا أنّه لم يسلّم لهنّ زمام الأُمور لحكمة ربانية.
    وهذا لا يعني النقص الذاتي في المرأة ، بل المرأة في وجودها الخاصّ تكمّل نقص الرجل ، كما أنّ الرجل بوجوده الخاصّ يكمل نقص المرأة ، فإنّ الكمال المطلق
    __________________
    (1) الوسائل : باب 2 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.

    ومطلق الكمال لله وحده لا شريك له ، وما دونه من الممكنات مشوب بالنقص ، ولمّا كان الكمال مطلوباً كما جعل الله ذلك في جبلّة الإنسان ، فجعل كمال الرجل بالمرأة ، وكمال المرأة بالرجل ، فكلّ واحد يكمّل الآخر ، ولكلّ واحد جهازه الخاصّ وخلقته الخاصّة ، والله سبحانه يكمل عقل الرجل بعواطف وأحاسيس المرأة ، كما يكمّل عواطف المرأة بعقل الرجل ، فما ورد من نقص حظوظهن أو عقولهن أو إيمانهن ، إنّما بهذا الاعتبار ، فلا فضل للرجل على المرأة ، ولا المرأة على الرجل إلّا بالتقوى ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ، وكما الرجال أُمروا بالعبادات فكذلك النساء ، وكما للرجل أن يصل إلى مقام الولاية الإلهية فيكون وليّ الله ، كذلك المرأة بتربيتها تكون وليّة الله كمريم العذراء ، إلّا أنّه إنّما لا تستلم مناصب المرجعية والقيادة والإمامة العامّة والخاصّة وما شابه ، لما تحمل من صفات خاصّة كالعواطف الشفّافة والأحاسيس المرهفة ، فلا تتناسب هذه المسئوليات الخطرة والمناصب الحسّاسة مع خلقتها وطبيعتها ، كلّ ذلك تمشية للنظام التكويني والاجتماعي على ما يرام ، وما فيه البقاء والديمومة.
    ومنها : ما ورد في النهي عن إمامة النساء لجماعة الرجال ، وإن كانت المرأة يجوز لها أن تؤمّ النساء (1).
    ووجه الاستدلال واضح ، فإنّه إن لم يحقّ للمرأة أن تؤمّ الرجل في صلاته ، فبطريق أولى لا يحقّ للرجل أن يرجع إليها في التقليد والفتاوى.
    __________________
    (1) الوسائل : أبواب 19 و 20 و 23 من أبواب صلاة الجماعة.

    ومنها : سلب الرأي عنها ، فقد ورد
    قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّ امرأتي تقول بقول زرارة ومحمّد بن مسلم في الاستطاعة وترى رأيهما ، فقال (عليه‌السلام) : ما للنساء وللرأي (1).
    فإذا كانت المرأة مسلوبة الرأي فكيف يستند إليها في مقام العمل والتقليد؟! كما ورد الذمّ في متابعة رأي النساء ، فعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : إنّ شرّ الناس هم الذون يكون كلامهم عن رأي النسوان.
    وقال (عليه‌السلام) : فاتّقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ، ولا تطيعوهن في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر.
    وفي هذا المفهوم عدم إطاعة المرأة وأنّه ندامة روايات كثيرة ، فمن يأتي بالمعروف إنّما يأتي به لمعروفيّته لا من باب إطاعة زوجته ، وإذا أُمرنا بالحذر من خيارهن كيف يجوز الرجوع إليهن في التقليد والفتوى؟
    وقد ورد في وصيّة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لولده الحسن (عليه‌السلام) قائلاً : (وإيّاك ومشاورة النساء ، فإنّ رأيهم إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن ، واكفف عليهم من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهن ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ، ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها في أن تشفع بغيرها ، وإيّاك التغاير في
    __________________
    (1) رجال الكشّي : في ذكر محمّد بن مسلم.

    غير موضع غيرة (1).
    ووجه الاستدلال واضح.
    ونقول : باعتبار بناء العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم ، وأنّهم لا يميّزون في ذلك بين المرأة والرجل ، كما كان في البلوغ والإيمان والعدالة ، وكذلك باعتبار إطلاق أدلّة التقليد ، والرجوع إلى أهل الذكر والفقيه والناظر في الحلال والحرام وغير ذلك ، يقال بعدم اشتراط الرجولة ، إلّا أنّه مع هذه الوجوه المذكورة التي يعلم من مجموعها وإن كان بعضها قابلاً للنقاش سنداً ودلالة ، إنّ الرجولة شرط في المجتهد ومرجع التقليد ، وهذا ما يستفاد من روح الشريعة ومذاق الشارع.
    كما أشار إلى ذلك بعض الأعلام قائلاً : والصحيح أنّ المقلّد يعتبر فيه الرجولية ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه ، وذلك لأنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء إنّما هي التحجّب والتستّر وتصدّي الأُمور البيتية ، دون التدخّل فيما ينافي تلك الأُمور ، ومن الظاهر أنّ التصدّي للإفتاء بحسب العادة جعل النفس في معرض الرجوع والسؤال لأنّهما مقتضى الرئاسة للمسلمين ، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً ، كيف؟ ولم يرضَ بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنّك بكونها قائمة بامورهم ومدبّرة لشؤون المجتمع ومتصدّية للزعامة الكبرى للمسلمين.
    __________________
    (1) نهج البلاغة : 31 ، ويقول محمّد عبده : (أين هذه الوصيّة من حال الذين يصرفون النساء في مصالح الأُمّة ، بل ومن يختصّ بخدمتهن كرامة لهن).

    وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرّعة يفيد الإطلاق ويردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً رجلاً كان أو امرأة) (1) ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    ولا يخفى أنّ معرفة مذاق الشارع أو روح الشريعة أو ما وراء الفقه أو فلسفة الأحكام وغير ذلك ، ممّا يقال في هذا الباب كقولهم بالمقاصد الإسلامية ، إنّما يكون لمن بلغ من العلم والتقوى مرتبة سامية ودرجة عالية ، برجوعه إلى النصوص الشرعية من مصادرها الثابتة في الكتاب والسنّة ، فكلّ يدّعي الوصل بليلى ، ولكن لا تقرّ بذاكا ، كما نشاهد من بعض المتجدّدين يتحدّثون باسم الإسلام وروح الإسلام والشريعة المقدّسة ، وهم لا زالوا في هوامش ألف باء الإسلام.
    الشرط السادس الحرّية :
    يستدلّ على اعتبار الحرّية في المجتهد ومرجع التقليد بوجوه :
    الوجه الأوّل القرآن الكريم :
    في قوله تعالى (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فَ (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ)(2).
    فلا بدّ للعبد أن يكون في خدمة مولاه ، ممّا يمنعه من القيام بالقضاء والإفتاء ، فإنّهما ممّا فيهما الولاية التي قد حجر العبد عنها فإنّه وما بيده لمولاه.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 226.
    (2) النحل : 75.

    وأُجيب عنه : إنّ غاية ما يقتضيه أنّه إنّما لا يرجع إليه مطلقاً ، إلّا مع إذن مولاه ، فلا منافاة في البين ، فما ذكر أخصّ من المدّعى كما هو واضح ، وكذلك إذا كان ممّا يجب عليه الإفتاء فإنّه لا يشترط إذن مولاه ، كما في وجوب الصلاة والعبادات والضرورات العادية ، فلا يتعلّق بها حقّ المولى. وقيل : ليس له أهلية هذا المنصب الجليل ، إلّا أنّ ذلك مجرّد ادّعاء لا دليل عليه. وجلالة المنصب لا تمنع من نفوذ حكمه أو مطابقة العمل مع فتواه ، بعد كونه جامعاً لسائر الشرائط.
    الوجه الثاني الأولويّة :
    فقد اعتبر الحرية جملة من الأصحاب في باب القضاء ، بل حكيت الشهرة على اعتبار ذلك ، ونسب في المسالك إلى مذهب الأكثر ومنهم الشيخ وأتباعه ، قال : لأنّ للقضاء ولاية والعبد ليس محلّا لها ، لاشتغاله عنها باستغراق وقته لحقوق المولى ، ولأنّه من المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد انتهى قوله.
    ويلحق به الإفتاء لوحدة الملاك وللأولويّة.
    وأُجيب عنه : لقد اختلف الأصحاب في اعتبارها في باب القضاء ، فقد قال المحقّق في الشرائع : وهل يشترط الحرّية؟ قال في المبسوط : نعم ، والأظهر أنّه ليس شرطاً ، وفي مختصر النافع : وفي اشتراط الحرية تردّد والأشبه أنّه لا يشترط. فإذا كانت الحريّة غير ظاهرة في القضاء فكيف بباب الإفتاء ، كما ربما يقال بالفرق بين البابين وبالاحتمال يبطل الاستدلال. فتأمّل.
    وصفة العبودية لا تمنع في كثير من الأحكام إلّا ما خرج بالدليل كالحدود والديات وبعض أحكام العبادات.

    الوجه الثالث الشهرة الفتوائية :
    وهي وإن كانت من الظنّ المطلق الذي لا حجّية فيها بالأدلّة الأربعة ، كما أثبتها شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في فرائد أُصوله ، ومن تبعه من تلامذته حتّى المعاصرين ، إلّا أنّه ممّا يوجب الاحتياط والتوقّف في المسألة ، فاعتبار الحرية ممّا لا يعتبرها العقلاء في بنائهم وسيرتهم ، فإنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم بين كونه عبداً أو حرّا ، وكذلك مقتضى الأدلّة عدم الفرق بينهما ، وإنّ وزان العبودية ليس وزان الجنون والكفر والفسق ونحوها ، ممّا يوجب المنقصة للمتّصف بها ، ويأبى ارتكاز المتشرّعة تصدّي من به منقصة دينية أو دنيوية للمرجعية والفتوى ، والعبودية ليست منقصة بوجه ، كيف وقد يكون بعض العبيد أرقى مرتبة من غيره ، بل ربما يكون ولياً من أوليائه ، وقد بلغ مرتبة النبوّة كلقمان الحكيم أو النبيّ على اختلاف الأقوال ، وحينئذٍ لم تكن العبودية منافية لمنصب الإفتاء الذي هو دونهما كما لا يخفى.
    فالأحوط اعتبار الحرية في مرجع التقليد خروجاً عن مخالفة الشهرة المحكيّة في المقام ، والذي يسهّل الخطب عدم كونه محلا للابتلاء.
    الشرط السابع الاجتهاد المطلق :
    المجتهد المطلق يقابله المجتهد المتجزّي ، وقد مرّ بيان الفرق بينهما بالتفصيل ، وأنّه منهم من أنكر التجزّي في الاجتهاد ، والمختار إمكان ذلك ، بل تحقّقه في الخارج كالمطلق ، كما وقع الاختلاف في تحقّق الاجتهاد وبمجرّد الملكة أي الاجتهاد الشأني

    أو لا بدّ من الفعليّة ، ثمّ يجوز لهما العمل بما استنبطاه من الأدلّة التفصيلية على طبق الموازين الشرعية ، بل قيل بحرمة التقليد عليهما ، لعدم شمول أدلّة التقليد بالنسبة إليهما ، بل بنظرهما يكون من رجوع العالم إلى الجاهل عند اختلاف الفتوى ، أو رجوع العالم إلى العالم فيلزم اللّغو ، وإذا علم صحّة عمله فرجوعه إلى الغير الذي يرى بطلان العمل أو بالعكس يلزمه اجتماع النقيضين أو المتضادّين وهما محال. فيجوز عمل كلّ من المجتهد المطلق والمتجزّي بفتواه ، بل يقال بحرمة عملهما برأي الغير كما هو واضح. فحينئذٍ هل يشترط الاجتهاد المطلق في مرجع التقليد؟
    اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال :
    1 ـ فمنهم من ذهب إلى اشتراط ذلك كما يظهر من عبارة الماتن السيّد اليزدي (قدس‌سره).
    2 ـ وقيل بجواز تقليد المتجزّي مطلقاً كذلك.
    3 ـ وقيل بجواز تقليده فيما اجتهد كما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني (قدس‌سره).
    4 ـ وقيل بوجوب تقليده فيما إذا كان أعلم من المجتهد المطلق في ذلك المقدار الذي اجتهد فيه ، كما ذهب إليه المحقّق البجنوردي.
    5 ـ وقيل : الأقوى جواز تقليد المتجزّي فيما إذا عرف مقداراً معتدّاً به من الأحكام ، ولم يحرز مخالفة فتواه لفتوى الأعلم ، أو لم يكن غيره أعلم منه في ذلك المقدار ، كما ذهب إليه السيّد الخوانساري (قدس‌سره). وهو المختار.
    هذا ، وبناء العقلاء كما هو واضح عدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين المطلق والمتجزّي ، فإنّهم يرجعون إلى الطبيب الأخصّائي في القلب وإن لم يعلم

    بغيره ، بل يقدّمونه على الطبيب العمومي ، فمقتضى بنائهم صحّة تقليد المجتهد المتجزّي ، بل لزومه إذا كان أعلم من المجتهد المطلق ، وإن كان ما استنبطه قليلاً لا يعتدّ به.
    والسيرة كما مرّ من الدليل اللبّي فيؤخذ بالقدر المتيقّن فيها ، وإنّما يتعبّد بها لو أمضاها الشارع المقدّس ، أو لم يردع عنها على اختلاف المباني في حجّية السيرة شرعاً كما مرّ فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة الأدلّة والوجوه الواردة في المقام ، ومقدار دلالتها على الإمضاء أو الردع أو عدمه؟ والوجوه كما يلي :
    الوجه الأوّل القرآن الكريم :
    في آية السؤال في قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(1) ، فإنّ ظاهرها الرجوع إلى كلّ من يصدق عليه عنوان (أهل الذكر) وعرفاً إنّما يصدق على المجتهد المطلق فيتعيّن تقليده ، وعند دوران الأمر بينه وبين المتجزّي تخييرياً ، يقدّم المتعيّن بحكم العقل ، للاشتغال.
    وأُجيب عنه : إنّ الظاهر صدق العنوان على من كان متجزّياً أيضاً فيما إذا استنبط من المسائل المعتدّ بها عرفاً ، لا في مسألة ومسألتين ، وتعيين مثل عنوان (أهل الذكر) إنّما هو بيد العرف ، والعرف ببابك ، وإن أبيت عن شمولها للمتجزّي المستنبط من المسائل المعتدّ بها عرفاً ، فإنّ الآية تكون مُجملة حينئذٍ ، ولا يستدلّ بها للإجمال ، فلم تكن ممضيّة لبناء العقلاء أو رادعة عنه.
    __________________
    (1) النمل : 43.

    وفي آية النفر في قوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(1) ، فبناءً على دلالتها لأصل التقليد ، وأنّ المستفاد من ظاهرها لزوم التحذّر من إنذار المنذر المتفقّه في الدين مطلقاً ، سواء أكان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً استنبط جملة من أحكام الدين ، بل ربما يعمّ من استنبط مسألة أو مسألتين. نعم لا دلالة لها بوجه على وجوبه عند إنذار كلّ منذر وإن لم يصدق أنّه فقيه.
    فيكون نطاق الآية نطاق بناء العقلاء ، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من شمول الآية الشريفة للمتجزّي الذي استنبط جملة من الأحكام ممّا يعتدّ بها عرفاً.
    الوجه الثاني الأخبار الشريفة :
    كمقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها : (ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً).
    وكذلك في حسنة أبي خديجة ، وفيها : (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا).
    فظاهر الروايات باعتبار إضافة المصدر المضاف والجمع المضاف هو اعتبار كون القاضي عارفاً بجميع أحكامهم وناظراً في حلالهم وحرامهم ، ولمّا كان باب الإفتاء وباب القضاء واحداً لوحدة الملاك وهو الحكم فيهما إلّا إذا قام الدليل على وجود الفارق بينهما ، فإنّه يشترط في المجتهد المفتي أن يكون كذلك ، فلا يصحّ الرجوع إلى من كان مجتهداً متجزّياً حتّى لو استنبط ما يعتدّ به من كتاب الطهارة
    __________________
    (1) التوبة : 122.

    والصلاة ، لعدم صدق العناوين (الراوي والناظر والعارف) عليه.
    وأُجيب عنه : إنّ المقبولة في مقابل المنع عن الرجوع إلى حكّام الجور وقضاتهم ، ومن الواضح أنّ قضاتهم لم يكونوا عارفين بجميع الأحكام ، وإنّما عرفوا جملة منها ، وباعتبار مناسبة الحكم مع الموضوع أنّه لا يرجع إليهم بل يرجع إلى من يقابلهم منكم ، وإن كان عارفاً بجملة من أحكامنا وقضايانا وحلالنا وحرامنا ، ثمّ لو اعتبر العلم بجميع الأحكام ، فإنّه لم يتّفق إلّا للأوحدي من الفقهاء ، فيلزم سدّ باب القضاء حينئذٍ.
    وقد ادّعي الإجماع على اشتراط معرفة كلّ الأحكام في باب القضاء والقاضي.
    كما ورد في الأخبار ما يستفاد ذلك ، كرواية أبي خديجة الأُخرى : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته حاكماً فتحاكما إليه) (1).
    فالظاهر من لفظة (من) للتبعيض ، فمن علم شيئاً قليلاً من أحكامهم يجوز له التصدّي للحكم.
    وقد وقع اختلاف بين نسخة التهذيب ونسختي الكافي والفقيه ، ففيه (من قضايانا) ، وفيهما (من قضائنا) ، والأمر في مقام الدلالة على المطلوب بالرجوع إلى المتجزّي أوضح فيهما. فإنّ ما وصل إلينا منهم في باب القضاء يعدّ من القليل ،
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.

    ويرجع إلى القاضي الذي يعرف من هذا القليل قليلاً ، فإنّه ظاهر في صحّة الرجوع إلى القاضي العالم بجملة ، وإن كانت قليلة ، إلّا أنّها معتدّة بها من الأحكام ، وكذلك المجتهد المفتي عند الرجوع إليه.
    وربما يقال على نسخة التهذيب ، يشترط أن يكون عالماً بجملة معتدّة بها لمناسبة الحكم والموضوع ، فإنّ من يرى شيئاً من البحر يعني ما يعتدّ به لا أنّه رأى بمقدار إناء ، بخلاف ما رأى شيئاً من ماء الإناء ، فكلّ شيء يختلف سعته وضيقه بحسب نفسه ، ولمّا كان علوم آل محمّد (عليهم‌السلام) بحر لا ينزف فالعالم بشيء من علومهم لا بدّ أن يكون عارفاً بجملة ممّا يعتدّ به. فتأمّل.
    ومن الروايات الشريفة ما جاء في الاحتجاج في الخبر المعروف المنسوب إلى الإمام العسكري (من كان من الفقهاء) فإنّه يرجع إلى الفقيه العارف ، فمن لم يكن من الفقهاء وإن عرف جملة من الأحكام لا يجوز تقليده ، فتدلّ على الرجوع إلى المجتهد المطلق ، إلّا أنّه نوقش سنداً ودلالة كما مرّ ، فإنّه في مقام البيان في الفرق بين عوام اليهود وعوام الشيعة ، كما هو في أُصول الدين الذي لا يجوز في التقليد المصطلح ، أضف إلى أنّه يصدق الفقيه على من عرف جملة معتدّة بها من الأحكام الشرعية.
    الوجه الثالث الإجماع :
    فقد ادّعي الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى المجتهد المتجزّي ، إلّا أنّه غير تامّ في نفسه ، كما إنّ غاية ما يدلّ عليه عدم الرجوع إلى من استنبط مسألة أو مسألتين ، لا المتجزّي المستنبط جملة يعتدّ بها عرفاً.

    وبهذا يقال : لم يقم دليل صناعي يدلّ على اشتراط الاجتهاد المطلق في تقليد المجتهد ، بل ربما نقول بوجوب الرجوع إلى المتجزّي فيما إذا كان أعلم من المطلق فيما استنبطه ، وكان مخالفاً له. فتدبّر.
    الوجه الرابع الأخبار الخاصّة :
    الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين كالرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وأمثاله من أكابر الفقهاء والرواة ، فلا تدلّ على مطلق الرجوع حتّى إلى من عرف مسألة أو مسألتين.
    إلّا أنّه أُجيب عنه : إنّها ليست بظاهرة في الحصر لتدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم من العلماء والمبلّغين.
    الشرط الثامن الحياة :
    لقد مرّ الكلام بالتفصيل في ذيل المسألة التاسعة من العروة الوثقى ، حول اشتراط الحياة في التقليد الابتدائي ، كما ذكرنا البقاء على تقليد الميّت ، وأنّه في بعض الصور يجب البقاء عليه فيشترط في المجتهد المقلّد أن يكون حيّاً ، فإنّ الأصل الأوّلي عند الشكّ في اعتبار الحياة في مرجع التقليد وحجّية فتواه هو جواز تقليده لو كان حيّاً ، فهذا هو القدر المتيقّن من أدلّة مشروعية التقليد. كما إنّ الاشتغال العقلي عند الدوران بين التعيين والتخيير يقتضي ذلك ، فإنّه يتيقّن بفراغ الذمّة بتقليد الحيّ ، والاشتغال اليقيني يستلزم الفراغ اليقيني ، كما لم يفتِ أحد بتعيّن تقليد الأعلم ابتداءً ، والرجوع إلى الحيّ ممّا تسالم عليه الأصحاب ، وما يقال من بناء العقلاء

    بعدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحيّ والميّت ، فإنّه لم يثبت إمضاء الشارع بذلك ، أو عدم ردعه بذلك ، بل لم يتعارف الرجوع إلى فتوى الميّت في الصدر الأوّل ، فإنّه لم يكن تدوين الكتب متعارفاً آن ذاك ، وظاهر حجّية فتوى الفقيه هو فتوى الحيّ من الفقهاء ، فيكون رادعاً عن السيرة ، وإطلاق الأدلّة يزول بأدنى تأمّل ، كما إنّ الظاهر من العناوين المأخوذة فيها فعليّتها لا مطلقاً ، فالحيّ يتّصف بتلك الأوصاف الفقيه العارف المنذر الراوي أهل الذكر وما يقال من الاستصحاب فهو مدفوع كما مرّ تفصيله ، فلا نعيد طلباً للاختصار.
    ويدلّ على اشتراط الحياة الإجماع كما حكي ذلك عن جملة من الأعاظم كالمحقّق الثاني في شرح الألفية ، والشهيد الثاني في المسالك ، وولده في المعالم ، والوحيد في الفوائد حتّى اشتهر بين العامّة أنّ قول الميّت كالميّت. ولا يقدح مخالفة الأخباريين والمحقّق القمّي بمعقد الإجماع كما مرّ ، فيفيد الإجماع عن حجّة معتبرة عند القدماء ، وبمثل هذا يشترط الحياة في من يرجع إليه في التقليد.
    فالمختار : اعتبار الحياة في التقليد الابتدائي.
    الشرط التاسع الأعلميّة :
    لقد مرّ أيضاً تفصيل مسألة الأعلميّة في المسألة الثانية عشر من العروة الوثقى ، وكان المختار الأحوط وجوباً تقليد الأعلم لا مطلقاً كما عند السيّد اليزدي (قدس‌سره) بل فيما إذا علم بوجود الأعلم وبمخالفته في الفتاوى لغيره إجمالاً أو تفصيلاً ، ولم يكن قول الغير مطابقاً للاحتياط ، وإلّا فعند عدم العلم بالمخالفة ، فإنّه

    يجوز الرجوع إلى أيّهما شاء ، فالأعلمية ليست شرطاً لجواز أصل التقليد ، وإنّما تعتبر عند العلم بالمخالفة.
    الشرط العاشر أن لا يكون متولّداً من الزنا (طهارة المولد):
    من الواضح أنّ مقتضى بناء العقلاء وإطلاق الأدلّة اللفظيّة عدم اعتبار عدم طهارة المولد في مرجع التقليد ، فإنّه لا فرق عندهم في أصل رجوع الجاهل إلى العالم بين أن يكون طاهر المولد أو ابن الزنا. إلّا أنّه هل ورد الردع عن هذه السيرة العقلائيّة حتّى يكون اعتبار طهارة المولد في المرجع تعبّداً؟
    لقد اختلف الأصحاب في كفر ابن الزنا ونجاسته وعدم فلاحه وخبث سريرته.
    فقد حكي عن السيّد المرتضى والصدوق والعلّامة الحلّي وجماعة القول بنجاسته ، وادّعي الإجماع عليه.
    إلّا أنّه ذهب المشهور إلى إسلامه وطهارته.
    فإن قيل بكفره ونجاسته فيكون شرط طهارة المولد داخلاً في اعتبار الإيمان والإسلام.
    وإن قيل بإسلامه وطهارته ، فحينئذٍ يقع الكلام في اشتراط مرجع التقليد أن لا يكون ابن الزنا. كما ذهب إليه المشهور ويدلّ على ذلك وجوه :
    الأوّل تنقيح المناط الاطمئناني :
    فإنّه ورد في إمام الجماعة وكذلك في قبول الشهادة أن لا يكون ابن الزنا ،

    وبالأولويّة وفحوى المقام والكلام يعتبر ذلك في مرجع التقليد أيضاً. كما أشار إلى ذلك الشهيد الثاني في مسالكه قائلاً : (فلقصور ولد الزنا عن تولّي هذه المرتبة حتّى أنّ إمامته وشهادته ممنوعتان فالقضاء أولى).
    ومن النصوص الدالّة على اعتبار طهارة المولد في إمام الجماعة كما عليه الفتوى :
    1 ـ في خبر أبي بصير ليث المرادي :
    محمّد بن يعقوب عن جماعة عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن الحسين بن عثمان عن ابن مسكان عن أبي بصير يعني ليث المرادي :
    عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، قال : خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال : وعدّ منهم المجنون وولد الزنا (1).
    ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب مثله.
    2 ـ وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، قال : قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : لا يصلّينّ أحدكم خلف المجنون وولد الزنا. الحديث ورواه الصدوق مرسلاً.
    3 ـ محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام)
    __________________
    (1) الوسائل 3 : 397 ، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1 ، باب وجوب كون الإمام بالغاً عاقلاً طاهر المولد وجملة ممّن لا يقتدى بهم.

    أنّه قال : خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة ، وعدّ منهم ولد الزنا.
    4 ـ وفي الخصال عن أبيه عن سعد عن أحمد بن محمّد عن العباس بن معروف عن أبي جميلة عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يقول : ستّة لا ينبغي أن يؤمّوا الناس : ولد الزنا والمرتدّ والأعرابي بعد الهجرة وشارب الخمر والمحدود والأغلف. الحديث ورواه ابن إدريس في آخر (السرائر) نقلاً من رواية كتاب أبي القاسم بن قولويه عن الأصبغ بن نباتة مثله (1).
    وأمّا عدم قبول شهادة ولد الزنا :
    1 ـ محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبان عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ فقال : لا ، فقلت : إنّ الحكم بن عُتيبة يزعم أنّها تجوز ، فقال : اللهمّ لا تغفر ذنبه ما قال الله للحكم (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). ورواه الصفّار في (بصائر الدرجات) عن السندي بن محمّد عن جعفر بن بشير ، عن أبان بن عثمان مثله ، وعن علي بن إبراهيم عن صالح بن السندي عن جعفر بن بشير مثله. ورواه الكشّي في كتاب (الرجال) عن محمّد بن مسعود عن عليّ بن الحسن بن فضّال عن العباس بن عامر عن جعفر بن محمّد بن حكيم عن أبان بن عثمان مثله. وزاد :
    __________________
    (1) الوسائل 18 : 276 ، باب 31 من أبواب الشهادات ، الحديث 1 3.

    فليذهب الحكم يميناً وشمالاً ، فوالله لا يوجد العلم إلّا في أهل بيت نزل عليهم جبرئيل.
    2 ـ وعن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي أيوب الخزّاز عن محمّد بن مسلم قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا تجوز شهادة ولد الزنا. ورواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن إبراهيم والذي قبله بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أحمد بن حمزة عن أبان مثله إلى قوله : لا تغفر ذنوبه.
    3 ـ وعن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن ابن فضّال عن إبراهيم بن محمّد الأشعري عن عبيد الله بن زرارة عن أبيه قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً ، لأنّه لا تجوز شهادته ولا يؤمّ الناس. محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يحيى مثله. وفي الباب روايات اخرى تدلّ على المطلوب ، إلّا أنّه ورد في الخبر ما يعارضه.
    عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال : سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال : نعم ، يجوز شهادته ولا يؤمّ.
    قال صاحب الوسائل : هذا محمول على التقيّة لما مرّ. ورواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه إلّا أنّه قال : لا يجوز شهادته ولا يؤمّ.
    محمّد بن مسعود العياشي في تفسيره عن عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز شهادته ولا يؤمّ بالناس ، لم يحمله نوح في السفينة ، وقد حمل فيها الكلب والخنزير.

    وعن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا.
    فلو كان حال ولد الزنا هكذا ، ولم يرضَ الشارع بإمامته في الجماعة ولم تقبل شهادته ، فكيف يرضى بزعامته للمذهب وللمسلمين ورجوعهم إليه في أُمورهم الدنيوية والدينية؟! ويظهر من السيّد علم الهدى في (الانتصار) أنّ الوجه في عدم قبول شهادته عدم عدالته وقال : ونحن قاطعون على خبث باطنه وقبح سريرته ، ولا تقبل شهادته لأنّه عندنا غير عدل ولا مرضي ، فعلى هذا الوجه يجب أن يقع الاعتماد) انتهى كلامه.
    والذي يستفاد من مذاق الشارع المقدّس من خلال النصوص الشرعية أنّ المرجعية خلافة إلهية في زمن الغيبة الكبرى تنوب الإمامة الحقّة والنبوّة الصادقة ، فلا بدّ لمرجع التقليد أن يكون كاملاً بعقله ودينه وإيمانه وعدالته ، بعيداً عن كلّ ما يشينه من المنقصة الذاتية ، وممّا يوجب تنفّر الناس منه وكون الرجل ولد الزنا منقصة ذاتية تسقطه عن الأنظار ، وإن بلغ ما بلغ من العلم والورع ، فإذا ورد في وصف الفقهاء أنّهم أُمناء الله وخلفاء رسوله في الأرض ، وأنّهم ورثة الأنبياء ، ووسائط بين الخالق والخلق ، فإنّه مع هذه الأوصاف يستبعد جدّاً أن يفوّض مثل هذا المقام الشامخ والعظيم بعد النبوّة والإمامة التي يشترط فيها العصمة إلى ابن الزنا؟! أو الفاسق والكافر؟!
    ثمّ لا يخفى إنّ عدم الرجوع في التقليد إلى ولد الزنا لا باعتبار المنقصة فيه ،

    بل ربما يكون عند الله عظيماً ، إنّما ذلك باعتبار أنّ تصدّيه للمرجعيّة وزعامته للمسلمين ممّا يوجب وهن الشريعة المقدّسة ومهانة مقام المرجعيّة. وهذا المعنى لا يختصّ بولد الزنا ، بل كلّ ما يوجب الوهن فإنّه يشترط عدمه.
    الشرط الحادي عشر أن لا يكون مقبلاً على الدنيا :
    ورد في عبارة السيّد اليزدي كون مرجع التقليد غير مقبل على الدنيا وطالباً لها ، ومكبّاً عليها ومجدّاً في تحصيلها ، ثمّ أردف هذه الأوصاف ما جاء في الخبر الشريف : (من كان من الفقهاء ..).
    وظاهر قوله إنّ هذا شرط آخر غير شرط العدالة الذي ذكره من قبل ، فلو كان المراد نفس العدالة المذكورة لما فصل بينهما.
    والظاهر أنّ دليل اعتبار هذا الشرط ما ورد في الخبر الشريف في الاحتجاج عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) وقد ذكر الخبر تكراراً ، كما ذكرناه وما جاء من المناقشات السندية والدلالية حوله ، فمن الأعلام من أراد توثيق السند كما يظهر من الشيخ الحرّ العاملي في وسائله في الخاتمة ، قائلاً :
    نروي تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه‌السلام) بالإسناد عن الشيخ أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن الصدوق عن محمّد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار قال الصدوق والطبرسي وكانا من الشيعة الإمامية عن أبويهما عن الإمام (عليه‌السلام) وهذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض العلماء الرجال ، لأنّ ذاك يروي عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام)

    وهذا عن أبي محمّد (عليه‌السلام) ، وذاك يرويه سهل الديباجي عن أبيه وهما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلاً ، وذاك فيه أحاديث من المناكير وهذا خالٍ من ذلك ، وقد اعتمد عليه رئيس المحدّثين ابن بابويه فنقل عنه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وفي سائر كتبه وكذلك الطبرسي وغيرهما من علمائنا (1).
    وقال العلّامة النوري في خاتمة المستدرك (إنّ شيخنا الصدوق أكثر من النقل عن التفسير في أغلب كتبه كالفقيه والأمالي والعلل وغيرها واعتمد على ما فيه كما لا يخفى على من راجع مؤلفاته ، وتبعه على ذلك أساطين المذهب وسدنة الأخبار ، فعدّ منهم الشيخ الطبرسي في الاحتجاج ، والقطب الراوندي في الخرائج ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والمحقّق الكركي في إجازته لصفيّ الدين الحلّي ، والشهيد الثاني في المنية ، والمجلسي الأوّل في شرح المشيخة ، وابنه العلّامة المجلسي في البحار ، والأُستاذ الأكبر في التعليقة ، والمحدّث البحراني والشيخ سليمان في الفوائد النجفيّة ، والشيخ الحرّ العاملي والمحدّث الجزائري والشيخ سليمان الحلّي تلميذ الشهيد الثاني والشيخ عبد العلي الحويزي في نور الثقلين إلى غير ذلك من الأعلام (2).
    وقد مرّ مناقشة سيّدنا الخوئي (قدس‌سره) في سند التفسير كما يظهر من جماعة تضعيفه ، كالعلّامة في الخلاصة قائلاً : محمّد بن القاسم أو أبو القاسم المفسّر الأسترآبادي روى عنه ، أبو جعفر بن بابويه ضعيف كذّاب ، روى عنه تفسيراً
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 454 ، عن الوسائل 20 : 59.
    (2) المصدر : 455 ، عن مستدرك الوسائل 3 : 661.

    يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمّد بن زياد ، والآخر بعليّ ابن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام) ، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير) (2).
    والشيخ النوري في مستدركة يرى أنّ هذا التضعيف من العلّامة لم يسبقه سوى ابن الغضائري ، كما لم يلحقه أيضاً سوى المحقّق الداماد. وعن نقد الرجال إنّ ما ذكره العلّامة في الخلاصة أخذ بعينه عن ابن الغضائري ، كما أنّ ما عن السيّد الداماد لم يزد على ما في الخلاصة شيئاً.
    والعلّامة الطهراني وافق شيخه في اعتبار التفسير ، وأجاب عن المناقشات الواردة لتضعيف التفسير ، كما ضعّف كتاب الضعفاء المنسوب إلى ابن الغضائري. فتدبّر وتأمّل في مقولات القوم لينكشف لك الأمر ، والمختار أنّ النفس لتطمئنّ بهذا المقطع من الحديث الطويل (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم).
    وشيخنا الأعظم عند ذكره الروايات الدالّة على حجّية الخبر الواحد بعد أن أورد العبارة المذكورة ، قال : (إذا هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق).
    وربما يجبر ضعف السند علوّ المتن والمضمون ، وكذلك اعتماد جملة من الأعلام عليه كما استدلّ الماتن على الشرط الحادي عشر بهذا الخبر. فتأمّل.
    __________________
    (2) الدرّ النضيد 1 : 455 ، عن خلاصة الرجال : 256.

    ثمّ قد وقع نقاش بين الأعلام من المعلّقين على العروة ، بأنّ ما ذكره السيّد إنّما هو تفسير العدالة ، فلا يستفاد من الخبر أكثر من اشتراط العدالة ، وذهب جمع إلى أنّه شرط آخر زيادة في العدالة. وقيل : إنّما يدلّ الخبر على اعتبار الوثوق في النقل والتحرّز من الكذب ، كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قائلاً : إنّ ظاهر الخبر وإن كان اعتبار العدالة بل ما فوقها ، ولكن المستفاد من مجموعة أنّ المناط في التصديق هو التحرّز من الكذب فافهم (1).
    كما أنّ السيّد الحكيم (قدس‌سره) في مستمسكه بعد الإشكال على دلالته ، وأنّه لا يدلّ على أكثر من اعتبار الأمانة والوثوق قال : (كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات وإن كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة) (2).
    والسيّد الخوئي في تقريراته يذهب : إلى أنّ المستفاد منه اعتبار العدالة من جهة الأمن عن الخيانة والكذب لا من جهة التعبّد ، وإن حصل الوثوق به فإنّه (عليه‌السلام) بعد أن ذكر أوصاف الفقيه الذي للعوام أن يقلّدوه قال : (وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب العامة فلا تقبلوا منهم شيئاً ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ..) الحديث فإنّه علّل (عليه‌السلام) عدم القبول
    __________________
    (1) المصدر : 458 ، عن فرائد الأُصول ، مبحث حجّية الظنّ : 80.
    (2) المستمسك 1 : 46.

    من الفسقة بالتحريف إمّا لجهلهم أو لتعمّد الكذب ومحلّ الكلام هو بعد الفراغ عن الوثوق به) (1).
    ويرد عليهم أنّ ظهور قوله (عليه‌السلام) (من كان من الفقهاء ..) هو اعتبار العدالة بل أمر زائد على ذلك ربما تشبه العصمة الأفعالية التي تتلو العصمة الذاتية. والظواهر حجّة. كما ربما يكون لكلّ فقرة مراده وحكمه الخاصّ ، فلا يلاحظ مجموع الفقرات ، كما لا تنافي بين أن يستفاد من هذه الفقرة الشريفة العدالة أو ما فوقها ، ومن الفقرات الأُخرى الوثوق والتحرّز من الكذب ، فتأمّل.
    هذا وظاهر الخبر الشريف الذي يستدلّ به في كثير من الموارد كأصل التقليد واعتبار الإيمان في مرجع التقليد وعدالته وغير ذلك. أنّه يشترط في مرجع التقليد (زيادة على العدالة التي تذكر في موارد كثيرة كإمامة الجماعة وشهادة الشاهد) أن يتّصف المرجع بهذه الأوصاف : صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه ، أو بعبارة اخرى أن لا يكون مكبّاً على الدنيا ومقبلاً عليها إلى آخر ما ذكره الماتن السيّد اليزدي (قدس‌سره) ، فيشترط المرتبة العالية من العدالة في مرجع التقليد.
    إلّا أنّه يظهر من كلمات جماعة من الأعلام أنّ الصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة عن العدالة ، لا شرطاً زائداً عليها.
    فقد جاء في التنقيح : (إنّه لا مساغ للأخذ بظاهرها وإطلاقها حيث أنّ لازمه
    __________________
    (1) دروس في فقه الشيعة 1 : 123.

    عدم جواز الرجوع إلى من ارتكب أمراً مباحاً شرعياً لهواه إذ لا يصدق معه أنّه مخالف لهواه ، لأنّه لم يكن مخالفاً لهواه حتّى في المباحات ، ومن المتّصف بذلك؟! غير المعصومين (عليهم‌السلام) ، فإنّه أمر لا يحتمل أن يتّصف به غيرهم ، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ ، ومن ذلك ما قد ينسب إلى بعض العلماء من أنّه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته ، وإنّما كان يأتي به مقدّمة لأمر واجب أو مستحبّ ، إلّا أنّه ملحق بالعدم لندرته ، وعلى الجملة إن أُريد بالرواية ظاهرها وإطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مرّ ، وإن أُريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أُخرى عن العدالة ، وليس أمراً زائداً عليها ، وقد ورد : إنّ أورع الناس من يتورّع عن محارم الله ، ومع التأمّل في الرواية يظهر أنّ المتعيّن هو الأخير ، فلا يشترط في المقلَّد زائداً على العدالة شيء آخر) (1).
    وفي تعليق العلّامة الفقيه الأصفهاني : إنّ الإقبال على الدنيا وطلبها إن كان على الوجه المحرّم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة ، فيغني عنه اعتبارها ، وإلّا فليس بنفسه مانعاً عن جواز التقليد ، والصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة أُخرى عن صفة العدالة (2).
    ويقول السيّد البروجردي (قدس‌سره) : إنّ المعتبر من عدم كونه مقبلاً للدنيا هو المقدار الذي يعتبر في العدالة ، والخبر لا يدلّ على أزيد من ذلك أيضاً.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 236.
    (2) الدرّ النضيد 1 : 461.

    أقول : ما يظهر من الخبر الشريف هو المرتبة العالية من العدالة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع ، وأمّا المراد من قوله (عليه‌السلام) : مخالفاً لهواه ليس المباحات حتّى يقال باختصاصه بالمعصومين (عليهم‌السلام) ، بل الناس دون أهل العلم بدرجة ، فإذا كان العلماء لا سيّما الفقهاء يأتون بالمستحبّات فضلاً عن الواجبات ، فإنّ الناس سيأتون بالواجبات ، وإذا كان أهل العلم يتجنّبون المكروهات فضلاً عن المحرّمات ، فإنّ الناس يتركون المحرّمات كما أشار إلى هذا المعنى الجليل الثابت بالوجدان الشهيد الثاني في منيته وحينئذٍ ربما المقصود من قوله (عليه‌السلام) مخالفاً لهواه أنّه لا يرتكب المكروهات ، وهذه غير العدالة التي تعني إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، التي يشترط في إمام الجماعة.
    ولمّا كانت المرجعية بمنزلة الإمامة والنبوّة ، وأنّها زعامة دينية ودنيوية ، يعلم من مذاق الشارع المقدّس أنّ عدالة المرجع فوق عدالة الناس ، وما ورد أنّ أورع الناس من اجتنب المحارم ، فهو بالقياس إلى الناس ، أمّا الأورعية في المجتهد ومرجع التقليد فإنّها مرتبة عالية من الورع فوق اجتناب المحرّمات ودون اجتناب المباحات ، فاجتناب المحارم لعامّة الناس واجتناب المباحات للمعصومين ، واجتناب المكروهات لمراجع التقليد ، فإنّهم الواسطة بين الناس والإمام المعصوم (عليه‌السلام). فهم في التقوى دون الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) وفوق الناس. وهذه المرتبة من العدالة والتقوى تناسب مقام المرجعية والفتوى.
    قال العلّامة الاصطهباناتي (قدس‌سره) في تعليقته على العروة : إنّ مراد الماتن بملاحظة ما يأتي في مطاوي كلماته من تقديم العدل الأورع على العدل الورع هو

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Empty
    مُساهمةموضوع: رد: القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]   القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ] Emptyأمس في 14:11

    الوجه الثالث تنقيح المناط الاطمئناني :
    ويعلم ذلك بالسبر والتقسيم حيث نكشف وحدة الملاك بين باب الشهادة في الطلاق وإمامة الجماعة ، وما نحن فيه ، فإنّه إذا كان يشترط في الشاهد العدالة وكذلك في إمام الجماعة كما هو ثابت في محلّه ، ففي مرجع التقليد بطريق أولى ، لما يحمل من المسئولية العظمى من زعامة المؤمنين. إلّا أنّه نوقش بأنّا لا نعرف حقيقة الملاكات الشرعيّة في الأحكام فلا يصحّ التعدّي من باب إلى باب ، فلكلّ باب ملاكه الخاصّ
    __________________
    (1) البحار 2 : 121.

    والله العالم بحقائق الأُمور.
    وما يصل إليه العقل البشري إنّما هو من الظنون المطلقة والاحتمالات التي لا يتعبّد بها شرعاً.
    الوجه الرابع الإجماع :
    كما حكاه السلف الصالح والخلف الملتزم ، وأنّه لا خلاف في ذلك ، إلّا أنّه لم يحرز كونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم ، فربما يكون من الإجماع المدركي للوجوه المذكورة في المقام ، فلا يكون دليلاً يتعبّد به ، إلّا أنّه يفيد للتأييد.
    والذي يقتضيه الاعتبار كما هو المختار ، أنّه يفهم بحسن سليقة من روح الشريعة ، وما وراء الفقه ، باعتبار المرتكز عند المتشرّعة ، المستفاد من لسان الشرع المقدّس ، في نصوصه القرآنية والروائية ، هو عدم رضاه بأن يتصدّى للزعامة الدينية والمرجعية العظمى رجل فاسق ، ومن به منقصة دينية أو دنيوية تسقطه عن أنظار المؤمنين ، بل من وُجد في حياته نقطة سوداء ، فإنّ المتشرّعة لا يرضون به مرجعاً حتّى ولو تاب عن ذلك ، لقداسة أمر المرجعية في أنظارهم الصائبة. وإن كان في عصرنا الأخير قد تزلزلت عملاً هذه النظرة شيئاً ما ، لتغلّب الأهواء وحبّ الدنيا والرياسة على بعض القلوب المريضة والتي لم تهذّب نفسها من قبل ، فادّعت ما ليس فيها ، ولكن سيرجع الأمر إلى رشده مرّة أُخرى ، وستزول الغيوم السوداء عن سماء الأُمّة ، وتنكشف شمس الحقيقة مرّة أُخرى لتسطع على عالم التشيّع ، وتعلن أنّ الحقّ يرجع إلى أهله ، وأنّ الرئاسة الدينية لا تصلح إلّا من كان أهلاً لها ، والله الهادي للصواب.

    فتجويز تقليد الفاسق خلاف ما تسالم عليه أصحابنا الكرام ، كما أنّه مخالف للمرتكز عند المتشرّعة.
    فالأحوط وجوباً اشتراط العدالة مطلقاً حدوثاً وبقاءً ، وإن كانت باعتبار بناء العقلاء وإطلاق الأدلّة عدم اعتبارها ، فالسيرة العقلائيّة إنّما تدلّ على اعتبار الوثاقة في قول الخبير من كلّ علم وفنّ ، واعتبار الوثاقة غير اعتبار العدالة كما هو واضح ، فتأمّل.
    الشرط الخامس الرجولة :
    ويستدلّ على اعتبار الرجولة في مرجع التقليد بوجوه :
    الأوّل الأخبار :
    منها : روايتا أبي خديجة المتقدّمة ، وفي قوله (عليه‌السلام) : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا).
    وجه الاستدلال : إنّ الخبر ورد في باب القضاء وفي هذا الأمر اشتراط الرجوليّة لا فرق بينه وبين باب الإفتاء ، فإنّ القضاء حكم لرفع الخصومات ، والإفتاء حكم يبتلى به عامّة الناس.
    ونوقش الاستدلال : بأنّ الخبر ورد مورد الغالب ، فإنّ الغالب في المرافعة أن تكون عند الحاكم الرجل ، والقضاوة إنّما كان للرجال دون النساء ، كما أنّه لا ملازمة بين البابين.
    إلّا أنّه أُجيب : لا يبعد استفادة الاختصاص ، فلا إطلاق الذي يتمّ بإلغاء

    الخصوصيّة لاستظهار جملة من الأعلام اعتبارها. كما ورد في بعض الأخبار عدم تولّي المرأة دفّة القضاء (1).
    كما إنّ الملاك واحد في مثل جهة الرجوليّة ، إلّا أن يقوم دليل على الفارق بين البابين.
    ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة كما مرّ ، وفيها : ينظران من كان منكم ..) والكلام فيها كما في الروايتين السابقتين استدلالاً ومناقشةً سنداً ودلالة ، كما أنّ كلمة (من) تدلّ على الإطلاق والعموم فلا تختصّ بالرجال ، إلّا أنّ كلمة (منكم) من الجمع المذكّر فكيف لا يدلّ على الرجولة ، فتدبّر.
    فإطلاق الأخبار ينصرف إلى الرجال دون النساء ، فإنّه لم نعهد تصدّي المرأة مقام المرجعية من عصر النبيّ وإلى يومنا هذا ، وإن بلغن ما بلغن من العلم. فلا إطلاق حينئذٍ مع هذا الانصراف. ولمّا كانت المرجعية خلافة إلهية في الأرض في زمن الغيبة الكبرى ، وأنّها تمثّل الإمامة المعصومة ، كما أنّ الإمامة تمثّل النبوّة المطلقة والخاصّة ، ولم يعهد بين الأنبياء والأوصياء امرأة تحمل عبء الرسالة النبوية والولويّة ، مع أنّه قد بلغن بعض النسوة مقام الولاية والاجتهاد ، إلّا أنّه لم يسلّم لهنّ زمام الأُمور لحكمة ربانية.
    وهذا لا يعني النقص الذاتي في المرأة ، بل المرأة في وجودها الخاصّ تكمّل نقص الرجل ، كما أنّ الرجل بوجوده الخاصّ يكمل نقص المرأة ، فإنّ الكمال المطلق
    __________________
    (1) الوسائل : باب 2 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 1.

    ومطلق الكمال لله وحده لا شريك له ، وما دونه من الممكنات مشوب بالنقص ، ولمّا كان الكمال مطلوباً كما جعل الله ذلك في جبلّة الإنسان ، فجعل كمال الرجل بالمرأة ، وكمال المرأة بالرجل ، فكلّ واحد يكمّل الآخر ، ولكلّ واحد جهازه الخاصّ وخلقته الخاصّة ، والله سبحانه يكمل عقل الرجل بعواطف وأحاسيس المرأة ، كما يكمّل عواطف المرأة بعقل الرجل ، فما ورد من نقص حظوظهن أو عقولهن أو إيمانهن ، إنّما بهذا الاعتبار ، فلا فضل للرجل على المرأة ، ولا المرأة على الرجل إلّا بالتقوى ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ، وكما الرجال أُمروا بالعبادات فكذلك النساء ، وكما للرجل أن يصل إلى مقام الولاية الإلهية فيكون وليّ الله ، كذلك المرأة بتربيتها تكون وليّة الله كمريم العذراء ، إلّا أنّه إنّما لا تستلم مناصب المرجعية والقيادة والإمامة العامّة والخاصّة وما شابه ، لما تحمل من صفات خاصّة كالعواطف الشفّافة والأحاسيس المرهفة ، فلا تتناسب هذه المسئوليات الخطرة والمناصب الحسّاسة مع خلقتها وطبيعتها ، كلّ ذلك تمشية للنظام التكويني والاجتماعي على ما يرام ، وما فيه البقاء والديمومة.
    ومنها : ما ورد في النهي عن إمامة النساء لجماعة الرجال ، وإن كانت المرأة يجوز لها أن تؤمّ النساء (1).
    ووجه الاستدلال واضح ، فإنّه إن لم يحقّ للمرأة أن تؤمّ الرجل في صلاته ، فبطريق أولى لا يحقّ للرجل أن يرجع إليها في التقليد والفتاوى.
    __________________
    (1) الوسائل : أبواب 19 و 20 و 23 من أبواب صلاة الجماعة.

    ومنها : سلب الرأي عنها ، فقد ورد
    قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّ امرأتي تقول بقول زرارة ومحمّد بن مسلم في الاستطاعة وترى رأيهما ، فقال (عليه‌السلام) : ما للنساء وللرأي (1).
    فإذا كانت المرأة مسلوبة الرأي فكيف يستند إليها في مقام العمل والتقليد؟! كما ورد الذمّ في متابعة رأي النساء ، فعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : إنّ شرّ الناس هم الذون يكون كلامهم عن رأي النسوان.
    وقال (عليه‌السلام) : فاتّقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ، ولا تطيعوهن في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر.
    وفي هذا المفهوم عدم إطاعة المرأة وأنّه ندامة روايات كثيرة ، فمن يأتي بالمعروف إنّما يأتي به لمعروفيّته لا من باب إطاعة زوجته ، وإذا أُمرنا بالحذر من خيارهن كيف يجوز الرجوع إليهن في التقليد والفتوى؟
    وقد ورد في وصيّة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لولده الحسن (عليه‌السلام) قائلاً : (وإيّاك ومشاورة النساء ، فإنّ رأيهم إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن ، واكفف عليهم من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهن ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ، ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ، ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها في أن تشفع بغيرها ، وإيّاك التغاير في
    __________________
    (1) رجال الكشّي : في ذكر محمّد بن مسلم.

    غير موضع غيرة (1).
    ووجه الاستدلال واضح.
    ونقول : باعتبار بناء العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم ، وأنّهم لا يميّزون في ذلك بين المرأة والرجل ، كما كان في البلوغ والإيمان والعدالة ، وكذلك باعتبار إطلاق أدلّة التقليد ، والرجوع إلى أهل الذكر والفقيه والناظر في الحلال والحرام وغير ذلك ، يقال بعدم اشتراط الرجولة ، إلّا أنّه مع هذه الوجوه المذكورة التي يعلم من مجموعها وإن كان بعضها قابلاً للنقاش سنداً ودلالة ، إنّ الرجولة شرط في المجتهد ومرجع التقليد ، وهذا ما يستفاد من روح الشريعة ومذاق الشارع.
    كما أشار إلى ذلك بعض الأعلام قائلاً : والصحيح أنّ المقلّد يعتبر فيه الرجولية ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه ، وذلك لأنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء إنّما هي التحجّب والتستّر وتصدّي الأُمور البيتية ، دون التدخّل فيما ينافي تلك الأُمور ، ومن الظاهر أنّ التصدّي للإفتاء بحسب العادة جعل النفس في معرض الرجوع والسؤال لأنّهما مقتضى الرئاسة للمسلمين ، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً ، كيف؟ ولم يرضَ بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنّك بكونها قائمة بامورهم ومدبّرة لشؤون المجتمع ومتصدّية للزعامة الكبرى للمسلمين.
    __________________
    (1) نهج البلاغة : 31 ، ويقول محمّد عبده : (أين هذه الوصيّة من حال الذين يصرفون النساء في مصالح الأُمّة ، بل ومن يختصّ بخدمتهن كرامة لهن).

    وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرّعة يفيد الإطلاق ويردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً رجلاً كان أو امرأة) (1) ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    ولا يخفى أنّ معرفة مذاق الشارع أو روح الشريعة أو ما وراء الفقه أو فلسفة الأحكام وغير ذلك ، ممّا يقال في هذا الباب كقولهم بالمقاصد الإسلامية ، إنّما يكون لمن بلغ من العلم والتقوى مرتبة سامية ودرجة عالية ، برجوعه إلى النصوص الشرعية من مصادرها الثابتة في الكتاب والسنّة ، فكلّ يدّعي الوصل بليلى ، ولكن لا تقرّ بذاكا ، كما نشاهد من بعض المتجدّدين يتحدّثون باسم الإسلام وروح الإسلام والشريعة المقدّسة ، وهم لا زالوا في هوامش ألف باء الإسلام.
    الشرط السادس الحرّية :
    يستدلّ على اعتبار الحرّية في المجتهد ومرجع التقليد بوجوه :
    الوجه الأوّل القرآن الكريم :
    في قوله تعالى (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فَ (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ)(2).
    فلا بدّ للعبد أن يكون في خدمة مولاه ، ممّا يمنعه من القيام بالقضاء والإفتاء ، فإنّهما ممّا فيهما الولاية التي قد حجر العبد عنها فإنّه وما بيده لمولاه.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 226.
    (2) النحل : 75.

    وأُجيب عنه : إنّ غاية ما يقتضيه أنّه إنّما لا يرجع إليه مطلقاً ، إلّا مع إذن مولاه ، فلا منافاة في البين ، فما ذكر أخصّ من المدّعى كما هو واضح ، وكذلك إذا كان ممّا يجب عليه الإفتاء فإنّه لا يشترط إذن مولاه ، كما في وجوب الصلاة والعبادات والضرورات العادية ، فلا يتعلّق بها حقّ المولى. وقيل : ليس له أهلية هذا المنصب الجليل ، إلّا أنّ ذلك مجرّد ادّعاء لا دليل عليه. وجلالة المنصب لا تمنع من نفوذ حكمه أو مطابقة العمل مع فتواه ، بعد كونه جامعاً لسائر الشرائط.
    الوجه الثاني الأولويّة :
    فقد اعتبر الحرية جملة من الأصحاب في باب القضاء ، بل حكيت الشهرة على اعتبار ذلك ، ونسب في المسالك إلى مذهب الأكثر ومنهم الشيخ وأتباعه ، قال : لأنّ للقضاء ولاية والعبد ليس محلّا لها ، لاشتغاله عنها باستغراق وقته لحقوق المولى ، ولأنّه من المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد انتهى قوله.
    ويلحق به الإفتاء لوحدة الملاك وللأولويّة.
    وأُجيب عنه : لقد اختلف الأصحاب في اعتبارها في باب القضاء ، فقد قال المحقّق في الشرائع : وهل يشترط الحرّية؟ قال في المبسوط : نعم ، والأظهر أنّه ليس شرطاً ، وفي مختصر النافع : وفي اشتراط الحرية تردّد والأشبه أنّه لا يشترط. فإذا كانت الحريّة غير ظاهرة في القضاء فكيف بباب الإفتاء ، كما ربما يقال بالفرق بين البابين وبالاحتمال يبطل الاستدلال. فتأمّل.
    وصفة العبودية لا تمنع في كثير من الأحكام إلّا ما خرج بالدليل كالحدود والديات وبعض أحكام العبادات.

    الوجه الثالث الشهرة الفتوائية :
    وهي وإن كانت من الظنّ المطلق الذي لا حجّية فيها بالأدلّة الأربعة ، كما أثبتها شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) في فرائد أُصوله ، ومن تبعه من تلامذته حتّى المعاصرين ، إلّا أنّه ممّا يوجب الاحتياط والتوقّف في المسألة ، فاعتبار الحرية ممّا لا يعتبرها العقلاء في بنائهم وسيرتهم ، فإنّهم لا يفرّقون في رجوع الجاهل إلى العالم بين كونه عبداً أو حرّا ، وكذلك مقتضى الأدلّة عدم الفرق بينهما ، وإنّ وزان العبودية ليس وزان الجنون والكفر والفسق ونحوها ، ممّا يوجب المنقصة للمتّصف بها ، ويأبى ارتكاز المتشرّعة تصدّي من به منقصة دينية أو دنيوية للمرجعية والفتوى ، والعبودية ليست منقصة بوجه ، كيف وقد يكون بعض العبيد أرقى مرتبة من غيره ، بل ربما يكون ولياً من أوليائه ، وقد بلغ مرتبة النبوّة كلقمان الحكيم أو النبيّ على اختلاف الأقوال ، وحينئذٍ لم تكن العبودية منافية لمنصب الإفتاء الذي هو دونهما كما لا يخفى.
    فالأحوط اعتبار الحرية في مرجع التقليد خروجاً عن مخالفة الشهرة المحكيّة في المقام ، والذي يسهّل الخطب عدم كونه محلا للابتلاء.
    الشرط السابع الاجتهاد المطلق :
    المجتهد المطلق يقابله المجتهد المتجزّي ، وقد مرّ بيان الفرق بينهما بالتفصيل ، وأنّه منهم من أنكر التجزّي في الاجتهاد ، والمختار إمكان ذلك ، بل تحقّقه في الخارج كالمطلق ، كما وقع الاختلاف في تحقّق الاجتهاد وبمجرّد الملكة أي الاجتهاد الشأني

    أو لا بدّ من الفعليّة ، ثمّ يجوز لهما العمل بما استنبطاه من الأدلّة التفصيلية على طبق الموازين الشرعية ، بل قيل بحرمة التقليد عليهما ، لعدم شمول أدلّة التقليد بالنسبة إليهما ، بل بنظرهما يكون من رجوع العالم إلى الجاهل عند اختلاف الفتوى ، أو رجوع العالم إلى العالم فيلزم اللّغو ، وإذا علم صحّة عمله فرجوعه إلى الغير الذي يرى بطلان العمل أو بالعكس يلزمه اجتماع النقيضين أو المتضادّين وهما محال. فيجوز عمل كلّ من المجتهد المطلق والمتجزّي بفتواه ، بل يقال بحرمة عملهما برأي الغير كما هو واضح. فحينئذٍ هل يشترط الاجتهاد المطلق في مرجع التقليد؟
    اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال :
    1 ـ فمنهم من ذهب إلى اشتراط ذلك كما يظهر من عبارة الماتن السيّد اليزدي (قدس‌سره).
    2 ـ وقيل بجواز تقليد المتجزّي مطلقاً كذلك.
    3 ـ وقيل بجواز تقليده فيما اجتهد كما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني (قدس‌سره).
    4 ـ وقيل بوجوب تقليده فيما إذا كان أعلم من المجتهد المطلق في ذلك المقدار الذي اجتهد فيه ، كما ذهب إليه المحقّق البجنوردي.
    5 ـ وقيل : الأقوى جواز تقليد المتجزّي فيما إذا عرف مقداراً معتدّاً به من الأحكام ، ولم يحرز مخالفة فتواه لفتوى الأعلم ، أو لم يكن غيره أعلم منه في ذلك المقدار ، كما ذهب إليه السيّد الخوانساري (قدس‌سره). وهو المختار.
    هذا ، وبناء العقلاء كما هو واضح عدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين المطلق والمتجزّي ، فإنّهم يرجعون إلى الطبيب الأخصّائي في القلب وإن لم يعلم

    بغيره ، بل يقدّمونه على الطبيب العمومي ، فمقتضى بنائهم صحّة تقليد المجتهد المتجزّي ، بل لزومه إذا كان أعلم من المجتهد المطلق ، وإن كان ما استنبطه قليلاً لا يعتدّ به.
    والسيرة كما مرّ من الدليل اللبّي فيؤخذ بالقدر المتيقّن فيها ، وإنّما يتعبّد بها لو أمضاها الشارع المقدّس ، أو لم يردع عنها على اختلاف المباني في حجّية السيرة شرعاً كما مرّ فلا بدّ حينئذٍ من ملاحظة الأدلّة والوجوه الواردة في المقام ، ومقدار دلالتها على الإمضاء أو الردع أو عدمه؟ والوجوه كما يلي :
    الوجه الأوّل القرآن الكريم :
    في آية السؤال في قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(1) ، فإنّ ظاهرها الرجوع إلى كلّ من يصدق عليه عنوان (أهل الذكر) وعرفاً إنّما يصدق على المجتهد المطلق فيتعيّن تقليده ، وعند دوران الأمر بينه وبين المتجزّي تخييرياً ، يقدّم المتعيّن بحكم العقل ، للاشتغال.
    وأُجيب عنه : إنّ الظاهر صدق العنوان على من كان متجزّياً أيضاً فيما إذا استنبط من المسائل المعتدّ بها عرفاً ، لا في مسألة ومسألتين ، وتعيين مثل عنوان (أهل الذكر) إنّما هو بيد العرف ، والعرف ببابك ، وإن أبيت عن شمولها للمتجزّي المستنبط من المسائل المعتدّ بها عرفاً ، فإنّ الآية تكون مُجملة حينئذٍ ، ولا يستدلّ بها للإجمال ، فلم تكن ممضيّة لبناء العقلاء أو رادعة عنه.
    __________________
    (1) النمل : 43.

    وفي آية النفر في قوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(1) ، فبناءً على دلالتها لأصل التقليد ، وأنّ المستفاد من ظاهرها لزوم التحذّر من إنذار المنذر المتفقّه في الدين مطلقاً ، سواء أكان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً استنبط جملة من أحكام الدين ، بل ربما يعمّ من استنبط مسألة أو مسألتين. نعم لا دلالة لها بوجه على وجوبه عند إنذار كلّ منذر وإن لم يصدق أنّه فقيه.
    فيكون نطاق الآية نطاق بناء العقلاء ، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من شمول الآية الشريفة للمتجزّي الذي استنبط جملة من الأحكام ممّا يعتدّ بها عرفاً.
    الوجه الثاني الأخبار الشريفة :
    كمقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها : (ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً).
    وكذلك في حسنة أبي خديجة ، وفيها : (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا).
    فظاهر الروايات باعتبار إضافة المصدر المضاف والجمع المضاف هو اعتبار كون القاضي عارفاً بجميع أحكامهم وناظراً في حلالهم وحرامهم ، ولمّا كان باب الإفتاء وباب القضاء واحداً لوحدة الملاك وهو الحكم فيهما إلّا إذا قام الدليل على وجود الفارق بينهما ، فإنّه يشترط في المجتهد المفتي أن يكون كذلك ، فلا يصحّ الرجوع إلى من كان مجتهداً متجزّياً حتّى لو استنبط ما يعتدّ به من كتاب الطهارة
    __________________
    (1) التوبة : 122.

    والصلاة ، لعدم صدق العناوين (الراوي والناظر والعارف) عليه.
    وأُجيب عنه : إنّ المقبولة في مقابل المنع عن الرجوع إلى حكّام الجور وقضاتهم ، ومن الواضح أنّ قضاتهم لم يكونوا عارفين بجميع الأحكام ، وإنّما عرفوا جملة منها ، وباعتبار مناسبة الحكم مع الموضوع أنّه لا يرجع إليهم بل يرجع إلى من يقابلهم منكم ، وإن كان عارفاً بجملة من أحكامنا وقضايانا وحلالنا وحرامنا ، ثمّ لو اعتبر العلم بجميع الأحكام ، فإنّه لم يتّفق إلّا للأوحدي من الفقهاء ، فيلزم سدّ باب القضاء حينئذٍ.
    وقد ادّعي الإجماع على اشتراط معرفة كلّ الأحكام في باب القضاء والقاضي.
    كما ورد في الأخبار ما يستفاد ذلك ، كرواية أبي خديجة الأُخرى : (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته حاكماً فتحاكما إليه) (1).
    فالظاهر من لفظة (من) للتبعيض ، فمن علم شيئاً قليلاً من أحكامهم يجوز له التصدّي للحكم.
    وقد وقع اختلاف بين نسخة التهذيب ونسختي الكافي والفقيه ، ففيه (من قضايانا) ، وفيهما (من قضائنا) ، والأمر في مقام الدلالة على المطلوب بالرجوع إلى المتجزّي أوضح فيهما. فإنّ ما وصل إلينا منهم في باب القضاء يعدّ من القليل ،
    __________________
    (1) الوسائل : باب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 5.

    ويرجع إلى القاضي الذي يعرف من هذا القليل قليلاً ، فإنّه ظاهر في صحّة الرجوع إلى القاضي العالم بجملة ، وإن كانت قليلة ، إلّا أنّها معتدّة بها من الأحكام ، وكذلك المجتهد المفتي عند الرجوع إليه.
    وربما يقال على نسخة التهذيب ، يشترط أن يكون عالماً بجملة معتدّة بها لمناسبة الحكم والموضوع ، فإنّ من يرى شيئاً من البحر يعني ما يعتدّ به لا أنّه رأى بمقدار إناء ، بخلاف ما رأى شيئاً من ماء الإناء ، فكلّ شيء يختلف سعته وضيقه بحسب نفسه ، ولمّا كان علوم آل محمّد (عليهم‌السلام) بحر لا ينزف فالعالم بشيء من علومهم لا بدّ أن يكون عارفاً بجملة ممّا يعتدّ به. فتأمّل.
    ومن الروايات الشريفة ما جاء في الاحتجاج في الخبر المعروف المنسوب إلى الإمام العسكري (من كان من الفقهاء) فإنّه يرجع إلى الفقيه العارف ، فمن لم يكن من الفقهاء وإن عرف جملة من الأحكام لا يجوز تقليده ، فتدلّ على الرجوع إلى المجتهد المطلق ، إلّا أنّه نوقش سنداً ودلالة كما مرّ ، فإنّه في مقام البيان في الفرق بين عوام اليهود وعوام الشيعة ، كما هو في أُصول الدين الذي لا يجوز في التقليد المصطلح ، أضف إلى أنّه يصدق الفقيه على من عرف جملة معتدّة بها من الأحكام الشرعية.
    الوجه الثالث الإجماع :
    فقد ادّعي الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى المجتهد المتجزّي ، إلّا أنّه غير تامّ في نفسه ، كما إنّ غاية ما يدلّ عليه عدم الرجوع إلى من استنبط مسألة أو مسألتين ، لا المتجزّي المستنبط جملة يعتدّ بها عرفاً.

    وبهذا يقال : لم يقم دليل صناعي يدلّ على اشتراط الاجتهاد المطلق في تقليد المجتهد ، بل ربما نقول بوجوب الرجوع إلى المتجزّي فيما إذا كان أعلم من المطلق فيما استنبطه ، وكان مخالفاً له. فتدبّر.
    الوجه الرابع الأخبار الخاصّة :
    الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين كالرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وأمثاله من أكابر الفقهاء والرواة ، فلا تدلّ على مطلق الرجوع حتّى إلى من عرف مسألة أو مسألتين.
    إلّا أنّه أُجيب عنه : إنّها ليست بظاهرة في الحصر لتدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم من العلماء والمبلّغين.
    الشرط الثامن الحياة :
    لقد مرّ الكلام بالتفصيل في ذيل المسألة التاسعة من العروة الوثقى ، حول اشتراط الحياة في التقليد الابتدائي ، كما ذكرنا البقاء على تقليد الميّت ، وأنّه في بعض الصور يجب البقاء عليه فيشترط في المجتهد المقلّد أن يكون حيّاً ، فإنّ الأصل الأوّلي عند الشكّ في اعتبار الحياة في مرجع التقليد وحجّية فتواه هو جواز تقليده لو كان حيّاً ، فهذا هو القدر المتيقّن من أدلّة مشروعية التقليد. كما إنّ الاشتغال العقلي عند الدوران بين التعيين والتخيير يقتضي ذلك ، فإنّه يتيقّن بفراغ الذمّة بتقليد الحيّ ، والاشتغال اليقيني يستلزم الفراغ اليقيني ، كما لم يفتِ أحد بتعيّن تقليد الأعلم ابتداءً ، والرجوع إلى الحيّ ممّا تسالم عليه الأصحاب ، وما يقال من بناء العقلاء

    بعدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين الحيّ والميّت ، فإنّه لم يثبت إمضاء الشارع بذلك ، أو عدم ردعه بذلك ، بل لم يتعارف الرجوع إلى فتوى الميّت في الصدر الأوّل ، فإنّه لم يكن تدوين الكتب متعارفاً آن ذاك ، وظاهر حجّية فتوى الفقيه هو فتوى الحيّ من الفقهاء ، فيكون رادعاً عن السيرة ، وإطلاق الأدلّة يزول بأدنى تأمّل ، كما إنّ الظاهر من العناوين المأخوذة فيها فعليّتها لا مطلقاً ، فالحيّ يتّصف بتلك الأوصاف الفقيه العارف المنذر الراوي أهل الذكر وما يقال من الاستصحاب فهو مدفوع كما مرّ تفصيله ، فلا نعيد طلباً للاختصار.
    ويدلّ على اشتراط الحياة الإجماع كما حكي ذلك عن جملة من الأعاظم كالمحقّق الثاني في شرح الألفية ، والشهيد الثاني في المسالك ، وولده في المعالم ، والوحيد في الفوائد حتّى اشتهر بين العامّة أنّ قول الميّت كالميّت. ولا يقدح مخالفة الأخباريين والمحقّق القمّي بمعقد الإجماع كما مرّ ، فيفيد الإجماع عن حجّة معتبرة عند القدماء ، وبمثل هذا يشترط الحياة في من يرجع إليه في التقليد.
    فالمختار : اعتبار الحياة في التقليد الابتدائي.
    الشرط التاسع الأعلميّة :
    لقد مرّ أيضاً تفصيل مسألة الأعلميّة في المسألة الثانية عشر من العروة الوثقى ، وكان المختار الأحوط وجوباً تقليد الأعلم لا مطلقاً كما عند السيّد اليزدي (قدس‌سره) بل فيما إذا علم بوجود الأعلم وبمخالفته في الفتاوى لغيره إجمالاً أو تفصيلاً ، ولم يكن قول الغير مطابقاً للاحتياط ، وإلّا فعند عدم العلم بالمخالفة ، فإنّه

    يجوز الرجوع إلى أيّهما شاء ، فالأعلمية ليست شرطاً لجواز أصل التقليد ، وإنّما تعتبر عند العلم بالمخالفة.
    الشرط العاشر أن لا يكون متولّداً من الزنا (طهارة المولد):
    من الواضح أنّ مقتضى بناء العقلاء وإطلاق الأدلّة اللفظيّة عدم اعتبار عدم طهارة المولد في مرجع التقليد ، فإنّه لا فرق عندهم في أصل رجوع الجاهل إلى العالم بين أن يكون طاهر المولد أو ابن الزنا. إلّا أنّه هل ورد الردع عن هذه السيرة العقلائيّة حتّى يكون اعتبار طهارة المولد في المرجع تعبّداً؟
    لقد اختلف الأصحاب في كفر ابن الزنا ونجاسته وعدم فلاحه وخبث سريرته.
    فقد حكي عن السيّد المرتضى والصدوق والعلّامة الحلّي وجماعة القول بنجاسته ، وادّعي الإجماع عليه.
    إلّا أنّه ذهب المشهور إلى إسلامه وطهارته.
    فإن قيل بكفره ونجاسته فيكون شرط طهارة المولد داخلاً في اعتبار الإيمان والإسلام.
    وإن قيل بإسلامه وطهارته ، فحينئذٍ يقع الكلام في اشتراط مرجع التقليد أن لا يكون ابن الزنا. كما ذهب إليه المشهور ويدلّ على ذلك وجوه :
    الأوّل تنقيح المناط الاطمئناني :
    فإنّه ورد في إمام الجماعة وكذلك في قبول الشهادة أن لا يكون ابن الزنا ،

    وبالأولويّة وفحوى المقام والكلام يعتبر ذلك في مرجع التقليد أيضاً. كما أشار إلى ذلك الشهيد الثاني في مسالكه قائلاً : (فلقصور ولد الزنا عن تولّي هذه المرتبة حتّى أنّ إمامته وشهادته ممنوعتان فالقضاء أولى).
    ومن النصوص الدالّة على اعتبار طهارة المولد في إمام الجماعة كما عليه الفتوى :
    1 ـ في خبر أبي بصير ليث المرادي :
    محمّد بن يعقوب عن جماعة عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن الحسين بن عثمان عن ابن مسكان عن أبي بصير يعني ليث المرادي :
    عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، قال : خمسة لا يؤمّون الناس على كلّ حال : وعدّ منهم المجنون وولد الزنا (1).
    ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب مثله.
    2 ـ وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ، قال : قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : لا يصلّينّ أحدكم خلف المجنون وولد الزنا. الحديث ورواه الصدوق مرسلاً.
    3 ـ محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام)
    __________________
    (1) الوسائل 3 : 397 ، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1 ، باب وجوب كون الإمام بالغاً عاقلاً طاهر المولد وجملة ممّن لا يقتدى بهم.

    أنّه قال : خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة ، وعدّ منهم ولد الزنا.
    4 ـ وفي الخصال عن أبيه عن سعد عن أحمد بن محمّد عن العباس بن معروف عن أبي جميلة عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يقول : ستّة لا ينبغي أن يؤمّوا الناس : ولد الزنا والمرتدّ والأعرابي بعد الهجرة وشارب الخمر والمحدود والأغلف. الحديث ورواه ابن إدريس في آخر (السرائر) نقلاً من رواية كتاب أبي القاسم بن قولويه عن الأصبغ بن نباتة مثله (1).
    وأمّا عدم قبول شهادة ولد الزنا :
    1 ـ محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبان عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟ فقال : لا ، فقلت : إنّ الحكم بن عُتيبة يزعم أنّها تجوز ، فقال : اللهمّ لا تغفر ذنبه ما قال الله للحكم (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). ورواه الصفّار في (بصائر الدرجات) عن السندي بن محمّد عن جعفر بن بشير ، عن أبان بن عثمان مثله ، وعن علي بن إبراهيم عن صالح بن السندي عن جعفر بن بشير مثله. ورواه الكشّي في كتاب (الرجال) عن محمّد بن مسعود عن عليّ بن الحسن بن فضّال عن العباس بن عامر عن جعفر بن محمّد بن حكيم عن أبان بن عثمان مثله. وزاد :
    __________________
    (1) الوسائل 18 : 276 ، باب 31 من أبواب الشهادات ، الحديث 1 3.

    فليذهب الحكم يميناً وشمالاً ، فوالله لا يوجد العلم إلّا في أهل بيت نزل عليهم جبرئيل.
    2 ـ وعن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي أيوب الخزّاز عن محمّد بن مسلم قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا تجوز شهادة ولد الزنا. ورواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن إبراهيم والذي قبله بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أحمد بن حمزة عن أبان مثله إلى قوله : لا تغفر ذنوبه.
    3 ـ وعن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن ابن فضّال عن إبراهيم بن محمّد الأشعري عن عبيد الله بن زرارة عن أبيه قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً ، لأنّه لا تجوز شهادته ولا يؤمّ الناس. محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يحيى مثله. وفي الباب روايات اخرى تدلّ على المطلوب ، إلّا أنّه ورد في الخبر ما يعارضه.
    عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال : سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال : نعم ، يجوز شهادته ولا يؤمّ.
    قال صاحب الوسائل : هذا محمول على التقيّة لما مرّ. ورواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه إلّا أنّه قال : لا يجوز شهادته ولا يؤمّ.
    محمّد بن مسعود العياشي في تفسيره عن عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز شهادته ولا يؤمّ بالناس ، لم يحمله نوح في السفينة ، وقد حمل فيها الكلب والخنزير.

    وعن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا.
    فلو كان حال ولد الزنا هكذا ، ولم يرضَ الشارع بإمامته في الجماعة ولم تقبل شهادته ، فكيف يرضى بزعامته للمذهب وللمسلمين ورجوعهم إليه في أُمورهم الدنيوية والدينية؟! ويظهر من السيّد علم الهدى في (الانتصار) أنّ الوجه في عدم قبول شهادته عدم عدالته وقال : ونحن قاطعون على خبث باطنه وقبح سريرته ، ولا تقبل شهادته لأنّه عندنا غير عدل ولا مرضي ، فعلى هذا الوجه يجب أن يقع الاعتماد) انتهى كلامه.
    والذي يستفاد من مذاق الشارع المقدّس من خلال النصوص الشرعية أنّ المرجعية خلافة إلهية في زمن الغيبة الكبرى تنوب الإمامة الحقّة والنبوّة الصادقة ، فلا بدّ لمرجع التقليد أن يكون كاملاً بعقله ودينه وإيمانه وعدالته ، بعيداً عن كلّ ما يشينه من المنقصة الذاتية ، وممّا يوجب تنفّر الناس منه وكون الرجل ولد الزنا منقصة ذاتية تسقطه عن الأنظار ، وإن بلغ ما بلغ من العلم والورع ، فإذا ورد في وصف الفقهاء أنّهم أُمناء الله وخلفاء رسوله في الأرض ، وأنّهم ورثة الأنبياء ، ووسائط بين الخالق والخلق ، فإنّه مع هذه الأوصاف يستبعد جدّاً أن يفوّض مثل هذا المقام الشامخ والعظيم بعد النبوّة والإمامة التي يشترط فيها العصمة إلى ابن الزنا؟! أو الفاسق والكافر؟!
    ثمّ لا يخفى إنّ عدم الرجوع في التقليد إلى ولد الزنا لا باعتبار المنقصة فيه ،

    بل ربما يكون عند الله عظيماً ، إنّما ذلك باعتبار أنّ تصدّيه للمرجعيّة وزعامته للمسلمين ممّا يوجب وهن الشريعة المقدّسة ومهانة مقام المرجعيّة. وهذا المعنى لا يختصّ بولد الزنا ، بل كلّ ما يوجب الوهن فإنّه يشترط عدمه.
    الشرط الحادي عشر أن لا يكون مقبلاً على الدنيا :
    ورد في عبارة السيّد اليزدي كون مرجع التقليد غير مقبل على الدنيا وطالباً لها ، ومكبّاً عليها ومجدّاً في تحصيلها ، ثمّ أردف هذه الأوصاف ما جاء في الخبر الشريف : (من كان من الفقهاء ..).
    وظاهر قوله إنّ هذا شرط آخر غير شرط العدالة الذي ذكره من قبل ، فلو كان المراد نفس العدالة المذكورة لما فصل بينهما.
    والظاهر أنّ دليل اعتبار هذا الشرط ما ورد في الخبر الشريف في الاحتجاج عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه‌السلام) وقد ذكر الخبر تكراراً ، كما ذكرناه وما جاء من المناقشات السندية والدلالية حوله ، فمن الأعلام من أراد توثيق السند كما يظهر من الشيخ الحرّ العاملي في وسائله في الخاتمة ، قائلاً :
    نروي تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه‌السلام) بالإسناد عن الشيخ أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن الصدوق عن محمّد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي عن يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سيّار قال الصدوق والطبرسي وكانا من الشيعة الإمامية عن أبويهما عن الإمام (عليه‌السلام) وهذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض العلماء الرجال ، لأنّ ذاك يروي عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام)

    وهذا عن أبي محمّد (عليه‌السلام) ، وذاك يرويه سهل الديباجي عن أبيه وهما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلاً ، وذاك فيه أحاديث من المناكير وهذا خالٍ من ذلك ، وقد اعتمد عليه رئيس المحدّثين ابن بابويه فنقل عنه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وفي سائر كتبه وكذلك الطبرسي وغيرهما من علمائنا (1).
    وقال العلّامة النوري في خاتمة المستدرك (إنّ شيخنا الصدوق أكثر من النقل عن التفسير في أغلب كتبه كالفقيه والأمالي والعلل وغيرها واعتمد على ما فيه كما لا يخفى على من راجع مؤلفاته ، وتبعه على ذلك أساطين المذهب وسدنة الأخبار ، فعدّ منهم الشيخ الطبرسي في الاحتجاج ، والقطب الراوندي في الخرائج ، وابن شهرآشوب في المناقب ، والمحقّق الكركي في إجازته لصفيّ الدين الحلّي ، والشهيد الثاني في المنية ، والمجلسي الأوّل في شرح المشيخة ، وابنه العلّامة المجلسي في البحار ، والأُستاذ الأكبر في التعليقة ، والمحدّث البحراني والشيخ سليمان في الفوائد النجفيّة ، والشيخ الحرّ العاملي والمحدّث الجزائري والشيخ سليمان الحلّي تلميذ الشهيد الثاني والشيخ عبد العلي الحويزي في نور الثقلين إلى غير ذلك من الأعلام (2).
    وقد مرّ مناقشة سيّدنا الخوئي (قدس‌سره) في سند التفسير كما يظهر من جماعة تضعيفه ، كالعلّامة في الخلاصة قائلاً : محمّد بن القاسم أو أبو القاسم المفسّر الأسترآبادي روى عنه ، أبو جعفر بن بابويه ضعيف كذّاب ، روى عنه تفسيراً
    __________________
    (1) الدرّ النضيد 1 : 454 ، عن الوسائل 20 : 59.
    (2) المصدر : 455 ، عن مستدرك الوسائل 3 : 661.

    يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يعرف بيوسف بن محمّد بن زياد ، والآخر بعليّ ابن محمّد بن سيّار ، عن أبويهما عن أبي الحسن الثالث (عليه‌السلام) ، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير) (2).
    والشيخ النوري في مستدركة يرى أنّ هذا التضعيف من العلّامة لم يسبقه سوى ابن الغضائري ، كما لم يلحقه أيضاً سوى المحقّق الداماد. وعن نقد الرجال إنّ ما ذكره العلّامة في الخلاصة أخذ بعينه عن ابن الغضائري ، كما أنّ ما عن السيّد الداماد لم يزد على ما في الخلاصة شيئاً.
    والعلّامة الطهراني وافق شيخه في اعتبار التفسير ، وأجاب عن المناقشات الواردة لتضعيف التفسير ، كما ضعّف كتاب الضعفاء المنسوب إلى ابن الغضائري. فتدبّر وتأمّل في مقولات القوم لينكشف لك الأمر ، والمختار أنّ النفس لتطمئنّ بهذا المقطع من الحديث الطويل (فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم).
    وشيخنا الأعظم عند ذكره الروايات الدالّة على حجّية الخبر الواحد بعد أن أورد العبارة المذكورة ، قال : (إذا هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق).
    وربما يجبر ضعف السند علوّ المتن والمضمون ، وكذلك اعتماد جملة من الأعلام عليه كما استدلّ الماتن على الشرط الحادي عشر بهذا الخبر. فتأمّل.
    __________________
    (2) الدرّ النضيد 1 : 455 ، عن خلاصة الرجال : 256.

    ثمّ قد وقع نقاش بين الأعلام من المعلّقين على العروة ، بأنّ ما ذكره السيّد إنّما هو تفسير العدالة ، فلا يستفاد من الخبر أكثر من اشتراط العدالة ، وذهب جمع إلى أنّه شرط آخر زيادة في العدالة. وقيل : إنّما يدلّ الخبر على اعتبار الوثوق في النقل والتحرّز من الكذب ، كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قائلاً : إنّ ظاهر الخبر وإن كان اعتبار العدالة بل ما فوقها ، ولكن المستفاد من مجموعة أنّ المناط في التصديق هو التحرّز من الكذب فافهم (1).
    كما أنّ السيّد الحكيم (قدس‌سره) في مستمسكه بعد الإشكال على دلالته ، وأنّه لا يدلّ على أكثر من اعتبار الأمانة والوثوق قال : (كما يظهر من ملاحظة مجموع الفقرات وإن كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة) (2).
    والسيّد الخوئي في تقريراته يذهب : إلى أنّ المستفاد منه اعتبار العدالة من جهة الأمن عن الخيانة والكذب لا من جهة التعبّد ، وإن حصل الوثوق به فإنّه (عليه‌السلام) بعد أن ذكر أوصاف الفقيه الذي للعوام أن يقلّدوه قال : (وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب العامة فلا تقبلوا منهم شيئاً ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ..) الحديث فإنّه علّل (عليه‌السلام) عدم القبول
    __________________
    (1) المصدر : 458 ، عن فرائد الأُصول ، مبحث حجّية الظنّ : 80.
    (2) المستمسك 1 : 46.

    من الفسقة بالتحريف إمّا لجهلهم أو لتعمّد الكذب ومحلّ الكلام هو بعد الفراغ عن الوثوق به) (1).
    ويرد عليهم أنّ ظهور قوله (عليه‌السلام) (من كان من الفقهاء ..) هو اعتبار العدالة بل أمر زائد على ذلك ربما تشبه العصمة الأفعالية التي تتلو العصمة الذاتية. والظواهر حجّة. كما ربما يكون لكلّ فقرة مراده وحكمه الخاصّ ، فلا يلاحظ مجموع الفقرات ، كما لا تنافي بين أن يستفاد من هذه الفقرة الشريفة العدالة أو ما فوقها ، ومن الفقرات الأُخرى الوثوق والتحرّز من الكذب ، فتأمّل.
    هذا وظاهر الخبر الشريف الذي يستدلّ به في كثير من الموارد كأصل التقليد واعتبار الإيمان في مرجع التقليد وعدالته وغير ذلك. أنّه يشترط في مرجع التقليد (زيادة على العدالة التي تذكر في موارد كثيرة كإمامة الجماعة وشهادة الشاهد) أن يتّصف المرجع بهذه الأوصاف : صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه ، أو بعبارة اخرى أن لا يكون مكبّاً على الدنيا ومقبلاً عليها إلى آخر ما ذكره الماتن السيّد اليزدي (قدس‌سره) ، فيشترط المرتبة العالية من العدالة في مرجع التقليد.
    إلّا أنّه يظهر من كلمات جماعة من الأعلام أنّ الصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة عن العدالة ، لا شرطاً زائداً عليها.
    فقد جاء في التنقيح : (إنّه لا مساغ للأخذ بظاهرها وإطلاقها حيث أنّ لازمه
    __________________
    (1) دروس في فقه الشيعة 1 : 123.

    عدم جواز الرجوع إلى من ارتكب أمراً مباحاً شرعياً لهواه إذ لا يصدق معه أنّه مخالف لهواه ، لأنّه لم يكن مخالفاً لهواه حتّى في المباحات ، ومن المتّصف بذلك؟! غير المعصومين (عليهم‌السلام) ، فإنّه أمر لا يحتمل أن يتّصف به غيرهم ، أو لو وجد فهو في غاية الشذوذ ، ومن ذلك ما قد ينسب إلى بعض العلماء من أنّه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته ، وإنّما كان يأتي به مقدّمة لأمر واجب أو مستحبّ ، إلّا أنّه ملحق بالعدم لندرته ، وعلى الجملة إن أُريد بالرواية ظاهرها وإطلاقها لم يوجد لها مصداق كما مرّ ، وإن أُريد بها المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع دون المباحات فهو عبارة أُخرى عن العدالة ، وليس أمراً زائداً عليها ، وقد ورد : إنّ أورع الناس من يتورّع عن محارم الله ، ومع التأمّل في الرواية يظهر أنّ المتعيّن هو الأخير ، فلا يشترط في المقلَّد زائداً على العدالة شيء آخر) (1).
    وفي تعليق العلّامة الفقيه الأصفهاني : إنّ الإقبال على الدنيا وطلبها إن كان على الوجه المحرّم فهو يوجب الفسق المنافي للعدالة ، فيغني عنه اعتبارها ، وإلّا فليس بنفسه مانعاً عن جواز التقليد ، والصفات المذكورة في الخبر ليست إلّا عبارة أُخرى عن صفة العدالة (2).
    ويقول السيّد البروجردي (قدس‌سره) : إنّ المعتبر من عدم كونه مقبلاً للدنيا هو المقدار الذي يعتبر في العدالة ، والخبر لا يدلّ على أزيد من ذلك أيضاً.
    __________________
    (1) التنقيح 1 : 236.
    (2) الدرّ النضيد 1 : 461.

    أقول : ما يظهر من الخبر الشريف هو المرتبة العالية من العدالة باعتبار مناسبة الحكم والموضوع ، وأمّا المراد من قوله (عليه‌السلام) : مخالفاً لهواه ليس المباحات حتّى يقال باختصاصه بالمعصومين (عليهم‌السلام) ، بل الناس دون أهل العلم بدرجة ، فإذا كان العلماء لا سيّما الفقهاء يأتون بالمستحبّات فضلاً عن الواجبات ، فإنّ الناس سيأتون بالواجبات ، وإذا كان أهل العلم يتجنّبون المكروهات فضلاً عن المحرّمات ، فإنّ الناس يتركون المحرّمات كما أشار إلى هذا المعنى الجليل الثابت بالوجدان الشهيد الثاني في منيته وحينئذٍ ربما المقصود من قوله (عليه‌السلام) مخالفاً لهواه أنّه لا يرتكب المكروهات ، وهذه غير العدالة التي تعني إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، التي يشترط في إمام الجماعة.
    ولمّا كانت المرجعية بمنزلة الإمامة والنبوّة ، وأنّها زعامة دينية ودنيوية ، يعلم من مذاق الشارع المقدّس أنّ عدالة المرجع فوق عدالة الناس ، وما ورد أنّ أورع الناس من اجتنب المحارم ، فهو بالقياس إلى الناس ، أمّا الأورعية في المجتهد ومرجع التقليد فإنّها مرتبة عالية من الورع فوق اجتناب المحرّمات ودون اجتناب المباحات ، فاجتناب المحارم لعامّة الناس واجتناب المباحات للمعصومين ، واجتناب المكروهات لمراجع التقليد ، فإنّهم الواسطة بين الناس والإمام المعصوم (عليه‌السلام). فهم في التقوى دون الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) وفوق الناس. وهذه المرتبة من العدالة والتقوى تناسب مقام المرجعية والفتوى.
    قال العلّامة الاصطهباناتي (قدس‌سره) في تعليقته على العروة : إنّ مراد الماتن بملاحظة ما يأتي في مطاوي كلماته من تقديم العدل الأورع على العدل الورع هو

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » القول المبين
    »  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 48- منتدى الفقه-
    انتقل الى: