الحارة فيطرحها في القدر التي يطبخ فيها السكر ثم يخرجها وقد امتلأت سكرا فينصرف بها.
وسافرت من منلوي المذكورة إلى مدينة منفلوط (171) وهي مدينة حسن رواؤها ، مؤنق بناؤها ، على ضفة النيل ، شهيرة البركة ، وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم اللام وآخرها طاء مهمل.
حكاية [منبر ملك الناصر]
أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمهالله أمر بعمل منبر عظيم محكم الصنعة بديع الإنشاء برسم المسجد الحرام زاده الله شرفا وتعظيما ، فلما تم عمله أمر أن يصعد به في النيل ليجاز إلى بحر جدة ، ثم إلى مكة شرفها الله ، فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط وحاذى مسجدها الجامع وقف وامتنع من الجري مع مساعدة الريح ، فعجب الناس من شأنه أشد العجب وأقاموا أياما لا ينهض بهم المركب فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمهالله ، فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط ففعل ذلك ، وقد عاينته بها.
ويصنع بهذه المدينة شبه العسل يستخرجونه من القمح ويسمونه النّيدا (172) يباع بأسواق مصر.
وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط (173) وهي مدينة رفيعة ، أسواقها بديعة ، وضبط اسمها بفتح الهمزة والسين المهملة والياء آخر الحروف وواو وطاء مهملة ، وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب" بحاصل ما ثمّ" لقب شهر به ، وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لابناء السبيل فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد
__________________
(171) تقع منفلوط على نحو عشرين كيلوميتر شمال أسيوط ، عرف بها ابن الوزّان وذكر أنه لا تزال بها أعمدة غليظة ومرتفعة وبوابات كتبت عليها أشعار باللغة المصرية ، ويعثر السكان فيها على مداليات تحمل على الوجه الواحد حروفا مصرية وعلى الوجه الآخر صورا لملوك قدامي ... ولا يوجد في الصعيد ما يضاهيها على حدّ تعبير ابن جبير.
(172) النّيدا عبارة عن قمح ينقع في الماء لبضعة أيام ييبّسونه ويسحقونه ويطبخونه ...
(173) كانت أسيوط مقر إقامة الحاكم العام لمصر العليا على ما يقوله ابن دقماق ، وسنرى أن ابن بطوطة يجعل مدينة قوص هي مقر الحاكم ، وقد تحدث ابن جبير عن أسوارها ، وبعد ذلك ذكر ياقوت أن بها نحوا من خمسة وسبعين كنيسة ...
القاضي بها فيعطيه ما قدر له ، فكان هذا القاضي إذا أتى الفقير يقول له : (حاصل ما ثم)(174)! أي لم يبق من المال الحاصل شيء ، فلقّب بذلك ولزمه.
وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ ، أضافني بزاويته ، وسافرت منها إلى مدينة إخميم (175) وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان ، عجيبة الشأن بها البربي المعروف باسمها ، وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل ، لا تفهم في هذا العهد وصور الأفلاك والكواكب ، ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب ، وبها صور الحيوانات وسواها ، وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها.
وكان بإخميم رجل يعرف بالخطيب أمر على هدم بعض هذه البرابي وابتنى بحجارتها مدرسة ، وهو رجل موسر معروف بالإيثار ، ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البربى. ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس بن عبد الظاهر ، (176) وبها تربة جدّه عبد الظاهر ، وله من الاخوة ناصر الدين ومجد الدين وواحد الدين ، ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعا بعد صلاة الجمعة ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده وقاضي المدينة الفقيه مخلص وسائر وجوه أهلها فيختمون القرآن ويذكرون الله إلى صلاة العصر ، فإذا صلوها قرأوا سورة الكهف ثم انصرفوا.
وسافرت من إخميم إلى مدينة (هو) (177) مدينة كبيرة بساحل النيل ، وضبطها بضم الهاء، نزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج ورأيتهم يقرءون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبا من القرآن ثم يقرءون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسنى من كبار الصالحين.
__________________
(174) اسم لا يخلو من طرافة : أي لا يوجد شيء يمكن أن يطمع فيه! وسمعت العراقيين يقولون : " حاصل ماكو" أي لا يوجد محصول!!
(175) تقع على النيل غير بعيدة عن سوهاج ، كان ابن بطوطة دقيقا في وصف إخميم (PANOPOLIS) أو (KHEMMIS) وكان صادقا عندما تحدث عن كتابات الأوائل التي لم تفهم في عهده ... وقد أتيح لي أن أزورها رفقة الأميرة على ما أسلفت وأشاهد صور الأفلاك والكواكب بها ... والنسر الطائر : مجموعة من النجوم معروفة بمشابهتها للنسر ... ويلاحظ أن ابن بطوطة لم يذكر غير هذا المعبد حتى ولو معبد الأقصر!
(176) أبو العباس بن عبد الظاهر بن عبد الوالي من ذرية جعفر أخي علي بن أبي طالب Gibb T.I p ـ ـ ـ ـ ـ 56 Note 402
(177) مدينة هو (DIOSPOLIS PARVA)) HIW (: تقع على النّيل منتصف الطريق بين جيرگا وقنا ...
كرامة له
دخلت إلى هذا الشريف متبركا برؤيته والسلام عليه فسألني عن قصدي ، فأخبرته ، إني أريد حج البيت الحرام على طريق جدة ، فقال لي : لا يحصل لك هذا في هذا الوقت فارجع وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي فانصرفت عنه ولم اعمل على كلامه ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب فلم يتمكن لي السفر فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام ، وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أخبرني الشريف نفع الله به.
ثم سافرت إلى مدينة قنا وهي صغيرة حسنة الاسواق ، واسمها بقاف مكسورة ونون ، وبها قبر الشريف الصالح الوالي صاحب البراهين العجيبة ، والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه (178) ، ورأيت بالمدرسة السّيفية منها حفيده شهاب الدين أحمد.
وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص (179) وهي بضم القاف مدينة عظيمة ، لها خيرات عميمة ، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ، ولها المساجد الكثيرة ، والمدارس الأثيرة ، وهي منزل ولاة الصعيد ، وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين ابن عبد الغفار ، وزاوية الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة ، ومن علمائها القاضي بها جمال الدين بن السديد (180) ، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد (181) أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك ، لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري ، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي وسيقع ذكرهما ، ومنهم
__________________
(178) لعلّ القصد إلى الشيخ عبد الرحيم بن أحمد بن حجون بن محمد القنائي المتوفى عام 592 ـ 1196 ، من كبار النساك ، مغربي الأصل ولد في إحدى قرى سبتة ، أقام بمكة سبع سنين واستقر في قنا ... الأعلام ، الزركلي 4 ، 118.
(179) قوص (QUS) حسب ابن دقماق فإنها كانت مقرّ القيادة العسكرية في مصر العليا ، وفي أيام ابن جبير كانت قوص نقطة انطلاق القوافل نحو عيذاب ...
(180) القصد إلى محمد بن عبد الوهاب بن علي الأسنائي جمال الدين ابن السديد ، درس الفقه على البهاء القفطي وأجازه بالفتوى وأخذ بالقاهرة عن الدمياطي وابن دقيق العيد وابن جماعة وأبي حيان ، ولى العقود بالقاهرة وناب في الحكم ، ثم قسّم الجلال القزويني عمل قوص بينه وبين القمولي ، توفي عام 1339 739 ـ الدرر الكامنة 4 ، 155.
(181) القصد إلى محمد بن عثمان بن علي بن وهب بن دقيق العيد ، ويلقب بجلال الدين (لا فتح الدين كما عند ابن بطوطة) سمع من جده ومن الدمياطي واشتغل في المذهبين ، وكان ابن جماعة يكرمه ويبره وكتب له بتدريس دار الحديث بقوص ، أدركه أجله بالقاهرة سنة 726 ـ 1326 ـ 1327. ـ ابن حجر : الدرر 4 ، 162.
الفقيه بهاء الدين بن عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية ، ومنهم الفقيه برهان الدين ابراهيم الأندلسي له زاوية عالية.
ثم سافرت إلى مدينة الأقصر (182) وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل ، وهي صغيرة حسنة وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصرى (183) وعليه زاوية ، وسافرت منها إلى مدينة أرمنت ، (184) وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء معلوة، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النّيل ، أضافني قاضيها وأنسيت اسمه ، ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا (185) وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون ، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ، ضخمة المنافع ، كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع ، لها أسواق حسان وبساتين ذات أفنان ، قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين ، أضافني وأكرمني وكتب إلى نوابه بإكرامي ، وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين علي والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص.
ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء. وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء. ثم جزنا النيل من مدينة أدفوا إلى مدينة العطواني ، (187) ومنها اكترينا الجمال ، وسافرنا مع طائفة من العرب تعرف بدغيم ، بالغين المعجمة ، في صحراء لا عمارة بها إلا أنها آمنة السبل ، وفي بعض
__________________
(182) الأقصر (LUXOR) تعني كما هو معلوم جمع قصر حيث معبد الكرنك ... وقد زرتها مرارا وتكرارا ...
(183) لعلّ القصد إلى يوسف بن عبد الرحيم بن عربي القرشي المهدوي الأقصري ، من كبار الصوفية في عصره المتوفى عام 642 ـ 1244 كان من تلامذة الجزولي ، ولا يزال قبره موجودا في قلب معبد أمينوفيس الثالث Gibb T.1 p.76 Note 212. (AMENOPHIS III) الزركلي : الاعلام 9 ص 314.
(184) أرمنت (ARMANT) تقع على نفس خط عرض مدينة الأقصر على الساحل المقابل في النيل وقد وصفها ابن دقماق بتفصيل.
(185) هي بالذات إسنا الحالية ، وقد تحدت ابن دقماق عن إنتاجها الزراعي ، وقال عنها ابن الوزان إن سكانها أثرياء بالحبوب وبالمواشي وبالعملة النقدية لانهم يزاولون التجارة مع النّوبة عن طريق الصحراء وبواسطة النيل ... وفيها معابد وقبور تحمل كتابات بحروف مصرية ...
(186) القصد إلى أدفو الحالية ذات لمشاهد الأثرية الرائعة ... وقد سجلت هنا مذكرات عن الأدلّاء المتخصصين الذين كانوا يقدمون معلومات موثوقة للأميرة المغربية لالة مريم بمناسبة زيارتها الدراسية للمنطقة ..
(187) يقول محمد رمزي في تأليف : القاموس الجغرافي للبلاد المصرية : " لا يزال اسم العطواني معروفا إلى اليوم بنجع العطواني ، وهو من توابع ناحية الرديسية بحرى ، بمركز أدفو بمديرية أسوان" وهكذا فإن افتراضات المعلّقين الأجانب تبقى في ذمّتهم ، وقد دققت الأمر مع الزميل محمد مستجاب ونحن في شرعم الشيخ أثناء زيارة أعضاء مجمع اللغة العربية لمحافظة جنوب سيناء يوم 5 أبريل 1995.
منازلها (188) نزلنا (حميثرا) حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي ، وقد ذكرنا كرامته في إخباره أنه يموت بها ، وأرضها كثيرة الضباغ ، ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع ، ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلا كان به واجترّت منه جراب تمر وذهبت به ، فوجدناه لما أصبحنا ممزقا مأكولا معظم ما كان فيه.
ثم لما سرنا خمسة عشر يوما وصلنا إلى مدينة عيذاب (189) وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن ويحمل اليها الزرع والتمر من صعيد مصر ، وأهلها البجاة (190) وهم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفرا ويشدون على رؤوسهم عصايب يكون عرض العصابة منها أصبعا وهم لا يورّثون البنات ، وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري (191) ويسمونها الصّهب ، وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة وهو يعرف بالحدربي (192) بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء ، وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني (193) شهير البركة رأيته وتبركت به ، وبها الشيخ الصالح موسى ، والشيخ المسن محمد
__________________
(188) كانت دغيم تتولّى حماية المسلك الرابط بين قوص ـ وهي مركز تجاري وعلمي متميز ـ وميناء عيذاب الهام جدا ... وقد أسهب التجيبي في الحديث عن أمانتهم وحسن صوتهم في الحداء. مستفاد الرحلة والاغتراب مصدر سابق 04,I.
(189) كان ميناء عيذاب ابتداء من القرن الخامس الهجري إلى القرن الثامن الميناء الأخير الذي يربط مع اليمن وبلاد الهند، وكان يمثل أهمية كبرى ، لكنه لم يلبث أن خرّب من لدن ملك مصر عام 829 ـ 1426 وتولى مكانته ميناء سواكن ... على بعد 12 ميلا شمال حلايب وبالضبط بين درجة 22 ـ 20 شمالا و 32 36 ـ شرقا ... ، وإنما جاء ابن بطوطة على طريق الصعيد لأنه أراد أن يسلك في حجه طريق صحراء عيذاب كما سلكها قبله ابن جبير والتّجيبي ، لكن لم يتيسر الحج منها بسبب الحرب القائمة في المنطقة بين المماليك وبين البجاة الآتي ذكرهم ، حيث اضطر للعودة من حيث أتى للحج على درب الشام ...
(190) يقول التجيبي الذي مرّ بعيذاب قبل ابن بطوطة بنحو ثلاثين سنة : «وبهذه البلدة عامل من قبل ملك الديار المصرية والشامية وأخر من قبل ملك البجاة الساكن بجزيرة سواكن ... يقتسمان جبايتها نصفين ... وسنرى أن ابن بطوطة يتحدث عن أن القسمة في عهده تغيرت.Encycl.Beja.
(191) الإبل المنسوبة إلى مهرة بن جيدان من عرب اليمن ، وهي مشهورة بسرعتها ، والصهب منها (الحمراء البيضاء) هي التي تعرف باسم البشاري.
(192) الحدربي نسبة إلى قبيلة حدرب التي يذكر أنها من أصل عربي وهي تعيش في ضواحي عيذاب وكانت عاصمتهم في هذه الضواحي على البحر الأحمر ويجمع على حدارب على نحو حضارم.
(193) يتحدث التّجيبي وهو في حميثراء عن الشيخ قطب الدّين القسطلاني مؤلف كتاب (ارتقاء الرتبة باللباس والصحبة) الذي تحدث فيه عن أبي الحسن الشاذلي الذي صحبه. لعله قطب الدّين المتوفى بالقاهرةGibb T.IP.96 Note 332.7821 ـ 686
المراكشي زعم أنه ابن المرتضى (194) ملك مراكش وان سنه خمس وتسعون سنة. ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك ، (195) وقد خرق المراكب وهرب الترك أمامه، فتعذر سفرنا في البحر فبعنا ما كنا أعدادناه من الزاد وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها.
وانحدرنا منها في النيل وكان أوان مده فوصلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر فبت بمصر ليلة واحدة ... وقصدت بلاد الشام وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين ، (196) فوصلت إلى مدينة بلبيس (197) ، وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتح الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهمل وهي مدينة كبيرة ، ذات بساتين كثيرة ، ولم ألق بها من نحبّ ذكره(198) ،
ثم وصلت إلى الصالحية (199) ، ومنها دخلنا الرمال ، ونزلنا منازلها : مثل السّوادة
__________________
(194) من المعروف أن أبناء الخليفة الموحّدي المرتضى قصدوا بعد مصرع والدهم (665 ـ 1266) على مقربة من أزمور مولاي بو شعيب ، قصدوا ديار الأندلس ومكثوا بإشبيلية في ضيافة ألفونس عدة أعوام قبل أن ينتقلوا إلى جهات أخرى ...
د. التازي : التاريخ الدپلوماسي للمغرب ، ج 6 ص 148.
(195) يستعمل ابن بطوطة كلمة الاتراك ويعني بهم جنود الجيش المملوكي الذي يرجع رجاله ـ بالفعل ـ إلى أصل تركي ، وهذه الاصطدامات بين سلطان البجاة وملك مصر سمعنا بها من خلال هذه الإفادة لشاهد عيان هو الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي تهيّب امتطاء المراكب كما أشرنا بعد أن بلغه في عين المكان أن طريق البحر الأحمر أمسى غير آمن ... وهنا قرر أن يعود على مثل طريقه ليختار خطّا آخر هو بلاد الشام الذي يوصله إلى البقاع المقدسة. هذا ويلاحظ هربيك (HRBEK) أن ابن بطوطة وصل عيذاب حوالي 15 يونيه 1326 وأنه عاد للقاهرة حوالي 16 يوليه ـ يلاحظ إهمال الباحثة السودانية آمال ابراهيم محمد لهذه الفقرة الهامة من تاريخ الصّراع الدولي حول البحر الأحمر ـ مركز الدراسات والبحوث ـ صنعاء 1993.
(196) كان ذلك يوافق منتصف يوليه 1326.
(197) بلبيس : مدينة معروفة جدا على بعد ثلاثة وثلاثين ميلا ، شمال شرقي القاهرة ، وكانت في تلك الظروف عاصمة اقليم الشرقية وكانت مقرا للقيادة العسكرية ، وبها أقام الإمام البوصيري (ت 665 ه)
(198) يلاحظ السير هاميلتون گيب أن هذه العبارة (نحبّ) من التعابير المغربية الصميمة ، وقد كانت من أوائل الكلمات ذات الطابع المغربي مما يستعمله الرحالة المغربي.
هذا ويوجد في بعض النسخ كلمة (يجب) عوض (نحبّ)
(199) أسست الصالحية من لدن السلطان الأيوبي الملك الصالح (ت 647 ـ 1249) على أن تكون حصنا على حدود المملكة ...
والورّادة والمطيلب والعريش والخروبة (200) وبكل منزل منها فندق ، وهم يسمونه الخان ينزله المسافرون بدوابهم ، وبخارج كل خان سانية للسبيل ، وحانوت يشتري منها المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. ومن منازلها قطيا (201) المشهورة وهي بفتح القاف وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة والف والناس يبدّلون ألفها هاء تانيث ، وبها توخذ الزكاة من التجار (202) وتفتش أمتعتهم ويبحث عما لديهم أشد البحث ، وفيها الدواوين والعمال والكتاب والشهود ، ومجباها في كل يوم الف دينار من الذهب ولا يجوز عليها أحد من (203) الشام إلا ببراءة من مصر ولا إلى مصر الا ببراءة من الشام احتياطا على أموال الناس وتوقيا من الجواسيس العراقيين (204).
وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه ، فإذا كان الليل مسحوا على الرمل لا يبقى به أثر ثم ياتي الامير صباحا فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثرا طلب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء ، وكان بها في عهد
__________________
(200) يقصد بالرمّال منطقة الحدود بين مصر وسوريا ، هذا والترتيب الصحيح لهذه المنازل هو قطيا ثم المطيلب ثم السوادة ثم الورّادة ثم العريش تم الخروبة وغزة هي الأخيرة وهذه الحدود هي التي أقرت في عهد المملوك بيبرس عند ما ترد الرسائل والبضائع ـ وفيها الثلج ...
J. SAUVAGET : La poste au chevaux dans I'empire des Mamelouks, Paris, 1491.
(201) قطيا هي التي تحمل إلى اليوم اسم قطيا على بعد نحو خمسة وأربعين كيلومترا شرق قناة السويس ويصفها ياقوت الحموي كموقع ، وسط الرمال ، يحتوي على عدد من الديار وهي على مقربة من الفرما (PELUSIUM) ويلاحظ هنا وجود الفنادق بما تحتويه من مرافق لايواء البضائع واستراحة المطايا ، والتزوّد بالماء من السواني ... أنظر صبح الأعشى ص 461.
(202) المبلغ الذي تتقاضاه الديوانة حسب القاعدة الفقهية هو خمسة في المائة على الذهب والفضة الذي يدخل لمصر ، هذا إلى بعض الواجبات الإضافية ، وتعتبر (قطيا) من أبرز المدن التي ترتفع فيها المبالغ المتحصلة للدولة ... والبراءة هنا في الاصطلاح عند ابن بطّوطة تعني جواز السّفر.
(203) ويبدوا أن (من) في تعبير ابن بطوطة أحد من الشام" ينبغي أن تبدل بكلمة (إلى).
(204) لقطة تاريخية هامة فيما يتصل بالعلاقات السياسية بين المماليك وبين الإيلخان (المغول) حكام العراق وفارس على ذلك العهد ... وهي تعبّر عن مدى اليقظة الدائمة مما قد يحصل ... وقد لاحظنا وسنلاحظ أن ابن بطوطة يعتبر من مراجع التاريخ الدولي للمنطقة ...
وصولي اليها عز الدين استاذ (205) الدار أقماري ، من خيار الأمراء ، أضافني وأكرمني وأباح الجواز(205) لمن كان معي ، وبين يديه عبد الجليل المغربي الوقاف ، وهو يعرف المغاربة وبلادهم ، فيسأل من ورد منهم من أي البلاد؟ لئيلا يلبّس عليهم فإنّ المغاربة لا يعترضون في جوازهم على (قطيا).
__________________
(205) حول أستاذ الدار ترك لنا ابن فضل الله العمري حديثا جيّدا عنه ، إنه الحاجب الملكي وهو يحتفظ بالتوصية التي ينبغي لهذا" الأستاذ" أن يسلكها من تفقد أحوال الحاشية على اختلاف طوائفها وأنواع وظائفها ، ليرتبها في الخدمة على ما يجب ، وينظر في أمورها نظرا لا يخفى معه شيء مما هم عليه ولا يحتجب ، إلى آخر الوصية الهامة التي تحدد اختصاصات هذا" الحاجب" وياما أكثرها ..!
التعريف بالمصطلح الشريف للعمري تحقيق د. سمير الدروبي ، منشورات جامعة مؤته ـ الأردن 1413 ـ و 1992 ص 127 ـ 128 ـ 129 ـ 130.
(206) الجواز : يعني المرور ، ويمكن أن يكون القصد إلى (البراءة) أي رخصة المرور ، وأصل الجواز ما يقدم من الماء للمسافر من لدن القبيلة التي يمر على أراضيها إيذانا له بالأمان والحماية ... إلى أن يغادر أرضها ويتسلم (جوازا) آخر من أعيان القبيلة الأخرى. ويجمع على أجوزة ...
الفصل الثالث
الشام وفلسطين
من غزة إلى القدس فعسقلان
من عسقلان إلى حلب
مدينة حلب
من حلب إلى جبلة
من اللاذقية إلى دمشق
مدينة دمشق والجامع الأموي
ضواحي دمشق
الأوقاف في دمشق ومجيز وابن بطوطة بها.
ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة (1) ، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة ولا سور عليها ، وكان بها مسجد جامع حسن ، والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي (2) ، وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض ، وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني ، ومدرسها علم الدين بن سالم ، وبنو سالم كبراء هذه المدينة ، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.
ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل (3) صلى الله على نبيّنا وعليه وسلم تسليما ، وهي مدينة صغيرة الساحة ، كبيرة المقدار ، مشرقة الأنوار حسنة المنظر ، عجيبة المخبر ، في بطن واد ، ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع (4) مبني بالصخر المنحوت ، في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا. ويقال : إن سليمان عليهالسلام أمر الجن ببنائه (5)، وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس ، فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، صلوات الله على نبينا وعليهم ، ويقابلها قبور ثلاثة : هي قبور أزواجهم ، وعن يمين المنبر بلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة ، ويقال : إنها
__________________
(1) كانت غزة سابقا بلدة بسيطة تابعة لإقليم الرّملة لكنها لم تلبث أن أصبحت مركزا حكوميا في عهد الملك الناصر .... وقد استعادت ذكرها اليوم بعد اتفاقية أوصلو 13 / 9 / 1993 بين الرئيس عرفات وبين الرئيس بريز (إسحاق رابين).
(2) القصد إلى سنجر بن عبد الله الجاولي كان من مماليك (جاول) أحد أمراء الظاهر بيبرس. وولي نيابة غزة وبنى عدة مساجد منها هذا المسجد الذي بناه سنة 714 كما تفيده وثيقة التأسيس توفي بالقاهرة 745 ـ 1345 والمسجد الآن خراب ومنعزل عن العمران. سليم عرفات البيضي : البنايات الأثرية في غزة وقطاعها. نجدد الشكر للسيد عبد السلام سيناصر رئيس مكتب الاتصال بغزة على «فاكساته» المفيدة.
(3) الخليل لقب سيدنا إبراهيم عليهالسلام ، وهذه المدينة هي التي تحمل اسم حبرون (HEBRON) ويتحدث الهروي عن زيارته لمدينة الخليل بالمدينة في عهد بودوان عام 513 ه ... الإشارات ـ دمشق 1953 ص 31.
(4) يذكر أن هذا المسجد أيضا بني محل كنيسة شيدت على أثر روماني قديم ...
(5) " ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ... يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات ... السورة 34 ، الآية 13.
محاذية لها. وكان هنالك مسلك إلى الغار المبارك وهو الآن مسدود وقد نزلت بهذا الموضع مرات ، ومما ذكره أهل العلم دليلا على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما نقلته من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سماه" المسفر للقلوب ، عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب" (6) أسند فيه إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما أسرى بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل على قبر إبراهيم ، فقال : انزل فصلّ ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسى عليهالسلام ، ثم أتى بي إلى الصخرة ، وذكر بقية الحديث ... ولما لقيت بهذه المدينة المدرس الصالح المعمر الامام الخطيب برهان الدين الجعبري (7) أحد الصلحاء المرضيين ، والأئمّة المشهورين ، سألته عن صحة كون قبر الخليل عليهالسلام هنالك ، فقال لي : كلّ من لقيته من أهل العلم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبيّنا وعليهمالسلام ، وقبور زوجاتهم ، ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع ، وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه.
ويذكر أن بعض الأيمة دخل إلى هذا الغار ووقف عند قبر سارة ، فدخل شيخ فقال له : أي هذه القبور هو قبر إبراهيم ، فأشار له إلى قبره المعروف ، ثم دخل شاب فسأله كذلك ، فأشار له إليه ، ثم دخل صبي فسأله أيضا فأشار له اليه ، فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر إبراهيمعليهالسلام لا شك ، ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد ، وبداخل هذا
__________________
(6) لم نقف على ترجمة لمؤلف هذا الكتاب علي بن جعفر الرازي ولا على هذا الكتاب ... ومن الطريف أن نقرأ في (كتاب الاشارات إلى معرفة الزيارات) تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي المتوفي سنة 611 أنه اجتمع في مدينة الخليل بمشايخ حدثوه أنه لما كان زمن الملك بردويل (Baudoin) انخسف الموضع في المغارة فدخل جماعة من الفرنج إليها بإذن الملك فوجدوا فيها ابراهيم وإسحاق ويعقوب قد بليت أكفانهم وهم مستندون إلى حائط وعلى رؤوسهم مناديل ... فجدد الملك أكفانهم ثم سدّ الموضع وذلك سنة ثلاث عشر وخمسمائة ..."
يبقى بعد هذا أن نذكر أن زيارة مدينة الخليل وزيارة بيت لحم من قبل الرسول عليه الصلوات ، وهو في طريقه إلى بيت المقدس ، مما لم تنص عليه الآثار النبوية والتي لم يروها أبو هريرة ، ولذلك فإن المسألة تظلّ محلّ دراسة من قبل المهتمين بالسيرة النبوية الشريفة.
الهروي : الزيارات ، تحقيق جانين سورديل طومين ، دمشق 1953 ص 30 ـ 31 ـ 32Gibb : Travel 1 p.57 Note 12.
(7) القصد إلى إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل بن أبي العباس الجعبري الرّبعي ، برهان الدين ، ولد بقلعة (جعبر) ، تعلم ببغداد ودمشق ، واستقر بمدينة الخليل واشتهر هناك بشيخ الخليل ، له نحو من مائة كتاب أكثرها مختصر ... منها نزهة البررة في القراءات العشرة ، وشرح الشاطبية وشرح الرائية ، أدركه أجله في رمضان 732 يونيه 1332. ـ الدرر الكامنة ج 1 ص 51 ـ 52.
المسجد أيضا قبر يوسف عليهالسلام (
، وبشرقيّ حرم الخليل تربة لوط عليهالسلام (9) وهي على تل مرتفع يشرف منه على غور الشام ، وعلى قبره أبنية حسنة ، وهو في بيت حسن البناء مبيض ولا ستور عليه.
وهنالك بحيرة لوط (10) وهي أجاج يقال إنها موضع ديار قوم لوط. وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين (11) وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيّمه ، وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد قد هيء فيه صورة محراب لا يسع إلا مصليا واحدا ، ويقال إن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكرا لله تعالى عند هلاك قوم لوط فتحرك موضع سجوده وساخ في الأرض قليلا.
وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهماالسلام ، وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع : بسم الله الرحمن الرحيم ، لله العزة والبقاء وله ما ذرأ وبرأ وعلى خلقه كتب الفناء ، وفي رسول الله أسوة ، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضياللهعنه ، وفي اللوح الآخر منقوش : صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر ، وتحت ذلك هذه الأبيات :
أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه
بالرّغم منّي بين التّرب والحجر
يا قبر فاطمة بنت ابن فاطمة
بنت الأيمة بنت الأنجم الزّهر
__________________
(
حول قبر سيدنا يوسف يذكر ما قاله الهروي في كتابه الزّيارات (ص 24) " بلاطة قرية من أعمال نابلس وبها حقل يوسف الصديق وقبر يوسف بهذا الموضع عند الشجرة وهو الأصح ..."
(9) قبر سيدنا لوط عليهالسلام يوجد في قرية تحمل اسم (كفربريك) على ما يقوله الهروي (ص 22) ويضيف إلى هذا أن لوطا كان يقيم في قرية حملت اسم (يقين) وبها كان يسكن بعد رحيله من زغر ... وسميت (يقين) لأنّه لما رأى العذاب نزل بقومه سجد في هذا الموضع ، وقال (أيقنت أن وعد الله حق).
(10) البحيرة : هي بالذات البحر الميت ... وقد زرناها مرارا وتكرارا وسبحنا في مائها المالح الأجاج الذي يرفع جسمك من غير حاجة إلى تحريك أطرافك!! ويضمد جروحك إلى حدّ الازعاج!!
(11) مسجد اليقين يذكر أنه بنى عام 352 963 على نفس التّربة التي سجد فيها سيدنا لوط في أعقاب عذاب قوم لوط.
يا قبر ، ما فيك من دين ومن ورع
ومن عفاف ، ومن صون ومن خفر (12)
ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس ، فزرت في طريقي اليه تربة يونس عليهالسلام وعليها بنية كبيرة ومسجد ، وزرت (13) أيضا بيت لحم موضع ميلاد عيسى عليهالسلام ، وبه أثر جذع النخلة (14) وعليه عمارة كثيرة (15) والنصارى يعظمونه أشد التعظيم ويضيّفون من نزل به.
ثم وصلنا إلى بيت المقدس شرفه الله ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ، ومصعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسليما ومعرجه إلى السماء ، والبلدة كبيرة منيفة بالصّخر المنحوت وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب (16) ، جزاه الله عن
__________________
(12) تابعية ، روت عن جدتها فاطمة ... ولما قتل أبوها حملت إلى الشام مع أختها سكينة وعمتها أم كلثوم بن علي ... فأدخلن على يزيد فقالت فاطمة يا يزيد ، أبنات رسول الله سبايا؟! قال : بل حرائر كرام أدخلي على بنات عمك ، فدخلت على أهل بيته ... وعادت إلى المدينة ، فتزوجها ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي ومات عنها (ت 90 ـ 708) فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ومات ... أدركها أجلها عن سبعين سنة عام 110 ـ 728 .. هذا وقد حملت إلينا معلومة ابن بطّوطة هذه مشكلة ينبغي التفكير فيها ، ويتعلق الأمر بقبر فاطمة التي نعرف أنها توفيت بالمدينة. ـ عمر رضا حكالة : أعلام النساء ج 4 ، 44.
(13) توجد التربة المذكورة في قرية حلحول شمال (حبرون) مدينة الخليل ... أما عن نبي الله يونس فالذي نعرفه عنه أنه يوجد على مقربة من مدينة الموصل وقد زرته مرارا أثناء سفارتي لدى العراق ...
(14) الإشارة إلى ما ورد في القرآن الكريم : " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت : يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا ... الآية 23 ـ 26 من السورة التاسعة عشرة ، وقد ذكر ابن حوقل أن" النخلة إلى الآن هناك معظمة" ... وقد اختفت النخلة اليوم.
(15) القصد إلى كنيسة ميلاد المسيح (La Nativite) التي أعيد بناؤها عام 564 ـ 1169 من لدن مانييل كومنين (M.Comnene) أمبراطور بيزنطة.
(16) استرجع صلاح الدين بيت المقدس (أو ايلياء) من يد الصليبيين عام 583 ـ 1187 ـ وعن الملك الظاهر المعروف تحت اسم بيبرس (BAYBARS) نعرف أنه كان سلطانا من المماليك على مصر من عام 658 ـ 1260 إلى عام 675 ـ 1277 ، أما عن الأسوار المهدومة فيظهر أنه لا هذا ولا ذاك هو الذي قام بهدمها ، ولكن الذي قام بذلك هو الملك المعظم عيسى بن أخي صلاح الدين وأمير دمشق عام 616 ـ 1219 أثناء الحرب الصليبية الخامسة ... وأخيرا نذكّر أنّ الأسوار الحالية هي من بناء العاهل العثماني سليمان القانوني 926 ـ 1520 ـ 974 ـ 1566. هذا ومن أسماء البيت المقدس أورشليم التي وردت بالعبرانية في شعر الأعشى :
وطوّفت للمال آفاقه
عمان فحمص فأوريشلم
أتيت النجاشى في داره
وأرض النبيط وأرض العجم
أنظر مادة أوريشلم في معجم البلدان.
الإسلام خيرا ، لما فتح هذه المدينة هدم بعض سورها ، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفا أن يقصدها الروم فيمتنعون بها ، ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم ، وجلب لها الماء في هذا العهد ، الأمير سيف الدين تنكيز (17) أمير دمشق.
ذكر المسجد المقدس
وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن ، يقال إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه وأن طوله من شرق إلى غرب سبعماية واثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية (18) وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعماية ذراع وخمس وثلاثون ذراعا ، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث ، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا وهو الذي يدخل منه الامام ، والمسجد كله فضاء غير مسقف إلا المسجد الأقصى فهو مسقف ، (19) في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة ، مموّه بالذهب والاصبغة الرائقة ، وفي المسجد مواضع سواه مسقفة.
__________________
(17) يعتبر تنكيز من أبرز الشخصيات في المملكة ، يكنى أبا سعيد ... جلب إلى مصر وهو صغير ثم صار إلى الناصر ثم كان في صحبته يترسل بينه وبين الأفرم ... لم تكن له همة في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منكح إلا في تأمين الرعايا ، وكان يقول : أي لذّة للحاكم إذا كانت رعاياه يدعون عليه؟! وكان الناصر لا يفعل شيئا إلا بعد مشورته ... وله عدة منشآت حضارية وهو الذي أجرى العين إلى بيت المقدس ، وكان من المولعين بالصيد بالصقور ... ولم تلبث الأيام أن تنكّرت له ، فقد أشيع عنه أنه عزم على الفرار إلى بلاد التتار (الإيلخان) فبلغ ذلك للسلطان الذي تغير عليه وأصدر أمرا بالقبض عليه وتعرض للإهانات والمصادرات ولم يدم في الاعتقال إلا دون الشهر ، وأدركه أجله أوائل 741 ـ يوليه 1340. الدرر 2 ، 55 وما بعدها ...
(18) قبل ابن بطوطة وجدنا خسرو علوي الذي سجل مذكرات حجّه 437 ـ 444 ـ 1052 في كتابه (سفرنامه) يقول : إن طول المسجد أربع وخمسون وسبعمائة ذراع وعرضه خمس وخمسون وأربعمائة ذراع بذراع الملك" قال : وهو أي ذراع الملك أقلّ قليلا من ذراع ونصف ، هذا وإذا كان ابن بطوطة غفل عن نقوش الأقصى ... فإن البلوي في رحلته (تاج المفرق) ، استطاع أن ينقل زهاء خمسة من المنقوشات التاريخية المفيدة ، وكذا السفير المغربي ابن عثمان في رحلته اجراز المعلى والرقيب ...) أنظر مخطوطة البلوي في الخزانة العامة.
ناصر خسرو علوى : سفرنامه ، ترجمة د. يحيى الخشاب (مشروع الألف كتاب الثاني ، 122 ـ الهيأة المصرية العامة للكتاب 1993 ص 69. رحلة ابن عثمان : إحراز المعلّى والرقيب مخطوطة.
(19) يتعلق الأمر بفناء كبير يسمى الحرم الشريف يحتوي على مسجدين : المسجد الأقصى ، وقبة الصخرة ، والأوّل يتألف من بلاد بيزنطي يعود تاريخه للقرن الأول الهجري ـ السابع الميلادي ، كما يتألف من مدخل قوطي بني سنة 624 ـ 1227 ، هذا ولا بد من الاطلاع على ما في (نزهة المشتاق) للادريسي الذي يقارن بين جامع قرطبة وبين المسجد الأقصى (ج 4 ص 359 ـ 360) ، مطبوعات المعهد الشرقي ناپولي ، إيطاليا فليراجع ...
ذكر قبة الصخرة
وهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف ، وهي قائمة على نشز في وسط المسجد يصعد إليها في درج رخام ، ولها أربعة أبواب والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة ، وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ، ورايق الصنعة ، ما يعجز الواصف ، وأكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق ، يحار بصر متأملها في محاسنها ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها.
وفي وسط القبّة الصخرة الكريمة التي جاء ذكرها في الآثار ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم عرج منها إلى السماء ، وهي صخرة صماء ارتفاعها نحو قامة (20) ، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير ارتفاعها نحو قامة أيضا ، ينزل إليها على درج ، وهنالك شكل محراب وعلى الصخرة شباكان اثنان محكما العمل يغلقان عليها : أحدهما وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة (21) والثاني من خشب ، وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك ، والناس يزعمون انها درقة حمزة بن عبد المطلب رضياللهعنه.
__________________
(20) نرى من المهم أن نؤكد هنا على أن اهتمام المسلمين ببيت المقدس ، لا يقل اطلاقا عن اهتمامهم بمكة والمدينة د. التازي. طرق الايمان ـ بحث قدّم لاجتماع خبراء اليونيسكو حول الأديان السماوية ـ الرباط يونيه 1995. هذا ويلاحظ أن القبة مثمنة الشكل تشبهها صومعة شفشاون ووزّان بالمغرب.
(21) يذكر الهروي الذي زار القدس سنة 569 ـ 1174 أنه رأى الصخرة في زمان حكم الفرنج بالقدس وأنه قرأ كتابة في سقفها هذه صورتها : بسم الله الرحمن الرحيم الله الذي لا إلاه إلا الله هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم الآية ... والكتابة بالفص المذهب ... ولم تغيّره الفرنج ... تحتها مغارة الأرواح ... ذكروا أن أرواح المؤمنين يجمعها الله بها. وينزل إلى هذه المغارة في أربعة عشرة درجة ... وقد ذكر خسرو الذي زار قبة الصخرة قبل الهروي بقرن وربع القرن أن الصخرة كانت قبلة لموسى وسليمان وظلت قبلة إلى عهد نبيّنا عليهالسلام وضع يده عليها ليلة المعراج ... ويذكر گيب (Gibb) أن الشباكين نصبا أيام احتلال الصليبيين للقدس في القرن السادس الهجري ... د. التازي : القدس والخليل عند الرحالة المغاربة بحث وزع في الدورة الثانية المنعقدة في عمان لأكاديمية المملكة المغربية دجنبر 1996.
ذكر بعض المشاهد المباركة بالقدس الشريف
فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تلّ مرتفع هنالك بنية يقال إنها مصعد عيسى عليهالسلام إلى السماء (22) ، ومنها أيضا قبر رابعة البدوية (منسوب إلى البادية وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة (23) ، وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون : إن قبر مريم عليهاالسلام (24) بها ، وهنالك أيضا كنيسة أخرى معظمة يحجها النصارى (25) ، وهي التي يكذبون عليها ويقولون إن قبر عيسى عليهالسلام بها (26) ، وعلى كل من يحجّها ضريبة معلومة للمسلمين ، وضروب من الإهانة يتحملها رغم أنفه ، وهنالك موضع مهد عيسى عليهالسلام يتبرك به.
ذكر بعض فضلاء القدس
فمنهم قاضيه العالم شمس الدين محمد بن سالم الغزّي بفتح الغين وهو من أهل غزة وكبرائها(27) ، ومنهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي ، ومنهم المحدّث المفتي شهاب الدين الطبري ، ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقات الكريمة أبو عبد الله محمد بن
__________________
(22) يلاحظ من خلال الوصف الدقيق الذي قدمه ابن بطوطة تعلق الرحالة المغربي ببيت المقدس ... وقد قرأنا في (سفرنامه) لناصر خسرو علوي عن (الرواق المغربي) الذي كان هناك على عهده 444 ـ 1052 كما قرأنا عن الحصر المغربية التي كانوا يفرشون بها الحرم الشريف وكانت تفوق الديباج حسنا ونعومة إلى جانب الدنانير المغربية التي كانت رائجة هناك مما يؤكد الوجود المغربي المبكّر في هذه الأماكن ...
د. التازي : أوقاف المغاربة في القدس ـ مطبعة المحمدية رقم الإيداع القانوني 1981.
(23) ربيعة البدوية سيدة عابدة ، قبرها في جبل الزيتون وهو الموجود في مقبرة سانت بيلاجي (Saint ـ Pelagie) حسب نقول بعض الحجاج الغربيين أما رابعة أو ربيعة بنت إسماعيل العدوية فهي صوفية كبيرة شهيرة. عاشت بالبصرة ، وأدركها أجلها بالبصرة عام 185 ـ 801 ، ويظهر من كلام الهروي أن الذي يوجد بالجبل هو بيت العدوية وليس قبرها ... قال : والصحيح أن قبرها بالبصرة ، وأمّا التي توجد بجبل القدس فهي رابعة زوجة أحمد بن أبي الحواريّ (ص 28 من الاشارات).
(24) الذي في كتاب الاشارات للهروي إن قبر مريم أم عيسى في وادي جهنم ينزل إليه في ست وثلاثين درجة ... ص 28.
(25) هي كنيسة سان ـ سيبّولكر (S.SEPULCRE) الذي تعرف ب : (كنيسة القمامة) التي تركها الخليفة عمر ابن الخطاب للمسيحيين.
(26) في القرآن الكريم : " إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا ...
(27) هو محمد بن سالم بن عبد الناصر بن سالم الكناني الغزي ، شمس الدين ... حدّث وأفتى وحكم بالقدس وتوفي سنة نيف وخمسين وسبعمائة 1350 ـ الدرر 4 ، 62 ـ 63.
مثبت الغرناطي نزيل القدس (28) ، ومنهم الشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالمحجوب من كبار الصالحين ، ومنهم الشيخ الصالح العابد كمال الدين المراغي ، ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى من أهل أرز الروم وهو من تلامذة تاج الدين الرفاعي ، صحبته ولبست منه خرقة التصوف (29).
ثم سافرت من القدس الشريف (30) برسم زيارة ثغر عسقلان (31) وهو خراب قد عاد رسوما طامسة ، وأطلالا دارسة ، وقلّ بلد جمع من المحاسن ، ما جمعته عسقلان ، اتقانا وحسن وضع وأصالة مكان ، وجمعا بين مرافق البر والبحر ، وبها المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن علي عليهالسلام قبل أن ينقل إلى القاهرة (32) ، وهو مسجد عظيم سامي العلو فيه جب للماء أمر ببنائه بعض العبيديين وكتب ذلك على بابه (33).
وفي قبلة هذا المزار مسجد كبير يعرف بمسجد عمر لم يبق منه إلا حيطانه ، وفيه أساطين رخام لا مثل لها في الحسن وهي ما بين قائم وحصيد ، ومن جملتها أسطوانه حمراء عجيبة يزعم الناس أن النصارى احتملوها إلى بلادهم ثم فقدوها فوجدت في موضعها بعسقلان.
__________________
(28) أتساءل عن عدم ذكر ابن بطوطة لأوقاف المغاربة بالقدس المنسوبة للشيخ عمر المصمودي وترجع لتاريخ 703 ه. والمنسوبة لابن هذين وترجع لتاريخ 720 ه. د. التازي ـ القدس والخليل عند الرحالة المغاربة ـ نشر منظمة الإيسيسكو 1997.
(29) الخرقة يسلمها الشيخ إلى مريديه بعد طول عشرة وممارسة ، وهي تعني انقطاع حاملها عن هذا العالم وانصرافه الكامل للعبادة ، ... وبما أن الوقت لم يمكن ابن بطوطة من طول الممارسة ، فيظهر أن تسليمه" الخرقة" إنما كان تعبيرا عن" التبرّك" و" توسم" الخير فيه ...
(30) يلاحظ أن ابن بطوطة ـ وقد غادر القاهرة ـ كما هو معلوم حوالي 15 شعبان ـ 17 يوليه ووصل إلى دمشق يوم 7 رمضان ـ 7 غشت ، لم يكن في استطاعته إلا أن يقوم بقطع المسافة مباشرة بين القدس وبين دمشق ، وهكذا فإن معظم البقاع التي ذكر أنه زارها إنما تمكن من زيارتها ـ على ما يبدو ـ أثناء مروره اللّاحق عليها خلال عام 733 ـ 1332 و 749 ـ 1348.
(31) عسقلان (ASCALON) التي هدمها صلاح الدين خلال حربه ضد ريشارد قلب الأسد عام 587 ـ 1191 ، أجهز عليها بصفة نهائية بيبرس عام 668 ـ 1270 ، يوجد موقعها شمال غزّة وجنوب يافا (تل أبيب)
(32) يذكر الهروي الموصلى سالف الذكر أن رأس الحسين نقله المسلمون إلى القاهرة من عسقلان ، عند الاستيلاء على عسقلان من لدن الفرنج عام 549 ـ 1154 ...
(33) القصد إلى الخليفة الفاطمي ، المستنصر (427 ـ 1035 ـ 487 ـ 1094) سليل عبيد الله مؤسس الدولة الفاطمية بتونس ، وهو الذي أسس المسجد عام 294 ـ 908 ... ويلاحظ استعمال ابن بطوطة لعبارة" العبيديين" دون" الفاطميين".