صاحبه لما لم يرض أن يبيعه بأقل من عشرة آلاف ، تركه. فغضب الملك لتوقف سفيره عن شراء الحصان بمثل هذا المبلغ الزهيد ، بينما كان الشراء لواحد من أعاظم ملوك الدنيا ، ولا مه على ذل نفسه ، وأقصاه عن حضرته بنفيه مدى الحياة إلى مقاطعة نائية عن البلاط ثم كتب الملك إلى الإنكليز ليشتروا له الحصان ، ففعلوا ذلك وجلبوه إلى سورات بالهند حيث دفع لهم الحاكم ثمنه. غير أن الحصان ما لبث أن مات في رامبور.
ولن أنسى قط أنه حين كنت في البصرة ، حلقت في سمائها ، في خلال مرتين ، سدود من الجراد كانت تبدو من بعيد كأنها السحب ، فأظلمت الأرض به. إن الجراد يمر بالبصرة أربع أو خمس مرات في السنة ، تحمله الرياح من البادية التي فيها مولده وهلاكه. ولو لم تدفعه الريح بهذا الوجه لما ترك نبتا يعيش على الأرض في بعض أقسام كلدية. يطير هذا الجراد فوق بلدان خليج فارس. ولما تأتي المراكب إلى هرمز (1) (Ormuz) في أي وقت من السنة ، يجد ركابها دكاكين صغيرة يبيع فيها الناس الجراد المقلي بالدهن لمن يحب هذا اللون من الطعام. وقد حداني حب الاستطلاع ذات مرة ، أن فتحت بطن جرادة طولها ستة إنشات : فوجدت داخلها سبع عشرة جرادة صغيرة تتحرك. ومن هذا يمكن أن يحزر بسهولة كيف تتكاثر تلك الحشرات ، خاصة في البلدان الحارة.
وهناك عدة سفن وقوارب تمخر من هرمز ، لتجهيز جانبي خليج فارس بالحاجات الضرورية ، حيث الناس هناك لا يأكلون الخبز ولا الرز. وقد اتفقت مع صاحب أحد هذه القوارب ، وكان الاتفاق على أن لا يزيد ما يحمله القارب على نصف وسقة ، لأنهم على العموم يحملونها بما هو فوق طاقتها. وفي الأحوال الجوية الرديئة يضطرون إلى أن يرموا بنصف الحمل إنقاذا للبقية.
__________________
(1) جزيرة تقع في خليج فارس ، عند المضيق المسمى باسمها ، وهي على مسافة ميل وثلاثة أرباع الميل من ساحل إيران.
ومن البصرة إلى فم نهر الفرات (1) عشرون فرسخا من الماء العذب. لقد انتظرنا مواتاة الرياح لنا سبعة أيام كاملة ، لنتمكن من الإقلاع بسفينتنا. ثم وصلنا إلى بندر ريك (2) (Bander ـ Ric) بثمان وأربعين ساعة. هذا هو المكان الذي يجب أن تنزل فيه إن قصدت بلاد فارس ، ما لم تكن مستهدفا هرمز. يتألف بندرريك من خمسة أو ستة أكواخ صغيرة لصيادي السمك ، وهذه الأكواخ عبارة عن أغصان مصفوفة أحدها يقابل الآخر ، ومسقفة بمثلها ، حيث يسكنون هم وعائلاتهم. ويؤتى إلى بندر ريك بالتمر محملا على الحمير. وقد اضطررت أن أكتري واحدا منها لعدم تيسر الخيل هناك.
وقضينا ستة أيام في الطريق من بندر ريك إلى كازرون (Cazeron) (3) ، وهي بقعة جبلية كثيرة الغابات. وعليك أن تقيم في الحقول لعدم وجود الخانات في الطريق. إن هذا الطريق مؤنس في بعض أقسامه ، فهو يمر بضفاف نهيرات عديدة وخلال أحراش مخضرة تكثر فيها السلاحف التي قتلنا منها كثيرا فأكلنا بعضه مع البلا وبدلا من الدجاج ، وشوينا بعضه الآخر مستخدمين العصي مكان السفافيد.
وكازرون بلدة صغيرة حقيرة البناء ، فيها خان واحد لا يفي براحة الغرباء النازلين فيه. ومن كازرون إلى شيراز مسيرة خمسة أيام. والطريق تمر بأرض جبلية كثيرة الحزون ، لم يكن سلوكها ممكنا لو لا همة علي قولي خان حاكم شيراز ، الذي شق فيها طرقا لم تكن من قبل ، وربط الجبال بالقناطر ، ولو لاها لتعذر اجتيازها. وفي وسط الجبال فجوة عريضة يمتد منها سهل محيطه نحو عشرين فرسخا ، لا يسكنه غير اليهود ، وهؤلاء القوم يشتغلون بحياكة الحرير. وفي هذه الجبال تقع أنظارك على خيم ينزل فيها الكلدانيون الذين ينتجعون تلك
__________________
(1) هذا وهم من المؤلف ، والصواب أنه شط العرب.
(2) بليدة صغيرة على ساحل الخليج العربي ، في شمال بوشير.
(3) بليدة في إيران ، نفوسها زهاء 7000 نسمة ، وهي بين بوشير وشيراز.
البقاع صيفا طلبا للهواء البارد والتماسا للمرعى الوفير.
ولما انتهيت إلى شيراز ، اتخذت حصانا لركوبي من هناك إلى أصفهان التي لم أبلغها إلا بتسعة أيام. الاراضي التي تمر بها بين هاتين المدينتين ، سهول وجبال تجد فيها البور كما ترى فيها المزروع. فإذا سرت ثلاثة أيام عن شيراز جابهك جبل مائين (Mayen) ومائين بليدة ليس فيها ما يستحق الذكر. وبعد مسيرة يومين منها تدخل في سهول ولاية كشكي زرد (Cuscuzar) التي فيها يحفظ ملك فارس خيوله للسباق. وفي اليوم التالي وصلت إلى يزدي خست (Yesdecas) التي يصنع فيها أجود الخبز الايراني (1) وهي بليدة تقوم على نشز من الارض ، فيها خان لطيف جدا. وعند قاعدة النشز نهير ينساب في واد ينمو فيه القمح الجيد الذي يصنع خبزا ويصدر من هذه المدينة.
وقد قطعت المسافة من يزدي خست إلى اصفهان بثلاثة أيام إن هذا الطريق كان أول طريق سلكته من حلب إلى أصفهان.
__________________
(1) ذكر المؤلف ، في الفصل التاسع من الكتاب الأول من رحلته ، مثلا سائرا بين الفرس ، سمعه منهم ، مؤداه : «من يبتغ السعادة ، فليتزوج بامرأة من يزد ، وليأكل خبز يزدي خست ، وليشرب خمرة شيراز».
الفصل الرابع
من الكتاب الثاني من الرحلة
الطريق بين حلب وأصفهان ، عبر ما بين النهرين وبلاد آشور ،
وهو الطريق الذي سلكته في رحلتي الثالثة الى الهند وجزرها
في رحلتي الثالثة إلى الهند وجزرها ، قمت من باريس في السادس من كانون الأول سنة 1643 ، وذهبت إلى ليغرن (1) (Ligorn) فوجدت الاسطول الهولندي على أهبة الاقلاع إلى بلاد المشرق (Levant). ويبدو على السفينة التي أقلتني أنها أشبه بمركب حربي منها بمركب تجاري. ثم عبرنا مضيق مسينة ، ورسونا أمام المدينة أربعة أيام. وبعد أن اجتزنا بحر المورة ، دخلنا الأرخبيل حيث تفرق الأسطول ، كل سفينة بحسب ما تبتغيه من اتجاه. فأبحرت سفينتنا رأسا إلى مينا الإسكندرونة. بالرغم من أن الريح كان مؤاتية لسير السفينة ، فقد صدتنا سفينة قرصان مدة من الزمن وأعاقت سيرنا ، عندما كنا على بعد من ساحل جزيرة كاندي (2) الشرقي. ولقد حاولنا التخلص منها ، ولكن القرصان كانت لهم اليد العليا. فتأهبنا لمناجزتهم. ثم أطلق القرصان علينا من سفينتهم ثلاث طلقات مرقت من فوق مركبنا دون أن تصيبه بأذى ، فرددنا عليها بمثلها من سفينتنا ، فأصابت أولى طلقاتنا صاري المقدمة ، والثالثة أصابت مرقب السفينة ، وقتلت من رجاله كما لاحظنا ذلك. وفي تلك الهنيهة صرخ أحد بحارتنا من أعلى رأس الصاري قائلا : سفينة من الجنوب! فولى عنا القرصان ليتعقبوها ، وسررنا نحن بالنجاة منهم. ثم تابعنا سفرنا إلى الاسكندرونة فوصلنا إليها مغتبطين. ومنها أخذت حصانا إلى حلب كما مر وصفه.
__________________
(1) ميناء في ساحل ايطاليا الغربي ، بين روما وجنوى.
(2) هي جزيرة كريت. راجع الملحق رقم (4).
وفي السادس من آذار ، غادرت حلب برفقة اثنين من الرهبان الكبوشيين ، وهما الأب روفائيل والأب ايفس (Yves) وبندقي اسمه دومنيكو دي سنتيس. (Dominico de Santis)
ومن حلب إلى البيرة (1) (Bir) القائمة عند معبر الفرات ، مسيرة أربعة أيام للراكب ، والبقعة كثيرة الأحراش وفيرة الزروع.
وفي السابع من آذار ، أعاقنا المطر الغزير عن بلوغ المحطة المعتادة ، فلم نصل إلى تل باشر (2) ، البلدة التي تلي البيرة ، ولما لم نجد خانا نبيت فيه ، اضطررنا إلى الوقوف على بعد فرسخ منها في هذا الجانب واللجوء إلى كهف يسع ثلاثمائة حصان ، وهو كهف يلجأ إليه غالبا البدو أو رعاة البقر الذين يعيشون عيشة الأعراب ، إما في كهوف أو في أكواخ حقيرة. وكان النقر قد تمادى في هذا الكهف ، فكثرت فيه التجاويف التي صارت تبدو غرفا صغيرة. أما رئيس قافلتنا (الكروان باشي) فإنه حذرنا من وجود كمين في ذلك الكهف سبقنا لاستطلاع المكان ، فوجده خاليا خاويا ، فاسترحنا هناك تلك الليلة. وفي الليلة الثانية ، نزلنا في ميزار (Mezara) وهي قرية صغيرة لا خان فيها. ولم نمر في طريقنا إليها بما يستحق الذكر. إلا أن قرب الكهف ، في الجبل ، ماء طيبا قراحا. وكان فوق الجبل سابقا حصن لا تزال بعض أخربته بادية للعيان. وتشرف قمته بامتداد البصر على منظر جميل أخاذ. فهناك حيث توجهت السهول اليانعة ، والأراضي الخصبة التي تسقيها جداول مختلفة يأتي ماؤها من الفرات. كما أن كل النهيرات التي تعبرها من حلب إلى البيرة مستمدة من الفرات ذاته.
وفي اليوم الرابع من مغادرتنا حلب ، وهو اليوم التاسع من آذار ، بلغنا
__________________
(1) البيرة مدينة على الفرات الاعلى ، تعرف اليوم باسم بيره جك.
(2) وصفها ياقوت الحموي (معجم البلدان 1 : 864 طبعة وستنفلد) بأنها «قلعة حصينة وكورة واسعة في شمالي حلب ، بينها وبين حلب يومان ، وأهلها نصارى أرمن ، ولها ربض وأسواق ، وهي عامرة آهلة».
ضفاف الفرات ، فأبصرنا البيرة في الجانب الآخر من النهر. ولما كان نقل جميع الأحمال إلى الضفة الثانية من النهر في يوم واحد غير ممكن في بعض الاحوال ، فقد أقيم هناك خان كبير مريح يحمي التجار من البدو ، وإلا ساورهم القلق وصاروا عرضة لشر اللصوص. فلو لا هذا الخان لما حوفظ عليهم ولا على بضائعهم بهذا الوجه المأمون.
ويعبر نهر الفرات بمعبر كبير من القوارب ، وعند بلوغ ضفته الثانية ، يهرع ضابط الجمرك ورجاله إلى تسجيل البضائع ، وتدوين اسماء التجار مالكيها. أما قافلتنا ، فلم تدخل المدينة المشيدة بهيئة مدرج نصف دائري ، عند سفح جبل وعر ، بل سلكت طريقا رديئا ووجهتها خان يعلو قمة الجبل. وبالقرب من هذا الخان طائفة من الغرف المنقورة في جوف الصخر ، يلجأ إليها من لا يتسع الخان له. وعند المساء جاءنا ضابط الجمرك يتقاضى رسومه ، وهي قرشان عن كل حمل من البضاعة إن كانت محملة على حصان أو بغل ، ذلك بغض النظر عن أن ما تحمله البغال يفوق ما تحمله الخيل كثرة ، ويتقاضى نصف قرش عن كل دابة تحمل المتاع. أما الخيل والبغال المسرجة فلا رسم يؤخذ عليها.
والبيرة ، او بيره جك (Berygeon) كما يسميها أهلها ، من بلدان الشرق الكبيرة ، تقع على حافة تل ، وفي أسفل المدينة من جهة النهر حصن يبدو أنه قديم ، طوله نصف طول المدينة ، ولكنه ضيق ، وليس فيه من التحصينات غير برج مطل على النهر ، ذي ثمانية أو تسعة مدافع حقيرة. وفي أعلى المدينة حصن آخر يقيم فيه حاكم المدينة وهو «آغا» ويلقبه بعضهم ب «باشا». وبإمرته مائتا إنكشاري (1) وأربعمائة سپاهي (2). إن المدينة مبنية بناء سقيما على غرار
__________________
(1) الانكشارية ، لفظة محرفة من التركية ينيجري (من : يني ـ جديد ، جري ـ جيش) وهم جند مشاة في الجيش العثماني ، دام أمرهم منذ القرن الرابع عشر إلى التاسع عشر للميلاد.
(2) لفظة تركية فارسية ، أصلها «سباه» ومعناها العسكر والفرسان والنسبة إليها سباهي كانت تطلق سابقا على خيالة الترك وقد انحل أمرهم من بعد سنة 1826 م.
معظم بلدان الدولة العثمانية. غير أن الطعام فيها متوافر قد تناهت كثرته وخرجت عن الحد المعتاد ، فخبزها نفيس ، وخمرها فاخرة ، وفيها أطيب الأسماك.
وفي العاشر من آذار ، بعد أن سرنا إحدى عشرة ساعة في أول أراضي ما بين النهرين الواقعة بين دجلة والفرات ، وهي التي يسمونها الآن ديار بكر (Diar Bekr) ، وصلنا مساء إلى شرملي وهي بلدة حسنة جدا ، ذات خان جميل وحمامات في أطرافها. وعلى ضعف رمية بندقية منها ، ينهض جبل فرد ، كأنه مونت مارتر قرب باريس. وحوله السهول ، وفوق قمته قلعة يحميها مائتا سباهي ، لأن الأعراب يعبرون الفرات أحيانا ويغيرون على ذلك الجانب. ففي سنة 1631 حينما كان الوزير الأول عائدا من بغداد ، وقد فقد معظم جيش السلطان دون التمكن من أخذ المدينة ، فإنه خوفا من أن يفقد رأسه إن رجع إلى القسطنطينية بهذه الخيبة ، ولعلمه بما له من سامي المنزلة في قلوب جنوده ، صمم على الإقامة فوق هذا الجبل ، وتشييد قلعة تحميه مما قد يتهدده. ولا شك أنه لو أفلح في تحقيق خطته لاستطاع أن يسود على كل ما بين النهرين ، ولخلق للسلطان قلقا زائدا. وذلك أنك إذا قصدت حلب ، سواء أكان قيامك من تبريز ، أم من الموصل ، أم من بغداد ـ هذا ما لم يكن سفرك بطريق البادية ـ لا بد أن تمر بشرملي للتزود بالطعام والماء ، وشرملي هذه تشرف عليها القلعة المذكورة. ولقد سار العمل في القلعة سيرا حثيثا ، فأقيم حصن مكين ، واستطاع الوزير أن يسوّر الجبل ، بما فيه الخان ، بسور ثخنه عشرون قدما ، وارتفاعه ثلاث قامات. وفيما كان منهمكا في عمله ، خنقه بعض من ركن إليهم أشد الركون ، ممن استمالهم السلطان إليه ، بالوعد أو بالوعيد.
وفي الحادي عشر من آذار ، بعد مسيرة عشر ساعات ، انتهينا إلى اورفا ، وفيها تمكث القوافل عادة ثمانية أو عشرة ايام ، لأن فيها مؤجري الخيل والبغال ، ولهم على الدوام أشغال وعلاقات بهذا المكان. وحللنا في خان يبعد 300 أو 400 خطوة عن شمالي المدينة. وعندما يزدحم هذا الخان بالمسافرين ، يلجأ من لا يتسع الخان لهم إلى كهوف قريبة منه. وهي أماكن
جيدة حسنة. وهنا يأتي جابي الرسوم فيحصي الأحمال دون فتحها ، فالذين يحملون خرجة (1) عليهم أن يدفعوا عنها رسم نصف حمل ، وإلا يفتح الخرج ليرى إن كان فيه سلعة تجارية ما. وعلى التاجر حينذاك أن يدفع الرسم كاملا.
أورفا عاصمة ما بين النهرين ، وهي كما يقولون مبنية في البقعة التي عاش فيها إبراهيم الخليل ، حيث كانت تقوم أدسا (Edessa) القديمة. ويروي أهالي تلك الجهات ، أن بلاط الملك أبجر (Abagarus) كان في هذه المدينة ، ولا تزال ترى فيها خرائب حصن ، منه ـ كما يروون أيضا ـ أرسل هذا الملك إلى المسيح طالبا صورته ، وواهبا إياه مملكته وشعبه للدفاع عنه ضد اليهود ، الذين عادوه على ما انتهى إليه (2). وتروي تواريخ الأرمن أن أبجر كان من أبناء جلدتهم وإنهم ، في أيام حكمه ، صاروا نصارى وتعمدوا على يد واحد من التلاميذ ، بعث به المسيح إلى ذلك الملك بعد قيامته. ولم يتخرب هذا الحصن خرابا نهائيا ، إذ لا تزال فيه قاعة فسيحة وثلاث أو أربع غرف جميلة فيها معالم فسيفساء. لقد حثني الشوق على رؤية أجمل ما في المدينة ، فأخذوني إلى فسقية كبيرة كأنها بركة سمك ، وهي تنبع من تحت أسس الجامع الكبير الذي كان بني إكراما لإبراهيم الخليل. ويقول نصارى تلك الأنحاء ، إن في هذا المكان صلى إبراهيم قبل أن يضحي بابنه إسحاق ، وإن ينبوعين من الماء نبعا من البقعتين اللتين وضع عليهما ركبتيه ، وهذان الينبوعان يملآن الفسقية الكبيرة التي أشرت إليها. إن هذه الفسقية مبلطة بالصخر ، وزاخرة بالسمك فإذا رميت إليه قطعة صغيرة من الخبز ، تبعك حيثما تنقلت في ضفاف البركة. وليس من يتعرض لهذا السمك ، فإن الترك يكرّمونه جدا ويسمونه سمك إبراهيم. ويفيض الماء من هذه الفسقية فيسقي المدينة كلها. وما حول الفسقية مغطى بسجاجيد جميلة ، بعض نحو عشرين خطوة. أما ماء هذه الفسقية فينصب في الأخير في نهر محاذ للسور. إن الكهوف التي تتفجر منها عينا الماء ، لا يسمح لك بالذهاب إليها ما لم تخلع نعليك. وأنه لفضل عميم
__________________
(1) الخرجة ، جمع خرج ، وهو الكيس الذي يوضع على ظهر الدابة.
(2) راجع الملحق رقم (5).
على النصراني إن سمح له بمشاهدتها. وقد كلفني هذا الفضل ستة قروش. ورأيت أيضا كنيسة للأرمن يقولون إن تحت بابها ، عاش القديس الكسيس سبع عشرة سنة عيشته النسكية. ويقوم هذا الباب في وسط رحبة الكنيسة ، في أعالي المدينة. أما كنيستهم الكبرى ، فعلى مسيرة ربع ساعة من المدينة ، بناها القديس أفرام المدفون فيها (1). والدير قائم بكامله ، يحيط به سور لطيف. ولقد شاهدت في الكنيسة نسخة كبيرة من الكتاب المقدس مكتوبة بالحروف الأرمنية. وضريح القديس أفرام في مغارة عند قاعدة الجبل ، يتصل به مصلى فيه ثلاثة أو أربعة قناديل موقدة على الدوام. وهناك مغاور أخرى في أعلى الجبل وأسفله تضم قبورا نصرانية قديمة العهد. إن مدينة أورفا ، تقع في أرض غاية في الخصب ، تمتد شرقا إلى ما وراء البصر. وبالقرب من أسوار المدينة بساتين غناء تسقيها قنوات صغيرة مدت إلى هذه الأنحاء. وتعصر هناك الخمرة الجيدة. وهكذا يتمكن الإنسان أن يعيش في أورفا كما لو يعيش في أي ناحية من نواحي بلاد الترك. ولدى إقامتي فيها ، اصطدت من بساتينها شيئا كثيرا من الدج الصغير (2). وفي الواقع ، إن الطيور البرية لعلى غاية الكثرة في هذه البقعة وأسوار المدينة مبنية بالحجارة ، وكذلك الشرفات والأبراج. أما البيوت ضمن المدينة فصغيرة الحجم ، حقيرة البناء ، مهدمة. وفي المدينة ميادين
__________________
(1) هو مار أفرام السرياني ، أشعر شعراء الآرميين وأوسعهم شهرة ولد في نصيبين في أوائل المائة الرابعة للميلاد. ثم انتقل منها إلى أدسا ، فانكب حينذاك على الدرس والتأليف وتوفي فيها سنة 373 م. ولمار افرام تآليف لا تحصى وضعها بالآرمية ، ضاع الكثير منها وطبع غير واحد مما سلم منها ويغلب على تآليفه النظم. وبينها المواعظ والتسابيح والميامر وشروح الأسفار المقدسة. إن تآليفه قد نقلت من قديم الزمان ، إلى اليونانية والارمنية والقبطية والحبشية واللاتينية والعربية. وبعض هذه النقول قد انتهى إلينا.
(2) يسمى بالإنكليزيةField ـ Fares وهو على ما في «معجم الحيوان» للمعلوف : الدج الصغير. قال الدميري في وصفه (حياة الحيوان الكبرى 1 : 377 من طبعة بولاق سنة 1292 ه) إنه «طائر صغير في حد اليمام ، من طير الماء ، سمين ، طيب اللحم ، وهو كثير بالاسكندرية وما يشابهها من بلاد السواحل. قاله ابن سيده».
عديدة متباعدة ، تخلق لأورفا مظهر بادية أكثر منها مدينة كبيرة. ويحكم المدينة باشا ، بإمرته 150 إنكشاريا و 60 سباهيّا. وهذه الحامية أحوج إلى الخيالة منها إلى المشاة لتواتر غارات الأعراب عليها ، وخصوصا في موسم الحصاد. وبوجيز الكلام وجدنا أورفا البقعة التي يبالغ فيها الناس في لبس الجلود المعروفة بالقرطبية (1) ، لأن مياه تلك البقعة تهبها ذلك الجمال الممتاز. هذا ، وإن الجلود الصفر تلبس في أورفا ، والزرق في طوقات ، والحمر في ديار بكر.
وفي اليوم العشرين من آذار (سنة 1644 م) غادرنا أورفا ، فحللنا بعد مسيرة ست ساعات في قرية بسيطة فيها خان خرب ، وفسقية ذات ماء نمير ، وهذا كل ما يرتاح إليه المرء في تلك القرية. أما الطعام فلا يمكن الحصول عليه.
وفي اليوم الحادي والعشرين ، سرنا تسع ساعات ونزلنا قرب مغاور كثيرة عميقة جدا ، في مداخلها غرف صغيرة ، يظن أنها مأوى رعاة تلك البقعة الذين يرعون أبقارهم هناك. ويمكن الاستفادة من ماء المطر المنحبس في بعض تجاويف الصخور ويجب أن تقضي سفر نصف يوم في اختراق الصخور الوعرة ، التي يكاد يتعذر السير فيها ، ومن الخطر أن ترجع بدابتك إلى الوراء.
وفي اليوم الثاني والعشرين ، بعد أن سرنا إحدى عشرة ساعة ، دنونا من مغارة ، ثم عبرنا نهيرا ينساب عند قدميها. وهناك على جانبي النهير كهفان كبيران يقيم فيهما المسافرون ، فيقصدهم الأهلون بالطعام لهم والعلف لدوابهم. إن جباة الرسوم يأتون من قلعة على نحو من ثلاثة فراسخ من هذه الكهوف ، فيتقاضون قرشين ونصف القرش على حمل كل حصان أو بغل ، ويفتشون في الخرجة ليروا ما إذا كان فيها سلع تجارية. وعند منتصف الطريق من سفر هذا اليوم ، نمر بمدينة خالية خاوية قد هجرها أهلها. وعلى مسيرة ساعة منها قبور من الصخر ، يعلو وسطها صليب فيه كتابة أرمنية.
وفي اليوم الثالث والعشرين ، تمادى بنا السير إحدى عشرة ساعة ، فنزلنا
__________________
(1) يسمى بالفرنجيةCordovan.
في دادا كردين (Dadacardin) ، ويبدو أنها كانت مدينة كبيرة ، ولكنها آلت إلى الخراب النهائي ، ولم يبق منها شيء غير قنطرة طويلة من الحجر غاية في حسن البناء ، يجري من تحتها نهر يتسع كثيرا حين الفيضان. وليس لأبناء تلك البقعة مأوى غير تجاويف الصخور. وهم مع ذلك يبيعون للمسافرين الدجاج والزبدة والجبن وغير ذلك من الطعام بأبخس الأثمان.
وفي اليوم الرابع والعشرين ، سرنا تسع ساعات ، ونزلنا في قره, (Cara) وهي قرية مبنية فوق تل. نزلت القافلة في الخان ، أما الراهبان الكبوشيان وأنا ، فقد نزلنا في دار نصراني ، وقد أخذنا هذا إلى الكنيسة فرأينا الورتبيد أو مطران ماردين. وكانت الكنيسة بسيطة فقيرة.
وفي هذه القرية ، بركة أحيطت جوانبها بالصخر البديع الذي نقل من الكنائس والمقابر النصرانية في تلك الأنحاء. ومن بينها صخرة كبيرة جدا فيها شاهد بالحروف اللاتينية الكبيرة ، علمنا من قراءتها أنها شاهد قبر سيد من النرمنديين ، كان ضابطا للمشاة. وقد ذكرنا لنا الورتبيد (المطران) أن الأقاصيص والحكايات الأرمنية ، تروي أن هذا الفرنسي مكث مدة طويلة في هذه البلاد حين كان النصارى أسياد سورية. إن الأرض هناك سهل فسيح خصيب طوله نحو عشرين فرسخا ، بوسعها أن تجعل من سكانها أغنياء ، لو لا غشم الترك وغارات الأعراب عليهم مما أضعف ثروتهم وأدناها من حافة الفقر.
وفي اليوم الخامس والعشرين ، بعد أن سرنا ثماني ساعات ، حططنا الرحال في قرية يقال لها قوش حصار (Cousasar) ليس فيها خان. وكان هناك فيما سبق ثلاثة ديارات كبيرة بين الواحد والآخر ربع فرسخ. ولكن الترك خربوا اثنين منها عدا أبراج الكنائس التابعة لهما. أما الثالث الذي لا يزال قائما بكامله ، وهو من أجمل المباني ، فقد اتخذ مسجدا ، واتخذوا من الصوامع دكاكين لا تزال تتوسطها عين ماء.
وفي اليوم السابع والعشرين بقينا في قوش حصار ، إذ إنها المكان الذي يدفع فيه جمرك ديار بكر التي لا تبعد عنها أكثر من يومين. والرسم يبلغ القرشين والربع لكل حمل من السلع التجارية.
ومدينة ماردين لا تبعد عن قوش حصار أكثر من فرسخين. وهي بليدة قائمة فوق جبل ، ذات أسوار منيعة ، وينبوع يستمد ماءه من القلعة القائمة في الجانب الشرقي ، في موضع عال يشرف على المدينة. ويقيم في هذه القلعة باشا ، بإمرته مائتا سباهي وأربعمائة انكشاري. وفي ماردين ، ولدت السيدة معاني جويريدة (Maani Giorida) الزوجة الاولى لبترو دلّا فاله (Pietro della Valle) الرحالة الذائع الصيت (1).
وقوش حصار ، قرية كبيرة معظم سكانها من نصارى الأرمن والنساطرة. ويصلي الأرمن بلغتهم الأرمنية ، والنساطرة باللغة الكلدانية. وقد أطلعني النساطرة على نسختين من الكتاب المقدس في مجلد كبير باللغة الآرمية ، مكتوبين على الرق. وجميع الحروف الأولى من الفقرات مزوقة بالذهب واللازورد ، ويبدو عليهما أنهما قديمتا العهد. وأخبرني أحد كهنتهم أن احداهما مضى على كتابتها 937 سنة (2) ، والثانية لا يقل عمرها عن 374 سنة. ولما تنتهي الصلاة يودعونهما في صندوق يخبأ تحت الأرض. وقد دفعت لهم من أجل المخطوطة القديمة 200 قرش ، ولكنهم لم يوافقوا على بيعها لأنها من ممتلكات الكنيسة التي ليس لهم أن يتصرفوا بها.
وفي اليوم السابع والعشرين ، بعد مسيرة تسع ساعات ، وصلنا إلى قره سراي (Kara Sara) التي كانت قبلا ولا شك مدينة كبيرة وكانت مأهولة بالنصارى إذ فيها سبع أو ثماني كنائس نصف مهدمة إلا أن أبراجها أقل انهداما. وبين الكنيسة والأخرى مسافة ما. وفي شمال إحدى هذه الكنائس شرفة تفضي إلى باب صغير ينزل منه بدرج ذي مائة مرقاة ، وعلو كل مرقاة عشر عقد وإذا دخلت الكنيسة أبصرت عقادة واسعة كبيرة ، تقوم على أعمدة. وشيد البناء بشكل ينفذ النور معه من الأسفل أكثر مما من الأعلى. ولكن الأتربة قد سدت
__________________
(1) انظر الملحق رقم (6).
(2) معنى هذا ، أن المخطوطة كتبت في سنة 707 للميلاد ، فهي من أنفس الطرف وأقدمها. ولكن ما مصيرها اليوم؟.
في السنين الأخيرة عدة منافذ فيه. والمذبح الكبير منحوت في الصخر ، وعن يمينه غرفة ينفذ إليها النور من عدة نوافذ منقورة في الصخر أيضا. وكان فوق باب الكنيسة صخرة كبيرة فيها حروف كتابة لم أستطع قراءتها. وفي الجانب الشمالي من الكنيسة نفسها صهريجان كبيران تحت الأرض ، طول كل منهما أربعمائة وخمسون خطوة ، وله قوسان كبيران يسندهما عدد كبير من العمد. وهما يملآن في كل سنة بسيول الأمطار المنحدرة من الجبل المجاور ، فيكون منها ما يشبه نهرا. وعلى بعد ربع فرسخ من الكنيسة تنزل من الجبل نيفا ومائة خطوة بين الصخور ، وعلى جانبي الطريق غرف منقورة في الصخر ، وفوق كل باب صليب ، وفي كل غرفة دكة ومنضدة وموضع صغير أشبه بسرير بطول الإنسان. كل ذلك مقدود في الصخر. وفي أسفل الصخرة قاعة حول جدارها دكة ، والسقف ساذج لا أقواس فيه. وفي وسطه ثقب ينفذ إلى أعلى الجبل ، ولما كان النور لا يخترقها ، فيغلب على الظن أنه كان منفذا للدخان المتصاعد أثناء الطبخ ، أو لدخول الهواء النقي كما لا حظت ذلك في كثير من قرى خليج فارس (1). وفي أعلى أحد هذه الجبال قرية حقيرة يشترون منها مؤونتهم. وقبل أن تصل القافلة إلى هاتيك الغرف الصخرية ، يستوضح التجار الراكبون في المقدمة من الرعاة عما إذا كان لهم علم بوجود لصوص فيها ، إذ كثيرا ما يختبئون هناك متربصين فريستهم.
وفي سنة 1738 ، عندما سار السلطان مراد لحصار بغداد ، سلك هذا الطريق ، وشاهد هذه الخرائب ، فأمر بتخريب قلعة كانت على نحو فرسخين من قره سراي اتخذ منها لصوص تلك البقاع ملجأ لهم. وأمر كذلك بتنظيف الطريق إلى مسيرة أربعة أيام ، وذلك بالتقاط الحجارة المتبعثرة وجمعها في أكوام تحاذي الطريق. وبنى أيضا قنطرة فوق النهر. والحق يقال إن زحف السلطان عاد بفائدة جزيلة على المسافرين في هذا الطريق.
__________________
(1) بل إن هذه المنافذ مستعملة في كثير من أنحاء العراق ، وتسمى عندهم «بادكير» وهي لفظة فارسية عربها الأقدمون بلفظة بادهنج. راجع شفاء الغليل للخفاجي (ص 41 ـ 42 من طبعة الخانجي).
وفي اليوم الثامن والعشرين ، سرنا ثماني ساعات ، فبلغنا نصيبين المسماة قديما نصيبس (Nisibis). فإذا سرت ساعتين أو ثلاثا في هذا الطريق ، رأيت على مقربة منه نوعا من المناسك ، وهو غرفة صغيرة محاطة بسور ، بابها شديد الانخفاض وعلى من يدخلها أن يزحف على بطنه. وقد ذهب ثلاثة أو اربعة من اليهود لأداء عبادتهم في هذا المنسك لاعتقادهم أنه المكان الذي دفن فيه النبي أليشع.
والأرض بين قوش حصار ونصيبين سهل فسيح ، لا تجد فيه عشبا خلال الأيام الأولى من السفر ، ما سوى كزبرة الثعلب. وفي اليوم التالي ، ترى الحقول مغطاة بأوراق كبيرة ثخينة جذورها بصلية ، كبر الواحد كالبيضة ، كما تشاهد كثيرا من الأزهار الصفر والحمر والبنفسجية ، والسوسن بألوانه المتعددة ، وشقائق النعمان والنرجس الأصفر. ومع ذلك ، فإن ما بين النهرين بوجه عام أرض قاحلة ، وما يمكن تحسينه منها بالفن والمثابرة قليل.
ونصيبين الحالية ليست إلا ظلالا لنصيبين القديمة. وهي اليوم عبارة عن قرية كبيرة يسكنها النصارى من الأرمن والنساطرة. وقد نزلت قافلتنا وراءها قليلا ، في رحبة كنيسة ملاصقة لكنيسة أرمنية. وفي اليوم الثاني ، لما سمعت الناس يرتلون ، ذهبت إلى الكنيسة مع الراهبين الكبوشيين ، فرأيت مطرانا أرمنيا بتاجه وصولجانه الخشبي ، يحف به عدد من الكهنة وحشد كبير من المصلين. وفي ختام الصلاة ، تبادلنا التحيات ، ثم أنزلنا المطران إلى مصلى تحت الكنيسة ، أرانا فيه ضريح القديس يعقوب مطران نصيبين (1). وفي صحن الكنيسة رخامة ثخنها قدم وارتفاقها ست أقدام ، فوقها عدة شموع من العسل
__________________
(1) من أشهر رجال الكنسية الكلدانية في المائة الرابعة للميلاد. ولد في نصيبين. وقد صنف بالآرمية كتبا ورسائل ضاع جميعها. وصار أسقفا على نصيبين سنة 309 م ، وتوفي سنة 338 م ودفن فيها ، في الكنيسة التي ابتناها بعد ذلك أحد ملوك الروم على قبره ، ولعلها الكنيسة التي بناها هو في حياته سنة 320 م ، ثم جددت بعد موته. إن قبره الذي شاهده تافرنييه في هذه الكنيسة قبل ثلاثمائة سنة ، ما زالت آثاره تشاهد إلى اليوم.
والشحم ، وهي التي ينذرها الفقراء لبلوغ مرامهم. خاصة في مرضهم ، فإنهم يعتقدون أن الحجرة كانت قاعدة تمثال لأحد القديسين شوّهه الترك ، ولهذا فهم يكرمون القاعدة كما لو كان ذلك التكريم للتمثال ذاته. وقد ترى أيضا بعض الأحرف اللاتينية ، غير أن نصفها ممحو ، وأجزاء بعض الحروف الباقية مكسورة ، ولهذا لم أستطع أن أعرف لمن هذا التمثال. وعلى بعد نصف فرسخ من نصيبين نهر عليه قنطرة من الحجر ، وفي الطريق إلى هذا النهر عدة قطع من جدار ، مع قوس ، وهذا حملني على الافتراض بأن المدينة كانت تمتد فيما مضى حتى النهر.
وعلى ضعفي رمية بندقية من النهر ، صخرة نصفها مطمور ، عليها كتابة لاتينية يؤخذ منها أنها شاهد قبر قائد فرنسي في الجيش. ولكنني لم أتمكن من قراءة اسمه الذي ضاعت بعض معالمه بمرور الزمن.
وفي نصيبين ، تؤدى الرسوم كسائر الأمكنة ، أي أن تدفع قرشين ونصف القرش على حمل البغل أو الحصان. وقد مكثنا في هذه المدينة ثلاثة أيام بلياليها ، لنتزود بالطعام الذي يكفينا حتى الموصل التي تبعد مسيرة خمسة أيام عن نصيبين ، لأن المنطقة بين هاتين المدينتين مقفرة خالية من السكان ، ولا يوجد الماء إلا في موطنين ، وهو ليس بالجيد لأن الرعاة يترددون إليهما بقطعانهم.
وفي أول نيسان (سنة 1644 م) غادرنا نصيبين ، وبعد مسيرة إحدى عشرة ساعة ، حططنا الرحال عند نهر ، فأتانا الرعاة بدجاج للبيع.
وفي اليوم الثاني منه ، سرنا عشر ساعات ، ثم نزلنا قرية حقيرة لم نجد فيها ما نأكل.
وفي اليوم الثالث منه ، تمادى بنا السير ثلاث عشرة ساعة ، ونزلنا عند ينبوع صغير نزر الماء لم يكد يكفي لخيلنا.
وفي اليوم الرابع منه ، انتهينا بعد مسيرة عشر ساعات ، إلى ضفة نهير بتنا عندها ، وبالقرب منها بقايا قنطرة (1) وحصن.
__________________
(1) انظر الملحق رقم (7)
وفي اليوم الخامس منه ، بعد مسيرة احدى عشرة ساعة بلغنا الموصل ، التي لا تبعد عن نينوى القديمة إلّا يسيرا.
والموصل ، مدينة تبدو للمرء من خارجها فخمة المنظر. أسوارها (1) حجرية ، بينما هي في داخلها تكاد تكون برمتها خربة. وليس فيها سوى سوقين معقودتين ، وقلعة (2) صغيرة مطلة على دجلة يقيم فيها الباشا (3). وبوجيز الكلام ، ليس في الموصل ما يستحق المشاهدة والالتفات (4).
وليس لهذه البقعة من شأن إلا كونها ملتقى مهمّا للتجار ، خاصة تجار العرب والكرد الذين يقطنون بلاد أشور القديمة ، المسماة اليوم بكردستان ، التي يكثر فيها العفص الرائج التجارة. وفي الموصل أربع فرق نصرانية ، وهي : الروم ، والأرمن ، والنساطرة ، والموارنة (5). وللكبوشيين مقر جميل على دجلة (6) ، ولكن الباشا غرمهم لأنهم حاولوا توسيعه قليلا فأجبروا على تركه وهجره. ويحكم المدينة باشا ، بإمرته جماعة من الانكشارية والسباهية يبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل.
وليس في الموصل غير خانين بسيطين ، كانا مكتظين بالمسافرين حين
__________________
(1) انظر الملحق رقم (
في الكلام على الموصل.
(2) لا أثر لهذه القلعة اليوم ، وإنما يعرف موقعها فقد كانت تقوم عند «باب القلعة» المطل على دجلة ، في أعلى الجسر الحديدي الحالي.
(3) كان يسوس الموصل في العهد العثماني «باشا».
(4) انظر الملحق رقم (
.
(5) لا نرى المؤلف إلا واهما في ذكره هذه الفرق النصرانية. فلم تعرف الموصل في يوم من أيامها الماضيات بكونها موطنا للروم ولا للموارنة. بل إن الفرقتين السائدتين في زمنه هناك كانتا «النساطرة» و «اليعاقبة». أما الأرمن فلم يكن منهم فيها إلا عدد ضئيل لا يستحق الذكر.
(6) قدم الرهبان الكبوشيون إلى الموصل سنة 1636 وغادروها نهائيا بعد سنة 1667 بمدة وجيزة.
وصولنا إليها. فطلبت أن تنصب خيمتان في الميدان ، أي في السوق (1) الكبيرة.
ويجدر بنا أن نتكلم قليلا على ما بين نهري دجلة والفرات من تباين في مجراهما ومياههما. فقد لاحظت أن ماء الفرات يبدو محمرا قليلا ، وأن تياره ليس سريعا كتيار دجلة الذي يظهر مائلا إلى البياض كنهر اللوار (2). أما عن مجراهما فالفرات أطول من دجلة. والآن دعنا نقطع دجلة فوق جسر من القوارب (3) لمشاهدة الخرائب الكئيبة لمدينة نينوى التي ملأت العالم ضجيجا ، وليس في مظهرها الآن ما يدل على سابق مجدها.
شيدت نينوى على الضفة اليسرى لدجلة ، أي في الضفة الأشورية. وهي الآن ليست إلا أكواما من التراب تمتد نحو فرسخ بامتداد النهر. ويرى فيها عدد من الأقبية والمغاور غير المأهولة (4). ويصعب على الإنسان أن يعلم ما إذا كانت هذه بعينها المساكن القديمة في المدينة ، أم كانت هنالك بيوت مشيدة فوقها في الأزمنة الخالية. لأن معظم البيوت في البلاد التركية تشبه السراديب ، أو لا تتألف إلا من طبقة واحدة عالية. وعلى نصف فرسخ من دجلة تل تشتتت على سطحه بيوت وفي قمته مسجد يذهب أهل تلك البقعة إلى
__________________
(1) ما زالت «محلة الميدان» و «سوق الميدان» معروفتين مأهولتين في الموصل. وهذه السوق تمتد بموازاة دجلة ، من مشرعة شط القلعة إلى الجسر الحديدي الجديد. وبينها وبين النهر نحو مائتي متر.
(2) اللوار من أنهار فرنسا.
(3) كان للموصل منذ أقدم عصورها إلى يومنا هذا ، جسر يصل ما بينها وبين شاطئ دجلة الأيسر. وهو جسر خشبي من القوارب ، يجدد كلما ناله البلى. ولكن هذا الجسر الخشبي البسيط ، استعيض عنه ، سنة 1933 بجسر حديدي مكين راسخ الدعائم.
(4) لم نفهم مراد المؤلف بقوله «الأقبية والمغاور» فهل يدل ذلك على حفريات وتنقيبات في نينوى منذ ذلك العهد؟ مع أن المعروف بين علماء الآثار ، أن الحفريات في نينوى لم تبدأ إلا في سنة 1840 م وأن معظمها تم بشق الأنفاق في باطن التل لاستخراج الآثار منه ، ولا تزال معالم هذه الأنفاق تشاهد وكأنها أقبية ومغاور.
أنه الموطن الذي دفن فيه يونس (1) (يونان) ، وهذا المسجد جليل المكانة ولا يباح لنصراني أن يدخله إلا بوجه خصوصي ، فضلا عن دفع نقود في سبيل ذلك. وبالوسيلة ذاتها أمكنني ، مع اثنين من الرهبان الكبوشيين ، الدخول فيه ، ولكننا أجبرنا على خلع نعالنا قبل السماح لنا بالدخول. وفي وسط الجامع ضريح مغطى بسجادة فارسية منسوجة من الحرير والفضة ، وفي كل ركن من الضريح شمعدان نحاسي كبير فيه شمعة من شمع النحل ، هذا إلى جملة من القناديل وبيض النعام مدلاة من السقف. ووجدنا جمعا كبيرا من المسلمين خارج المسجد ، وفي داخله رأينا درويشين يتلوان القرآن.
وعلى رمية بندقية من الموصل ، إلى شمالها الشرقي ، أطلال دير كبير متهدم ، يحيط به سور عال ما زال معظمه قائما (2).
لقد مكثنا في الموصل عشرة أيام ، وبعد أن تزودنا منها بكل ما نحتاج إليه لبقية سفرنا ، غادرناها قاصدين أصفهان.
__________________
(1) انظر الملحق رقم (9).
(2) انظر الملحق رقم (10).
الفصل الخامس
(من الكتاب الثاني من الرحلة)
نسخة الكلام على الطريق من نينوى إلى أصفهان
بعد أن عبرنا دجلة ، نزلنا في مكان على مسيرة ثلاثة أرباع من نينوى منتظرين تجارا أزمعوا على السفر مع قافلتنا. ولم نسلك الطريق المعتاد إلى بلاد فارس ، بل سرنا في طريق يقل فيه دفع الرسوم ، ذلك إلى كونه أقصر مسافة. وتقطع القافلة ما بين حلب وأصفهان بثمانية وخمسين يوما. إننا من ضفاف دجلة حتى المكان الذي نزلنا فيه مساء ذلك اليوم ، لم نمر بغير خرائب متصلة ، مما حملني على الاعتقاد أنها البقعة التي كانت تقوم فيها نينوى القديمة.
وقد مكثنا يومين قرب المسجد (1). والذي يتناقله المسلمون ، إن يونس دفن فيه. لقد اخترنا رجلا كرديا أي أشوريا (2) ليتزعم قافلتنا (أي يصير كروان باشي). ومع أنه يشك في أمانته فقد كان اختيارنا له ضربا من السياسة ، لأنه كان علينا اجتياز بلاد آشور القديمة التي تسمى الآن كردستان ، وهذه بقعة يتكلم أهلها لغة خاصة بهم.
وفي اليومين الأولين من السفر ، عبرنا جدولين يأتيان من الجبال ويصبان في دجلة. وكان أول سفرنا في بسيط من الأرض بموازاة ضفة جدول. وفي مساء اليوم الثاني نزلنا عند نهر كبير ينحدر من الجبال الشمالية ويجري جنوبا فيصب في دجلة ، ويسمى بهرز (3) (Bohrus) ، وتياره سريع عنيف ، وهو زاخر
__________________
(1) يريد به مسجد النبي يونس ، وقد مر ذكره.
(2) يريد به كرديا ساكنا بلاد آشور. وقد سبق للمؤلف في الفصل الماضي أن سمى كردستان بلاد آشور.
(3) انظر الملحق رقم (11).
بالسمك وخصوصا سمك سليمان. وقد ظلت القافلة في عبورها هذا النهر يومين لعدم تيسر القوارب هناك. فكان على الناس أن يربطوا أعمدة خشبية طويلة ، والواحد فوق الآخر ، يسميها الأهلون هناك «الكلك» ، وهم يصنعونه بشكل مربع ، ويضعون تحته نحو مائة جراب منفوخ بالهواء لتجعل الكلك يطفو على وجه الماء دون أن يلامس خشبه. وعلى التجار أن يحتاطوا بوضع لبابيد ثخينة فوق الكلك لئلا يتسرب الماء إليهم وتتبلل أحمالهم. وفي زوايا الكلك الأربع ، خشبات تقوم مقام المجاذيف ، ولكن فعلها ضئيل بإزاء قوة التيار. ولهذا ، ينبغي سحب الكلك ضد التيار إلى مسافة أربعمائة أو خمسمائة خطوة ، ومن ثم يجذف مع التيار حتى يبلغ المكان الذي يراد إنزال الأحمال فيه في الجانب الآخر. وبعد تفريغ الأحمال ، على الملاحين أن يرفعوا الكلك من الماء ، ويفكوا الجربان ويحملوها على بغال معدة لهذا الغرض. إن أصحاب الخيل والبغال والحمير هناك ، سواء أكانت للحمل أم للركوب ، حالما يرون قافلة قادمة ، يهرعون بها إلى ضفة النهر ، وليس عليهم إلا وزرة من قماش أو من جلد الماعز ، يسترون بها عوراتهم ، أما ثيابهم فينزعونها ويلفونها على رؤوسهم كأنها العمامة. ويربط كل منهم تحت بطنه جرابا منفوخا فيتقدم اثنان أو ثلاثة من أمهرهم راكبين أحسن الخيول الملجمة ، فينزلون في الماء ويتبعهم البقية سباحة ، سائقين خيلهم أمامهم. وقد قبض كل منهم ذيل دابة بإحدى يديه وبالأخرى يسوقها. فإن وجدوا حصانا أو حمارا ضعيفا ، ربطوا تحت بطنه جرابا منفوخا عونا له. فإذا أدركنا هذه المصاعب ، اتضح حين ذاك أن ما يستغرقه عبور قافلة من خمسمائة أو ستمائة دابة لا يقل عما ذكرنا.
وبهذا الوجه عبرت القافلة ، ولكنها سارت في اليومين أو الثلاثة الأولى من سفرها في طريق رديء جدا ، لأن الخيل في اليوم الأول من السفر كانت تسير في مياه تبلغ ركبها دون انقطاع. وفي اليوم الثاني وشطر من الثالث كانت تسير في قفار موحشة لم نجد فيها لخيلنا علفا ما ، عدا عن أحطاب قليلة لطبخ رزنا. وبعد اجتيازنا هذا الطريق الرديء بلغنا نهرا يقال له الزاب الكبير (1)
__________________
(1) انظر الملحق رقم (11).
(Great Zarbe) فعبرناه فوق قنطرة حجرية (1) تتألف من تسعة أقواس. ويروي الأهلون أن هذه القنطرة أقامها الإسكندر الكبير عند مسيره لمناجزة دارا. وعلى قيد ربع فرسخ من جنوب شرقي القنطرة ، يلتقي نهيران يصبان في دجلة وبعد اجتيازنا القنطرة ، بلغنا بلدة يسمونها شهرزور (Sherazour) وهي مبنية على نشز من الأرض ، فيها ثلاثة متاريس ، ويقيم فيها «باشا» لا مندوحة للقافلة أن ترشيه بهدية ولو صغيرة ، وذلك كي يسمح لها بالمرور من هناك. ونزلنا عند ضفاف نهر ولبثنا هناك يومين. ثم سرنا يوما في جبال جرد لا ماء فيها. على أننا في اليوم الثاني انتهينا إلى سهل مبهج تكثر فيه الأشجار المثمرة ، وما هذا إلا سهل إربل الذي تغلب فيه الإسكندر على دارا (2) ، ويبلغ طوله خمسة عشر فرسخا ، وتسقيه جداول عديدة. وفي وسط الجبل تل صغير محيطه نحو نصف فرسخ كسته الطبيعة بأجود أشجار البلوط التي لم ير مثلها. وفوق قمته خرائب حصن تدل على أنه كان بناء عظيما. ويروي أهل تلك البقعة أن دارا مكث في هذا الحصن أثناء اشتباك رجاله بالمعركة مع الإسكندر. وعلى ثلاثة فراسخ من هذا الحصن ، قرب جبل عظيم يتجه شمالا ، بقايا حصن آخر وعدة بيوت ، يتناقل الأهلون فيما بينهم أن دارا حمى بعض نسائه فيها لما خسر المعركة. ويقوم هذا الحصن فوق بقعة جميلة المنظر. وفي حضيض الجبل عين ماء ، تنساب مسيرة ربع فرسخ ، ثم تصب في نهر صالح لسير القوارب الكبيرة. وهذا النهر يتلوى بين الجبال متجها جنوبا ، يحيث إنك بعد مسيرة يومين من التل تعبر هذا النهر ثانية قرب بلدة يقال لها شهرزور ، فوق قنطرة من الحجر ذات تسعة أقواس ، وهي التي أمر الشاه عباس الكبير بهدم ثلاثة من أقواسها بعد استيلائه على بغداد.
__________________
(1) لعل تافرنييه يريد بها ، قنطرة أسكي كلك ، التي هدمت ، وأقيم بجانبها في السنوات الأخيرة جسر حديد ثابت.
(2) جرت الموقعة بين الاسكندر ودارا في بقعة كوكاميلا قرب إربل ، سنة 331 قبل الميلاد ، وكان النصر فيه للإسكندر. وتعد هذه المعركة من المعارك الفاصلة في تاريخ العراق القديم.
وشهرزور بلدة تختلف في بنائها عن أي بلد في تلك الأنحاء ، فجميعها منحوت في الصخر بما يبلغ امتداده ربع فرسخ ، ولهذا عليك أن ترتقي بيوتها بمرقاة تتألف من خمس عشرة إلى عشرين درجة ، وأحيانا أقل ، بنسبة ارتفاع المكان الذي تقصده. وليس لمداخل بيوتها أبواب ، بل لها أحجار مستديرة تشبه حجر الرحى ، يدحرجونها حين الدخول أو الخروج. وحافات الحائط نقرت بوجه يستوعب هذا الحجر. كما هي الحال في العلبة وغطائها ، إذ يصبح الحجر باستواء واجهة الجبل عند وضعه على الباب.
وتبدو أعالي بيوتهم كالروازين في الجبال ، وقد اتخذ الأهلون مغاور لحفظ ماشيتهم فيها ، ومن ذلك نحكم أنها نقرت لتحمي السكان من عرب ما بين النهرين وبدوهم.
انتهينا إلى شهرزور في ليلة عيد الفصح ، ومكثنا هناك ثلاثة أيام طلبا للراحة بعد صوم تمسكنا به. وقد رأيت هنا ينابيع يخرج منها الماء بفقاقيع كبيرة. وبعد أن مزجت هذا الماء بكأسين من الخمر وشربته وجدت له خاصية الإسهال ، كما أنه ذو مذاق معدني. إن ماء هذه العيون يغلي قرب ضفة نهر يسمى ألتون صو أو نهر الذهب الذي يصب في دجلة ، وبعد مسيرة ثلاثة أيام من مصبه يصل المرء إلى بغداد.
وفي اليوم التالي ، نزلنا بلدة حقيرة على الحدود بين تركيا وإيران (1).
وفي اليوم الذي يليه ، وهو اليوم الخامس بعد مغادرتنا نينوى مررنا بعدة مناقع ومياه حارة تفصل بين الامبراطوريتين. وهكذا دخلنا في بلاد فارس ، وصادفنا جبلا شامخا تغطيه أشجار البلوط التي تحمل العفص. ولعلو هذا الجبل الشاهق ، استغرقت القافلة بضع ساعات لبلوغ قمته. ولدى صعودنا هذا الجبل ، وخاصة عندما أدركنا قمته ، سمعنا طلقات بندقية تدوي في الفضاء ، فظننا بادئ الأمر أن أناسا يصطادون الخنزير البري أو الغزال مما تكتظ به
__________________
(1) يقصد الحدود بين إيران والعراق. لأن العراق كان حينذاك في ضمن الامبراطورية ، ويسميها الإفرنج أحيانا تركيا.
الجبال ، ولكن صوت الرصاص كان أقوى وأشد مما يستعمله الصيادون. فتأهبنا للأمر. وكان من الواجب التدبر في مسيرنا لو كنا نعلم ما سيجابهنا من أمر ، إذ تذكرت أن الأهلين هناك لا يبيعون شيئا إلا مقابل بارود أو رصاص. وكان الكروان باشي قد نصحني مرة أن لا أقايضهم خشية أن يستعملوا ما يأخذونه منا ضدنا. ثم انحدرنا من الجبل إلى سهل خصيب تسقيه عدة أنهر.
فالمقاطعة التي اجتزناها حتى الآن ، تؤلف القسم الأعظم من بلاد آشور القديمة.
الفصل السادس
(من الكتاب الثاني من الرحلة)
[ملاحظة : وفي رحلة تافرنييه الرابعة الموصوفة في الفصل السادس من الكتاب الثاني ، التي بدأ بها في 18 حزيران سنة 1651 م ، بخروجه من باريس مارا بمرسيليا ، ومنها إلى سردينيا ، فتونس ، فبانتيلاريا ، فصقلية ، ثم مالطة ، فكريت ، ومنها اجتاز بحر المورة ، فوصل إلى قبرص ، ومنها إلى ساحل سوريا في خليج انطاكيا ، فالإسكندرونة ، ومنها إلى حلب] قال بعد ذلك :
وفي الثالث عشر من كانون الأول (1651 م) توجهنا نحو نينوى بطريق يختلف قليلا عما سلكته في رحلتي الثالثة من باريس ووصفته في وقته. وصلنا في اليوم الثاني من شباط (1652 م) مدينة الموصل أو نينوى ، فمكثنا فيها إلى اليوم الخامس عشر منه ، وذلك إلى أن تهيأت الأكلاك ، وهي سفن ذلك البلد. وكان في كلكنا ثلاثون مسافرا وأحمال كثيرة. فسار بنا الكلك فوق دجلة ، من الموصل إلى بابل. (1)
__________________
(1) إن غير واحد من الرحالين الأقدمين قد خلطوا بين الموصل ونينوى كأنهما شيء واحد. كما أنهم ذهبوا إلى أن بغداد هي بابل ، وكل ذلك من الأوهام الظاهرة التي لا تخفى على من له اقل الوقوف على بلدان العراق.
الفصل السابع
(من الكتاب الثاني من الرحلة)
مواصلة الطريق الذي سلكه المؤلف في رحلته الرابعة في آسيا ،
وخاصة سفره في دجلة من نينوى إلى بابل (بغداد)
في الخامس عشر من شباط (1652 م) ، تحركنا من الموصل ، وبعد أن جرى الكلك بنا ست ساعات ، رسونا قرب حمام حار المياه ، على بعد رمية بندقية من دجلة ، وكان مزدحما بالمعلولين الذين أمّوه للاستشفاء من كل حدب وصوب (1). وقد أقمنا على حراسة الكلك طوال الليل ، ولكن بالرغم من تيقظنا فقد سرق الأعراب غطاءين من أحد التجار وثيابا من رجل تركي كان قد نزل إلى الحمام.
وفي اليوم السادس عشر منه ، بعد أن جذفنا حوالي خمس ساعات ، بلغنا سدا ضخما (2) ، عرضه 200 قدم ، ويشكل شلالا في النهر انحداره عشرون قامة.
ويقول العرب إن الإسكندر الكبير قد أقامه رغبة منه في تغيير مجرى النهر ، بينما يقول غيرهم إن دارا هو الذي أمر ببنائه لصد مرور المقدونيين الآتين بطريق الماء (3). ومهما يكن من أمر هذا السد ، فقد اضطررنا إلى النزول برا مع أحمالنا ، فحملناها على الدواب التي جاءنا بها العرب.
إن عبور هذا السد لأمر جدير بالمشاهدة ، لأنه من العجيب أن ترى الكلك يهوي بغتة من علو 120 قدما ، وهو محافظ على موازنة جريانه فوق
__________________
(1) انظر الملحق رقم (12).
(2) ورد في حاشية خطية في كتاب الرحلة ، تعليقا عل هذا السد : إنه بني من حجارة كبيرة تصلبت بمرور الأيام فأصبحت كالصخر.
(3) راجع الملحق رقم (13).