الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
اهل البيت
المواضيع الأخيرة
» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

»  أحاديث / شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا) شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)
رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyأمس في 9:50 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:03 pm

    مقدمة المعرب
    اجتاح أقطار أوربا في القرن الخامس عشر تيار «الإنسانيات» فانكبّ أدباء ذلك العصر بحثا وتنقيبا في مخلفات الأقدمين ، بدءا بالأدب اليوناني ثم الأدب اللاتيني القديم ، وظهرت للنور تحقيقات مهمة ودراسات شائقة أغنت التراث البشري في هذا الميدان.
    وفي نهاية القرن السادس عشر انتعش تيار جديد ، خاصة في إيطاليا ، هو رغبة الاطلاع على الشرق الغنيّ بتراثه الفكري وحضاراته العريقة ، فانتشرت الدراسات العربية والسريانية والتركية.
    إن أسماء المدن الشرقية مثل بابل ونينوى والقدس وبغداد واسطنبول ـ وريثة القسطنطينية ـ كان لها وقعها السحري في مخيلة الأوروبيين بأخبارها وأساطيرها وتراثها ؛ فقصص ألف ليلة وليلة ، وذكريات هارون الرشيد ، وحروب سلاطين بني عثمان ، وأسواق الشرق الغنية بكل شيء ، كانت تجذبهم إلى مزيد من الاطلاع والبحث.
    لقد شرع الباحثون بالتعمق في تراث الحضارة العربية العريقة بمختلف ميادينها : في الطب والرياضيات والفلك والفلسفة ، فكانوا ينهلون من ينابيعها الغزيرة ، بينما عكف غيرهم على دراسة التراث الإسلامي ، بينهم من ساقه إلى ذلك حب الاطلاع ، وبينهم نفر آخر كانت رغبته الجدل الديني.
    لعل الدافع الأصلي لهذه الدراسات كان أدبيّا وثقافيّا محضا ، لكن سرعان ما سخرتها الدول والحكومات لخدمة أغراضها التجارية والاستعمارية ، وانطلاقا من هذه البحوث حاولت دول أوروبا وإماراتها بكل

    جهودها أن تكسب لها موضع قدم في الباب العالي والمدن المهمة التابعة لها بواسطة الاتفاقيات والتسهيلات الخاصة وغير ذلك.
    صاحب الرحلة
    في هذه الحقبة ولد بيترو ديللافاليه Pietro della valle في 11 نيسان سنة 1576 م من أبوين شريفين هما بومبيو ديللافاليه وجيوفانا البيريني ، من أسرة رومانية عريقة ، لا تزال تحتفظ إلى اليوم في قلب روما بشارع يحمل اسمها وكنيسة فخمة شيدها أحد أفرادها.
    وقد شغف منذ نعومة أظفاره على اكتساب العلوم المختلفة ، واستهوته الموسيقى ، ومارس التمثيل المسرحي ، وأتقن فنون الفروسية كما تتطلبها حالته الأرستقراطية.
    وعند ما شب عن الطوق أحب فتاة من طبقته ، لكنها لم تبادله الحب ، فأصيب بخيبة أمل هزت كيانه وجرحت كرامته ، فقرر الهرب من المجتمع المخملي الزائف ، والابتعاد عن وطنه والتنقل في بلاد الله الواسعة ، ليعبر عن سخطه على الحياة وتبرمه بمحيطه الزائف ، مقتديا بمغامرات الأقدمين الذين طعنوا في عواطفهم ؛ فارتحل أولا إلى نابولي ، واجتمع هناك بصديقه الأديب والشاعر ماريو سكيبانوMario Schipano أستاذ الطب في جامعة نابولي ، وعرض عليه حالته النفسية ورغبته بالسفر ، فشجعه في الحال ، واقترح عليه أن يجعل لسفره غاية أدبية وهدفا علميا ، فيكتب مشاهداته ويسجل انطباعاته عن الأماكن التي يمر بها والشعوب التي يختلط بها ، وطلب منه أن يرسل إليه ما يكتبه بصورة «رسائل» ووعده بأنه سيجمع المعلومات الواردة في تلك الرسائل وينقحها ويصوغها في كتاب يخلد اسمه.
    أمضى ديللافاليه خمسة أعوام في نابولي وهو يستعد للرحيل وقد أغنته الأعوام بالمعارف الإنسانية ، وفتحت له آفاقا جديدة باتجاه الشرق ؛ وخلال تلك الفترة تجول في جنوب إيطاليا ورحل إلى جزيرة صقلية ، واشترك بحملات قصيرة ضد قراصنة البحر ليمارس الفنون العسكرية التي اكتسبها سابقا.

    ثم عاد إلى روما وانتقل شمالا إلى البندقية ليبحر منها إلى الشرق فركب البحر في 8 حزيران 1614 ووجهته اسطنبول. وأمضى في عاصمة الخلافة فترة انهمك فيها بدراسة اللغة التركية لأنه كان معجبا بها رغم كونه يبغض الأتراك بغضا شديدا نابعا من ترسبات اجتماعية ودينية عميقة. ووضع في تلك الفترة كتابا في نحو اللغة التركية وكتب وصفا جذابا عن البلاط العثماني والشخصيات الحاكمة ، كالسلطان أحمد الثاني (1589 ـ 1617 م) والصدر الأعظم نصوح باشا وأسهب في وصف مصرعه المأسوي.
    كان بودّ ديللافاليه التوغل شرقا انطلاقا من اسطنبول ، وإذ رأى في ذلك بعض المحاذير فقد قرر تغيير وجهته ، وتأجيل زيارته لبلاد فارس إلى فرصة أخرى ، لذلك سافر في 15 أيلول 1615 إلى مصر حيث زار آثار الفراعنة ودخل إلى الأهرامات وصعد إلى جبل سيناء ، ثم حج إلى بيت المقدس فحقق أمنية عزيزة على نفسه بأن يصبح حاجا «مقدسيا» ومنذ ذلك الحين اتخذ لقب المقدسي بيترو ديللافاليه.ll Pellegrino
    انتقل إلى حلب للتوغل شرقا ، وهناك حدث ما غير خططه وقلب مجرى حياته ، فقد التقى في الشهباء برجل إيطالي عائد من بغداد حدثه ـ بعد اطلاعه على حياة ديللافاليه السابقة ـ عن فتاة بغدادية رائعة الجمال ، عالية الشمائل لائقة بالنبيل الروماني ، فكتب : «كنت أنصت إليه في أول الأمر لتمضية الوقت لا غير ... حتى تولد في نفسي شوق كبير للتعرف على هذه الفتاة ... وتحول الشوق إلى حب». وهكذا قرر السفر إلى بغداد ليلتقي بتلك التي ملكت عليه مذاهبه.
    وفي بغداد تتحقق أمنيته ، فينسى ألمه القديم ، وتلتئم جراح قلبه ، فيتقدم طالبا يد الفتاة العراقية «معاني بنت حبيب جان جويريدة». فيتم الزواج ، ولعل أجمل صفحات الرحلة من الناحية الأدبية هي تلك التي يصف فيها حبه لمعاني وفرحه بالزواج منها.
    لكن الحظ العاثر أبى أن يفارقه ، فقد توفيت معاني ضحية الملاريا في 30 كانون الأول 1621 بعد خمسة سنوات من زواجهما بينما كانت تنتظر ثمرة

    حبهما. فأوحى إليه حبه الجارف أن يحمل رفات الحبيبة إلى روما ليواريها الثرى في ضريح أجداده ، فقد كانت أمنيته أن تدخل زوجته معه إلى روما وترى المدينة العظيمة التي طالما حدثها عنها واشتاقت لرؤيتها ، فلا بأس أن تدخلها ميتة ، فقرر تحنيطها بطريقة بدائية بوضع كمية كبيرة من الكافور الهندي في داخل جثمانها ، وأوصى على صندوق من خشب الصندل أحكم سده بمسامير حديدية كبيرة من صنع محليّ.
    أربعة أعوام والجثة المحنطة ترافقه من مكان ألى آخر ، في بلاد فارس والهند والبحر العربي والعراق وسوريا ، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أوصلها إلى روما وأنزلها بيديه في ضريح الأسرة بين والديه ، في واحدة من أجمل كنائس روما وأقدمها ، كنيسة مريم العذراء ، على مرتفع أراجيلي في قلب المدينة.
    ألا توحي هذه الرحلة وأحداثها قصة ميلودرامية تروي تاريخ العراق في الربع الأول من القرن السابع عشر والصراع بين العراق وفارس ومحاولة هؤلاء السيطرة على العراق وموقف العراقيين ضد الأطماع الفارسية.
    لم يكن ديللافاليه يسعى إلى الصفقات والربح المادي ، ولا رجل دولة ، بل كان حاجّا وباحثا بكل ما في الكلمة من معنى وهو يحاول النسيان ويطلب العلم ، ولم يأبه للمال فقد كان غنيّا ، لهذا لم يتسرع في ترحاله لأنه يريد الاطلاع على الآثار والاختلاط بالناس والتعرف على كبار القوم وعلمائهم والشخصيات الحاكمة. بحث عن الكتب القديمة النادرة ، وتعمق في التركية والفارسية ، وألمّ بالعربية والكلدانية والقبطية إلى جانب معرفته السابقة باليونانية واللاتينية.
    وكما وعد صديقه الطبيب ماريو ، أخذ يكتب من كل مدينة يحل بها رسالة مطولة فيها وصف مسهب للمناطق التي زارها والناس الذين التقى بهم ؛ ويدل وصفه على سعة اطلاعه وتمكنه من المصادر القديمة فهو يذكر المؤرخين السالفين مثل هيرودوتس وزينوفون ويورد أبياتا من الشعر الكلاسيكي اللاتيني ويأتي على ذكر آيات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
    كانت الرسائل الأولى غزيرة المادة وافية الشرح ثم قصرت بعد وفاة

    زوجته لتصبح جافة شحيحة ، ثم عادت إلى ما كانت عليه ؛ لكنه أكثر من الوصف الخارجي هذه المرة دون التعليق العلمي على مشاهداته.
    يبلغ عدد الرسائل التي كتبها أربعا وخمسين رسالة كتب الأولى في 23 آب 1614 من اسطنبول ، والأخيرة من روما بتاريخ 1 آب 1626.
    إضافة إلى هذه الرسائل المحفوظة ضمن كتاب الرحلة فإن ديللافاليه كان يراسل أشخاصا آخرين يناقشهم فيها في مختلف الأمور حسب اختصاصهم. فيكتب إلى أحدهم يسأله عن التوابل والعقاقير وأنواعها وفوائدها ، وإلى آخر يناقشه في معاني بعض الكلمات والتعابير العربية. وله إلى جانب رسائله دفتر يوميات ذكره أكثر من مرة وقال عنه إنه أغزر مادة من رسائله لأنه أودع فيه معلومات كان يخشى أن يذكرها في الرسائل خوفا من وقوعها بيد الأتراك لكن هذا الدفتر فقد مع الأسف.
    وكان قد اصطحب معه رساما فلمنكيا رسم لوحات عديدة نوه ببعضها في رسائله ، منها : صورة الرحالة وصورة الست معاني بزيها البغدادي ولوحة لطاق كسرى ، وأخرى لآثار بابل. وقد ضاعت معظم هذه اللوحات.
    وكما كان ديللافاليه من أوائل الذين دخلوا إلى الأهرام وحمل معه إلى روما أثارا مصرية ومومياء فرعونية ، فهو كذلك من أوائل الرحالة الأوروبيين الذين زاروا بابل والآثار العراقية وذكروا الكتابات المسمارية وحملوا أجرا ورقما من بلاد ما بين النهرين إلى أوروبا.
    اقتنى صاحبنا خلال رحلاته مخطوطات عديدة عربية وسريانية وقبطية وتركية وفارسية ذكر بعضها في سياق كلامه. وقد آلت هذه المخطوطات بعد وفاته إلى خزانة الفاتيكان.
    وفي طريق عودته من الهند إلى بلاده مر بالبصرة ومنها رحل إلى حلب عبر البادية ، وكانت سفرة شاقة في فصل الصيف اللاهب استغرقت سبعين يوما. ومن حلب إلى الاسكندرية ، ثم أبحر إلى نابولي لينطلق إلى روما فوصلها في 28 آذار 1626 بعد غياب طويل واهتم أولا بإيداع رفات زوجته في لحد الأسرة ، ثم أقام نصبا تذكاريّا خاصّا بها ، ولا أثر لهذا النصب حاليّا. وبعد

    انقضاء سنة أقام احتفالا تأبينيا إكراما لها اشترك فيه أصدقاؤه وألقيت فيه القصائد والكلمات المناسبة فجمع ما قيل في هذه الذكرى في كتاب ونشره بالطبع.
    ثم تزوج بفتاة شرقية كانت في خدمته منذ حياة زوجته معاني وقد أوصت به خيرا ورزق منها بأولاد عديدين.
    اشتهرت رحلات ديللافاليه في أوروبا وزاد من شهرتها حبه للفتاة البغدادية وموتها الأليم وهما في قمة السعادة وحمله لجثمانها طيلة أعوام عديدة ؛ فأعادت إلى الأذهان قصة ملكة كاستيليا «جيوفانا» jeanne la Folle الملقبة بالمعتوهة التي كانت تحمل معها دائما جثة زوجها الحبيب «فيليب الجميل» Philippe le Beau ولهذا ترجمت رحلته إلى لغات عديدة وزينت بعضها بالصور وطبعت أكثر من مرة.
    وقد قال الشاعر الألماني الشهير «غوته» : «إن قراءة رحلة ديللافاليه كشفت له عن الشرق».
    أصبح قصر ديللافاليه في روما بعد عودته متحفا يقصده الكثيرون للنظر إلى المؤمياء الفرعونية والآثار التي جلبها معه والأزياء المتعددة التي حملها من البلاد التي كان بها والمخطوطات الشرقية.
    توفي السائح في روما في 21 نيسان 1652 فدفن إلى جانب الست معاني جويريدة البغدادية ، وكان قبره لفترة طويلة بعد موته قبلة الزوار والمعجبين ، كما ورد في حوليات الكنيسة وما لم يرد في الدفتر أنه أصبح قبلة العشاق! وقد تحرينا عن قبره عند زيارتنا روما قبل سنوات فلم نجد له أثرا لكن الجناح الخاص بالضريح لا يزال يعرف باسم أسرته كما وجدنا في العاصمة الإيطالية شارعا يحمل اسمه ...
    إننا نقرأ في سطور الرحلة إعجابا وحبّا للعرب عامة وللبدو منهم بنوع خاص ، فقد لا حظ الرحالة حبهم للحرية وعدم استكانتهم لسيادة الغرباء فكرر ذلك أكثر من مرة خلال رحلته خاصة في ذكره لعرب الأحواز وأمرائهم المستقلين الذين كثيرا ما حاولت السلطات الفارسية منذ ذلك العهد السيطرة

    عليهم والتدخل في شؤونهم وقال ذلك أيضا في مجرى كلامه عن البصرة.
    في رأينا أن أهمية الرحلة تأتي بالدرجة الأولى من كونها سجلّا تاريخيا لفترة من أشد الفترات حرجا في تاريخ العراق فقد كانت تتنافس للسيطرة عليه وإخضاعه قوتان كبريان هما الدولة الفارسية والدولة العثمانية وقد أدت لعبة «تبادل المواقع» هذه إلى إنهاك المجتمع العراقي وتفتيت روح المقاومة والتصدي لديه حيث انتقل الصراع بين القوتين المذكورتين إلى أرضه ورزىء هو وحده بالمصائب والويلات من جراء الصراع المذكور.
    فلو نظرنا إلى الرحلة من هذه الزاوية لاستطعنا أن نجد للكاتب العذر عما ورد في رسائله من ملاحظات وآراء تبدو متجنية وظالمة في بعض الأحيان فهو حينما يتحدث عن أهل المدن والمزارعين يصفهم بالكسل والجهل والتخلف ، ورغم مدحه للبدو فإنه يعود أحيانا ويصفهم بقطّاع الطرق. وقد تكون هذه الصفات هي السائدة في مجتمع يمزقه الاحتلال الأجنبي وتنهكه أوضاع اجتماعية خاصة. لكنه في كل ذلك لم يتعمد النيل من العرب والإساءة إليهم. فلا يترتب على ملاحظاته العابرة ما يترتب على آراء بعض المؤرخين الذين يكتبون وغايتهم الإساءة إلى العرب وتشويه تاريخهم.
    مؤلفات ديللافاليه
    اهتم ديللافاليه في مطلع شبابه بالتمثيل والموسيقى ، فوضع سنة 1611 تمثيلية عن الأمانة في الحب ، لحنها أحد الموسيقيين المعاصرين بأربعة أصوات.
    أما بعد الرحلة فله :
    ـ الحفلة التأبينية للست معاني ، روما 1627.
    ـ معلومات عن بلاد جورجيا ، روما 1627.
    ـ أحوال الشاه عباس الفارسي ، البندقية 1628.
    ـ بحث في الشعر ، روما 1634.

    ـ بحث في الموسيقى المعاصرة ، روما 1640.
    ـ كتاب الرحلة إلى الشرق ، روما 1650.
    وله أيضا قصيدة مطولة عنوانها «إكليل جويريدة» نوه بها في رحلته ونظن انها لم تطبع ، ومختصر التعليم المسيحي ، ورسالة في الدين المسيحي (بالفارسية) وله قصائد بالتركية (1) وقد آلت مؤلفاته المخطوطة إلى مكتبة الفاتيكان (2).
    كتاب الرحلة
    ظهرت الطبعة الأولى من رحلة ديللافاليه سنة 1605 وطبعت في روما تحت عنوان طويل مفصل ، ثم طبعت بأربعة أجزاء سنة 1660 في البندقية ، وأضيفت إلى هذه الطبعة نبذة عن حياة صاحبها ثم طبعت في بولونيا (بإيطاليا) وتلتها طبعات أخرى وقد ترجمت إلى مختلف اللغات الغربية من أول ظهورها ولا نرى من الضرورة هنا بذكر مختلف الترجمات.
    ولقد اعتمدنا في ترجمة الرحلة إلى العربية الطبعة التي ظهرت سنة 1843 ، وتقع في مجلدين ، وتقسم إلى ثلاثة أقسام : تركيا ، بلاد فارس ، الهند ، وهذا عنوانها بالإيطالية (3) :
    . cia, 3481
    وقد طبعت هذه طبقا للطبعة الرومانية الأولى سنة 1650 مع اختلافات بسيطة.
    __________________
    (1) E. Rossi : Posesie inedite in persiano di pietro della Valle, R. S. O. 82) 3591 (p. 801 ـ 711.
    ـ ldem : Versi turchie altri scritti di Pietro dela Valle, R. S. O. 22) 7491 (p. 29 ـ 89.
    (2) نجد وصف مخطوطاته في كتاب فهرس مخطوطات خزانة الفاتيكان :
    A. Mai, Scriptorum veterum nova collectio, lV, 1 ـ 2, passim.
    (3) يطيب لي أن أقدم شكري الجزيل لدير الآباء الكرمليين الأفاضل في بغداد الذين أعاروني نسخة الرحلة الثمينة.

    إن لغة ديللافاليه جميلة وأسلوبه رفيع ووصفه أخاذ ، فهو متضلع بلغته يجيد النثر ويبدع في النظم.
    جدير بالذكر ان مجلة «نشرة الأحد» التي كانت تصدر في بغداد بإدارة الخوري عبد الأحد جرجي (1870 ـ 1950) نشرت في سنتها الأولى (1962) موجزا لهذه الرحلة بعنوان : «قصة بطرس السائح» 1 (1922) ص 92 ، 302 ، 351 ، 370 ، 383 ، 626 ، 640.
    ولم يذكر اسم المعرب ، كما أنها خالية من التعليق والتحقيق وقد ذكر الأستاذ كوركيس عواد بخصوص هذه الترجمة : «إن السيد جرجس دلال ، مطران الموصل الأسبق على السريان الكاثوليك المتوفى سنة 1951 نقل إلى العربية بعض ما يخص بلاد العراق [من الرحلة] .. كما ان الخوري عبد الأحد جرجي السرياني .. نشر في تلك المجلة نفسها ، نبذة من رحلة هذا الرحالة بعنوان : السفر من حلب إلى بغداد» (1).
    أيّا كان الأمر فإن تلك الترجمة ناقصة والمجلة المذكورة بحدّ ذاتها نادرة الوجود حاليا ، وقد أشرنا إليها في الهوامش عند ترجمتنا النص الكامل.
    كذلك نقل الأستاذ سعاد هادي العمري وصف بغداد حسبما جاء في هذه الرحلة (2) ونقله مختصر جدا.
    نظرا للأخبار المهمة التي نجدها في هذه الرحلة عن العراق في الربع الأول من القرن السابع عشر كثورة بكر صوباشي وخيانته ، وتحرشات الفرس بالبصرة ، وسيادة الأحواز العربية ، وغير ذلك. فقد قررنا نقلها إلى العربية كاملة ، وهي ترجمة أمينة للنص الإيطالي الأصلي لم نهمل منه شيئا له علاقة بالعراق أو بالعرب بصورة عامة المجاورين للعراق.
    أن العناوين هي من وضعنا وكذلك التعليقات والهوامش ولقد توسعنا في
    __________________
    (1) مجلة الأقلام 1 : 1 ص 58 ؛ كوركيس عواد وعبد الحميد العلوجي : جمهرة المراجع البغدادية رقم 1292 ؛ يعقوب سركيس : مباحث عراقية 2 : 336.
    (2) بغداد كما وصفها السواح الأجانب في القرون الخمسة الأخيرة ، بغداد 1954.

    بعض التعليقات فصلناها وجعلناها في «ملاحق» أدرجناها في آخر الكتاب.
    وتمسكا بالأصل فقد حافظنا على تسلسل الرسائل فكان أول ما ترجمناه «الرسالة السابعة عشرة» من القسم الأول من الرحلة الموجهة من بغداد.
    وأخيرا وضعنا فهارس الكتاب المفصلة ليتسنى على الباحث مراجعة الرحلة ومعرفة موادها.
    أما الصور التي أدخلناها في هذا الكتاب فلا وجود لها في الأصل الإيطالي الذي اعتمدناه بل أخذناها من طبعة الرحلة الألمانية (1) وقد نقلنا صورة الست معاني وختمها من مجلة الدراسات الشرقية الإيطالية (2).
    وأملنا وطيد أننا بترجمتنا هذه الرحلة قد أفدنا الباحثين الكرام
    الأب بطرس حداد
    __________________
    (1) Pietro della Valle Reise Verschribung ,6761.
    (2) Rivista degli Studi Orientali ,3591 (R.S.O).




    القسم الأول : في البلاد التركية
    الرسالة السابعة عشرة
    بغداد 10 ـ 23 كانون اللأول 1616.
    «غادرنا حلب في نفس اليوم الذي كتبت فيه إلى سيادتكم ، وأخبرتكم بقرب سفري إلى بابل (1) وبعد أربعة أيام أو خمسة وإذ كنا في البادية العربية ، تسلمت مجموعة رسائل ، ومن ضمنها رسالتكم ، فأجبت عليها في الحال. وأعتقد أن رسالتي هذه ستصل إليكم مع تلك الرسالة لأني بعثتها مع شخص جدير بالثقة ، وإذ إننا لم نزل في السفر ، وليس هناك ما يلفت النظر ويستحق الذكر فلن تجد في رسائلي مادة دسمة.
    والآن بعد أن استقر بي المقام ، أعود لأتابع روايتي ، فأخبرك بكل ما حدث لي خلال رحلتي من ذلك الوقت إلى اليوم.
    كان يدفعني شوق شديد منذ زمن طويل للتوغل في الشرق خاصة بعد أن وصلت إلى حلب فأزور تلك الأقطار التي طالما سمعنا عنها ، وأطلع على أمور كثيرة جديرة بالاهتمام وأتمحصها بنفسي لإشباع رغبة كانت كامنة في نفسي منذ كنت في إيطاليا ..
    كان محظورا على الإفرنج الذهاب إلى تلك النواحي وقد يدفعون حياتهم ثمنا لمخالفتهم ، وذلك بسبب نشوب الحرب ضد العاهل الفارسي إذ كان الترك يعتبرون الإفرنج على اتصال به ومتفقين معه. ولكي أحقق رغبتي
    __________________
    (1) يريد بغداد. وسنذكرها بعد باسمها الحقيقي دائما.

    بالسفر إلى هناك فكرت في أول الأمر أن أسافر متسترا ضمن قافلة تركب الفرات في قوارب في موضع يبعد عن حلب مقدار أربعة أيام ، عند بلدة تدعى «البيرة» (1) التي تعني بالعربية «البئر» وهي المذكورة في كتب الجغرافية باسم «بيرته السورية». ففاتحت بهذا الموضوع تاجرا نصرانيا اسمه على ما أتذكر يعقوب الطويل ولا يخطر ببالي أكان سوريا أم أرمنيا ووعدته بهدية مقابل ذلك. وليكن عمله هذا ردّا للجميل للقنصل البندقي الذي كثيرا ما ساعده في أموره الخاصة. فوعدنا الرجل خيرا ، قائلا إنه سيجازف في هذا العمل فيأخذني مع رفاقي الثلاثة معتبرا إيانا ضمن أتباعه ورجال قافلته ، لأن من عادته أن يصطحب رجالا كثيرين نظرا لتجارته الواسعة ، وما أكثر ما اصطحب في السابق من الإفرنج. وعند ما كنا على وشك الرحيل فكر بالأمر مليا فأخلف وعده زاعما أنه لا يليق به كرجل شريف أن يقوم بعمل كهذا ضد النظام ... وهكذا تركنا ورحل ؛ وكان علينا ان نتذرع بالصبر.
    بعد مرور شهر واتتنا فرصة أخرى بوجود قافلة متجهة إلى بلاد العرب في الطريق البري الذي يقطع البادية مباشرة ولا يكاد يمر بمكان مأهول.
    فلما تناهى إليّ هذا الخبر وحاولت التحقق منه فسألت هنا وهناك خاصة لدى السيد قنصل البندقية واتفقت مع أحد رجال الكمرك بعد أن نفحته بهدية جيدة ، وأنت تعلم يا سيدي : «أن الهبات تطيب للبشر وللألهة على السواء» حسب تعبير «أوفيد» (2) فوعدني الرجل مقابل ذلك أن يخرجني من حلب دون أن يثير الشبهة بل ذهب أبعد من ذلك إذ زودني بكتاب من عنده يمكن أن نطلق عليه اسم جواز سفر ، اعتبرني بموجبه أحد رجاله فجنبني بذلك مختلف المضايقات التي كان من المحتمل أن تصيبني في الطريق. وبعد هذه البداية
    __________________
    (1) بلدة على الفرات تسمى بيره جك ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان 1 : 787 (ط. وستينغيلد).
    (2) من شعراء الأدب اللاتيني (43 ق. م ـ 16 ب. م) صديق فيرجيل وهوراس له كتاب «فن الحب» والجملة المذكورة هي في الفصل الثالث منه.

    الناجحة شرعت أستعد للسفر بشراء الأمتعة الضرورية من طعام وأوان للطبخ واشتريت صندوقين مربعي الشكل ، لا يزيد طولهما عن عرضهما مع شيء من الارتفاع يسعان كمية كبيرة من الأمتعة ، ويحملان على الجمال بسهولة إذ يتدليان على طرفي البعير ، وكانا من خشب خفيف متين داخل أكياس من القماش القوي تلتف حولهما حبال متينة وبهذه الطريقة يسهل حملهما وشدّهما على الحدوج. كما اشتريت أنواعا مختلفة الأحجام من الزقاق الجلدية ، فهي جيدة للأسفار ، لا تتأثر بالسقوط أثناء التحميل وهي خفيفة الوزن أيضا تستعمل للماء ... ومنها أشكال مختلفة فبعضها مزينة بنقوش ملونة جميلة المنظر ، تعطي الماء طعما حسنا ورائحة مقبولة وتحافظ عليه. وهناك أنواع أخرى أبسط شكلا وأكبر حجما تستعمل لحمل السمن والسوائل الأخرى ، وهي بسيطة لا خياطة فيها. وقد ذكرتني بزمارات القرب المصنوعة من جلود الثيران التي نوّه بها زينوفون (1).
    بعد هذه الاستعدادات ذهبت لأستأذن بالرحيل من السيدين القنصل الفرنسي وزميله البندقي وأودع بعض الأصدقاء المقربين ورغبة بالمزيد من السرية لم أذهب لزيارة القناصل الآخرين .. الإنكليزي والهولندي مثلا بالرغم من إجلالي لهما ؛ كما لم أخبر الأصدقاء لئلا يتجشموا عناء الخروج لتوديعي عند مغادرتي حلب فيثيرون الشبهات ويلفتون الأنظار إليّ ...
    وأخيرا حلقت شعر رأسي يوم الجمعة 16 أيلول [1616] وتعممت بعمامة ، وتسربلت بالزيّ السوري ، وفعل أتباعي مثلي كي لا يتعرف أحد علينا وركبت جوادا في منزل القنصل البندقي في وقت صلاة العشاء وسرت لألتحق بالقافلة التي كانت مستعدة للرحيل بعد ان تجمع أفرادها منذ أيام في قرية تبعد
    __________________
    (1) مؤرخ يوناني ومقاتل شجاع (427 ـ 355 ق. م) له مؤلفات عديدة منها كتابه «حملة قورش» ولقد عرب السيد يعقوب إفرام منصور قسما من الكتاب بعنوان «ما يتعلق بالعراق من كتاب الصعود لزينوفون» المورد 4 (1975) 2 ص 71 ـ 100 ، ثم أصدر الكتاب كاملا في بغداد 1985 بعنوان «حملة العشرة آلاف».

    عن المدينة ستة أميال تسمى «جبرين» ولقد رافقني إلى هناك السيد جيوفاني باتيستا كاتي وأصدقاء آخرون واحد بندقي والآخر فلمنكي والثالث صقلي وقد تزيوا كلهم بالزيّ المحلي ليبعدوا الأنظار عني وأمضينا تلك الليلة بمرح في خيمتي ، وعند الصباح قفلوا راجعين إلى حلب بعد أن ودعوني بالدموع.
    لم ترحل القافلة في ذلك اليوم إذ كانت تنتظر انضمام بعض التجار وريثما ينتهي موظفو الكمرك من تفتيش البضائع والتحقق من عدم وجود مواد مهربة بينها. فمكثت في جبرين مع رجالي الخمسة وهم : أندريا السندري البندقي وهو رجل مهذب جدا التقيت به في حلب فأخذته لأنه خبير بتلك الأصقاع وعارف بلغاتها ومعروف لدى القوم وقد كسب ثقتهم ، فاتخذته دليلا لرحلتي وأمينا على أموري. ثم تومازو والرسام ولورنسو (1) وإبراهيم شاهيتا (2) من نصارى حلب الذي أقمته على خدمتنا.
    الرحيل
    غادرت القافلة «جبرين» في 18 أيلول فوصلت إلى «ملوحة» وهي على بعد ستة أميال أو سبعة عنها ومكثنا هناك حتى ظهر العشرين منه ننتظر بعض رجال «الأمير فياض» وهو من أعراب البادية الذين يعيشون في خيام سوداء ويتنقلون في أرجاء الصحراء ؛ فهم تارة هنا وتارة هناك. وهذا الأمير لا يخضع في الواقع لسلطات الأتراك لكن له بعض العلاقات مع الحكومة فهو كالسيد الإقطاعي ، تشمل سلطته كل مفاوز البادية بين حلب وبابل ، وتمتد إلى معظم بلاد بين النهرين وعبر الفرات. أما الرجال الذين كنا ننتظرهم فهم من بطانته يستلمون الإتاوة من كل قافلة تمر عبر أراضيه فيرسل رجلا من أمنائه إلى «ملوحة» ليتقاضى الجباية وبعد ذلك لا تتعرض القوافل إلى أذى من أحد من أتباعه لكن هؤلاء لا يكتفون عادة بالإتاوة المتفق عليها ، بل يحاولون استنزاف
    __________________
    (1) سيذكر الرحالة فيما بعد بتاريخ 11 تشرين الثاني أن تومازو قتل رفيقه لورنسو في بغداد لخلاف نشأ بينهما ، فرميت جثة القتيل خلسة في دجلة وأعيد القاتل إلى بلاده.
    (2) في نشرة الأحد ص 304 ذكر الاسم «شحطا».

    ما يستطيعون من المال كغنيمة خاصة بهم (1).
    رحلنا من «ملوحة» مساء اليوم نفسه فنزلنا في قرية خربة تدعى «حقلاء» (2) هناك تلقيت رسائلك فأجبت عليها أثناء الليل ولم نرحل في اليوم التالي إذ لم تنته أمور الجباية التي استغرقت يوما كاملا.
    وفي هذه الأيام لم أطلع على شيء جديد لكني أمعنت النظر في جماعة من التركمان الذين مروا بنا فلاحظت أنهم لا يختلفون عن الأتراك الأصليين الذين وصفهم «بيلونيو» إذ التقى بهم في الأناضول ، فلغتهم هي التركية ، فهم أتراك حقا يعيشون في الأرياف ، متنقلين هنا وهناك ومعهم خيام من مادة غليظة تختلف عن خيام الأعراب السوداء. يملكون ماشية كالغنم وما شاكل ذلك ، إلى جانب الجمال والجياد الأصيلة. ولهم ألبسة وأشياء أخرى ، ولعلهم أغنياء بالنسبة إلى الأعراب. وهم يتنقلون من مكان إلى آخر حيث يجدون أماكن الرعي.
    أما الذين رآهم بيلونيو في الأناضول لا يأتون إلى بلاد العرب ، فلا علاقة لهم بهؤلاء التركمان الذين رأيتهم فهؤلاء يمضون أيام الشتاء في البادية في أماكن دافئة قليلة الأمطار حيث يجدون الكلأ على ضفاف الفرات وفي الصيف يرحلون إلى الجبال القريبة من منطقة «كرمانيا» (3) ولا يتعدونها. وهم يخضعون للأمير فياض ، ولهم في البادية مدينة تدعى «الكعر» معروفة لدى الحكومة التركية بمستوى «سنجق» (4) أما تركمان الأناضول فهم وإن كانوا مثلهم في طريقة العيش والعادات لكن لا علاقة لهم بالأمير المذكور لأنهم يخضعون لسلطة مختلفة. لقد جمعت هذه المعلومات من امرأة تركمانية أتت
    __________________
    (1) عن الأمير فياض انظر الملحق رقم (1).
    (2) معجم البلدان 2 : 298.
    (3) هناك كرمانيا في آسيا الصغرى قاعدتها قونية ولكن من المحتمل أن السائح يشير إلى باجرمى في العراق (منطقة كركوك).
    (4) في الأصل تعني بالتركية علم أما هنا فتشير إلى وحدة إدارية.

    إلى خيمتي في أحد الأيام تطلب ماء باردا فاعتقدت في أول الأمر أنها عربية لأنها كانت حاسرة الوجه لكن زيها كان تركيّا رثّا فخاطبتها بالعربية فلم تفهمني وأجابتني بالتركية بلسان طليق لا يختلف كثيرا عن لهجة أهل المدن فقدمت لها ولا بنتها الصغيرة التي كانت معها طعاما وانتهزت الفرصة لأحدثها طويلا فأدهشتني كثيرا بأجوبتها الفصيحة ، وبأدب يندر وجوده لدى امرأة تعيش في البادية ، وأخبرتني أنها تملك خمسمائة رأس غنم وأشياء أخرى كثيرة لا يدل عليها لباسها المزري.
    ولنعد الآن إلى رحلتنا ففي يوم الخميس 22 أيلول تركنا خرائب «حقلاء» وتوغلنا في البادية حيث لا مدن ولا قرى آهلة بسكان ولا أراضي مزروعة ، بل سهول قاحلة قد ينبت فيها هنا وهناك نوع من الشوك البري تلتهمه البعران لا أكثر.
    فلما حل المساء أمضينا ليلتنا حيث وصلنا ولم نجد هناك ماء فشربنا مما ادخرناه في القرب. ولما كانت هذه ليلتنا الأولى في العراق وفي مكان غير مأهول فقد أقمنا حراسا للقافلة خوفا من هجوم قطاع الطرق الذين يأتون من أماكن بعيدة لسرقة المسافرين وبعضهم من أتباع الأمير فياض نفسه ، لكنهم من الخارجين عن طاعته.
    كان عدد أفراد قافلتنا زهاء ألف وخمسمائة شخص وفيها ما ينيف على الأربعين خيمة. وكان حراس الليل يطوفون حول الخيام ويضجون بالصياح كما هي عادتهم فيحذرون المسافرين تارة ويخيفون اللصوص من الاقتراب تارة أخرى.
    ولما كان قطاع الطرق يهاجمون القوافل بمجموعات كبيرة عادة فيركب كل اثنين منهم على مطية واحدة ومطاياهم هي جمال من فصيلة خفيفة الجسم وسريعة الجري. ويتسلحون عادة برماح طويلة وأقواس وأسلحة متنوعة إذ يحمل بعضهم بنادق. لهذا السبب جرى قبل النوم إحصاء عدد حملة البنادق في القافلة فكان ما يربو على الثمانين : تسعة من الإفرنجة أي خمسة من حاشيتي والباقون تجار من أهل البندقية قدموا إلى هذه الأطراف في أمورهم الخاصة.

    فأوكل إلى هؤلاء التسعة بتأليف مقدمة دفاعنا ولا أعلم سبب هذا الاختيار أكان إكراما لنا أم أنهم اعتبرونا أكثر مهارة من غيرنا ، أم لعلهم أرادوا أن نجابه الأخطار قبل غيرنا. وكان معنا جنود إنكشاريون (1) وعدد ملحوظ من الجنود الأتراك فانتظمنا جميعا نحن في المقدمة ويتبعنا رماة الرماح وهم كثيرون ثم المسلحون بالسيوف. وعلى هذا الترتيب تجولنا حول القافلة على عادة أهل البلاد ثم توجهنا إلى الجانب الآخر حيث كان يخشى هجوم العدو منه ، فاتخذنا موقف الدفاع وكأننا في حالة معركة ـ ولعل ذلك لأجل تمرين المدافعين على مواقعهم ـ وأخذنا نطلق العيارات بجلبة عظيمة ، وكان لهذه المظاهر وقع حسن في نفسي بالرغم من أني لم أفهم كل ما كانوا يتبادلون من أقوال.
    في الأيام التالية ، بل وفي كل أيام الرحلة لم نهتم بقطع المسافات المحددة إذ لم يكن باستطاعتنا فعل ذلك بل كان جل اهتمامنا الوصول إلى أماكن نجد فيها ماء لأنها كانت نادرة جدا في البادية. وقد نجد آبارا بين مرحلة وأخرى حفرت في الأزمنة الغابرة ثم طمرت ، وقد يعمد الأعراب أنفسهم إلى طمرها من باب الدفاع عن النفس كي يبعدوا الأغراب عنهم ويمنعوا بذلك مهاجمتهم وإخضاعهم بالقوة. لقد لاحظ ذلك «ديودوروس سيكولوس» (2) (أي الصقلي) فقال ان موطن العرب صحراوي ، وهو بطبيعته يفتقر إلى الماء ، ولهذا السبب لم يتسلط على العرب سادة غرباء ، فلا الفرس ولا المقدونيون ولا الأتراك حديثا ولا الروم قديما ، ولا أية أمة أخرى مهما قويت شوكتها لم يتمكنوا من إخضاع العرب. بل كانوا ينقادون إلى أمراء من جنسهم كما ذكر ذلك «سترابون» (3) وهؤلاء الأمراء بدورهم كانوا ينتمون قديما
    __________________
    (1) لفظة تركية الأصل تعني «الجند الجديد» وهم من المشاة.
    (2) مؤرخ يوناني له كتاب «المكتبة التاريخية» بحث فيه عن التاريخ العام من أقدم العصور حتى سنى 60 ق. م.
    (3) سترابون أو سترابو (58 ق. م ـ 25 ب. م) : جغرافي يوناني وضع كتابا مهمّا في «الجغرافية» بسبعة عشرة جزءا وصف فيه الأقاليم المعروفة في ذلك العهد ومنها بلاد بابل وآشور.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:05 pm

    إلى إحدى الدول الشديدة البأس المجاورة لهم. فبعضهم انتموا إلى الرومان والبعض الآخر إلى الفرس وهذا ما نراه إلى اليوم. فهناك أمراء يدينون بالولاء للفرس لقربهم منهم والبعض الآخر للأتراك ومن بين هؤلاء الأمير فياض.
    وكما ذكرت آنفا فإن الأعراب يحاولون حماية موطنهم بسد عدد من الآبار القريبة فلا يعرف أحد محلها سواهم ، فإذا حاول غيرهم ممن لا خبرة له بالصحراء الواسعة زج نفسه هناك فإنه سيتيه لا محالة ويضل ، ويكون الموت مصيره. وذلك ما حدث للكثير من الغرباء.
    في كل يوم نذهب في طلب الماء ، يدلنا إليه رجال من أهل المنطقة ذوو خبرة في الطرق وموارد الماء وكانوا يعرفون تلك الأماكن من مراقبتهم النجوم في الليل ومن نظرهم إلى البطاح والتلال في النهار. فهم يعرفون الطرق على اختلافها : البعيدة منها والقريبة ويستدلون في سيرهم بأمور كثيرة ، فالأرض عاليها وواطئها ، ولون الأديم وأنواع الأعشاب النابتة. كل هذه الأمور يعتمدون عليها في سيرهم ؛ إنهم يعملون كعمل ربان السفينة في عرض البحر. وما أدهشني منهم بشكل خاص دقتهم في الوصول إلى الآبار لأنها تقع عادة في أرض منخفضة لا ترى إلا عند الوصول إليها ؛ وفوهاتها كحفر عادية لا سور يحيط بها ولا علامة خاصة تدل عليها.
    كنا نسير يوميا مسافة طويلة ، وقد نقطع المسافة المقررة على مرحلة أو على مرحلتين ، وقد نسير في اليوم الواحد 13 ـ 14 ساعة وأحيانا ست عشرة ساعة. وأتعس ما في الأمر أننا نسير ليلا في ضوء القمر فكانت تتغير من جراء ذلك أوقات أكلنا ونومنا بانزعاج شديد. لكن لا بد من التحلي بقليل من الصبر.
    رأيت يوم الجمعة التالية عند ينبوع لا يصلح ماؤه للشرب ينابيع أخرى تتدفق من الأرض مياهها حارة يطلق عليها العرب اسم «الحمام».
    شاهدت نهار السبت عند جملة آبار أخرى مياهها جيدة آثار مدينة كبيرة لا يرى منها إلا الأسس وبعض الأعمدة ، وتيجان الأعمدة من الرخام كانت مبعثرة ، وبقايا أسوار كثيرة من الحجر الأسود الضخم ذات أسس عريضة جدا. ويحكم الناظر من محيط المدينة أنها كانت ذات شأن وقد أهملت

    لانتشار الجفاف هناك فآلت إلى الخراب. ويسميها العرب «سيريا أو سريا» ويقولون إن سكانها القدماء كانوا نصارى. وهناك طلل كبير يزعمون أنه بقايا كنيسة ولكني لم أعرف عنها شيئا لأن ما بيدي من كتب لا تذكر شيئا عنها ولم تسعفني الذاكرة لأتحقق من قدمها.
    أما يوم الأحد فلم نشاهد سوى الصحراء القاحلة ، وكلما كنا نتوغل فيها كانت تقل الأعشاب.
    وصلنا يوم الإثنين عند الظهر إلى موضع مأهول بالسكان ومسوّر يطلقون عليه اسم «مدينة طيبة» والحقيقة ان الاسم يطابق المسمى ففي صحراء قاحلة يفتقر إلى أي نوع من المؤن يجد المسافر فيها كل ما يحتاجه من مؤن : كالدجاج والبيض والرقي والقثاء وغير ذلك من خيرات كنا حرمنا منها منذ أن بارحنا حلب. فأقمنا ذلك اليوم في «طيبة» وانتهزت فرصة وجودنا هناك فدخلت إلى البلدة لألقي نظرة عليها ، فرأيت آثارا قديمة في المسجد ، والأثر هو برج ناقوس مشيد بالطابوق من حجم متوسط كان لكنيسة ، وبعض الأعمدة التي أدخلها المسلمون في البناء وهو من اللبن ، ورأيت في داخل المسجد حجرا قديما مربع الشكل بني في الجدار وهو محط تكريم الأهالي وعليه كتابة يونانية وتحتها سطران محفوران بأحرف غريبة علي ، شبيهة بالحرف العبري أو السومري ، فنقلت الكتابة واحتفظت بها. ولما علقت عليها بعض الشروح أمام الحاضرين البسطاء اعتبروني رجل علم وقالوا إنه لم يستطع أحد من الذين نظروا إلى اللوحة من قبلي قراءة سطورها وشرح فحواها.
    رحلنا يوم الثلاثاء ليلا وبعد أن قطعنا أميالا عديدة وجدنا في مكان آخر مدينة لها قلعة وأسوار مشيدة بحجارة ضخمة حسنة الصنعة لكنها متهدمة ، ويسميها العرب «الحير» (1) ويزعمون أنها كانت مدينة سكنها اليهود على عهد الملك سليمان ، والله أعلم. لأنه من يبني رأيا على أقوال وتقاليد بدو أميين؟
    وأي استنتاج يمكن أن يستخرج من اختلاف الأسماء القديمة عن الحديثة خاصة
    __________________
    (1) يعود السائح إلى وصف «الحير» في طريق عودته إلى وطنه في رسالة لاحقة.

    بالنسبة إليّ وأنا هنا أملك بيدي مرجعا جغرافيا أستعين به.
    يوم الأربعاء شاهدنا قبورا حديثة العهد في أماكن مرتفعة وهي لبعض التركمان المار ذكرهم ولعرب البادية. ان هؤلاء الناس يدفنون حيثما يلاقون حتفهم ويكتفي القوم بوضع حجر على القبر كعلامة على وجوده لا غير.
    يوم الخميس لم نشاهد شيئا يستحق الذكر.
    يوم الجمعة مساء رأينا عن بعد على الفرات قلعة تدعى «الرحبة» وقيل أنه يوجد ثمة آثار قديمة ، ولا عجب في ذلك لأن مدنا كثيرة مهمة قامت قديما على ضفاف هذا النهر. ولم نذهب لمشاهدتها عن قرب لئلا يطول بنا الطريق.
    يوم السبت وكان الأول من تشرين الأول [1616] وصلنا عند الضحى إلى بعض التلال التي يجري من تحتها نهر الفرات ، وهو النهر الذائع الصيت في العالم ؛ فشربت براحتي من مياهه العذبة ، ونصبنا هناك خيامنا وأمضينا النهار كله بالاستراحة من تعب سفر الليلة السابقة.
    وبعد أن أخذت نصيبا من النوم ، لم أشأ إضاعة الوقت ، فبدأت أتجول في تلك المنطقة. فرأيت بعض الآكام ، أما سائر الأرض فكانت منبسطة كالصحراء التي قطعناها. ونظرا لرطوبة البقعة القريبة من النهر فقد نجمت أنواع عديدة من النباتات ، ومن جملتها الخرنوب البري ونبات لا أعلم كيف أصفه أهو السرو البري أم العرعر ، فهو أشبه ما يكون بأرز لبنان لكنه أصغر حجما منه. كما وجدت النبات الذي يستخرج منه الرماد الضروري لصنع البلور النقي في البندقية وغير ذلك من أجناس النباتات التي لم أشاهدها من قبل ، فجمعت منها شيئا قليلا وحفظتها باعتناء ضمن أغلفة مختلفة لأحملها إلى سيادتكم عملا بتوصياتكم.
    لقد لا حظت أن كل الروابي التي على كتف النهر والأرض المستوية كانت مغطاة بمعادن بيضاء اللون ترسل لمعانا ، ولم أعرف ماهيتها أهي النطرون أم الطلق (1) أو ما أشبه ذلك فأتيت بنماذج منها أيضا وشرحت في
    __________________
    (1) النطرون بالفتح البورق الأرمني (القاموس المحيط) الطلق حجر براق يتشظى إذا دق ـ صفائح وشظايا (المرجع نفسه) انظر : نخب الذخائر لابن الأكفاني تحقيق الأب انستاس الكرملي ص 91 : للمزيد من المعلومات انظر : تكملة المعاجم العربية ، تأليف ر. دوزي ، ترجمة د. محمد سعيد النعيمي ، بغداد 1992 ، 7 : 72.

    «كتاب يومياتي» تفاصيل مشاهداتي بكل دقة.
    استأنفنا سفرنا في الليلة التالية بعد بزوغ القمر سائرين مع مجرى النهر عادة إلا عند ما كان النهر يبتعد بتعرجاته فكنا نقطع الطريق مباشرة.
    يوم الأحد لم نشاهد شيئا يستحق الذكر ، اللهم امرأة سوداء اللون قالت إنها من أسرة ابن الأمير وتدعى صبحة ... وقد أتت من جهة النهر الثانية.
    وجدير بالذكر هنا أن كل مرة كنا نحط راحلتنا عند الماء كانت تتقاطر علينا جماعات من البدو رجالا ونساء يعبرون النهر من الجهة الثانية أو من الجزر العديدة المأهولة المنتشرة في النهر ، ويأتون سباحة على زقاق (الجراب) ينفخونها ولا يربطونها بل يلقونها تحت صدورهم ويعبرون النهر على هذه الطريقة بكل مهارة حتى ضد مجرى الماء. فمنهم من يأتي لإلقاء نظرة فقط ، ومنهم من يأتي ليبيع السلع على المسافرين. إنه والحق يقال منظر جميل للغاية ، وقد أعجبت بمهاراتهم في السباحة ومجابهتهم تيار الماء.
    يلبس الأعراب عادة قميصا بسيطا ملونا .. ويرتدون أحيانا فوق قمصانهم هذه رداء فوقانيا من صوف خشن مفتوحا من الأمام ولا أكمام له ويسميه الأعراب عباءة ، وهم يلبسون هذه العباءة وخاصة أولئك الذين يريدون أن يظهروا بمظهر الأناقة بإلقائها على الأكتاف على هيئة الفيرايولو (1) ومنهم من يخلع ألبسته عند عبوره النهر ويجعلها كصرة يلقيها فوق رأسه كي لا تبتل فيعبر النهر عاريا ثم يلبسها ناشفة ، ومنهم من لا يهتم كثيرا فيعبر النهر دون خلعها.
    يوم الإثنين رأينا عند ضفة النهر مساحات من الأرض مزروعة بالدخن في الأكثر لأن الأعراب يفضلونه على الشعير والحنطة. وفي المساء شاع في
    __________________
    (1) كساء يستعمل في نابولي يشبه الفرجيه. دوزي : المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب ، ترجمة د. اكرم فاضل ، ص 242 ، 265.


    القافلة خبر مفاده أن البدو يزمعون الهجوم علينا ولا أعلم مصدر هذه الإشاعة أكانت من الحراس أم أنهم اكتشفوا حقيقة وجود جماعة عن بعد وقد علمنا بعد ذلك أن لا صحة للخبر.

    في اليوم التالي لم نلاحظ شيئا جديرا بالذكر. ولكن في اليوم الخامس من تشرين الأول نزلنا عند بلدة تسمى «مسجد علي» وجدير بالذكر أن أماكن عديدة في تلك المنطقة تحمل هذا الاسم لأن القوم يعتزون بإطلاق هذا الاسم تيمنا بأمير المؤمنين الخليفة علي ويروى ـ نقلا عن الفرس ـ إن الخليفة علي مر في هذه النواحي عند ما خرج للقتال فترك قسما من جماعته في بعض تلك الأماكن ولذا فقد أطلقوا اسمه على أكثر من مكان في تلك المناطق تخليدا لذكرى مروره بها وإقامته الصلاة فيها (1).
    بلدة عنة
    في السادس منه وصلنا إلى «عنة» وهي مدينة رئيسة في البادية ولم أتذكر اسمها القديم (2) تقع على الفرات فيشقها إلى شطرين الشطر الواحد في جهة البادية والشطر الآخر جهة ما بين النهرين وليس فيها جسر ، بل يعبرون من جانب إلى جانب بالزوارق الموجودة بكثرة. ولها شارع واحد في كل جانب وهي ليست بلدة صغيرة وتميل إلى الطول فيبلغ طولها خمسة أميال وبيوتها من اللبن كسائر مدن تلك الأطراف ، وهي حسنة البناء لطيفة المنظر ، وللبيوت بساتين عامرة بالأشجار المثمرة من مختلف الأنواع. فهناك النخيل والبرتقال والليمون والتين والزيتون والرمان وبكلمة واحدة جميع أنواع الأشجار ولقد رأيت أيضا أشجار الرند البري ذات الأوراق الكبيرة. إن وجود كل ذلك في وسط الصحراء لهو منظر رائع حقا.
    وفي النهر جزر كثيرة غرست فيها الأشجار ولو أحسن الأهلون الاعتناء بها وتنظيمها لكانت أجمل شيء على وجه البسيطة. وقد حولوا إحدى تلك
    __________________
    (1) يسمى أيضا «مقام علي» ذكره هر تسفيلد وساره وغير هما ، انظر : فرحان احمد سعيد : مشهد ابي ريشة ، مجلة التراث الشعبي 9 (1979) ص 87.
    (2) مدينة عريقة جدّا عرفت في الكتابات المسمارية باسم خانات وفي المراجع اليونانية باسم اناثا وفي الكتابات التدمرية باسم عنة وبالسريانية عانات والمرجح أن اسمها آرامي الأصل ومعناه بيت الماعز. دائرة المعارف الإسلامية (مادة : عنة).

    الجزر إلى قلعة لتوسطها الجزر الأخرى ولموقعها الوعر لكن لا قيمة دفاعية لها أمام هجوم قوي. وليس للمدينة ـ أي عنة ـ سور فالنهر يقوم مقامه من الجهة الواحدة وسلسلة تلال صخرية تنتهي في البساتين من الجهة الأخرى.
    وليس للمدينة مجال للتوسع عرضا ولا يمكن الدخول إليها إلا من مداخل ضيقة من طرفيها. إن الطبيعة أحكمت تحصينها!
    الأمير فياض أبو ريشة
    إن الأمير فياض هو سيد هذه المدينة ، وله فيها بيت لعله أجمل بيوت المنطقة وقلما يسكن هناك لأنه يتنقل على مدار السنة في البادية متفقدا شؤونها ليحميها من كل طارىء من الخارج ، ويتقاضى الضرائب في كل المناطق الخاضعة له والتي تقع في أطراف البادية لأن البلدان في قلب البادية نادرة جدا. وهو لا يكتفي باستيفاء الضرائب من العشائر الخاضعة له بل يجمعها من أماكن أخرى تخضع للسلطان ولأمراء آخرين ، فيؤدونها له تخلصا من شره وشر غزوات أتباعه. وكثيرا ما يطلقون عليه اسم «الملك» تعظيما فهو سيد مطلق يحكم في بلاده ويأخذ الضرائب من المناطق المجاورة حتى تلك الخاضعة للسلطان مباشرة ، وقد يستعمل القسوة أحيانا ، ومع تمتعه بالحرية المطلقة في البادية إلا أنه يبدي بعض الطاعة للحكومة التركية فإذا دعي إلى حرب لبى الدعوة وذهب على رأس جيشه أو في الأقل أرسل رجاله للاشتراك في الحرب. إنه يعمل بما يأمره السلطان أو الولاة وهو مخير في طاعته بحسب ميوله فهو الذي يقرر متى وكيف يطيع ، كما يفعل بعض الأسياد الإقطاعيين في بلادنا ... لأنه في الواقع في موضع حصين لا تطاله الأيدي (1).
    الأمير فياض رجل مستقيم ، وقد حظي بخضوع الآخرين بأدبه ، وطهر بلاده من رجال السوء ، فهو لا يتوانى عند الحاجة عن إنزال العقاب الصارم حتى بذوي قرباه ولهذا السبب تسير القوافل في أراضيه بأمان ، وتعيش المدن
    __________________
    (1) لونكريك : أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، ص 56 ـ 57.

    والقرى المتاخمة بهدوء فلا يسمع عنها أخبار أو حوادث النهب والغزو كما كانت على عهد الأمراء السابقين الذين عاثوا في الأرض فسادا ، ولم تسلم الحواضر المهمة مثل دمشق وحلب من أذاهم ، وكذلك المدن الأخرى الخاضعة للسلطان.
    لقد أسهبت في الكلام عن هذا الأمير ولا بد أن أضيف بأنه يلقب باسم «أبو ريش» وهذا هو لقب أسرته القديم ... ويدعي أن نسبه يتصل بسيدنا نوح ولو صح هذا الادعاء الذي لم أقتنع به شخصيا فلا ريب أن عشائر البادية رغم خشونة حياتها هي أشرف شعوب الأرض قاطبة.
    من المؤكد ـ حسب رأيي ـ أنه : إذا كانت هناك أمة لها حق الادعاء بالقدم وبشرف الأصل عبر الأجيال فهي الأمة العربية ، فالعرب يعشقون الحياة الحرة في الصحارى رغم خشونتها ، ولا تطيب لهم حياة المدن ، إذ يرفضون الخضوع للغريب وهم منذ أقدم العصور لم يختلطوا ولم يتصاهروا مع الغرباء أبدا بل يتزوجون من بعضهم فحافظوا بذلك على نقاء دمائهم.
    طبيب الأمير
    يعيش عند الأمير فياض رجل مسيحي اسكتلندي الأصل يدعى «جورج ستراكان» وهو رجل علم وأدب كان سابقا في حلب فانتقل منها وقصد الأمير فياض رغبة منه في إتقان اللغة العربية ، وأخذ يمارس عنده مهنة الطب مع أنه لم يكن طبيبا بل أخذ شيئا من هذا العلم عن طبيب فلمنكي في حلب كانت تربط بينهما صداقة فتعلم بعض الوصفات الطبية ولأنه رجل علم ومحب للمطالعة كان يمارس هذه المهنة بشكل مرض بين ذلك الشعب البسيط. وقد ساعده حسن الطالع حين وصوله إلى خدمة الأمير إذ شفاه من انحراف طرأ على صحته فاكتسب بذلك ثقته التامة وأصبح صاحب نفوذ لديه وحصل على ثروة طائلة. ثم اكتسب ثقة زوجة الأمير لأنه كان يمنع الأمير من الاقتران بنساء أخريات بحجة أنه سيضر بصحته. ولقد طبقت شهرته البادية كلها ونال احترام القوم وإعجابهم ، وقد تحققت بنفسي من احترام الأمير له فقبل مدة

    كان الأمير في نواحي حلب ففارقه الطبيب ستراكان لأمر له في المدينة وبالرغم من أن الأمير كان مقررا الرحيل لكنه لبث ينتظره خمسة عشر يوما ثم اضطر إلى السفر فترك أحد أمنائه على رأس مئة فارس ليرافقوا ستراكان عند عودته لئلا يسافر وحده في الفلاة أو يهرب منهم ولو أنه لم يفكر في ذلك.
    وخلاصة القول أن الأمير يحترمه جدا ويغدق عليه الهبات وهو ما يريده الطبيب ، لكني لا أعتقد أنه سيبقى معه ، لأنه لا بد أن يغادر بعد أن يجمع مبالغ طائلة ، فحياة البادية صعبة.
    لقد أتقن ستراكان اللغة العربية حتى لا يمكن تمييزه عن العرب لهجة ونطقا ولباسا وأصبح بدويا بكل ما في الكلمة من معنى. هذا ما قيل لي عنه لأني لم ألتق به قط (1).
    التقسيم الاجتماعي للعرب
    إن لفظة بدوي مشتقة من البادية وهي الصحراء ، والعرب أربعة أقسام أو فئات أشرفها البدو ثم المعدان أي المتشردون الذين ليس لهم مقر ثابت وهم معنيون بتربية الجاموس وبيع الحليب ويقيمون تارة في البادية وأخرى في المدن ؛ وأقلهم شأنا في نظرهم الحضر الذين يعيشون في المدن بصورة دائمة ثم الفلاحون الذين يزرعون الأرض ، فالعرب ينتمون في آخر الأمر إلى إحدى هذه الطبقات.
    لنأخذ على سبيل المثال أهل بلدة «عنه» لا شك في ان رجالها هم من جماعة الفلاحين لكن لهجتهم وزيهم وعادات نسائهم وموقع بلدتهم في وسط البادية تجعلهم بدوا حقيقيين لا بل أكثر البدو تمدنا في العالم لأن لباسهم ومنظرهم علاوة على أنه محترم جدّا فهو أيضا فريد للغاية. إذ أن عددا كبيرا منهم يلبسون الحرير الرائع وعباءاتهم نادرة الألوان وهي عادة مخططة بلونين
    __________________
    (1) التقى السائح بهذا الطبيب الاسكتلندي بعد سنوات كما سيذكر فيما بعد واطلع على المخطوطات التي جمعها وتداولا في مشروع ترجمة كتاب القاموس المحيط ثم ترك الصحراء فذهب إلى بغداد ومنها رحل إلى أصفهان (الرحلة الجزء 2 : 437).

    متوازيين هما الأبيض والأسود أو الأبيض والبني ، وأشكال أخرى مختلفة لا تخطر على بال كما يقول الأتراك ، إضافة إلى العقال والشرابات المتهدلة والأحزمة والأسلحة وأغطية الرأس أي الكوافي وأشياء أخرى ظريفة جدا راقت لي كثيرا منذ أن وقع نظري عليها حتى عزمت أن ألبس مثلهم وأظن أن زيهم هو أجمل وأثمن لباس عرفته ، وسترى يا سيدي صدق قولي عند ما أعود بإذن الله إلى إيطاليا فهناك سألبس هذا الزيّ في حفلة تنكرية أو في أية حفلة ظريفة أخرى وسأكون دون شك موضع إعجاب الحاضرين.
    أقمنا في عنة خمسة أيام مخيمين خارج البلدة غير بعيدين عنها لأن أكثر الجمالة هم من أبنائها. وقد قرب عيدهم وهو عيد الفطر ، فأرادوا أن يقضوه وسط عيالهم لأنهم يمضون أكثر أيامهم بعيدين عنهم.
    خلال هذه الفترة التقطت من أهالي البلدة بعض الأخبار التي أكدها أحد الجمالين وكان برفقتي ، إذ قال إن في البلدة طائفة تعيش في ظهرانيهم تعتقد سرا خلاف معتقد المسلمين ، وهي جماعة غريبة في بابها ، إذ لا يؤمن أتباعها بالآخرة ولعلهم لا يؤمنون بوجود الله إذ لا صيام عندهم ولا صلاة ولا يقيمون شعائر العبادة لله ولا يأخذون القرابة الدموية بعين الاعتبار عند تزوجهم بل يجوز عندهم الزواج بالأقربين كالأمهات بأولادهن والإخوة بأخواتهم دون خجل من الحرام ، أو تبكيت ضمير لا بهذا الأمر ولا بسواه. ويعتقد ـ محدثي ـ أنهم يعبدون الشمس لأنهم ينحنون لها صباحا عند شروقها ويحيونها بالتمتمات والرموز الخاصة ويفعلون ذلك سرا لأنهم إذا أظهروا جهارا يعرضون أنفسهم إلى أشد العقوبات. لأن المسلمين يرذلون هذه الفرقة وهي أثيمة في نظرهم ، وقد وجدوا مرة كتابا خاصّا بهذا المعتقد فأحرقوه علنا بأمر من الأمير مع النخلة التي علق عليها. فعبادة الشمس والاقتران المشين بالأقارب الأقربين وقرب المكان من بلاد فارس جعلني أعتبر هذه الطائفة من بقايا المجوس القدماء ، ودين المجوس يرجع بالأصل إلى زرادشت (1) وقد دخله على مر
    __________________
    (1) ولد في مادي نحو 660 ـ 583 ق. م مصلح الديانة القديمة في فارس ومنشىء المجوسية.

    الأيام تأثير المانويين (1) كما نوه بذلك أكاثياس (2) وكما نقرأ في كتب الأقدمين عن قوم كانوا يتزوجون بغباء على هذه الصورة كالأمهات بالأبناء وأمور أخرى شبيهة بالتي حدثني عنها أهل عنة عن هؤلاء الساكنين بين ظهرانيهم (3).
    كان شباب عنة وصبيانها يتقاطرون إلى خيامنا في تلك الفترة وهم ينشدون الأغاني العربية ويعزفون على آلات الطرب ويرقصون وقد ارتدوا مختلف الأزياء ـ وكأنهم في حفلة تنكرية ـ ويمثلون أمامنا بعض الحوادث وذلك بمناسبة قرب حلول عيدهم فكنت أتحفهم بالهدايا وكانوا بدورهم يكررون ألعابهم ويرددون أغانيهم الجميلة. ونظرا لغرابة هذه الأمور عني فقد أكثرت من كتابة الملاحظات الدقيقة في دفتر يومياتي.
    يوم الأحد 9 تشرين الأول : عبرت القافلة النهر بالقوارب إذ لا بد من عبوره من أجل الوصول إلى بغداد أو أي بلد آخر ؛ وقد لا حظت أمرا غريبا في تلك القوارب إذ إن دفتها غير ملتصقة بها كما في سائر البلاد بل بعيدة عن القارب نحو قصبتين (4) ، وتدار بواسطة خشبة طويلة تمتد إلى داخل القارب بقدر بعد الدفة ولم أفهم غاية هذا الترتيب ولكن لا بد أن القوم رأوه صالحا نتيجة الخبرة الطويلة.
    بعد عبورنا النهر نصبنا خيامنا على جانب «بين النهرين» ولا حظت الأرض هنا صحراوية لا تختلف عن بادية العرب فهي قاحلة مستوية تنبت فيها نفس الأعشاب.
    __________________
    (1) نسبة إلى ماني (215 ـ 276) القائل بمبدأين في الوجود : الخير والشر ، النور والظلام.
    (2) أكاثياس شاعر ومؤرخ يوناني من ابناء المئة السادسة له كتاب «تاريخ ملك يستينيانس».
    (3) المقصود بهذا الكلام «النصيرية» ونرى أن السائح أو محدثه نسب إليها أمورا لا يمكن التثبت منها لا سيما في موضوع الزواج. انظر عن النصيرية مجلة لغة العرب 5 (1927) ص 368. 9 (1931) ص 467.
    (4) القصبة واسطة للقياس عند الأقدمين تساوي ما بين متر و 71 سم إلى مترين و 98 سم حسب أنواعها (قاموس لاروس).

    توقفنا هناك ذلك اليوم وكان الجمالون يرغبون بالاحتفال في بيوتهم بالعيد لكن بعض الأتراك ألحوا عليهم بمتابعة السفر فرحلنا في اليوم الحادي عشر من الشهر وكنا نسير بمحاذاة النهر كما كنا نفعل ونحن في الجانب الآخر ، ومساء ذلك اليوم أمطرت السماء للمرة الأولى رذاذا خفيفا صحبته عاصفة شديدة قلبت خيامنا لكنها لم تدم إلا سويعة من الزمن.
    احتفل المسلمون بعيدهم في الثالث عشر من الشهر وبعد تناول الفطور تابعنا سيرنا تاركين النهر وراءنا متجهين شرقا فتوغلنا في الصحراء قاطعين أرض بين النهرين بخط مستقيم. ولم نفعل ذلك رغبة باختصار الطريق بل إرضاء للتجار ليتسنى لهم تهريب الأموال الكثيرة التي كانت بحوزتهم والتخلص من دفع رسوم المكوس في بغداد. لقد فعلوا ذلك رغم صعوبة الطريق وفقدان وسائل التموين واحتمال وجود قطاع الطرق هناك بينما يمر الطريق المحاذي للنهر بأماكن مأهولة يجد فيها المسافر مؤونة. لقد سلكوا ذلك الطريق ليدخلوا إلى المدينة من الجهة الثانية لأنها مفتوحة ولا يوجد هناك سور ، فمتى دخلوا المدينة لا يستطيع رجال المكوس تفتيشهم ووضع اليد على المهربات.
    من عادة رجال الحكومة الخروج إلى ضواحي المدينة للتفتيش وحين يبلغهم خبر قدوم القوافل يذهبون أمامهم مسيرة أيام ليباغتوا التجار ويضبطوا رسم أموالهم ونقودهم.
    لقد أرغمنا التجار على السير في هذه الطريق الصحراوية الشاقة حيث لا وجود للزاد والماء وإذا عثرنا على ماء فإنه لا يصلح للشرب أو الطبخ لملوحته العالية ومرارته ... لعن الله الطمع والطامعين! ولم يكتف أولئك الخبثاء بهذا كله بل جعلونا نمضي أياما جهنمية بسبب الخوف الشديد من قطاع الطرق.
    ولذا كانوا يحثوننا على الإسراع ولم يمنحونا فرصة لالتقاط أنفاسنا. لقد تمنيت الموت شنقا ألف مرة وفضلته على عذاب تلك الأيام!
    أما الجمالون فقد ركبهم شيطان الغضب لأن مطاياهم كانت تتعذب جدا وقد نفق بعضها من الإرهاق الشديد وبالرغم من هذا كله حاولت التحلي بالهدوء والصبر وسليت نفسي بمراقبة النباتات الغريبة والأرض.

    لقد كنا في حالة استنفار دائم ، فعندما تسرح الجمال لترعى ـ إذ ليس من عاداتهم علف حيواناتهم ـ يذهب رجال مسلحون لحمايتهم لأنه في أحد الأيام كادت تسرق جميع حيوانات القافلة ولم يجسر أحد على الابتعاد لحظة واحدة عن القافلة بدون سلاح .. حتى عند الذهاب لقضاء الحاجة الطبيعية! .. ينتابني الضحك وأنا أتصور نفسي قاعدا وبيدي البندقية وهي معدة للإطلاق! وبعد مسيرة سبعة أيام على هذا الحال من المشقة والأخطار وصلنا يوم الأربعاء 19 تشرين الأول إلى ساحل نهر دجلة الشهير وهو بلا ريب أكبر من الفرات لكنه لم يكن في ذلك المكان سريع الجريان كما هو مشهور عنه ، لا بل كان الفرات أسرع جريانا في تلك المنطقة ؛ ولإعطاء فكرة عن النهرين أقول ؛ إن الفرات أعرض من نهر «التيبر» (1) ، ودجلة أعرض من الفرات ويلتقي النهران بقرب البصرة فيدعى النهر المتكون من التقائهما باسم «شط العرب».
    سرنا بمحاذاة جانب دجلة الغربي كما كنا نصنع ونحن عند الفرات وشاهدنا في هذا المكان آثار خطوات الأسود (2) إذ هي كثيرة في تلك البقاع ، ولا تختلف الأرض هناك عما رأينا في القسم الذي قطعناه سابقا.
    الكاظمية
    وصلنا بعد الظهر إلى مكان يدعى «الإمام موسى» [الكاظم] وهو مزار يكرمه المسلمون وتكثر النساء خاصة من زيارته يوم الجمعة ، ويأتيه المؤمنون من بغداد ، وهو يبعد عن المدينة المذكورة مسيرة ساعة ، كما يقصده الزوار من بلاد بعيدة خاصة من إيران لأنه يضم ضريح الإمام المذكور.
    توقفنا عند هذه البلدة منتظرين رجال المكوس وأمضينا ليلتنا هناك فأقبل رجال الحكومة ليستوفوا الرسوم من القافلة لكنهم لم يجدوا فيها ما يجديهم
    __________________
    (1) نهر معروف يمر بمدينة روما.
    (2) كانت الأسود كثيرة في العراق كما يظهر في المنحوتات الأشورية القديمة وقد بقيت إلى القرون الأخيرة فنوّه بها رحالون عديدون أمثال تافرنييه وسبستياني (القرن 17) وصاحبنا. أما الآن فلا نسمع بوجودها.

    نفعا ، لأن التجار المحتالين كانوا قد هربوا النقود إلى مدينة بغداد أثناء الليلة السابقة وقسما كبيرا من الأموال داخل أحمال من الحشيش والقصب وما شاكل ذلك فوصل إلى المدينة ، ولم يتركوا إلا شيئا يسيرا لإبعاد الشبهات عنهم لأنهم كانوا من التجار المعروفين بالغنى.
    حدث لنا في هذا المكان أمر طريف فإننا حين ألفينا أنفسنا قريبين من المدينة ومحاطين بعسكريين كثيرين أتوا مع رجال المكوس لاستيفاء الرسوم ظننا أننا في أمان فتركنا خيامنا مفتوحة الأطراف واستسلمنا لنعاس لذيذ ، فانتهز الفرصة بعض اللصوص ودخلوا خيام المسافرين ، وراق لهم زيارة خيمتي أيضا فأخذوا كيس ثيابي ولم أشعر بهم إلا في الصباح. وعلمت حينئذ أن مسافرا إيطاليّا آخر سرقت بندقيته من تحت رأسه وفرحت لأنهم أبقوا لي صندوق كتبي وأوراقي وهو كنزي الصغير العزيز ، فحمدت الله على هذه المنة وإلا لكنت وقعت في حيرة وفقدت صبري. لقد كان الصندوق إلى جانب الألبسة ولحسن حظي لم يأخذوه رغم شكله وطريقة ربطه إذ يدلان على أنه كنز ثمين.
    في اليوم التالي المصادف 20 تشرين الأول عند الظهر تركنا منطقة «الإمام موسى» وسرنا باتجاه بغداد ونزلت في دار أعدت لي ، ولم تكن الدار في جانب بين النهرين (يريد الكرخ) بل في الجانب الآخر وهو القسم الأكبر من بغداد والأكثر أهمية فأخذنا نصيبنا من الراحة بعد ذلك السفر الشاق للغاية (1).
    __________________
    (1) إلى هنا تتوقف الترجمة العربية للرحلة في «نشرة الأحد».


    بغداد سنة 1616 م
    لا بأس أن أبدأ الآن بالتحدث عن هذه المدينة التي مكثت فيها فترة طويلة واطلعت عليها جيدا فزرت معالمها وطفت بضواحيها.
    ملاحظتي الأولى أوجهها إلى الذين يخلطون بين بابل القديمة وبغداد ويظنون أنهما شيء واحد كما يعتقد العوام. إن بابل القديمة كما ذكر الأقدمون تقع على الفرات وليست على دجلة حيث تقوم بغداد.
    الملاحظة الثانية ان بناء بغداد وطراز عمارتها والكتابات العربية التي تقرأ في مواضع عديدة (1) منها محفورة ومنها بارزة تدل على أنها مدينة حديثة وهي من بناء العرب المسلمين دون أدنى شك يؤكد ذلك ما جاء من أخبار عنها في كتب تاريخهم.
    ولعل سبب اعتقاد البعض أن بغداد هي بابل هو وجود كميات كبيرة من الآجر بحالة جيدة يعود بالأصل إلى بابل القديمة ومن بنايات كثيرة كانت قائمة وقد زالت معظم معالمها ولم يبق إلا بعض الآثار والجدران والحقيقة أنه لو حفر في أي موضع فيها ولمساحات كبيرة لعثر على كميات وافرة من الآجر الجيد والأسوار القديمة. من هنا تولدت القصة التي يرددها المسلمون إلى اليوم فيقولون إن البلاد كانت عامرة من بغداد إلى البصرة دون انقطاع ، فحدث ان ديكا فرّ من بغداد فعثر عليه في البصرة التي تبعد عن الأولى مسيرة 12 يوما وكان يقفز فوق السطوح من بيت إلى آخر حتى وصل إلى البصرة التي تقع على الخليج!!
    __________________
    (1) نوه بوجود الكتابات لكنه مع الأسف لم ينقلها إلينا ليته فعل.

    من جهة أخرى ظن البعض أن بغداد هي سلوقية أو طيسفون نظرا لوجود الآثار الكثيرة في البلاد ، والقناة التي تبدأ من الفرات لتصب في دجلة عند بغداد (1) وقد توهم هؤلاء أيضا لأن سلوقية وطيسفون حسب رأيي الذي يستند على معلومات أكيدة كانتا في موضع آخر كما سأوضح ذلك عن قريب في وصف آثارهما الباقية.
    يطلق الجميع ـ من عرب وأتراك وفرس ـ على المدينة اسم بغداد ، إلا الجهلة فقد دعوها بغدات وهذا خطأ واضح ؛ أما العوام في أوساطنا فقد سموها بابل كما أسلفنا.
    كانت بغداد قاعدة الخلفاء. ذكرها ماركو بولو البندقي (2) وهايتون الأرمني (3) لكنهما شوها لفظ اسمها فقالا «بلداك» وحورها شاعرنا بترارك (4) إلى «بلداكو».
    وتقوم المدينة كما أسلفت على نهر دجلة وتقسم إلى قسمين : الأول على ضفة النهر الغربية أي من جهة بين النهرين وهو غير مسور ، أما الشطر الأكبر فيقع على ضفة النهر الشرقية ويحيط به سور.
    بناء بغداد في كلا الطرفين من الطابوق القديم الجيد المشيد بدون ملاط ولكن بالطين كعادة الأتراك. لذا فعمارات المدينة ضعيفة لا تقاوم تأثيرات الزمن. وأكثر البيوت واطئة تكاد تكون بمستوى الطرقات أو أوطأ منها ، وقد عمد القوم إلى هذه الطريقة في البناء تفاديا للحر الشديد خلال فصل الصيف ، وللسبب عينه جعلوا غرف البيوت مظلمة فلم يضعوا فيها نوافذ بل اكتفوا بكوة صغيرة في كل غرفة. أما الهواء الطلق فلا يوجد إلا في الأفنية وفي غرف
    __________________
    (1) أظن أنه يشير إلى نهر عيسى.
    (2) سائح إيطالي (1254 ـ 1323) رحل إلى الشرق ووجهته الصين وقد مر بالعراق له كتاب روى فيه أخبار رحلته وهي منشورة.
    (3) لم أجد ذكرا لهذا الكاتب في المراجع المتيسرة لديّ.
    (4) شاعر إيطالي واسع الثقافة (1304 ـ 1374) يعد أبا الشعراء الإيطاليين.

    الديوان وهي الغرف المفتوحة على شاكلة الغرف الاسطنبولية. تتألف معظم البيوت من طابق واحد هو الطابق الأرضي وقد يكون في بعضها مرقاة في الفناء أو غرفة في طابق علوي لكنها ليست للسكنى. لهم في بيوتهم غرف تحتانية هي السراديب حيث يمضي أهل الدار في فصل الصيف معظم ساعات النهار.
    في المدينة جوامع عديدة مشيدة على طراز خاص بها ، أما القصور فلا وجود لها.
    يسكن الوالي في القلعة وهي بناء ، كبير جدا يقع في نهاية المدينة عند السور وتطل القلعة على النهر من جهته الشرقية وهي قلعة مكينة بالنسبة لهذه البلاد لكنها ـ حسب رأيي ـ لا تصمد للهجمات النارية في حالة نشوب حرب بمعناها الصحيح.
    هناك أسواق تجارية عامرة ، وهي مغطاة كعادة معظم المدن التركية بعضها حسنة البناء تجد فيها بضائع كثيرة خاصة الأقمشة الحريرية لأنها تصنع في البلاد نفسها ، وهي للاستعمال المحلي لكني لم أجد في هذه الأسواق شيئا غريبا جديرا بالإعجاب.
    تجد داخل أسوار المدينة مساحات كبيرة من الأراضي غير المشيدة ، وتنتشر البساتين بين البيوت وفيها أشجار مختلفة كالنخيل والرمان الجيد الكبير الحجم والليمون. كما يزرعون في بساتينهم الفجل وبعض الخضروات الأخرى. ويعتني بعضهم بزراعة نباتات غريبة ويعتزون بأشياء لا نهتم بها نحن كالأفيون وبعض النباتات المخدرة الأخرى (كذا!).
    أرض المدينة مستوية فإذا لم تفلح وتسقى ويعتنى بها فهي لا تختلف عن أرض الصحراء ، أما إذا أهملت فترة فإنها تنبت في الحال نباتات برية كالخروب وغيره.
    إن الأهالي يتعبون كثيرا بطريقة سحب الماء من النهر لأنهم لم يعرفوا طريقة الدواليب الكبيرة (النواعير) التي يعمل بها الفلاحون المصريون ،

    فطريقتهم البدائية تتطلب عددا من الحيوانات وجهدا كبيرا (1).
    هواء المدينة نقي لكنه حار ، فتصور يا سيدي اننا الآن في شهر كانون الأول ولا يزال عدد كبير من الأهالي ينام في غرف الديوان المفتوحة.
    في هذا الموسم نجد هنا البطيخ الفاخر لكنه ليس من إنتاج بغداد بل يجلب من الموصل القريبة من نينوى يحمل فوق نهر دجلة مع بضائع كثيرة على أرماث ليست من الخشب كالقوارب لكنها تصنع من مجموعة من الأحطاب المربوطة إلى بعضها فوق أجربة منفوخة بالهواء يطلق عليها اسم الكلك ومزية الزقاق أي الأجرية أنها تطوف فوق المياه مهما كانت ضحلة ولا تنكسر الأحطاب إذا ارتطمت بمواضع صخرية في النهر بعكس الأخشاب واستعمال الأكلاك في دجلة منتشر جدا شمال بغداد ، وهي تحمل بضائع مختلفة غالية القيمة قد يبلغ ثمنها أكثر من مئة ألف سكودو (2) علاوة على المسافرين ، لكن الأكلاك لا تسير عكس التيار لذا فبعد ان تصل إلى بغداد تحل الأجربة وتعاد إلى الموصل عن طريق البر أو تباع في السوق لتستعمل في أغراض أخرى مختلفة.
    لقد ذكر «زينوفون» (3) في تاريخه أن جنديا من رودس اقترح على قائده استعمال الزقاق أو الأجربة المربوطة ربطا محكما إلى بعضها وشد الأحطاب عليها لعبور جماعته فوق دجلة ، فراقت الفكرة في عيني قائد الحملة لكنه لم يطبقها لأسباب حالت دون ذلك. كما ورد ذكر الأكلاك في مؤلفات الأقدمين ..
    يمر نهر دجلة بالمدينة فيشطرها إلى شطرين كما ألمحت ، ويقوم على النهر جسر واحد مكوّن من مجموعة من القوارب العريضة يبلغ عددها 29 ـ 30 قاربا ، وعند ما يرتفع مستوى الماء فإنهم يضيفون عددا من القوارب.
    __________________
    (1) المعروف أن واسطة الري عند أهل بغداد كانت الكرود (جمع كرد) وكانت كثيرة منتشرة في مختلف أطراف بغداد على نهر دجلة انظر : كاظم سعد الدين : الكرود ، مجلة التراث الشعبي 10 (1979) عدد 11 ص 89.
    (2) تعني لفظة سكودو في الأصل الترس وقد أطلقت على الدينار الذي فيه صورة الترس منذ عهد الرومان انظر : الكرملي : النقود ص 148.
    (3) انظر مجلة المورد 4 (1975) 2 : ص 148 ؛ حملة العشرة آلاف ص 165.

    وتوجد مسافة بقدر عرض القارب الواحد تفصل بين قارب وآخر لكن الجسر مربوط ربطا محكما بسلسلة حديد. فالجسر ثابت وفي موضعين أو ثلاثة منه توجد أقسام متحركة غايتها قطع الجسر في الليل ليتوقف العبور بين الضفتين كعمل وقائي ضد الشائعات المنتشرة عن قرب هجوم الفرس من جهة ، والأعراب من الجهة الأخرى. فكم من دواه تتمخض عنها الليالي!
    أما القسم الآخر من بغداد فلا سور له (يعني الكرخ) لذا فإن قطع الجسر في الليل يؤمن لأهالي ذلك القسم الاطمئنان. وفي وسط الجسر فتحة غايتها تقسيم الجسر إلى قسمين وسحبه عند الحاجة بحيث لا يبقى له أثر ؛ وهذا ما يحدث عند هبوب العواصف الهوجاء أو عند ارتفاع منسوب المياه خوفا من انجرافه مع التيار فالفيضانات تتكرر في هذه البلاد كما تحدث في مصر. وقد شقوا بعض الترع لنقل المياه إلى الأراضي المجاورة لأن الأمطار قليلة في تلك النواحي.
    يحدث الفيضان مرة واحدة في السنة في شهر آب كما في مصر (1).
    وذلك لذوبان الثلوج في الجبال. هذه الفيضانات الجارفة هي في رأيي السبب المباشر الذي حال دون إقامة جسور حجرية ثابتة على نهري دجلة والفرات ، لأنها بغزارتها تغمر الجسور ، وبقوتها تجرفها أحيانا. ولهذا يكتفي القوم في بغداد وفي غيرها من المدن بهذا النوع من الجسور المتحركة.
    سكان بغداد مسلمون من مختلف الميول لذا يتوجب على واليها أن يحكم باعتدال كبير. وللباشا مجموعة من العساكر من أهل البلاد يسوسها بالعقل أكثر مما بالقوة.
    هناك أمور عديدة لن أكتبها الآن وسأحدثك عنها فيما بعد.
    لم أجد في بغداد أبنية جديرة بالاهتمام ..
    [يروي السائح في الصفحات 374 ـ 376 حادثا مشؤوما وهو الخلاف بين اثنين من رجاله أدى إلى مقتل أحدهما في 11 تشرين الثاني فاستطاع
    __________________
    (1) كلامه غريب ، لأن الفيضان يحدث عندنا اعتياديا في آذار أو نيسان ، لكننا نقلناه كما هو.

    صاحبنا ان يتلافى الأمر بالرشوة وبمساعدة جندي تركي أن يهرّب القاتل إلى أوروبا وأن يتخلص من جثة القتيل برميها في دجلة].
    لم يكن في بغداد كنائس ، وحيث وجدت في البلاد التركية كان محرما دفن الأموات فيها ، فدفن الأموات داخل المدن كان ممنوعا إلا لذوي الشأن ، وكانت مقابر المسلمين في ضواحي المدينة كما كان للنصارى مقابرهم الخاصة حسب طوائفهم وطقوسهم. لأن المسيحيين وفدوا إلى بغداد منذ سنوات قليلة هربا من الحروب والقلاقل في البلاد الأخرى ، ولا توجد حتى الآن كنيسة خاصة بهم ولا يسمح لهم بإقامة الشعائر الدينية لذلك فعند ما يريدون إقامة القداس يجتمعون سرا في بيت خصص لهذه الغاية ويقام القداس حسبما فهمت من دون مذبح خوفا من السلطات التركية أن تعثر عليه فتكون العاقبة وخيمة ، وعوضا عنه يبسط أحد الكهنة أو الشمامسة يديه فتغطيان بقماش نظيف يقوم مقام المذبح (1).
    __________________
    (1) هذه الفقرة مقتبسة من رسالة أخرى بعثها في وقت لا حق أدخلتها هنا لعلاقتها ببغداد .. وأضيف : كان في بغداد كنائس عامرة في العهد العباسي ، مثل بيعة درتا وبيعة السيدة في درب دينار أو سوق الثلاثاء وبيعة مار توما في المحول وبيعة دار الروم وغيرها لكنها زالت تدريجيا منها بسبب الفيضانات العاتية المستمرة ، ومنها بفعل عوامل الزمن أو لأسباب أخرى لا مجال هنا لذكرها فمن شاء فليرجع إلى كتابنا : كنائس بغداد ودياراتها ؛ بغداد 1994 ؛ كما أن المسيحيين الذين كانوا يسكنون بغداد بأعداد معقولة ويمارسون مختلف الأعمال كما يذكر ذلك المؤرخون ، وكما يشير إلى ذلك الجاحظ في رسالته الموسومة «الرد على النصارى» فإنهم رحلوا عنها تدريجيا بسبب الحروب والفتن في نهاية العهد المغولي بحثا عن أماكن آمنة في شمالي العراق وزال وجودهم في زمن الاحتلال الصفوي ، ولم يعودوا إلى بغداد إلا في مطلع القرن السابع عشر. أما الكنائس القائمة اليوم في أرجاء بغداد فأقدمها يرجع إلى القرن 19 إذ شيدت في منطقة الشورجة حتى عرفت باسم «عقد النصارى» ، والكنائس الأخرى شيدت في النصف الثاني من القرن 20.
    الأب بطرس حداد : كنائس بغداد ودياراتها ، ص 139 ـ 140 ؛ ومقالنا : السائح العاشق ، مجلة بين النهرين 6 (2000) ص 528 ـ 532

    رحلة إلى بابل
    منذ أيام وأنا أشتاق للخروج والسفر إلى بابل ، الواقعة على الفرات مسيرة يومين عن بغداد حيث كان برج نمرود والآثار الكثيرة التي قيل لي إنها لا تزال تشاهد هناك. لكني لم أذهب لأنه كانت قد انتشرت في تلك النواحي أخبار قطع الطرق والقتل من قبل الأعراب التابعين «لمبارك» (1).
    يحكم مبارك حكما مطلقا في المناطق الواقعة ما بين بغداد وبادية العرب حتى الخليج ولا يخضع للسلطان العثماني بل يميل بالأحرى إلى الفرس لأنه أقرب إليهم ويرهب شوكتهم ، ولأنه يجري في أراضيه نهر ينبع من الأراضي الفارسية يخاف أن يقطعوه عنه وبالرغم من أن اسمه «مبارك» ولقبه سلطان أي الأمير الحر لكنه عند ما يسك نقوده الخاصة فإنه يضع شعار الشاه عليها إلى جانب شعاره ويفعل ذلك ـ حسب اعتقادي ـ تقربا لا إكراها.
    الحرب بين الفرس والعثمانيين وشيكة الوقوع الآن ، وعلاقات مبارك مع ولاة بغداد ليس على ما يرام ، لذا نراه يحاول نشر الرعب في البلاد ويعيث في الأرض فسادا. ويستعد والي بغداد (2) هذه الأيام للخروج على رأس حملة قوامها سبعة آلاف جندي ولا تعرف إلى اليوم غاية الحملة ووجهتها ، أهي ضد الفرس المجاورين أم لتأديب مبارك. ففي الأشهر الماضية كان قد أرسل أحد ابنائه ليحكم البصرة فكسر شوكة الأتراك.
    __________________
    (1) هو المولى مبارك بين عبد المطلب من أبرز المشعشعين الحاكمين آنذاك في منطقة الحويزة العربية راجع الملحق (2).
    (2) هو الوالي يوسف باشا (1616 ـ 1621 م).

    لهذه الأسباب لم أذهب إلى بابل في تلك الأيام ، إذ كان عليّ أن أجد ما لا يقل عن مئة اعرابي لمرافقتي ، ولم يرق لي الخروج بحماية جنود انكشاريين. ثم بلغني فيما بعد أن شيئا من الهدوء قد عمّ تلك الجهات فقررت السفر.
    غادرت بغداد في التاسع عشر من تشرين الثاني (1616) مصطحبا خمسة من حملة البنادق الماهرين بالرمي وهم : السيد السندري البندقي والرسام وابراهيم الحلبي مع جنديين من أتباع صديقي التركي. ورافقنا ثلاثة من الجمالين الماهرين برمي النبال من الأقواس مع مختلف أنواع الأسلحة الأخرى.
    لم أشأ سلوك الطريق القصير المباشر عبر البادية بل حبا بالأمان توجهت إلى أقرب نقطة من الفرات لأسير بمحاذاته وأكون قريبا من الأماكن المأهولة فأنتقل من قرية إلى أخرى وكان معي بالإضافة إلى الجياد ثلاثة جمال لحمل الخيام والأفرشة والمؤونة ومحفة فيها سيدة نبيلة طاب لها المجيء معي ولم تبال بأخطار الطريق ولم أشأ تركها وحيدة في المدينة وسأتكلم عنها فيما بعد.
    رافقنا كذلك ثلاثة من المكارين يحملون الأقواس ومختلف أنواع الأسلحة وأمضينا الليلة الأولى في قرية صديقي المسلم حيث استقبلنا رجاله.
    في اليوم التالي مررنا بقرية «الرضوانية» ثم قضينا ليلتنا في قرية أخرى غير مسورة وبيوتها متناثرة لكنا كبيرة تستحق أن تسمى بلدة. جدير بالذكر أنه في البلاد التركية يطلق اسم قرية على كل المواقع التي ليست مدنا فإذا قرأت ـ يا سيدي ـ أسماء كثيرة في رسالتي فلا تعتقد بأنها كلها قرى صغيرة قليلة السكان لأن بعضها ـ في الواقع ـ واسعة مأهولة بعدد كبير من الناس وعامرة بالبضائع رغم أن بيوتها الحقيرة مشيدة باللبن وأشبه ما تكون بالأكواخ.
    تعود هذه القرية الكبيرة إلى «محمود باشا» الذي تسنم ولاية بغداد مرتين (1) فانتهز الفرصة وكون لنفسه أملاكا كثيرة لذا لقبوه باسم «جيكال
    __________________
    (1) لونكريك : أربعة قرون ، ص 53 ؛ وفي «دليل خارطة بغداد» للاستاذين د. مصطفى

    أوغلي» أي ابن الصرصور (1) وهو ابن ذلك الصرصور اللعين الذي كان قبطان البحر. وتسمى هذه البلدة «المحمودية» نسبة إلى محمود باشا ؛ ويفضل البعض تسميتها «الجديدة» لحداثة بنائها (2).
    مررنا في اليوم الثالث بقرية خربة اسمها «زوبية» (Zeobia) وبعد منتصف النهار وصلنا إلى نهر الفرات فأخذنا نسير بمحاذاته هناك ظهرت أمامنا جماعة من المسلمين بالبنادق والأقواس وغير ذلك كانوا نحو ثمانية أشخاص أو عشرة وكانوا ممتطين صهوات جيادهم وإذا بهم يتجهون صوبنا فتهيأنا للقتال إذ ليس من الفطنة في هذه النواحي الانتظار للتحقق من غاية القادمين ، فأشعلنا فتائل البندقيات وجمعنا العباءات والعمائم الكبيرة وغير ذلك من الألبسة الفضفاضة فوضعناها تحت أنظار السيدة المرافقة لنا التي أظهرت روحا قتالية عالية أعجبتني كثيرا فهي لم تخف البتة بل وقفت تراقبنا عند المحنة دون رهبة. أما الحيوانات فقد جمعت وراءنا واصطف حملة البنادق واستعد أصحاب الأقواس أمامهم وهكذا تحركنا لمناجزة القادمين. فلما اقتربنا قليلا جرى حوار بيننا فعلمنا أنهم جنود من بغداد فزال الغضب والتحفز وتبادلنا أطراف الحديث واستمعنا إلى آخر الأنباء ثم قالوا إنهم اعتقدوا أننا من أتباع مبارك حين رؤيتهم ألبسة الرسام وجمال القافلة لأن أولئك يسافرون دائما على الجمال. ثم افترقنا فسارت كل جماعة في طريقها. وأمضينا تلك الليلة في خان عند النهر يدعى «خان المسيب» كان بناؤه جيدا وله جدران عالية أشبه بالقلعة وقد شيد في وسط البادية لراحة المسافرين فهو مكان أمين.
    __________________
    جواد ود. أحمد سوسه : ذكر توليه مرة واحدة ص 288 ؛ ولم يرد اسمه في كتاب «بغداد مدينة السلام» لكوك ، ترجمة د. مصطفى جواد وفؤاد جميل 2 : 246 (انظر الملحق 3 من هذا الكتاب).
    (1) جيكال تعني : زيز ، جدجد ، صرار الليل وهو على شاكلة الصرصور يقف على الأشجار في ليالي الصيف ويصدر صوتا خاصا : دوزي : تكملة المعاجم العربية نقله إلى العربية وعلق عليه د. محمد سليم النعيمي 5 : 399.
    (2) العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 163.


    لا يعطى المسافر في الخان إلا غرفة خالية ، وقد لا يعثر على غرفة فتبقى أمام المسافر أروقة الخان لا غير ، المهم أنه تحت سقف. ولا يدفع المسافرون

    أجرة لقاء النزول في الخان لأنه شيد من قبل الحكام لراحة المسافرين ، أو حبا للخير ولوجه الله من قبل بعض الأفراد. أما خانات المدينة وهي كثيرة فإنها تستوفي أجرا بسيطا ويعطى في بعضها للبواب شيء يسير عند تسليمه مفتاح الغرفة. وعلى المسافر النازل في الخان أن يجهز نفسه للطعام والأفرشة وغير ذلك إذ لا وجود للمطاعم في تلك البلاد ، ولا أعلم سببا لذلك. لكني أعتقد أن الناس في هذه الأطراف يقنعون بالقليل والمسافرون هم عادة فقراء يكتفون بالخبز والتمر وما شابه ذلك ويفترشون الأرض ويلتحفون بألبستهم نفسها أما المسافرون الأغنياء فإنهم يعدون «البلاو» (1) وهو الرز ويضيفون إليه اللحم إذا أمكنهم الحصول عليه فإن لم يجدوه أضافوا قليلا من السمن إليه وزيادة إلى ذلك يشربون القهوة ويدخنون التبغ (2) ويحملون فراشا بسيطا وبعض الأواني للطبخ وخيمة ويشدون كل ذلك على حمار صغير يسير أمامهم فهم يختلفون عنا نحن الإفرنج إذ أننا ننشد الراحة في الأسفار والفراش الوثير والألبسة المتنوعة ويطيب لنا أكل الدجاج والبيض والفواكه لدى توفرها رغم أن هذه الأمتعة الكثيرة تتطلب مزيدا من الدواب لحملها. وعند النزول في مكان ما أرسل بعض رجالي إلى القرى المجاورة للبحث عن الطعام وما أشبه والحياة رخيصة جدا فمبلغ يسير يكفي لحياة رغيدة. لقد استهوتني هذه الحياة والعيش في الخيام فهي أفضل بكثير من تناول الطعام في مطاعمنا حيث يقوم على الخدمة أناس قذرون يقدمون الأكل في آنية وسخة تتقزز منها النفس ، أما طبخهم وفراشهم فالله وحده يعرف حالتها ، وأما صياح المكارين عندنا وصراخ المسافرين فيجعلون النوم مستحيلا ورهين إرادة الآخرين كما أن التكاليف عندنا أكثر بكثير مما هي عليه في هذه البلاد.
    دعنا من هذا الكلام ولنعد إلى موضوع رحلتنا ففي اليوم التالي غادرنا «خان المسيب» منذ الصباح الباكر وعند منتصف النهار رأينا من بعيد عن يسارنا
    __________________
    (1) هو الرز المطبوخ ولا يزال بعض المتقدمين في السن يستعملون هذه اللفظة.
    (2) هذا أقدم ذكر لاستعمال التبغ في العراق انظر : يعقوب سركيس : مباحث عراقية 2 : 145.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:06 pm


    بلدة فيها مسجد يقال له «أبو القاسم» فهو مدفون هناك ولذا يحظى المكان بإكرام المسلمين وهو من أقارب علي وسمي الموضع باسمه.

    ثم عرجنا على خان للنزول فيه ويقع قرب قلعة مهملة تسمى «خان البير» في اليوم التالي وهو 23 تشرين الثاني رحلنا مع الفجر فوصلنا إلى خرائب بابل قبل منتصف النهار بساعة فنصبنا الخيام وجلسنا لتناول الغداء بهدوء قبل زيارة الأطلال.
    وصف آثار بابل
    تجولت بين الآثار وطفت بها من مختلف أطرافها ، وصعدت فوق أعلى موقع ، ودخلت في كل مكان ونظرت كل شيء وأعدت النظر. وهذه هي انطباعاتي عن مشاهداتي :
    في وسط سهل واسع جدا على بعد نصف ميل من الفرات الذي يجري غربا في ذلك الموضع نرى إلى اليوم فوق سطح الأرض بقايا بناء عظيم آل إلى الخراب يكوّن مجموعة هائلة ، لا يظهر أكان هكذا منذ الأول كما أظن شخصيا أم أن الخراب جعله هكذا فبان بصورة تل. مهما يكن فهو لا يشير إلى شيء. إنه مربع الشكل له مظهر البرج أو الهرم ، أوجهه تقابل جهات الأرض الأربع. ويبدو لي أن القسم الممتد من الشمال إلى الجنوب هو أطول قليلا من القسم الآخر الممتد من الشرق إلى الغرب ، ولعل الخراب فعل ذلك. يبلغ طول محيطه الكلي نحو ألف وخمسمائة خطوة تقريبا أي ما يقارب النصف ميل.
    إن هذا القياس إضافة إلى الموقع وشكل البناء يتفق مع ما كتبه «سترابون» في وصف الهرم المشيد على ضريح «بيلوس» ومع ما ورد في الكتاب المقدس (1) باسم «أرض نمرود» في بلاد بابل كما يطلق عليها إلى الآن.
    كيف كان هذا البناء الجميل في وقته؟
    إن هيرودوتس (2) الكاتب والمؤرخ القديم يصفه بدقة فيقول ، إن البناء
    __________________
    (1) يعتمد صاحبنا في كثير من أخباره على التوراة ، وهنا ينوه بما جاء في سفر التكوين 10 و 11.
    (2) مؤرخ يوناني شهير (نحو 480 ـ 425 ق. م) يلقب بأبي التاريخ.

    كان فيه ثمانية أبراج الواحد فوق الآخر وهو بناء متراص تحيط به مرقاة خارجية للصعود (1).
    أما «سترابون» فإنه لا يذكر المرقاة ، ولا يتوقف لوصف جمال البناء لأنه يضيف بأن البناء قد خرب قبل عهد «أحشويرش» (2) ولما قدم «الإسكندر الكبير» (3) قرر إعادة البناء لكن موته المفاجىء حال دون تحقيق رغبته (4).
    يلاحظ أن تلول الخرائب الظاهرة حاليا لا تقدم أية إشارة إلى بناء سابق أو مدينة كبيرة كانت قائمة ، كل ما هنا لك بعض الأسس والجدران المائلة التي تشاهد على بعد خمسين أو ستين خطوة من التل. أما البقية فهي أرض مستوية ولا توجد بقايا أبنية فوق الأرض ما عدا التل الكبير ، بالرغم من أننا نعرف كم كانت عظيمة أبنية بابل ... مهما يكن فهذا تأثير الزمن الذي يخرب كل شيء.
    فقد مضى على بناء المدينة أربعة آلاف سنة أو أقل من ذلك قليلا. وما يظهر الآن على قلّته أدهشني فعلا. ألم يذكر «ديودورس الصقلي» وهو مؤرخ قديم أن الآثار الماثلة على عهده كانت نزرة جدا؟
    إن ارتفاع التل الأثري عن سطح الأرض يختلف هنا وهناك لكنه أعلى من أي قصر من قصور نابولي وليس له شكل محدد خاص لأنه خراب ففيه قسم مرتفع وآخر بالعكس وفيه قسم منحدر وآخر منبسط وبالإمكان الصعود إليه.
    كما تظهر عليه آثار انحدار مياه الأمطار ، ولا أثر فيه لمرقاة للصعود أو باب للدخول ، وإذا ما تسلقت إليه تجد بعض الكهوف المنهارة التي لا تفصح على أصلها وهي حسب اعتقادي تختلف عما كانت عليه بالأصل ولعل هذه المغارات من عمل أهل البادية حفروها للالتجاء إليها ، وبالرغم من أن البدو يهابون المكان ولا يقتربون منه لاعتقادهم بوجود «هاروت وماروت» فيه (5) ، وهذان ـ في
    __________________
    (1) انظر الوصف في كتاب «مقدمة في تاريخ الحضارة القديمة» تأليف طه باقر ، ص 570.
    (2) ملك الفرس (485 ـ 465 ق. م) ابن داريوس.
    (3) الاسكندر المقدوني (356 ـ 323 ق. م) من أشهر القادة والفاتحين.
    (4) قدم الاسكندر إلى بابل سنة 331 ق. م.
    (5) سورة البقرة 102.

    اعتقادهم ـ ملاكان أرسلهما الله لتفقد الأرض واستطلاع أخبار البشر ، ـ كما يتناقلون ـ وقعا في حب امرأة التجأت إليهما ليعدلا بينها وبين زوجها ، فطلبا منها أمرا فاحشا ، فوافقت بشرط أن يلقناها الدعاء الذي بقوته ينتقل الملائكة صعودا ونزولا بين السماء والأرض حسب رغبتهم ، فأفشيا السر ؛ وما ان تعلمت الكلمات الضرورية حتى تلفظت بها في الحال وحلقت إلى السماء تاركة الملاكين في قنوط ، فعاقبهما الرب على ميولهما نحو الحرام وأبقاهما سجينين في المغارة ببابل ، وهما معلقان بشعرهما حتى يوم الحشر ، ولا أعلم أهما معلقان بشعر الحواجب أم بشعر الأهداب ... يا لها من خرافات!
    لنعد الآن إلى خرائب البرج. إن المواد المستعملة في البناء هي أغرب ما في المكان لقد فحصتها جيدا وضربت المعول في أكثر من مكان فكسرت بعض القطع فإذا بكل ما أمامي آجر كبير الحجم وسميك مصنوع من الطين المجفف في الشمس ومبني بالطين أيضا إذ لا أثر للملاط فيه. لكنهم رغبة بتقوية البنيان أضافوا بين صفوف اللبن خليطا من القصب المسحوق والتبن بصورة حصران وفي بعض صفوف البناء وخاصة في الأماكن التي هي ركائز مهمة لتحمل الثقل فقد وضعوا آجرا مفخورا بنفس الحجم السابق ، وهنا استعملوا الملاط الجيد والقار ، لكن كمية اللبن هي أكثر بكثير من الآجر المفخور. وقد طاب لي أخذ نماذج من مختلف أنواع الآجر والحصران والقار ليطلع عليها الآثاريون ، وسأحملها معي إلى إيطاليا.
    ولقد ورد ذكر استعمال القار في البناء عوضا عن الملاط في هذه البلاد في مؤلفات «جيوستينو» (1) في كتابه المعنون «مختصر تروكو» في سياق كلامه عن بنايات «سميراميس» لكن الكتاب المقدس نفسه في أثناء ذكره لهذا البرج والمدينة يعتبرها من عمل «نمرود» (2). أما المؤرخون المدنيون فإنهم يعزون
    __________________
    (1) مؤرخ لاتيني من ابناء المئة الثانية اشتهر بمختصر التاريخ العام لمؤلفه «تروكو بومبيو» المعاصر للامبراطور أغوسطس.
    (2) يشير إلى سفر التكوين 1 : 8 وما يليه و 11 : 3.

    البناء إلى «بيلوس» لذا لخص «بيللارمينو» (1) الفكرة في كتابه الذي طبع منذ وقت قصير ـ وقد اطلعت عليه في اسطنبول ـ فقال إن نمرود هو بيلوس نفسه.
    وهكذا نرى سترابون وهيرودوتس يسميان الموضع «ضريح بيلوس» بينما تدعوه التوراة برج بابل ونمرود.
    لقد طلبت من الرسام ان يرسم منظر بابل فانكب على العمل حالا ورسم لوحتين فيهما التل الأثري من جهتين بحيث يظهر في آخر الأمر من مختلف جهاته.
    __________________
    (1) روبرتو بيللارمينو (1542 ـ 1621) لاهوتي ايطالي من الرهبنة اليسوعية.

    الحلة
    انتهينا من زيارة بابل ، وكان لدينا متسع من الوقت في ذلك النهار فقررت زيارة مدينة من هناك تسمى «الحلة» لا يذكرها الجغرافيون الغربيون بالرغم من أنها أهم بلدة في ربوع بابل. فسرنا إليها وقد عزمت المبيت فيها ، فالنزول فيها خير من البقاء في العراء. فوصلنا إليها في وقت صلاة العشاء وقبل أن نصلها رأينا مسجدا على الطريق يطلقون عليه اسم «مسجد الجمجمة» (1) لأنه أقيم في موضع عثروا فيه على جمجمة أحد الأولياء.
    أمضينا اليوم التالي في الحلة الواقعة على نهر الفرات وتتكون من قسمين على عدوتي النهر ، وفيها جسر من القوارب كجسر بغداد عدد قواربه 24 قاربا.
    بيوت الحلة شبيهة ببيوت بغداد ، مشيدة باللبن القديم وهي واطئة البناء وليس فيها إلا الطابق الأرضي وفي البيوت حدائق عامرة بمختلف أنواع الأشجار المثمرة خاصة النخيل ، ونظرا لارتفاع هذه الأشجار وكثافتها فقد أرسلت ظلالها على البلدة كلها فالناظر إليها من بعيد لا يرى سوى غابة نخيل واسعة.
    الحلة بلدة كبيرة ، وفيها قلعة صغيرة لكنها قوية تقع على النهر ، كما توجد فيها أسواق عامرة بعضها حسنة البناء والطراز لكنها مظلمة جدا. يحكم المدينة «سنجق» يخضع لباشا بغداد.
    كانت بعض البساتين جميلة حقا عامرة بالحمضيات ومختلف الأشجار
    __________________
    (1) جاء في كتاب : الاشارات إلى معرفة الزيارات ، للهروي : «مدينة الحلة بها مشهد الجمجمة يقال إنها خاطبت عيسى ابن مريم (ع) ويقال علي بن ابي طالب (رض) والصحيح ان عيسى ابن مريم لم يدخل العراق ...» دمشق 1953 ص 76.

    الأخرى. وذكر لي أن أحد البساتين من أملاك بعض النساء وهن بنات أحد الولاة المتوفين.
    لم أجد أبنية جديرة بالإعجاب أو آثارا قديمة لكن المنطقة الواقعة على الفرات بأكملها قديمة وقد قامت بعد انقراض بابل.
    لقد ذكر الأهالي خبرا لم أفهمه في بادىء بدء لصعوبة تفاهمي بالعربية فلم أعره انتباهي وقد تأسفت جدّا بعد فوات الأوان. لقد أخبروني أنه على مسيرة نصف نهار من الحلة في طريق يختلف عن الطريق الذي سلكته يوجد قبر «حزقيال النبي» ويفد إليه اليهود سنويا للتبرك به (1) ويقع على نهر كوبار أو كابور ـ كما يلفظه العرب حاليا ـ المذكور في الكتاب المقدس في سفر حزقيال (2) ويتدفق النهر في أرض بين النهرين من منبع شهير يسمى «رأس العين» ثم يصب في الفرات. كم كان هذا الموضع جديرا بالزيارة فصاحبه من الأنبياء العظام ولأن مثواه حسب شهادة «سفر الشهداء» (3) هو أيضا قبر سام وارفكشاد (4) من أجداد سيدنا إبراهيم. أنه سوء حظي الذي حرمني من هذه الزيارة المهمة.
    غادرت الحلة ضحى الخامس والعشرين من تشرين الثاني ، وأمضينا الليل في «خان البئر» المار ذكره حيث نزلنا في طريق الذهاب ، وقد هرع عدد كبير من البدو رجالا ونساء لرؤيتنا عند سماعهم بوجود إفرنج بين ظهرانيهم فأعددنا لهم «البلاو» وهكذا أمضوا مساء مرحا معنا ثم عادوا إلى خيمهم.
    __________________
    (1) يشير إلى ناحية الكفل المعروفة ، قال الحموي : معجم البلدان 1 : 594 «بر ملاحة بالفتح والحاء مهملة موضع في أرض بابل قرب حلة دبيس يقال لها القسونات فيها قبر حزقيل المعروف بذي الكفل يقصده اليهود من البلاد الشاسعة للزيارة».
    (2) يسمى في الكتاب المقدس «نهر كبار» (حزقيال 1 : 1 و 3).
    (3) يدعى «سفر الشهداء الروماني» وهو كتاب يضم اسماء الشهداء والأولياء النصارى منذ أقدم العصور النصرانية وهو مقسم على أيام السنة وما يذكره المؤلف يرد في الكتاب المذكور بتاريخ 10 نيسان (العدد : ثالثا).
    (4) سفر التكوين : الفصل 10.

    عدنا إلى بغداد في الطريق المباشر عبر الصحراء إذ رأيت ليس من الفطنة أن أتنقل من مكان إلى آخر ومعي هذا العدد الكبير من الحاشية ، فأمضينا الليلة الثانية في خان يقع قرب قلعة غير مأهولة يدعى «خان النص» لأنه يقع في منتصف الطريق بين الحلة وبغداد ومن عادة العرب أن يسموا المواقع بأسماء الآبار ومنابع المياه لأهميتها وهذه عادة قديمة نرى أثرها في الكتاب المقدس.
    بعد يومين من حلولنا في هذا المكان سمعنا أن شرذمة قوية من الأعراب أغارت على قافلة هناك أو بمقربة من ذلك المكان فنهبتها ومن حسن حظي ـ فضلا عن أني لم أر أحدا من هؤلاء ـ أن لقيت أحد كبار قواد بغداد كان قدم إلى هنا قبلنا بأمر من الباشا ومعه مائة فارس ونيف ليستميل شيخا ويصحبه إلى بغداد ، وهو من رؤساء العرب أو أن شئت فقل هو أمير من أمرائهم كما أظنه شخصيا كان من أصدقاء الأتراك اسمه «ناصر بن مهنا» ليرافقه إلى بغداد فيخرج مع الوالي إلى الحرب (1) وقد أكثر قائد بغداد من فرسانه مبالغة في تعظيم هذا الشيخ وهكذا سرنا مطمئنين إلى بغداد فوصلناها في 27 تشرين الثاني بعد زيارة موفقة لبابل (2) لم تدم فرحة هذه الزيارة الناجحة فقد بلغني خبر من اسطنبول عن طريق حلب مفاده أن السلطة كانت غاضبة على الإفرنج. ولم تكن الأخبار واضحة.
    فمن رسالة وردتني من السفير الفرنسي في اسطنبول يفهم ان الحكومة صبت جام غضبها على الرهبان فأعدمت راهبا من الفرنسيسكان (3) وزجت في السجن الرهبان اليسوعيين (4) ثم خرجوا بعد ذلك سالمين بعد أن افتداهم
    __________________
    (1) انظر الملحق رقم 4.
    (2) يعقوب سركيس : قشعم في التاريخ (مباحث عراقية 1 : 93 ـ 94) وقد أورد الباحث في مقاله هذه الفقرة الأخيرة من الرحلة.
    (3) النسبة إلى مؤسس الرهبنة فرنسيس الأسيزي (1182 ـ 1226 م) ولا تزال هذه الرهبنة قائمة ومنتشرة في أقطار عديدة.
    (4) رهبانية أسسها القديس أغناطيوس دي لويولا سنة 1540 لا تزال قائمة ومنتشرة في بلاد العالم.

    السفير الفرنسي حسبما فهمت ، فهم تحت حمايته لأن الباليوس أي القنصل البندقي لا يهتم بهم. ويقال إن الأتراك اكتشفوا علاقة هؤلاء ببعض أمراء الغرب (1) وعلى أثر ذلك أمر السلطان أن يدفع الإفرنجة العائشين في ولاياته الجزية كما يدفعها النصارى من أهل البلاد وهذا تدبير جديد لم يعمل به أبدا من قبل لأنه يضرب عرض الحائط كل معاهدات السلام مع أصدقائه أمراء الغرب ... ولعل الاستعداد للحرب ضد الفرس والحاجة الماسة إلى المال كانا من وراء هذا التدبير ... كما يجب أن لا نغفل قلة الفطنة عند بعض الإفرنج في تصرفاتهم مع الأتراك .. لقد تأسفت جدا لما حدث لأني تركت عند اليسوعيين صندوقا فيه أوراقي الخاصة وملاحظاتي التي سجلتها في اسطنبول وهي ملاحظات ثمينة تعبت جدا في جمعها وفيها رويت مستهل رحلتي ومشاهداتي في اسطنبول ومقتل نصوح باشا وملابسات مقتله وغير ذلك (2).
    سلوقية وطيسفون
    أعود إلى موضع رحلتي لأتحدث عن سفرة أخرى قمت بها في ضواحي بغداد. فقد أخبرني بعض اليهود بوجود آثار ترجع إلى عهد «نبوخذنصر» لكنهم كانوا على خطأ حسب رأيي فالآثار أحدث عهدا مما يزعمون.
    في الثالث من كانون الأول (1616) سرت إلى تلك المنطقة مع أهل بيتي كافة يرافقنا رجل تركي واحد وإذ كان الموضع الذي نسعى إليه يقع على نهر دجلة إلى الجنوب من بغداد فقد ركبنا قاربا توخيا للراحة والأمان. فالسفر في البر غير أمين نظرا للاضطرابات السائدة. وبينما نحن ننحدر مع النهر رأينا
    __________________
    (1) هامر : تاريخ الامبراطورية العثمانية 8 : 219 ـ 228.
    (2) تسنم نصوح باشا مناصب عديدة منها ولاية ديار بكر وبغداد (1608 م) وصاهر السلطان (هامر 8 : 207) واستقام في الوظائف العالية وقتل في رمضان 1023 ه‍ وسبب قتله ظلمه وتعاليه وقيل اكتشاف ميوله إلى الفرس (هامر 8 : 211) ذكر الرحالة ترجمته في الجزء الأول : 56 ـ 57 ؛ انظر أيضا المحبي : خلاصة الأثر 4 : 448.

    على الضفة اليمنى مجموعة كبيرة من خيام البدو ، ولكثرة خيامهم تظن المنطقة مدينة كاملة وكنت أتمنى النزول إلى البر لإلقاء نظرة عليهم ، ولكن بعدهم عن النهر والوقت القصير منعاني من تحقيق رغبتي. وعند الغروب مررنا بمنطقة يصب فيها نهر ديالى بدجلة.
    توقفنا مساء لنمضي الليلة في القارب نفسه قرب قرية تدعى «كرد حاجي كردي» والكرد واسطة لسحب الماء من النهر بواسطة الحيوانات. لقد أردت الاستفسار عن هذا الاسم لأن قرى عديدة على النهر تسمى هكذا ، فعلمت أن أصحابها يمتلكون الكرود لسقي أراضيهم الواسعة لذا يسمى الموضع باسم صاحبه. إن هؤلاء الملاكين يختلفون عن «البارونات» في بلادنا فأولئك يمارسون سلطة كاملة على إقطاعاتهم وأتباعهم أما هؤلاء فإن العاملين عندهم من القرويين الذين بنوا في أراضيهم فهم يفلحون الأرض لأصحابها لكنهم يكسبون بعض الثمار.
    في اليوم التالي بارحنا ذلك المكان قبل الفجر وإذ كانت منطقة الآثار التي هي هدف رحلتنا من أخطر المناطق فقد أخذنا معنا ثلاثة أعراب من تلك القرية هم في الواقع من الغزاة الموالين للشيخ مبارك فوجودهم معنا يهبنا شيئا من الاطمئنان ويشفع لنا في حالة التقائنا برجال مبارك فهم من نفس العشائر ، وأبناء العشائر يعرفون بعضهم البعض. وكان رجالنا الثلاثة من أشجع رجال القرية وباستطاعتهم مناجزة قطاع الطرق. كان أحدهم لا يحمل سوى ثلاثة أسهم وكان يتباهى قائلا : إن كل سهم برجل : إن كل سهم برجل! وفي الواقع كان الرجال الثلاثة يتباهون بقدرتهم العالية على العدو السريع وبمعرفتهم لكل المسالك المطروقة وغير ذلك.
    قبل ساعة من منتصف النهار وصلنا إلى «سلمان باك» أي سلمان الطاهر ، وهو من الأولياء وقبره في تلك البقعة. فنزلنا إلى الأرض ولم نهتم بالقلعة الصغيرة القائمة عند النهر وهي حديثة البناء وكانت خالية. فسرنا مباشرة إلى الآثار التي تبعد نحو نصف ميل من النهر ، ويدعي يهود اليوم بغباء فاضح أنها الهيكل الذي نصب فيه «نبوخذنصر» تمثاله الذهبي وأمر بالسجود له ، كما ورد

    في الكتاب المقدس (1) ؛ من الممكن القبول بالموقع إذ إن الكتاب المقدس يذكر أن التمثال تم نصبه في أرض فسيحة لم تكن ببابل نفسها ولكن في ضواحيها. ولو فرضنا واعتبرنا هذا الموقع امتدادا بعيدا لمنطقة بابل فمن غير المعقول أبدا أن يبقى البناء إلى اليوم خاصة أنه لم يكن مشيدا بالحجر.
    إن المسلمين على صواب في تسميتهم هذا الموضع باسم «إيوان كسرى» الذي شيده في طيسفون (2) ملك الفرس من السلالة المتأخرة (3) حاولوا فيه تقليد أباطرتنا وكانوا يلقبون أنفسهم بالأكاسرة وينقل عن مؤلفيهم أن البناء كان مشهورا من الناحيتين التاريخية والجغرافية ، وسأحاول البحث أكثر في هذا الموضوع وقد تردد ذكر هذا المكان خلال الكلام عن الحروب التي نشبت بين أباطرة الرومان وأكاسرة الفرس.
    أضيف إلى ما ذكرت أنه كان هناك موضع آخر يطلق عليه اسم «سلوقية» (4) لأن سترابون يذكر بوضوح ان طيسفون لم تكن إلا قصبة من ضواحي سلوقية ، شيدها ملوك الفرس للتخفيف من السكن في سلوقية ومن أجل راحة أهل البلاط والعساكر التي كانت ترافق الملوك عند قدومهم إليها لقضاء فصل الشتاء إذ إن مناخها أكثر دفئا ، بينما كانوا يمضون فصل الصيف في هركانيا وأكبتانا (5) ؛ إن وجود البلاط المتكرر هناك كان السبب في نمو طيسفون وتوسعها حتى أصبحت مدينة فإن صح كلامي فذاك يعني أن سلوقية وطيسفون كانتا في موقع واحد لذا فبكل حق يطلق العرب على هذا الموضع اسم «المدائن» (6) فالكلمة تشير إلى المدينتين في آن واحد ويؤيد قولي
    __________________
    (1) سفر دانيال : الفصل 3.
    (2) معجم البلدان 3 : 570.
    (3) يشير إلى الساسانيين (226 ـ 628 م).
    (4) عاصمة الدولة السلوقية والنسبة إلى سلوفس نيقاطور خرائبها في تل عمر جنوبي بغداد.
    (5) عاصمة الماذيين وهي همدان الحالية.
    (6) د. طارق عبد الوهاب مظلوم : المدائن (طيسفون) مجلة سومر 27 (1971) ص 129 و 131 (1975) ص 165.

    «أكاثياس» في كلامه عن «خسرو» الذي سقط مريضا بعد انكساره في موقعة جرت بالقرب من هناك فيقول إنهم حملوه وهو يعاني سكرات الموت إلى سلوقية وطيسفون لقد خلط بين المدينتين فاعتبرهما مدينة واحدة.
    إن «سفر الشهداء الروماني» ـ المذكور آنفا ـ يورد حتى الآن بتاريخ 21 نيسان من كل سنة ذكر أحد القديسين هو مار شمعون (1) ، الذي كان أسقف المدينتين سلوقية وطيسفون وهذا يؤيد قولي لذكره اسم المدينتين سوية.
    إن العرب بقولهم «المدائن» يشيرون بالأحرى إلى «طيسفون» لأن هذه المدينة توسعت حتى طغت على سابقتها أي «سلوقية» هكذا فهمت من كتاب جغرافي مهم لكاتب معروف (2).
    بالرغم من أن هاتين المدينتين كانتا تؤلفان جسما واحدا ، فإن «سلوقية» تنسب من حيث الموقع إلى ما بين النهرين أي إلى الضفة اليمنى أكثر غربا من دجلة ، بينما كانت طيسفون على الضفة اليسرى نحو الشرق حيث يقوم «إيوان كسرى».
    جمعت هذه المعلومات وقابلتها موقعيا ورجعت إلى المصادر المتوفرة في مؤلفات المسلمين المعاصرين في هذا البلد ، ومما سبق لي أن طالعته وسأعود إلى مقابلته بالكتب الموجودة لدينا لأعطي فكرة واضحة عن كل ذلك لأن الذاكرة لا تسعفني الآن بكل شيء.
    __________________
    (1) هو الجاثليق بطريرك كنيسة المشرق مار شمعون برصباعي الذي استشهد سنة 341 م ضحية اضطهاد الفرس المجوس. سيرته في كتاب أشهر شهداء المشرق تأليف ادي شير (الموصل 1900) 1 : 193 ؛ الأب البير ابونا : شهداء المشرق ، بغداد 1985 ، 1 : 105 ـ 137.
    (2) قال في الهامش «مسالك الممالك» ولم يذكر اسم المؤلف أهو لابن خرداذبه أم للاصطخري ، وكلاهما يذكران المدائن.

    وصف الإيوان (1)
    يطلق الأهلون على الموضع اسم «إيوان كسرى» أو «طاق سلمان باك» لقرب الواحد من الآخر.
    إنه بناء فخم ، مشيد بآجر مفخور وملاط جيد له جدران سميكة جدا تتجه الواجهة نحو الشرق وهي مزينة من الأعلى إلى الأسفل بألف حنية مبنية بالآجر نفسه يبلغ طول الواجهة مئة وأربعة عشر قدما بقياس قدمي. كان للإيوان كما يظن ثلاثة أروقة (كما في الكنائس) لم يقارع عوادي الزمن إلا الوسطى. وطوله ستة وستون قدما ، وعرضه ثلاثة وثلاثون ، وهذه القياسات تقريبية لأن الأرض غير مستوية. وليس للإيوان بابا كبيرا كما قد تتوقع ، لكنه مفتوح بحيث يرى الناظر كل ما في الإيوان من أعلاه إلى أسفله ، ومن هنا سماه الأهلون باسم الإيوان أو الطاق لأنه يشبه الطاق فعلا.
    في نهاية الإيوان يوجد باب صغير في الوسط ، وشكل الباب مقوس كالطاق أيضا ، وفي جهتي الإيوان باب صغير قريب من الواجهة يؤدي كل منهما إلى الإيوان الأصغر. وهذان الرواقان قد تهدما كليّا كما سقط قسم من السقف في صدر الإيوان مع الجدار الذي يسنده.
    لن أزيد على هذا الوصف ، فقد قام الرسام برسم الإيوان فأعد لوحة طبيعية حسنة.
    يشير اليهود أيضا إلى خرائب قريبة من الإيوان ، يزعمون أنها موضع جب الأسود حيث زج دانيال النبي (2) لكن قولهم لا يستند إلى أسس صحيحة فهي بالأحرى من بقايا «طيسفون» لأن هذه المدينة كانت كبيرة ورائعة كما يذكر المؤرخون وقد آلت إلى الخراب.
    __________________
    (1) ورد هذا الوصف في مقالة للاب أنستاس ماري الكرملي : سلوان الأسرى في إيوان كسرى ، مجلة المشرق 5 (1902) ص 744 و 780 ـ 782 وما ذكره فهو عن الترجمة الفرنسية للرحلة (ط. باريس 1661).
    (2) يشير إلى ما جاء في سفر دانيال 6 : 16.

    بعد زيارتنا لآثار «طيسفون» عرجنا على المسجد الذي يضم قبر سلمان باك. فإذا هو بناء عربي جميل لكنه صغير مشيد بآجر قديم. ثم تجولنا في تلك الأنحاء فرأينا آثارا أخرى كثيرة تشبه آثار بابل فهي مشيدة أيضا بالآجر والقصب وشاهدنا بقايا سور المدينة وهو يدل على المساحة الكبيرة التي كانت تشغلها. ولا تزال بعض الجدران قائمة لكن أكثرها مال إلى الخراب فأصبحت أشبه بالتلال. وهذه الآثار منتشرة على عدوتي النهر فهو يقسمها إلى قسمين أو إنه بالأحرى يجري بين المدينتين كما بينت أعلاه إلا إذا كان النهر قد حول مجراه كما يزعم الأهلون.
    وجدت عند النهر جدرانا مشيدة بآجر مفخور جيد الصنع يتخلله القار عوضا عن الملاط بنفس الطريقة المتبعة في أبنية سميراميس التي ذكرها الأقدمون. فأخذت عددا من الآجر الملطخ بالقار ووضعته داخل علبة بعد تغليفه جيدا بلفائف من القطن. ولا حظت أن بعض الحاضرين يضحكون وكانوا ينظرون إليّ بسخرية. إنهم لا يعلمون قيمة هذه الآثار ومدى اهتمامنا بها.
    ركبنا القارب لنرجع إلى بغداد وكان على الملاحين أن يجروا القارب بالحبل لأنه ضد التيار. وأمضينا الليلة قرب قرية «كرد حاجي كردي» حيث نزلنا في الليلة السابقة.
    في اليوم التالي تابعنا السفر ببطء شديد لأن الصعود في النهر كان صعبا فهو بعكس مجراه. ثم مررنا من جديد بمصب ديالى. وعند العصر شاهدت على عدوة النهر الشرقية مجموعة من الخيام السوداء كتلك التي رأيتها سابقا فأردت الاقتراب منها والتعرف على ساكنيها ، فنزلت إلى البر مع ثلاثة من أصحابي ، وطلبت من الآخرين البقاء مع النساء والأمتعة في القارب وأن يواصلوا السفر على أن نلتقي في المساء ، وهكذا تابعوا سفرهم وسرت أنا إلى الخيام.
    حياة البدو
    لم تكن الخيام من النوع المستدير التي تستند على عمود وسطي وحيد ، بل كانت طويلة مثبتة في الأرض كتلك التي توضع فوق المراكب المستعملة عندنا.

    وهي منسوجة من مادة غليظة قوية جدا ، تتحمل حرارة الشمس وتأثير المطر. تقوم النساء على نسجها من شعر الماعز الأسود ، فالماعز كثير عند الأعراب ويغلب عليه اللون الأسود ، فتذكرت قول الكتاب ؛ «أنا سوداء لكني جميلة ... كأخبية قيدار» (1) إن قيدار هو أحد أبناء إسماعيل ، وينتسب العرب إلى إسماعيل.
    الخيام عبارة عن قرية متنقلة ، وجدت هناك عددا غفيرا من الرجال والنساء. والجدير بالذكر أن النساء حاسرات الوجوه ، لا يتحجبن كما تفعل التركيات بذلك الحجاب الغريب. كن لابسات زيا بدويا ، ويتزيّن بحلي في الرقبة والمعصم والأرجل. يحملن أساور من معادن مختلفة كالنحاس والصفر والفضة ، ويضفن إلى ذلك بعض الخرز من العنبر أو البلور الملون ، وكلهن على الإطلاق يستعملن الوشم على الأيدي وعلى الشفاه ومعظم أجزاء الجسم ، ولونه أزرق قاتم ، ويتم بواسطة إبرة مع صبغ مستخلص من كبد الأسماك يزرق تحت الجلد ، لا يزول أبدا (2) وهذه عادة منتشرة في هذه البلاد وفي مصر ، وفي أرجاء الشرق عامة ، وتعتبر من وسائل التجميل للنساء والرجال على السواء ولم أتخلص منها رغم كوني غريبا عن البلاد فقد وشمني رجل ماهر بهذا الفن في يدي.
    الوشم ليس من العادات المستحدثة ، فله جذوره العميقة ، وقد ذكره الأقدمون ، فنحن نقرأ في كتاب وضعه «بومبونيو ميلا» (3) وكتاب آخر من تأليف «جوليو سولينو» (4) ان قوما من الإغريق هم أهل «أجاتيرا» كانوا يلونون وجوههم وأبدانهم بالألوان التي لا تمحى. وقد نوه بهم «فيرجيل» (5) أيضا.
    __________________
    (1) نشيد الانشاد 1 : 4 وكذلك سفر التكوين 25 : 13.
    (2) عزيز جاسم الحجية : بغداديات 2 : 18 (بغداد ـ 1968).
    (3) جغرافي لاتيني من أبناء المائة الأولى للميلاد.
    (4) مؤرخ لاتيني عاش في القرن الثالث له كتاب «التاريخ العام» بحث فيه عن أجناس البشر والتاريخ الطبيعي لسائر البلاد.
    (5) أعظم شعراء روما (71 ـ 19 ق. م) له الرعائيات ، والفلاحيات وملحمة الانياذة.

    وكانوا كلما أكثروا من الوشم علت منزلتهم بين مواطنيهم وهكذا الحال في الشرق ، وخاصة بين العرب.
    لقد ذكرت زي البدويات ولم أصفه. إنهن يلبسن جلبابا من التيل لونه أزرق غامق يصل إلى أقدامهن ، وهو فضفاض جدا. له أكمام عريضة للغاية بحيث إنهن عندما يرضعن أطفالهن لا يفتحن شق الصدر بل يخرجن الثدي من الكم العريض. ويلبسن عباءة في موسم البرد وقد ذكرتها سابقا ، وهي ليست جميلة ولا عريضة كعباءات الرجال لكنها خشنة القماش وضيقة ويضعن في الرأس لفائف من قماش أسود اللون ويحطن وجوههن بنسيج أبيض أو أزرق غامق أحيانا. من الصعب شرح ذلك كله بالكلام. على كل سترى يا سيدي بعض الرسوم عند عودتي.
    رأيت مواشي القوم بين الخيام ؛ الماعز بكثرة ، الأغنام والأبقار وهي قليلة وقد لا حظت بعض الخيام المعزولة وأعتقد أنها مخصصة للمواشي كما رأيت عددا من الجياد لأكابر القوم. وهناك عدد من الكلاب بعضها للحراسة وأخرى للقنص.
    وهم يستعملون المجارش لصنع دقيق الحنطة ، وخبزهم عادة يصنع من عجينة تحت الرماد (كذا!) ولهم مواد غذائية أخرى كاللحوم والبقول والأرز والأثمار الجافة ومنها التمور وغيرها. ويتوفر عندهم الحليب وهم يفضلون استعماله بعد تخميره أو تحميضه كعادة الأتراك. لكني لم أستسغه حتى الآن ، ومنهم من يمتلكون البعران فيشربون حليب النوق ويلتذون به.
    ويعيشون على شكل مجموعات عشائرية تربطهم صلة الرحم والصداقة ، وينتخبون من بينهم رئيسا يعتبرونه شيخ العشيرة ، ولا تشير التسمية ـ كما تعرف سيادتكم ـ إلى تقدم الرجل في السن ، بل إلى علو مقامه فقد يكون شيخ العشيرة شابّا. وهم يقدمون الولاء والطاعة للشيخ الذي يدير شؤون العشيرة بفطنته ولا يدينون بالولاء لغيره.
    وهم يستمتعون بحرية رائعة رغم حياتهم الفقيرة وفيهم رجال مسالمون يهتمون بمواشيهم ويدفعون للسلطة ما تفرضه عليهم ويعيشون في مناطقهم وفي

    البادية بسلام ومنهم من لا يركن إلى الراحة والاستقرار فيتركون النساء في الخيام للاعتناء بالمواشي ويتيهون في الأرض ويفضلون الغزو والاعتماد على السيف على مثال عيسو (1) ولعل القوم من نسله ؛ إن هؤلاء بغزواتهم واعتدائهم يحطون من سمعة العرب بين جيرانهم.
    بعد أن استمتعت بمنظر الخيام وحياة ساكنيها رافقني أحدهم إلى قرية قريبة من النهر اسمها «كرد عثمان» فبقيت هناك انتظر القارب إذ قررت المبيت فيها ، فالمكان جميل وقد حصلنا على ما نحتاج إليه من غذاء من أهل القرية.
    وجدت الأراضي المحيطة بهذه القرية مزروعة بالقطن ومختلف أنواع الخضروات ومنها الفجل فالأراضي بحد ذاتها جيدة وخصبة بشرط أن تفلح جيدا وتسقى دائما أما وجود الأراضي القاحلة فسبب ذلك إهمال السكان وكسلهم وتقاعسهم عن العمل فهم لا يكلفون أنفسهم بسحب الماء من النهر لإرواء الأرض بعكس أجدادهم الذين خدموا الأرض.
    تأخر قاربنا كثيرا للوصول إلى الموقع الذي كنت فيه بسبب تعرجات النهر الكثيرة حتى ساورني شك باختفائه. فأرسلت رجلا للبحث عنه وإرشاد أصحابي إلى مكاننا ، ومرت ساعة من الليل وتبعتها أخرى والقارب لم يظهر ، فقررت المضي للبحث عنه بنفسي ثم فكرت بإطلاق بعض العيارات النارية ، مضى ربع ساعة على إطلاقي النار حتى جاءني الرد من القارب بثلاث طلقات ، فلما تأكدت من قربه مضيت أمامه فنزل أصحابه إلى البر وقضينا الليلة هناك.
    في اليوم التالي وهو السادس من كانون الأول (1616) عدنا إلى بيتنا في بغداد. وكانت هذه آخر سفرة أقوم بها إلى الآن وقد سردت لك يا سيدي جميع أحداثها بدقة.
    __________________
    (1) يشير إلى عيسو بن إسحاق الذي كان صيادا ماهرا ورجلا يحب البرية (التكوين 25 : 27) أما الحديث عن السيف فيشير إلى قول الكتاب : «بسيفك تعيش ....» (التكوين 27 : 24).

    مغامرة عاطفية في بغداد
    بقي علي الآن أن أحدثك في موضوع آخر هو مغامرتي العاطفية البغدادية ، لأنها حدثت في منطقة بغداد ، وهي تختلف عن مغامراتي الرومانية أو غيرها. وأنا أسرد لسيادتك أمورا جدية ، فرسائلنا لا تقبل المزاح والأمور التافهة ..
    سأقص عليك خبرا عن السيدة التي أصبحت الآن زوجتي ، وهي التي نوهت بها في سفراتي القصيرة الأخيرة.
    إنها من بلاد آشور ، دمها دم الكلدان القدماء ، سليلة أمة عريقة ، عمرها ثمانية عشر ربيعا أو نحو ذلك تتحلى بصفات حميدة غير عادية وبمواهب طبيعية عالية ، جمالها معقول ولا أريد المبالغة ، إذ ليس من صالح الأزواج الإكثار من وصف زوجاتهم ، ولو لا ذلك لأطنبت في وصفها. فجمالها يقارن بجمال هذه البلاد. ولونها حار فهي سمراء أكثر من بيضاء ، شعرها أسود ، أهدابها مقوسة بلطف ، أجفانها طويلة كأهل الشرق عامة ومكحلة بالإثمد كما ذكر في كتب العهد القديم (1) وفي المصادر القديمة ومنها ما ذكره «زينوفون».
    ظلال العينين توحي بالوقار ، عيناها المكحلتان تشعان نورا وبهجة وتتحركان بحشمة وجلال ، جسمها متكامل فهي معتدلة القوام سريعة الخطوات نبيلة في مشيتها حلوة في حديثها ، جميلة في ضحكتها. أسنانها صغيرة بيضاء. إنها بكلمة واحدة تتصف بكل ما كنت أتمناه في المرأة. اسمها «معاني» ترعرعت منذ نعومة أظفارها في بغداد ، لكنها ولدت في «ماردين» (2) وهي مدينة تقع في أعالي ما بين النهرين ، واسم عائلتها «جويريدة» (3) وكان أبناء عائلتها من أكابر
    __________________
    (1) أرميا 4 : 30 ؛ حزقيال 23 : 40.
    (2) قلعة معروفة واقعة على قمة جبل ذكرها الحموي (معجم البلدان 5 : 39) لا تزال قائمة كانت مركزا مهما للنصارى حتى الحرب العالمية الأولى فأفل نجمهم وهاجر معظمهم إلى بلاد الله الواسعة.
    (3) انظر الملحق رقم 5.

    القوم في تلك المدينة حتى أغار الأكراد عليها فسرقوا أموالهم فهرب الكثيرون من أمامهم.
    إما من حيث الانتماء الديني فوالدها من السريان المشارقة ، وهم النساطرة لأن أجدادهم اتبعوا «نسطور» (1) ويطلق هذا الاسم اليوم على الشعب برمته أكثر مما يطلق على الفرقة الدينية ، وهؤلاء لا يفقهون اليوم شيئا عن أصولهم التاريخية فهم نساطرة بالاسم فقط ، وكل ما هناك ان بعض المتفقهين أو رجال الدين يعرفون شيئا بسيطا من أصل الطائفة فأكبر ضلال بينهم هو الجهل.
    وقد فهمت أن أسرة زوجتي كانت واحدة من بين الأسر التي اجتمعت في عهد أجدادها فتبعت أحد البطاركة الكاثوليك (2) الذين أرسلتهم روما إلى الشرق لرعاية طائفتهم وأعتقد أن أول هؤلاء البطاركة كان على عهد البابا «يوليوس الثالث» (3) وقد رأيت فيهم ميولا إلى عاداتنا مما شجعني على الزواج وأبعد عن فكري كل تذبذب وتردد ، بل زاد من أملي بأن يكون هذا الزواج واسطة للخير.
    تنتمي أم معاني إلى الطائفة الأرمنية. وأصلها من «آمد» الواقعة في شمال بين النهرين وهي حاضرة المدن في تلك البقعة لكن حماتي لا تتكلم الأرمنية ولا تفهم منها شيئا على الإطلاق فاللغة العربية هي السائدة في تلك المناطق ، فهي تحسن العربية وتتبع زوجها في الممارسات الدينية والاحتفالات بالأعياد والصيام. فالعادة الجارية في هذه البلاد أن المرأة تتبع رب الأسرة في هذه الممارسات.
    __________________
    (1) بطريرك القسطنطينية (428 ـ 430) له اجتهاد خاص في علم اللاهوت المسيحي ، وله أتباعه. لا يتفق والمذهب الكاثوليكي الذي ينتمي إليه السائح.
    (2) ينوه بالبطريرك مار شمعون يوحنان سولاقا (ت 1555) وهو عراقي ذهب إلى روما لأمور دينية ، ولم ترسله روما كما يدعي السائح. انظر : رافائيل ربان : شهيد الاتحاد والبطريرك شمعون يوحنان سولاقا الكلداني (الموصل ـ 1955) وانظر كذلك :
    G. Beltrami, La chiesa caldea nel secolo dell'unione, Roma, 3391
    (3) البابا يوليوس الثالث (1550 ـ 1555).

    سيدتي الجميلة معاني تعتبر العربية لغتها الطبيعية ، لكنها تتكلم التركية جيدا ، ولذا فهي تحدثني بهذه اللغة لأني لم أتقن العربية بعد ، لكنها تنطق التركية بلهجة بغداد بما فيها من ألفاظ وتعابير تختلف عن لهجة اسطنبول ..
    أما في الأمور الدينية فمعلومات زوجتي تقتصر على ما تلقنته في أسرتها ، فقد منحوها أكبر قسط مما عرفوه في ديارهم السابقة حيث كانت المسيحية أكثر ازدهارا من بغداد. لكن ثقافتها الدينية من حيث النتيجة أقل كثيرا مما هي في ديارنا إذ تقتصر معارفها الدينية على بعض الصلوات الضرورية والروايات الدينية وشيء من التقاليد الموروثة لا أكثر.
    كان عمرها أربع سنوات عندما قدمت أسرتها إلى بغداد وفي هذه المدينة نمت وترعرعت وكان عدد النصارى في بغداد قليلا فقد مرت فترة من الزمن لم يكن فيها نصارى أبدا (1) ولكن في الفترة الأخيرة وفد إليها عدد منهم من مختلف الجهات ينتمون إلى مختلف الطوائف ، التجأوا إليها للتخلص من الحروب المتكررة والفتن والاضطرابات التي كانت تنشب في ديارهم ، فجاؤوا إلى هنا طلبا للاستقرار والأمان. ونظرا لقلة عددهم وحداثة تجمعهم في هذه المدينة ، لم يسمح لهم حتى الآن بممارسة شعائرهم (علنيّا) لذا فهم يمارسونها بالخفاء نوعا ما ولا يتظاهرون بها. فحالتهم حرجة ، وجهلهم بالأمور الدينية مطبق. وإذ ليس لهم كنائس فلا وجود للأسرار المقدسة والخدم الدينية عندهم ، ولا وجود للقسس. وإذا حضر هؤلاء فهم غير صالحين للخدمة بسبب جهلهم العميق ، إذ لا استعداد لهم لتثقيف الشعب. وهم بخلاء جدا لا يقدمون
    __________________
    (1) إنه ينوه بما حدث للنصارى إثر الاحتلال الفارسي لبغداد على عهد الشاه إسماعيل الصفوي سنة 914 ه‍ (1508 م) فقد ذكر ياسين بن خير الله الخطيب العمري الموصلي قال : «ثم تقدم شاه إسماعيل إلى بغداد وملكها ، وقتل صاحبها وأكثر أهلها مسلمون سنيّون ، ولم يسلم من فتكه إلا اليهود ، فإن أغلبهم نجوا. أما النصارى فإنه لم يبق منهم باق بل ولا أثر» الدر المكنون في مآثر الماضية من القرون. انظر مقالنا : كنائس بغداد عبر التاريخ ـ مجلة بين النهرين عدد 32 / 1980 ، ص 418 وكتابنا : كنائس بغداد ودياراتها ، ص 138 ـ 139.

    خدمة إلا لقاء مبلغ من المال. لا يعمدون الأطفال إلا بالمال ، ولذا تجد بين الشعب صبيانا لم ينالوا العماد بعد إما بسبب غياب القسس من طقسهم أو لعدم تمكن ذويهم من دفع المال المطلوب. وقد روت لي السيدة معاني أنها حضرت في أحد الأيام عماد أم مع ولدها الذي كان قد شب عن الطوق ويرجع سبب هذا التأخير إلى عدم حضور قس من طقسها إلى المدينة منذ سنوات ولم تشأ قبول العماد من قس ينتمي إلى طقس مختلف ، فهي لا تريد الاختلاط بغير أبناء كنيستها.
    ولا يعرف عن القسس الموجودين في بغداد حاليا إن كانوا كاثوليك أم هراطقة فهم جهلاء جدا ، وقد يخدم أحدهم طقسه وطقس طائفة أخرى وهو جاهل بأمور الطقسين! والأتعس في كل ذلك أن وجود الكهنة في المدينة متقطع ، فهم يمرون بها من فترة إلى أخرى كما يأمرهم البطريرك ... وقد تمر مدة طويلة دون مجيئهم. وهم يحاولون كسب أكبر مقدار من المال ، ولا أدري إن كانوا يفعلون ذلك لإشباع جشع أم لفقر مدقع أم لدفع الإتاوات الكثيرة.
    إن المتقدمين في السن القادمين من ديار بكر وماردين يعرفون بعض الحقائق الدينية لأنهم أبصروا النور في محيط تتوفر فيه الكنائس والكهنة. أما الجيل الجديد الذي ولد وشب في بغداد فهو جاهل بالأمور الدينية ولا يكاد يعرف إلا الصلاة الربية باللغة الكلدانية التي تعلمها من الوالدين. أما الشخص الذي يعرف بعض التراتيل الدينية العربية ـ وهي اللغة السائدة ـ فهو من الفاهمين (1)! ..
    إن غياب القسس من جهة ، والحالة الاجتماعية الأقل من الحسنة جعلت الشعب يعيش في جهل عميق بأموره الدينية .. فلا عجب إذا في قولي إن سيدتي معاني تجهل حقائق الدين .. ولعل حالتها هذه أفضل ـ بالنسبة لي ـ وقد أرادتها الحكمة الإلهية ليتم تثقيفها الديني على يدي ، فأعهد إلى رهبان
    __________________
    (1) نقلت هذه الفقرة من رسالة كتبها السائح من أصفهان (الجزء الأول : ص 857) لعلاقتها بنصارى بغداد.

    بلادنا بمهمة تثقيفها ، وتتم على يدهم مراسيم قراني الاحتفالي بها .. وإني أرى فيها ميلا نحو طقسنا اللاتيني ، لا أعرف أهو من طبيعتها أم رغبة بإرضائي وستكون في آخر الأمر بعون الله تعالى سيدة رومانية بكل ما في الكلمة من معنى.
    كما أنها تتقبل بطيبة خاطر عاداتنا الاجتماعية خاصة عندما تراها أحسن مما تعودت عليه ، فهي بالرغم من تربيتها الحسنة تفتقر إلى الرقة في بعض تصرفاتها ، ففي أوامرها زعيق ، وفي علاقاتها ترفع ، وفي كلامها تهديد! ولعل هذه الصفات تدل على شخصية ناضجة في ديارها ، لكنها في محيطنا تشير إلى كبرياء وخشونة.
    وصف لأزياء بغداد
    سوف أجعلها تلبس حسب رغبتي ، ففي الأيام القادمة ستغير زيها وتلبس زي كل بلد نمرّ به. لكنها حتى الآن لا تزال ترتدي زي النصارى المعروف في بلادها وهو لا يختلف عن زي الأتراك إلا بغطاء الرأس فهو أقصر منه.
    وتلف وجهها بقناع أسود اللون عادة يبرز جمالها وكالبدويات تلتفع بقماش من الحرير ناعم كالتفتة فيه خطوط ومربعات مختلفة الألوان والأشكال لكنها لطيفة تنسدل أمام الوجه وعلى الصدر فتشبه أقنعة الراهبات في ديارنا أو كأرامل إسبانيا. ويتدلى من وراء الجسم طولا وعرضا وله نهاية حادة تلمس الأرض أنه في الحقيقة مظهر الجلال والجمال حسب رأيي.
    لا تزال قمصان النساء في بغداد على الطراز القديم وذلك لبعد هذه المدينة عن البلاد حيث تتم التصاميم الجديدة ومنها تنتشر. لذا فهي تختلف عن قمصان النساء التركيات إذ إن قمصانهن بيض من القطن أو الكتان ويلبسن أيضا ـ في المناسبات خاصة ـ القمصان الحريرية الملونة بأكمام مفرطة في السعة والطول.
    إن الألوان الأكثر انتشارا للقمصان وللألبسة الأخرى هي : القرمزي ، الأصفر ، والأخضر وبعض المشتقات الجميلة من القرمزي والأزرق الغامق.

    وتقرر المرأة ألوان ألبستها حسب ذوقها فإن كان قميصها قرمزي اللون فالثوب أخضر والكساء أصفر والسراويل من لون آخر وهكذا.
    أما الحلي الذهبية فهي موزعة في الجسم بين الرأس والعنق والمعصمين والقدمين والرجلين أيضا فقد تجد الخواتم في أصابع الرجلين أيضا! وتختلف حلي النصرانيات بعض الشيء عن حلي المسلمات. وأشكالها عديدة ومتنوعة لكنها ليست معتبرة حقا ففي بغداد لا توجد أحجار كريمة ثمينة أو في الأقل لا تستعمل فما تتحلى به النساء من أحجار هي من الأنواع الرخيصة كالفيروز والياقوت والزمرد والبلخش والعقيق البجادي واللؤلؤ وغيرها (1) وكانت زوجتي تتزين بكل هذه الأحجار على عادة أهل بلدها ، إضافة إلى أنواع من الخرص الغليظة المطعمة بالأحجار أيضا كانت تعلقها في أحد منخريها (كما يعلق في منخر الجاموس) (2) وهذه عادة قديمة جدا في الشرق كانت منتشرة على عهد سليمان النبي (3) ؛ لكن هذه العادة لم ترق لي فحاولت القضاء عليها فطاوعتني عروستي ، لكن زوجة أخيها وأخواتها لم يلبين رغبتي فالعادة متأصلة في تقاليدهن بالرغم من سماجتها ولذا فهن معجبات بها.
    وختاما فإن الأزر التي تستتر بها النساء لدى خروجهن من البيت تختلف عن كل ما رأيت إلى الآن فهي ليست ثيابا من الجوخ كما في القسطنطينية ولا هي القطع البيضاء كما هي في سوريا ومصر فعوام النساء يستعملن قطعا من التيل فيها مربعات بيض وزرق كأمثالهن من نفس الطبقة في القاهرة. أما نساء الطبقة المتمدنة فأغطيتهن حريرية من نفس اللون وهي غاية في الرقة والنعومة ومفيدة نظرا للحرارة اللاهبة في بلادهن. وأخيرا فإن نساء الطبقة العليا ـ من أمثال زوجتي ـ لهن نفس الأغطية التي هي أحادية اللون وقد تكون بنفسجية أو
    __________________
    (1) عجيب قول صاحبنا فإن كانت هذه الأحجار رخيصة أو قليلة القيمة حسب تعبيره فما هي الأحجار الغالية يا ترى؟ انظر الملحق (6) الخاص بالأحجار الكريمة.
    (2) التعليق والتهكم من المؤلف نفسه.
    (3) سفر الأمثال 11 : 22 وهذا نص الآية : «المرأة الجميلة العارية من الفهم خرص من ذهب في أنف خنزيرة».

    زرقاء غامقة مع بعض الشرائط حول الحواشي التي تكون من لون مغاير وهذا اللون داكن أيضا وهي تشبه كل الشبه الإزار الذي ترسم به سيدتنا مريم العذراء.
    تكلمت طويلا في وصف أزياء هذه البلاد في مجرى روايتي عن ألبسة عروستي ولا بد الآن من أن أنوه بمقدمات هذا الزواج.
    قبل أن أصل إلى بغداد بمدة طويلة كانت أخبار «معاني» قد بلغتني ؛ فعندما غادرنا حلب التقيت برجل في القافلة (1) كان يجالسني في خيمتي أثناء فترات الاستراحة ، فكنا نتجاذب أطراف الحديث في أمور شتى وكان يروي لي أخبارا كثيرة. ثم وصف لي شابة رآها في بغداد وتعرف على أهلها لأنه كان خبيرا بأمور بغداد ، ومطلعا على أحوال هذه العائلة. وكم من مرة مدحها أمامي ووصف جمالها الجسدي وخصالها الروحية ، فقد كان الرجل معجبا بها للغاية وإلى حد الجنون. فكنت أنصت إلى حديثه لا لشيء إلا لارضائه ولتمضية الوقت. ثم تغير وقع كلامه في نفسي فأخذ يتسرب إلى أعماقي ويحتل تفكيري بعد أن أعاد وكرر أكثر من مرة حديثه لأنه كان رجل ثقة.
    وهكذا ولد في داخلي شوق كبير للتعرف على هذه الفتاة التي استحقت كل هذا المديح وأخذت أفكر بأنه لو لم يكن ثمة غاية لأسفاري ، فهذه الفتاة كافية لأرحل إلى بغداد حالا ، وقررت المكوث في هذه المدينة بضعة أيام لتحقيق هذا الغرض وهكذا تحول الشوق بعد قليل إلى حب.
    قبل أن أصل إلى الفرات بمراحل كانت مشاعري اخذة بالفوران وصبري بالنفاد. كنت أعد الساعات التي أقطع بها أرض بين النهرين لأصل إلى دجلة وأذهب حالا فأمتع ناظري بتلك التي ملكت حواسي. وكانت العناية الإلهية قد دبرت الأمور ، فإن والد معاني بلغه خبر قدومي من رفيق سفري الذي كتب إليه شارحا مكانتي الاجتماعية فخرج للقائي على بعد فرسخ من المدينة في اليوم السابق لوصولي. وقدم لي داره لأنزل ضيفا عليها مع خدمات مفيدة
    __________________
    (1) هو السندرو السندري صديق الرحالة الذي حثه على ملاقاة معاني ، فاشتاق لرؤيتها.

    متنوعة يشكر عليها. لكني لم أرغب بأن يكون له فضل إنزالي في بيته فطلبت منه أن يعد لي بيتا خاصا مع الأثاث الضروري. فسبقني إلى المدينة وأعد لي منزلا جهزه بأشياء كثيرة نادرة الوجود والاستعمال في المدينة ، كما ينشدها الأوربي ، كالمنضدة العالية والكراسي اللازمة للطعام والجلوس والسرير وما إلى ذلك. واقتدت به زوجته فاهتمت بجمع ملابسي وغسلها وقصرها وإعادتها إليّ نظيفة مطوية باعتناء ومعطرة بالبخور وماء الورد. وقد علمت فيما بعد ان «معاني» هي التي قامت بهذا العمل بيديها اللطيفتين!
    إن سقف الغرفة التي نزلت فيها ليس في الواقع من عمل فنان ، فلا وجود للوحات مثلا ، لكنه عمل متقن وثمين فهو مليء بنقوش ذهبية وألوان أخرى متداخلة ومتجاورة بعضها داخلة وأخرى بارزة انها في الحقيقة جميلة.
    وقد طلبت من الرسام ان يهتم بأخذ تخطيط مطابق للغرفة ونقوشها لأنها جديرة بأن نقتبسها في إيطاليا (1).
    وبينما كنت جالسا في البيت لارتاح قليلا من وعثاء السفر ، سارحا بأفكاري ، أرسلت بعض رجالي إلى بيت سيدتي للزيارة وتقديم بعض الهدايا الغريبة وإلقاء نظرة عليها للتأكد من صحة السجايا الحميدة التي وصفت بها أمامي من قبل ، فأكدوا لي حقيقة ذلك كله. وبعد الزيارات الأولى للمجاملة تكررت الزيارات والدعوات إلى تناول الطعام. ولما كان هؤلاء النصارى يتمتعون بروح الانفتاح والطيبة ، ولكوني من مذهبهم فإنهم لم يمانعوا في رؤية معاني. وحدث في إحدى الزيارات ان قدمت لي بيدها سفرجلة أصبحت بذرة لأثمار وافرة في قلبي كانت بعضها مرة المذاق وأخرى حلوة. وبقدر تكرر الزيارات نما في داخلي شعوري نحوها وشوقي لامتلاكها ونفد صبري لأخذها.
    لقد كنت آنذاك في حالة نفسية جيدة فقد التأم بفضل الله الجرح الذي كان في نفسي من جراء مغامرتي القديمة التعيسة في إيطاليا ، خاصة بعد
    __________________
    (1) نقلت هذه الفقرة من رسالة كتبها من أصفهان (المجلد 1 : 459) لعلاقتها ببغداد.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:08 pm

    زيارتي لدير القديسة كاترينة في جبل سيناء وحجي إلى قبر المسيح المكرم في القدس الشريف. فانقلعت من قلبي الجذور القديمة وزالت من مخيلتي ذكريات تلك الأمور. وكان تأثير تلك الأحداث في أول الأمر أني عزمت ألا أتزوج بعد ، لأني لن أجد امرأة تعجبني. ولكن بعد زيارتي لتلك الأماكن المقدسة ، تغيرت أفكاري وشعرت بهدوء داخلي ، فقررت الزواج لأن أسرتي كانت تنتظر مني نسلا يبقي ذكراها ويخلد اسمها. وعلى أثر ذلك كتبت من حلب رسالة إلى أهلي في روما طالبا منهم أن يسعوا في التفتيش عن شابة تليق بي لأتزوجها عند عودتي إلى إيطاليا. والآن كم أتمنى لو أني لم أكتب تلك الرسائل فقد ساعدني الحظ فعثرت على ضالتي هنا في بغداد ، فغيرت مجرى حياتي واستولت على أفكاري بحيث إني قررت أن أعمل كل ما بوسعي وبكل الوسائل لأخذها حتى اعتقدت أني لو بارحت بغداد من دونها فسيستولي عليّ اليأس والقنوط.
    التجأت أولا إلى أمها لأني لاحظت لديها ميلا نحوي وعطفا كبيرا عليّ. ففي أحد الأيام ركعت أمامها وأخذت يدها فقبلتها وأقسمت أني لن أنهض من مكاني ان لم تعدني بإعطائي ابنتها .. شدهت المرأة من عملي إذ لم تتوقع أبدا أن أفعل شيئا غريبا كهذا ، فضحكت وكأنها تشير إلى تلبية رغبتي ، لكنها في نفس الوقت كانت مترددة لا تعلم بماذا تجيب أما أنا فاعتبرت جوابها على ما فيه من تردد وغموض قبولا فشكرتها واعتبرتها حماتي في الحال فقمت وعانقتها وقبلت جبينها لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد وكان لا بد من أخذ ورد فبالرغم من اطلاعهم على حالتي المالية ومكانتي الاجتماعية من الأخبار التي وردتهم من حلب مصحوبة بوثائق من قناصل الدول الأوروبية ، إضافة إلى شهادات الكثيرين من الذين اتصلوا بي في بغداد نفسها ، وكانت لهم مكانتهم المرموقة ، وشهادة الرجل الذي كلمني عن معاني إذ كانت أسرتها على اتصال به وتثق بكلامه بالرغم من كونه إيطاليا ...
    رغم هذا كله تردد الأب كثيرا نظرا لتقدمه في السن وحبه الأبوي لمعاني وهي كبرى بناته الخمس ، وتخوف من إرسالها إلى بلاد بعيدة فقد عرف إني


    لن أمكث في بغداد فترة طويلة ، لقد تحير كثيرا وخشي ان يخطىء في قراره فقبلني ورفضني أكثر من مرة ، لكنه حيال إصراري وإلحاحي وتدخل الكثيرين الذين كانوا وسطاء خير من جانبي ، وحديثي السابق اللطيف مع الأم كان له أثره خاصة وأن الكلمة الأخيرة في زواج البنات تعود إلى الأم في هذه البلاد

    بينما قرار البنين يعود إلى الأب. ولقد أسكتت أفواه المعارضين للزواج بقليل من الهدايا فتمت الموافقة أخيرا.
    لم أناقشهم في مسألة المنيني (1) ، ففي بلدان آسيا كلها لا تدفعها النساء إلى أزواجهن بل يحملن من بيوت أهلهن أفرشة وأثاثا وهي الجهاز أو الحمالة وتختلف حسب حالة الأسر ولا تقتصر على الألبسة كما هي عادتنا بل تتضمن كذلك الحلي الذهبية والفضية إضافة إلى الأثاث والحيوانات والعبيد والاماء كما يقدم العريس أثاثا مساويا ويتم الاتفاق في عقد الزواج على منحة الزواج (2) التي لا تدفع إلا في حالتي الوفاة والطلاق (وهذه بالنسبة إلى المسلمين طبعا) فوافقت على كل شيء لأني أردت أن أفعل كل شيء حسب عادة أهل البلاد ، إذ ليس من المعقول أن تغير العادات وفق مزاجي. وكان المبلغ الذي تعهدت بدفعه في عقد قراننا أعلى ما دفع في هذه المدينة بالرغم من كونه قليلا بالنسبة إلى بلادنا ، وهو مائة أونس من الذهب وخمسون من الفضة (3).
    كانت حمالة عروستي رائعة جدا! احتوت على أقمشة حريرية مطرزة بنقوش على الطريقة التركية بخيوط الذهب واللالىء ومختلف الأحجار الكريمة على عادة الشرقيين ، فلو كانت في إيطاليا لنالت إعجابا كبيرا واعتبارا عاليا. لقد أردت أن أظهر كرمي الروماني إلى هؤلاء الناس الذين لا يعرفونني جيدا فأعطيت للعروس ما تحتاجه لإعداد هذه الأشياء وقبلت كل ما حملته سيدتي وأظهرت إعجابي به ، ثم أرسلت معظم الأشياء كهدية للأخت الثانية فهي على وشك الزواج أيضا. لقد أرسلت أشياء كثيرة حتى الأحذية والألبسة لأني أعددت ما فيه الكفاية. كان ذلك كرما لا عهد للقوم بمثله!.
    __________________
    (1) المنيني ما تقدمه الفتاة لعريسها ، وهي الدوطة ، انظر : الأب انستاس الكرملي :
    الدوطة أو المنيني عند العرب وأهل الشرق ، المشرق 8 (1905) ص 840 ـ 843).
    (2) اعتقد أنه يشير إلى المهر المعروف حتى اليوم.
    (3) الأونس وحدة وزن تساوي 35 ، 28 غم أو 1 ، 31 غم (المورد لمنير بعلبكي).

    لقد أطلت الكلام يا سيدي في سرد أموري الخاصة ولم تكن هذه نيتي في البداية لكني أعتقد ان الحديث عن عادات البلاد وتقاليدها مفيد ومقبول.
    التوابل والعقاقير (1)
    لنعد الآن إلى ما طلبته مني من عقاقير ومعادن التي ذكرتها في القائمة وطلبت بعض الإيضاحات عنها.
    كان أول شيء في القائمة «القرفة» التي ذكرها الأقدمون. لقد سألت عنها تاجرا بندقيا رأيته هنا فقال انها ليست الدارصيني نفسها كما كنت قد أخبرتك وأنا في حلب نقلا عن الطبيب الفلمنكي هنا يلفظها البعض من الفرس والترك «دار جيني» ، أما العرب قيقولون دارصيني ، والنسبة في اللفظتين إلى الصين وهناك نوع آخر مصدره جزيرة سيلان فيسمى سيلاني.
    يقول صاحبي البندقي إن القرفة الأصلية وكذلك القاقلة والقسط نادرة الوجود حاليا لأن قلة من الناس يعرفون استعمالها ، وهي حسب اعتقادي قليلة الطلب في هذا البلد ، ولأن التجار يتعاطون عادة بالمواد التي تستهلك بسرعة فهم يفكرون بالربح السريع.
    أما الكاديوم (2) والمعادن الأخرى التي طلبتها من قبرص سأحاول الحصول عليها ، وأضيف إلى ما جاء في جدولك شيئا آخر لم يخطر على ذهنك وهو حجر الفتيلة (3) الذي كان الأقدمون يصنعون منه نسيجا لا يحترق ويلفون به جثث الأموات عند حرقها. وقد بلغني أنه يكثر في قبرص أيضا فطلبت منه كمية وأنا متأكد من الحصول عليه.
    أعتذر عن إطالة الحديث ، لكن غياب الأصدقاء في هذه الأصقاع ، جعلني أسترسل في الكلام معك ، وأرجو من سيادتك أن تجمع هذه التقارير
    __________________
    (1) انظر الملحق رقم (7).
    (2) عنصر فلزي أبيض يشبه القصدير.
    (3) من أنواع الاسبست الطبيعي. انظر الملحق (Cool.

    التي أرسلها إليك عن رحلتي وتعمل على تنظيمها ، ولا بأس أن تعيد النظر فيها ، وعند عودتي نضعها في صياغتها النهائية.
    أما القصائد التي نظمتها وأرسلت بعضها فلا ضرر من إضافتها إلى الكتاب ، ولكن لا بد ان تنوه في قصيدتك بالسفينة التي أبحرت بي إلى الشرق واسمها «الدلفين الكبير» فلها منزلة عظيمة في نفسي (1) فبها بدأت رحلتي الشرقية .. لقد أعددت صورة لها أضيفها إلى اللوحات التي سأحملها عند عودتي.
    وبالسنبة لرحلاتي فأنا في منتصفها الآن ، وستكون رحلتي القادمة إلى أصفهان في بلاد فارس ، فهي هدف رحلتي الشرقية ولي أمل كبير بأن أكملها بعون الله. ومن هناك انتقل إلى مادي وأرى قزوين وأزور البلاط حيثما يكون وأطلع على مختلف الأشياء الغريبة ثم أعود إلى بلادي إما عن طريق تركية أو أي طريق آخر. وقد انتهت الاستعدادات اللازمة للسفر إلى أصفهان ، فاشتريت خمسة عشر بغلا وأكثر لأنها ضرورية للذهاب إلى هناك ، ولأن الجمال غير مجدية في تلك الطرق. لكن ما يؤخرني إلى الآن هو خبر انتشر في هذه الأيام مفاده أن الحرب قد اشتعلت على الحدود. لأن حاكم تلك المنطقة بلغه عن والي بغداد أنه أبعد بعض القوات الغربية التي كان يستخدمها فطردها من الولاية ، فاستغل الفرصة وخرج في الحال على رأس خمسة آلاف أو ستة وتوغل في الأراضي التركية فعاث فيها فسادا. وعلى أثر ذلك يستعد والي بغداد ليخرج إليه بنفسه ولذلك ترك جانبا الحملة التي كان يعدها ضد الأعراب.
    مهما يكن من أمر فالطرق المؤدية إلى غايتي كثيرة ، وسأسلك الطريق الذي لا قتال فيه ولعل قعقعة السلاح تصمت بعض الوقت فأنتهز الفرصة للعبور.
    بلغ تحياتي إلى الأصدقاء كافة كتب في بغداد في اليوم العاشر من كانون الأول 1616.
    __________________
    (1) لبى صديقه هذا الطلب فنظم قصيدة في السفينة المذكورة أدخلها في مقدمة الرحلة (طبعة 1843).

    ملحق الرسالة
    لقد ركبت الشياطين رؤوس الفرس فعاثوا في الأرض فسادا ، وخربوا بلدة كبيرة على الحدود اسمها «مندلي» تبعد عن بغداد مسيرة ثلاثة أيام فاستولوا على قلعة صغيرة مبنية باللبن ، وفتكوا بأكثر الجنود الذين كانوا فيها ، وأسروا عددا من الناس ، وسرقوا أموالهم ، ولا يعرف بالتأكيد هل تركوا البلدة أم بقوا فيها وقووا مفارزها.
    وبعكس ما كان يشاع في بغداد من قبل فإن الوالي لم يخرج إلى الحرب بنفسه بل أرسل ابنه يقود الحملة ، وقوام جيشه نحو خمسة آلاف أو ستة جمعوا على وجه السرعة. كما أرسل مع الحملة ذلك الشيخ أو الأمير العربي الذي نوهت به أعلاه. وكان معه خمسمائة فارس من أتباعه (1) لذلك توقفت عن المسير قافلة التجار العرب التي كانت على أهبة السفر إلى بلاد فارس وستبقى هنا بضعة أشهر تنتظر عاقبة الأمور.
    أما أنا فقد عيل صبري وأريد العودة إلى إيطاليا في أسرع وقت. لذا قررت الذهاب إلى أصفهان واتفقت مع بعض المكارين الفرس العائدين إلى بلادهم من دون قافلة. سنكون نيّفا ومائة من المسلحين جيدا بيننا خمسة عشر من حملة البنادق. ولعلنا نسافر يوم غد نحو تلك الجهة. إني راحل ولا أهاب شيئا بالرغم من قلة عددنا ... وأملي وطيد أننا لن نصاب بأذى.
    ملاحظة أخيرة
    .. ستصلك صورتي التي رسمت في بغداد وأنا لابس الزيّ المحليّ. أرجو أن تعرضها على الأصدقاء كافة ، وعلى سيدات الأسرة لكي يضحكوا قليلا على لحيتي الغريبة التي سينتهي أمرها بعد أيام عندما أدخل الحدود الفارسية وستبقى الشوارب فقط على عادة تلك البلاد.
    كتب في بغداد 23 كانون الأول 1616.
    __________________
    (1) يشير إلى الشيخ ناصر بن مهنا الذي تكلم عنه سابقا.

    الرسالة الثامنة
    عشرة بغداد في 2 كانون الثاني 1617
    «كان من المقرر أن أغادر بغداد عشية عيد الميلاد ، كما كتبت إلى سيادتكم وذلك برفقة بعض التجار الفرس الموجودين هنا والذين قرروا العودة إلى ديارهم. فلما رأوني عازما على السفر بالرغم من نشوب الحرب ، اتفقنا على الرحيل سوية. وكان للمكارين الذين اتفقت معهم على السفر رسائل توصية من الوالي تسمح لهم بالمرور. كما كان لي بعض الأصدقاء المسلمين في الجبهة باستطاعتهم إرسال بعض الجنود برفقتنا بضعة أيام. لكن التجار الفرس تأخروا في إعداد لوازم السفر فاضطررت إلى الانتظار حتى اليوم فأنا على أتم الاستعداد للرحيل ، وقد نقلت خيامي وأمتعتي خارج المدينة وسأقضي هذه الليلة في البيت لأرحل عند أية إشارة تبدر من أولئك الرجال ، ولعل ذلك يتحقق اليوم أو غدا أو بعده. مهما يكن فلن يطول الانتظار.
    في هذه الأيام الأخيرة التي أمضيتها في بغداد ، وقعت في يدي بعض الأشياء الجديرة بالاهتمام ، ويطيب لي أن أشارك سيادتكم بالاطلاع عليها ، ولذلك حررت هذه الرسالة المختصرة وسأبعثها مع نماذج قليلة من الأشياء التي سأذكرها الآن.
    أول هذه الأشياء هي جذور عطرة ولقد كسرتها إلى قطع لأضعها داخل الظرف ويوجد منها أنواع متباينة في الغلظ. ويقول العارفون بالعقاقير والأفاوية أن الحجم الطبيعي يكون كالراوند (1) ومصدر هذه الجذور من بلاد التتر فإن أولئك القوم يأتون إلى هنا حاملين المسك ويسمى هنا السنبل الخطوي والنسبة إلى خطا (2) ليميز عن سنبل الرند ولهما رائحة مشابهة ، وقد بدأ استيراد هذا السنبل إلى بغداد منذ سنتين فقط ووصل منه إلى حلب ، وانتشر في البلاد العثمانية لكنه لم يصل بعد إلى إيطاليا حسب اطلاعي ويستعمله القوم
    __________________
    (1) انظر الملحق (7) أيضا.
    (2) أبو الفداء : تقويم البلدان ص 504 ـ 505.

    هنا بحرقه مع التبغ فإن له رائحة طيبة وطعما لذيذا. وقد استعمله أحد أصحابنا البندقيين إذ خلطه مع صابون الغسيل فحصل على نتيجة حسنة ويضعه بعضهم في صندوق الألبسة فيعبقها بشذاه. فعليك يا سيدي أن تبحث في مؤلفات الأقدمين لنرى مدى معرفتهم به.
    أرسل لك شيئا آخر هو «الفستق الناعم» الذي يختلف عن الفستق العادي حجما ولونا لكنه يشبهه بالطعم وينمو في ماردين والموصل ويسمى بالعربية «البطم» (1) ويلوث بالملح من أجل إدامته وقد أرسلت لك منه ولم أتحقق إن كانت مملحة أم لا ، تذوقها بعد كسرك القشرة طبعا!
    كما أرسل أيضا ثلاثة من أنواع الطين المنتشر في بغداد ويستعمل للاستحمام فيزيد من طراوة الجسم والشعر وإني متأكد من مفعوله الحسن وقد دعاه قدماء اللاتين «طين الشعر» ونوه به «بيلونيو» لكنه لم يصف إلا نوعا واحدا.
    أما النماذج التي أرسلها إليك فالأول وهو أجودها ومصدره البصرة ، ويميل لونه إلى الخضرة ويسمى «طين البصرة».
    الثاني أحمر اللون ويأتي من بلاد الكرد لذا يسمى «كيل كردستان». ان هذين النوعين يزيدان من طراوة الجلد ويجملان الشعر خاصة طين كردستان. وقد جربت شخصيا هذين النوعين فأعجبت بفعلهما حقا خاصة الطين الثاني فهو جيد للغاية ، ولا يذهب أي إنسان يحترم نفسه إلى الحمام إلا ومعه كمية من هذه الطينة. ويستعملها البعض بسحقها ونقعها بالماء كما هي على طبيعتها بينما يعتني آخرون بإعدادها وذلك بعجنها مع الورد أو العطور المختلفة أو المياه المعطرة ثم تكور إلى كتل صغيرة وتحفظ لوقت الاستعمال.
    النوع الثالث هو الطين المستخرج من ضفاف دجلة في بغداد نفسها ولذا يسمى «طين الشط» وهذه الطينة لا تختلف باللون عن غرين الأنهار الأخرى كالتيبر مثلا لكن مفعولها أحسن من غيرها وقد أخبرني الحلاق إن هذه الطينة
    __________________
    (1) يختلف البطم عن الفستق فهو أصغر حجما ويشبه الحبة الخضراء المنتشرة في شمال العراق ؛ أوراق شجره صغيرة وتحتوي على مادة التربانتين (المنجد).

    تقضي على الحشرات التي تعشعش في شعر الرأس واللحية.
    أرسل لك أخيرا لحاء شجرة لا يختلف بالشكل والحجم عن الدارصيني لكنه أثقل وزنا وأثخن مادة وتسمى هذه القشرة «ديرم» ويكثر أهل بغداد رجالا ونساء من استعمالها والنساء بصورة خاصة لتنظيف الأسنان. يكسرون قطعة منه بالظفر أو بالأسنان وينقعونها بالماء أو باللعاب حتى تلين فتتبين مزايا الديرم الرائعة في تنظيف الأسنان وتقوية اللثة.
    لم أعلم من أية شجرة يؤخذ هذا اللحاء ومن أين مصدره. قال لي بعضهم إنه لحاء شجرة الجوز .. فإن صدقوا في كلامهم فالحصول عليه هين حتى في بلادنا حيث تنمو أشجار الجوز. بينما قال آخرون إنه يأتي من الهند عن طريق البصرة. وادعوا أنه والمسواك شيء واحد. وبعد بحثي في المعاجم العربية رأيت ان المسواك هو كل خشب يستعمل لتنظيف الأسنان عادة. على كل لا أعلم ماهية الديرم بالضبط ، كل ما أعلم أنه جيد لتنظيف الأسنان (1).
    لقد طفت في الأسواق باحثا عن القاقلة فوجدت ان العرب المعاصرين يبيعون عادة عند هذا الطلب ما يسمونه «حماما» ولا أعرف كنه هذه العطاريات إذ لم أقرأ عنها في كتب الأقدمين فلا أعلم أهي القاقلة الحقيقية أم لا ، فعليك يا سيدي ان تتحرى عنها وها أنا أرسل لك نوعين من هذه العطاريات التي تباع هنا. النوع الأول منهما يطلق عليه العارفون بهذه الأشياء اسما خاصا هو «حماما ياقوتي» أي قاقلة ياقوت. وياقوت هي جزيرة في المحيط الشرقي حيث يكثر الياقوت أو بالأحرى الياقوت الزعفراني ، فهم يطلقون على كل هذه الأنواع اسم ياقوت. أنا شخصيا لا أعرف بالضبط طبيعة هذه العقاقير. إنها
    __________________
    (1) الديرم : القشر الأخضر لثمر الجوز تدلك به شفتا المرأة. انظر : عزيز جاسم الحجية بغداديات 2 : 15 ، بغداديات 1968 ؛ والمسواك أغصان صغيرة من أشجار طيبة الرائحة كالقم والسمر والسواك والأراك وغيرها ، وخير المساويك ما اتخذ من شجر الأراك لتطهير الفم وجلي الأسنان والمسواك من سنن المسلمين. انظر : البيهقي ، أحمد بن الحسين : السنن الصغرى ، بغداد 1988 ، ج 1 : 27 ـ 30 ؛ د. محمود الحاج قاسم محمد : دعوة للعودة إلى السواك ، بغداد 2000.

    بالنسبة إليّ أعشاب يابسة لا غير وهكذا صارت لأنها أتت من مكان بعيد ومضى زمان طويل على قطفها.
    أما النوع الثاني فله اسمه الخاص وهو «عين الحمام» لأن البذر الذي يباع في الأسواق يشبه عين الحمام ، ولا أعرف بالضبط ماهيته ، لكنه بالتأكيد بذور بعض الأزهار ، وهذا ما يتيسر في الأسواق بهذا الاسم.
    وقد بحثت باجتهاد لأحصل على القرفة وكان أملي الحصول عليها بسهولة استنادا إلى ما قال لي طبيب يهودي نقلا عن كتاب «لابن سينا» حيث ذكر ان ما نسميه القرفة يسميه العرب «قصبة الذريرة» أو «الذريرة» وأكد لي الطبيب المذكور إمكانية الحصول عليها في بغداد فطلبت منه كمية للاطلاع عليها ، فإذا بها لا تطابق ما كنت أعتقده لأن قصبة الذريرة الموجودة في بغداد هي عبارة عن عيدان تأتي من إحدى مدن الهند المسماة «ديو» وتستعمل كدواء لتخفيف حرارة الجسم ويطلقون عليها هناك اسم «كرياتا» وهذه العيدان مرّة الطعم جدا فهي ليست القرفة أبدا.
    لست خبيرا يا سيدي بالأفاوية والعقاقير ، لكن بعضهم أخبرني أن قصبة الذريرة التي نحن بصددها موجودة في إيطاليا.
    عرفت مؤخرا أن المعدن الذي لاحظته في البداية عند الفرات وقلت إنه أبيض اللون يسمى هنا «البورق» ويستعمله القوم لطلاء سقوف الدور وجدرانها بعد حرقه وسحقه جيدا ونظرا لثقل وزنه فلم أرسل لك منه نموذجا لكني سأحمل كمية قليلة منه كما سأحمل قليلا من الطلق الذي تستعمله النساء في هذه البلاد بعد سحقه جيدا فيرشن على الشعر أو على أقنعة الرأس ليزيد من إظهار بهاء اللون الأسود فهو يعطي انطباع اللون الفضي ولهذا السبب يطلقون عليه اسم «ماي الفضة» بالرغم من كونه مسحوقا وليس سائلا. إن استعماله قديم فقد ذكر «تريبيليو بوليون» (1) إن الامبراطور «كالينو» (2) كان يرش على
    __________________
    (1) مؤرخ لاتيني من أبناء المئة الثالثة بعد المسيح.
    (2) امبراطور روماني (260 ـ 268 م) أديب وفيلسوف ضعيف الشخصية مات مقتولا.

    شعره مسحوق الذهب كالنساء!
    وأخيرا لا بد من كلمة بخصوص «الهيل» فنحن لا نعرف إلا نوعا واحدا منه في إيطاليا بينما يميز أهل هذه البلاد نوعين منه يسمى الأول «القاقال الكبير» لكبر حجمه طبعا والثاني «القاقال الصغير» وهذا أكثر انتشارا وهو من النوع الذي يصل إلى إيطاليا بينما يعتبر النوع الأول نادر الوجود ولم أعثر عليه هنا ... وليتأكد سيدي بأنه سيحصل عليه.
    لقد عرضوا علي «القسط» لكنه من النوع المتوفر في البندقية وفي إيطاليا عامة حسب قول العطار البندقي ، فهو ليس من النوع النادر المطلوب. فليعذرني سيدي ، لأني أكتب إليه بسرعة ، فالمكارون والخدم يحيطون بي والناس في هرج ومرج ، ولا أعلم كيف استطعت كتابة هذه الأسطر!
    تحياتي الحارة!
    كتب في بغداد في 2 كانون الثاني 1617


    القسم الثاني : في بلاد فارس (*)
    الرسالة الأولى
    أصفهان 17 آذار 1617
    يطيب لي سرد بعض الأخبار عن رحلتي من بغداد إلى هنا ، وسأرسل كتابي هذا مع رجل مسافر إلى إيطاليا في الطريق البري ، وهكذا سيصل إليك كتابي بأسرع وقت ، لكن ضيق وقتي لن يسمح لي بإطالة الكلام فسأختصر!
    غادرت بغداد في اليوم الرابع من السنة الحالية 1617 (كانون الثاني).
    كان الفرس قد شنوا الحرب على الأتراك قبيل عيد الميلاد فجردوا حملة على منطقة بغداد ودمروا بلدة كبيرة اسمها «مندلي» ولكي يتجنب الوالي مزيدا من الخراب أعدّ جيشا قوامه سبعة آلاف أو ثمانية آلاف من رجاله أرسله لمحاربة الفرس. وعلى أثر ذلك توقفت القوافل بين البلدين ولم يتجرأ التجار من مسلمي بغداد على السفر. لكن بغداد كانت بحاجة إلى بضائع كثيرة تأتيها عبر بلاد الفرس مما أجبر الوالي على ترك الحدود مفتوحة رغم الأذى الذي لحق به وهو بعمله هذا يستفيد أولا من ضرائب المكوس ويستفيد ثانيا أنه يزود المدينة بما تحتاج إليه من بضائع لذا كان يشجع القوافل على السفر ويقدم لها التسهيلات ويعدها بالأمان.
    فلما كنت عازما على السفر وأعلم أن بلاد الفرس صديقة لبلدي من دون
    __________________
    (*) إن هذا القسم وإن كان خاصا بإيران فإننا ترجمنا ما رأيناه مكملا لأخبار الرحلة ومفيدا لتاريخ العراق.

    شك ، لذلك انتهزت الفرصة واتفقت مع مكاري فارسي كان آنذاك في بغداد وكان مشتاقا للعودة إلى أهله فاستحصل على إذن من الوالي للمرور بأمان له شخصيا ولمن معه من أفراد وأموال إضافة إلى قواص من قبل الباشا يرافقنا على حسابنا إلى الحدود ويقينا تحرشات الجنود.
    لقد نال المكاري ما طلب بسهولة ورأيت الفرصة سانحة لي للغاية فقررت السفر ضمن القافلة الصغيرة التي أعدها الرجل من أشخاص قليلين وحددنا موعد السفر يوم الرابع من كانون الثاني. لكن عشية ذلك اليوم ظهر أن بعض نصارى بغداد ممن يتبعون حساب التقويم القديم (1) الذي لم يخضع للإصلاح والتبديل الذي أجراه البابا غريغوريوس الثالث عشر (2) يحتفلون بالأعياد بعدنا بعشرة أيام ، وكان ذلك اليوم حسب تقويمهم 24 كانون الأول أي ليلة عيد الميلاد ، لذا اجتمع أقارب السيدة معاني وصديقاتها ليسهروا معها ويحتفلوا بالمناسبتين أي : بعيد الميلاد ومناسبة رحيلنا وطبقا لعاداتهم فإنهم أوقدوا نارا في فناء الدار (3) وشرع الصبيان يقفزون فوقها كما نفعل نحن في روما في عيد القديسين بطرس وبولس (4) وأشعلت بعض الفتيات شموعا عسلية من تلك النار وحملت كل صبية شمعتها فترة من الوقت إلى أن تعبن فوضعن الشموع على المنارة وبقيت مشتعلة طوال الوقت واهتمت كل فتاة بملاحظة شمعتها والاعتناء بها لأنهن يعتقدن أن الشمعة التي تنطفىء أثناء الحفلة تدل على سوء الطالع وما شاكل ذلك من الخرافات وإذا انطفأت شمعة الفتاة فلن تجد فتى أحلامها.
    __________________
    (1) انظر الملحق رقم (9).
    (2) غريغوريوس الثالث عشر بابا روما (1572 ـ 1585).
    (3) لا تزال عادة إيقاد النار معروفة عند المسيحيين ويطلق عليها نار الرعاة أو شعلة عيد الميلاد ؛ نرسيس صائغيان : نظرة في عادة إيقاد النار ليلة عيد الميلاد ، نشرة الأحد 11 (1932) 823.
    (4) يقع هذا العيد في 29 حزيران من كل سنة حسب الطقس الروماني.

    مغادرة بغداد
    كنت قد صرحت بأني ابن تاجر بندقي معروف في تلك الديار ، وفي نيتي السفر إلى هرمز لأن الذهاب إلى هناك غير ممنوع. لكن الوالي ساوره الشك في أمري ، فأنا إفرنجي وقد كثرت التساؤلات عن شخصي بواسطة بعض رجاله ، لذلك لم أنشر خبر سفري لأن توجست شرا وخفت أن يلقى القبض عليّ. فطلبت من المكارين أن يسبقوني إلى خارج المدينة ويجتمعوا عند أسوار القلعة. وبعد أن تقرر موعد الرحيل في الرابع من ذلك الشهر ، وتأكدت أن رجال الحكومة انتهوا من تفتيش الأمتعة ، أرسلت أمتعتي على وجبات وطلبت من ذويّ الخروج إلى المكان المحدد عند العصر ولكن من دروب مختلفة ، وعند غروب الشمس خرجت ماشيا وأنا بالزيّ المحليّ وكأني في طريقي إلى دجلة للنزهة.
    وجدت خارج باب المدينة في منطقة مستوية عددا من الرجال الترك المرموقين راكبين الجياد الأصيلة لعلهم من حاشية الوالي كان عددهم نحو ستين إلى سبعين رجلا وهم يتسابقون في ذلك الميدان الفسيح ويرمي الواحد للآخر بعض العصي. وهذا النوع من الألعاب معروف عندنا ويتطلب ذوقا وإحساسا فوقفت أراقبهم وشعرت بحسن الطالع لمشاهدة هذا السباق الجميل قبل رحيلي. وعند حلول الظلام عادوا إلى المدينة ولم يبق في المكان أحد فانحدرت إلى موضع خفيّ قريب من النهر حيث تجمع الأصدقاء وإلى أن خيم الظلام وأغلقت أبواب المدينة. لقد سخرنا حقا من الأتراك وتخلصنا من القواص المعين لمرافقتنا فلم نخبره بموعد السفر.
    وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل حزمنا أمتعتنا وشرعنا بالرحيل فسرنا بسرعة كبيرة طيلة الليل دون توقف فبغالنا قوية وجيادنا أصيلة وخوفنا كبير من أن ينكشف أمر رحيلنا فيرسل الوالي رجاله في أثرنا وعند الفجر وصلنا إلى ضفة نهر ديالى وقد سبق ذكره ولم نجد هناك إلا قاربا واحدا فاستغرق العبور مدة طويلة إلى منتصف النهار.
    يساورني الشك في أن نهر ديالى هو المعروف باسم نهر «جندا» في كتب الأقدمين وقد غرق فيه حصان أصيل مقدس (كذا!) يعود لقورش أثناء حملته

    على بابل ، فغضب الملك وقرر تقسيم النهر المذكور إلى ثلاثمائة رافدا بحيث يمكن العبور عليه مشيا ، فأضاع فصل الصيف بأكمله في هذه العملية حسب رواية «هيرودوتس».
    عبرنا نهر ديالى وتوقفنا في الضفة الثانية عند قرية «بهرز» عندئذ فقط شعرنا بالأمان ببعدنا عن بغداد فلا تنالنا يد الوالي ؛ كذلك أمضينا النهار بالاستراحة وأخلدنا للنوم إلى منتصف الليل فنهضنا وتابعنا رحلتنا بنفس النشاط السابق. كانت المنطقة التي نسير فيها تابعة لولاية بغداد ، وكانت الأرض هناك مستوية قاحلة تتخللها بعض المستنقعات لا تختلف عن البادية الجرداء إلا في الأماكن المأهولة وهي قليلة ، لقد كانت جافة لا من طبيعتها ولكن لأن يد الإنسان لم تمتد إليها لأني وجدت أعشابا كثيرة وأدغالا برية منتشرة.
    في اليوم السادس من كانون الثاني مررنا بقرية تسمى «تكية» ثم عبرنا قرية أخرى أكبر حجما لكنها بدائية تسمى «شهرابان» هناك رأينا جيش بغداد وقد انتشر في أرض واسعة خضراء ونصب خيامه عليها ولا أعرف سببا لعدم تقدمه ، أرحمة بالفرس أم خوفا منهم ... اني أرجح السبب الثاني لأن الأتراك اتخذوا موقف الدفاع.
    لم أقترب من مواضع الجيش لكن الرسام وبعض المسافرين اقتربوا منهم قليلا فلم يتعرض لهم الجنود بل تركونا نمر بسلام.
    ثم مررنا بقرية أخرى تسمى «هارونية» (1) نسبة إلى رجل اسمه هارون. توقفنا هناك وأمضينا الليل وقد باغتنا بعض اللصوص ، ساعدهم الظلام الحالك فجاؤوا زاحفين وسرقوا بعض الأمتعة من رجال القافلة كافة ولا أعلم ماذا سرقوا من خيمتي ، لكن الرسام شعر بوجودهم فخرج إليهم وأطلق عيارا ناريا على أحدهم رآه يتسلل إلى الخيمة فكان خير رادع للسارق وأصحابه إذ أطلقوا سيقانهم للريح.
    في اليوم السابع دفعنا ضريبة كانت تجمع في ذلك الموقع ورحلنا منذ
    __________________
    (1) معجم البلدان 4 : 946.

    الصباح الباكر فمررنا بجبال جرداء وأرض قاحلة وعند الغروب توقفنا عند قرية تسمى «قزلرباط» (1) وهي آخر موقع مأهول يخضع للسيطرة التركية ، يسوسها رجل اسمه أحمد أو محمد بك وهو رئيس قبيلة كردية وقد خلع السلطان عليه رئاسة المنطقة مدى الحياة مقابل حراسته للحدود هو ورجال قبيلته.
    الأكراد
    لا بد أن أسرد عليك شيئا من الأخبار عن الأكراد يا سيدي.
    تقع منطقة كردستان بين الدولتين : العثمانية والفارسية ان منطقة وجودهم ليست عريضة بقدر ما هي طويلة. فالمساحة عرضا من الغرب إلى الشرق تستغرق مسيرة عشرة أيام أو اثني عشر يوما تقريبا بينما هي من الشمال إلى الجنوب طويلة جدا إذ تبدأ تقريبا من أراضي بغداد والسوس حسبما أظن وتمتد إلى ما بعد الموصل (وهي نينوى) إلى بلاد مادي وأرمينيا وما بعدها إلى البحر وهي منطقة مكينة لأنها جبلية متفرعة من جبل طوروس ، فالسلسلة تبدأ من هناك لتقسم آسيا وتتقدم إلى الجنوب حتى تصل إلى الخليج. هذه الجبال الشم هي الفاصل الطبيعي بين الدولتين العثمانية والفارسية حاليا كما كانت قديما الفاصل الطبيعي بين الدولة الرومانية والفرثية.
    ماذا كان يطلق على كردستان في العهود القديمة يا ترى؟ هذا ما أجهله ولا أعتقد انها كانت تسمى باسم عام كما هي الآن ، بل كانت تقسم إلى شعوب عديدة وبأسماء مختلفة ويؤيد قولي هذا ما ورد في مؤلفات الأقدمين. فقد ذكر عن بعضهم باسم «كاردوكي» الذين أغاروا على زينوفون وأتباعه فألحقوا بهم الأذى بالقرب من نهر دجلة عند تراجعهم إلى اليونان ، كما يروي بنفسه في كتبه الرائعة عن حملة قورش الأصغر. إن كتابه هذا في رأيي هو من أروع ما خلف من المؤلفات (2).
    __________________
    (1) تعرف اليوم باسم السعدية.
    (2) حملة العشرة آلاف ، ص 166 ؛ المورد 4 (1975) عدد 2 : ص 100 ؛ مجلة سومر 20 (1964).

    وللأكراد لغة خاصة بهم تختلف عن اللغات المجاورة أي : العربية والتركية والفارسية ورغم ذلك ففي كلامهم لكنة فارسية وتقترب منها في بعض ألفاظها.
    يعيش بعضهم في خيام ، وينتقلون من مكان إلى آخر مع مواشيهم ، لكن الأكثرية تعيش في قرى ويخضعون لأسياد من جنسهم ، وسيادة أمرائهم وراثية في الأكثر ، ويتقاسمون الولاء للدولتين المتجاورتين فبعضهم مع العثمانيين والبعض الآخر مع الفرس حسب قربهم من هؤلاء أو من أولئك. لكن كبار أمرائهم أحرار ينعمون بالاستقلال ولكن بدرجات ما بين القوي والأقوى هناك بين أمرائهم من يستطيع أن يعد عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف فارس ، مثل أمير بتليس (1) الذي رأيته في اسطنبول. أما محمد بك صاحب قزلرباط الذي ذكرته قبيل قليل فبإمكانه إعداد نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل لا أكثر. أن الأمراء الأقوياء لا يعترفون بتبعية لأحد لكنهم يقبلون حماية أحد العاهلين وقد يغيرون الولاء من هذا إلى ذاك حسبما تقتضيه منافعهم ، كما يحدث عندنا في إيطاليا تماما! اما الضعفاء فيقبلون بالتبعية بطبيعة الحال ويرضون بالرئاسة لفترة محدودة أو مدى الحياة ولكنها غير وراثية.
    يعتبر الزيّ الكرديّ مزيجا من أزياء الأتراك والفرس وهو لباس خشن. نساؤهم سافرات يتجولن بحرية بين القوم ، ويتحدثن بحرية مع الرجال أكرادا كانوا أم غرباء.
    الأكراد مسلمون منهم على مذهب الفرس ، ومنهم على مذهب الأتراك بحسب التبعية السياسية التي يقبل بها أمراؤهم. يظن بهم بعض المسلمين سوءا وتنتشر في أوساطهم الخرافات ولقلة معلوماتي عنهم فلا أستطيع التبسط أكثر في عاداتهم.
    في بعض أماكنهم كمدينة الجزيرة مثلا الواقعة على نهر دجلة في بلاد ما بين النهرين يسوسها أمير كردي ، وكذلك في الجبل الذي يطلق عليه الكلدان
    __________________
    (1) بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ، معجم البلدان 1 : 532.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:09 pm

    اسم «الطور» (1) فهو يخضع للأكراد أيضا وتلك المنطقة جبلية وعرة المسالك ويعيش فيها عدد كبير من النصارى الكلدان واليعاقبة والنساطرة ويتكلمون إلى اليوم اللغة الكلدانية العامية ، ويستخدمهم الأمير الكردي أحيانا كجنود مقاتلين في صفوف جيشه.
    هذا كل ما استطعت جمعه من أخبار عن الأكراد.
    ولنعد الآن إلى رحلتنا. ففي اليوم الثامن من كانون الثاني بارحنا «قزلرباط» قبل طلوع الشمس بعد ان دفعنا ضريبة زهيدة. وما إن تركنا تلك المنطقة حتى دخلنا في بقعة خضراء كانت مأهولة بالأتراك سابقا لكن الفرس استولوا عليها في الحروب الأخيرة ودمروها فهرب السكان كلهم على الإطلاق وقد كانت هذه المنطقة بشهادة كثيرين أقوى حامية على الحدود.
    في ذلك اليوم نفسه مررنا بنهر عريض وقد عبرناه راجلين ولكن بصعوبة بالغة قالوا انه نهر ديالى الذي سبق لنا عبوره بالقارب لكنه في ذلك الموقع وهو قرب منبعه لم يكن غزير المياه.
    رأينا عند عدوة النهر بقايا بناء متهدم يسمى «جاي قوناغي» (2) التي يمكن أن أفسرها باستراحة عند النهر أو وقفة النهر.
    في الليلة التالية مررنا بأرض لم أعرف اسمها. وفي اليوم التالي مررنا بموقع متهدم يسمى «قصر شيرين» والكلمة الأخيرة تعني بالفارسية «الحلوة» وتطلق على الرجال والنساء. لكن اسم هذا الموقع يدل في الأكثر على سيدة مهمة ، وفي هذه الحالة يشير إلى صاحبة القصر وهي زوجة خسرو أحد أكاسرة الفرس كان يربطهما حب عارم كما خلدته ملحمة فارسية مشهورة جدا (3).
    __________________
    (1) يريد طور عابدين المنطقة الجبلية التي تقع في الشمال الشرقي من ماردين. ذكرها ياقوت في معجم البلدان 3 : 559 ، وغيره من الجغرافيين العرب.
    (2) القوناق : كلمة تركية تعني محط الرحال حيث يستريح المسافرون أو الرحّالة بعد قطع مسافة معينة.
    (3) الملحمة للشاعر نظامي (1140 ـ 1202 م) وموضوعها حب خسرو لشرين.

    التقينا عند الغروب بثلة من الخيالة الفرس من أتباع «قاسم أو قصوم سلطان» حاكم الحدود وهو الذي هجم على مندلي فخربها. لقد فرحت لأني أصبحت بعيدا عن متناول الأتراك. فلما اقتربوا منا صرحت بأصلي وهويتي فأصبحت موضوع «طماشة» (1) أعني كشيء جديد غريب! فأحاطوا بي وأمطروني بوابل من الأسئلة وكانوا يتكلمون التركية فهذه اللغة سائدة بين الفرس أيضا إلى جانب لغتهم وهي لغة الخاصة في البلاط وبين مراتب الجيش .. ثم أخذوني إلى رئيسهم.
    في اليوم التالي وهو العاشر من كانون الثاني 1617 صعدنا بعض الهضبات ثم توقفنا قرب جدول اسمه «ينكي امام» وبالقرب منه قرية كردية تدعى «ينكي قوناغي» أي الموقف الجديد.
    في هذا المكان نزعت الزيّ القديم «أي العراقيّ» ولبست الزيّ الفارسيّ وحلقت لحيتي تاركا شاربي العريضين على عادة الفرس ، فتغير شكلي حتى أن زوجتي معاني استغربت منظري وتألمت جدا .. فحاولت إقناعها بضرورة التغيير حسب عادات البلاد التي نمر بها وأخبرتها بأني سأغير منظري من جديد عندما نعود إلى إيطاليا فهناك سأترك شعيرات قليلة في ذقني. هذه العادة الغربية يطلقون عليها هنا تهكما لحية الماعز!
    لقد تكلمت عنك مرارا أمام معاني وحدثتها عن حبك للعربية فاشتاقت إلى معرفتك وقدمت نفسها لخدمتك على أمل أن تلقاك يوما فتقوم مقام المعجم الحي للكلمات العربية التي تريد معرفتها. فما أكثر الكلمات التي لا أثر لها في المعاجم المتوفرة ؛ لذلك فبحضورها يمكنك أن تضع أمامها مختلف الحشائش لتقول لك في الحال اسم كل نوع بالعربية. إنها تستطيع إعطائي جذور الأفعال وأصولها وطريقة تصريفها إضافة إلى الأرقام والأشخاص وغير ذلك.
    إنه لأمر غريب حقّا لعله لم يحدث من قبل أبدا بين رجل وزوجته أن لا
    __________________
    (1) اللفظة وردت في الأصل.

    يعرف الواحد لغة الطرف الآخر ، وبالرغم من ذلك فإنهما يتكلمان دائما ويتفاهمان جيدا بلغة ثالثة ليست لغة أحدهما.
    لم أتقدم في تعلم اللغة العربية رغم وجود الست معاني معي كما أنها لم تتعلم اللغة الإيطالية رغم ضرورتها وأهميتها.
    * * *
    في الطريق من بغداد إلى هنا ، ونحن نقطع الفيافي والجبال وقد غمرنا صمت عميق وفي الليالي الحالكة وأنا بقرب زوجتي الحبيبة باغتني ملاك الشعر وإذا بالشعر يتدفق تدفقا عجيبا من مخيلتي فأردت الاقتداء بالأقدمين فأضع قصيدة إكراما لزوجتي أصف فيها رحلتي وأعبر فيها عن حبي. ووضعت لهذه القصيدة الغزلية اسما هو اكليل جويريدة» نسبة إلى أسرة معاني.
    * * *
    لم يبق برفقتي أحد من الإفرنج. كان معي إلى الآن رجل بندقي اصطحبته من حلب ورسام فلمنكي وقد سببا لي متاعب جمة فتخلصت منهما [إذ صرفتهما] مؤخرا ؛ وأعتمد الآن على أشخاص من أهل البلاد ، فمعي الآن رجل من بلد معاني يقوم على خدمتها واسمه عبد الغني بن جرجيس وأصله من ماردين (1) ومعي رجل أرمني وثلاثة رجال كلدان ؛ أولهم طباخ ، والآخر يهتم بالجياد ويسير أمامنا ليفسح لنا المجال في الطرقات ، والثالث وقد عينته كمراسل لكنه لم يلتحق بنا بعد وهناك رجل مسلم يعتني بالجمال ، وفي بيتنا نسوة للخدمة.
    أخبار عن الحويزة العربية (2)
    بلغني قبل مدة نبأ وفاة مبارك المليك العربي الذي حدثتك عنه وهو
    __________________
    (1) توفي الرجل في قزوين في 11 تموز 1618 كما ذكر السائح في ص 733.
    (2) اذكر القارىء الكريم بأن هذه الفقرات من أخبار تخص العراق أو العرب عامة التقطتها من رسائل السائح وهي غير متتالية بل يذكرها عرضا في مجرى كلامه عن الأحداث العامة.

    حاكم البلاد الواقعة بين حدود ولاية بغداد وبلاد فارس. وقد خلفه ابنه الكبير «سيد ناصر» الذي عاش وتربى في بلاد فارس ، وتزوج بإحدى بنات الملك ولذا كانت تلك الإمارة منذ سنوات تحترم الملك وتجله.
    فبعد موت مبارك ذهب ناصر حالا ليتسنم الرئاسة لكن العرب الذين يعشقون الحرية رفضوا قبوله وقاوموه لأنهم توجسوا فيه نية تغلغل النفوذ الفارسي وإخضاعهم للفرس فثاروا عليه بغية طرده من مملكتهم ولأجل إسناد الرئاسة إلى ابن مبارك الأصغر الذي ترعرع بينهم ، لذلك أثاروا الاضطرابات والفتن حتى فتكوا بناصر أخيرا ولا يعرف بالقطع أمات بالسم أم بالاغتيال وأنا أرجح الاحتمال الثاني. ثم هجموا على مدينة تدعى «الحويزة» وهي عاصمة الولاية فخربوها. وكان بناء الحويزة في الغالب من القصب ما عدا القلعة وكانت قوية جدا لوقوعها بين الأهوار والمستنقعات وكان أهلها يمنعون الوصول إليها بإغراقها عند الضرورة. وقد زحف العرب إلى الأراضي الفارسية وتوغلوا فيها فنشب القتال في تلك الأطراف.
    يحكم الحويزة الآن بعض الوزراء من أتباع مبارك المتوفى ، ويسكنون في القلعة أما علاقاتهم بملك الفرس فهي متذبذبة وهو لا يريد أن تضيع منه هذه الفرصة ليضع لنفسه موطىء قدم في تلك المنطقة وإلا فسوف تتحول إلى لقمة سائغة في فم بغداد.
    لهذا أعد على وجه السرعة حملة بقيادة حاكم شيراز وهو نائب الملك في المنطقة المتاخمة لإمارة مبارك يسمى «امام قولي خان» وكان مع الملك في الجيش فأسرع وجرد حملة على العرب محاولا اقتحام الحويزة وقد مر بأصفهان في طريقه إلى هناك وكان مسرعا فلم يبق هنا إلا ليلة واحدة.
    من أصفهان في 18 كانون الأول 1617

    الرسالة الرابعة
    أيار ـ تموز 1618
    .... لقد شرع الرسام قبل رحيله برسم لوحة للسيدة معاني بزيها العراقي الجميل ، لكنه لم يكملها وإلا لكنت أرسلتها إليكم للتعرف على هذا الزي. وسيدتي الجميلة تبدل زيها في كل بلد نمرّ به فتلبس حسب عادات ذلك البلد.
    ... إن السيدة معاني تتمنى بكل جوارحها إنجاب الأطفال ، وهي تشعر بالأسى لأن أمنيتها لم تتحقق حتى الآن. ويظهر أنها خلافا لتعليماتي بل عملا بنصائح بعض النسوة التجأت إلى العطار فاستعملت بعض العقاقير المحلية ، وما أكثر ما منعتها من تعاطي تلك العطاريات التي ربما تلحق الأذى بها ، وقلت لها إن إنجاب الأطفال هبة من الله يمنحها حين يشاء .. وقد أشار عليها بعضهن بأن تعاطي الخمر يفيدني فكانت تلحّ علي من وقت إلى آخر لأتناول الخمر عوضا عن الماء ، إنها تعرف جيدا ان أسرتينا كانتا تعجّان بالأولاد : فأمها رزقت باثني عشر طفلا وحملت ووضعت التوائم مرتين وبعد زواجي بابنتها رزقت بطفل جديد! أما من طرفنا فأنا شاب ومعافى بعمر الورود وإني وإن كنت غير متأكد من عمرها بالضبط إذ إن الناس في هذه الديار لا يسجلون المواليد ولا يكترثون بالكتب إلا العلماء منهم بل يكتفون بذكر سنوات الملوك والأحداث والحروب فقد استطعت بعد استجوابها والتحقيق معها بصورة عامة ذاكرا بعض الحروب والأحداث المهمة فعرفت أن عمرها كان نحو 18 ـ 19 سنة عندما تزوجتها فهي الآن قد بلغت العشرين من العمر. أما أنا فعمري 32 سنة ونتمتع كلانا بالصحة والقوة ... ولا أعلم سبب عدم إنجابنا إلى الآن ...

    الرسالة الخامسة
    أصفهان في 22 نيسان ـ 8 أيار 1619
    ... وصل إلى قزوين في 19 حزيران 1618 السيد عبد الله جويريدة الأخ الأكبر للسيدة معاني قادما من بغداد ، فجاء إلى أصفهان لرؤيتنا ، وإذ لم يجدنا هناك استفسر من الآباء الكرمليين عنا ، وتوجه إلى قزوين .. لقد دعوته بنفسي ليحل عندنا فيبدد بوجوده الشعور بالوحدة والحنين عند الست معاني.
    * * *
    في 22 حزيران 1618 قابل الملك ضيوفه الأزبكيين في ساحة القصر في قزوين وبعد المداولات معهم كلمهم عن الحاضرين من ضيوفه ، وقد مدح بصورة خاصة شيخا عربيا أو أميرا من الحويزة اسمه «الشيخ نصار» (1) ونوه بأنه قام باضطرابات في بلاده وقتل بعض السفراء (لعله نزولا إلى طلب الملك نفسه) ثم هرب والتجأ إليه. وهو رجل جريء للغاية وطيب جدا ؛ وخلاصة القول أن له منزلة خاصة. وقد تحدث بإسهاب ولكن بطريقة غير واضحة بحيث إني لم أفهم كل شيء بالضبط ...
    * * *
    وبعد الأخبار المفرحة التي ذكرتها لا بد أن أنوه بحادث حزين حل بدارنا وذلك بوفاة مربي السيدة معاني وهو عبد الغني ، أو كما كان يحلو لها أن تدعوه «بابا غني» .. لقد تم تشييعه على عادة الشرقيين بعد غسل جثمانه ولفه بالأكفان البيض التي ورد ذكرها في الإنجيل (2) والكفن قطعة واحدة يستعمل قسم منها لأعلى الجسم والقسم الآخر للأسفل فيلف الجثمان بحيث يصير كالقماط الذي يلف الطفل. أما دفن الميت فيجب أن يكون رأسه باتجاه
    __________________
    (1) في الأصل Sceic Nassar ,Emir Nassar فهل هو الشيخ ناصر المار ذكره ويظهر أنه كان من صنائع الملك الفارسي ، وما ذكرنا هذه الفقرة إلا لفائدة الدارسين لتاريخ إمارة الحويزة العربية.
    (2) متى 28 : 59.

    الشرق ، ولا يستعمل الصندوق البتة (1).
    لقد قرر الملك ـ أي الشاه عباس ـ إذا ما ساعدته الظروف في الوقت الحاضر ان يهجم على البلاد العثمانية ضاربا عرض الحائط المواثيق ، ويحاول السيطرة على بغداد ، لا بل على منطقة آشور كلها.
    * * *
    أنتظر من بغداد حيث كتبت وطلبت مجموعة من الحمام الزاجل (علما بأن صهري يمتلك عددا منها رائعا أصيلا!) وهذا الحمام يحمل الرسائل وقد دعاه «تاسو» (2) البريد الطائر ويكثر استعماله لهذه الغاية في آسيا منذ أقدم العصور وقد قيل لي ان الحمام البغدادي هو أرقى أجناس الحمام في آسيا وفي مصر فإن وصلت هذه المجموعة ـ كما أؤمل ـ فسأحملها إلى إيطاليا وأعتني بتربيتها في بيتي ؛ نعم إن السفر طويل قد لا يتحمله الحمام ، ولكن من يعلم! ألم يصل إلى روما قبل سنوات فيل حي على عهد البابا لاون؟ (3) فلماذا لا يصل الحمام؟!
    __________________
    (1) ذكرنا هذه الفقرة لأن بعض العادات الواردة فيها قد أبطلت الآن في الكنائس الشرقية ، فلعل المؤرخ الكنسي الشرقي يستفيد من هذه المعلومات.
    (2) شاعر إيطالي (1544 ـ 1595).
    (3) أظنه يشير إلى البابا لاون الحادي عشر المعاصر للسائح رغم أن مدة جلوسه في البابوية كانت لبضعة أشهر سنى 1605 ، أما البابا لاون العاشر فهو أقدم (1513 ـ 1521).

    الرسالة السادسة
    أصفهان في 23 آب 1619
    ... في الأول من حزيران قدم من بغداد إلى أصفهان بعض أفراد عائلة معاني ، لقد تركوها عملا بنصيحتي. جاء أبو معاني السيد حبيب جان وأخوها عبد الله مع زوجته أسميخان وولداهما بطرس وحنا ؛ وأختها كولاغي وأخوها عطائي ... أما الآخرون فقد مكثوا في بغداد ...
    * * *
    ... اطلعت مؤخرا على القاموس العربي الذي أعده «فرانشيسكو رافيلينجو» (1) ونشره بالطبع ، وهو جيد لأنه أول قاموس يطبع. لكنه بحاجة إلى تصحيحات عديدة. إن السيد جورج ستراكان الاسكتلندي الموجود حاليا هنا ، كان قد أمضى مع العرب في حماية الأمير فياض أكثر من سنتين لذا فهو مستعد لصنع المعاجم وإصلاح مفرداتها ، فقد اتقن العربية وقرأ كتبا كثيرة ويملك مجموعة حسنة من الكتب العربية وقد وعدني بأن يعكف على ترجمة «القاموس» (2) وهو أهم المعاجم العربية وأشهرها ، ولي منه نسخة رائعة (3) فإن حقق السيد ستراكان وعده فإنه سيقدم للعلماء خدمة جليلة.
    كما أطلعت على كتاب نحو اللغة العربية الذي وضعه «تومازو أربينو» (4)
    __________________
    (1) من مشاهير المستشرقين (1538 ـ 1597) م هولندة وضع معجما عربيا كبيرا نشره ابنه سنة 1613 ثم تكرر طبعه مرات عديدة (نجب العقيقي : المستشرقون : 652).
    (2) يشير إلى القاموس المحيط للفيروزابادي.
    (3) وصفها السائح في رحلته (1 : 147) وقال إنها كانت للصدر الأعظم نصوح باشا وهي الآن في خزانة كتب الفاتيكان ، انظر :
    Mai, Scriptorim Vet. Nova Coll., op. cit., p. 964, Codex 123.
    (4) مستشرق هولندي (1548 ـ 1624) نشر كتاب «المقدمة الأجرومية» في ليدن 1613 ، وأعيد طبعه مرات ، وله كتاب العوامل المئة في النحو للجرجاني (ليدن 1615) وأمثال لقمان وبعض أقوال العرب. انظر : المستشرقون : 653 ـ 654.

    وهو حسن لكنه مشوش جدا ، وكان بإمكانه أن ينظم ويسهل أسلوبه وإن يختصره أيضا.
    أما أنا فنظرا لمعرفتي اللغة التركية فقد اجتهدت باعداد كتاب في النحو وبعد إتمامي العمل سأحاول نشره لفائدة الجمهور بعد أن أطلعك عليه وأعمل بمشورتك (1).
    لقد تكلمت عنك كثيرا أمام السيدة معاني ، ومدحت أخلاقك العالية فكتبت إليك رسالة بلغتها العربية وبعد أن طوتها لفتها بالحرير وختمتها على عادة الشرقيين. إن لغة السيدة معاني يغلب عليها اللفظ العامي البغدادي فكلامها بعيد عن الفصحى الجميلة. وقد أملت رسالتها على الملا ليكتبها ولا أعتقد أنه من الخطاطين الماهرين.
    ... كتبت السيدة معاني رسائل أخرى للأصدقاء بالعربية ...
    __________________
    (1) لقد أعد الكتاب المذكور ومنه نسخة خطية في خزانة الفاتيكان (قسم المخطوطات التركية رقم 40) ورد ذكره في فهرس ماي ص 670 ـ 671 والتكاب لم يطبع على حد علمنا.

    الرسالة السابعة
    أصفهان في 21 تشرين الأول 1619
    ... تلبية لطلب الأهل أرسل لكم تصوير السيدة معاني بزيها العراقي الكامل الذي تفضله على الأزياء الأخرى ولو انها لا ترتديه الآن والصورة


    كاملة لكل الجسم وقد رسمها ذلك الرسام الفلمنكي الذي كان برفقتي ومن المؤسف أنه لم يكمل اللوحة فهي لا ترضيني وبعيدة كل البعد عن الأصل الجميل. ان الحلي التي تزين بها رأسها ناقصة كذلك قبضة الخنجر العربي فإنها غير واضحة.
    الرسالة الثامنة
    4 نيسان 1620
    [يذكر السائح خبر وصول أفراد أسرة معاني إلى أصفهان ولا أرى حاجة إلى ذكر التفاصيل]
    الرسالة التاسعة
    أصفهان في 20 حزيران 1620
    [في مجرى كلام السائح عن قدوم عبد المسيح جويريدة إلى فارس يذكر أنه كان جنديا في خدمة مصطفى صوباشي ، ويضيف : «بعد وفاة مصطفى أصبح رئيس الجند بكر صوباشي ، وهو سيد بغداد الأوحد حاليا ، ويكاد يكون ملكا ، ولا يخضع للسلطات إلا بالاسم»].
    الرسالة الحادية عشرة
    8 آب 1620
    ... في الأول من آب قررت السيدة مريم حماتي العودة إلى وطنها العراق إذ لم ترق لها الحياة في بلاد فارس ، فسافرت في قافلة متجهة إلى بين النهرين مصطحبة ابنتيها راحيل واسميخان ...
    الرسالة الثانية عشرة
    أصفهان في 23 شباط 1621
    ... صرفت الأيام الأخيرة في دراسات مفيدة فقد أعددت منذ أشهر كتابا في نحو اللغة التركية ذلك الكتاب الذي نوهت به أكثر من مرة في

    رسائلي فأنا سعيد لأني انتهيت من تأليفه وقد جاء كتابا مبسطا واضحا ومختصرا يشبه كتاب نحو اللغة الكلدانية الذي وضعه «جرجيس عميرة» (1) وأملي ان ينشر بالطبع عند عودتي إلى روما.
    ... إلى جانب اهتمامي بالتركية ، فإني أعنى بالعربية والفارسية أيضا ... فقد ترجمت كتابا في الفقه الإسلامي وهو خلاصة التعليم الديني فنقلته إلى اللاتينية ... كما أعكف منذ فترة على ترجمة بحث في الفلك إلى اللاتينية أيضا ويضم الكتاب ثلاث رسائل لمؤلفين مختلفين في الموضوع نفسه لذلك أدرجتهم في كتاب واحد.
    الكتاب الثالث الذي شرعت بترجمته عن العربية مستعينا بالفارسية هو كتاب أسماء الله الحسنى ... ويسعدني أن أقدم هذا الكتاب هدية لك لاهتمامك بالعربية والأمور الشرقية ...
    في نيتي ترجمة كتاب «لب التواريخ» (2) عن الفارسية وكذلك تاريخ خلفاء بغداد (3) ففي هذين المصدرين أمور مجهولة في أوروبا. وأخيرا كتاب «مئة كلمة» للإمام علي بن أبي طالب ، فهي رائعة معنى ولغة ...
    وقد أتممت قصيدتي المسماة «إكليل جويريدة» ..
    الرسالة الثالثة عشرة
    أصفهان في 25 شباط 1621
    ... في الحقيقة فاتت الشاه عباس (4) فرص عديدة ضد العثمانيين كان
    __________________
    (1) المستشرقون : ص 1084.
    (2) تأليف يحيى بن عبد اللطيف القزويني يبدأ تاريخه من خلق العالم إلى سنة 948 ه‍ كتبت نسخة السائح سنة 1578 م وهي حاليا في خزانة الفاتيكان (مخطوطات فارسية رقم 16) فهرس ماي : ص 637 ـ 638.
    (3) لم يذكر اسم المؤلف ولم أجده في قائمة مخطوطات السائح في خزانة الفاتيكان.
    (4) عباس بن محمد خدابندا من الملوك الصفويين (933 ـ 1037 ه‍).

    بإمكانه انتهازها والسيطرة على بعض الأراضي العثمانية ، لكنه لم يهتم. ألم تقدم له بغداد مؤخرا من قبل واليها لكنه لم يكلف نفسه العناء بالذهاب لاستلامها ...
    قال لي أحدهم إن بإمكان الشاه الاستيلاء على بغداد وأماكن أخرى ، لكن العبرة ليست بالاستيلاء فحسب بل بالمحافظة على الأراضي المستولى عليها ... وأضاف صاحبي : ألم يأخذها من قبله الشاه إسماعيل ثم ضاعت منه؟ (1).
    الرسالة الرابعة عشرة
    23 أيلول 1621
    ... في تموز عاد صهري إلى بغداد صحبة رجال كانوا هنا من أصحاب بكر صوباشي رئيس الجند في بغداد (2) لقد قدموا إلى هنا يحملون رسائل وهدايا إلى الملك ، إذ إن ـ لبكر ـ علاقة سرية معه وها هم في طريق عودتهم مع جواب الملك.
    [في شهر آب عاد جميع أفراد أسرة معاني إلى بغداد].
    الرسالة الخامسة عشرة
    شيراز في 21 تشرين الأول 1621
    بدأت أفكر بالعودة إلى بلادي ، ولكني لم أقرر بعد أي درب أسلك. ان
    __________________
    (1) سقطت بغداد بيد الأعاجم في 25 جمادى الآخرة سنة 914 ه‍ (1508 م) على عهد الشاه إسماعيل الصفوي ثم تحررت منهم وما أغرب هذا التفكير الفارسي وكأن بغداد مشاعة لهم لا أصحاب لها يدافعون عنها وعن كرامتهم.
    (2) صوباشي أو سوباشي : قائد عسكري له واجبات في فترة السلم كمراقبة الأسواق وتعمير الطرقات (مباحث عراقية 2 : 234) أما بكر فقد ترقى في المراتب حتى صار آغا الينكرجية ومن ثم جمع له أعوانا في الخفاء لتحقيق مآربه في السيطرة على بغداد : العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 165.

    عودتي عن طريق بغداد ومروري بالأراضي التركية خطر عليّ وعلى أسرتي لأني معروف هناك. أما الذهاب إلى الهند عن طريق مضيق هرمز فهو أسهل الطرق لكن الحرب سدت بوجهي تلك السبل. بإمكاني أيضا الانتقال من أصفهان إلى البصرة فهذه المدينة وان كانت خاضعة للأتراك فخضوعها بالاسم فقط ، أما في الواقع فلا ، لأن حاكمها الحالي هو سيد مطلق واعترافه بالسلطان ظاهري فحسب وهو صديق البرتغاليين (1) فلا خطر عليّ إن ذهبت إلى هناك.
    تقع هذه المدينة بالقرب من البحر على الخليج وهي غير بعيدة عن الحدود الفارسية لكن لا بد من السفر بالبحر قليلا إذا ما أردت التوجه إليها دون المرور بأرض الحويزة العربية ومن هناك نبحر إلى الهند عن طريق هرمز.
    عندما قررنا الرحيل اصطحبنا صبية اسمها «ماريوجا» (2) ورافقنا شيخ جليل اسمه «بابا ملكي» وأصر السيد عبد الله على مرافقتنا إلى هرمز.
    الرسالة السادسة عشرة
    حدائق شيراز في 27 تموز 1622
    (... كم كان فرحنا عظيما عندما تأكدنا من قرب تحقق الأمنية الغالية فقد أسرّت لي معاني بأنها تحمل في أحشائها ثمرة حبنا بعد سنوات من الانتظار ...
    وفاة زوجة السائح
    ... ولكن في مينا أصيبت معاني بحمى قوية عالية ، على أثرها أجهضت طفلها وبقيت حرارتها في صعود ، حتى أنهكت قواها ، ولم تنجدها العقاقير المحلية المتوفرة نفعا ، فأسلمت روحها إلى بارئها في 30 كانون الأول
    __________________
    (1) هو علي بن أفراسياب الديري وسيأتي الكلام عنه فيما بعد.
    (2) ذكرنا اسم هذه الفتاة لأنها ستصبح زوجة الرحالة بعد سنوات على إثر وفاة معاني البغدادية كما سيكتب في رسالة تالية.



    1621 وعمرها ثلاثة وعشرون ربيعا (1).
    لقد قررت ـ يستطرد الرحالة ـ ان لا أواريها الثرى في هذه البلاد ، بل أحمل جثمانها إلى مقبرة آبائي وأجدادي في كنيسة «أراجيلي» (2) في روما في ظلال «الكمبيدولو» (3).
    * * *
    مر عليّ شهر نيسان (1622) وهو مشحون بالأخبار ؛ ففي مطلعه قدم إلى «اللر» (4) أعراب من أطراف الحويزة ، من الموالين لحاكم شيراز ، وحلوا بالقرب من بيتي.
    أما «الحويزة» يا سيدي فهي حسب اعتقادي أرض في أقصى جنوب بغداد ، تقع قرب البحر إلى الشرق من دجلة وعلى حدود «سوسة». فاستفسرت منهم عن أحوال تلك الديار فأفادوني قائلين إنه بعد موت مبارك ، الأمير العربي الحر ذاك الذي نوهت به في رسائلي الأخيرة ، تسلم ابنه الكبير «سيد ناصر» زمام الحكم مدة سنة تقريبا ، وهو صهر الشاه. وبعد مضي نحو سنة لم يقتل ناصر كما أشيع في حينه لكنه مات مسموما ، وقد دس له السم أحد أقاربه وهو «سيد راشد» الذي كان يطمح للرئاسة فتحقق له ما أراد بعد موت ناصر.
    __________________
    (1) اختصرنا الصفحات التي يصف فيها السائح بإسهاب أيام معاني الأخيرة وعملية تحنيط جثمانها على يد نساء محليات مهنتهن غسل أجساد الموتى وذلك بإخراج الأحشاء وتنظيف جوف المتوفاة ووضع الكافور محله وغير ذلك.
    (2) كنيسة مشيدة على اسم العذراء مريم من أقدم كنائس روما تقع فوق مرتفع جميل وسط المدينة كان الموضع مقدسا عند الرومان قبل النصرانية. في الكنيسة حاليا مصليات جانبية وفيها أضرحة لبعض رجال الدين والأسر الرومانية النبيلة ومن بينها ضريح أسرة ديللافاليه ولكن لا أثر لاسم حبيبة الرحالة هناك حاليا.
    (3) اسم أحد التلال السبعة المحيطة بروما القديمة وهو أصغرها وأشهرها في الوقت نفسه لأنه كان مركز الحياة الدينية والمدنية على عهد الرومان وبقي عبر الأجيال محتفظا بأهميته فهو حاليا مقر محافظة العاصمة الإيطالية.
    (4) معجم البلدان 4 : 355.

    وأضافوا : ان راشدا كان فارسا شجاعا وقد حارب في البصرة الخاضعة للأتراك اسميا وقتل في الحرب فخلفه أحد أقاربه واسمه «سلامة» ولكن بعد مدة قصيرة عاد إلى الحويزة بتأثير الشاه «سيد منصور» أخ مبارك الأصغر وهو شاب له من العمر نحو خمس وثلاثين سنة وكان يعيش عند الشاه فتنازل ابن عمه سلامة من تلقاء نفسه عن مكانه له تلبية لرغبة العرب وعملا بأمر الشاه ، فالقوم لا يريدون الاحتكاك به. وهكذا يسود الآن «سيد منصور» بسلام في تلك المنطقة.
    وقالوا أيضا : إن مباركا خلف أولادا آخرين لكنهم صغار السن بعد ولذلك لم يخلفوه في الملك.



    القسم الثالث : الهند والعودة إلى الوطن
    الرسالة الثامنة غوا في تشرين الثاني 1624
    ... في العاشر من أيار وصلتنا رسائل من مسقط ، جاء في واحدة منها ، تاريخها 24 نيسان تأكيد الإشاعات المنتشرة منذ أيام والتي مفادها إن الفرس استولوا على بغداد (1) وهم يستعدون للهجوم على البصرة عن طريق البحر ، لكن وجود البرتغاليين صدهم عن الهجوم ، فهناك حلف بين الأتراك والبرتغاليين ، وبموجبه هرعوا لحماية المدينة كما أن مراكبهم تجوب البحر وتصل إلى الشط الكبير حيث التقاء نهري دجلة بالفرات.
    فإن كان خبر الاستيلاء على بغداد صحيحا فأنا أعتقد بأن البصرة لا بد أن تسقط بيدهم أيضا مع الأيام ، إن لم يكن عن طريق البحر حيث تصدهم القوات البرتغالية ، فعن طريق البر ، لأنه من الواضح أن الاستيلاء على بغداد يكتمل بالبصرة فهي ميناء مهم جدا.
    إن سقوط بغداد يرجع إلى الاضطرابات السائدة في اسطنبول ، والفساد المنتشر بين الأتراك (العثمانيين) ، خاصة في الباب العالي ، إضافة إلى كثرة التغييرات في السلطة التي تؤدي إلى ضعف الإدارة. هذه الأسباب كلها أعطت للشاه فرصا لاحتلال بغداد وأكثر من ذلك أن بكر صوباشي الجائر الذي ذكرته
    __________________
    (1) سقطت بغداد بيد الفرس في شهر تشرين الثاني 1623 ، انظر : لونكريك : أربعة قرون ، ص 77 ؛ العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 177 ؛ وعن الأحداث انظر كلشن خلفا ، ص 219 ؛ وزبدة الآثار الجلية ، ص 62 ـ 63.

    غير مرة كان قد اغتصبها وهو الذي سلمها مما سهل الأمر حتى لو كانت إدارة الأتراك بخير. لقد خاف بكر منذ أن اعتلى دست الخلافة السلطان مصطفى ، فقد ذكر عنه أنه رجل فطن للغاية وقد عقد العزم على تطهير جهاز الدولة والامتناع عن الحروب الخارجية ومن المؤكد أنه قرر وضع حد للاضطرابات الحاصلة في بغداد وذلك بإبعاد الطاغية المذكور ، مما جعله يرتمي في أحضان الشاه.
    قيل لي ـ من جهة أخرى ـ إن السلطان مصطفى عقد معاهدة سلام مع الشاه عباس أمدها عشرون سنة. فإن كان خبر الهجوم على بغداد صحيحا فهذا يعني ان عباس خرق المعاهدة وهذه أقل عادات الشاه عباس!.
    مهما يكن من أمر فالأخبار غير واضحة وانتظر مزيدا منها مع تفاصيل أخرى.
    * * *
    في 26 أيار زرت دير الآباء الكرمليين في غوا ... وعلمت أنهم افتتحوا لهم مبعثا في البصرة ، وكذلك فعل الأوغسطينيون.
    * * *
    آخر الأخبار الواردة من البصرة تفيد بأن المدينة هادئة وقد ولى عنها شبح الحرب.
    في 29 أيلول 1624 جرت رسامة أسقف لمدينة انكامالي حيث يسكن نصارى القديس توما وهم من أتباع الطقس الكلداني وكانوا يخضعون لسلطة بطاركة بابل الكلدان ... لكن البرتغاليين حاولوا إبعادهم عن تقاليدهم وكسبهم لروما (1).
    في مجرى كلامه عن الهنود البنيانيين (الجزء 2 : 427) وعاداتهم وأصوامهم يسترجع ذكرياته) : «... لقد رأيت مرات عديدة بعض المسيحيين ـ في العراق ـ وخاصة النساء والفتيات اليافعات اللواتي لأمر في نفوسهن
    __________________
    (1) ذكرنا هذه الفقرة لعلاقتها بالتاريخ الكنسي في العراق.


    ولاعتقادات خاصة بهن يتمسكون بصوم ينسبنه إلى النبي يونان ، وتحتفل به كنيستهن قبيل الصوم الكبير ، وهو غير مفروض كواجب لكنهم يتمسكون به بالتزام كبير ومن الأمور العادية ان يصوموا ثلاثة أيام بلياليها دون أن يأكلوا شيئا وهذا يدعو إلى الإعجاب وقد صامه بعض أهل بيتي مثل ماريوجا الصغيرة التي أرادت أن تقلد البالغات ... وبعد الانتهاء من أيام الصوم الثلاثة يبدأون بتناول الطعام تدريجا كي لا يلحقوا الأذى بأنفسهم ، فيبدأون مساء اليوم الثالث بشرب الماء المبارك والسوائل الحارة ...

    هذا الصوم الذي يتمسك به المسيحيون الشرقيون يقال له : «صوم نينوى».
    الرسالة التاسعة
    من مسقط 19 كانون الثاني 1625
    ... لما كنت قد قررت ان أعود إلى وطني لا عن طريق البرتغال ، بل بالأحرى عن طريق البصرة ومنها إلى حلب عن طريق البر فهذا أفضل وهو في نظري أقصر طريق إلى هدفي ؛ كما كنت قد حصلت على الإذن الضروري لمثل هذه الرحلة وهو لا بد منه إذ يحظر علينا الذهاب إلى أوروبا عبر الأراضي العثمانية ، وهكذا أعد الأمور لمثل هذه الرحلة ..
    الرسالة العاشرة
    البصرة في 20 أيار 1625
    في العاشر من آذار كنا لا نزال في البحر ، لأن البحارة كانوا يفتشون عن مصب نهر البصرة ليدخلوا السفينة فالمسألة ليست هينة إذ ان الأرض هنا واطئة جدا.
    يتكون شط البصرة من التقاء النهرين المعروفين : دجلة والفرات. ويطلق عليه أيضا اسم «شط العرب» ويصل إلى البحر في مصبين يبعد الواحد عن الآخر أكثر من اثني عشر فرسخا فالفرع الشرقي وهو أوسع حجما وأكثر أمنا يطلق عليه البحارة اسم فرع هرمز لقربه من تلك الناحية أما الغربي فيسمى فرع البحرين أو «فرع القطيف» نسبة إلى الموضعين المعروفين بهذا الاسم ولا تمخر السفن الكبيرة في هذا الفرع إلا نادرا. ويحدث الانقسام إلى فرعين جنوب البصرة فتتكون بينهما جزيرة مثلثة الشكل يسميها الأهلون «الخضر» ... إنها هبة النهر للأهلين على مثال دلتا النيل في مصر وهي تتوسع سنويا بما يحمله النهر من طين وغرين.
    دخلنا الفرع الشرقي وقد ساعدتنا الرياح فسرنا بأمان وكانت الأراضي

    المحيطة بنا عامرة بأشجار النخيل على عدوتي النهر ، فالأرض هناك خصبة معطاء ووصلنا إلى موضع فيه جدول عميق (أو خندق) تمخر فيه القوارب المحلية وبعض السفن البرتغالية ، ومراكب أخرى مختلفة فتسير إلى البصرة لتقف عند موضع الكمرك يمتد هذا الفرع إلى داخل مدينة البصرة وهناك يوجد جسر من الخشب مثبت على قوارب مربوطة بسلاسل حديد لاعطائه مزيدا من القوة وتقوم إلى الشمال من الجسر بناية لها تصميم القلعة أو الحصن غايتها محافظة المدينة بالرغم من أن البناء امتد إلى ما بعد هذه القلعة.
    أما ماء الخندق فكان يزداد بتأثير المد البحري وتصل السفن إلى الجسر فقط وقد رأيت هناك سفن الوالي الحربية فهي في مأمن عند القلعة المذكورة وبالإمكان سحبها بدون تجذيف وتتفرع من ذلك الخندق قنوات عديدة تمتد إلى داخل المدينة وينتقل الناس بالقوارب في هذه القنوات من بيت إلى آخر ويطلقون على هذه القوارب اسم «دانك» (1) وهناك عدد من الجسور للسابلة فوق القنوات.
    البصرة (2)
    البصرة مدينة مترامية الأطراف ، عامرة بالسكان ، رديئة العمران قائمة على أرض مستوية مفتوحة لأنها غير مسورة ولقد أحيطت بسور مؤخرا بسبب الحروب التي شنها الفرس عليها وفي السور أبراج من الطين وقد تهدم بعضها وللمدينة أبواب تقفل وفيها من الأسواق سوق الصاغة وسوق المنسوجات ومختلف البضائع التي تروج في الأسواق.
    وتوجد أمام القلعة والسوق ساحة واسعة تنتشر فيها المدافع من العيار الثقيل بعضها برتغالية الأصل كان أهل البصرة قد استولوا عليها وغنموها في مسقط قبل سنين كثيرة عندما كانت سفنهم تمخر عباب البحر لكن البرتغاليين تمكنوا فيما بعد من تدمير تلك السفن.
    __________________
    (1) ضرب من السفن الشراعية.
    (2) لهذا الفصل ترجمة عربية مختصرة في نشرة الأحد المذكورة آنفا ص 755.

    هناك ساحة أخرى في البصرة أمام دار الباشا تعرض فيها الأغنام وتباع فيها الحنطة والرز ومختلف الخضروات وهذه الساحة مفتوحة ليل نهار والبضائع معروضة بدون دكاكين ولا أقفال فلا خوف عليها من السرّاق فالعقاب الذي ينزله الأتراك باللصوص معروف جيدا!.
    سكان البصرة عرب ، وفيها عدد قليل من الأتراك ، والعربية هي اللغة الأكثر انتشارا في المدينة لكن التركية والفارسية مألوفتان فيها أيضا ؛ أهلها مسلمون سنيون وشيعة فالناس أحرار في عبادتهم لكن الأذان في المساجد يجري على طريقة السنة ، وتقام الصلوات حسب طريقتهم لأن البصرة خاضعة للسلطان العثماني المالك في اسطنبول.
    وفي البصرة عدد من النصارى الكلدانيين الذين يطلق عليهم اسم نصارى القديس يوحنا أو الصابئة (1) وليس لي فكرة بعدد بيوتهم وليس لهم من النصرانية سوى الاسم على ما أظن فليس لهم كنيسة (2) بل يصلون في بيت كاهنهم الوحيد في البصرة أثناء وجودي ، ولا أعلم إن كانوا يذهبون هناك لاتمام المراسيم الدينية. ولا صيام عندهم ولا قطاعة بل يتناولون اللحم على مدى الأيام .. وعمادهم نفسه كعماد القديس يوحنا ... وهم يجلونه ويبالغون في إكرامه وفي ظني أنهم بقايا اليهود الذين نالوا العماد من يد يوحنا ولهذا تمسكوا بهذا الطقس .. يعرفون عند العرب باسم الصابئة يتكلمون فيما بينهم لغة كلدانية محرفة تسمى المندائية إلى جانب العربية ومنها اسمهم المعروف «مندائي» ، بينما يطلق عليهم الأوروبيون اسم «نصارى القديس يوحنا» ليس لهم أناجيل أقله هنا في البصرة ، ولا كتب أخرى مقدسة ، ما عدا كتاب خاص بهم يسمونه «السذرا» وهم يسيرون بأحكامه في أمور دينهم. لهم حروف خاصة
    __________________
    (1) اعتقد السائح مثل سائر الرحالين الأوروبيين أن الصابئة هم من الفرق النصرانية وقد وهموا في اعتقادهم.
    (2) للصابئة بيت عبادة يطلق عليه اسم «المندا» أو «المندى» أو «المشكنة» لكن بساطة بنائه لا توحي للغريب ، خاصة المتعود على الكنائس الفخمة أو المساجد الكبيرة بأنه بيت عبادة لجماعة من الناس.

    بلغتهم تختلف عن الكلدانية أو السريانية القديمة والحديثة ، وبهذه الحروف يكتبون أسفارهم المقدسة وهم أي العامة لا يعرفون هذه اللغة لا كتابة ولا تكلما بل يقتصر الكهنة على معرفتها .. يوجد بعضهم في الدورق وتستر وفي منطقة الحويزة القريبة من البصرة وجماعتهم هناك هي كبرى تجمعاتهم ...
    أما عن شؤون البصرة فقد انتعشت فيها التجارة بعد سقوط قلعة هرمز (1) إذ ازدادت وفود البرتغاليين العاملين في الهند إليها ولكثرة وجودهم فقد رأيت اسطولا دائما لهم هناك يتكون من خمس سفن لحماية مصالحهم ضد العدو المشترك أي الفرس.
    نظرا لوجود عدد كبير من المسيحيين الأوروبيين في المدينة فقد فتح الرهبان الكرمليون مبعثا لهم فيها (2) وجاء من بعدهم الرهبان الأوغسطينيون البرتغاليون (3) ولكل رهبانية كنيسة خاصة بها تقيم فيها الشعائر الدينية حسب الطقس الروماني.
    إن معبد الآباء الكرمليين مشيد بشكل جميل مع دير ملاصق له فيه صوامع الرهبان وغرف لعابري السبيل وقد ابتاعوا قسما من الأرض بمالهم الخاص والقسم الآخر وهبهم إياه الباشا. أما عن حفلة افتتاح المعبد فسأتكلم عنها فيما بعد فقد جرت الحفلة أثناء إقامتي في البصرة وكانوا سابقا يقيمون الصلاة في مكان موقت إلى أن انتهى بناء المعبد.
    أما الرهبان الأوغسطينيون فإنهم لم يشيدوا ديرا خاصا بهم وكانوا مترددين كثيرا في هذا الشأن فلم يجسروا على البنيان خوفا من سقوط البصرة في قبضة الفرس لأن الحرب كانت لا تزال قائمة لذا اكتفوا باستئجار دار
    __________________
    (1) موضع معروف في الخليج العربي ، احتله البرتغاليون في مطلع القرن 16 ثم سقط سنة 1622 م بعد حرب تعاون فيها الفرس والانكليز ضد البرتغاليين.
    (2) رهبان كاثوليك ينتسبون إلى جبل الكرمل بفلسطين قدموا إلى العراق سنة 1623 وما زالوا فيه إلى اليوم في دير عامر لهم في بغداد.
    (3) رهبان كاثوليك أيضا ينتسبون إلى القديس أو غسطين.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:11 pm


    للسكن وإقامة الصلاة فيها وكان الباشا يدفع ثمن استئجارها وقد جعلوا إحدى غرف الدار معبدا وفتحوه للمصلين وكان رئيس الدير مقلدا وظيفة نيابة أسقفية «غوا» ومعه راهب آخر لا غير وكان بين الديرين منافسة شديدة على الحقوق والرئاسة! ...
    كان الباشا يحسن معاملة البرتغاليين وسائر الإفرنج نظرا للمساعدات الجمة التي تلقاها منهم في الحرب ضد الفرس (1) فخصص راتبا شهريا أو مساعدة للكنيستين دامت حتى وقت زيارتي للبصرة ، كما كان يدفع المبالغ للمراكب الخمسة المستأجرة من البرتغاليين.
    في اليوم الحادي عشر من آذار 1625 م وصلنا قبيل منتصف الليل بقليل إلى موضع التقاء النهر الداخلي بشط العرب فعند مدخله يسارا تقوم قلعة معتدلة البناء يقابلها مسجد وبالرغم من الليل البهيم فقد طلبنا الدخول في النهر الداخلي (أي الخندق) والتوغل في المدينة لكن تيار الماء القوي صدنا ودفعنا إلى جهة المسجد هناك رأينا قائد الأسطول البرتغالي العامل في البصرة مع سفنه الخمس وله ثلاث سفن أخرى في النهر الكبير (أي شط العرب) وكان الباشا معهم إذ كانوا يتوقعون هجوم الفرس.
    في صباح اليوم التالي زارني في المركب الأب باسيل الكرملي (2) يرافقه راهب فرنسيسكاني إيطالي اسمه بولس كنت قد تعرفت عليه في «غوا» وكان آنذاك في البصرة في طريق عودته إلى وطنه.
    فلما زادت المياه بتأثير مد البحر طفا مركبنا فدخلنا المدينة ولم تستعمل المجاذيف كما يصنع البعض بل كانوا يجرون المركب بالحبال وكان كوثل
    __________________
    (1) ذكر لونكريك أن الوالي كان متساهلا مع الأقليات النصرانية (أربعة قرون : ص 139) ويؤيد ذلك الرحالة سبستياني وهو معاصر للأحداث ، انظر رحلته التي صدرت عن ـ الدار العربية للموسوعات ـ بيروت.
    (2) الأب باسيل الكرملي (1596 ـ 1654) برتغالي الأصل ، قدم إلى البصرة سنة 1623 وأسس فيها مبعثا للرهبنة وكنيسة. استضاف صاحب الرحلة الإيطالي.

    المركب متجها إلى الإمام (1) لأن ضيق المجرى حال دون دوران المركب أثناء طفوه فصارت مقدمة المركب في الوراء أما المسافة التي وجب علينا قطعها فهي نحو فرسخ أو أقل.
    كانت البيوت المأهولة على جانبي النهر وكانت البساتين متصلة ببعضها. وأخيرا توقف المركب داخل المدينة من الجانب الشمالي حيث يكثر عدد السكان.
    بعد أن تناولت شيئا من الطعام نزلت إلى البحر لا بحث عن بيت أحل فيه فلم أجد شيئا لائقا فعدت إلى المركب وقضيت فيه ليلتي.
    في 13 آذار أعدت الكرة لكني لم أوفق فكلمت الخواجا نجم أحد المتقدمين بين الصابئة وكان يعمل شهبندر (2) في الكمرك ويتمتع بمكانة اجتماعية حسنة بين قومه وبحالة علمية جيدة وقد شدتني به صداقة أثناء وجودي في البصرة وقدم لي خدمات جليلة فذهبت زوجته بنفسها تبحث عن بيت لسكناي حتى وجدت دارا ملاصقة لبيتهم فذهبت إليها عند المساء ولم تكن جيدة ، لكن الرجل وعدني بأن يعدها على أحسن صورة في اليوم التالي فعدت إلى المركب لا قضي فيه ليلة أخرى.
    في ذلك اليوم أعلن المنادي في المدينة أن يخرج رجل من كل بيت ومعه سلاحه فيلحق بالجيش ليساعد الباشا في حربه ضد الفرس فقد وردت أخبار اقترابهم من البصرة.
    علاقات الحويزة بالبصرة
    في اليوم الرابع عشر من آذار استلمت الدار المعدة لسكناي وفي ذلك اليوم ذهبت لزيارة السيد كونسالفو مارتينيز دي كاستيل برانكو معتمد
    __________________
    (1) الكوثل : مؤخرة المركب أو السفينة.
    (2) الشهبندر أو الشاهبندر أو الشابندر هو المسؤول عن المواني ، والكلمة فارسية الأصل.

    البرتغاليين في البصرة لأقدم له رسالة التوصية التي أخذتها من نائب ملك غوا ، ومن بعض الأصدقاء فأحسن استقبالي وقدم نفسه لمساعدتي وأوقفني على أخبار هامة تخص البصرة وبلاد فارس وعن الحويزة.
    إن منصور أخا مبارك المتوفى بعد أن أقامه الشاه عباس أميرا على الحويزة قبل أعوام ورسخت قدمه فيها لم يعد يظهر تعلقا بشاه الفرس مع انه أحسن إليه ، لأنه يصعب على العرب أن يكونوا محكومين وخاضعين للغير وهم يؤثرون حريتهم على كل شيء آخر ولأجل توطيد هذه الأمنية كان يراسل باشا البصرة التابع للسلطان التركي وعدو الفرس في الوقت نفسه. وكان سيد البصرة آنذاك أفراسياب باشا (1) وهو من أهل البصرة كان في أول أمره آغا سكماني للمدينة (2) ثم اغتصب الباشوية بالقوة وكان يطمح في توطيدها في أسرته ، وبالرغم من اعتباره متمردا في نظر الحكومة التركية فإنها تحملته وجاملته وكانت تساعده لأنه كان قديرا في تدبير المدينة وسياستها. من جهة ثانية بالرغم من أنه كاد يكون مستقلا عنها إلا أنه كان يعترف بها ظاهريا ، ولكي لا تفقد أخيرا خضوعه الاسمي لئلا يرفع راية العصيان ، ولم يكن من السهل معاقبته أو عمل شيء لتبديل الأمور في البصرة فهي منطقة نائية عن اسطنبول قريبة من الأعداء ، أخيرا كانت كلمته مسموعة في المدينة.
    فلما وقفت حكومة الفرس على علاقات منصور بالبصرة ـ خلافا لما كان أمراء الحويزة الذين كانوا يعادونهم ويشنون الغارات عليها كما انه لم يظهر الاحترام والتعلق بالشاه كما كان يطمح ـ فحين استعد الشاه للحرب في حملته على بغداد دعاه للاشتراك بها مع قبيلته وأمر «امام قلي» خان شيراز أن يمر بالحويزة في مسيرته نحو جبهة القتال ليحث منصور بكل الطرق على المجيء فما كان من الخان إلا تنفيذ أوامر سيده. فلما اقترب من الحويزة توقف بضعة أيام بانتظار منصور كي يلتحق به حاثا إياه على السير بركابه وكان
    __________________
    (1) الكعبي : زاد المسافر ولهنة المقيم والحاضر ، بغداد ـ 1958 ، ص 17 وما بعدها.
    (2) قال الكعبي إنه كان كاتبا للجند (المرجع نفسه).

    منصور يجاوبه بأنه لا يزال يكمل الاستعدادات الضرورية إلى أن فقد الخان صبره فذهب إلى الحرب دون أن يرافقه منصور ووصل إلى بغداد متأخرا بعد أن كان الشاه قد استولى عليها. أما منصور فلم يتحرك من مكانه على الإطلاق فاستفسر الشاه عن سبب تأخر خان شيراز كل هذه الفترة فأجابه أنه انتظر منصور ليرافقه عملا بالأوامر الملكية لكنه رفض المجيء فلما عاد الشاه إلى أصفهان دعا منصور أكثر من مرة إلى بلاطه فكان يماطل ولم يذهب أبدا فاستشاط الشاه غضبا وكتب إليه يأمره بالمجيء حالا ويهدده بأنه سيرسل من يقطع رأسه إن امتنع عن المجيء فأجابه منصور قائلا : ان أراد الشاه قطع رأسي فليتفضل بنفسه لأنه مستعد للدفاع جيدا عن رأسه بالسيف!.
    وهكذا رفض الذهاب إلى فارس لا بل أضاف : إن كان الشاه ملكا على فارس فهو ملك الحويزة ولا يعترف به أبدا.
    فدعا الشاه حاكم شيراز «امام قلي خان» وأمره بالتوجه إلى الحويزة على رأس قوة كبيرة مصطحبا محمد بن مبارك الذي كان في فارس وترعرع في حماية الشاه وعليه ان يخلع منصورا ويقتله وينصب محمدا مكانه (1).
    ففي الأيام القليلة السابقة لوصولنا إلى البصرة كان «إمام قلي» قد وصل إلى الحويزة مع محمد ، وعلم منصور أن قسما من أكابر قومه ومن عامة شعبه كانوا مع الشاه لتشيعهم وأظهروا استعدادهم لقبول محمد ، فخوفا من وقوعه بيدهم وتوقعه للمصير المحتوم خرج مع خمسمائة من أخلص اتباعه والتجأ إلى منطقة البصرة حيث استقبلهم الوالي علي باشا بن افراسياب الذي تولى أمر المدينة بعد وفاة أبيه (2).
    إن هذا الرجل (أي علي) اغتصب بدوره الرئاسة واستعد لها قبيل موت
    __________________
    (1) انظر الملحق رقم (2) ففيه جملة أخبار عن الحويزة ومواليها.
    (2) حكم البصرة في نهاية حياة أبيه ودام في الحكم طويلا. قال الكعبي عنه : «أنشأ العدل وقطع الظلم وحسنت سيرته ورفع العلم وأهله ... وكانت أيامه شبيهة بأيام هارون الرشيد». زاد المسافر : ص 18 ـ 19.

    أبيه واستولى عليها بتحريض أصدقائه وأهله وبمساعدة البرتغاليين الموجودين في خدمته.
    استقبل علي باشا ضيفه منصورا بترحاب كبير ، وأقطعه أرضا واسعة في ولايته قريبة من حدود الحويزة ليستقر فيها مع أتباعه.
    أما شعب الحويزة فإنه قبل محمدا أميرا عليه ، وأظهروا استعدادهم للخضوع للشاه في كل ما يأمر بشرط إلا يدخل إلى الحويزة قزلباشي واحد (1) ، فوافق الخان على هذا الطلب.
    جرت هذه الأحداث بعد وصولنا إلى البصرة. فبعد أن ثبت الخان محمدا في الحويزة تقدم في أراضي البصرة ، ودخل عن طريق يسمى «القرنة» ، وفي نيته اقتحام بعض القلاع الحدودية والتوغل في الولاية ، لكن الباشا خرج لمقارعته تدعمه ثلاث سفن برتغالية من تلك السفن التي استأجرها منهم. لذا خيم الخوف على البصرة من اقتراب جيوش الفرس.
    البصرة والفرس
    من الأمور الأخرى التي تروى عن علاقات الفرس بالبصرة ، أن الشاه بعد ان استولى على «هرمز» أرسل سفيرا إلى باشا البصرة ـ وكان آنذاك أفراسياب باشا ـ قائلا له : إنه لا يريد من البصرة شيئا سوى أن تسكّ النقود باسمه ، وان يذكر اسمه في خطبة الجوامع وأن يصلي الشعب من أجله عوضا عن ذكر السلطان العثماني ، أي أن يعترف به اسميا. وأخيرا طلب أن يتعمم أهل البصرة على طريقة الفرس. ولقاء ذلك يبقى أفراسياب حاكما مطلقا على المدينة ، يتوارثها أبناؤه من بعده ، ولا يتدخل في شؤونه ، ويدافع عنه ضد السلطة العثمانية وضد أي تدخل أجنبي ، ولا يطلب منه شخصيا ضريبة ما ، ولا من أبناء شعبه ، بل يترك لهم الحرية التامة.
    كان أفرسياب رجلا فطنا ، يعلم جيدا ما هي أهداف الشاه ، فلم يهتم
    __________________
    (1) كلمة تركية تعني «الرأس الأحمر» وتشير إلى جنود الفرس في ذلك العهد.

    بعروضه ، ولم يرد المغامرة بالمنزلة الرفيعة التي وصل إليها لقاء وعود غير أكيدة. إضافة إلى ثقته بالعون البرتغالي ، إذ لا بد للقوات الفارسية ان تمر بالبحر أو بشط العرب إذا صممت على مهاجمته ، وكانت السفن البرتغالية موجودة في الممرين المذكورين ، بينما لم يكن للفرس قوة بحرية مهمة قادرة على مجابهة سفن البرتغاليين. لذا رفض عرض الشاه وأمر سفيره بمغادرة المدينة حالا والخروج من منطقته دون تأخر ، خوفا من اتصاله سرا ببعض أكابر المدينة الذين قد تكون لهم ميول إلى الفرس فيتأثرون به ويؤثرون بدورهم في الشعب.
    لقد كان رده حاسما ، وأكد بأنه من أتباع السلطان ويفضل الموت هكذا. وهو مستعد للحرب إذا ما أرادها الشاه.
    فلما رأى الشاه أن هذه الطرق لم تجده نفعا أمر خان شيراز ـ وهو أقرب وزرائه إلى تلك المنطقة ، وأقواهم ـ أن يجهز حملة على البصرة ، ويستولي عليها بالقوة. فتقدم جيش الخان ، ولم أعلم أكان الخان نفسه على قيادته أم أناب عنه أحد قواده ، وسار في طريق تستر وانحدر إلى الحويزة ودخل ولاية البصرة في الأراضي الواقعة على شط العرب إلى الشرق من مجراه ، أي جهة فارس. حدث كل ذلك قبل وصولي إلى البصرة أي في نهاية سنة 1623 م ومطلع السنة التالية ؛ ولكنه لم يحاصر البصرة نفسها كما قيل لنا ونحن في «غوا» ولم يقترب منها ، بل اكتفى بمحاصرة قلعة على الحدود تدعى «قبان» ، وكادت أن تسقط بيد الفرس ، وبسقوطها تتعرض البصرة للسقوط المؤكد.
    وكان الفرس يقاتلون بقساوة وقتلوا عددا كبيرا من أهالي البصرة ، لكنهم انسحبوا في آخر الأمر ، فقد أمطرتهم مدافع البرتغاليين المثبتة في السفن بوابل من النيران فألحقوا بهم أضرارا جسيمة ، فانكسر القزلباش. كما ان فترة الحصار امتدت طويلا فأنهكت قواهم ، فولوا عن المدينة.
    في السنة التالية ، أي في فترة وصولي إلى البصرة كروا على المدينة ، وذلك عندما قدموا إلى الحويزة لتنصيب محمد بن مبارك أميرا عليها ، وخلع منصور منها. فاتجهوا إلى البصرة وتوغلوا في أراضيها ، وكان الوالي الجديد

    علي باشا خارج المدينة وسط عساكره للقتال ، تدعمه ثلاث سفن برتغالية. أما في داخل المدينة فقد عم الخوف لأن عساكر الفرس كانت عظيمة عدة وعددا ، أكثر بكثير من جيش البصرة.
    في السادس عشر من آذار وردتنا أخبار تقدم الجيشين إلى بعضهما. وفي ذلك اليوم التقيت للمرة الأولى بالسيد دون كونسالفو دي سلفيرا القائد العام للقوات البرتغالية العاملة في البصرة ، وقد روى لي أن الفرس يحاولون نقل سبع قطع مدفعية من أحد موانئهم إلى الدورق ، ويقع قرب الحويزة ، لاستخدامها في ضرب البصرة ، وهذه قضية مهمة ستغير مجرى القتال ، لذا قرر إرسال سفينتين مع مركب خفيف سريع في محاولة لخطف تلك القطع المدفعية.
    في 17 آذار قصدني الخواجا نجم ، وهو بالطبع مطلع على مجريات الأمور لأنه على علاقة بالباشا ، وأخبرني أن جيش الفرس يعد ثلاثين ألف مقاتل يرأسهم سبعة «خانات»! لكني أشك في قوله ، إذ إن خان شيراز وحده مع جيشه كاف لهذه الحرب ، ومن المحتمل ان يلتحق به أخوه «الخان داود» لقربه منه ، وكذلك «خان لوجستان» فهو في تلك النواحي. أما أن يتحرك خانات المناطق النائية لمحاربة البصرة فهذا أمر مستبعد ولا ضرورة له.
    وأردف صاحبي قائلا : إن فيضان المياه يحول الآن دون تقدم الفرس إلى البصرة ، فالنهر عريض وقد أغرق أراضي شاسعة ، والخنادق مليئة بالمياه ، وهذه كلها مصدر قوة للبصرة. ولكن عندما ينحسر الماء بعد ثلاثة أشهر فعندئذ تكون الطامة الكبرى ولن تجدي السفن البرتغالية نفعا إذا حاول الفرس عبور النهر بجسر موقت يقيمونه شمال البصرة ، أو من جهة الحلة التي هي في قبضتهم الآن ، أو من بغداد نفسها ؛ فهذه المواضع كلها بعيدة عن مدى مدافع البرتغاليين. وخلاصة قوله ان الطرق المؤدية إلى البصرة كثيرة وأعتقد أنها لن تنجو من السقوط في أيدي الفرس عاجلا أم آجلا. وبإمكان هؤلاء الاستعانة بالجيش الموجود في بغداد فيسير إليها على الضفة الغربية من النهر حيث تقوم المدينة ، فتلك الجهة وإن كانت صحراوية ، لكن بإمكان الجيش بقليل من

    المؤن ان يقطعها بفترة قصيرة ، وهذه الحملة ليست عسيرة على الجيش الفارسي. بينما لا تستطيع البصرة طلب النجدة نظرا لبعدها ، ولكون بغداد في قبضة الفرس. أما الجهة الوحيدة التي بإمكانها مساعدة البصرة فهي البادية في شخص أميرها «مدلج أبو الريش» (1) (وهذا لقبه ولقب اسلافه). هذا الأمير ومن معه من عشائر هو أمل البصرة الوحيد.
    ثم تطرق الخواجا نجم إلى الحديث عن بغداد فقال : إن بكر صوباشي لم يسلم المدينة إلى الشاه أبدا ، بالرغم من كونه عاتيا ظالما ، لكن ابنه درويش محمد فعل ذلك دون علم أبيه وبغير رضاه (2). ولما دخل الشاه المدينة أمر حالا بقتل بكر صوباشي علنيا ، بينما أبقى على الخائن الذي سلّم المدينة ، درويش محمد وإكرامه ، ولم يهتم هذا الغبي بمقتل أبيه.
    وبعد الاستيلاء على بغداد أرسل قواده إلى كركوك والموصل فاستولى عليهما (3) وزحف على البادية فاستولى على الحلة ومنطقة نفوذ «أبو الريش» وعنه وطبار القريبة من حلب ، وهدد هذه المدينة أيضا ، ونصب في عنه حامية ، ولكن بعد سفر الشاه وانسحاب قواته تحرك أبو الريش الذي بقي على ولائه للسلطان ، وزحفت قبائله ، فاستعادوا طيبة وعنة وقتلوا سبعين قزلباشيّا كانوا في الحاميات ولم يوقف الزحف إلا تحرك «ناصر بن مهنا» حاكم «مشهد الحسين» والمنطقة الممتدة بين الحلة والبصرة ، ولم يكن بمستوى أبو الريش من حيث الزعامة ، وكان أحد العاملين المهمين في سقوط بغداد بيد الفرس نظرا لولائه لهم ، فقد تصدى لتحركات «أبو الريش» وقاتله قتالا ضاريا ، فقتل من اتباعه وخرب أراضيه.
    __________________
    (1) انظر الملحق رقم (1).
    (2) كان المسؤول عن القلعة ، أخذه الشاه إلى فارس وعاش هناك ذليلا : ثم قتله لمحاولته الهروب ، سماه المحبي (1 : 382) محمد علي. انظر لونكريك : أربعة قرون : ص 77 ؛ العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 179 ـ 182 واكتفى العمري بتسميته محمد بك. انظر : زبدة الآثار : ص 62 ـ 63 ؛ هامر : ص 19.
    (3) التفاصيل عند هامر 9 : 23 وما بعدها.

    وأضاف الخواجا نجم أخيرا بأن جيشا تركيا جرارا تحرك من الشمال باتجاه بغداد وبلاد فارس ، فاستعاد الموصل وكركوك. لكني لم أصدق هذا الخبر ، مع يقيني ان هذا الأمر لا بد ان يحدث لكنه سابق لأوانه ، إذ ليس من الممكن هذا الزحف السريع واسترجاع الموصل وكركوك بهذه السرعة.
    إن هذه الأخبار تشاع ـ باعتقادي ـ لتقوية معنويات الأهالي ، وبصورة خاصة شعب البصرة المحاصر.
    في 19 آذار قام رجل من أكابر البصرة اسمه «الشيخ عبد السلام» (1) فجمع حوله عددا من أفراد أسرته وأصدقائه وأتباعه وتوجهوا إلى الجبهة لنجدة الباشا ، وانطلق معه بعض الصابئة نحو مئتين من طائفتهم يحملون البنادق ومختلف أنواع الأسلحة. لكن هؤلاء جميعا لا يقارنون بقوة القزلباش واستعدادهم القتالي.
    في 22 آذار رأيت في الساحة امام دار الباشا حمارا وحشيا صغيرا ، وعلمت ان الباشا يحتفظ به للتسلية ويربيه في بيته. إنه لا يختلف عن سائر الحمير ، لكنه أكثر بياضا ، وفي ظهره خط أشقر اللون يبدأ في رأسه وينتهي عند ذيله. وهو سريع الجري ، أنشط في القفز من الحمير لأنه أخف وزنا منها.
    في 23 آذار عاد إلى البصرة رجل برتغالي كان في معسكر الباشا ، فروى كيف ان القزلباشية انسحبوا إلى أراضيهم ، وكان انسحابهم سريعا بحيث أنهم تركوا عددا كبيرا من الحيوانات أي المواشي ، وكمية وفيرة من المؤن.
    إن هذا الانسحاب السريع ، غير المتوقع ، لم يكن فرارا أمام جيش الوالي ، ولكن لأحد أمرين : فإما أن موقع «هرمز» كان في خطر ، أم أن أحداثا جساما كانت على وشك الوقوع من طرف العثمانيين ، أو من جهة المغول ، لأن الفرس سبق ان تحرشوا بهؤلاء.
    في الحادي والثلاثين من آذار عادت إلى البصرة سفينتان برتغاليتان كان القائد العام قد أرسلهما لخطف المدافع الفارسية كما ذكرت أعلاه ، لقد عاد
    __________________
    (1) هو الشيخ عبد السلام الكواز (زاد المسافر ، ص 31).

    البرتغاليون «بخفي حنين» إذ لم يجدوا أثرا للمدافع ، لأن خبر خروج السفينتين لهذه الغاية بلغ مسامع الفرس فلم يحركوا المدافع عن الميناء. لكن السفن المذكورة وضعت اليد على ثلاثة قوارب فارسية وأسرتها ، وكانت محملة بالبضائع ، وفيها رجل غني من ذوي الشأن أخذ كرهينة ، فقدم للحال فدية لخلاصه ألف ريال «أبو طاقة» (1) ، لكنهم رفضوا ، وقتلوا جميع الأسرى ... ما أفظع هذه الأعمال! لقد اعتاد البرتغاليون على أفعال كهذه ، وقد فعلوا في الهند أفظع منها ...
    في السابع من نيسان عاد الباشا إلى البصرة مع جيشه بعد أن زال خطر الحرب بانسحاب الفرس ؛ ودخل المدينة وقت الفجر باحتفال مهيب وعلى أصوات دوي المدافع.
    افتتاح كنيسة الكرمليين في البصرة
    في الثالث عشر من نيسان كان الأب باسيل فرنسيس الكرملي قد أكمل تشييد الكنيسة والدير الخاص برهبانيته في البصرة ، فأقام احتفالا كبيرا بهذه المناسبة ، وزين الكنيسة والدير بأحسن ما عنده ، وهرع النصارى من أوروبيين وشرقيين على اختلاف طوائفهم للاشتراك بهذا الاحتفال الشائق بافتتاح كنيسة مريم العذراء «أم الشفاء» (2).
    وأعد في المساء أنوارا كثيرة أشعلها عند حلول الظلام وأوقد نارا ، وأطلق الجنود البرتغاليون عددا لا يحصى من العيارات النارية ، وطاب للباشا ان يقدر الأب المذكور فأرسل إلى الدير نحو خمسمائة من جنوده ، فأطلق هؤلاء بدورهم عيارات نارية ، بينما أخذت مدافع القلعة ترد عليها بدويها
    __________________
    (1) من أنواع النقود ، عرف باسم أبو طاقة ، بوطاقة ، بطاقة. وهو الريال. الكرملي : النقود العربية وعلم النميات ، ص 174 ـ 175.
    (2) لم يبق لهذه الكنيسة أثر ، فقد تداعت وهدمت وقامت في محلها كنائس أخرى على مر التاريخ ، ثم انتقل الآباء إلى منطقة العشار. انظر عنها :
    A Cronicle of the Carmelites, op. cit., p. 3121.

    العظيم. الحق يقال أن المدينة كلها احتفلت بالمناسبة ، النصارى والمسلمون على السواء.
    وفي مساء يوم الأحد قبل غروب الشمس تفضل الباشا بنفسه مع بطانته فزار الكنيسة والدير ، وعند خروجه ترك صدقة لأصحابه. ولا حاجة لذكر احتفاء الأب الرئيس به بالمراسيم اللائقة وتقديم أنواع الحلويات والمرطبات على عادة أهل البلد بحيث أرضى الباشا ومن معه فخرجوا مسرورين (1).
    وكان في الدير عند زيارة الباشا القبطان البرتغالي وربابنة السفن وكبار رجال الحربية ، وبكلمة واحدة جميع الإفرنج الذين كانوا آنذاك في البصرة ما عداي ـ مع أسفي الشديد ـ فقد عاقني المرض عن الحضور.
    أقام القداس يوم الافتتاح رئيس الآباء الأوغسطينيين لأنهم اشتركوا بالاحتفال ، وألقى الموعظة رئيس إقليم مانيلا فقد كان مارا بالبصرة آنذاك.
    * * *
    أخبار متفرقة
    في ذلك اليوم عينه وصل إلى البصرة قبوجي (2) من قبل السردار (3) أي الوزير في اسطنبول الذي تبوأ الصدارة العظمى مؤخرا وقد قيل إن سلفه لقي حتفه بأمر السلطان لتقصيره في قضية بغداد. وقد حمل القبوجي المذكور إلى باشا البصرة خلعة من قبل السردار ، وأخبره بأن الجيش العثماني قد زحف في طريقه إلى بغداد لاستعادتها. وانتشر بين الشعب خبر مفاده إن الجيش التركي قد اقترب جدا بعد ان استرجع الموصل وكركوك التي هي مناطق مفتوحة ومعرضة للاحتلال من قبل أي جيش قوي. لكني رأيت في هذه الأخبار غرابة ،
    __________________
    (1) عن أخبار زيارة الوالي انظر تفاصيلها في المرجع نفسه ص 1124 ـ ـ 113.
    (2) كلمة تركية تعني البواب ، وتطلق على حاجب السلطان أو رسوله في مهمة خاصة.
    (3) هو الصدر الأعظم حافظ أحمد باشا ، تدرج في المناصب حتى تسنم الصدارة في سنة 1034 ه‍ ، مات مقتولا سنة 1041 ه‍.

    لأن السردار الجديد ان كان قد تحرك من اسطنبول في تلك السنة نفسها فإنه لا يصل قبل شهر أيار ولو أسرع جدا في تحركه فلعله يصل في نيسان ، لأنه يجب أن يمر بحلب ليجمع من هناك المؤن الضرورية ، ويبلغ المناطق النائية لإرسال المقاتلين ، كما عليه ان يوزع المقدار المقرر من علف الخيل كما يفعلون كل سنة. كل هذه الأمور تجعل اقترابه بهذه السرعة من الأمور المستحيلة ، والمعروف جيدا من الحملات السابقة أن الجيش التركي لا يصل في نفس السنة التي يخرج بها من اسطنبول ، بل يقضي السنة الأولى في حلب وبين النهرين ، وفي السنة التالية يتقدم إلى الحدود الفارسية ليبدأ الحرب ، ويحصل أحيانا انه يصل في فصل الشتاء فعندئذ يتوقف عن القتال.
    أما أن يكون هذا السردار الجديد قد أمر بالتحرك من اسطنبول في نفس السنة وليس في السنة السابقة فهذا أمر معقول لأنه لم يبلغني أبدا أنه قد وصل إلى حلب أو إلى مكان آخر ، فيكون السردار الجديد حالما تسنم الصدارة ، واعتقد في شهر آذار أو ما قبله بقليل ، وكان يعلم بأن البصرة في خطر ، قد عمل فورا على إرسال القبوجي ليقوي معنويات والي البصرة. وهذا أسرع بالسير سالكا الطرق القصيرة المباشرة نظرا لأهمية رسالته فوصل بهذا الوقت إلى البصرة كما ذكرت.
    مهما يكن من أمر فإني لا أصدق قرب وصول السردار وجيشه كما أشيع بين الشعب ، وانتظر ان تبرهن الأيام على جلية الأمر.
    في الثالث والعشرين من نيسان انتشر في البصرة خبر جديد مفاده أن الشاه أمر بإلحاح الخان الحاكم في بغداد ، وصديقه أمير البادية ناصر بأن ينهبا بأية طريقة ممكنة القافلة التي كانت تستعد للرحيل من البصرة باتجاه حلب ، أو في الأقل أن يحولا دون خروجها. وكان التجار قد أعدوا كل شيء للرحيل فداخلهم الخوف من هذه الإشاعة وامتنعوا عن السفر فعلا ، وبعثوا رسولا باسمهم وباسم أكابر البصرة إلى الأمير ناصر يستوضحونه الخبر ويسألونه بصريح العبارة إن كان يسمح لهم وللقافلة بالمرور بسلام. ولقد اعتقدت بصحة هذه الأخبار لأن الشاه يهمه كثيرا ان تكون التجارة مع الهند تحت

    إشرافه. فبعد ان استعاد ميناء هرمز فقد هذا الموضع أهميته التجارية وانتقلت الحركة التجارية إلى البصرة حيث لا تصل يد الشاه لافتقاره إلى القوة البحرية التي بإمكانها أن تقف بوجه القوة البرتغالية فتحول دون وصول البضائع إلى البصرة. لذا كان مصمما على محاربة البصرة ليحرم البرتغاليين من الحصول على موطىء قدم لهم في المنطقة ويضطرهم من ثم إلى العودة إلى أحد موانئه دون أن يعيد إليهم ميناء هرمز ، ولأنه لا يستطيع إيقاف التجارة بين الهند والبصرة فعلى الأقل يمنع وصولها إلى حلب.
    أما لو نظرنا إلى هذا الخبر من زاوية أخرى ، أعني بالنسبة إلى الأمير ناصر ، فيظهر الخبر لا أساس له ولا يمكن أن يصدق ؛ لأن الأمير ناصر يستفيد كثيرا من القوافل المسافرة بين حلب والبصرة. وهو وإن كان قد انحاز إلى الشاه في حملته على بغداد لأمر في نفسه ، لكنه كعربي وإنسان حر لا أعتقده يوالي الشاه ويعمل ضد مصالح بني قومه ؛ كما له في الوقت الحاضر وكلاء في البصرة يجمعون الضرائب والإتاوات ، وماذا يستطيع الشاه أن يفعل في البادية بدون مساعدة ناصر؟!.
    أخيرا ، كان الأمير ناصر متألما بسبب الأضرار التي ألحقها به «أبو الريش» وكان الأجدى له ان يسوي أموره مع «أبو الريش» ومع السلطان القوي الذي ينتفع منه ، لئلا يخرب أموره. فليس من مصلحته ان يعرض نفسه لأخطار جديدة لأجل الشاه ، فهذا ـ أي الشاه ـ لا يقدر ان يلحق به ضررا ولا خير ينتظر منه. اللهم إلا إذا صار سيد المنطقة كلها أي بعد ان يستولي على الأرض كلها إلى حلب ، وهذا ليس بالأمر الهين ولا يتحقق بسهولة وسرعة ، وإن الأيام ستجلو الأمور وتظهر الخفايا!.
    * * *
    في التاسع من أيار [1625] وصل إلى البصرة قبوجي آخر من قبل السردار أيضا ، فاستقبل باحتفال فخم ، وأطلقت المدافع عياراتها إكراما له.
    وهذا بدوره حمل إلى الباشا خلعة جديدة ، وخبرا مفاده أنه ترك الصدر الأعظم وهو في ماردين ، فهو إذا وشيك الوصول إلى بغداد ، بعد أيام قليلة ، وأكد خبر

    استعادة الموصل وكركوك ، وهذا الخبر محتمل الوقوع إذا كان الصدر الأعظم فعلا في ماردين. وأضاف القبوجي ان السردار بارح ماردين وبدأ بالتقدم. فانتشرت الأخبار والإشاعات في البصرة.
    إني لم أتأكد من صحة الأخبار إذ ليس لي صديق مهم بين الأتراك ، ولم أحصل على معلومات أوفر من القائد العام البرتغالي لأنه كان يكتفي بترديد الأخبار نفسها. مهما يكن فإن هذه الأخبار ـ حسب اعتقادي ـ ترفع معنويات باشا البصرة وأهاليها.
    * * *
    في الحادي عشر من أيار تحركت القافلة التي كانت منذ أيام قد استعدت للسفر وخيّمت خارج المدينة ببضعة فراسخ ، فسارت باتجاه حلب بعد أن تلقت التطمينات اللازمة من قبل الأمير ناصر. وأعتقد بالأحرى أن التجار علموا بأن الأمير ناصر قد تصالح مع الأمير «أبو الريش» وعاد إلى إطاعة السلطان والولاء له ، فالبادية والحالة هذه بخير وأمان. كما ان خبر وصول الجيش العثماني قوى معنوياتهم.
    كنت أنا أيضا قد أتممت الاستعدادات اللازمة للرحيل ومبارحة البصرة ، لكني لم أسافر مع تلك القافلة ، بل أعددت كل شيء لحسابي الخاص مستقلّا عن القافلة ، فأخذت عددا من الجمال ، ودفعت أجر الأعراب الذين وافقوا على مرافقتي ، لكن علي آغا سيد البصرة ورئيس الشرطة الأعلى أوعز إلى رئيس الجمالين المدعو حاج أحمد الأسود ألا يرحل قبل مضي ثلاثة أيام. لقد كنت أخشى الحر ، فالمناخ يزداد حرارة يوما بعد يوم ، وخفت ألا نجد ماء في الطريق ، لذا كنت أريد الرحيل بأسرع وقت ، فالتجأت إلى السيد كونسالفو مارتين معتمد البرتغاليين وطلبت منه أن يتوسط لي ويستأذن «علي آغا» أو يستفسر منه عن سبب منعه لنا ، فإن لم يكن لديه من مانع محدد فليدعنا نمضي بسلام. فقام الرجل بالمهمة بطيبة خاطر ، لكن «علي آغا» أشار عليه أن نتذرع بالصبر أسبوعا واحدا حتى تبتعد القافلة وتتوغل في البادية ، لأنه كان يتوجس شرا من رئيس الجمالين الحاج أحمد ، فقافلتنا الصغيرة أخف حملا

    من القافلة الكبيرة ، وصاحبنا الحاج أحمد أدرى من غيره بمفاوز البادية وطرقاتها ، فقد يسبق القافلة الكبيرة ويخبر الأمير ناصر أو غيره من أعراب البادية بوصولها ، بل لعله يخبر القزلباشية أنفسهم بتحركها فتصبح فريسة سهلة للنهب مما يلحق الضرر بها وبنا على السواء. فالأفضل إذا التريث والانتظار قليلا ... أنا شخصيا كنت أثق بالحاج أحمد الذي اخترته دليلا لقافلتي ، فقد مدحه الخواجا نجم وغيره. لكن طالما هذه هي مشيئة ولي الأمر فلتكن ، ولا بأس ان أتريث بعض الوقت.
    إن هذه الأمور أكدت ما سبق ان ذكرته أعلاه عن تعاون الفرس والأمير ناصر من أجل إلحاق الضرر بالقافلة. وقد لاحظت ان «علي آغا» صاحب الخبرة الطويلة في الحكم والإدارة كان فعلا متخوفا وقلقا على مصير القافلة.
    * * *
    في الثالث عشر من أيار وصل إلى البصرة قبوجي آخر من قبل السردار يحمل خلعة أخرى ، وقردا ، وفرمانا بتثبيت الباشا على البصرة ؛ لأنه لم يكن قد حصل على تأييد السلطان حتى ذلك الوقت.
    أما أخبار زحف الجيش ، فقد شاع كالعادة بين أفراد الشعب بأنه قريب جدا يكاد يكون عند أبواب بغداد. لكني عرفت الحقيقة من تجار أوروبيين كتبوا رسائل من حلب ووصلت إلى البصرة مع أحد مرافقي القبوجي نفسه ، مفادها ان السردار ـ كما توقعت ـ لم يصل بعد إلى حلب ، ولعله يختصر الطريق فيسير مباشرة نحو «بين النهرين» ثم بغداد دون المرور بحلب ، أو لعله لم يتحرك بعد! إذ لن تقوم الحرب في هذه السنة 1625 ضد الفرس من أجل بغداد ، فالطريق بعيد ويستغرق وقتا طويلا ، فإن سارت الأمور سيرا حسنا فستنشب الحرب في السنة القادمة ان لم يحدث ما يغير مسيرة الأمور ، لكني متيقن بأن الحرب لا مفر منها!.
    * * *
    وافتنا أخبار أخرى في تلك الرسائل ، منها : أن أمير صيدا تمرد على السلطان وهجم على طرابلس وخرب بيوتها وطرد واليها. لكن والي حلب هرع

    إلى هناك فاسترجع طرابلس وأعاد واليها ... وهناك أخبار أخرى من أوروبا ...
    * * *
    عاد إلى البصرة يوم أمس الأمير «زنبور» (1) صاحب الدار التي نزلت فيها. فقد كان خارج المدينة ، إذا علي أن أترك الدار لأصحابها بأسرع وقت رغم أن الرجل تمهل علينا تلبية لرجاء الخواجا نجم صديق الطرفين ، مع العلم انه لم يطلب منا مبلغا بل نزلنا في بيته مجانا. لا بد إذا من الرحيل. لذا حملت أمتعتي إلى دير الآباء الكرمليين وتركت مريم تيانتين (وهي ماريوجا) وأوجينيا وبعض الخدم في بيت الخواجا نجم ، وحللت في الدير ريثما يؤذن لي بالسفر. لقد طلب «القبوجي» مني ان يرافقني في السفر فرحبت به.
    الرسالة الحادية عشرة
    من حلب في 5 آب 1625
    بعد أن حصلت على إذن من آغا البصرة بالرحيل ، أرسلت أمتعتي خارج المدينة مساء الحادي والعشرين من أيار إلى موضع يسمى «المشراق» ، حيث كانت الجمال ، ثم ذهبت أنا أيضا مع أتباعي. وبعد أن قطعت كل علاقاتي بالبصرة ، ودفعت الرسوم المفروضة عند المغادرة ، وبدأنا الرحلة بعد منتصف الليل في 22 أيار. وما ان سرنا قليلا حتى دخلنا البادية ، وكانت الأرض في أول الأمر سبخة ثم تحولت إلى رملية قاحلة لا أثر فيها للنبت إلا بعض الأشواك التي تلتهمها الجمال.
    في 23 أيار سرنا ستة فراسخ فوصلنا إلى «كويبدة» التي يعتبرها الأعراب قلعة. وكان شيخها يجمع الاتاوة من القوافل العابرة واسمه الشيخ عبد الله.
    توقفنا خارج هذه القرية بانتظار القبوجي الذي زار الباشا ، لأنه طلب منا أن يرافقنا في طريق عودته إلى اسطنبول.
    __________________
    (1) لم أعرف عنه شيئا.

    في 25 أيار لم يعد رئيس الجمالين الذي ذهب لاصطحاب القبوجي ، فأصابنا الملل من الانتظار في ذلك المكان ، خاصة بعد أن هبت علينا عاصفة رملية. فأرسلت خادمي ميخائيل إلى البصرة ليواجه الأب باسيل والسيد كونسالفو معتمد البرتغاليين والخواجا نجم ويستفسر منهم عن سبب تأخر رئيس الجمالين ، ويطلب منهم أن يحثوه على السير دون تباطؤ. وإذا كان عنده ما يمنعه من السير لأمور خاصة به أو لأعمال تتعلق بالقبوجي فليأمر الجمالين بالرحيل ، فأنا مستعد للسفر من دونه ، أو بعكس ذلك أعود إلى البصرة.
    في 27 أيار عاد ميخائيل ليخبرني بأن القبوجي أكمل استعداداته للسفر وانه سيلحق بالقافلة حالا ، وحمل إلي رسالة من صديق إيطالي هو الأب أورسينو الدومينكي الذي كنت قد تعرفت عليه في اسطنبول قبل عشرة أعوام ؛ ويخبرني في رسالته بأنه كان في أرمينية ويعرب عن سروره لوجودي في البصرة ، ويطلب أخيرا ان أنتظره ليسافر معي فهو كثير الشوق للعودة إلى الوطن.
    إني لا أثق بقول القبوجي ، فهؤلاء القوم لا يلتزمون بالكلام ، لكني تريثت رغم ذلك في كويبدة.
    في 30 أيار وصل أخيرا رئيس الجمالين أحمد ومعه الأب المذكور أعلاه ... ولم يأت القبوجي. إذا علينا ان نتحلى بالصبر. أعتقد أنه ينتظر بزوغ القمر الجديد ، فعادة القوم إنهم يفضلون الرحيل مع القمر الجديد.
    صباح الثالث من حزيران وصل القبوجي أخيرا ، وقبل أن نرحل دفعنا ضريبة أخرى!.
    والجدير بالذكر اننا دفعنا الضرائب في الطريق الصحراوي أربع مرات! ولا أعلم أكان دليلنا يخدعنا أم أن هذه هي العادة الجارية. فقد دفعنا أولى الأتاوات للشيخ عبد الله صاحب كويبدة فاستوفى خمسة قروش (1) ، عن حمل الجمل الواحد من البضائع الجيدة مقارنة بالأقمشة الهندية ، أما البضائع
    __________________
    (1) القرش هنا ترجمة لكلمة بياسترا الإيطالية.

    الأخرى والأحمال المتنوعة فيقدرها مقارنة بالتبغ فيأخذ مبلغا أقل من السابق لا أتذكره بالضبط.
    الإتاوة الثانية يستوفيها شيخ عربي آخر في البادية اسمه «ابن خالد» ، ويأخذ عن كل حمل مهما كان خمس لاريات (1) وتساوي نحو قرش واحد ، كما يأخذ شاهية أيضا (2) ، مع العلم أن القرش في البصرة يساوي ثمان شاهيات وثلث ، بينما في البادية يساوي ثمان شاهيات فقط!.
    الأتاوة الثالثة تدفع إلى شيخ عربي ثالث يلقب بالأعور وكان يستوفي عن كل حمل مهما كان ست شاهيات. ومثل الاتاوة تدفع لشيخ آخر هو ابن عم الاعور المذكور!.
    إن شيخ كويبدة عبد الله أبى أن يأخذ الاتاوة مني لأني حملت إليه رسالتين ، واحدة من باشا البصرة والأخرى من المعتمد البرتغالي فهو صديقه ، وكلاهما أثنيا عليّ وأوصيا بي خيرا. أما الإتاوات الأخرى فقد دفعتها إلى وكلاء الشيوخ المذكورين أعلاه المجتمعين في كويبدة ، فأعطونا كتبا تثبت استلامهم المبالغ المقررة لئلا يطالبنا بها اتباعهم في الطريق.
    وفي الرابع من حزيران غير شيخ كويبدة رأيه فطلب مني الإتاوة بالرغم من امتناعه السابق عن أخذها ، لا بل استوفى عشرة قروش عن الصندوقين ، وهو أعلى مبلغ يؤخذ عن حمل!.
    في الخامس من حزيران بارحنا كويبدة قبل بزوغ الشمس ، فوصلنا عند الظهيرة قرب آبار يطلقون عليها اسم «الغنيمات» ، وهناك وجدنا عددا من البدو نازلين في تلك الديار. لقد خفت في بادىء الأمر من هؤلاء الرجال ، ولكن عندما اقتربنا منهم رأيناهم مساكين مسالمين ، فأنزلنا الرجال واسترحنا.
    بلغنا هناك ان قبضة من قطاع الطرق قد أعدوا العدة لمهاجمتنا وقد
    __________________
    (1) هي أجزاء القروش.
    (2) نقد نحاسي ينسب إلى السلطان الذي كان يقال له البادشاه ، الذي كان مسكوكا في البلاد العثمانية ، وبالعكس فهو فارسي. اختلفت قيمته باختلاف الزمن والبلاد.


    سبقونا في البادية ، فللتأكد من هذا الخبر عاد رئيس الجمالين إلى الكويبدة ليستطلع الأمر فهناك تتجمع عادة عيون العشائر ، وفي الليل رجع إلينا مؤكدا صحة الخبر ونصحنا بالعودة إلى القرية ، ولا أعلم مدى أمانة الرجل في

    كلامه. فعدنا في اليوم التالي ونزلنا في العراء خارج القرية ، ثم دعينا للدخول إليها لنكون في مأمن من اللصوص ونضيع أثارنا على جواسيسهم وكأننا غيرنا خطتنا وعدلنا عن السفر ، وفعل القبوجيان مثلنا.
    جدير بالذكر ان القبوجي الأول ، ذاك الذي حمل الخلعة من السردار إلى والي البصرة اسمه سرفانلي إبراهيم آغا ، وقد رافقه قبوجي آخر اسمه محمد آغا كان في خدمة السردار السابق وقد أرسله في مهمات عديدة منها إلى البصرة ثم الاحساء والمناطق المجاورة ، وها هو الآن في طريق عودته.
    في 13 حزيران نشب نقاش حاد مع رئيس الجمالين ، فقد أراد اصطحاب بعض الأعراب بحجة إرشادنا في الطريق ، لكنه في الواقع كان يريد استنزاف المزيد من أموالنا فعارضته بشدة ، لأن الطريق معروف ، أما قوله إنهم سيساعدوننا على قطاع الطرق فكلامه هراء إذ لم يكن لهؤلاء الرجال القدرة على القتال والمقاومة. فطال النقاش حتى هددته بالعودة إلى البصرة والعدول عن السفر ، وهذا يعني بالنسبة إليه إعادة المال الذي استلمه مني. عندئذ رضخ للأمر الواقع أمام عنادي. فغادرنا كويبدة في الليل ومررنا من جديد بالغنيمات. وفي 14 حزيران أكملنا السير إلى منتصف النهار أيضا فنزلنا قرب مياه مرة المذاق. هناك هبت علينا رياح حارة شديدة اقتلعت خيامنا ومزقتها بحث اضطررنا في الليالي التالية إلى النوم في العراء ... وهكذا سارت الأمور في الأيام اللاحقة.
    في 17 حزيران عبرنا جدولا جف ماؤه.
    العرجة
    في 81 حزيران مررنا من بعيد بمنطقة يسكنها الأعراب تقع عن يميننا اسمها «العرجة» يحكمها حسن آغا الكردي (1). هذا الرجل كان قد هرب من
    __________________
    (1) يعقوب سركيس : العرجاء قصبة المنتفق ، مباحث عراقية 2 : 374 ؛ وقد اعتمد الباحث في مقالته عن هذه الفقرة من الرحلة.

    موطنه والتجأ إلى هذه القرية منذ زمن بعيد ، واختلط هناك بالاعراب وتصاهر معهم حتى احتل مكانا مرموقا بينهم. وقد حمل إليه القبوجي إبراهيم خلعة من السردار. لكننا لم نذهب إلى القرية لأنها كانت محاطة بمياه الفيضان ، كما أن الجمالين لم يستحسنوا الذهاب إلى هذه الحاضرة ليتملصوا من تأدية إتاوة جديدة من المؤكد انها تجمع هناك. فضربنا خيامنا حيث وجدنا.
    وبعد ان جزنا العرجة بمسافة ، طلب القبوجي من أحد الغلمان ان يذهب سباحة إلى القرية ليخبر حسن آغا بهدية السردار التي يحملها إليه وانه مستعد للذهاب إليه إن دله على طريق سالك ، وطلب إليه أن يرسل إليه غير واحد من حاملي البنادق لخفره في البر. وهكذا توقفنا ذلك النهار ننتظر الجواب مع الرسول.
    لاحظت في ذلك الموقع وجود أصداف بحرية بعضها كاملة والأخرى متكسرة فاستغربت وجودها لبعد المكان عن البحر ، كما رأيت هناك قطعا من القار متناثرة في تلك الأرض السبخة فأخذت نماذج منها.
    في تلك الليلة توجسنا شرا من هجوم بعض الأعراب الذين يطلق عليهم اسم «المعيدي» وهم رعاة الجاموس. هؤلاء يتجولون في البيداء تارة ويسكنون في البيوت تارة أخرى ، ويختلفون عن البدو ، فالبدو أرقى طبقة بين العرب ، أما أقلهم منزلة فهم الحضر ... فاتقاء لشرهم ابتعدنا عن ذلك المكان نحو ميل ونزلنا في موضع خرب بشكل تل.
    كان الفرس قد زاروا حسن آغا صاحب العرجاء أثناء ثورات بغداد ، وحملوا إليه تاجا (1) مرسلا من الشاه كما هي عادته في الإرسال به إلى ذوي
    __________________
    (1) شرح السائح معنى التاج الفارسي في إحدى رسائله من أصفهان ، قال : «أعد إسماعيل جيشا من التركمان ... سماه قزل باش أي الرأس الأحمر ذلك لأنه ألبس رؤوس هذا الجيش ملبوسا أحمر ... ويسمى هذا الملبوس تاجا هو علامة الجيش ورماة النبال ... ويوافق أحيانا أن يجعل الملك أحد الأجانب قزلباشيّا إظهارا مرضاه عنه وذلك بتشريفه بالتاج ...».

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:13 pm

    الشأن عندما يريد دعوتهم إلى خدمة مصلحته وإعلانهم الوقوف إلى جانبه. فتسلم حسن آغا التاج ، فصار الأتراك من جراء بعض تصرفاته يشكون ـ ولو شكّا ضعيفا ـ في إخلاصه لهم. فنوى أحد البواشية قتله لكنه لم يفعل ، ولعله لم يجد في نفسه المقدرة على ذلك. قرر أن يرسل الهدية التي ذكرتها ليجعله يقوم دائما بما هو مفروض عليه من الخضوع للسلطان.
    آثار المقير (أور)
    لم نرتحل في 19 حزيران إذ بقينا في موضعنا منتظرين رجوع الجواب من حسن آغا. وفي صباح ذلك اليوم ذهبت إلى خرائب الأبنية القديمة التي نزلنا عندها لا تفحصها بعناية أكبر ، فلم أعرف بالضبط أصلها ، لكني وجدتها في حالة جيدة ، وهي مبنية بالآجر المشوي كبير الحجم ، ومعظمها تحمل كتابة وختما في وسطها بحروف غريبة مجهولة تظهر لي قديمة جدا. فأخذت أجرة منها ، ولاحظت أن الآجر ملتصق إلى بعضه في البناء لا بالملاط ولكن بالقار أو الزفت الذي ينبع في تلك السهول كما ذكرت قبل قليل. ويطلق العرب على ذلك التل الخراب اسم «المقير».
    وصل إلينا عند المساء رجلان أوفدهما حسن آغا إلى القبوجي مع مكاتيب منه ، وقد أكد له فيها أنه سيرسل إليه بمؤنة ، ورجع مع مكاتيب منه ، وقد أكد له فيها أنه سيرسل إليه بمؤنة ، ورجع الرجلان إلى سيدهما وهما غير راضين لان القبوجي لم ينفحهما بشيء!.
    صباح العشرين من حزيران عدت إلى الخرائب وطفت حولها فوجدت على الأرض قطعا من الرخام الأسود الصلب ، ناعم الملمس ، حفرت فيه أحرف من نفس الشكل الذي وجدته على الآجر. وهي حسب اعتقادي تستعمل كالختم الذي لا يزال الشرقيون يستعملونه إلى اليوم ، لأن اختامهم هي عبارة عن أحرف أو كلمات محفورة لاسم صاحبها ومعها شعارات تعبر عن التواضع والتقوى ، أو بعض عناوين الشرف ، أو كلمات أخرى حسب رغبة صاحب الختم لأنه يستعملها لشخصه فقط ولا تعمم على أفراد الأسرة كافة كما هي

    العادة عندنا في صنعنا الأختام. ومن بين الأحرف التي رأيتها تكرر في مواضع عديدة ، ثمة أحرف لها صورة الهرم المنبطح والشكل الآخر يشبه نجمة ذات ثمانية رؤوس.
    وصل إلينا في النهار شيء قليل من المؤن التي وعد بها حسن آغا للقبوجي ، ولم يرسل غير ذلك. وقد قيل ان حسن آغا استشاط غضبا لأن القبوجي لم يرسل له هدية السردار التي كان يحملها. أما القبوجي فلم يبال بما قيل ولم يرسل الخلعة لأنه علم ان حسن آغا كان قد قبل تاج الشاه وعقد ميثاقا مع الفرس معلنا عن تحالفه معهم منذ ذلك الحين.
    وقد انطلقنا من هناك مساء خلافا لعادتنا خشية ان يصدر حسن آغا المذكور أمرا ينبىء بخسة أخلاقه ، وسرنا مسرعين إلى منتصف الليل ، ثم استرحنا ساعتين ورحلنا من جديد ...
    في 21 حزيران مررنا بأراض بعضها مغمورة بالمياه كالمستنقعات مليئة بالقصب ؛ وبعضها الآخر بيضاء بسبب السبخة ، وهناك أحطاب متشابكة.
    في 22 حزيران سرنا حتى منتصف النهار ، وبينما نزلنا للاستراحة في موضع تكثر فيه الأعشاب اليابسة ، شبت النار هناك بسبب بعض المدخنين.
    فقد سقطت النار من يد أحد الجمالين الذين يستنشقون السعوط (التتن) حسب عادتهم ، فانتشرت النار في الهشيم وكادت تلتهم أمتعتنا ، فهرعنا إلى إخمادها برمي الأغطية عليها إذ لا وجود للماء هناك ، وما كان معنا في زقاقنا لم يكن كافيا لشربنا.
    انطلقنا من هناك ، وقبل حلول الليل بثلاث ساعات نزلنا في موضع يقال له «إهاثوير» (؟) EHATHUER هناك التقينا بثلاثة رجال راكبين حميرا أخبرونا ان القافلة الكبيرة التي سبقتنا بخروجها من البصرة كانت توقفت فترة طويلة عند الأمير ناصر ، وقد أصابتها المضايقات من قبل رجاله ، فهو لم يكتف بانتزاع كمية كبيرة من المال من المسافرين ، بل أراد تسخير رجالها بالسير في ركابه في حملة أراد أن يشنها على «مشهد الحسين» ضد القزلباشية ، إذ كان الأمير يقف منهم موقف العدو ، وفي ذلك الموقف الذي لا يحسد عليه أحد ،

    لقي رئيس القافلة حتفه ، فخلفه ابنه ..
    في هذه الأيام الأخيرة أي في 23 ـ 25 حزيران كنا نسير وعن يميننا الجوازر (البطائح) وهي أهوار كلدية ، ورأيت في الطريق أشجارا قصيرة نادرة تشبه العرعر.
    في 26 حزيران سرنا مع الفجر حتى بعد منتصف النهار ، فتوقفنا للاستراحة في موضع توجد فيه آبار ، وظهر عن يميننا من بعيد «مشهد علي». في ذلك الموضع قامت في القديم مدينة الكوفة حيث لقي [الامام] علي مصرعه ، ومشهد علي يعني موضع استشهاده. وبالرغم من ان مدينة الكوفة قد زالت لكن الموضع هو محط إكرام المسلمين. بناؤه جيد وجميل ، يؤمه الناس من كل حدب وصوب للزيارة ، وهو آهل بالسكان ، وكان في فترة مرورنا بإدارة القزلباشية ، بينما كان تحت سيطرة الأتراك عندما كانوا يحكمون بغداد.
    في 27 حزيران توقفنا عند منبع ماء يجري في قناة ، لذا لم نرحل في ذلك اليوم. وفي اليوم التالي قطعنا مرحلتين ومررنا بجداول ناضبة عديدة يظهر انها تمتلىء بالماء في فترة من الزمن ثم تجف.
    الأخيضر
    في 29 حزيران ، نهضنا منذ الفجر الباكر وسرنا ولم نتوقف إلى ما قبل منتصف النهار عند ماء يقع بالقرب من بناء عظيم ، قديم العهد ، مشيد بالآجر ، شكله مربع كامل ، له ثلاثة عشر برجا مدورا من كل جانب من الخارج. بعض أقسامه مشيدة على أقواس معقودة ، وغير ذلك.
    في داخل البناء قاعات عديدة وغرف بمنافذ كثيرة ، وفناء غير كبير ، ولا أعلم أهو فناء أم أنه كان معقودا فسقطت عقادته ، لكني لا أرجح ذلك.
    يطلق العرب على هذا البناء اسم «قصر الاخيضر» ولم استطع معرفة أصل البناء : أكان قصرا أم هيكلا أم قعلة؟ لكني أميل إلى الاعتقاد بأنه كان قصرا.
    * * *

    لقد كنا في ذلك الموضع على مسافة نصف نهار سيرا إلى اليمين لنصل إلى «مشهد الحسين» أي موضع استشهاده في أرض كربلاء ، وهو مدفون هناك ، والموضع مأهول بالسكان ، وضريحه مزين وعليه بناء فخم على الطراز الإسلامي ، وهو مكان مقدس يزوره المسلمون.
    عندما مررنا من هناك كانت كربلاء لا تزال تحت حكم القزلباش الفرس ، فقد أخذوها من الأتراك مع أراضي منطقة بغداد بأجمعها ، وهي ليست بعيدة عنها.
    توقفنا هناك ، إذ علينا أن ندفع ضريبة للأمير ناصر بن مهنا شيخ تلك البادية ، وللدقة يجب عليّ أن أقول ان الضريبة تدفع للشيخ أبي طالب نجل الشيخ ناصر ، لأن هذا كان قد طعن في السن واعتكف على الحياة الدينية بعد ان حج إلى مكة فتنازل لابنه المذكور ، وكان كلاهما آنذاك في موضع يقع إلى الشمال الشرقي من محل نزولنا.
    في 30 حزيران ذهب القبوجيان اللذان كانا برفقتنا ، كل على حدة ، ليحملا رسائل وهدايا من السردار السابق الذي مات وقيل مات مسموما ، ولا أعلم أتناول السم بيده ليتخلص من عواقب وخيمة ، أم أن أحدهم دس السم له ، أم أنه اغتيل لتقاعسه في حرب بغداد. فهذا القبوجي الذي يمثله ذهب إلى أماكن عديدة ولم يتمكن من المجيء عند الشيخ قبل اليوم.
    أتى رجال الشيخ لجمع الاتاوة في غياب القبوجيين ، وبعد أن دفعت ما يقع عليّ حسب طلبهم ، وكان المبلغ 12 قرشا على الحملين ، وقرشين أو ثلاثة على سبيل الهدية الشخصية لهم ؛ بالرغم من هذا كله فإنهم فتحوا جميع الصناديق ، ولسرعتهم في التفتيش كسروا بعضها وقلبوا محتوياتها وأخذوا بعض ما فيها لأنفسهم وللشيخ ؛ وأرادوا أخذ بعض الأشياء القيمة ، منها : عمامة فارسية ثمينة من الحرير مطرزة بالذهب ، قطعة من الحرير الناعم منقوشة على شكل مربعات تستعمل لصنع القمصان الفارسية ، بعض الأواني الخزفية الفاخرة الملونة والمطعمة بالذهب ، بندقية خادمي ، كمية من الكاغد الياباني وأخرى من الكاغد الهندي الصقيل وأشياء أخرى عديدة لا تحضرني

    الآن. قالوا انهم سيدفعون لي ثمنها ، أما أنا فكنت أصر على أنها ليست للبيع بل لاستعمالي الخاص.
    ولم يكتفوا بكل ما فعلوا بي ، بل أرغموني على دفع عشرين قرشا إضافيا لصديقهم رئيس الجمالين مدعين بأن هذه هي أوامر الشيخ ، وهو براء من ذلك ، قالوا انها اجرة الدليل الذي أراد اصطحابه من كويبدة والذي لم استأجره أنا ، ولم أتفق معه ، ولم يقدم لي أية خدمة ، لكنهم لم يصغوا إلى احتجاجي ، لا بل لم يدعوا لي مجالا للكلام ، ولو فرضنا اني كنت بحاجة إليه ، لدفعت في أكثر الاحتمالات نصف ما أرغموني على تأديته ، فقد كان معه من الأحمال أكثر مني بكثير وكلها بضائع للتجارة ... يا لها من معاملة خسيسة! خلاصة القول إنهم أرادوا تقديم خدمة لرئيس الجمالين ، فالقروش التي يبتزها مني سيضعها في جيبه ويدفع منها الاتاوات عن نفسه ... ولقد طفح الكأس عندما امتدت أيديهم إلى سيف الست معاني وخنجرها العربي المصنوع من الفضة والذهب ، فزعموا أنه يليق بالشيخ ، فانفجرت غضبا وقررت الذهاب بنفسي إلى الشيخ لأقدم له رسالة توصية كتبها باشا البصرة وأعرض عليه حالتي. فامتطيت بغلا لإبراهيم آغا الذي عاد قبيل قليل وكان غاضبا حقا من معاملة الأعراب لي ولبقية الأشخاص لا بل معه شخصيا. وقبل حلول المساء ذهبت مسرعا وقد رافقني كاتب الشيخ ورئيس الجمالين الماكر ، سبب المشاكل كلها ، لكني لم أظهر له نفوري وامتعاضي ، خوفا من سوء العاقبة ، فوصلنا إلى مواضع الخيام عند المساء.
    * * *
    كانت الخيام سوداء كثيرة متناثرة على الطريق ، ثم رأينا خيمة «أبي طالب» بعيدة قليلا عن خيمة أبيه الشيخ ناصر. ولا فرق بين خيام الأمراء وعامة الشعب إلا بالحجم. فكل الخيام سوداء منسوجة من شعر الماعز.
    لم ندخل الخيمة إذ كانت بعض الأفرشة الصوفية مطروحة أمامها ، وهي بسيطة وملونة ، وكانت نظيفة ، وكان القوم قد جلسوا عليها ، ولم يكن الشيخ هناك عندما وصلنا ، لكنه حضر بعد قليل فنهض الجميع إكراما له ، فجلس في

    وسط الحلقة وعدنا إلى الجلوس في مواضعنا. فوضعوا أمامه منارة عليها سراج ، فقام للصلاة أولا ، وبعد انتهائه من تأديتها شرع بقراءة بعض الرسائل ثم وقّع عليها ، وأصدر أوامره وتعليماته في مختلف الأمور ، ومن بين الرسائل كانت تلك التي حملها محمود آغا وكان لا يزال هناك وقد طلب الإذن للانصراف.
    بعد أن انتهى من كل ذلك نهضت فقدمت له رسالة الباشا ، فسألني الشيخ ان كنت إفرنجيا فأجبت نعم ، ثم شرح رئيس الجمالين سبب قدومي وأبديت رأيي متكلما العربية ، فطلب ان يرى قبعتي من قريب فوضعها أمامه.
    ولما علم بأني أفهم العربية ، أخذ يعتذر عما بدر من رجاله ، لكنه أضاف أنه بحاجة ماسة إلى البندقيات للحرب ، وقد أعجب جدا بالعمامة وطاقة القماش ولذا فإنه سيدفع ثمنها ، فقلت : إني لا أهتم بذلك ، وأقدمهما لك هدية. ثم أمر بإحضار العمامة فنظر إليها مليا وأخذ يقبلها مظهرا أعجابه بها ، بينما كنت أقول له بأنها مستعملة وقد تعممت بها مرات عديدة عندما كنت في بلاد فارس ، لكنه لم يصغ إليّ بل ولج إلى داخل الخيمة حيث كانت النساء يطحنّ القمح بمجارش يدوية لصنع الخبز ... وظهر بعد قليل وقد وضع العمامة على رأسه ، وإذ كان منظره جديدا على الحاضرين فقد أخذوا يصرخون مستحسنين ومرددين بصوت واحد : مبارك مبارك!.
    وبعد أن جلس وضعوا أمامه إناء عميقا من النحاس فيه عنب وماء ، فدعانا للاقتراب منه ، وأخذ يقدم العنب للجميع. كان العنب أخضر اللون ، حلو المذاق وهو من بواكير الموسم الجديد. وبعد أن تناولنا العنب رجعنا إلى أماكننا وجلسنا بعض الوقت ثم استأذنت الشيخ ورجعت مع محمود آغا إلى القافلة ، بينما بقي المكاري وكاتب محمود آغا هناك نزولا عند رغبة الشيخ إذ قال انه سيرسل يوم الغد أوامره معهما بما يخص القبوجي ، وكذلك مشكلتي.
    في الأول من تموز عاد سائس الجمال ليقول لي بأن الشيخ تنازل عن أخذ السيف والخنجر ، وأرسل تسعة وعشرين قرشا كتعويض عن العمامة وطاقة القماش ، وادعى بأنه أنفق خمسة قروش منها : قدم قرشين لمساعد الشيخ ، وثلاثة لأمور أخرى لم يفصح عنها ، فسلمني أربعة وعشرين قرشا لا تساوي ـ

    في الواقع ـ ثلث قيمة الأشياء التي أخذت مني ...
    في الثاني من تموز مضينا في رحلتنا .. وإذا بأعراب تابعين لأخ الشيخ ناصر أوقفونا في الطريق طالبين إتاوة عن الجمال.
    ثم نزلنا عند ماء ورأينا هناك بيوتا للأعراب فاشترينا منهم كمية من اللبن والحليب والعنب ..
    في الثالث من تموز سرنا سيرا حثيثا ، ثم توقفنا عند الظهيرة قرب مستنقع مليء بالقصب تحيطه أرض خضراء ، ووجدنا هناك طيورا مائية فاصطدنا منها ، وهكذا فعلنا في اليومين التاليين.
    في السادس من تموز .. توقفنا أيضا عند مستنقع ، وبالقرب منه بئر ماؤها بارد جدا ، فشربنا وارتوينا .. في هذا اليوم سرنا في أرض مليئة بمعدن أبيض ناصع ، لعله الطلق أو أملاح النطرون ، فأخذت كمية منه.
    في السابع من تموز .. نزلنا في موضع رأيت فيه شجيرات شوكية صغيرة الأوراق بقدر خنصر اليد ، شكلها شبيه بالقلب ، لها ثمرة حمراء مدورة لونها كالعقيق ، حلوة المذاق مع شيء قليل من الحموضة ، في داخلها نوى صغيرة. كانت في الحقيقة لذيذة في تلك الصحراء القاحلة.
    احتفل المسلمون في ذلك اليوم بعد الفطر.
    في الثامن من تموز مررنا بمياه راكدة في أكثر من موضع ، وعندما توقفنا قرب إحدى البرك تذوقنا الماء فكان طعمه كبريتيا غير مستساغ ، وأكثر مياه البادية لها نفس المذاق لكثرة ما فيها من معادن.
    لم نرحل في ذلك اليوم ، إذ كان علينا أن ندفع أتاوة للأمير «مدلج أبو ريش» لأننا دخلنا في الأراضي التي تخضع لسيطرته ، أن الأمير «أبو ريشة» هو أعظم أمراء البادية العربية ، واسمه الخاص كما قلت «مدلج» ، وقد خلف عمه المتوفى فياض الذي كان على قيد الحياة قبل تسعة أعوام عندما سافرت من حلب إلى بغداد. ولم يخلفه أحد أبنائه رغم وجودهم ، بل خلفه ابن أخيه ، ذلك لأن الإمارة كانت لأبي مدلج قبل فياض ، وعند موته كان مدلج صغير

    السن ، فاغتصب فياض الإمارة.
    في تلك الليلة زارنا لصوص ، وإذ لاحظوا استعدادنا للقتال تركونا في الحال وولوا الأدبار ، فتبعناهم قليلا حتى غابوا عن الأنظار.
    انقضى صباح اليوم التالي بعملية حساب الضرائب ودفعها. وقد أديت خمسة عشر قرشا عن حمل ونصف الحمل ، وقرشين عن الجمال كتلك التي أديتها لأخ الأمير فياض ، وبعض الهدايا.
    هنا أيضا فتحوا الصناديق فأخذوا قبعتين من المخمل ، وكمية من الكاغد الجيد ، وبعض الأشياء الأخرى. وأرادوا أن يفتحوا الصندوق الذي كان يضم جثمان الست معاني ، فتدخل القبوجي إبراهيم آغا ملتمسا لا آمرا ، فاستطاع إبعادهم عنه ، وخلصني من شرهم.
    في العاشر من تموز توقفنا في سهل فسيح تحيطه التلال وتنتصب في وسطه صخرة عالية ، وعلى قمتها صخرة أخرى مدورة كأنها حوض نافورة ...
    في الحادية عشر منه قررنا التوقف من أجل إراحة الأباعر التي انهكها التعب ، ولكي نستريح نحن أيضا ونتزود بالماء إذ لن نجد ماء في اليومين التاليين. في ذلك اليوم تركنا القبوجيان عن طريق «عنة» إذ توجها للقاء الصدر الأعظم في ماردين أو حيثما يجدانه. أما نحن الذين كانت وجهتنا حلب فلن نمر ب «عنة» بل نختصر الطريق ونتخلص من الضرائب التي تجبى هناك. وعندما شرعنا بالمسير التحق بنا عدد من الرجال والنساء ، كان الرجال يسيرون على الأقدام بينما النساء راكبات الحمير.
    تركنا طريق «عنة» وهي على يدنا اليمنى وتوغلنا في البادية ، وسرنا دون توقف ذلك النهار وكل الليل ، وقسما من اليوم التالي لكي نصل بأسرع وقت إلى أقرب مكان فيه ماء لأننا كنا بأمس الحاجة إليه نظرا للحر الشديد.
    في الثاني عشر منه ، لم نعثر على ماء في الطريق فاستعملنا ما عندنا منه في القرب ...
    في الثالث عشر من تموز وصلنا عند منتصف النهار إلى نهر الفرات الشهير

    فوق «عنة» وتوقفنا عند تلال مكسوة بالطلق أو بمعدن آخر ناصع البياض. لم نرحل كعادتنا في ذلك المساء ، فقبل الغروب داهمنا فرسان يحملون البنادق والأسلحة المختلفة ، قدموا من قبل سادة «عنة» الذين اطلعوا من القبوجيين على خبر مرورنا بأراضيهم فلحقوا بنا ليستوفوا الإتاوات بأية طريقة كانت رغم أننا لم ندخل المدينة. لقد حاولنا التهرب من دفعها ، وها هم يطالبون بها!.
    لم نرحل في اليوم التالي بل مكثنا هناك لدفع الضرائب ، فأديت ستة قروش فرضت عليّ ، وقرشين كهدية خاصة بهم. وقد ادعى رئيس الجمالين أنه لا يحمل مالا فأديت عنه عشرين قرشا ، وهكذا جازيت شخصا لم أنل منه غير الأذى والضرر ، وبالرغم من ذلك كله فقد فتحوا الصندوقين وقلبوا الأمتعة بفظاظة ، ورغم ما فعلوا فأنا ممتنّ لهم جدا ، لأنهم عندما تقدموا لفتح صندوق جثمان الست معاني توسلت إليهم ألا يفعلوا ثم اضطررت لإخبارهم بمحتواه ورغبتي بدفن جثمان زوجتي في أرض آبائي ، فتراجعوا ورثوا لحالي ، ولم يخلقوا لي مشاكل جديدة مع ان عملي كان مخالفا لشريعتهم وعاداتهم ، فشكرت ربي ألف مرة!.
    مضى قسم من الجنود الذين أتوا من «عنة» ، بينما سار قسم آخر معنا ، إذ كانوا يحملون أموالا إلى الشيخ «مدلج». وعند المساء عاد إليّ رئيس الجند وأمرني أن أفتح صندوقين صغيرين لم يفتحهما في النهار ، فامتثلت لأمره ، ولما استعرض المحتويات أخذ رداء الست معاني وهو زيها العراقي وكان من الحرير ، لونه أزرق غامق ، كما أخذ كرة من العنبر ، وإناء جميل الصنع من الهيصم (1) سلمه إليّ في الهند السيد «أنكونيو باراكو» لأقدمه باسمه هدية إلى السيد «ديل دراكو» في روما ، كما أخذوا بعض الأواني المصنوعة من الخزف
    __________________
    (1) الهيصم «حجر يشاكل الرخام ، إلا أنه أشد بياضا ، يخرط منه كثير من الآنية». صفة جزيرة العرب للهمداني ص 202 نقلا عن : نخب الذخائر في أحوال الجواهر تحقيق الأب الكرملي ، ص 69 ؛ وقد نشر هذا الكتاب الثمين مؤخرا تحقيق محمد بن علي الأكرع ، بغداد 1989.

    الرقيق المطعم بالذهب ، وكتابا عربيا لم يكن مهمّا ، وغطاء واسعا أزرق اللون يستعمل في فارس لاتقاء المطر ، وكمية كبيرة من الورق وما شاكل ذلك ...
    أمضينا الليل هناك ، بينما استعد الجنود للرحيل ، واستطعت قبل انصرافهم أن أسترجع منهم رداء الست معاني وإناء الهيصم مقابل عباءتين اشتريتهما من أحد المسافرين بسبعة قروش ؛ أما الأشياء الأخرى لم أستطع استرجاعها فأخذوها معهم ... وأحمد الله لأنني استطعت ان أخلص سيف الست معاني وخنجرها من أياديهم الخاطفة ، فقد أخفيتهما في أسفل أحد الصندوقين مع أساورها وحليها ، فلا شك أنهم لو رأوها لاختطفوها في الحال.
    في الخامس عشر من تموز سرنا مع الفجر ومضينا حتى الظهيرة ، وبعد استراحة قصيرة قطعنا مرحلة ثانية حتى المساء ، فاسترحنا في موقع غير بعيد عن النهر حيث وجدنا أدغالا كثيفة من شجيرات العرعر.
    في السادس عشر منه قطعنا مرحلة جديدة وتوقفنا بعد الظهر في موضع رأينا فيه ماء فتزودنا منه ...
    أما في السابع عشر منه فقد توقفنا بعد مسيرة منهكة. عند بئر كان ماؤها مرّا كريه الرائحة ، لأن الأرض هناك مليئة بالمعادن والطلق ...
    وهكذا في الأيام التالية انتقلنا من مكان إلى آخر ... ففي اليوم العشرين من تموز انطلقنا منذ الصباح الباكر وسرنا حثيثا حتى الظهر لنتوقف عند بئر عميقة جدا تقع بالقرب من كهوف صغيرة منقورة في الحجر الأبيض. أما في مرحلة المساء فقد سرنا بين سهول ووهاد ...
    في الحادي والعشرين من تموز عبرنا أخدودا عريضا في الأرض كان مجرى ماء في وقت مضى ، ثم مررنا بحصن متهدم يسمى «الحير» كنت قد مررت به سابقا في رحلتي من حلب إلى بغداد لكني لم أره جيدا في ذلك الحين إذ كان نزولنا بالقرب منه ليلا.
    إنه بناء عظيم مشيد بحجر أبيض ، أي بقطع كبيرة الحجم من الرخام الأبيض ، وهو مربع الشكل ، تحيطه أسوار تتخللها أبراج مدورة صغيرة. في

    داخله بقايا بناء ضخم مشيد بأجمعه بنفس الرخام الأبيض. ونظرا للخراب الذي أصابه فليس بمقدوري معرفة ما كان عليه في السابق.
    بعد أن تركنا هذا الموقع سرنا ساعات أخرى ، وعند المساء وصلنا إلى «طيبة» وهي بلدة مأهولة بالسكان ، سبق لي أن زرتها ، فنزلت قريبا من باب المدينة ... وغادرناها في الثالث والعشرين من تموز ... ورافقنا أعرابي ليوصلنا إلى الأمير «مدلج» الذي كان في «حماه» آنذاك.


    الرسالة الثانية عشرة
    من قبرص في 6 أيلول 1625
    ... من الأخبار المعاصرة الجديدة بالذكر : ان السلطان مصطفى أخ السلطان أحمد المتوفى الذي كان حيّا في فترة مروري باسطنبول ، أنزل عن العرش بسبب جنونه ... أما عثمان ذلك الأمير ، الغريب الأطوار ، فقد فكر يوما باعداد حملة على روما ... وقد قتله وزراؤه ... أما السلطان الحالي فهو مراد بن أحمد.
    إن الصدر الأعظم حاليّا هو حافظ أحمد باشا ، وقد كان واليا على ديار بكر عندما دعي للصدارة وكلف لاعداد حملة على الفرس ، فشرع يعد العدة للحرب ، ولا أعتقد انها تبدأ في هذه السنة.
    في الثاني والعشرين من آب زارني في بيت القنصل المطران ايشوعياب السرياني النسطوري أسقف ميافارقين (1) بعد أن بلغه خبر وصولي من الآباء الفرنسيسكان ، وكان صديقا حميما للأب تومازو دي نوفارا (2) ، الذي لعب دورا مهما في تطوير العلاقات بين طائفته والكنيسة الكاثوليكية ، وأخبرني المطران أنه يشتاق كثيرا لزيارة روما ، وكاد ان يقدم نفسه لمرافقتي ، لكني كنت قد قررت الرحيل في اليوم التالي ، ولم تكن معه رسائل من البطريرك رئيس كنيسته تفوضه لمهمة ما ، وزعم انه بانتظار وصولها ... لكني فهمت من الآخرين أن لا أمل له بالحصول على رسائل كهذه ، وأن شوقه لزيارة روما لا لشيء إلا على أمل الحصول على بعض المساعدات ، ولذا قلت له أن يتريث
    __________________
    (1) تقع في الشمال الشرقي من مدينة ديار بكر (آمد) وكانت مدينة عامرة ولا تزال قائمة ، ذكرها الحموي : معجم البلدان 5 : 235 سكنها المسيحيون من مختلف طوائفهم ولا أثر لهم اليوم بعد أحداث الحرب العالمية الأولى. لم يكن فيها أسقف بهذا الاسم في ذلك العهد ، لكننا نجد اسم ايشو عياب كأسقف على سعرد ورد ذكره في المخطوط رقم 34 من مخطوطات مطرانية سعرد (فهرس شير : ص 24).
    (2) انظر الملحق (10).

    ولا يرحل بدون رسائل فاقتنع بعد لأي بكلامي. ثم طلب مني أن اصطحب رجلين من طائفته اسمهما عبد يشوع وهندي كانا يتمنيان كثيرا زيارة روما فقبلتهما .. وأضفت : ان بيتي في روما مفتوح لاستقباله ، وأنا شخصيا مستعد لتقديم أية خدمة يحتاجها إذ تربطني بطائفته روابط عزيزة جدا من جهة زوجتي المحبوبة الست معاني.
    * * *
    أردت قبل الرحيل زيارة كنائس الشرقيين في محلة «الجديدة» (1) ، فرأيت كنيستين للأرمن ، أقيمت الكبيرة منهما على اسم الشهداء الأربعين ، والثانية على اسم العذراء ، مريم. وكنيسة الروم ، وكنيسة صغيرة للموارنة شيدت على اسم مار ايليا ... ورأيت في موقع أبعد كنيسة السريان اليعاقبة وهي على اسم السيدة مريم ... وزرت البطريرك «هدى» (2) ... فأطلعني على نسختين جميلتين للإنجيل الشريف مكتوبين على الرقّ ، وكانتا بحجم كبير وبخط سرياني رائع جدا ؛ يرجع عهد النسخة الأولى إلى أربعمائة سنة ، وكانت الكتابة بماء الذهب والفضة ، وقد عثر على هذه النسخة جنود أتراك في قبرص عندما احتلوا الجزيرة فحملوها إلى اسطنبول فاشتراها بعضهم. في الحقيقة لا يمكن أن تكون هناك كتابة أجمل من هذه ، وهي غنية بماء الذهب والمنمنمات وكان غلافها من المخمل المزين بالفضة المذهبة ، لكن هذا الغلاف جديد ، لأن الغلاف الأصلي سرقه الجنود إذ كان ثمينا.
    أما النسخة الثانية فكانت أقدم من الأولى إذ ترجع إلى أربعمائة وخمسين سنة ، لكن كتابتها عادية وصورها قليلة ، ومصدر هذه النسخة من قبرص أيضا. وقد افتديت بمائتي قرش.
    __________________
    (1) كانت هذه المحلة في ذلك العهد خارج حلب وغالبية سكانها نصارى أو إفرنج الذين لم يسمح لهم الإقامة داخل المدينة والبناء فيها.
    (2) هو البطريرك أغناطيوس بطرس هدايا (1597 ـ 1639) انظر : بطرس نصري : ذخيرة الأذهان في تاريخ المشارقة والمغاربة السريان 2 : 213.


    [وصل السائح أخيرا إلى إيطاليا فتوقف بعض الوقت في نابولي عند صديقه الأديب ماريو سكيبانو الذي وجه إليه الرسائل طيلة الرحلة ، ثم رحل إلى روما فدخلها يوم 28 آذار 1626 وصف ذلك في رسالته السابعة عشرة].

    الرسالة الثامنة عشرة (1)
    روما في 1 آب 1626
    ... في الخامس والعشرين من تموز قررت أن أواري الثرى جثمان زوجتي الست معاني جويريدة الذي رافقني في سفراتي العديدة خلال السنوات الماضية ، وذلك في ضريح أسرة ديللافاليه في مصلى القديس بولس في كنيسة «أراجيلي» في منطقة الكمبيدوليو بروما.
    أمرت بإعداد صندوق من الرصاص وضعت داخله صندوق الجثمان ... ثم سمّرته جيدا ... ووضعت عليه كتابة باللاتينية باسم المتوفاة.
    وبعد ان حصلت على موافقات الجهات الرسمية ، أخبرت كاهن الكنيسة المسؤول ، وسار الموكب الحزين بعد منتصف الليل ، بينما ذهبت أنا إلى باب الكنيسة أنتظره ، فدخلنا إلى المصلى ونزلت إلى القبر لأقدم آخر خدمة لسيدتي العزيزة وأضع بيدي الصندوق قرب أبي وأمي وأعمامي. ثم أغلق الضريح جيدا وأعيد بناء الغطاء. وهكذا أديت آخر خدمة لزوجتي الحلوة الست معاني وأقمت الصلاة على روحها الطاهرة.
    ـ (انتهى) ـ
    __________________
    (1) تحدث الرحالة في الرسائل السابقة عن وصوله إلى روما والتقائه بأهله وأصدقائه ، وهي أخبار لا تهم القارىء لذلك أهملناها.


    ملاحق الكتاب
    الملحق رقم (1) للحاشية رقم (7)
    أبو الريش
    ذكر السائح أكثر من مرة اسم «فياض» فدعاه ملكا أو أميرا أو أعظم سادة العرب في البادية العربية ، وشبهه بالسيد الإقطاعي في أوروبا ، وقال إن منطقة نفوذه تمتد في مفاوز البادية بين حلب وبغداد ومعظم ما بين النهرين ، وقاعدة حكمه في مدينة «عنة» ، وطاعته للحكومة العثمانية ـ حسب تعبير السائح ـ ظاهرية واسمية. ولقبه «أبو الريش» وهو لقب أسرته.
    قال عنه انه اغتصب الإمارة من أخيه ، فلما توفي عادت إلى ابن أخيه مدلج (ذكره لونكريك باسم مطلق : أربعة قرون ص 79 و 91). وقال عنه السائح أنه كان أمل البصرة في شدتها يوم حاصرها الفرس. وقد خلع مدلج هذا من قبل خسرو باشا ، وأعطيت الإمارة إلى سعد بن فياض على قول لونكريك (ص 91) أو سعيد (مباحث عراقية 2 : 341 في الهامش نقلا عن تاريخ نعيما) وذكر انه مات بسقوطه عن فرسه عام 1040 ه‍.
    قال الأمير حيدر الشهابي في حوادث 1029 ه‍ / 1619 م في هذه السنة توفي الأمير فياض ، وأخذ منصبه ابنه حسين ، ولكن الأمير مدلج ابن أخ فياض نازعه عليه ، فأخذه منه. وقال في حوادث 1033 ه‍ / 1623 م في هذه السنة تقاتل أمراء طيّئ فيما بينهم ، وهم الأمير مدلج وابن عمه الأمير حسين ...
    وللسيد فرحان أحمد سعيد مقالة شائقة في مجلة التراث الشعبي (بغداد) 10 (1979) العدد 9 ص 72 ـ 104 بعنوان : مشهد أبي ريشة ، قال فيها : «إن



    آل أبو ريشة هؤلاء هم أحفاد أمراء آل ربيعة الطائيين ...» (ص 81) أما عن كنيتهم فقال : «لأن أمراء ربيعة كانوا يضعون ريشة من الذهب في مقدمة عمائمهم تقليدا لأحد أجدادهم ملك العرب عيسى بن مهنا الذي اشترك مع قبيلته في وقعة الملك المنصور قلاوون ضد التتار بحمص سنة 680 ه‍ / 1281 م. فأهدى له عبيدا ومماليك وألبسه الريشة رمزا للاعتزاز والفخار» (ص 81) العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 243 ـ 245.
    * * *
    الملحق رقم (2) للحاشية رقم (38)
    موالي الحويزة العرب
    أظهر السائح اهتماما خاصا بمنطقة الحويزة العربية فكان يتتبع أخبارها. وقد ذكر أكثر من مرة في القسم الأول من رحلته اسم «مبارك» وقال عنه إنه كان مواليا للفرس اتقاء لشرهم. ومبارك هذا هو بن عبد المطلب بن حيدر بن محسن.
    بعد موته تولى شؤون الإمارة ابنه الكبير «ناصر» لمدة سنة تقريبا ومات مسموما بيد راشد ، وكان رجلا شجاعا ، لكنه أثار الفتن في منطقته ، ثم فر إلى الشاه ، وعاد لمحاربة البصرة ومات في الحرب. فتولى الإمارة من بعده «سلامة» لمدة قصيرة (ولم يذكر المؤرخون الذين رجعت إليهم اسم سلامة إلا يعقوب سركيس في مباحثه نقلا عن ديللافاليه). ثم تنازل لأخ مبارك الأصغر واسمه «منصور» وقد رفض منصور الخضوع للشاه الفارسي فأوعز هذا إلى خان شيراز ان يحاربه ويقضي عليه ، فاضطر إلى الفرار والتجأ إلى البصرة ، فوضع الفرس محمد بن راشد مبارك أميرا على الحويزة (1625).
    هذا ما جاء في الرحلة عن أمراء الحويزة .. بينما نقرأ في كتاب السيد جاسم حسن شبر : تاريخ المشعشعين وتراجم أعلامهم ، النجف 1385 ه‍ / 1965 م بعض الاختلافات :

    فبعد موت مبارك (1025 ه‍) تولى الإمارة ولده ناصر (ص 113) لأشهر قليلة ومات مسموما وقيل إن الذي سمه هو ابن عمه السيد راشد (ص 166) وأضاف المؤلف : أن السيد ناصر بن مبارك تزوج بعقيلة الملك شاه عباس الصفوي وصار من المقربين عنده ، بينما قال السائح : «إنه كان صهر الملك ... إذ تزوج بأخته».
    وجاء في كتاب «تحفة الأزهار» أن مباركا كان أرسل ابنه ناصرا رهينة عند الشاه وعاد في مرض أبيه «وتوفى بعد مدة سبعة أيام فقد مات مسموما سمه راشد بن سالم بن مطلب» (نقلا عن مباحث عراقية 2 : 385 في الهامش).
    انظر أيضا :
    د. عبد المجيد إسماعيل : عربستان عبر التاريخ. آفاق عربية 6 (1980) العدد 3 ـ 4 ص 189.
    د. محمد حسين الزبيدي : إمارة المشعشعين أقدم إمارة عربية في عربستان ، آفاق عربية 7 (1981) العدد 1 ص 62 ـ 70.
    علي نعمة الحلو : الأحواز ، بغداد 1969 ج ـ 2 : ص 182 ـ 197.
    * * *
    الملحق رقم (3) للحاشية رقم (40)
    جغالة زادة
    إن محمود باشا مؤسس «المحمودية» هو ابن سنان باشا جغالة زادة باني الخان المعروف باسمه في بغداد «خان جغان» تحريفا لاسمه جغالة ، أو بالأحرى لقب أسرته (جيكالا) الإيطالية الاسم ، ويلفظها البعض زيكالا (كما في معلمة الإسلام 1 : 87 نقلا عن مباحث عراقية 2 : 186 في الهامش) ذكره الرحالة بلفظه الإيطالي وفسر معناه وهو الصرصر (انظر أيضا فون هامر 8 : 88) وسرد الرحالة شيئا عن حياة الأب ونشاطاته منذ أن أسره العثمانيون (انظر أيضا فون هامر 8 : 400) إذ أضاف معلومات أخرى عن أسرة جيكالا مكذبا الخبر

    القائل بأنه هرب من الأتراك وعاد إلى أوروبا سنة 1658 ليعيش هناك.
    أما محمود باشا فقد ذكره ديللافاليه مرارا ، وقال إنه تزوج بأخت السلطان (الرحلة 1 : 118 و 614) ويؤيده فون هامر (8 : 178) وأضاف السائح ان محمودا كان أحد العاملين على إزاحة نصوح باشا من منصبه أي الصدارة العظمى ، إذ حمل إلى السلطان رسائل تشير إلى علاقة نصوح بالفرس (الرحلة 1 : 57) وذكر ذلك فون هامر أيضا (8 : 211) نقلا عن كاتب معاصر كان في اسطنبول في تلك السنة.
    العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين 4 : 126 ـ 127.
    * * *
    الملحق رقم (4) للحاشية (رقم 60)
    ناصر بن مهنا
    ناصر بن مهنا ، أو ناصر المهنا رئيس آل قشعم ، العشيرة المعروفة. سماه صاحب الرحلة «أمير البادية» وقال عنه انه : «حاكم مشهد الحسين والمنطقة المنحصرة بين الحلة والبصرة». وقال عن ميوله السياسية في رسالته الأولى من بغداد 1616 إنه وقف إلى جانب الحكومة ومد لها يد العون في الحرب. لكنه بعد سنوات أصبح من الموالين للفرس ، وقال السائح عنه سنة 1625 : «انه كان من العاملين المهمين على سقوط بغداد بيد الفرس».
    كان ندّا قويّا لأمراء «أبو الريش» وقاتلهم. ثم تصالح ابن مهنا وعاد إلى طاعة السلطان وأظهر الولاء لوالي بغداد.
    ذكر ابن مهنا قبل ديللافاليه السائح تكسيرا سنة 1604 فنعته «بملك العرب» ، وقال أنه سيد المشهدين كربلاء والنجف وهو من الموالين للأتراك.
    وعلق على هذا الكلام الباحث يعقوب سركيس (مباحث 2 : 336 في الهامش) بقوله : «ولا شك في أن ناصرا لم يكن حاكما لهاتين المدينتين إنما كان شيخا عظيما له سطوة عليهما».

    في شيخوخته سلم الزعامة إلى ابنه المكنى بأبي طالب.
    يفهم من الرحلة انه كان يستوفي الإتاوات من المسافرين ويضيق عليهم الخناق.
    * * *
    الملحق رقم (5) للحاشية (رقم 84)
    أسرة جويريدة
    نظرا لعلاقة السائح بهذه الأسرة لذا نذكر بعض أخبارها كما وردت في رسائله والتي لم ندخلها ضمن الترجمة العربية.
    كان رب الأسرة حبيب جان من ماردين ، ينتمي إلى الطائفة الكلدانية ، هاجر إلى بغداد نحو سنة 1598 م ، وتزوج من الأرمنية مريم من ديار بكر قبل قدومه إلى بغداد ، ورزق بثلاثة بنين وخمس بنات كما يفهم من نص الرحلة. وبعد أن أعطى ابنته الكبرى معاني للسائح الإيطالي رحل إلى إيران بترغيب من ديللافاليه ، لكن الحياة لم ترق له هناك فعاد إلى بغداد (2 : 221) وتوفي فيها سنة 1622 (2 : 349).
    لقد أحب السائح الفتاة البغدادية وأطنب في مدحها ، لكنها لم تكن كذلك في نظر غيره! فبعد أربع وأربعين سنة من وفاتها ألحق ناشر كتاب الأب رفائيل الكبوشي من أهل مانس رسالة كتبها ديلاند من أصفهان بتاريخ 15 شباط 1665 مادحا ديللافاليه ، مضيفا : «لكنه لم يصب ـ ديللافاليه ـ في ما رواه بخصوص معانيه ، التي لا تزال لها أخت في شيراز». انظر :
    L'Estat de la Perse en 0661 Par Le P. Raphael de Mans ... publ. par Ch. Scheffer, Paris 0981.
    كتب ذلك بعد ان نشر ديللافاليه رحلته للمرة الأولى.
    يعقوب سركيس : جويريدة أسرة شرقية ، مجلة النور البغدادية 1 (1950) عدد 9 ص 9 ـ 10.

    أما أخوات معاني فهن حسب أعمارهن : راحيل ولآلي (أو لعلي والنسبة إلى العلل وهو حجر كريم) كيولاغا ، أسميخان. كانت راحيل قد أصيبت بالجدري فتشوه وجهها (2 : 4) رحلت إلى إيران ثم عادت إلى بغداد حيث توفيت (2 : 220) تزوجت لالي سنة 1619 من خواجا استوازاتور أي عطا لله (2 : 848 ؛ وسماه سركيس زادور في المرجع المذكور في المتن والهامش). كيولاغا كان عمرها نحو 8 ـ 9 سنوات عام 1619 (2 : 3) وهي فتاة جميلة توفيت في خانقين سنة 1622 في طريق العودة من إيران إلى بغداد (2 : 349) وأخيرا أسميخان الوحيدة التي عاشت طويلا فذكرها الرحالة سبستياني سنة 1656 (الأب د. بطرس حداد : رحلات سبستياني إلى العراق ، وذكرها المعجم الفارسي الإيطالي اللاتيني الفرنسي للأب انجلو الكرملي إذ قال : «في سنة 1667 حلت نكبة بدار أسميخان في شيراز وقد خربت برجمها رجما مستمرا ...».
    Gazophylacium linguae Persarsum Tripli linguarum ltalicae, Latinae, Gallicae ... authoe P. Angelo A. S. Joseph Carm., Amestelo ـ dami, 4961.
    وقد اتخذت ـ خاصة مع الأجانب ـ اسم ماريا روزا ، وكانت على قيد الحياة سنة 1675 ، تزوجت وترملت وكانت تريد الذهاب إلى روما ، انظر :
    A Chronicle of Carmelites, op. cit., P. 244.
    أما أبناء حبيب جان فهم : عبد الله وعبد المسيح وعطائي. تزوج الأول من فريخان جويريدة (2 : 3) ورزق بأربعة صبيان : بطرس وحنا وجرجيس ويوسف ، سافر مع ديللافاليه إلى إيران وشجع أسرته على الهجرة (2 : 2). أما عبد المسيح فكان جنديا في خدمة بكر صوباشي (2 : 159) رحل إلى إيران لرؤية أهله (2 : 157) ثم عاد (2 : 22) والصغير عطائي أو عطا لله سمي باسم جده.
    ذكر الرحالة سبستياني بطرس بن عبد الله سنة 1656 وكان ترجمانا للهولنديين في البصرة.

    ذكر تاريخ الكرمليين (1 : 614) وجود نصب لقبر حبيب جويريدة المتوفى في 12 تموز 1972 فهو حفيد والد معاني (وفي التاريخ المذكور صورة للنصب والكتابة باللاتينية) وذكر الكتاب نفسه (ص 344 ، 356 ، 387 ـ 388) اسم قسيس من هذه الأسرة اسمه فرديناند جويريدة ، درس في الكلية الأوربانية في روما ، وعين ترجمانا لمطران بغداد اللاتيني السيد برنارد سنة 1639 ، ثم أوفده البابا إلى الشاه سنة 1642 وبعد سنوات أوفده لزيارة بطريرك المشارقة ومات غرقا سنة 1653.
    وورد أخيرا ذكر لقسيس باسم «جويريدة الفارسي» مجردا وذلك سنة 1658 ، انظر :
    " A. Lampart" Ein Martyrer der Union mit Rom, Joseph l, p. 52.
    ولعل اسم العائلة تصغير لكلمة جرادة التي تعري الأشجار من أوراقها والأرض من نباتها ، لذا يقال في بغداد عن المنحوس جويريد الذي لا يحل في مكان إلا أصاب نحسه أهل ذلك المكان والعياذ بالله. انظر : عبود الشالجي : موسوعة الكنايات العامية البغدادية ، بيروت 1982 ، 1 : 533.
    * * *
    الملحق رقم (6) للحاشية (رقم 90)
    الأحجار الكريمة
    ذكر السائح أسماء بعض الأحجار الكريمة التي كانت مستعملة في بغداد ، وللدقة نذكرها في الجدول التالي بالإيطالية وإلى جانبها ترجمتها العربية :
    العقيق البجادي Granate اللؤلؤ Perle
    النفش Giacinti الياقوت Rubini
    العنبر (الشيح) Ambra الفيروز Turchine
    الزمرد Smeraldi البلخش Balasci
    البلور النقي .Cristalle


    وقد استفدنا بنوع خاص من كتاب : نخب الذخائر في أحوال الجواهر تأليف محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري السنجاري المعروف بابن الأكفاني ، تحقيق الأب انستاس ماري الكرملي. القاهرة ـ 1939.
    * * *
    الملحق رقم (7) للحاشية رقم (98 و 103)
    العطاريات والعقاقير
    بحث السائح عن بعض العطاريات والعقاقير الموجودة آنذاك في أسواق بغداد تلبية لطلب أصدقائه فذكر اسماءها ، فضلنا إيرادها بالإيطالية إلى جانب ترجمتنا لها ، لأننا لاحظنا اختلافا في التسمية والترجمة من معجم إلى آخر ، وهذه هي :
    1 ـ القافلة amomo
    2 ـ الراوند reobarbaro
    3 ـ الرند nafdo
    4 ـ القرفة cinnamomo
    5 ـ الدارصيني cannella
    6 ـ القسط costo
    1 ـ قيل القاقلة أو الهال أي الهيل (الشهابي) وقيل حماما وجهان.
    2 ـ الراوند (الروند والريوند) قيل إن أصل الشجرة من الصين ، وقيل أصل الرمان الهندي فارسية رواند وهو أصل الريباس وهو صيني وخراساني (ادي شير : الألفاظ الفارسية المعربة ، بيروت 1908 ص 75).
    3 ـ الرند : شجر طيب الرائحة من شجر البادية ؛ وقيل هو الآس ، وقيل الغار ، وقد قيل هو العود الذي يتبخر به ... ويقرب منه النردين وهو السنبل الرومي (ادي شير : المرجع نفسه ص 37). ترجمة الشهابي ناردين وسنبل

    الطيب ، وكذلك بديغيان ؛ الرازي ، أبو بكر محمد بن زكريا : المنصوري في الطب ، تحقيق د. حازم البكري الصديقي ، الكويت 1987.
    4 ـ القرفة أو الكافور وهو شجر من الفصيلة الغارية (الشهابي).
    5 ـ تتفق المراجع على كلمة دارصيني.
    6 ـ قيل السقط وهي يونانية معربة ، من النباتات العطرية المركبة.
    ذكر السائح أيضا أسماء عطاريات أخرى بلفظها العربي كما سمعها من الناس في بغداد ، وهي المسك ، السنبل الخطوي ، السنبل ، عين الحمام ، الديرم ، قصبة الذريرة.
    * * *
    الملحق رقم (Cool للحاشية (رقم 100)
    حجر الفتيلة وغيرها
    قال ياقوت الحموي (معجم البلدان 1 : 529) في مادة بذخشان «وحجر الفتيلة شيء يشبه البردي ... لا تحرقه النار ، يوضع في الدهن ثم يشتعل في النار ، فيتقد كما تتقد الفتيلة ، فإذا اشتعل الدهن ، بقي على ما كان ، لم يتغير شيء من صفته».
    وقد سماه العراقيون في العصر العباسي مخاط الشيطان وغزل السعالي. وهذا تعليق الأب الكرملي في : نخب الذخائر ص 123 ـ 125.
    ذكر الرحالة أيضا : البورق ، النطرون ، ملح النطرون ، الطلق ، الهيصم وقد علقنا عليها في محلها.
    * * *

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Empty
    مُساهمةموضوع: رد: رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر   رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر Emptyالجمعة أكتوبر 18, 2024 5:14 pm

    الملحق رقم (9) للحاشية (رقم 110)
    التقويم القديم
    التقويم القديم ويسمى «اليولي» نسبة إلى يوليوس قيصر الذي أمر بالعمل به سنة 45 ق. م وكان سائدا في الغرب والشرق ، إلى أن أصلحه البابا غريغوريوس الثالث عشر (1572 ـ 1585) فعرف باسم «الغريغوري» ، وعند اعلانه للتقويم الجديد يوم 5 تشرين الأول 1582 اعتبر ذلك اليوم 15 من الشهر ذاته تلافيا للخطأ في التقويم ، فحصل الفرق بين التقويمين.
    وانتشر التقويم الجديد في العالم بعد ان تبنته الدول ومعظم الكنائس في حساب أعيادها واحتفالاتها ، لكن بعض كنائس الشرق لا تزال إلى اليوم تعمل بموجب التقويم القديم.
    * * *
    الملحق رقم (10) لحاشية (رقم 181)
    الأب تومازو أوبيجيني Tomaso da Novara Obicini
    إنه من مدينة نوفارا بإيطاليا ، من رهبنة القديس فرنسيس. عاش مدة طويلة في الشرق. منطلقا من حلب إلى القدس الشريف. له جهود في الحقل الديني بين كنائس الشرق. أرسله البابا بولس الخامس بمهمة خاصة إلى مار ايليا بطريرك الكنيسة الشرقية وحضر مجمعا لهذه الطائفة انعقد في ديار بكر سنة 1616.
    S. Giamil, Geuinae Relationes ... p. 241.
    كان ملما بالعربية إضافة إلى معرفته بلغات شرقية أخرى كالسريانية ، انظر :
    G. Graf, Geschiche der christlichem arabischen Literatue, 4" 471.
    وكان على علاقة بالسيد ديللافاليه ، لذلك كتب إليه السائح من بغداد طالبا منه شرح بعض الكلمات العربية ، منها : سلطان ، ذمي ، بين النهرين ، معاني جويريدة ... إلخ.

    وطلب منه نبذة عن النساطرة والكلدان فقد شرع يهتم كثيرا بهذه الأمور بعد ان اقترن بشابة من هذه الطائفة.
    إن رسالة ديللافاليه مفقودة ، لكن رد الأب تومازو محفوظ ، وتاريخه 10 كانون الثاني 1618 ووجهه من القدس الشريف ، وقد نشر في مجلة الدراسات الشرقية الإيطالية ، المجلد 28 (1953) ص 118 ـ 129.
    " Arn. van Lantschot" Letter inedite de Thomas Obicini a Pietro della Valle, R. S. O., 82 (3591) pp. 811 ـ 921.
    وفي الرسالة نبذة عن الكنيسة الشرقية مع رد على أسئلة السائح. وقد أضاف الناشر صورة السيدة معاني وختمها.
    يتألف الختم من دائرتين ، في الدائرة الصغرى في الوسط ، بالحرف الكلداني : «أمة الله معاني». وفي الدائرة الكبرى بالعربية الكلمات التالية : «اسم الأشرف الأرفع الأعلى الست معاني بنت السيد حبيب جان المارديني من بيت جويريدة الأصيل في الجزيرة البلد القديم».
    (ـ انتهت الملاحق) ـ

    فهرس المحتويات
    1 ـ فهرس المراجع 171
    2 ـ فهرس الأعلام 173
    3 ـ فهرس الأمكنة 179
    4 ـ فهرس الأمم والشعوب والقبائل والجماعات والأديان والملل والمذاهب 185
    5 ـ فهرس عام 187
    6 ـ فهرس المحتويات 191



    فهرس المراجع
    الأكفاني ، محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري : نخب الذخائر في أحوال الجواهر. نشره وحققه الأب أنستاس ماري الكرملي ، القاهرة ، 1939.
    بديغيان ، أرميناك : المعجم المصور لأسماء النباتات ، القاهرة.
    الحجية ، عزيز جاسم : بغداديات ، الجزء الثالث ، بغداد ـ 1973 والأجزاء الأخرى.
    حداد ، الأب د. بطرس : كنائس بغداد عبر التاريخ ، مجلة بين النهرين ، العددان 31 ـ 32 ، بغداد ـ 1980.
    حداد ، الأب د. بطرس : كنائس بغداد ودياراتها ، بغداد ـ 1994.
    الحلو ، علي نعمة : الأحواز ج ـ 2 ، بغداد 1969.
    الحموي ، ياقوت : معجم البلدان (ط. ويستنفيل).
    دوزي ، رينهارت : المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب ، ترجمة د. أكرم فاضل ، بغداد ـ 1971.
    سركيس ، يعقوب : مباحث عراقية ، ج ـ 1 ، بغداد 1948 ، ج ـ 2 ، بغداد 1955.
    سعيد ، فرحان أحمد : تاريخ الحديثة ، بغداد 1989.
    سعيد ، فرحان أحمد : مشهد أبي ريشة ، مجلة التراث الشعبي ، 10 (1979) ، 9 ص 72 ـ 104.
    شبر ، جاسم حسن : تاريخ المشعشعين وتراجم أعلامهم ، النجف 1965.

    الشهابي : معجم الشهابي في مصطلحات العلوم الزراعية ، بيروت 1978.
    عبد المجيد إسماعيل : عربستان عبر التاريخ ، مجلة آفاق عربية 6 (1980) العدد 3 و 4.
    العزاوي ، عباس : تاريخ العراق بين احتلالين ، ج ـ 4 ، تاريخ النقود العراقية ، بغداد 1958.
    العقيقي ، نجيب : المستشرقون 3 أجزاء ، القاهرة 64 ـ 1965.
    عواد ، كوركيس : المعرب من كتب الرحلات الأجنبية إلى العراق ، مجلة الأقلام 1 (1964) العدد 1 ، ص 54 ـ 74.
    الكرملي ، الأب انستاس : النقود العربية وعلم النميات ، القاهرة 1939.
    الكعبي : زاد المسافر ولهنة المقيم والحاضر ، بغداد 1958.
    لونكريك ، ستيفن همسلي : أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، ترجمة جعفر خياط ، ط ـ 4 ، بغداد 1968.
    نصري ، الأب بطرس : ذخيرة الأذهان في تاريخ المشارقة والمغاربة السريان ، الموصل.
    A Chronicle of the Carmelites in Persia, London 9391.
    Hammer, Histoire de L'Empire ottoman, Paris 7381.
    مراجع خاصة عن الرحالة
    Bausani, A., Pietro della Valle, Enc. Cattolica, lV (0591) Col. 3481.
    Costa, P., lntroduzione a Pirtro della valle, Baghdad 7691. Hammer, Histoire de L'Empire Ottoman Paris 7381, vol. Vlll, lx.

    فهرس الأعلام
    إبراهيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 58
    إبراهيم أغا 145
    إبراهيم الحلبي 48
    إبراهيم شاهيتا 22
    إبراهيم القبوجي 140 ، 145
    ابن الأكفاني 29
    ابن خالد (شيخ) 137
    ابن خرداذبه 63
    ابن داريوس 54
    ابن سينا 86
    أبو ريشة (شيخ) 32 ، 132 ، 157
    أبو طالب (شيخ) 144 ، 145 ، 162
    أبو الفداء 83
    أحشويرش 54
    أحمد الأسود 133 ، 134
    أحمد بك (قزلرباط) 93
    أحمد الثاني (سلطان) 9 ، 152
    أحمد بن الحسين 85
    أحمد سوسة 49 أدي شير 63
    أربينو (مستشرق) 102
    الإسكندر الكبير 54
    إسماعيل (عليه‌السلام) 66
    إسماعيل (شاه) 71 ، 107 ، 140
    أسميخان 102 ، 105 ، 163
    الإصطخري 63
    أغناطيوس بطرس 153
    أغناطيوس دي لويولا 59
    أغوسطوس 55
    أفراسياب 122 ، 124
    أكاثياس (مؤرخ) 36 ، 63
    أكرم فاضل 29
    ألبير أبونا 63
    إمام قلي خان (حاكم) 98 ، 122 ، 123
    أنجلو الكرملي 163
    أندريا السندري البندقي 22



    أنستاس الكرملي 29 ، 44 ، 64 ، 79 ، 165
    أنكونيو باراكو 149
    أوجينيا 135
    أورسينو الدومينيكي 136
    أوغسطين (قديس) 119
    أوفيد (شاعر) 20
    إيشوعياب (مطران) 152
    إيليا (بطريرك) 167
    بابا روما 90
    بابا ملكي 108
    باسيل (كرملي) 120 ، 121 ، 129 ، 136
    بترارك (شاعر) 42
    برصباعي (بطريرك) 63
    بطرس (قديس) 90 ، 102
    بطرس حداد 163
    بطرس بن عبد الله 163
    بطرس نصري 153
    بكر صوباشي 15 ، 103 ، 105 ، 107 ، 114 127 ، 163
    بولس (راهب) 120
    بولس (قديس) 90 ، 155
    بومبيو ديللافاليه 8
    بيبلوس 56
    بيللارمينو 56
    البيهقي 85
    بيولونيو 84
    تافرنييه 38
    تروكو بومبيو 55
    تريبيليو (مؤرخ) 86
    تومازو أربينو 102 ، 168
    تومازو دي نوفارا 152 ، 167
    الجاحظ 46
    جاسم حسن شير 159
    الجرجاني 102
    جرجي (الأب عبد الأحد) 15
    جرجيس عميرة 106 ، 163
    جعالة زادة 49
    جويريدة 69 ، 162 ، 163 ، 164 ، 167 ، 168
    جيكال أوغلي 48 ، 49
    جيو ستينو (مؤرخ) 55
    جيو فانا (المعتوهة) 12
    جيوفانا البيريني 8
    جيوفاني باتستا كاتي 22
    حافظ أحمد (الصدر الأعظم) 130 ، 152
    حبيب جان 102 ، 162 ، 163 ، 168
    حزقيال (نبيّ) 58



    حسن أغا الكردي 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 157
    حسين أبو ريشة 132 ، 157
    حنا أبو ريشة 102 ، 163
    حيدر الشهابي 157
    خسرو (ملك من ملوك الفرس) 95 ، 157
    خواجا استوازاتور 163
    دانيال (النبي) 64
    درويش محمد 127
    دلال (المطران جرجيس) 15
    دوزي 29 ، 49
    ديل دراكو 149
    ديلاند 162
    ديودوروس سيكولوس 25
    ديودوروس الصقلّي 54
    راحيل جويريدة 105 ، 163
    الرازي 166
    راشد (شيخ) 110 ، 111 ، 160
    راشد بن سالم 160
    رافائيل ربان 70 ، 162
    الرسام 48 ، 76
    رافيلينجو (مستشرق) 102
    زادور 163
    زرادشت 35 زنبور (شيخ) 135
    زيكالا 49 ، 160
    زينوفون 21 ، 69 ، 93
    سارة 31
    سبستياني (رحالة) 38 ، 120 ، 163
    سترابون (مؤرخ) 25 ، 52 ، 53 ، 56 ، 62
    ستراكان 33 ، 34 ، 102
    سرفانلي (قبوجي) 130 ، 136 ، 139 ، 140
    سعاد هادي العمري 15
    سعد بن فياض 157
    سلامة (شيخ) 111 ، 159
    سلوفس نيقاطور 62
    سليمان بن داود (عليه‌السلام) 27 ، 74
    سميراميس 55 ، 65
    سنان (الصدر الأعظم) 160
    السندري البندقي 75
    سولاقا (بطريرك) 70
    سلامة 111
    سولينو (مستشرق) 66
    سيد ناصر 110
    شيرين 95
    صحة 29



    طه باقر 54
    عباس (شاه) 13 ، 101 ، 106 ، 114 ، 122 ، 160
    عبد الأحد جرجي 15
    عبد الحميد العلوبي 15
    عبد السلام 128
    عبد الغني جرجس 97 ، 100
    عبد الله (شيخ) 135 ، 136
    عبد الله جويريدة 100 ، 108
    عبد المجيد إسماعيل 160
    عبد المسيح 105 ، 163
    عبد يشوع 153
    عبود الشالجي 164
    عثمان (سلطان) 152
    العزاوي 49 ، 107 ، 113
    عزيز جاسم 66 ، 85
    عطائي جويريدة 102 ، 163
    عطا الله 163
    علي أغا 124 ، 133 ، 134
    علي بن أبي طالب 31 ، 57 ، 106 ، 143
    علي بن أفراسياب 52 ، 108 ، 123 ، 126
    علي نعمة الحلو 160
    عمرة 106 العمري 127
    عيسى ابن مريم (عليه‌السلام) 57
    عيسى بن مهنا 159
    عيسو بن إسحاق 68
    غريغوريوس (بابا) 90 ، 167
    غوته 12
    فؤاد جميل 49
    فرديناند جويريدة 157 ، 164
    فرنسيس الأسيزي 59 ، 167
    الأمير فياض أبو ريشة (شيخ) 23 ، 24 ، 26 ، 32 ، 102 ، 133 ، 147 ، 148 ، 158
    فيرجيل (شاعر) 20 ، 66
    الفيروز آبادي 102
    فيليب (الجميل) 12
    قاسم سلطان 96
    قبوجي 130 ، 139 ، 134 ، 135 ، 136 ، 139 ، 141 ، 142
    القديس توما 114
    القديسة كاترينا 77
    قلاوون 159
    قورش 91 ، 93
    قيدار 66
    كاظم الدين 44
    كالينو (إمبراطور) 86



    الكعبي 122 ، 123
    كوركيس عواد 15
    كولاغي جويريدة 102
    كونسالفو دي سلفيرا 126
    كونسالفو مارتينيز 121 ، 133 ، 136
    لآلي 163
    لاون (بابا) 101
    لعلي جويريدة 163
    لقمان 102
    لكوك 49
    لورنسو 22
    لونكريك 32 ، 48 ، 113 ، 120 ، 127 ، 157
    مار شمعون 63 ، 70
    ماركو بولو (رحالة) 42
    ماروت 54
    ماريا روز 163
    ماريوجا 108 ، 115 ، 152
    ماريو سكيبانو 8 ، 10 ، 154
    ماني 36
    مبارك (شيخ) 47 ، 61 ، 97 ، 98 ، 110 ، 111 ، 122 ، 123 ، 125 ، 159 ، 160
    المحبي 60 ، 127
    محمد أغا (قبوجي) 130 ، 139 محمد باشا (والي) 124
    محمد (بن بكر) 127
    محمد بن راشد 159
    محمد حسين الزبيدي 160
    محمد سعيد النعيمي 49
    محمد بن علي الأكوع 149
    محمد الحاج قاسم محمد 85
    محمود (باشا) 48 ، 49
    مدلج (شيخ) 127 ، 147 ، 149 ، 151 ، 157
    مراد بن أحمد 152
    مريم العذراء 75 ، 105 ، 110 ، 153
    مصطفى (سلطان) 114
    مصطفى جواد 48 ، 49
    مصطفى صوباشي 105
    مطلق (شيخ) انظر مدلج
    معاني بنت حبيب جويريدة 9 ، 11 ، 12 ، 13 ، 16 ، 50 ، 69 ، 70 ، 71 ، 72 ، 75 ، 76 ، 77 ، 78 ، 90 ، 96 ، 97 ، 99 ، 100 ، 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 107 ، 108 ، 109 ، 110 ، 145 ، 148 ، 149 ، 150 ، 151 ، 153 ، 154 ، 155 ، 157 ، 162 ، 163 ، 164 ، 168


    منصور (أمير) 111 ، 122 ، 123 ، 125
    منير بعلبكي 79
    موسى الكاظم 38 ، 39
    ميخائيل 136
    ميلا (مؤرخ) 66
    ناصر بن مبارك 156 ، 160
    ناصر بن مهنا 59 ، 82 ، 98 ، 100 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 142 ، 144 ، 145 ، 147 ، 161
    نبوخذنصّر 60 ، 61
    نجم (خواجه) 121 ، 127 ، 128 ، 133 ، 134 ، 136
    نجيب العقيقي 102
    نرسيس صائغيان 90
    نسطور 70
    نصار (شيخ) 100
    نصوح باشا 9 ، 60 ، 102 ، 161
    نظامي (شاعر) 95
    نمرود 53 ، 55 ، 56
    نوح 33 هاروت 54
    هارون الرشيد 7 ، 123
    هايتون الأرمني 42
    هرتسفيلد 31
    الهروي 57
    الهمداني 149
    هندي 153
    هوراس 57
    هيرودوتس 53 ، 56 ، 92
    ياسين خير الله 71
    ياقوت الحموي 58 ، 69 ، 152 ، 166
    يحيى بن عبد اللطيف 106
    يعقوب إفرام 21
    يعقوب سركيس 51 ، 59 ، 139 ، 159 ، 161 ، 162
    يوحنا المعمدان 118
    يوسف باشا 47 ، 163
    يوليوس (بابا) 70
    يوليوس (قيصر) 167
    يونان (النبي) 115


    فهرس الأمكنة والبقاع
    آثار بابل 11
    الآثار العراقية 11
    آسيا 93 ، 101
    آشور 25 ، 69 ، 101
    أمد 70 ، 152
    أبو القاسم (مسجد) 52
    أجاثيرا 66
    الأحساء 139
    الأخيضر 143
    الأهواز 160
    أراجيلي (كنيسة) 110 ، 155
    أرض نمرود 53
    أرمينيا 93 ، 136
    إسبانيا 73
    اسطنبول 9 ، 11 ، 71 ، 113 ، 118 ، 122 ، 130 ، 131 ، 135 ، 153 ، 161
    الإسكندرونة 81 ، 82 ، 89 ، 98 ، 100 ، 102 ، 140 ، 162 أكبيتانيا 62
    الأناضول 23
    انكاملي 114
    إها ثوير 142
    الأهرامات 9 ، 11
    الأهوار 98
    أوربا 7 ، 11 ، 12 ، 46 ، 106 ، 116 ، 135 ، 157 ، 161
    إيران 89 ، 162 ، 163
    إيطاليا 7 ، 8 ، 14 ، 19 ، 35 ، 39 ، 55 ، 76 ، 77 ، 79 ، 82 ، 83 ، 86 ، 87 ، 89 ، 94 ، 96 ، 101 ، 154 ، 167
    إيوان كسرى 62 ، 63 ، 64
    بابل 7 ، 19 ، 22 ، 25 ، 41 ، 47 ، 53 ، 54 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 62 ، 92
    باجرمى 23
    بتليس 94
    البحر العربي 10


    البحرين 116
    البرتغال 116
    برج بابل 47 ، 56
    برج نمرود 47
    البصرة 108 ، 111 ، 113 ، 114 ، 116 ، 117 ، 118 ، 119 ، 120 ، 121 ، 122 ، 124 ، 125 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 ، 134 ، 135 ، 136 ، 137 ، 139 ، 142 ، 145 ، 157 ، 159 ، 161 ، 163
    بغداد 7 ، 9 ، 14 ، 15 ، 16 ، 19 ، 20 ، 21 ، 22 ، 29 ، 34 ، 36 ، 37 ، 38 ، 41 ، 42 ، 43 ، 44 ، 45 ، 46 ، 47 ، 48 ، 49 ، 57 ، 59 ، 60 ، 63 ، 65 ، 66 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 72 ، 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 77 ، 78 ، 81 ، 82 ، 83 ، 84 ، 85 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 90 ، 91 ، 92 ، 97 ، 98 ، 100 ، 101 ، 102 ، 105 ، 107 ، 108 ، 110 ، 113 ، 114 ، 119 ، 122 ، 123 ، 126 ، 127 ، 128 ، 130 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 140 ، 143 ، 144 ، 147 ، 148 ، 149 ، 150 ، 157 ، 160 ، 161 ، 162 ، 163 ، 164 ، 165 ، 166 ، 167
    بلداك 42
    البندقية 9 ، 13 ، 14 ، 24 ، 29 بهرز 92
    بولونيا 14
    بيت المقدس 9
    البيرة 20
    بيروت 120 ، 165
    بيعة دار الروم 46
    بيعة درتا 46
    بيعة السيدة 46
    بيعة مار توما 46
    تركيا 14 ، 19 ، 81
    تستر 119 ، 125
    تكية (قرية) 92
    تل عمر 62
    التيبر (نهر) 38 ، 84
    جامعة نوبولي 8
    جاي قوناغي 95
    جبرين 22
    جبل سيناء 77
    جبل طوروس 93
    الجديدة 49 ، 153
    الجزيرة 94 ، 149
    جزيرة صقلية 8
    جزيرة قبرص 80
    جسر البصرة 117
    جسر بغداد 44 ، 45 ، 57


    جسر الحلة 57
    الجمجمة (مسجد) 57
    جندا (نهر) 91
    الجوازر 143
    جورجيا 13
    حقلاء 23 ، 24
    حلب 9 ، 11 ، 15 ، 19 ، 20 ، 21 ، 27 ، 33 ، 34 ، 59 ، 75 ، 97 ، 116 ، 127 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 135 ، 147 ، 148 ، 150 ، 153 ، 157 ، 167
    الحلة 57 ، 58 ، 126 ، 127 ، 161
    الحمام 26
    حمص 159
    الحويزة 47 ، 98 ، 100 ، 108 ، 110 ، 111 ، 119 ، 121 ، 122 ، 123 ، 124 ، 126 ، 159
    الحير 27 ، 150
    خان البير 52 ، 58
    خان جفان 160
    خان شيراز 159
    خان المسيب 49 ، 51
    خان النص 59
    خانات 31
    خانقين 163 خزانة الفاتيكان 11 ، 14 ، 102 ، 103
    الخضر (جزيرة) 116
    الخطا 83
    دجلة (نهر) 22 ، 38 ، 41 ، 42 ، 43 ، 44 ، 45 ، 46 ، 60 ، 61 ، 75 ، 84 ، 91 ، 94 ، 110 ، 113 ، 116
    درب دينار 46
    دلتا النيل 116
    دمشق 33 ، 57
    الدورق 119
    ديار بكر 60 ، 72 ، 152 ، 162 ، 167
    ديالى (نهر) 61 ، 65 ، 91 ، 92 ، 95
    دير عامر 119
    دير القديسة كاترينا 77
    ديو 86
    رأس العين 58
    الرحبة 28
    الرضوانية 48
    رودس 44
    روما 8 ، 9 ، 10 ، 11 ، 13 ، 14 ، 25 ، 38 ، 66 ، 70 ، 77 ، 90 ، 101 ، 110 ، 114 ، 149 ، 152 ،



    153 ، 154 ، 155 ، 163 ، 164
    زويبة (قرية) 49
    سريا 27
    السعدية 93
    سعرد 152
    سلمان باك 61 ، 65
    سلوقية 42 ، 60 ، 62 ، 63
    سور بغداد 45
    سوريا 10 ، 74
    سوسة 110
    سوق بغداد 43 ، 84 ، 85 ، 86
    سوق الثلاثاء 46
    سيلان (جزيرة) 80
    سيناء 77
    شط العرب 38 ، 116 ، 120 ، 125
    شهرابان 92
    الشورجة (منطقة) 46
    شيراز 98 ، 107 ، 108 ، 110 ، 122 ، 123 ، 125 ، 126 ، 163
    صيدا 134
    الصين 42 ، 80
    ضريح بيبلوس 53 ، 56
    طاق سلمان باك 64
    طاق كسرى 72
    طرابلس 134 ، 135 طور عابدين 95
    طيبة 27 ، 127 ، 151
    طيسفون 42 ، 60 ، 62 ، 63 ، 64 ، 65
    العراق 10 ، 13 ، 15 ، 21 ، 23 ، 24 ، 38 ، 41 ، 42 ، 46 ، 51 ، 57 ، 84 ، 89 ، 97 ، 114 ، 119 ، 161
    العرجاء 139 ، 140
    العشار 129
    عنة 31 ، 32 ، 35 ، 36 ، 127 ، 148 ، 149 ، 157 ، 158
    الغنيمات 137 ، 139
    غوا 122 ، 125
    فارس 9 ، 10 ، 13 ، 14 ، 35 ، 47 ، 81 ، 82 ، 89 ، 98 ، 105 ، 122 ، 123 ، 125 ، 127 ، 128 ، 146 ، 150
    الفرات 20 ، 22 ، 23 ، 28 ، 31 ، 38 ، 41 ، 42 ، 45 ، 48 ، 49 ، 53 ، 57 ، 58 ، 86 ، 113 ، 116 ، 148
    فرع القطيف 116
    فرع هرمز 116
    فلسطين 119
    قبان (قلعة) 125
    قبر أرفكشاد 58



    قبر حزقيل 58
    قبر سام 58
    قبر المسيح 77
    قبرص 80 ، 152 ، 153
    القدس 7 ، 77 ، 167 ، 168
    القرنة 124
    قزلرباط 93 ، 94 ، 95
    قزوين 81 ، 97 ، 100
    القسطنطينية 70 ، 74
    قصر الأخيضر 143
    قصر شيرين 95
    قلعة البصرة 117
    قلعة بغداد 43
    قلعة هرمز 119
    قونية 23
    كابور (نهر) 58
    كاستيلتا 12
    الكاظمية 38
    كربلاء 144 ، 161
    الكرخ 39 ، 45
    كرد حاجي كردي 61 ، 65
    كرد عثمان 68
    كردستان 93
    كركوك 23 ، 127 ، 128 ، 130 ، 133 كرمانيا 23
    الكعر 23
    الكفل 58
    كمبيدليو 110 ، 155
    كنائس بغداد 46 ، 71
    كنائس حلب 153
    كنيسة السريان 153
    كنيسة الروم 153
    الكنيسة الكاثوليكية 152
    كنيسة الكرمليين 119
    كنيسة مار إيليا 153
    كنيسة مار بثيون 16
    كنيسة مريم العذراء 129
    كنيسة الكرمليين 119 ، 129
    الكوفة 143
    كويبدة 135 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 145
    الكويت 166
    لبنان 28
    اللرّ 110
    لوجستان 126
    ما بين النهرين 11 ، 22 ، 36 ، 37 ، 42 ، 58 ، 63 ، 69 ، 70 ، 75 ، 94 ، 131 ، 134 ، 157 ، 167
    مادي 35 ، 81 ، 93



    ماردين 69 ، 72 ، 84 ، 95 ، 97 ، 132 ، 133 ، 148 ، 162
    مانس 162
    مانيلا (إقليم) 130
    المحمودية 49 ، 160
    المدائن 62 ، 63
    مسجد علي 31
    مسقط 116 ، 117
    المشراق 135
    مشهد أبي ريشة 31 ، 157
    مشهد الحسين 127 ، 142 ، 143 ، 144 ، 161
    مشهد علي 143
    مصر 9 ، 45 ، 66 ، 101 ، 116
    مقام علي 31
    المقير 141
    مكتبة الفاتيكان 13
    مكة 144
    المنتفق 139
    مندلي 82 ، 89 ، 96
    ملوحة 22 ، 23 الموصل 15 ، 44 ، 63 ، 84 ، 93 ، 127 ، 128 ، 130 ، 133
    ميافارقين 152
    مينا 108
    نابولي 8 ، 11 ، 29 ، 116 ، 154
    النجف 159 ، 161
    نهر عيسى 42
    نوفارا 167
    النيل (نهر) 116
    نينوى 7 ، 44 ، 93
    هارونية 92
    هركانيا 62
    هرمز 91 ، 108 ، 116 ، 124 ، 128 ، 132
    همذان 62
    الهند 10 ، 11 ، 14 ، 85 ، 86 ، 113 ، 129 ، 131 ، 132
    ينكي إمام 96
    ينكي توناغي 96
    اليمن 144


    فهرس الأمم والشعوب والقبائل والجماعات والأديان والملل والمذاهب
    الآباء الكرمليون 119
    الأتراك 9 ، 11 ، 19 ، 22 ، 25 ، 26 ، 35 ، 37 ، 42 ، 48 ، 60 ، 67 ، 73 ، 89 ، 91 ، 92 ، 94 ، 95 ، 96 ، 108 ، 113 ، 114 ، 118 ، 133 ، 141 ، 143 ، 149 ، 161
    الأرمن 70 ، 153
    الأزبكيون 100
    الإغريق 66
    الأغسطينيون (رهبان) 114 ، 119 ، 130
    الإفرنج 19 ، 20 ، 24 ، 58 ، 59 ، 60 ، 97 ، 120 ، 130
    الأكراد 70 ، 93 ، 94 ، 95 ، 130
    الإنكليز 21 ، 119
    الأوربيون 7 ، 11 ، 118
    البارونات 61
    البدو 65
    البرتغاليون 108 ، 113 ، 114 ، 117 ، 119 ، 120 ، 122 ، 124 ، 125 ، 126 ، 129 ، 132 ، 133 ، 136
    التتار 159
    التركمان 23 ، 28 ، 140
    الرومان 44 ، 62 ، 110
    الساسانيون 62
    السردار 130
    السريان 15 ، 70
    الصابئة (دين) 118 ، 121 ، 128
    العثمانيون 47 ، 94 ، 106 ، 113 ، 128 ، 160
    العراقيون 10 ، 166
    العرب 15 ، 23 ، 25 ، 26 ، 29 ، 34 ، 37 ، 41 ، 59 ، 63 ، 66 ، 85 ، 86 ، 95 ، 97 ، 98 ، 118 ، 122 ، 141
    الفراعنة 9
    الفرس 15 ، 25 ، 26 ، 47 ، 60 ، 61 ، 62 ، 63 ، 82 ، 92 ، 94 ، 95 ، 96 ، 98 ، 113 ، 117 ،



    119 ، 120 ، 122 ، 128 ، 129 ، 134 ، 140 ، 142 ، 144 ، 152 ، 159 ، 161
    الفرنسيسكان 59 ، 152
    القزلباش 125
    القسس في بغداد 71 ، 72
    الكرمليون (رهبان) 100 ، 119
    الكلدان 69 ، 94 ، 95 ، 114 ، 168
    المانويون (أتباع ماني) 36
    المجوس 35
    المسلمون 41 ، 46 ، 49 ، 52 ، 62 ، 63 ، 79 ، 85 ، 118 ، 130 ، 143 ، 144 ، 147
    المسيحيون 90 ، 114 ، 116 ، 119
    المشعشعون 47 ، 160
    المغول 128 المعيدي 140
    المقدونيون 25
    المنتفق 139
    المندائية 118
    النساطرة 70 ، 95 ، 165
    النصارى 46 ، 58 ، 69 ، 73 ، 76 ، 95 ، 129 ، 130
    النصارى في البصرة 118
    النصارى في بغداد 71 ، 72
    نصارى القديس توما 114
    النصيرية 36
    اليسوعيون (رهبان) 59 ، 60
    اليعاقبة (طائفة) 95 ، 153
    اليهود 27 ، 58 ، 60 ، 61 ، 64 ، 71 ، 114 ، 118
    اليونان 93


    فهرس عام
    آغا الينكرجية 107
    الآس 165
    أبو طاقة (نقد) 129
    الإثمد (الكحل) 69
    الأختام الشرقية 103 ، 141
    الأراك (شجر) 85
    الأسطول البرتغالي 120
    أزياء 29 ، 67 ، 73 ، 74
    الأسود في العراق 38
    انكشاري 25 ، 48
    الأونس 79
    البذخشان 166
    البجادي (حجر كريم) 74
    البردي 166
    البطم 84
    البطيخ 44
    البلاط 81
    البلاو (الرز) 51 ، 58
    البلخش (حجر كريم) 74 ، 164 البورق (معدن) 86 ، 166
    التاج 140 ، 142
    التبغ في العراق 51 ، 142
    التقويم 90
    جهاز العروس 79 ، 80
    حجر الفتيلة 80 ، 166
    حرب الفرس ضد البصرة 124 وما بعدها.
    حرب الفرس ضد الحويزة 110 ، 122
    حصار بغداد 89 وما بعدها
    حلي البدويات 66
    حمار وحشي في البصرة 128
    حمالة العروس 79
    الحمام الزاجل 101
    حماما ياقوتي 85
    الخرز 66
    الخرص والخزيمة 74
    خيام البدو 65 ، 66 ، 67 ، 145



    الدارصيني 80 ، 165 ، 166
    الدانك (قارب) 117
    الدفن عند الشرقيين 100
    الدوطة 79
    الديرم 85 ، 166
    الراوند 83 ، 165
    الرخام 26 ، 141 ، 150 ، 151
    الرند 31 ، 165
    الريباس 165
    الزمرّد 74
    السذرا 118
    سفرجل 76
    سكودو (نقد) 44
    السمر (شجر) 85
    السنبل الخطوي 83 ، 166
    سنبل الرند 83
    السواك 85
    شابندر 121
    شاهي (نقد) 137
    الشعر 84
    الشموع العسلية 90
    الصوباشي (رتبة) 107
    صوم البتولات 114 ، 115
    الطابوق البابلي
    الطلق 28 ، 166 طين البصرة 84
    طين الشطّ 84
    طين كردستان 84
    العرعر 27 ، 143 ، 150
    العقيق (حجر كريم) 74 ، 164
    العنبر 66 ، 149 ، 164
    عيد الميلاد في بغداد 90
    عين الحمام 86 ، 166
    الغار 165
    غزل السعالي 166
    الفستق 84
    الفيروز 74 ، 164
    القافلة 165
    القاقال 80 ، 85 ، 87 ، 165
    القبوجي 130 ـ 134 ، 144
    القرب لنقل السوائل 21 ، 148
    القرد (هدية لوالي البصرة) 134
    القرش (نقد) 136 ، 137
    القرفة (توابل) 80 ، 86 ، 165 ، 166
    القسط (توابل) 80 ، 87 ، 165
    القصبة (للقياس) 36
    قصبة الذريرة 86 ، 166
    القم 85
    القناع (زي نسائي) 73
    القوناق 95


    الكاديوم 80
    الكاغد 148
    الكافور 10 ، 166
    الكرد (واسطة للسقي) 44 ، 84 ، 93
    الكفن 100
    الكلك 44
    الكمرك 117 ، 121
    كيل كردستان 84
    لاري (نقد) 137
    لب التواريخ (كتاب) 106
    اللؤلؤ 74 ، 164
    المجارش 67 ، 146
    مخاط الشيطان 166 مخطوطات 11 ، 12 ، 153
    مراكب حربية 116 ، 126 وما بعدها
    المنيني 79
    النواعير 43
    النردين 165
    النطرون 28 ، 147 ، 166
    نصارى الكلدانيون 118
    النفش 164
    الهيصم 149 ، 150 ، 166
    الهيل 87 ، 165
    الوشم 66 ، 67
    الياقوت 74 ، 85 ، 164



    فهرس المحتويات
    الاهداء 5
    مقدمة المعرب 7
    القسم الأول : في البلاد التركية 19
    بغداد سنة 1616 41
    رحلة إلى بابل 47
    الحلة 57
    القسم الثاني : في بلاد فارس 89
    القسم الثالث : الهند والعودة إلى الوطن 113
    ملاحق الكتاب 157
    فهرس الكتاب 169
    فهرس المراجع 171
    فهرس الأعلام 173
    فهرس الأمكنة والبقاع 179
    فهرس الأمم والشعوب والقبائل والجماعات والأديان والملل والمذاهب 185
    فهرس عام 187


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    رحلة ديللاقاليه الى العراق مطلع القرن السابع عشر
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » رحلة الفرنسي تاقرنييه الى العراق في القرن السابع عشر سنة1676
    » الجزء السابع من كتاب صفين
    » رحلة ابن جبير
    » رحلة ابن بطوطه
    » رحلة مدام ديولافو من المحمره الى البصره وبغداد سنة 1881م-1922ه

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 32- منتدى الرحلات التاريخيه للعراق-
    انتقل الى: