والسنة ، وهو الذي يسخي بنفسه (1).
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن رجل من آل خارجة بن الصلت ، أن ظبيان بن عمارة التميمي ، جعل يومئذ يقاتل وهو يقول (2) :
مالك يا ظبيان من بقاء
في ساكن الأرض بغير ماء (3)
لا ، وإله الأرض والسماء
فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسيف عند حمس الوغاء (4)
حتى يجيبوك إلى السواء
قال : فضربناهم والله حتى خلونا وإياه.
نصر : عمر بن سعد بإسناده قال. طال بيننا وبين أهل الشام القتال ، فما أنسى قول عبد الله بن عوف [ بن ] الأحمر (5) ، يوم الفرات ، وكان من فرسان علي ، وهو يضربهم بالسيف وهو يقول :
خلوا لنا عن الفرات الجاري
أو اثبتوا للجحفل الجرار
لكن قرم مستميت شار (6)
مطاعن برمحه كرار
ضراب هامات العدى مغوار
قال : ثم إن الاشتر دعا الحارث بن همام النخعي ثم الصهباني (7) فأعطاه
__________________
(1) السخاء : الجود ، يقال سخي كسعى ودعا ورضى. وفي الأصل : « بنفسي » وأثبت ما في ح (1 : 330 ).
(2) الرجز في تاريخ الطبري ( 5 : 240 ) مطابق لهذه الرواية.
(3) ح ( 1 : 33 ) : « وحمل ظبيان بن عمارة التيمي على أهل الشام وهو يقول :
هل لك يا ظبيان من بقاء
في ساكني الأرض بغير ماء ».
(4) الوغى : الحرب ، مقصور ، وقد مده هنا للشعر. ح : « الهيجاء ».
(5) في الطبري : « عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي » ، والتكملة هاهنا من الطبري ومما سبق في 160 ، 161.
(6) القرم بالفتح ، هو من الرجال السيد المعظم. وفي الأصل : « قوم » صوابه في الطبري. والشاري : البائع ، أي الذي يبيع نفسه لله ، ومن ذلك سمي الخوارج شراة لأنهم زعموا أنهم باعوا أنفسهم لله بالجنة.
(7) الصهباني ، نسبة إلى صهبان بالضم ، وهم قبيلة من النخع ، منهم كميل بن زياد صاحب علي بن أبي طالب. انظر الاشتقاق 242.
لواءه ثم قال : يا حارث ، لولا أتى أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي. منك ولم أحبك بكرامتي (1). قال : والله يا مالك لأسرنك اليوم أو لأموتن ، فاتبعني فتقدم [ باللواء ] وهو يقول (2) :
يا أشتر الخير ويا خير النخع
وصاحب النصر إذا عم الفزع (3)
وكاشف الأمر إذا الأمر وقع
ما أنت في الحرب العوان بالجذع (4)
قد جزع القوم وعموا بالجزع
وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع
إن تسقنا الماء فما هي بالبدع (5)
أو نعطش اليوم فجند مقتطع (6)
ما شئت خذ منها وما شئت فدعفقال الأشتر : ادن مني يا حارث. فدنا منه فقبل رأسه وقال : لا يتبع رأسه اليوم إلا خير (7). ثم قام الأشتر يحرض أصحابه يومئذ ويقول :
__________________
(1) الحباء : ما يحبو به الرجل صاحبه ويكرمه به ، تقول : حبوته أحبوه حباء. وفي الأصل : « لم أجبك ». وفي ح : « لم أحيك » صوابهما ما أثبت.
(2) القائل هو الحارث بن همام النخعي. وفي مروج الذهب ( 2 : 18 ) : « فصار يؤم الأشعث صاحب رايته ، وهو رجل من النخع ، يرتجز ويقول ».
(3) في مروج الذهب : « إذا عال الفزع ».
(4) الحرب العوان : التي حورب فيها مرة بعد مرة. والجذع : الصغير السن. قال الليث : « الجذع من الدواب والأنعام قبل أن يثني بسنة ». وفي الأصل : « بالخدع » ، والخدع بفتح فكسر : الكثير الخداع. ولا وجه له هنا. وأثبت ما في ح.
(5) في مروج الذهب : « فما هو بالبدع ».
(6) في الأصل : « فجد يقتطع » صوابه في ح.
(7) الخير ، بالفتح وكسيد : الكثير الخير. في الأصل : « لا يتبع هذا اليوم إلا خيرا » وأثبت ما في ح.
فدتكم نفسي ، شدوا شدة المحرج الراجي الفرج ، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها ، وإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل نواجذه فإنه أشد لشئون الرأس ، ثم استقبلوا القوم بهاماتكم. قال : وكان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم كأنه حلك الغراب (1).
نصر ، عن عمرو بن شمر (2) ، عن جابر ، عن عامر ، عن الحارث بن أدهم ، عن صعصعة بن صوحان قال : قتل الأشتر في تلك المعركة سبعة ، وقتل الأشعث فيها خمسة ، ولكن أهل الشام لم يثبتوا. فكان الذين قتلهم الأشتر صالح بن فيروز العكي ، ومالك بن أدهم السلماني ، ورياح بن عتيك الغساني (3) ، والأجلح بن منصور الكندي ـ وكان فارس أهل الشام ـ وإبراهيم بن وضاح الجمحي ، وزامل بن عبيد الحزامي ، ومحمد بن روضة الجمحي.
نصر : فأول قتيل قتل الأشتر ذلك اليوم بيده من أهل الشام رجل يقال له صالح بن فيروز ، وكان مشهورا بشدة البأس ، فقال وارتجز على الأشتر :
يا صاحب الطرف الحصان الأدهم
أقدم إذا شئت علينا أقدم
أنا ابن ذي العز وذي التكرم
سيد عك كل عك فاعلم
فبرز إليه الأشتر وهو يقول :
آليت لا أرجع حتى أضربا
بسيفي المصقول ضربا معجبا
أنا ابن خير مذحج مركبا
من خيرها نفسا وأما وأبا (4)
قال : ثم شد عليه بالرمح فقتله وفلق ظهره ، ثم رجع إلى مكانه ،
__________________
(1) المحذوف : المقطوع الذنب. وحلك الغراب : شدة سواده.
(2) في الأصل : « عمر بن شمر » تحريف. وانظر ترجمته في ص 169.
(3) في الأصل : « رماح بن عتيك الغساني » وأثبت ما في ح.
(4) روى هذا البيتان في ح ( 1 : 330 ) مقدمين على البيتين السابقين.
ثم خرج إليه فارس آخر يقال له مالك بن أدهم السلماني ـ وكان من فرسان أهل الشام ـ وهو يقول :
إني منحت مالكا سنانيا (1)
أجيبه بالرمح إذ دعانيا
لفارس أمنحه طعانيا
ثم شد على الأشتر فلما رهقه (2) التوى الأشتر على الفرس ، ومار السنان فأخطأه (3) ، ثم استوى على فرسه وشد عليه بالرمح وهو يقول :
خانك رمح لم يكن خوانا
وكان قدما يقتل الفرسانا
لويته لخير ذي قحطانا
لفارس يخترم الأقرانا
أشهل لا وغلا ولا جبانا (4)
فقتله ثم خرج فارس آخر يقال له رياح بن عتيك (5) وهو يقول :
إني زعيم مالك بضرب
بذي غرارين ، جميع القلب (6)
عبل الذراعين شديد الصلب
وقال بعضهم : « شديد العصب ». فخرج إليه الأشتر وهو يقول :
رويد لا تجزع من جلادي
جلاد شخص جامع الفؤاد (7)
يجيب في الروع دعا المنادي
يشد بالسيف على الأعادي
__________________
(1) في الأصل : « منحت صالحا » تحريف. ومالك ، هو مالك بن الحارث ، المعروف بالأشتر النخعي. الإصابة 8335 وتهذيب التهذيب ومعجم المرزباني 362.
(2) رهقه : غشيه أو لحقه أو دنا منه.
(3) مار يمور مورا : اضطرب.
(4) الأشهل ، من الشهلة وهي أقل من الزرق في الحدقة وأحسن منه. والوغل : الضعيف النذل الساقط.
(5) في الأصل : « رياح بن عبيدة » ، وفي ح : « رياح بن عقيل » وأثبت ما سبق في ص 174.
(6) جميع القلب : مجتمعه لم يتفرق عليه.
(7) لا تجزع ، أراد لا تجزعن ، بنون التوكيد الخفيفة.
فشد عليه فقتله. ثم خرج إليه فارس آخر يقال له إبراهيم بن الوضاح وهو يقول :
هل لك يا أشتر في برازي
براز ذي غشم وذي اعتزاز
مقاوم لقرنه لزاز (1)
فخرج إليه الأشتر وهو يقول :
نعم نعم أطلبه شهيدا
معي حسام يقصم الحديدا
يترك هامات العدى حصيدا
فقتله. ثم خرج إليه فارس آخر يقال له زامل بن عتيك الحزامي (2) ، وكان من أصحاب الألوية ، فشد عليه وهو يقول :
يا صاحب السيف الخضيب المرسب (3)
وصاحب الجوشن ذاك المذهب (4)
هل لك في طعن غلام محرب (5)
يحمل رمحا مستقيم الثعلب
ليس بحياد ولا مغلب
__________________
(1) اللزاز : الشديد الخصومة ، اللزوم لما يطالب. ويقال أيضا لزه لزا : طعنه.
(2) في الأصل : « أزمل » تحريف. وسبق في ص 174 : « زامل بن عبيد » وفي ح : « زامل بن عقيل ».
(3) المرسب ، من قولهم سيف رسب ورسوب : ماض يغيب في الضريبة « وكان سيف خالد بن الوليد يسمى مرسبا ». وفي الأصل : « المرزبي » ولا وجه له.
(4) الجوشن : زرد يلبس على الصدر والحيزوم.
(5) المحرب والمحراب : الشديد الحرب الشجاع.
فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه ولم يصب مقتلا ، وشد عليه الأشتر [ راجلا ] فكسف قوائم الفرس بالسيف (1) وهو يقول :
لا بد من قتلي أو من قتلكما
قتلت منكم خمسة من قبلكما
وكلهم كانوا حماة مثلكا
ثم ضربه بالسيف وهما رجلان (2) ، ثم خرج إليه فارس يقال له الأجلح ، وكان من أعلام العرب وفرسانها ، وكان على فرس يقال له لاحق ، فلما استقبله الأشتر كره لقاءه واستحيا أن يرجع ، فخرج إليه وهو يقول :
أقدم باللاحق لا تهلل (3)
على صمل ظاهر التسلل (4)
كأنما يقشم مر الحنظل (5)
إن سمته خسفا أبي أن يقبل
وإن دعاه القرن لم يعول (6)
يمشي إليه بحسام مفصل
مشيا رويدا غير ما مستعجل
يخترم الآخر بعد الأول
فشد عليه الأشتر وهو يقول :
بليت بالأشتر ذاك المذحجي
بفارس في حلق مدجج
__________________
(1) الكسف : القطع. وفي الحديث « أن صفوان كسف عرقوب راحلته » ، أي قطعه بالسيف. وفي الأصل : « فكتف » بالتاء ، وفي ح : « فكشف » بالشين ، صوابهما بالسين المهملة كما أثبت.
(2) الرجل ، بالفتح وكمفرح وندس : الراجل ، وهو خلاف الراكب. ح : « وهما راجلان » وكلاهما صحيح.
(3) أقدم : أمر من الإقدام ، وأصله أقدمن بنون التوكيد الخفيفة حذفت للضرورة وبقيت الفتحة ، كما في قول طرفة :
اضرب عنك الهموم طارقها
ضربك بالسيف قونس الفرس
انظر شرح شواهد المغني 315. والتهليل : النكوص والإحجام.
(4) الصمل ، كعتل : الشديد الخلق العظيم.
(5) القشم ، بالشين المعجمة : الأكل. وفي الأصل : « يقسم » تحريف. وأكل الحنظل مثل في شدة العداوة. انظر البيت 13 من المفضلية 40 طبع المعارف.
(6) التعويل : رفع الصوت بالبكاء والصياح. وفي الأصل : « لم يقول » ولا وجه له.
كالليث ليث الغابة المهيج
إذا دعاه القرن لم يعرج
فضربه. ثم خرج إليه محمد بن روضة ، وهو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا ، وهو يقول :
يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن
يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن
ورث صدري قتله طول الحزن (1)
أضربكم ولا أرى أبا حسن
فشد عليه الأشتر وهو يقول :
لا يبعد الله سوى عثمانا
وأنزل الله بكم هوانا
ولا يسلي عنكم الأحزانا
مخالف قد خالف الرحمانا
نصرتموه عابدا شيطانا
ثم ضربه فقتله. وقالت أخت الأجلح بن منصور الكندي حين أتاها مصابه ، وكان اسمها حبلة بنت منصور :
ألا فابكي أخا ثقة
فقد والله أبكينا (2)
لقتل الماجد القمقا
م لا مثل له فينا
أتانا اليوم مقتله
فقد جزت نواصينا
كريم ماجد الجدي
ن يشفي من أعادينا
وممن قاد جيشهم
على والمضلونا (3)
شفانا الله من أهل ال
عراق فقد أبادونا (4)
أما يخشون ربهم
ولم يرعوا له دينا
__________________
(1) ح ( 1 : 330 ) : « أورث قلبي قتله طول الحزن ».
(2) في الأصل : « أبلينا » صوابه في ح ( 1 : 331 ).
(3) البيت لم يرو في ح. وفي الأصل : « والمصلونا » وهي إنما تهجو أصحاب علي رضي الله عنه.
(4) في الأصل : « قد أبادونا » ، وأثبت ما في ح.
نصر ، قال : قال عمرو قال جابر : بلغني أنها ماتت حزنا على أخيها. وقال أمير المؤمنين حين بلغه مرثيتها أخاها : أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع (1) ، أما إنهم قد أضروا بنسائهم فتركوهن [ أيامي ] خزايا (2) [ بائسات ] ، من قبل ابن آكلة الأكباد (3). اللهم حمله آثامهم وأوزارهم وأثقالا مع أثقالهم (4).
وأصيب يوم الوقعة العظمى حبيب بن منصور ، أخو الأجلح ـ وكان من أصحاب الرايات ـ وجاء برأسه رجل من بجيلة قد نازعه في سلبه رجل من من همدان ، كل واحد منها يزعم أنه قتله ، فأصلح علي بينهما وقضى بسلبه للبجلي ، وأرضى الهمداني.
نصر ، عن عمرو بن [ شمر ، عن ] جابر ، عن الشعبي ، عن الحارث بن أدهم ، عن صعصعة قال : ثم أقبل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء وهو يقول :
لا تذكروا ما قد مضى وفاتا
والله ربي باعث أمواتا (5)
من بعد ما صاروا صدى رفاتا (6)
لأوردن خيلي الفراتا
شعث النواصي أو يقال ماتا (7)
__________________
(1) ليس بملكهن : أي إن ما بدا عليهن من الجزع خارج عن إرادتهن. وفي الأصل : « ليس يملكن » وأثبت ما في ح.
(2) الخزايا : جمع خزيا ، وهي التي عملت قبيحا فاشتد لذلك حياؤها. ح : « حزاني ».
(3) آكلة الأكباد يعني بها هندا بنت عتبة بن ربيعة. وهي أم معاوية. يروى أنها بقرت عن كبد حمزة فلاكتها ، وقالت :
شفيت من حمزة نفسي بأحد
حتى بقرت بطنه عن الكبد
انظر السيرة 581 جوتنجن.
(4) ح : « مع أثقاله ».
(5) في ح : « باعث الأمواتا ».
(6) الصدى : ما يبقى من الميت في قبره. وفي الأصل : « كذا ».
(7) انظر مروج الذهب ( 2 : 18 ).
وكان لواء الأشعث مع معاوية بن الحارث ، فقال له الأشعث : لله أنت! ليس النخع بخير من كندة ، قدم لواءك [ فإن الحظ لمن سبق ]. فتقدم صاحب اللواء ، وهو يقول :
أنعطش اليوم وفينا الأشعث
والأشعث الخير كليث يعبث
فأبشروا فإنكم لن تلبثوا
أن تشربوا الماء فسبوا وارفثوا
من لا يرده والرجال تلهث
وقال الأشعث : إنك لشاعر ، وما أنعمت لي بشرى. وكره أن يخلط الأشتر به ، فنادى الأشعث : أيها الناس ، إنما الحظ لمن سبق.
قال : وحمل عمرو العكى من أصحاب معاوية ، وهو يقول :
ابرز إلى ذا الكبش يا نجاشي
اسمى عمرو وأبو خراش
وفارس الهيجاء ، بانكماشي
تخبر عن بأسي واحر نفاشي (1)
فشد عليه النجاشي وهو يقول :
أرود قليلا فأنا النجاشي
من سرو كعب ليس بالرقاشي
أخو حروب في رباط الجاش
ولا أبيع اللهو بالمعاش
أنصر خير راكب وماش
أعني عليا بين الرياش
من خير خلق الله في نشناش (2)
مبرأ من نزق الطياش
بيت قريش لا من الحواشي
ليت عرين للكباش غاش (3)
__________________
(1) الاحر نفاش : التقبض والتهيؤ للشر. وفي الأصل : « يخبر باني من أحرناشي ». تحريف.
(2) النشناش : مصدر نشنش الرجل الرجل إذا دفعه وحركه ، ونشنش السلب : أخذه. ولم تذكر هذا المصدر المعاجم ، وهذا الوزن من المصادر سماعي. انظر شرح الشافية ( 1 : 178 ).
(3) كبش القوم : رئيسهم وسيدهم ، وقائدهم.
يقتل كبش القوم بالهراش
وذي حروب بطل وناش
خف له أخطف في البطاش (1)
من أسد خفان وليث شاش (2)
فضربه ضربة ففلق هامته بالسيف. وحمل أبو الأعور وهو يقول :
أنا أبو الأعور واسمى عمرو (3)
أضرب قدما لا أولى الدبر
ليس بمثلي يا فتى يغتر
ولا فتى يلاقيني يسر (4)
أحمي ذماري وللحامي حر
جرى إلى الغايات فاستمر (5)
فحمل عليه الأشتر وهو يقول :
لست ـ وإن يكره ـ ذا الخلاط
ليس أخو الحرب بذي اختلاط
لكن عبوس غير مستشاط
هذا علي جاء في الاسباط
وخلف النعيم بالإفراط
بعرصة في وسط البلاط
منحل الجسم من الرباط (6)
يحكم حكم الحق لا اعتباط
وحمل شرحبيل بن السمط فقال :
أنا شرحبيل أنا ابن السمط
مبين الفعل بهذا الشط
بالطعن سمحا بقناة الخط
أطلب ثارات قتيل القبط (7)
جمعت قومي باشتراط الشرط
على ابن هند وأنا الموطى
__________________
(1) خف له : أسرع. والبطاش : مصدر باطشه ، والبطش : التناول بشدة عند الصولة. وفي الأصل : « كف له يخطف بالنهاس ».
(2) خفان ، ككتان : مأسدة قرب الكوفة. وشاش : مدينة بما وراء النهر.
(3) هذا يؤيد ما قيل من أن اسمه « عمرو بن سفيان السلمي ».
(4) في الأصل : « ولا فتى بلا فتى يسر ».
(5) الغايات : غايات السبق ينتهي إليها. وفي الأصل : « جرى على الغايات ».
(6) الرباط والمرابطة : ملازمة ثغر العدو.
(7) يعني عثمان ، وعني بالقبط أهل مصر.
حتى أناخوا بالمحامي الخط
جند يمان ليس هم بخلط
فأجابه الأشعث بن قيس :
إني أنا الأشعث وابن قيس
فارس هيجاء قبيل دوس
لست بشكاك ولا ممسوس (1)
كندة رمحي وعلى قوسي
وقال حوشب ذو ظليم (2) :
يا أيها الفارس ادن لا ترع
أنا أبو مر وهذا ذو كلع (3)
مسود بالشام ما شاء صنع
أبلغ عني أشترا أخا النخع (4)
والأشعث الغيث إذا الماء امتنع (5)
قد كثر الغدر لديكم لو نفع
فأجابه الأشعث :
أبلغ عني حوشبا وذا كلع
وشرحبيل ذاك أهلك الطمع (6)
قوم جفاة لا حيا ولا ورع
يقودهم ذاك الشقي المبتدع
إني إذا القرن لقرن يختضع
وأبرقوها في عجاج قد سطع (7)
أحمي ذماري منهم وأمتنع
وقال الأشتر أيضا فجال :
يا حوشب الجلف ويا شيخ كلع
أيكما أراد أشتر النخع
__________________
(1) الممسوس : الذي به مس من الجنون. وفي هذا البيت سناد الحذو ، وهو اختلاف حركة ما قبل الردف. وفي الأصل : « مملوس » ولا وجه له.
(2) سبقت ترجمته في ص 66.
(3) ذو كلع ، هو ذو الكلاع. انظر ص 60 ، 61.
(4) أبلغ : أي أبلغا ، بنون التوكيد الخفيفة ، حذفها وأبقي الحركة قبلها. انظر ما مضى ص 177.
(5) في الأصل : « منع ».
(6) أي أهلكه الطمع. وقد غير ضبط شرحبيل للشعر.
(7) العجاج ، كسحاب : الغبار. أبرقوها : أي أبرقوا السيوف. وفي اللسان : « وأبرق بسيفه يبرق : إذا لمع به ».
ها أنا ذا وقد يهولك الفزع
في حومة وسط قرار قد شرع
ثم تلاقي بطلا غير جزع
سائل بنا طلحة وأصحاب البدع
وسل بنا ذات البعير المضطجع (1)
كيف رأوا وقع الليوث في النقع (2)
تلقى أمرأ كذاك ما فيه خلع
وخالف الحق بدين وابتدع (3)
نصر : عمر بن سعد ، عن رجل قد سماه (4) عن أبيه ، عن عمه محمد بن مخنف (5) قال : كنت مع أبي يومئذ وأنا ابن سبع عشرة سنة ، ولست في عطاء (6) ، فلما منع الناس الماء قال لي : لا تبرح. فلما رأيت الناس يذهبون نحو الماء لم أصبر ، فأخذت سيفي فقاتلت ، فإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ، ومعه قربة له ، فلما رأى أهل الشام قد أفرجوا عن الماء شد (7) فملأ قربته ثم أقبل بها ، وشد عليه رجل من أهل الشام (
فضربه فصرعه ، ووقعت القربة منه ، وشددت على الشامي فضربته وصرعته ، وعدا أصحابه فاستنقذوه. قال : وسمعتهم يقولون : لا بأس عليك. ورجعت إلى المملوك فأجلسته (9) فإذا هو يكلمني وبه جرح رحيب (10) ، فلم يكن أسرع من أن
__________________
(1) ذات البعير ، يعني بها عائشة رضي الله عنها. وقد عرقب بعيرها يوم الجمل وأخذته السيوف حتى سقط واضطجع.
(2) النقع ، بالفتح : الغبار ، وحركه للشعر.
(3) أي وما خالف الحق.
(4) هو أبو مخنف. وقد سبق نظير هذا الصنيع في ص 135.
(5) ذكره في لسان الميزان ( 5 : 375 ) وقال : « روى يحيى بن سعيد عنه أنه قال : دخلت مع أبي على علي رضي الله عنه عام بلغت الحلم ». وهذا يضم إلى أولاد مخنف. انظر ص 135.
(6) العطاء : اسم لما يعطي. يقول : لم أكن في الجند فيفرض لي عطاء. وفي الأصل : « في غطاء » بالمعجمة ، تحريف.
(7) شد : أسرع في عدوه ، كاشتد.
(
شد عليه ، هنا ، بمعنى حمل عليه.
(9) في الطبري ( 5 : 241 ) : « فاحتملته » أي حملته.
(10) في الطبري. « رغيب » وهو الأكثر في كلامهم. انظر المفضليات ( 2 : 55 ).
جاء مولاه فذهب به ، وأخذت قربته وهي مملوءة ماء ، فجئت بها إلى أبي ، فقال : من أين جئت بها؟ فقلت : اشتريتها. وكرهت أن أخبره الخبر فيجد علي ، فقال : اسق القوم. فسقيتهم وشربت آخرهم ، ونازعتني نفسي والله القتال ، فانطلقت أتقدم فيمن يقاتل. قال : فقاتلتهم ساعة ، ثم أشهد أنهم خلوا لنا عن الماء. قال : فما أمسيت حتى رأيت سقاتهم وسقاتنا يزدحمون على الماء ، فما يؤذي إنسان إنسانا. قال : وأقبلت راجعا فإذا أنا بمولى صاحب القربة فقلت : هذه قربتك فخذها ، أو ابعث معي من يأخذها ، أو أعلمني مكانك. فقال : رحمك الله ، عندنا ما يكتفي به. فانصرفت وذهب ، فلما كان من الغد مر على أبي ، فوقف فسلم ، ورأني إلى جنبه فقال : من هذا الفتى منك؟ قال : ابني. قال : أراك الله فيه السرور ، استنقذ والله غلامي أمس ، وحدثني شباب الحي أنه كان من أشجع الناس. قال : فنظر إلى أبي نظرة عرفت [ منها (1) ] الغضب في وجهه ، ثم سكت حتى مضى الرجل ثم قال : هذا ما تقدمت إليك فيه (2)؟ قال : فحلفني ألا أخرج إلى قتال إلا بإذنه. فما شهدت لهم قتالا حتى كان آخر يوم من أيامهم ، إلا ذلك اليوم.
نصر ، عن يونس بن [ أبي (3) ] إسحاق السبيعي ، عن مهران مولى يزيد ابن هانئ السبيعي قال : والله إن مولاي ليقاتل على الماء ، وإن القربة لفي يدي ، فلما انكشف أهل الشام عن الماء شددت حتى أستقي ، وإني فيما بين ذلك لأرمي وأقاتل.
__________________
(1) التكمله من الطيري ( 5 : 241 ) ، وحذف العائد على الموصوف قليل في كلامهم. انظر حواشي الحيوان ( 6 : 241 ).
(2) تقدم إليه في كذا : أمره وأوصاه به. وفي الأصل : « قدمت » صوابه من الطبري.
(3) التكملة من الطبري. وانظر منتهى المقال 336.
نصر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبي عمرة (1) عن أبيه سليمان الحضرمي (2) ، قال : لما خرج علي من المدينة خرج معه أبو عمرة بن عمرو بن محصن (3) قال : فشهدنا مع علي الجمل ثم انصرفنا إلى الكوفة ، ثم سرنا إلى أهل الشام ، حتى إذا كان بيننا وبين صفين ليلة دخلني الشك فقلت : والله ما أدري علام أقاتل؟ وما أدري ما أنا فيه. قال : واشتكى رجل منا بطنه من حوت أكله ، فظن أصحابه أنه طعين (4) فقالوا : نتخلف على هذا الرجل. فقلت : أنا أتخلف عليه. والله ما أقول ذلك إلا مما دخلني من الشك. فأصبح الرجل ليس به بأس ، وأصبحت قد ذهب عني ما كنت أجد ، ونفذت لي بصيرتي ، حتى إذا أدركنا أصحابنا ومضينا مع علي إذا أهل الشام قد سبقونا إلى الماء ، فلما أردناه منعونا ، فصلتنا لهم بالسيف فخلونا وإياه ، وأرسل أبو عمرة إلى أصحابه : قد والله جزناهم فهم يقاتلونا ، وهم في أيدينا ، ونحن دونه إليهم كما كان في أيديهم قبل أن نقاتلهم. فأرسل معاوية إلى أصحابه : لا تقاتلوهم وخلوا بينهم وبينه. فشربوا فقلنا لهم : قد كنا عرضنا عليكم هذا أول مرة فأبيتم حتى أعطانا الله وأنتم غير محمودين. قال : فانصرفوا عنا وانصرفنا عنهم ، ولقد رأيت روايانا ورواياهم بعد ، وخيلنا وخيلهم ترد ذلك الماء جميعا ، حتى ارتووا وارتوينا.
نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني ، أن عمرو بن العاص قال :
__________________
(1) في التقريب 603 : « أبو عمرة عن أبيه ، في سهم الفارس. مجهول من السادسة ». وفي الأصل : « عن أبيه عمرة » تحريف.
(2) في التقريب : « سليمان بن زياد الحضرمي المصري ، ثقة من الخامسة ».
(3) هو أبو عمرة الأنصاري ، قيل اسمه بشر وقيل بشير ، وكان زوج بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم المقوم بن عبد المطلب. انظر قسم الكني من الإصابة 805 ، 801. وفي الاشتقاق 269 : « وأبو عمرة بشير بن عمرو ، قتل بصفين ».
(4) الطعين ، هنا : الذي أصابه الطاعون.
يا معاوية ما ظنك بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتراك تضاربهم عليه (1) كما ضاربوك عليه. وما أغني عنك أن تكشف لهم السوءة. قال : دع عنك ما مضى منه ، ما ظنك بعلي؟ قال : ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه ، وأن الذي جاء له غير الماء. فقال له معاوية قولا أغضبه. فأنشأ عمرو يقول :
أمرتك أمرا فسخفته
وخالفني ابن أبي سرحه (2)
فأغمضت في الرأي إغماضة
ولم تر في الحرب كالفسحه
فكيف رأيت كباش العراق
ألم ينطحوا جمعنا نطحه
أظن لها اليوم ما بعدها
وميعاد ما بيننا صبحه
فإن ينطحونا غدا مثلها
نكن (3) كالزبيري أو طلحه
وإن أخروها لما بعدها
فقد قدموا الخبط والنفحة (4)
وقد شرب القوم ماء الفرات
وقلدك الأشتر الفضحه
قال : ومكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من قبل معاوية أحد ، وجاء عبيد الله بن عمر فدخل على علي في عسكره فقال : أنت قاتل الهرمزان ، وقد كان أبوك فرض له في الديوان وأدخله في الإسلام؟ فقال له ابن عمر : الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان وأطلبك بدم عثمان بن عفان. فقال له علي : لا عليك ، سيجمعني وإياك الحرب غدا. ثم مكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يرسل إليه معاوية (5).
__________________
(1) في الأصل : « ضاربهم عليه » صوابه من ح ( 1 : 331 ).
(2) يريد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقد تصرف في الاسم للشعر. انظر ما سبق في ص 161.
(3) ح : « فكن ».
(4) الخبط : الضرب الشديد. والنفحة : الدفعة من العذاب. ح : « الخيط » تحريف.
(5) انظر أول هذا الكلام.
ثم إن عليا دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري (1) ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة ، وإلى اتباع أمر الله تعالى. فقال له شبث : ألا نطمعه (2) في سلطان توليه إياه ومنزلة تكون به له أثرة عندك إن هو بايعك؟ قال علي : ائتوه الآن فالقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه ـ وهذا في شهر ربيع الآخر ـ فأتوه فدخلوا عليه ، فحمد أبو عمرة بن محصن الله وأثنى عليه وقال : « يا معاوية ، إن الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله عز وجل مجازيك بعملك ، ومحاسبك بما قدمت يداك ، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة هذه الأمة ، وأن تسفك دماءها بينها ». فقطع معاوية عليه الكلام ، فقال : هلا أوصيت صاحبك؟ فقال : سبحان الله ، إن صاحبي ليس مثلك ، إن صاحبي أحق البرية في هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة والإسلام ، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال معاوية : فتقول ماذا؟ قال : أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك. قال : ويطل دم عثمان؟ لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا. قال : فذهب سعيد يتكلم ، فبدره شبث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه لا يخفى علينا ما تقرب وما تطلب ، إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ؛ وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ،
__________________
(1) هو أبو عمرة بن عمرو بن محصن ، وقد سبقت ترجمته في ص 185.
(2) في الأصل : « لا نطعمه ».
وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب. ورب مبتغ أمرا وطالبه يحول الله دونه. وربما أوتي المتمنى أمنيته ، وربما لم يؤتها. ووالله مالك في واحدة منها خير. والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار. فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله.
قال : فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال :
« أما بعد فإن أول (1) ما عرفت به سفهك وخفة حلمك ـ قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به. ولقد كذبت ولويت (2) أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت. انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف ». قال : وغضب فخرج القوم وشبث يقول : أفعلينا تهول بالسيف ، أما والله لنعجلنه إليك. فأتوا عليا 7 فأخبروه بالذي كان من قوله ـ وذلك في شهر ربيع الآخر ـ قال : وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام ، فعسكروا ناحية صفين في ثلاثين ألفا ، وعسكر علي على الماء ، وعسكر معاوية فوق ذلك ، ومشت القراء فيما بين معاوية وعلي ، فيهم عبيدة السلماني (3) ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وعبد الله بن عتبة ، وعامر بن عبد القيس ـ وقد كان في بعض تلك السواحل ـ قال : فانصرفوا من عسكر علي (4) فدخلوا على معاوية فقالوا :
__________________
(1) في الأصل : « فإني أول » تحريف.
(2) وردت هذه الكلمة في الأصل غير واضحة هكذا : « و ـ وت ».
(3) هو عبيدة ـ بفتح أوله ـ بن عمرو ، ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني ، بفتح المهملة وسكون اللام ، وفتحها بعضهم. قال ابن الكلبي : أسلم قبل وفاة النبي بسنتين ولم يلقه. وكان شريح إذا أشكل عليه شيء كتب إلى عبيدة. والسلماني نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد. انظر مختلف القبائل ومؤتلفها لمحمد بن حبيب ص 30 جوتنجن والإصابة 6401 والمعارف 188 وتهذيب التهذيب والتقريب.
(4) في الأصل : « إلى عسكر علي ».
يا معاوية ، ما الذي تطلب؟ قال : أطلب بدم عثمان. قالوا : ممن تطلب بدم عثمان. قال : من علي 7. قالوا : وعلي 7 قتله؟ قال : نعم ، هو قتله وآوى قاتليه. فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي فقالوا : إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان. قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم معاوية : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالا. فرجعوا إلى علي 7 فقالوا : إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن فتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان. فقال : اللهم كذب فيما قال. فرجعوا إلى معاوية فقالوا : إن عليا 7 يزعم أنه لم يفعل. فقال معاوية : إن كان صادقا فليمكنا من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده. فرجعوا إلى علي 7 فقالوا : إن معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنا منهم. قال لهم علي : تأول القوم عليه القرآن ووقعت الفرقة ، وقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود. فخصم على معاوية (1). فقال معاوية : إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا. فقال علي 7 : إنما الناس تبع المهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم ، فرضوا بي وبايعوني ، ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية (2) يحكم على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال : ليس كما يقول ، فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه (3). فانصرفوا إلى علي 7 فقالوا له ذلك وأخبروه. فقال علي 7 : ويحكم ، هذا للبدريين دون الصحابة ، ليس في الأرض
__________________
(1) خصمه : غلبه في الخصومة بالحجة.
(2) أي مثل معاوية. والضرب : المثل والشبيه.
(3) المؤامرة : المشاورة.
بدري إلا قد بايعني وهو معي ، أو قد أقام ورضي ، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم. فتراسلوا ثلاثة أشهر ، ربيعا الآخر وجماديين ، فيفزعون الفزعة (1) فيما بين ذلك ، فيزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم. ففزعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين فزعة ، كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم ، ولا يكون بينهم قتال.
قال : وخرج أبو أمامة الباهلي ، وأبو الدرداء ؛ فدخلا على معاوية وكانا معه ، فقالا : يا معاوية : علام تقاتل هذا الرجل ، فوالله لهو أقدم منك سلما (2) ، وأحق بهذا الأمر منك ، وأقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلام تقاتله؟ فقال : أقاتله على دم عثمان ، وأنه آوى قتلته ؛ فقولوا له فليقدنا من قتلته ، فأنا أول من بايعه من أهل الشام. فانطلقوا إلى علي فأخبروه بقول معاوية ، فقال : هم الذين ترون. فخرج عشرون ألفا أو أكثر مسر بلين في الحديد ، لا يرى منهم إلا الحدق ، فقالوا : كلنا قتله ، فإن شاءوا فليروموا ذلك منا. فرجع أبو أمامة ، وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال حتى إذا كان رجب وخشى معاوية أن يبايع القراء عليا على القتال أخذ في المكر ، وأخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا عنه (3) ويكفوا حتى ينظروا. قال : وإن معاوية كتب في سهم : « من عبد الله الناصح ، فإني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم. فخذوا حذركم ». ثم رمى معاوية بالسهم في عسكر علي 7 ، فوقع السهم في يدي رجل من أهل الكوفة ، فقرأه ثم اقرأه صاحبه ، فلما قرأه وأقرأه الناس ـ أقرأه من أقبل وأدبر ـ قالوا : هذا أخر ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية. فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع
__________________
(1) في الأصل : « فيقرعون القرعة » وبنى سائر العبارة على ذلك ، تحريف.
(2) السلم : الإسلام.
(3) في الأصل : « عليه ».
حتى رفع (1) إلى أمير المؤمنين ، وقد بعث معاوية مائتي رجل من الفعلة إلى عاقول من النهر (2) ، بأيديهم المرور والزبل (3) يحفرون فيها بحيال عسكر علي ابن أبي طالب ، فقال علي 7 : ويحكم ، إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوم عليه (4) ، وإنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم ، فالهوا عن ذلك ودعوه. فقالوا له : لا ندعهم (5) والله يحفرون الساعة. فقال علي : يا أهل العراق لا تكونوا ضعفي (6) ، ويحكم لا تغلبوني على رأيي. فقالوا : والله لنرتحلن ، فإن شئت فارتحل ، وإن شئت فأقم. فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا (7) ، وارتحل علي في أخريات الناس ، وهو يقول :
ولو أني أطعت عصبت قومي
إلى ركن اليمامة أو شمام (
ولكني إذا أبرمت أمرا
منيت بخلف آراء الطغام
وارتحل معاوية حتى نزل على معسكر علي الذي كان فيه ، فدعا على الأشتر ، فقال : ألم تغلبني على رائي (9) أنت والأشعث؟ فدونكما. فقال الأشعث : أنا أكفيك يا أمير المؤمنين ، سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك. فجمع بني كندة ، وقال : يا معشر كندة ، لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني ،
__________________
(1) في الأصل : « دفع » بالدال ، وأثبت ما في ح ( 1 : 343 ).
(2) عاقول النهر والوادي والرمل : ما اعوج منه.
(3) المرور : جمع مر ، بالفتح ، وهو المسحاة. والزبل ، بضمتين : جمع زبيل ، وهو الجراب والقفة. في الأصل : « الزبيل » والوجه الجمع. وفي ح : « المزور والرمل » تحريف.
(4) ح : « ولا يقوى عليه ».
(5) في الأصل : « هم » بدل : « لا ندعهم » صوابه في ح.
(6) كذا في الأصل. ولعلها : « خلفي » وهو بالكسر : المخالف.
(7) مليا : طويلا. ومنه : ( واهجرني مليا ) وفي الأصل : « عليا » صوابه في ح.
(
ح : « عصمت قومي ». وشمام : جبل لباهلة. وفي الأصل : « شآم » وجهه في ح.
(9) الراء : الرأي. وفي ح : « رأيي ».
إنما أقارع بكم أهل الشام. فخرجوا معه رجلا يمشون (1) وبيد الأشعث رمح له يلقيه على الأرض ، ويقول : امشوا قيس رمحي [ هذا ]. فيمشون ، فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ذلك ويمشون معه رجالة قد كسروا جفون سيوفهم حتى لقوا معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء ، وقد جاءه أداني عسكره ، فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة ، وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا ، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق ، فحمل على معاوية حملة ، والأشعث يحارب في ناحية [ أخرى ] ، فانحاز معاوية في بني سليم فردوا وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ. ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم ، والأشعث يهدر ويقول : أرضيتك يا أمير المؤمنين! ثم تمثل [ بقول طرفة بن العبد ] :
ففداء لبني سعد على
ما أصاب الناس من خير وشر (2)
ما أقلت قدماي ، إنهم
نعم الساعون في الحي الشطر (3)
ولقد كنت عليكم عاتبا
فعقبتم بذنوب غير مر (4)
كنت فيكم كالمغطى رأسه
فانجلى اليوم قناعي وخمر
سادرا أحسب غيي رشدا
فتناهيت وقد صابت بقر (5)
__________________
(1) ح : « رجالة » والرجالة والرجل والراجلون بمعنى.
(2) رواية « فداء » بالرفع ، أي نفسي فداء أو أنا فداء. وفي ديوان طرفة 82 والخزانة ( 4 : 101 بولاق ) : « لبني قيس » وفي الديوان والخزانة : « من سر وضر » وهما بضم أولهما السراء والضراء.
(3) أقلت : حملت أي ما أقلتني قدماي ، أي طول الحياة. ونعم ، بكسرتين ففتح : لغة في نعم. والشطر بضمتين : جمع شطير ، وهو الغريب البعيد ويروى : « خالتي والنفس قدما » على أن تكون « خالتي » مبتدأ خبره « فداء » في البيت السابق.
(4) عقبتم : أي وجدتم عقب ذلك. والذنوب ، بالفتح : النصيب والحظ. وفي الكتاب : ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم ). والمر : نقيض الحلو.
(5) تناهيت أي انتهيت من سفهي. ويقال للأمر إذا وقع في مستقره : « صابت بقر » بضم القاف ، أي نزل الأمر في مستقره فلا يستطاع له تحويل. وفي الأصل : وقد كادت ثفر ، صوابه في ح والديوان.
قال : وقال الأشعث : يا أمير المؤمنين ، قد غلب الله لك على الماء. قال علي : أنت كما قال الشاعر :
تلاقين قيسا وأتباعه
فيشعل للحرب نارا فنارا
أخو الحرب إن لقحت بازلا
سما للعلي وأجل الخطارا (1)
فلما غلب علي علي الماء فطرد عنه أهل الشام بعث إلي معاوية : « إنا لا نكافيك بصنعك ، هم إلي الماء فنحن وأنتم فيه سواء ». فأخذ كل واحد منهما بالشريعة مما يليه ، وقال علي 7 لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء. وقال معاوية : لله در عمرو ، ما عصيته في أمر قط إلا أخطأت الرأي فيه. قال : فمكث معاوية أياما لا يكلم عمرا ، ثم بعث إليه ، فقال : يا عمرو ، كان فلتة من رأي أعقبتني بخطائها (2) وأمت ما كان قبلها من الصواب ، أما والله لو تقايس [ صوابك (3) ] بخطائك لقل صوابك. فقال عمرو : قد كان كذا فرأيت احتجت إلى رأيك ، وما خطاؤك اليوم حين أعذرت إليك أمس ، وكذلك أنالك غدا إن عصيتني اليوم. فعطف عليه معاوية ، ورضي عنه ، وبات على مشق الحيل (4) حتى أصبح ، ثم غاداهم على القتال ، وعلى رايته يومئذ هاشم بن عتبة المرقال. قال : ومعه الحدل التي يقول فيها الأشتر :
إنا إذا ما احتسبنا الوغى
أدرنا الرحى بصنوف الحدل (5)
__________________
(1) أي إن لقحت الحرب وهي بازل. والبزول : أقصى أسنان البعير إذا طعن في التاسعة. يقول : إذ تجددت الحرب بعد ما طال عهدها وقوتل فيها مرات دخل في غمارها ولم يتهيب. أجل : أعظم. والخطار : مصدر كالمخاطرة ، يقال خاطر بنفسه : أشفى بها على خطر هلك أو نيل ملك. وفي الأصل : « لحقت بازلا » ، صوابه في ح.
(2) الخطاء : الخطأ. وفي الأصل : « يخطاؤها » تحريف.
(3) تكملة يقتضيها السياق.
(4) كذا في الأصل.
(5) الحدل : جمع حدلاء ، وهي القوس قد حدرت إحدى سيتيها ورفعت الأخرى. وفي الأصل : « الجدل » في هذا الموضع وسابقه ، جمع جدلاء للدرع المجدولة. ولا وجه لها هنا.
وضربا لهاماتهم بالسيوف
وطعنا لهم بالقنا والاسل
عرانين من مذحج وسطها
يخوضون أغمارها بالهبل (1)
ووائل تسعر نيرانها
ينادونهم أمرنا قد كمل
أبو حسن صوت خيشومها
بأسيافه كل حام بطل (2)
على الحق فينا له منهج
علي واضح القصد لا بالميل
قال : وبرز يومئذ عوف من أصحاب معاوية وهو يقول :
إني أنا عوف أخو الحروب
عند هياج الحرب والكروب
صاحب لا الوقاف والهيوب (3)
عند اشتعال الحرب باللهيب
ولست بالناجي من الخطوب
ومن رديني مارن الكعوب
إذ جئت تبغي نصرة الكذوب
ولست بالعف ولا النجيب
فبرز إليه علقمة بن عمرو ، من أصحاب علي ، وهو يقول :
يا عجبا للعجب العجيب
قد كنت يا عوف أخا الحروب
وليس فيها لك من نصيب
إنك ، فاعلم ، ظاهر العيوب
في طاعة كطاعة الصليب
في يوم بدر عصبة القليب (4)
فدونك الطعنة في المنخوب (5)
قلبك ذو كفر من القلوب
فطعنه علقمة فقتله ، فقال علقمه في ذلك :
__________________
(1) الهبل : الثكل ، هبلته أمه ثكلته.
(2) في الأصل : « أبا حسن ».
(3) أي أنا صاحب من ليس بوقاف ولا هيوب. والوقوف : المحجم عن القتال. والهيوب : الجبان. وفي الأصل : « صاحبها الوقاف لا الهيوب » محرف.
(4) القليب : قليب بدر.
(5) المنخوب : الجبان ، أراد به قلبه. وفي الأصل : « النخوب » ولا وجه له.
يا عوف لو كنت امرأ حازما
لم تبرز الدهر إلى علقمه
لاقيت ليثا أسدا باسلا
يأخذ بالأنفاس والغلصمه
لاقيته قرنا له سطوة
يفترس الأقران في الملحمه
ما كان في نصر امرئ ظالم
ما يدرك الجنة والمرحمه
ما لابن صخر حرمة ترتجى
لها ثواب الله بل مندمه
لاقيت ما لاقى غداة الوغى
من أدرك الأبطال يا ابن الأمه
ضيعت حق الله في نصرة
للظالم المعروف بالمظلمة
إن أبا سفيان من قبله
لم يك مثل العصبة المسلمه
لكنه نافق في دينه
من خشية القتل على المرغمة
بعدا لصخر مع أشياعه
في جاحم النار لدى المضرمه (1)
فمكثوا على ذلك حتى كان ذو الحجة ، فجعل علي يأمر هذا الرجل الشريف فيخرج معه جماعة فيقاتل ، ويخرج إليه من أصحاب معاوية رجل معه آخر ، فيقتتلان في خيلها ورجلهما ثم ينصرفان ، وأخذوا يكرهون أن يتراجعوا بجميع الفيلق من العراق وأهل الشام ، مخافة الاستئصال والهلاك. وكان علي 7 يخرج الأشتر مرة في خيله ، وحجر بن عدي مرة ، وشبث بن ربعي التميمي مرة ، ومرة خالد بن المعمر السدوسي ، ومرة زياد بن النضر الحارثي ، ومرة زياد بن جعفر الكندي ، ومرة سعد بن قيس الهمداني ، ومرة معقل بن قيس الرياحي ومرة قيس بن سعد بن عبادة. وكان أكثر القوم حروبا الأشتر.
وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ،
__________________
(1) جاحم النار : معظمها وموضع الشدة فيها. والمضرمة : مصدر ميمي من الضرم ، وهو اشتعال النار والتهابها.
ومرة أبا الأعور السلمي ، ومرة حبيب بن مسلمة الفهري ، ومرة ابن ذي الكلاع ، ومرة عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ومرة شرحبيل بن السمط ، ومرة حمزة بن مالك الهمداني. فاقتتلوا ذا الحجة ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين : أوله وآخره.
نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن عبد الله بن عاصم قال : حدثني رجل من قومي ، أن الأشتر خرج يوما فقاتل بصفين في رجال من القراء ، ورجال من فرسان العرب ، فاشتد قتالهم ، فخرج علينا رجل لقل والله ما رأيت رجلا قط هو أطول ولا أعظم منه ، فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه إنسان ، وخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين ، وضربه الأشتر فقتله. وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه ، وسألناه ألا يخرج إليه. فلما قتله نادى مناد من أصحابه :
يا سهم سهم بن أبي العيزار
يا خير من نعلمه من زار (1)
وجاء رجل من الأزد فقال : أقسم بالله لأقتلن قاتلك. فحمل على الأشتر [ وعطف عليه الأشتر (2) ] فضربه فإذا هو بين يدي فرسه ، وحمل أصحابه فاستنقذوه جريحا ، فقال أبو رقيقة السهمي (3) : « كان هذا نارا فصادفت إعصارا ».
فاقتتل الناس ذا الحجة كله ، فلما مضى ذو الحجة تداعى الناس أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم ، لعل الله أن يجري صلحا واجتماعا. فكف الناس بعضهم عن بعض.
__________________
(1) زار : مرخم زارة ، وهم بطن من الأزد. انظر الاشتقاق 288. وقد أنشد الطبري الرجز في ( 5 : 243 ) وعقب عليه بقوله : « وزارة حي من الأزد ». وفي الأصل « من نعلم من نزار » ، صوابه من الطبري.
(2) التكملة من الطبري ( 5 : 243 )
(3) في الطبري : « أبو رفيقة الفهمي ».