الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» المحكم في اصول الفقه ج3
العقيدة وعلم الكلام Emptyاليوم في 7:32 من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
العقيدة وعلم الكلام Emptyاليوم في 6:55 من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
العقيدة وعلم الكلام Emptyأمس في 20:49 من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
العقيدة وعلم الكلام Emptyأمس في 14:11 من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
العقيدة وعلم الكلام Emptyأمس في 13:36 من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
العقيدة وعلم الكلام Emptyأمس في 7:51 من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:46 من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:37 من طرف الشيخ شوقي البديري

»  فقه الحضارة
العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 15:25 من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     العقيدة وعلم الكلام

    اذهب الى الأسفل 
    انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:31

    الإمام الكوثري
    بقلم الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة
    وكيل كلية الحقوق وأستاذ الشريعة بجامعة القاهرة
    (رحمهما‌الله تعالى)
    1 ـ منذ أكثر من عام (1) فقد الإسلام إماما من أئمة المسلمين الذين علوا بأنفسهم عن سفساف هذه الحياة ، واتجهوا إلى العلم اتجاه المؤمن لعبادة ربه ، ذلك بأنه علم أن العلم عبادة من العبادات يطلب العالم به رضا الله لا رضا أحد سواه ، لا يبغي به علوّا في الأرض ولا فسادا ، ولا استطالة بفضل جاه ، ولا يريده عرضا من أعراض الدنيا ، إنما يبغي به نصرة الحق لإرضاء الحق جلّ جلاله. ذلكم هو الإمام الكوثري ، طيّب الله ثراه ، ورضي عنه وأرضاه.
    لا أعرف أنّ عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين ، كما خلا مكان الإمام الكوثري ، لأنه بقيّة السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلّما لغاية ، بل كان هو منتهى الغايات عندهم ، وأسمى مطارح أنظارهم ، فليس وراء علم الدين غاية يتغيّاها مؤمن ، ولا مرتقى يصل إليه عالم.
    لقد كان رضي الله عنه عالما يتحقّق فيه القول المأثور «العلماء ورثة الأنبياء» وما كان يرى تلك الوراثة شرفا فقط ، ليفتخر به ويستطيل على الناس ، إنما كان يرى تلك الوراثة جهادا في إعلان الإسلام ، وبيان حقائقه ، وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره فيبديه للناس صافيا مشرقا منيرا ، فيعشو الناس الى نوره ، ويهتدون بهداه ، وأنّ تلك الوراثة تتقاضى العالم أن يجاهد كما جاهد النبيّون ، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا ، وأن يلقى العنت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا ، فليست تلك الوراثة شرفا إلا لمن أخذ في أسبابها ، وقام بحقها ، وعرف الواجب فيها ، وكذلك كان الإمام الكوثري رضي الله عنه.
    2 ـ إنّ ذلك الإمام الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهب جديد ، ولا من الدعاة إلى أمر بديء لم يسبق به ، ولم يكن من الذين يسمهم الناس اليوم بسمة التجديد ، بل كان ينفر
    __________________
    (1) توفي الإمام الكوثري رحمه‌الله عام 1371 ه‍.

    منهم ، فإنه كان متّبعا ، ولم يكن مبتدعا ، ولكني مع ذلك أقول : إنه كان من المجدّدين بالمعنى الحقيقي لكلمة التجديد ، لأن التجديد ليس هو ما تعارفه الناس اليوم من خلع للربقة وردّ لعهد النبوّة الأولى ، إنما التجديد هو أن يعاد إلى الدين رونقه ويزال عنه ما علق به من أوهام ، ويبيّن للناس صافيا كجوهره ، نقيّا كأصله ، وإنه لمن التجديد أن تحيا السّنّة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين.
    ذلك هو التجديد حقا وصدقا ، ولقد قام الإمام الكوثري بإحياء السنة النبوية ، فكشف عن المخبوء بين ثنايا التاريخ من كتبها ، وبيّن مناهج رواتها ، وأعلن للناس في رسائل دوّنها وكتب ألّفها سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أقوال وأفعال وتقريرات ، ثم عكف على جهود العلماء السابقين الذين قاموا بالسنة ورعوها حقّ رعايتها ، فنشر كتبهم التي دوّنت فيها أعمالهم لإحياء السنة والدّين قد أشربت النفوس حبّه ، والقلوب لم ترنّق بفساد والعلماء لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، ولم يكونوا في ركاب الملوك.
    3 ـ لقد كان الإمام الكوثري عالما حقا ، عرف علمه العلماء ، وقليل منهم من أدرك جهاده ، ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه ، عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق ، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها ، وما كان والله عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه ، لقد كان المخطوط أحيانا رسالة صغيرة.
    ولكن تعليقات الإمام عليه تجعل منه كتابا مقروءا ، وإنّ الاستيعاب والاطّلاع واتساع الأفق ، تظهر في التعليق بادية العيان ، وكلّ ذلك مع طلاوة عبارة ، ولطف إشارة ، وقوّة نقد ، وإصابة للهدف ، واستيلاء على التفكير والتعبير ، ولا يمكن أن يجول بخاطر القارئ أنه كاتب أعجمي وليس بعربي مبين.
    ولقد كان لفرط تواضعه لا يكتب مع عنوان الكتاب عمله الرسميّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان ، لأنه ما كان يرى رضي الله عنه أنّ شرف العالم يناله من عمله الرسمي وإنما يناله من عمله العلمي ، فكان بعض القارئين ـ لسلامة المبنى مع دقة المعنى ولإشراق الديباجة وجزالة الأسلوب ـ لا يجول بخاطره أنّ الكاتب تركي بل يعتقد أنه عربي ، ولد عربيّا ، وعاش عربيّا ، ولم تظلّه إلا بيئة عربية.
    ولكن لا عجب فإنه كان تركيّا في سلالته وفي نشأته ، وفي حياته الإنسانية في المدة التي عاشها في الآستانة ، أما حياته العلمية فقد كانت عربية خالصة ، فما كان يقرأ إلا عربيّا ، وما ملأ رأسه المشرق إلا النور العربيّ المحمديّ ، ولذلك كان لا يكتب إلا كتابة نقية خالية من كل الأساليب الدخيلة في المنهاج العربي ، بل كان يختار الفصيح من الاستعمال الذي لم يجر خلاف حول فصاحته ، مما يدلّ على عظم اطّلاعه على كتب اللغة متنا ونحوا وبلاغة ، ثم هو فوق ذلك يقرض الشعر العربي فيكون منه الحسن.
    4 ـ لقد اختصّ رضي الله عنه بمزايا رفعته وجعلته قدوة للعالم المسلم ، لقد علا بالعلم عن سوق الاتجار ، وأعلم الخافقين أنّ العالم المسلم وطنه أرض الإسلام ، وأنه لا يرضى

    بالدّنيّة في دينه ، ولا يأخذ من يذل الإسلام بهوادة ، ولا يجعل لغير الله والحقّ عنده إرادة ، وأنه لا يصحّ أن يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ، ولا يعلي فيها كلمة الإسلام ، وإن كانت بلده الذي نشأ فيه ، وشدا وترعرع في مغانيه ، فإنّ العالم يحيا بالروح لا بالمادة ، وبالحقائق الخالدة ، لا بالأعراض الزائلة ، وحسبه أن يكون وجيها عند الله وفي الآخرة ، وأما جاه الدنيا وأهلها فظلّ زائل ، وعرض حائل.
    5 ـ وإنّ نظرة عبارة لحياة ذلك العالم الجليل ، ترينا أنه كان العالم المخلص المجاهد الصابر على البأساء والضرّاء ، وتنقّله في البلاد الإسلامية والبلاء بلاء ، ونشره النور والمعرفة حيثما حلّ وأقام. ولقد طوّف في الأقاليم الإسلامية فكان له في كل بلد حل فيه تلاميذ نهلوا من منهله العذب ، وأشرقت في نفوسهم روحه المخلصة المؤمنة ، يقدّم العلم صفوا لا يرنقه مراء ولا التواء ، يمضي في قول الحق قدما لا يهمّه رضي الناس أو سخطوا ما دام الذي بينه وبين الله عامرا.
    ويظهر أن ذلك كان في دمه الذي يجري في عروقه ، فهو في الجهاد في الحقّ منذ نشأ ، وإنّ في أسرته لتقوى وقوّة نفس وصبر واحتمال للجهاد ، إنه من أسرة كانت في القوقاز ، حيث المنعة والقوّة وجمال الجسم والروح ، وسلامة الفكر وعمقه.
    ولقد انتقل أبوه إلى الآستانة فولد على الهدى والحق ، فدرس العلوم الدينية حتى نال أعلى درجاتها في نحو الثامنة والعشرين من عمره ، ثم تدرّج في سلّم التدريس حتى وصل إلى أقصى درجاته وهو في سنة صغيرة ، حتى إذا ابتلي بالذين يريدون فصل الدنيا عن الدين ، لتحكم الدنيا بغير ما أنزل الله ، وقف لهم بالمرصاد ، والعود أخضر ، والآمال متفتحة ، ومطامح الشباب متحفّزة ، ولكنه آثر دينه على دنياهم ، وآثر أن يدافع عن البقايا الإسلامية على أن يكون في عيش ناعم ، بل آثر أن يكون في نصب دائم فيه رضا الله ، على أن يكون في عيش رافه وفيه رضا الناس ورضا من بيدهم شئون الدنيا ، لأن إرضاء الله غاية الإيمان.
    6 ـ جاهد الاتحاديين الذين كان بيدهم أمر الدولة لما أرادوا أن يضيّقوا مدى الدراسات الدينية ويقصّروا زمنها ، وقد رأى رضي الله عنه في ذلك التقصير نقصا لأطرافها ، فأعمل الحيلة ودبّر وقدّر ، حتى قضى على رغبتهم ، وأطال المدة التي رغبوا في تقصيرها ، ليتمكن طالب علوم الإسلام من الاستيعاب وهضم العلوم ، وخصوصا بالنسبة لأعجميّ بلسان عربيّ مبين.
    7 ـ وهو في كل أحواله العالم النّزه الأنف الذي لا يعتمد على ذي جاه في ارتفاع ، ولا يتملّق ذا جاه لنيل مطلب أو الوصول إلى غاية مهما شرفت ، فإنه رضي الله عنه كان يرى أن معالي الأمور لا يوصل إليها إلا طريق سليم ومنهاج مستقيم ، ولا يمكن أن يصل كريم إلى غاية كريمة إلا من طريق يصون النفس فيها عن الهوان ، فإنه لا يوصل إلى شريف إلا شريف مثله ، ولا شرف في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا ، فإنّ من يعتمد عليهم لا

    يكون عند الله وجيها.
    8 ـ سعى رضي الله عنه بجدّه وعمله في طريق المعالي حتى صار وكيل مشيخة الإسلام في تركيا ، وهو ممن يعرف للمنصب حقّه ، لذلك لم يفرّط في مصلحة إرضاء لذي جاه مهما يكن قويّا مسيطرا ، وقبل أن يعزل في منصبه في سبيل الاستمساك بالمصلحة.
    والاعتزال في سبيل الحقّ خير من الامتثال للباطل.
    9 ـ عزل الشيخ عن وكالة المشيخة الإسلامية ، ولكنه بقي في مجلس وكالتها الذي كان رئيسا له ، وما كان يرى غضّا لمقامه أن ينزل من الرئاسة إلى العضوية ما دام سبب النزول رفيعا ، إنه العلوّ النفسيّ لا يمنع العامل من أن يعمل رئيسا أو مرءوسا ، فالعزّة تستمدّ من الحق في ذاته ، ويباركها الحقّ جل جلاله.
    10 ـ ولكنّ العالم الأبيّ العفّ التّقيّ يمتحن أشد امتحان ، إذ يرى بلده العزيز وهو دار الإسلام الكبرى ، ومناط عزّته ، ومحطّ آمال المسلمين يسوده الإلحاد ، ثم يسيطر عليه من لا يرجو لهذا الدين وقارا ، ثم يصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ثم يجد هو نفسه مقصودا بالأذى ، وأنه إن لم ينج ألقي في غيابات السجن ، وحيل بينه وبين العلم والتعليم. عندئذ يجد الإمام نفسه بين أمور ثلاثة : إما أن يبقى مأسورا مقيّدا ، ينطفئ علمه في غيابات السجون ، وإنّ ذلك لعزيز على عالم تعوّد الدرس والإرشاد ، وإخراج كنوز الدّين ليعلّمها النّاس عن بينة ، وإما أن يتملّق ويداهن ويمالئ ، ودون ذلك خرط القتاد بل حزّ الأعناق ، وإما أن يهاجر وبلاد الله واسعة ، وتذكّر قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : 97].
    11 ـ هاجر إلى مصر ثم انتقل إلى الشام ، ثم عاد إلى القاهرة ، ثم رجع إلى دمشق مرة ثانية ، ثم ألقى عصا التسيار نهائيا بالقاهرة ، وهو في رحلاته إلى الشام ومقامه في القاهرة كان نورا ، وكان مسكنه الذي كان يسكنه ضؤل أو اتّسع مدرسة يأوي إليها طلاب العلم الحقيقي ، لا طلاب العلم المدرسي ، فيهتدي أولئك التلاميذ إلى ينابيع المعرفة ، من الكتب التي كتبت وسوق العلوم الإسلامية رائجة ونفوس العلماء عامرة بالإسلام ، فردّ عقول أولئك الباحثين إليها ووجّههم نحوها ، وهو يفسّر المغلق لهم ، ويفيض بغزير علمه وثمار فكره.
    12 ـ وإنّ كاتب هذه السطور لم يلق الشيخ إلا قبل وفاته بنحو عامين ، وقد كان اللقاء الرّوحيّ من قبل ذلك بسنين ، عند ما كنت أقرأ كتاباته ، وأقرأ تعليقه على ما يخرج من مخطوط ، وأقرأ ما ألّف من كتب ، وما كنت أحسب أنّ لي في نفس ذلك العالم الجليل مثل ما له في نفسي ، حتى قرأت كتابه «حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي» فوجدته رضي الله عنه خصّني عند الكلام في الحيل المنسوبة لأبي يوسف بكلمة خير.
    وأشهد أني سمعت ثناء من كبراء وعلماء ، فما اعتززت بثناء كما اعتززت بثناء ذلك الشيخ الجليل ، لأنه وسام علمي ممن يملك إعطاء الوسام العلمي.

    سعيت إليه لألقاه ، ولكني كنت أجهل مقامه ، وإني لأسير في ميدان العتبة الخضراء ، فوجدت شيخا وجيها وقورا ، الشيب ينبثق منه كنور الحق ، يلبس لباس علماء التّرك ، قد التفّ حوله طلبة من سورية ، فوقع في نفسي أنه الشيخ الذي أسعى إليه. فما أن زايل تلاميذه حتى استفسرت من أحدهم : من الشيخ؟ فقال : إنه الشيخ الكوثري ، فأسرعت حتى التقيت به لأعرف مقامه ، فقدّمت إليه نفسي ، فوجدت عنده من الرغبة في اللقاء مثل ما عندي ، ثم زرته فعلمت أنه فوق كتبه ، وفوق بحوثه ، وأنه كنز في مصر.
    13 ـ وهنا أريد أن أبدي صفحة من تاريخ ذلك الشيخ الإمام ، لم يعرفها إلا عدد قليل :
    لقد أردت أن يعمّ نفعه ، وأن يتمكّن طلاب العلم من أن يردوا ورده العذب ، وينتفعوا من منهله الغزير ، لقد اقترح قسم الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة : أن يندب الشيخ الجليل للتدريس في علوم الشريعة ، من أقسام الدراسات العليا بالكلية ، ووافق المجلس على الاقتراح بعد أن علم الأعضاء الأجلاء مكان الشيخ من علوم الإسلام ، وأعماله العلمية الكبيرة.
    ذهبت إلى الشيخ مع الأستاذ رئيس قسم الشريعة إبّان ذاك ، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمرضه ومرض زوجه ، وضعف بصره ، ثم يصرّ على الاعتذار ، وكلّما ألححنا في الرجاء لجّ في الاعتذار ، حتى إذا لم نجد جدوى رجوناه في أن يعاود التفكير في هذه المعاونة العلمية التي نرقبها ونتمنّاها ، ثم عدت إليه منفردا مرة أخرى ، أكرّر الرجاء وألحف فيه ، ولكنه في هذه المرة كان معي صريحا ، قال الشيخ الكريم ... إنّ هذا مكان علم حقّا ، ولا أريد أن أدرّس فيه إلا وأنا قويّ ألقي دروسي على الوجه الذي أحبّ ، وإنّ شيخوختي وضعف صحتي وصحّة زوجي ، وهي الوحيدة في هذه الحياة ، كلّ هذا لا يمكّنني من أداء هذا الواجب على الوجه الذي أرضاه.
    14 ـ خرجت من مجلس الشيخ وأنا أقول أيّ نفس علويّة كانت تسجن في ذلك الجسم الإنساني ، إنها نفس الكوثرى.
    وإنّ ذلك الرجل الكريم الذي ابتلي بالشدائد ، فانتصر عليها ، ابتلي بفقد الأحبة ، ففقد أولاده في حياته ، وقد اخترمهم الموت واحدا بعد الآخر ، ومع كل فقد لوعة ، ومع كل لوعة ندوب في النفس وأحزان في القلب. وقد استطاع بالعلم أن يصبر وهو يقول مقالة يعقوب : «فصبر جميل والله المستعان» ولكنّ شريكته في السرّاء والضراء أو شريكته في بأساء هذه الحياة بعد توالي النكبات ، كانت تحاول الصبر فتتصبّر ، فكان لها مواسيا ، ولكلومها مداويا ، وهو هو نفسه في حاجة إلى دواء.
    ولقد مضى إلى ربّه صابرا شاكرا حامدا ، كما يمضي الصّدّيقون الأبرار ، فرضي الله عنه وأرضاه.
    محمد أبو زهرة

    ترجمة
    الإمام الكوثري (1)
    الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
    وبعد : فهذه نبذة مختصرة جامعة عن مؤلّف هذا الكتاب.
    هو الإمام العلّامة المحدّث المحقّق الفقيه الأصولي المؤرّخ الصّوفي المتكلّم الشيخ محمد زاهد بن حسن بن علي الكوثري الحنفي.
    ولد يوم الثلاثاء 27 أو 28 من شوال سنة 1296 في قرية الحاج حسن (2) أفندي وتلقى مبادئ العلوم على والده وعلى شيوخ دوزجة.
    ثم انتقل إلى الآستانة سنة 1311 فأخذ العلم عن كبار علمائها مثل : الشيخ العلّامة إبراهيم حقي الأكيني المتوفّى سنة 1318 ، والشيخ العلّامة علي زين العابدين الألصوني المتوفّى سنة 1336 ، والشيخ حسن القسطموني المتوفّى سنة 1329 ، والشيخ العلّامة يوسف ضياء الدين التكوشي المتوفّى سنة 1339 ، وعمدته والده العلّامة حسن بن علي الكوثري المتوفّى سنة 1345 عن مائة سنة رحمهم‌الله جميعا.
    وقد تولّى عدة مناصب منها التدريس بجامع الفاتح وآخرها وكالة المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية.
    وعند ما أطيح بالخلافة العثمانية وتولى عدوّ الله كمال أتاتورك سلطنة الدولة كان الشيخ من أشد المعارضين حتى حكم عليه بالإعدام ففرّ بدينه وهاجر إلى مصر ووصل إلى الإسكندرية سنة 1341 دون أن يودع أهله وسكن في القاهرة ثم رحل إلى الشام قبل أن يتمّ سنته الأولى من حين وصوله إلى مصر ، ثم زارها مرة أخرى في سنة 1347 وكان مدة
    __________________
    (1) للتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية بعنوان «الإمام الكوثري» للأستاذ أحمد خيري في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.
    (2) وهي قرية أنشأها والد المترجم رحمه‌الله وتقع على بعد خمس مراحل شرق الآستانة ، وتعرف الآن ببلدة دوزجة.

    قيامه في الزيارتين بدمشق ما يقرب من سنة وعكف فيهما على المكتبة الظاهرية ينقب عن نفائس مخطوطاتها.
    ثم ألقى عصا التسيار بمصر حتى توفي بها في يوم الأحد 19 من ذي القعدة سنة 1371 ه‍ رحمه‌الله رحمة واسعة.
    وقد أجازه كبار علماء عصره من أمثال :
    1 ـ العلّامة الشيخ يوسف الدجوي وقد سمع عليه الموطأ وقد توفي سنة 1365.
    2 ـ والمحدّث العلّامة الشيخ أحمد رافع الطهطاوي المتوفّى سنة 1355.
    3 ـ والمحدّث العلّامة الشيخ محمد جعفر الكتاني وقد سمع منه «الشمائل المحمديّة» بدمشق في رحلته الأولى سنة 1342. وقد توفي سنة 1345.
    4 ـ والعلّامة المحدّث الشيخ عبد الحي الكتاني المتوفّى سنة 1382.
    5 ـ ومن كبار مشايخ الأزهر العلّامة محمد سالم الشرقاوي المعروف بالنجدي المتوفّى سنة 1350.
    6 ـ والشيخ العلّامة محمد حبيب الله الشنقيطي المتوفّى سنة 1363.
    7 ـ وأخوه العلّامة مفتي المدينة المنوّرة محمد الخضر الشنقيطي المتوفّى سنة 1353.
    8 ـ ومولانا الشيخ العلّامة حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي المتوفّى سنة 1362.
    وغيرهم من العلماء رحمهم‌الله جميعا.
    وقد عرف عن المترجم رحمه‌الله تعالى التواضع وسعة الاطّلاع والحافظة القوية والإيثار والزهد والقوة في الحق ، والرد على المبتدعة ، وصون حمى الدين.
    وتتلمذ عليه خلق لا يحصون قبل هجرته وبعدها واستجازه كبار معاصريه في العالم الإسلامي كما كان له سند عال.
    وقد ترك رحمه‌الله تعالى مؤلفات كثيرة من شتى العلوم تشهد بعلومه وفضله ، منها ما هو مطبوع ، ومنها ما هو قيد الطبع :
    1 ـ تأنيب الخطيب فيما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب.
    2 ـ النكت الطريفة في التحدّث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة.
    3 ـ إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق.
    4 ـ الإشفاق على أحكام الطلاق.
    5 ـ نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة. وهو ضمن هذا المجموع الذي بين أيدينا.
    6 ـ من عبر التاريخ.
    7 ـ صفعات البرهان على صفحات العدوان.
    8 ـ محق التقوّل في مسألة التوسّل.
    9 ـ حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي.

    10 ـ بلوغ الأماني في سيرة محمد بن الحسن الشيباني.
    11 ـ الإمتاع بسيرة الإمامين محمد بن زياد وصاحبه محمد بن شجاع.
    12 ـ لمحات النظر في سيرة الإمام زفر.
    13 ـ الحاوي في سيرة أبي جعفر الطحاوي.
    14 ـ الاستبصار في التحدّث عن الجبر والاختيار.
    15 ـ تذهيب التاج اللجيني في ترجمة البدر العيني.
    16 ـ أقوم المسالك في رواية مالك عن أبي حنيفة وأبي حنيفة عن مالك.
    17 ـ التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز. وهو ثبته.
    18 ـ نبراس المهتدي من اجتلاء أنباء العارف بالله دمرداش المحمّدي.
    19 ـ إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسّل المريد.
    20 ـ المنتقى المفيد من العقد الفريد في علو الأسانيد.
    21 ـ مقدمات وتعاليق وتقاريظ الإمام الكوثري ويحوي هذا الكتاب ما يقرب من 60 مقدمة للشيخ على مختلف الكتب.
    22 ـ البحوث السّنيّة عن بعض رجال أسانيد الطريقة الخلوتية.
    وغيرها من الكتب.
    وأما كتبه المخطوطة : فمنها ما هو في حكم المفقود ومن أهم تلك الكتب :
    1 ـ المدخل العالم لعلوم القرآن وهو من أهم كتبه.
    2 ـ إبداء وجوه التعدّي في كامل ابن عدي.
    3 ـ نقد كتاب الضعفاء للعقيلي.
    4 ـ التعقّب الحثيث فيما ينفيه ابن تيمية من الحديث.
    5 ـ رفع الريبة عن تخبطات ابن قتيبة.
    6 ـ الاهتمام بترجمة ابن الهمام.
    7 ـ تحذير الخلف من مخازي أدعياء السلف.
    8 ـ فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال.
    9 ـ عتب المغترين بدجاجلة المعمّرين.
    وقد جمعت مقالاته التي كتبها في بعض المجلات ضمن كتاب «مقالات الكوثري» وهي حوالي 117 مقالة.
    كما حقّق رحمه‌الله تعالى ما يقرب من 40 كتابا حلّاها بتعاليقه الوافية الممتعة.
    وللتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية التى كتبها العلّامة الأديب البحّاثة الأستاذ :
    أحمد خيري رحمه‌الله في كتابه «الإمام الكوثري» (1).
    __________________
    (1) وهذا الكتاب موجود في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.

    وممّن ترجم له :
    1 ـ عزّت العطار الحسيني في مقدمة تأنيب الخطيب.
    2 ـ أحمد إبراهيم السراوي في مقدمة «طبقات ابن سعد» من الطبعة المصرية سنة 1358.
    3 ـ الشيخ عبد الله الغماري في كتابه «سبيل التوفيق من ترجمة عبد الله بن الصديق» ذكره ضمن شيوخه.
    4 ـ الأعلام لخير الدين الزركلي رحمه‌الله ، وقد دسّ من بعض المنزهرين المعروفين بالدّسّ في كتب العلماء من ترجمة الإمام بعد وفاة المؤلف الزركلي رحمه‌الله جملة وتناوله بعض الفضلاء بالنقد في كتاب «الكوثري وتعليقاته».
    5 ـ الأستاذ زكي مجاهد رحمه‌الله في «الأخبار التاريخية».
    6 ـ محمود سعيد ممدوح في تراجم مشايخ الشيخ الفاداني «تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع» ، إلا أنه غمز الشيخ رحمه‌الله تبعا لمشايخه المغاربة المعروفين بذلك.
    وأما الذين أثنوا على الإمام واعترفوا بعلمه وفضله فخلق لا يحصون عبّروا عن ذلك باللّسان والبنان فمن الذين أثنوا عليه :
    1 ـ الشيخ العلّامة محمد يوسف البنوريّ رحمه‌الله تعالى في أول «مقالات الكوثري».
    2 ـ الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه‌الله في أول «المقالات» كذلك وترجمته له أثبتناها في أول هذا الكتاب.
    3 ـ الشيخ إسماعيل عبد رب النبيّ واعظ القاهرة في أول المقالات.
    4 ـ شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه‌الله في كتابه العظيم «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين».
    5 ـ الشيخ العارف بالله سلامة العزامي الشافعي رحمه‌الله في «البراهين الساطعة» و «فرقان القرآن ، بين صفات الخالق وصفات الأكوان».
    6 ـ والعلّامة الفقيه الشيخ أبو الوفاء الأفغاني في بعض كتبه. رحمه‌الله.
    7 ـ والشيخ عبد الرحمن المعلّمي في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
    8 ـ الشيخ عبد الغني عبد الخالق في مقدمة «مناقب الشافعي وآدابه» لأبي حاتم الرازي.
    9 ـ والعلّامة محمد يوسف موسى رحمه‌الله في بعض كتبه.
    10 ـ وتلميذه الشيخ العلّامة عبد الفتاح أبو غدّة حفظه الله في كثير من كتبه.
    11 ـ والشيخ توفيق يحيى إسلام في مقدمة كتاب «قانون التأويل» للإمام الغزالي.
    12 ـ الشيخ العلّامة مولانا نجم الدين الكردي النقشبندي ، في مقدمته لكتاب شيخه «فرقان القرآن» من الطبعة الثانية.
    13 ـ والعلّامة الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني في مقدمة كتاب «التعليم» لمسعود بن أبي شيبة رحمه‌الله.

    14 ـ والشيخ رضوان محمد رضوان في فهارس البخاري.
    15 ـ الأستاذ حسام الدين القدسي في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «تبيين كذب المفتري».
    16 ـ محمد منير الدمشقي رحمه‌الله في كتابه «نموذج من الأعمال الخيرية».
    17 ـ الدكتور محمود الطناحي في كتابه «تاريخ نشر التراث».
    18 ـ الدكتور العلّامة طه الدسوقي الحبيشي في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن جهيل الذي ردّ به على أغلاط ابن تيمية في الفتوى الحمويّة.
    وقد كتبت بحوث في سيرته وعلمه منها :
    1 ـ رسالة دكتوراه تقدم بها الطالب «حامد إبراهيم محمد» من الأزهر الشريف نوقشت في شهر ذي الحجة من عام 1408 ه‍ ونال بها الطالب درجة الدكتوراه وكانت بعنوان «محمد زاهد الكوثري وجهوده الكلاميّة».
    2 ـ بحث قدّمه الطالب في الدراسات العليا محمد بن سعيد حوّى إلى جامعة الأردن بعنوان «الكوثري محدّثا».
    3 ـ رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الإلهيّات في أنقرة بعنوان «الكوثري محدّثا».
    إلى غير ذلك من مآثر هذا الإمام العظيم التي لا ينكرها إلا من أصابته غشاوة أو عدمت بصيرته.




    فتوى الشيخ محمود شلتوت في وفاة سيدنا
    عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفعه ونزوله
    منقولة عن كتابه «الفتاوى» ص 52 ـ 75
    رفع عيسى عليه‌السلام
    ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه :
    هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنّة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟
    وقد حوّل هذا السؤال إلينا فأجبنا بالفتوى التالية التي نشرتها مجلة الرسالة في سنتها العاشرة بالعدد 462.
    القرآن الكريم ونهاية عيسى :
    أما بعد ، فإن القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه‌السلام فيما يتصل بنهاية شأنه مع قومه في ثلاث سور :
    1 ـ في سورة آل عمران قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)) [آل عمران : 52 ـ 55].



    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:33

    2 ـ وفي سورة النساء قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)) [النّساء : 157 ، 158].
    3 ـ وفي سورة المائدة قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) [المائدة : 116 ، 117].
    هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه.
    والآية الأخيرة (آية المائدة) تذكر لنا شأنا أخرويا يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها. وهي تقرر على لسان عيسى عليه‌السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : 72] وأنه كان شهيدا عليهم مدة إقامته بينهم ، وأنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن توفاه الله.
    معنى التوفّي :
    وكلمة (توفّي) قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها ، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : 11] ، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النّساء : 97] ، (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : 50] توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : 101].
    ومن حق كلمة (تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : 117] في الآية أن تجمل هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ، ويدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد.
    وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه ، لما كان هناك مبرر للقول بأن عيسى حي لم يمت.

    ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى أنه حي في السماء ، وأنه سينزل منها آخر الزمان ، لأن الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.
    معنى (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : 158] وهل هو إلى السماء؟
    أما آية النساء فإنها تقول : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء ، ويقولون : إن الله ألقى على غيره شبهه ، ورفعه بجسده إلى السماء ، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ، ويعتمدون في ذلك :
    أولا : على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال ، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينهما ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك من رواية وهب بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.
    ثانيا : على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات.
    ثالثا : على ما جاء في حديث المعراج من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيا لا جسمانيا. «انظر فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما».
    ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقا منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعا جسديا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] وهكذا يتخذون الآية دليلا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث ، ويتخذون الحديث دليلا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية.

    الرفع في آية آل عمران :
    ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] في آيات آل عمران مع قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] في آيات النساء وجدنا الثانية إخبارا عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى ، وقد كان هذا الوعد بالتوفية الرفع والتطهير من الذين كفروا ، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير ، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله ، فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعا بين الآيتين.
    والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهّره من الذين كفروا.
    وقد فسر الألوسي قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : 55] بوجوه منها ـ وهو أظهرها ـ إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك ، وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه‌السلام ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك.
    وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم.
    وقد جاء الرفع في القرآن كثيرا بهذا المعنى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النّور :
    36] ، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الأنعام : 83] ، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) [الشّرح : 4] ، (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)) [مريم : 57] ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : 11] الخ ...
    وإذن فالتعبير بقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] وقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] كالتعبير في قولهم لحق فلان بالرفيق الأعلى وفي (إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التّوبة : 40] وفي (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : 55] ، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إِلَيْهِ) [البقرة : 178]؟
    اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعا لقصص وروايات لم يقم على الظن بها ـ فضلا عن اليقين ـ برهان ولا شبه برهان!
    الفهم المتبادر من الآيات :
    وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ناصبه قومه العداء ، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه ، فالتجأ إلى الله شأن الأنبياء والمرسلين

    فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيّب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : 52] إلى آخرها ، بيّن الله فيها قوة مكره بالنسبة إلى مكرهم ، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته ، إذ قال : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم وأنه سيستوفي أجله حتى يموت حتف أنفه من غير قتل ولا صلب ، ثم يرفعه الله إليه.
    وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنّة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم ، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن ، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكرا؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه ، شيء ليس في قدرة البشر.
    ألا إنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جاريا على أسلوبه ، غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)) [الأنفال : 30].
    رفع عيسى ليس عقيدة يكفر منكرها :
    والخلاصة من هذا البحث :
    1 ـ أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنّة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.
    2 ـ أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفّيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه.
    3 ـ أن من أنكر أنّ عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وأنه فيها حي إلى الآن وأنه سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة ، بل هو مسلم مؤمن ، إذا مات فهو من المؤمنين يصلّى عليه كما يصلّى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ، ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.

    مناقشة
    بعد نشر هذه الفتوى في مجلة «الرسالة» السنة العاشرة العدد 462 قامت ضجة أحدثها قوم جمدوا على القديم ، وادّعوا الغيرة على الدين.
    وقد رددنا على شبهات هؤلاء بالحجج العلمية الدامغة ونشرت ذلك «الرسالة» في الأعداد 514 ، 516 ، 517 ، 518 ، 519 من السنة الحادية عشرة.
    وفيما يلي خلاصة لهذا الرد :
    مبادئ مسلمة عند العلماء :
    1 ـ حدّد الشارع العقائد ، وطلب من الناس الإيمان بها ، والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل.
    ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلا ، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة.
    2 ـ وهذا الدليل القطعي يتمثل في شيئين :
    الأول : الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته ، وانتهت في أحكامها إلى الحس والضرورة ، فهذا ـ باتفاق ـ يفيد اليقين ، ويحقق ذلك الإيمان المطلوب.
    الثاني : الدليل النقلي إذا كان قطعيا في وروده ، قطعيا في دلالته.
    ومعنى كونه قطعيا في وروده : ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول ، وذلك كالقرآن الكريم الذي ثبت كله بالتواتر القطعي ، وكالأحاديث المتواترة عن الرسول ، إن ثبت تواترها.
    ومعنى كونه قطعيا في دلالته ، أن يكون نصا محكما في معناه ، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل.
    3 ـ فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين ، وصلح لأن تثبت به العقيدة.

    ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العلميّات التي لم ترد بطريق قطعي أو وردت بطريق قطعي ، ولكن لابسها احتمال في الدلالة ، فاختلف فيها العلماء ، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين ، والتي تعتبر حدا فاصلا بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون.
    4 ـ هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها ، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها (1).
    وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا «أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنّة والإجماع».
    ولنا في ذلك نظرات ثلاث : نظرة فيما ذكروا من آيات ، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث ، والنظرة الثالثة فيما ادّعوا في هذا المقام من إجماع.
    نظرة فيما ساقوا من آيات :
    فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع :
    النوع الأول : آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه ، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت ، وهذه الآيات هي :
    1 ـ قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55].
    2 ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النّساء : 157] إلى قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 157 ، 158].
    3 ـ قوله تعالى في سورة المائدة : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : 117].
    وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة ، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها ، وبينّا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء ، بل هي ـ على الرغم مما يراه بعض المفسرين ـ ظاهرة بمجموعها في أن
    __________________
    (1) راجع فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

    عيسى قد توفي لأجله ، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم ، وصانه وطهّره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئا مما ذكرناه (1).
    النوع الثاني : آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث ، فلذا لم نفكر فيها ، وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم :
    «ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران : 45]. ففي قوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين».
    والشيخ يريد السماء طبعا ، وهو لي للكتاب غريب ، فقد وردت كلمة «المقربين» في غير موضع من القرآن الكريم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)) [الواقعة : 10 ، 11] ، (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)) [الواقعة : 88 ، 89] ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)) [المطفّفين : 28] ، وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء ، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوما بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!
    ثم يقول : «بل في قوله تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران : 45] إشارة إلى ذلك ، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه ، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء».
    __________________
    (1) غير أنهم تمسكوا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] بعد قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النّساء : 157] فقالوا : إن الرفع بعد نفي القتل هو رفع الجسم حتما ، وإلا لما تحققت المنافاة بين ما قبل «بل» وما بعدها ، ونحن نقول لهم إن المنافاة متحققة ، لأن الغرض من الرفع رفع المكانة والدرجة بالحيلولة بينهم وبين الإيقاع به كما يريدون. والمعنى : أن الله عصمه منهم فلم يمكنهم من قتله بل أحبط مكرهم وأنقذه وتوفاه لأجله فرفع بذلك مكانته. وقد قلنا في الفتوى : إن الآية بهذا تتفق تماما مع ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] وهذا احتمال قوي في الآية يمنع الزعم بأنها نص أو ظاهر في رفعه بجسمه حيا. ويقول الإمام الرازي في تفسيره : «ومطهرك : مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم. وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير ، وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته». ويقول في معنى قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] القول الثاني المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والبرهان» ثم يقول : واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] هو رفع الدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة» اه.

    وهذا كلام لا يقال ، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : 48 ، 49] فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيها في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحا ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟
    النوع الثالث : آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما ، وجاء في بعض ما قيل : إنهما تدلان على نزول عيسى وهما :
    1 ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : 151].
    2 ـ وقوله تعالى في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : 61].
    ما غاب عنا ، وقت أن كتبنا الفتوى ، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى ، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والأفهام المختلفة فيهما ، وما كنا نحسب ـ ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه ـ أن أحدا يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها ، والمختلفة في ترجيحها ، فيقول إنهما نصّان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئا من كتب التفسير. ولكنهم أبوا إلا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى ، فلسنا نجد بدا من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما. ثم نقفي على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحا :
    الآية الأولى : للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان :
    الأول : أن الضمير في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) لعيسى. والمعنى : ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا : أخبرت هذه الآية أن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته ، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم ، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآن حيّا ، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته ، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان.

    الثاني : أن الضمير في (بِهِ) لعيسى ، وفي (مَوْتِهِ) للكتابي. والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن ، ولا على نزوله في المستقبل ، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته.
    هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين. ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير ، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال : «وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال : تأويل ذلك ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة ، فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابيّ إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام .. وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره. لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد ..
    وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه ، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته ، فدلّ هذا على أن المعنى : إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وإن ذلك عند نزوله» (1).
    ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى ، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمنا بمحمد فيكون مسلما له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين .. الخ وهذا يخالف إجماع المسلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت ، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر ، وكان «أولى الأقوال بالصحة والصواب» في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا يترتب عليه مصادمة الإجماع.
    إلى هنا ، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به ، ليس في الأمر أكثر من أن مفسرا من بين المفسرين قد اختار رأيا من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى ، ولكن القوم تلقّفوا هذا عن ابن جرير دليلا قاطعا على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أو تغافلوا عنها.
    __________________
    (1) عن ابن جرير ببعض تصرف.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:35

    1 ـ أن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية ، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، فكيف يعد نصا قاطعا غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟
    2 ـ أن ابن جرير كما وجه الرأي الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضا «بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه» وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول : «وأولى الأقوال» بدل أن يقول مثلا : والرأي الصحيح.
    3 ـ إن يكن ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان : النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري :
    «ورجح جماعة هذا المذهب ـ يريد الثاني ـ بقراءة أبي بن كعب : «إلا ليؤمننّ به قبل موتهم» أي أهل الكتاب ، قال النووي : معنى الآية على هذا ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أمته ، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النّساء : 18] ثم قال : وهذا المذهب أظهر ، لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى ، وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله».
    وقد ذكر صاحب الكشاف قريبا من هذا وأطال فيه ونقله عنه الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء.
    بهذا يتبين :
    1 ـ أن هذه الآية ليست نصّا في معنى واحد حتى تكون دليلا قاطعا فيه.
    2 ـ أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له ، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام ، مع أنه إيمان ـ كما قرره العلماء ، ومنهم ابن جرير نفسه ـ لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته.
    3 ـ أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني : من العموم الواضح في قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [آل عمران : 199] ومن قراءة أبي «إلا ليؤمنن به قبل موتهم» ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجميع ، لا يسعه إلا أن

    يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني : «وهذا المذهب أظهر».
    والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلا عن أن تكون قاطعة فيه!
    الآية الثانية :
    للمفسرين في هذه الآية أيضا آراء مختلفة ، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : 61] راجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى القرآن ، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين ، وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافا آخر يصوّره لنا بعض المفسرين بقوله : (وَإِنَّهُ) [البقرة : 130] أي عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : 61] أي إنه بنزوله شرط من أشراطها ، أو بحدوثه بغير أب ، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث» (1).
    ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علما للساعة ثلاثة أقوال :
    الأول : أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة.
    الثاني : أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة.
    الثالث : أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور.
    ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصا قاطعا في نزول عيسى ، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني (وهو أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي :
    1 ـ أن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه ، وقد عنى القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم ، واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلا أو يؤمنون بها (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحجّ : 5] ، (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحجّ : 5] ، (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ)
    __________________
    (1) تفسير أبي السعود.

    (اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الرّوم : 50] وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)) [الزّخرف : 11].
    وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك. أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى ، وهي أيضا في موضع الشك عندهم ، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم ، لأنه استدلال على شيء في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!
    2 ـ ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعا على أن عيسى علم للساعة : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : 61] فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة ، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها ، أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها ، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه ، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولا ليمكن أن يقال له بعد ذلك : هذا الذي آمنت به علامته كذا.
    3 ـ ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات ، ولم تصح إرادتها معنى ، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالا بها. فإذا طبّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : 61] وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا ، وأنه لا بد من تقدير في الكلام ، ثم وازنا بين النزول ، والخلق من غير أب ، وإحياء الموتى ، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات ، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له ، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة : (لا تشكّوا في الساعة ، فإن الذي قدر على خلق عيسى عن غير أب قادر عليها).
    وبهذا يتبين :
    أولا : أن الإخبار بنزول عيسى لا يصلح دليلا على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شك ويصح أن يقال عقبه : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : 61].

    وثانيا : أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا ، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها ، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها.
    وثالثا : أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيّنّا.
    * * *
    أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن العقيدة ، ويكفّر منكره كما يزعمون).
    النظرة الثانية في الأحاديث :
    والنظرة الثانية فيما ساقوا من أحاديث :
    وموجز ما نقول فيها : أنها لا تخرج عن كونها أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد مهما صحت لا تفيد يقينا يثبت عقيدة يكفر منكرها.
    وإنه ليؤسفني أن أرى قوما تظاهروا بالانتساب إلى الدين والغيرة على أحاديث الرسول استباحوا لأنفسهم ـ في سبيل أغراضهم الدّنيا ـ أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه ، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني ، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين ، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين ، فإذا رأوا في بعضها ضعفا أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا : إن الضعيف فيها منجبر بالقوي ، وإن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوبا مهلهلا من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق ، ولكن مكابرة وعنادا ، وإصرارا على التضليل ، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفّاظ وإنهم محدثون!
    * * *

    بقي بعد هذا أمر لا بد من تقريره : وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية الدلالة ، فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ولم يجدوا مانعا من تأويلها : وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه : ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ... وأوّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي ، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك ، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم باندفاع ذلك وبدوّ الخير والصلاح .. الخ».
    ومن ذلك نرى أن السعد ـ صاحب المقاصد ـ لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرر بصريح العبارة «أنه لا مانع من حملها على ظواهرها» فيعطي بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل. ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلا ، ويبين المعنى الذي حملوها عليه ، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد ـ كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله ـ أن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها فمن أدّاه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك ، ومن أدّاه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأن كل ظني في دلالته.
    ومما تقدم يتبين جليا «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعية ما ، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها».
    النظرة الثالثة في الإجماع :
    بقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام.
    وأحب أن أشير هنا إلى أن «الإجماع» الذي اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام قد اختلفت فيه المذاهب والآراء اختلافا بعيدا :
    اختلفوا في حقيقته ، واختلفوا في إمكانه ، وتصور وقوعه.
    ثم اختلفوا في حجيته. الخ مما يتبين لنا به أن حجيّة الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلا عن أن يكون الحكم الذي أثبت به معلوما بدليل قطعي فيكفر منكره.

    ثم نقول : إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية ، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا : «إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب ، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب ، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها ، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه ، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع ، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه» (1) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ قطعية النصوص وظنيها في الورود والدلالة.
    خلاف قديم وحديث في المسألة :
    وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول :
    إن نزول عيسى قد استقرّ فيه الخلاف قديما وحديثا :
    أما قديما فقد نصّ على ذلك ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع» حيث يقول : «واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بعده أبدا ، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه‌السلام : أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى ابن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه‌السلام» ، كما نصّ عليه أيضا القاضي عياض في شرح مسلم ، والسعد في شرح المقاصد ، وقد سقنا عباراته قريبا وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!
    وأما حديثا فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهم : الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا ، والأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.
    فالشيخ محمد عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] «أن للعلماء هنا طريقتين : إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيّا وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى ... والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو
    __________________
    (1) التحرير.

    رفع الروح ... الخ» ثم يذكر «أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين : أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي ، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر ، وثانيهما تأويل النزول» بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد (1).
    وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من «تونس» وفيه «ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) [آل عمران : 55] وإن كان حيا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنّة الله في خلقه؟» فأجابه السيد رشيد إجابة مفصّلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي :
    قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها «وجملة القول إنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه ، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هي عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين» ثم تكلم عن الأحاديث وقال : «إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء» (2).
    أما المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إليه وكان سببا في فتوانا ، إجابة جاء فيها : «ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه‌السلام رفع بجسمه وروحه ، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه ، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه‌السلام : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)) [مريم : 57] وهذا الظاهر ذهب إليه بعض
    __________________
    (1) الجزء الثالث من تفسير المنار.
    (2) الجزء العاشر من المجلد الثامن والعشرين للمنار.

    علماء المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده ، فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه ، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوغ تفسير القرآن بها» ثم قال : «لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة ، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر» ثم قال : وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه‌السلام حي بجسمه وبروحه ، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية».
    هذه نصوص صحيحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديما وحديثا أن مسألة عيسى مسألة خلافية ، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه‌السلام موتا عاديا ، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة ، وهي مع هذا تحتمل التأويل وأنه لا يكفر المسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله ، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع (1)؟!
    انتهت فتوى الشيخ محمود شلتوت
    __________________
    (1) من المهم مراجعة ما كتبناه عن ثبوت العقيدة بالقرآن والسنة والإجماع في فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

    مجمل ما تضمنته فتوى الشيخ
    محمود شلتوت من آراء
    تضمنت :
    1 ـ أنّ توفية الله لسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : 55] توفية موت وانتهاء حياة.
    2 ـ أنّ رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] معناه رفع المكانة لا رفع الجسد إلى السماء.
    3 ـ أنّ الأحاديث الواردة في رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام إلى السماء : (روايات مضطربة ، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال فيه للجمع بينها ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك : من رواية وهب بن منبّه ، وكعب الأحبار ، وهما من أهل الكتاب ...).
    4 ـ أنّ علماء المسلمين القائلين بالرفع الذاتي لسيدنا عيسى عليه‌السلام : (اعتمدوا على حديث مرويّ عن أبي هريرة ، اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى ، وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد ، وقد أجمع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).
    5 ـ أنهم اعتمدوا (على ما جاء في حديث المعراج من أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حينما صعد إلى السماء ، وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة ، فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرّره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج ، وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيّا لا جسمانيّا).
    6 ـ أنّ الإجماع في الشريعة الإسلامية غير واقع ولا حاصل ...
    7 ـ أنّ (إجماع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).
    8 ـ وغير هذا من التناقض والتهاتر والآراء الزائفة ...
    وإليك من بعد هذا
    كتاب الإمام الكوثري ردا على هذه الفتوى


    نظرة عابرة
    في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه‌السلام قبل الآخرة
    وهو كتاب الإمام الكوثري
    ردّا على فتوى الشيخ محمود شلتوت
    التي وردت في الصفحات السابقة


    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد فإن مما يحزّ في نفس كل غيور على الدين الإسلامي أن يرى من تغدق عليه الأمة كلّ خير ، ليقوم بحراسة الدين وجمع كلمة المسلمين ، يسعى بكل ما أوتي من قوة البيان ، في التشكيك فيما توارثته الأمة في المسائل الاعتقادية والعملية والخلقية من صدر الإسلام إلى اليوم ، وتشتيت كلمتهم بمفاجأتهم بما يدعهم حيارى بين الأخذ بالجديد والاستمرار على القديم ، متهامسين فيما بينهم بما لا يرضي الله ورسوله.
    وهو يحسب أنه في سبيل التجديد ، ظنا منه أن كلّ تجديد يرفع شأن الأمة ، مع أن التجديد النافع هو اكتشاف أمور جديدة من أسرار الكون واستخدامها في مرافق الحياة ، وإصلاح شئون المجتمع بإزالة أسباب الانحلال الخلقي والتذبذب الديني.
    وهذا هو الذي يعلي شأن الأمة حقا ، ويغنيها عن أن تكون عالة على أمة سوى نفسها ، فيجعلها تقطع شوطا بعيدا في سبيل استعادة مجد الأجداد ، فلا تجد من يعاكس مثل هذا النهوض ، بل يلقى كلّ تشجيع وتقدير وثناء في كل ناد. وأما مساس دين الأمة والأحكام العملية والاعتقادية المستقرة من صدر الإسلام إلى اليوم ، بتحوير وتغيير ، باسم الإصلاح أو التجديد بين حين وآخر ، فلا يكون وسيلة خير أصلا.
    وكتاب الله محفوظ كما أنزل ، وسنّة رسوله محوطة بسياج من عناية الحفّاظ في كل قرن ، ومسائل الوفاق والخلاف مدوّنة في كتب خالدة في جميع الطبقات ، لا يحوج شيء إلى شيء ، غير بعض عناية بالاطّلاع ، وهكذا جميع العلوم المتصلة بالقرآن الحكيم.
    فدين يكون كتابه ، وسنّة رسوله ، ومسائله ، ومؤلّفاته كما وصفناه لا يحتاج إلى «لوثرية» ، ومن ظنّ خلاف هذا فقد جهل تاريخ دين الإسلام وتاريخ الدين النصراني ،

    وأساء المقارنة بينهما ، وليس التلاعب بالمعتقد والأحكام العملية مما يرفع رأس الأمة عاليا ، بل ينكّس رأسها ، ويجعلها تذوق مرارة الانحلال في الاعتقاد والعمل والخلق.
    فليعمل دعاة التجديد في الدين (معروفا) مع أنفسهم ، ومع الأمة ، وليقلعوا عن المساس بأحكام الدين ، وكفاهم أن يتوسّعوا في العلوم الإسلامية ، ويحافظوا على التراث كما هو ، غير ملموس بالتحوير والتغيير ، فينالون بذلك كلّ الثناء وكلّ الشكر.
    وليس الدين مما يبدّل كل يوم ، وإن أبوا إلا تبديل الشّعار ، وتغيير الأحكام العملية والاعتقادية ، بشتى الوسائل ، تبعا لأهواء المتهوّسين ، فلا تتأخّر عنهم نقمة الله ومقت المسلمين.
    وقد سبق أن تطاول بعض المشايخ على كثير من الأسس القويمة قبل عام (1) فردّ عليه أهل العلم بما يرجع الحقّ إلى نصابه ، والآن يعيد الكرّة! ويصرّ على إنكار رفع عيسى عليه‌السلام حيّا ونزوله في آخر الزمان ، على خلاف معتقد المسلمين ، بمقالات ينشرها في مجلة الرسالة ، يزداد فيها بعدا عن الجادة ، وعن أسس العلم ، وتشكيكا للعامة في العمل والاعتقاد.
    ولا أدري أيّ حاجة كانت تدعوه إلى ذلك الإنكار ، أم أيّ فائدة كان يتصور أن تجنيها الأمة من وراء جنايته على اعتقادهم؟! فإن كانت بيّت مخالفتهم رغم قيام الأدلة ضدّ رأيه ، كان في إمكانه الإسرار بفتياه إلى المستفتي كما فعل شيخه (2) ، وأما بعد أن جاهر بها وأعلن وأصرّ واستكبر ، فلا نوعد أن نبقى في عداد الشياطين الخرس عن إبطال الباطل ، فنردّ في فصول على تلبيساته وتشكيكاته بإذن الله سبحانه ، وهو ولي التوفيق.
    __________________
    (1) هو الشيخ محمود شلتوت ، المردود عليه بهذا الكتاب ، فقد كتب أكثر من مقال في مجلة الرسالة بعنوان (شخصيات الرسول) ، خلط فيه وبلط! فردّ عليه الإمام الشيخ الخضر حسين ، شيخ الأزهر فيما بعد ، وغيره من العلماء ، فيشير الإمام الكوثري هنا إلى مزالق الشيخ شلتوت في تلك المقالات وأمثالها.
    (2) هو الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:37

    أما سئموا من النزول؟!!
    إصرار فاض على فتيا زائفة له في إنكار نزول عيسى عليه‌السلام ، أوجب مناصرة عقيدة المسلمين في المسألة ، ولو لا هذا لكنا في غنية عن هذا الحديث في مثل هذه الظروف.
    ومن الناس من لا يجد موطئ قدم يقوى على حمل أثقاله ، فلا يزداد إلا نزولا وتورّطا كلما حاول النهوض من حيث كبا ، مثل الأستاذ المتهجّم ، فإنك تراه يزداد تورّطا وتخبّطا وانكسافا وانخسافا ، كلّما حاول الدفاع عن خروجه على المتوارث في العمل والعقيدة.
    فها هو ذا قد كتب مقالا في العدد (514) من مجلة الرسالة ، يظهر منه أنه يريد أن يشغل الناس ـ إلى نزول عيسى عليه‌السلام ـ برأيه الشاذّ في النزول ، بعد أن أماتته حجج أهل الحق وأقبرته ، والدجّال الأعور لا يتأخّر عن الاعتراف بنزوله عليه‌السلام ، حين يرى نزوله بعينه السليمة مع عدم اعترافه بالوحي.
    ومن أسوإ ما يصاب به المرء أن لا يشعر بما مني به في مناهضة عقيدة الجماعة ، فيزداد سقوطا بتمرّده واستكباره عن قبول الحق ، وبرميه جماعة أهل العلم بدائه ، قاعدا تحت المثل السائر : «أوسعتهم سبّا وأودوا بالإبل» ، وهو مطمئن إلى أننا لا نستطيع أن نساجله في ذلك ، وله الحقّ في هذا الاطمئنان.
    ومما يدل على مبلغ تهيّج أعصابه إزاء وطأة الحق قوله عن حجج أهل الحق الرادين على باطله : إنها إنما نشرت في مجلات وصحف لا تقع عليها عين عالم!! كلمة ما أسخفها!! وبذلك يكون أقرّ على نفسه بأنه غير عالم ، لأنه من كتّاب مجلة نكتب فيها ، وكم كتب فيها وأثنى عليها ، ورأى الردود على شطحاته فيها ، فحاول الجواب عنها ، فهو يراها ثم يراها إلى أن تقوم قيامته ، وهذا الإقرار منه حجّة قاصرة لا تتعدّى شخص المقرّ ، وله أن يقرّ على نفسه بما يشاء.

    وبعد أن اعترف هكذا بأنه غير عالم ، كيف يزجّ نفسه في مضايق البحوث العلمية؟ أم كيف يبيح لنفسه أن يحكم على أناس بأنهم جهلة؟!! وليس الحكم على أناس بأنهم جهلة من شأن الجاهل ، والجاهل إنما يعلم جهله العالم ، بيد أنّ الجاهل جهلا مكعّبا ـ بجهله للشيء ، وبجهله لجهله له ، وبحسبانه مع ذلك أنه يعلمه فوق علم كل عالم ـ لا يتحاشى عن تجهيل الأمة بأسرها من صدر الإسلام إلى اليوم ، في مسألة أجمعت الأمّة عليها ، وشذّ هو فيها عن جماعة أهل الحق.
    وأما إن كان العالم في نظره هو من يستلهم الفقه من (لاهاي) ، ويستوحي العقيدة من (لاهور) (1) ، فلتلك المجلات والصحف كلّ الفخر إذا لم تقع عليها عين مثل هذا العالم.
    وقد أنطقه الله في مفتتح مقاله آية تنطبق كلّ الانطباق على شخص الشاذّ نفسه ، لو فكّر وتدبّر.
    الصحابة والتابعون وأئمة الفقه والحديث والتفسير والتوحيد كلّهم في جانب ، يؤيّدهم الكتاب والسنة والإجماع ، وذلك المتحامل في جانب يعضده متنبئ المغول في (قاديان) ، وفيلسوف (طرة) في سابق الأزمان!! منظر ما أروعه!! ومع ذلك كله يعدّ نفسه هو المحقّ التقيّ النقيّ الصالح الورع الوديع الحكيم ، ويفرض أنّ جماعة علماء المسلمين على توالي القرون هم المبطلون المتنطعون الحشوية!! فاعجب أن يتحدّث مثله عن الحجة والبرهان ، وقد داس تحت رجليه معايير العلم وموازين الفهم!! فسبحان قاسم المواهب.
    فيجب أن يعلم أنّ إحالة من أحال المسألة عليه ـ كما فعل مثل ذلك في حمله على التجرؤ على السّنّة ـ لا تبرّر موقفه من حجج الشرع في نزول عيسى عليه‌السلام ، فها نحن أولاء نتعقّبه بإذن الله سبحانه خطوة فخطوة ، في جميع ما يبدئ ويعيد ، من انحرافاته عن الجادة ، ونريه بتوفيق الله وتسديده ما دام للحق سلطان ، كيف يكون زهوق الباطل تحت قوارع الحجج؟ إلى أن يقتنع بالحق.
    رجل يقول : إنّ الشيطان ليس بكائن حيّ عاقل ، بل هو قوّة الشرّ المنبثّة في العالم! ـ كما هو رأي الباطنية ـ ويقسم السّنّة إلى أقسام ، تمهيدا للانسلاخ من معظمها بل كلّها ، تقرّبا إلى اللاهورية نفاة السنة ، ويستسهل إلغاء فريضة الظهر لمن صلّى العيد
    __________________
    (1) يعني بلد القادياني ، الذي جاءت فتوى الشيخ شلتوت على وفق دعواه!

    يوم الجمعة علنا جهارا ـ تشكيكا للعامة في المتوارث ، ويدعو إلى القول بموت عيسى وعدم نزوله في آخر الزمان ـ موافقة ومناصرة للأحمدية أتباع متنبئ المغول في قاديان.
    (ولم ينس الناس بعد ، ذلك الحديث المنشور لشيخه في (الصاعقة) و (الجامعة الإسلامية) و (الفتح) وتلك الفقرات في (تقرير البعثة الهندية ، عنهم!).
    ويحمل زملاءه باسم الدين الإسلامي على تجويز إقعاد معبوده على ظهر بعوضة ، وإثبات القعود والقيام والمشي والحركة والتنقل والاستقرار المكانيّ والحدّ والجهة والمكان والبعد المكانيّ له تعالى ، كما هو معتقد الحشويّة.
    (صغيرهم) يفعل ذلك كلّه ، ولا يخجل مما اقترف ، بل يجرؤ على نشر ذلك المقال المكتظّ بالعدوان على أهل الحق ، ويسمح له أن ينال من أسس الدين ، باسم حراسة الدين ، ويكافأ مكافأة الحرّاس الأمناء ، ويحمل فوق الأكتاف! هذا ما يتيه في تعليله العقل في بلد يكون العلم سائدا فيه.
    وقد بلغت به الجرأة إلى حدّ أن يشهد على ما عند الله سبحانه ـ كأنه رسول من عند الله ـ فيقول فيمن ينفي رفع عيسى حيا ، ونزوله في آخر الزمان : إنه لا شية في إيمانه عند الله. فيكون ما عليه الجماعة من الاعتقاد المتوارث على ضدّ من ذلك طبعا ، وهذا قلب للأوضاع فظيع ، وجهل بأصول الاستدلال الشرعي شنيع. ولا أدري من أين أتاه هذا الوحي ضدّ اعتقاد جماعة المسلمين؟
    وإني أوصي ذلك المتحامل أن لا يذهل عن مداولات الألفاظ التي يوجّهها إلى قرّة عيون المجاهدين ، وسيف المناظرين ، العلامة الأوحد مولانا شيخ الإسلام (1) ـ أمتع الله المسلمين بعلومه ، وأطال بقاءه في خير وعافية ـ وأن يبتعد عن إرسال الكلام جزافا نحوه ، لأنّ سماحته ليس من الطراز الذي تعوّد صاحب المقال التجرؤ عليه ، وهو القائم بالحجة في هذا العصر ، كما كان البرهان الأبناسيّ يقول ذلك في ابن الهمام ، فيذوب أمام صولته العلمية كلّ مبطل ، فلطمة أدبية منه تدع هذا المتهجّم مثلا في الآخرين.
    __________________
    (1) يعني به : شيخ الإسلام مصطفى صبري ، آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وقد سكن مصر مهاجرا إليها ، ورد على بعض شذوذات الشيخ محمود شلتوت بقلمه البليغ الرفيع.

    وما لصاحب المقال ولذلك المجهول في الجماعة؟! وهو نفسه غريق إلى (شوشته) في مخاضة لا يستطيع الخلاص منها ، ولا النهوض حيث وقع. فأوّل واجب عليه أن يخلّص نفسه مما تورّط فيه من الزيغ المبين ، لا أن يدافع دفاع الفضوليّ ويشهد بالنفي! عن مجهول يعلم نفسه ويعلمه غيره ، ولا شأن له به.
    وطائفة لا تأبى الانصياع لتقرير يكتبه بطل الخروج على كل متوارث ، عن كتاب «النّقض» المكتظّ بوثنيات مشروحة في العددين (44 و 45 ، 1361 ه‍ من ـ مجلّة ـ الإسلام ، وتقرّر إباحة نشره ، وأن لا شيء في تداوله : لا محلّ لاستبعاد أن يوجد بينهم من يقول : «إنّ قوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : 40] عرضة الاحتمالات العشرة!! وحديث «لا نبيّ بعدي» خبر آحاد لا يفيد العلم ، والإجماع في إمكانه ووقوعه وإمكان نقله وحجّيّته : كلام!».
    مع أن التقعّر بالاحتمالات العشرة لا يمتّ إلى أيّ إمام من أئمة الدين بأيّ صلة ، وإنما هو صنع يد بعض المبتدعة ، وتابعه بعض المتفلسفين من أهل الأصول ، فساير هذا الرأي مسايرون من المقلّدة ، كما محّص ذلك في موضعه ، والقول بظنية الدليل اللفظيّ مطلقا : باطل ، لأدلة مشروحة في موضعه.
    ومن لا يكون له إلمام بالسنة ، ويكون له هوى في إبطالها بكل وسيلة ، يسهل عليه أن يقول في كلّ ما ثبت بالتواتر المعنوي : هذا خبر آحاد ، كما يقول الشيخ في حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، وغيره في حديث «لا نبيّ بعدي» ، مع أنّ طرقهما في غاية الكثرة عند أهل العلم بالحديث.
    وقد نصّ على تواتر حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، ابن جرير والآبريّ وابن عطية وابن رشد الكبير والقرطبيّ وأبو حيان وابن كثير وابن حجر وغيرهم من الحفاظ ، وهم أصحاب الشأن ، وكذا صرّح بتواتره الشوكانيّ وصدّيق خان والكشميريّ في مؤلفاتهم.
    ويسهل أيضا على كل من يسير وراء الهدّامين من اللامذهبية أن يقول في المسائل الإجماعية : إنّ الإجماع في إمكانه ووقوعه وإمكان نقله وحجّيّته كلام!! كما سبق ، فإذن لا كتاب ولا سنة ولا إجماع ، فليتقوّل من يشاء ما يشاء ، كلّ يوم باسم الشرع!!

    وليس انتقاد بطل الإسلام (1) لأناس إلا بعد أن وضع إصبعه المشخّصة على نصوص كلامهم ، فلا يمكن لهم أن ينفلتوا من يده ، حيث يبني ردوده على الحقائق الملموسة ـ وفي كتابه الخبر اليقين ـ.
    والضغينة التي يتخيلها بطل الشذوذ في كلام سماحته ، ما هي إلا بغض في الله ، وليس يحوم حول فكره السامي طائر العنصريات والإقليميات وسائر وجوه الجهالات ، التي وضعها المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تحت قدمه الشريفة ، لأن الإسلام لا يعرف عنصرا ولا إقليما ، وإنما يعرف إخاء شاملا على مبادئ سامية ، وهكذا العلم لا يخصّ بلدا ولا قبيلا ، بل هو نور شامل.
    ولذا تجد سماحته من أبرأ الناس من مثل تلك الجاهلية الجهلاء ، بل يعدّ المبطل مبطلا كائنا من كان ، والباطل باطلا حيثما كان ، وإلا ما تحدّث عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بما تحدّث به عنه ، لأنه تركمانيّ الدم ـ من بني جنسه ـ كما كان الشيخ نفسه يصرّح بذلك ، ومن شهود هذا التصريح صاحب «المنار» في المجلد الثامن (ص 379) ، ومعالي الوزير الحكيم الشيخ مصطفى عبد الرزاق باشا في مقدمة «العروة الوثقى».
    وأما الشيخ محمد عبده فله مميزات معروفة ، وكان نادرة بين شيوخ عصره في الكتابة والإدارة وتصريف الشئون ، والقيام ببعض ما يعود على المجتمع بخير ، وقد أثنى عليه صديقه اللورد كرومر ، بسعة العلم واستنارة الذهن ، كما أثنى على مريديه بأنهم : «جديرون بكل تشجيع ومساعدة ، يمكن إمدادهم بهما ، لأنهم خلفاء المصلح الأوروبي الطبيعيون»!
    وقال عن الشيخ عبده : «كان أحد زعماء الفتنة العرابية ، فلما جئت مصر سنة 1883 كان مغضوبا عليه ، ولكن الخديو توفيق عفا عنه بما فطر عليه من مكارم الأخلاق ، وانقيادا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك ، وعيّنه قاضيا (أهليا) ، فأحسن العمل وأدّى الأمانة حقّها».
    وقال أيضا «إنني قدّمت لمحمد عبده كلّ تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة ... ولسوء الحظ كان على خلاف كبير مع الخديو ، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء ، لو لا أنّ الإنكليز أيّدوه بقوة»!
    __________________
    (1) يعني به : سماحة الإمام شيخ الإسلام مصطفى صبري.

    وصدّق اللورد كرومر قول المستشار القضائي في الشيخ : «قام لنا بخدم جزيلة لا تقدّر ، في مجلس شورى القوانين ، في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالموادّ الجنائية وغيرها ، من الإصلاحات القضائية»!!
    وقال اللورد أيضا : «وفي سنة 1899 رقّي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن ، فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة ثمينة ، لتضلّعه من علوم الشرع الإسلامي ، مع ما به من سعة العقل واستنارة الذهن» ، ثم ذكر كمثال فتواه في تثمير الأموال في صناديق التوفير.
    وقد طال أمد الصداقة بين الشيخ وبين اللورد كرومر ، فعرف كلّ منهما صاحبه ، فإذا انتقد مثله بعض نواحي الانتقاد في الشيخ ، لا يتّهم بغرض ، بل يعدّ منصفا ، ما غطّت صداقته على حقيقة أمر صديقه ، فدونك ما يقوله في «مصر الحديثة» ، على ما تجد في المجلد الحادي عشر من المنار (ص 94) :
    «وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريّا) ولو أنه يستاء منه لو نسبت إليه». ثم يأخذ عليه حديثه مع جمال الدين بشأن الخديو إسماعيل كما في (ص 96) من المجلد المذكور. وأقرب الناس إلى الشيخ ما كان ينكر تساهل الشيخ في الإفتاء ، ويأخذ عليه أنجب تلاميذه المنفلوطيّ في «النظرات» فتحه لباب التأويل على مصراعيه (1) ، بل يستبعد كثير من الناس التجرؤ على المسائل المتوارثة ممن يرى قداسة الشرع.
    والواقع أن للشيخ أطوارا في العلم والعمل والاتجاه ، فوجهته في عهد «العروة الوثقى» غير وجهته بعد اتصاله بزعيمه ، كما ذكره مصطفى عبد الرازق باشا في «الشباب». واتجاهه يوم رفع اللائحة إلى شيخ الإسلام العثماني غير اتجاهه فيما بعد ، وقد ذكرت صفحة منها في العدد (19 ـ 1362 ه‍) من مجلة الإسلام ، ومن طالع «الواردات» و «العقيدة المحمدية» و «حاشية الدّوّاني على العضدية» و «فتاواه» وما نقل عنه في التفسير ، و «رسالة التوحيد» ، لا يصعب عليه فهم أطواره.
    وتصوّره الخطاب إلى الحس في دين ، وإلى القلب في دين آخر ، وإلى العقل في دين الإسلام فقط : خيال شاعر يأباه قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) [الأنعام : 83] وغيره من الآيات ، بل كلّ دين إلهي إنما يكون الخطاب فيه إلى العقل
    __________________
    (1) انظر في الجزء الأول من «النظرات» مقالة (يوم الحساب) ففيها نقد المنفلوطي لشيخه محمد عبده بأسلوب أدبي لاذع.

    الذي سلطانه على المشاعر الظاهرة والباطنة على حدّ سواء ، ورأيه في تطوّر الأديان مثار جدل اليوم في الجامعة.
    ولم يتحدث سماحة شيخ الإسلام إلا عن العلماء الذين تقاعسوا عن القيام بواجبهم ، ولا تكلّم عن المجلات والصحف عامة ، بل عن الصحف والمجلات المنحرفة عن الثقافة الإسلامية.
    فإن كان كاتب المقال يجهل وجود انحراف عن الثقافة الإسلامية ، في صحف ومجلات تنشر هنا وهي بين يديه ، ويكتب في بعضها ، ـ وصلة منبر آرائه بإسماعيل أدهم (1) لا تزال ماثلة في الأذهان ـ فذلك لا يهمّنا ، وليس جهل ذلك بناع علينا ، وما الجري وراء الخرص والتظنّن والتشويه إلا شأن غيرنا.
    وأما تقريظ كتاب معالي هيكل باشا مع نفيه المعجزات الكونية ، ومع ردّه الاحتجاج بالسنة ، فيجعل المؤلّف والمقرّظ في صفّ واحد ، وبيان حال المقرّظ في العدد (42 ـ 1361 ه‍) ، على أن المعجزات كلّها قاهرة ، وقصر المعجزة القاهرة على القرآن الحكيم نفي لسائر المعجزات!
    ومن الغريب أن صاحب المقال كلما تحدّث عن السّنّة يعطي الرادّين عليه حججا جديدة ، تدل على بعده الشاسع عن معرفة علوم الحديث ، وليس هو على علم من أنّ الخبر الذي تكثر رواته في كل طبقة ، بحيث تصل إلى حدّ التواتر ، لا يبقى للجرح والتعديل شأن في رجال أسانيده اتفاقا بين أهل العلم بالحديث ، وليس القول بأنّ هذا ضعيف منجبر ، أو حسن ، أو صحيح ، إلا بالنظر إلى سند خاص ورواية خاصة ، وأما الحديث الذي يرويه نحو ثلاثين صحابيا بطرق كثيرة تبلغ حدّ التواتر في كل طبقة ، فيعلو من أن تنال يد النقد طرقه واحدة واحدة ، بعد ثبوت التواتر بالنظر إلى مجموع الأسانيد والروايات.
    فبهذا البيان يعلم أنّ هزء الشيخ في الكلام عن سبعين حديثا ـ أربعون منها صحاح وحسان ، والباقي منجبر (2) ـ لا يجد موردا ، فيرتدّ إلى مصدره ، ومجاملة أهل الحق لا تنتظر ممن تعوّد مجاملة أهل الباطل.
    __________________
    (1) الملحد الزنديق ، وداعية الإلحاد في تأليف كتاب له خاص بالإلحاد. وانظر ترجمته في (الأعلام) للزركلي.
    (2) انظر في هذا كتاب إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري ، واسمه : «التصريح بما تواتر في نزول المسيح» ، وهو مطبوع في الهند ولبنان ، وهو غاية الغايات في موضوعه.

    وإذا رأيت من ظهرت للملإ مسايرته لأهواء أهل عصره يقول في الأباة الكرام الرادّين على باطله ، القائمين بالذب عن دين الله يوم خذله حرّاسه : «فتلك شنشنة عرفت من أمثال هؤلاء الذين مني الإسلام بهم في كل عصر ، ورأوا أنّ مسايرة الجماهير في أهوائهم وعقائدهم أجدى لهم وأسبغ للنعمة عليهم!» وعرفت دعوته ودعوتهم ، وخبرت محياه ومحياهم : عرفت مبلغ توخّي الصدق في قلمه ، وهكذا يكون الأدب الراقي!! ولسنا نعيش في كرة المرّيخ حتى تجهلنا الأمّة.
    وأما توهّمه اتصالات بشأنه فصنع خياله! ومناصرة أهل الحق للحق في مثل هذا البلد الأمين لا تحوج إلى اتصالات ، لكنّ المريب يكون وهّاما ، رضي الله عن الذين يناصرون الحقّ حيثما كانوا.
    وليس الشيخ بموفّق حتى في ضربه الأمثال وذكره النظائر ، على أمل أن تخفّف الوطأة عنه ، وهو كثير الأغلاط فيها أيضا ، فلكونها غريبة عن الموضوع ، لا نشتغل بتبيين تلك الأغلاط هنا ، حيث لا نسمح له أن يسرح في خارج البحث ، إلى أن ينفد ما في جعبته في الموضوع. ونكتفي بلفت نظره إلى أنه لا تنقذه من ورطته موافقة طائفة من غير المسلمين له ، فليقل ما يوافقه عليه المسلمون كائنا ما كان قوله ، وافقه اليهود مثلا أم لم يوافقوا ، لكن ليحذر كلّ الحذر مما يخالفه فيه المسلمون كمسألتنا هذه ، وهناك الطامّة.

    العقيدة الدينية وطريق ثبوتها
    بهذا العنوان مقال أيضا في العدد (516) يوسّع فيه كاتبه ـ بعد مقدمة غريبة عن الموضوع ـ دائرة البحث الجاري بينه وبين الذّابّين عن عقيدة أهل الحق في نزول عيسى عليه‌السلام ، فيحشر فيه ما لا صلة له به من آراء تكشف الغطاء عن علم الكاتب وفهمه واتجاهه أكثر من ذي قبل ، وتنيله شهرة ، لكن بما لا يرضاه لنفسه ، وقد انفرد بفهم معنى (العقيدة) ، وباكتشاف طريق ثبوتها في الإسلام ، وإن تأخّر هذا الفهم وهذا الاكتشاف إلى القرن الرابع عشر الهجري!! فلا بأس أن نستعرض هنا بعض آرائه الطريفة ، لنزيد كشفا عن مرمى كاتب المقال ووجهته.
    فمنها قوله : «إنّ ما يجب الإيمان به يرجع إلى الأصول التي اشتركت فيها الأديان السماوية» ، فعلى هذا لا يعترف الكاتب بعقيدة خاصة في الإسلام ، ولا يقرّ بعقيدة فيه ما لم تكن متوارثة من الأديان السابقة!! فيكون هذا حجر الزاوية في بناء توحيد الأديان!! بل وضع أساس للاستغناء عن اللاحق بالسابق!!
    مع أنه لا مصدر يوثق به في الاطلاع على جلية أحوال الأديان السابقة غير القرآن الحكيم والسنة النقيّة البيضاء. وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) [الشّورى : 13] وقوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : 64] للتدرّج بالمخاطبين إلى الدعوة المحمدية بحكمة. وليس الاشتراك في بعض الأسس يوجب الاشتراك في الجميع.
    ومنها قوله : «إنّ الإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل». وهذا رأي ساقط ، لأنّ اعتقاد العامة لا عن دليل ، فيكونون غير مؤمنين على هذا الرأي!.
    ومنها قوله : «إنّ الدليل العقليّ يفيد اليقين ، ويحقّق الإيمان المطلوب بالاتفاق بين العلماء» ، فيختصّ بأن يكون مصدر العقيدة ، لأنها لا تؤخذ مما اختلف فيه عنده ، والدليل النقليّ مختلف فيه في نظره كما سيأتي منه.

    ومنها قوله : «إنّ الأدلة النقلية لا تفيد اليقين ، ولا تحصّل الإيمان المطلوب ، ولا تثبت بها وحدها عقيدة عند كثير من العلماء ، والذين ذهبوا إلى أنها تفيد اليقين ، وتثبت العقيدة ، شرطوا في الدليل النقليّ أن يكون قطعيّ الورود ، قطعيّ الدلالة» ، وذكر أمثلة للنوعين على رأي الفريق الثاني ، ثم قال : «ولا بد أن يعمّ العلم بالعقائد جميع الناس ، ولا يختصّ بطائفة دون أخرى ... ومن مقتضيات هذا العلم العامّ بها أن لا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها ، والعلميّات المختلف فيها ليست من العقائد».
    فعلى هذا لا يكون أحد سالم العقيدة والإيمان ما لم يعتقد جميع الناس ما اعتقده هو ، وما لم تعلم كافّة البشر ما علمه هو ، فلا يمكن للأشعرية أو الماتريدية مثلا أن ينفردوا بعقيدة تكون حقا ، ما لم يشاركهم باقي الفرق فيها ، فتكون النّحل كلّها على قدم المساواة ، وتزول الحواجز بينها ، ويرتع الغنم مع الذئاب في مرتع واحد!! فتكون النّحل موحدة بفضل هذا الاجتهاد الجديد!!.
    ومنها قوله : «إن ما اختلف فيه العلماء في باب العقليات ، والعلميّات ، كاختلاف الفقهاء في العمليات ، في عدم التضليل والتفسيق ، فضلا عن التكفير».
    والعلماء في نظره أعمّ من علماء أهل الحق وزعماء سائر الفرق من أيّ نوع كان بدعتهم.
    وهو يفرض أن الدليل القطعيّ البيّن عند هذا ، يكون بيّنا معلوما عند الجميع ، وأنّ الناس كلّهم سواسية في العلم والفهم!! فتتمّ بتلك المبادئ تصفية كتب العقائد في الإسلام ، وتنزيل مسائلها إلى عشر معشارها!! وفي ذلك الاقتصاد التامّ في العقيدة ، والاقتصاد مطلوب في كل شيء!!
    هذا هو منزع صاحبنا ، فما يجب اعتقاده في نظره هو ما اتّفق عليه أرباب النّحل ، ويكون الناس أحرارا في اعتقاد ما يشاءون ، في مواضع الخلاف بين الفرق بدون أي لوم وتثريب!! وقد سبق منه تنويع السّنّة إلى أنواع (1) ، لا يكون للوحي شأن إلا في النّزر اليسير منها ، فتسقط أغلب السّنّة من أن تصلح للاحتجاج بها في باب العمل ، فضلا عن باب الاعتقاد ، رغم ما يقرّره فخر الإسلام في ذلك ، مع افتتان الكاتب بالنقل عنه فيما يهواه.
    __________________
    (1) وذلك في مقالاته التي كتبها بعنوان (شخصيات الرسول).

    وهنا يضع قاعدة تمنع من أخذ الاعتقاد من مورد الخلاف ، وإفادة الدليل اللفظيّ اليقين مختلف فيها ، فلا يصحّ أن تؤخذ من الدليل اللفظيّ عقيدة ، على هذه القاعدة التي استقعدها هنا ، فيسقط الكتاب من مقام الحجّة في باب الاعتقاد ، كما تسقط أغلب السّنّة من مقام الاحتجاج بها في باب العمل عنده.
    فمن يكون ملمّا بتاريخ الأديان والنّحل والمذاهب ، لا يتردّد لحظة أنه لا توجد طائفة ترى مجموع تلك الآراء ، فيظهر أنه ليس من طائفة من الطوائف المعروفة في كتب النّحل ، وإنما هو أمة وحده ، لا يمثّل بكلامه طائفة من تلك الطوائف ، بل يمثّل نفسه فقط ، كما قال الأستاذ العقاد في الأستاذ زكي مبارك.
    ولا أرى بأسا في أن أتحدّث هنا عن الدليل اللفظي ، وعن المخطئ في العلميّات ، لخطورة ما فاه به كاتب المقال بشأنهما.
    أما الدليل اللفظي فيفيد اليقين عند توارد الأدلة على معنى واحد ، بطرق متعددة وقرائن منضمة عند الماتريدية ، كما في «إشارات المرام» للبياضي وغيره ، وإلى هذا ذهب الآمدي في «الأبكار» ، والسعد في «شرح المقاصد» و «التلويح» ، والسيد في «شرح المواقف».
    وعليه جرى المتقدمون من أئمة هذه الأمة وجماهير أهل العلم من كل مذهب ، بل الأشعريّ يقول : إنّ معرفة الله لا تكون إلا بالدليل السمعي. ومن يقول هذا يكون بعيدا عن القول بأن الدليل السمعي لا يفيد إلا الظن ، فيكون من عزا المسألة إلى الأشعرية مطلقا ، متساهلا بل غالطا غلطا غير مستساغ.
    والواقع أن القول بأن «الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقّن أمور عشرة ودون ذلك خرط القتاد» : تقعّر من بعض المبتدعة ، وقد تابعه بعض المتفلسفين من أهل الأصول وجرى وراءه بعض المقلدة من المتأخرين ، وليس لهذا القول أي صلة بأي إمام من أئمة أهل الحق ، وحاشاهم أن يضعوا أصلا يهدم به الدين ، ويتّخذ معولا بأيدي المشككين ، والدليل اللفظي القطعي الثبوت ، يكون قطعي الدلالة في مواضع مشروحة في أصول الفقه.
    وأما ما أجمله الفخر الرازي في «المحصّل» فقد أوضحه في «المحصول» و «نهاية العقول» ، واعترف فيهما بأن القرائن قد تعيّن المقصود ، فيفيد الدليل اللفظيّ اليقين ، فيفلت بذلك من أيدي المشككين إمكان التمسك بقول الرازي في «المحصل» في باب

    التشكيك في القرآن الحكيم ، بل القول بمجرد الدليل العقلي في علم الشريعة بدعة وضلالة.
    بل الأصل في علم التوحيد والصفات هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ، ولزوم طريق السنة والجماعة في المباحثة مع الذين أقروا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يستعمل الدليل العقلي وحده مع غيرهم كما يقوله فخر الإسلام وغيره ، فلا يعوّل عند أهل الحق على اعتقاد لا يقره الكتاب والسنة ، فمن سعى في إبعادهما عنه فقد أبعد في الضلال.
    وأما عدّ كاتب المقال لمسائل الخلاف في علم أصول الدّين بمنزلة الخلاف في مسائل الفقه في عدم التأثيم : فنزوع منه إلى رأي عبيد الله بن الحسن العنبريّ في تصويب المختلفين في العقائد. ومبلغ شناعة رأيه في ذلك يظهر مما بسطه ابن قتيبة في «مختلف الحديث» ص 55.
    وقد توسّع أئمة الأصول في نقض خيال الجاحظ في عدم تأثيم المختلفين في العلميّات والعمليّات بعد بذل الجهد منهم ، مع كون الصواب واحدا عنده في النوعين ، كما توسّعوا في التشنيع على العنبري في تصويب المختلفين مطلقا.
    قال الغزالي في «المستصفى» : مذهب العنبري شرّ من مذهب الجاحظ ، فإنه أقرّ بأن المصيب واحد ، ولكن جعل المخطئ معذورا ، بل هو شرّ من مذهب السوفسطائية ، لأنهم نفوا حقائق الأشياء ، وهذا أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات ، فهذا لو ورد به الشرع لكان محالا ، بخلاف مذهب الجاحظ.
    وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأوّلوه وقالوا : «أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير ، كمسألة الرؤية ، وخلق الأعمال ، وخلق القرآن ، وإرادة الكائنات ، لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة ، وأدلّة الشرع فيها متعارضة ، وكلّ فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه‌السلام ، وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه ، فكانوا فيه مصيبين ومعذورين».
    ثم قال الغزالي : «إن زعم أنهم فيه مصيبون ، فهذا محال عقلا ، لأنّ هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة ، فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا ، بل أحدهما ، والرؤية محالا وممكنا أيضا ، والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته ، أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو.

    وإن أراد أن المصيب واحد لكنّ المخطئ معذور غير آثم ، فهذا ليس بمحال عقلا ، لكنه باطل بأدلة سمعية ضرورية ، واتّفاق سلف الأمة على ذمّ المبتدعة ومهاجرتهم ، وقطع الصحبة معهم ، وتشديد الإنكار عليهم ، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه ، فهذا من حديث الشرع دليل قاطع ... ، ولم ينته الغموض في الأدلة إلى حدّ لا يمكن فيه تمييز الشّبهة من الدليل» اه.
    ولذا قال السعد في «التلويح» : «وإنما قال ـ يعني صدر الشريعة ـ (المخطئ في الاجتهاد لا يعاقب) لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب ، بل يضلّل أو يكفّر ، لأنّ الحق فيها واحد إجماعا ، والمطلوب هو اليقين الحاصل بالأدلة القطعية ، إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه ، وجواز رؤية الصانع وعدمه ، فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء ، وما نقل عن بعضهم من تصويب كلّ مجتهد في المسائل الكلامية ، إذا لم يوجب تكفير المخالف ، كمسألة خلق القرآن ، ومسألة الرؤية ، ومسألة خلق الأفعال : فمعناه نفي الإثم ، وتحقّق الخروج عن عهدة التكليف لا حقّيّة كلّ من القولين» اه.
    يريد بمنتهى كلامه الإشارة إلى رأي العنبري على تأويل إخوانه المعتزلة ، وقد فنّده الغزالي كما سبق.
    وقال القاضي عياض في «الشفا» : «أجمع فرق الأمّة سواه ـ يعني العنبريّ ـ على أنّ الحقّ في أصول الدين واحد ، والمخطئ فيه آثم عاص فاسق ، وإنما الخلاف في تكفيره» ، وتوسّع القاضي هناك في نقل نصوص أهل العلم في المسألة ، ومنزلة القاضي عياض في علوم الرواية والدراية غير مجهولة عند من اطّلع على كتبه ، أو طالع «أزهار الرياض».
    فثبت أنّ الخلاف في العقائد ليس كالخلاف في الفروع ، في عدم تأثيم المخطئ ، وعلى هذا اتفاق أهل الحق خلفا عن سلف ، بل اتفاق الفرق كلّها ، على ما سبق من القاضي عياض.
    وأما ما وقع في كلام العز بن عبد السلام ، ففي مثل زيادة الصفات ، وحكم ذلك مشروع في شرح الدّوّاني على «العضدية» ، وفي كلام عبد الحكيم على «النّسفيّة» ، وغيرهما من الكتب المتداولة بأيدي طلبة العلم ، وكذا مسألة الاستطاعة قبل الفعل مبيّنة في كلام عبد الحكيم على «المقدمات الأربع». وهكذا أوضح علماء العقائد في كتبهم ما يكون التنازع فيه خطيرا أو غير خطير ، فلا يبيح ذلك إرسال الكاتب الكلام على عواهنه في عدم تأثيم المختلفين في العقائد إطلاقا.

    على أنّ ابن عبد السلام له شطحات تسرّبت إليه من مطالعة بعض كتب ابن حزم ، التي أتى بها محيي الدين بن عربي إلى الشام ، فلا تزيد تلك الشطحات على أن تكون وهلة منه ، فلا يصحّ اتخاذها حجّة ، بل نرجو الله سبحانه أن يسامحه عليها.
    وأما ابن حزم فعلى بعض ميل منه إلى رأي الجاحظ في المسألة ، يرى إكفار المعاند بعد إقامة الحجة عليه ولو بخبر الآحاد ، فلا يلقى صاحب المقال بغيته عنده بل عند العنبري فقط ، وقد أقيمت الحجة بتوفيق الله وتسديده على كاتب المقال ، من كتاب الله وسنّة رسوله المتواترة وإجماع أهل الحق.
    وسبق أن أشرنا إلى أن الاحتمالات غير الناشئة من الدليل لا تخلّ بكون دلالة النصوص قطعية ، وذكرنا بعض ما ألّف في إثبات تواتر حديث النزول ، ونقلنا بعض نصوص أصحاب الشأن في تواتره وفي الإجماع على نزوله ، والمعاند بعد هذا يكون في موقف أخطر من التأثيم فقط ، ولذا صرّح السيوطيّ بتكفير منكر النزول في «الإعلام» المطبوع في ضمن «الحاوي» له 2 : 1660 ، وهو على القاعدة في إنكار ما تواتر في الشرع.
    وليس أئمة هذه الأمة وعلماؤها من الصدر الأول إلى اليوم ، يجهلون معنى «العقيدة» ، وهم قد دوّنوا مسألة النزول في كتبهم في العقائد على توالي القرون ، قبل أن يخلق صاحب «الجوهرة» وصاحب «الخريدة» بدهور ، رغم أنف كلّ مكابر.
    على أنّ مسألة نزول عيسى عليه‌السلام ليست من المسائل التي جرّت إليها المناقشات مثل الاستطاعة ، وخلق القرآن ، وزيادة الصفات ، بل هي ثابتة بنصوص الشرع مباشرة ، فلا يمكن لمن يدين بالكتاب والسنة والإجماع أن ينكرها ، فيكون لفّ الكاتب ودورانه واستقعاده لقواعد وصنوف مغالطاته إطالة للكلام بدون جدوى غير انكشاف حاله كلّ الانكشاف عند الجميع.
    وحديثنا عن بضع تشكيكاته في الآيات يكون في فصل مفرد إن شاء الله تعالى ، وليس جهل الكاتب لدليل المسائل مما يوجب أن يجهله العالمون ، وتبجّحه بفهم معنى «العقيدة» لا يكسبه فخرا بعد أن جهل الدليل ، وجهل حصول العقد الجازم بالبرهان مرة ، وبالأدلة الإقناعية ، أو خبر الآحاد أو التقليد مرة أخرى.
    قال علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في «شرح أصول فخر الإسلام البزدوي» : «اعتقاد القلب فضّل على العلم ، لأنّ العلم قد يكون بدون عقد القلب ،

    كعلم أهل الكتاب بحقّيّة النبيّ عليه‌السلام مع عدم اعتقادهم حقيّته ... ، والعقد قد يكون بدون العلم أيضا ، كاعتقاد المقلّد ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون خبر الواحد موجبا للاعتقاد الذي هو عمل القلب ، وإن لم يكن موجبا للعلم.
    قال أبو اليسر : الأخبار الواردة في أحكام الآخرة من باب العمل ، فإنّ العمل نوعان : عمل الجوارح ، واعتقاد القلب ، فالعمل بالجوارح إن تعذّر لم يتعذّر العمل ... العمل بالقلب اعتقادا» اه وذلك عند شرحه لقول فخر الإسلام : «وفيه ضرب من العمل أيضا وهو عقد القلب عليه ، إذ العقد فضّل عليه».
    فظهر أنّ خبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقادا جازما في أناس ، ولا يفيد البرهان العلميّ اعتقادا في آخرين ، فواحد يعتقد اعتقادا جازما بنزول عيسى عليه‌السلام ، بمجرّد أن سمع حديثا واحدا في ذلك من صحيح البخاري مثلا ، وآخر لا يعتقد ذلك ولو أسمعته سبعين حديثا ، وثلاثين أثرا من الصّحاح والسّنن والمسانيد والجوامع وسائر المدوّنات في الحديث ، مما يحصل التواتر بأقلّ منها بكثير ، فالناجي هو ذاك الواحد دون الآخر. ووجه الفرق بين الأنبياء والعلماء والعامّة من ناحية الجزم الحاصل لهم ، وطريق حصول الجزم لكل منهم : مشروحان في «تأنيب الخطيب» ، فليراجع هناك.

    آيات في الرفع والنزول
    وفي العدد (517) بعنوان «آيتان ...» مقال يتناسى فيه كاتبه ما قرّره في العدد السابق ، من أنّ مورد الخلاف لا يصلح أن يتّخذ مصدرا للعقيدة ، وأنّ الدليل النقليّ لا يفيد اليقين عند كثير من العلماء ، والذين قالوا بإفادته اليقين شرطوا شروطا إلى آخر ما ذكره في النوعين على رأي الفريق الثاني.
    وأما الآن فيقول في مفتتح هذا المقال : إنه كان قرّر فيما سبق «أن القرآن كلّه قطعيّ الثبوت ، وأنه في دلالته نوعان : قطعيّ لا يحتمل التأويل ، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر». فيتراجع هكذا عن القول بعدم إفادة الدليل النقلي اليقين عند كثير من العلماء ، فيتهاتر.
    ولم أر بين الذين في أنفسهم مرض الخروج على الجماعة : من لا يتهاتر ، فإذا اعترف هكذا أنه يوجد بين الأدلة النقلية كثير مما يفيد اليقين ، فقد انهدم ما بناه ، واضطرّ إلى الرجوع لقول الجماعة بدون أن تنفع تمهيداته المهلهلة في شيء من مقاصده.
    وقوله : «قطعيّ لا يحتمل التأويل» يدلّ على أنه غاب عنه أنّ احتمال التأويل احتمالا غير ناشئ من الدليل : لا يخلّ بكون الدلالة قطعية اتفاقا بين أهل العلم ، على ما هو مشروح في «المستصفى» و «التلويح» و «مرآة الأصول» وغيرها.
    كما أنّ قوله : «وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر» يدلّ على أنه لا يميّز بين المجمل المحتمل لمعنيين على قدم المساواة ، وبين الظاهر المحتمل لمعنيين يكون أحدهما راجحا بنفسه أو بدليل ، والآخر مرجوحا في حكم العدم عند انتفاء ما يوجب الاعتداد به ، كما لا يميّز بين أقسام الوضوح التي إنما يكون احتمال التأويل في بعضها ، مع كون جميعها قطعيّة الدلالة عند عدم دليل يعضد الاحتمال الآخر اتفاقا.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:39

    وتلك الأقسام من الظاهر والنص والمفسّر والمحكم متداخلة ، وتغايرها بالمفهوم عند المتقدمين ، والتباين المعتبر بينها عند المتأخرين مشروح في محلّه ، ولا شأن لنا به هنا.
    وظنيّة الظاهر إنما هي عند وجود ما يدلّ على الاحتمال الآخر ، وإلا فحكمه حكم النصّ في القطع بالمراد منه ، بل عند تضافر الظواهر الظنية على معنى ، يحصل القطع بذلك المعنى ، كما هو الحال في خبر الآحاد المفيد للظن ؛ فإنّ الأخبار إذا تواردت على معنى حصل اليقين بذلك المعنى.
    ثم الظاهر : إما ظاهر بالوضع ، وإما ظاهر بالدليل ، كما في «التمهيد» لأبي الخطّاب محفوظ بن أحمد الكلواذي ، فتبيّن أن الظاهر ليس بقطعيّ مطلقا ، ولا ظنيّ مطلقا ، وأنّ الظواهر في الرفع والنزول قطعيّة لتضافر الأدلة وعدم وجود ما يدلّ على الاحتمال الآخر.
    وبعد هذا الاستطراد اليسير أعود فأقول : إنّ الأساتذة القائمين بالذب عن عقيدة الجماعة ، لم يدعوا قولا لقائل في تبيين وجوه دلالة كتاب الله على المسألة ، فجزاهم الله عن العلم خيرا ، لكنّ الشيخ لما رأى أنّ قلمه طوع بنانه لا يتمرّد عليه فيما يريد أن يودعه الطّروس ، ولسانه لا يعاكسه فيما يشاء أن يفوه به ، والجماعة أطوع له من ظلّه : أصرّ على مخالفة الأمّة ، فأخذ يسترسل ويكتب ويتكلّم بكل هاجسة في نفسه ، ظنا منه أنّ الأعزل من الحجّة يكسب في معمعة الحجاج شيئا غير الموت الأدبي ، وأنه يتمكن ـ ولو إلى حين ـ من تغطية الحق وترويج الباطل بين فئام عهد انخداعهم بشغبه ومغالطته.
    لكن خاب حدسه ، وضاع نفسه وسعيه في إظهار عقيدة المسلمين المتوارثة ، بمظهر اعتقاد الجماهير الجهلة الطّغام ، وتصويره للذابّين عنها بصورة عبدة المادّة النّفعيّين المجارين لأهواء العامّة الجهلة ، مما يدلّ على أنه ممن يرون دينا للعامة ، ودينا للخاصة ، وأنه إنما يحكي للناس عما يرى في مرآة ينظر هو فيها ، ولسنا نعيش في غير هذه الكرة حتى تجهلنا الأمّة وتجهله.
    يكون المناضل عن عقيدة الجماعة على ضلال!! والخارج عليها المنشقّ على هدى!! فسبحان الفتّاح العليم ، هكذا يكون المنصف صاحب الضمير الحي ، والمصلح الموجّه للنّشء!! ولسنا نطمع في سكوته عن الباطل. وإسكاته بيد الله القاهر ، وإنما نريد صون المجتمع من تشكيكاته ، وقد فعلنا بتوفيق الله سبحانه.

    ولا نزال نمضي على مناصرة الحق بإذنه جلّ شأنه ، رغم كل صعوبة قائمة ، حتى ظهر للملإ أنه لو ابتغى نفقا في الأرض أو سلّما في السماء ، ليأتي برواية صحيحة ، عن أحد من علماء أهل الحق من صدر الإسلام إلى عهد متنبئ المغول ، ينفي ما ينفي كاتب المقال لما وجد إلى ذلك سبيلا ، ليقال : إنّ له زميلا في الشذوذ ، فضلا عن أن يتصوّر احتمال أن يكون الحقّ في جانبه ولو بمقدار نسبة
    الواحد إلى الألف.
    فيكفي في سقوط كلامه ظهور أنه قال ما لم يقله أحد من العالمين رحم الله الإمام زفر بن الهذيل حيث قال : «إني لا أناظر أحدا حتى يسكت ، بل أناظره حتى يجنّ ، قالوا : كيف ذلك؟ قال : يقول بما لم يقل به أحد» ، كما رواه الصّيمريّ وغيره عنه.
    وأكتفي في الحديث عن الآيات التي نحن بصدد بيانها ، بلمحة يسيرة إليها هنا ، حيث أغنى عن التوسع فيها ما سبق توضيحه بقلم الأساتذة الرادّين على باطله ، فأقول : إنّ قوله تعالى : (... وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : 157 ، 158] نصّ في الرفع الحسي ، لأن حقيقة الرفع هي النقل من السّفل إلى العلو ، كما يقول أبو حيان الأندلسي في «البحر المحيط» ، ولا صارف عن الحقيقة حتى يجوز حمل الرفع هنا على رفع المكانة مجازا ، فيكون احتمال المجاز احتمالا غير ناشئ من دليل ، فيكون (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] نصّا في الرفع الحسّي بل في الآية ما يردّ احتمال المجاز ردّا باتا من وجوه :
    أمّا أولا فإنّ السياق في تقرير بطلان ما قاله اليهود من قتله ، ببيان أنهم إنما قتلوا الشّبه ، فبرفعه الحسيّ يكون إنقاذ شخصه منهم ، فينسجم بذلك ما قبل «بل» بما بعدها ، ورفع المكانة مما لا ينافي القتل ، وكم من نبيّ قتل وهو رفيع المكانة ، فلا يصحّ دخول «بل» بينهما ، لانتفاء التضادّ بينهما.
    وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في «تفسيره» بسند صحيح إلى ابن عباس ، أنّ عيسى رفع من روزنة في البيت ، وساق ابن كثير السند في «تفسيره» 1 : 574 وهذا ليس مما يعلم بالرأي ، فيكون في حكم المرفوع عند جماعة أهل العلم.
    وأمّا ثانيا فإنّ حمل الرفع هنا على رفع المكانة لا يظهر له وجه اختصاص بهذا الموقف ، لأنّ أولي العزم من الرّسل يكون كلّ واحد منهم رفيع المكانة دائما.

    وأمّا ثالثا فإنّ ذكر منتهى لرفع شخص بوصل (رَفَعَهُ اللهُ) [النّساء : 158] بلفظ (إلى) ، يقضي على احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة ، لأنّ رفع المكانة ينافيه ذكر منتهى له قطعا ، وإدخال (إلى) على ضمير المتكلم من قبيل الإضافة للتشريف ، والمعنى إلى سمائي ومنزل ملائكتي ، كما يقول أبو حيان وغيره.
    وأما رابعا فإنّ رفع المكانة لا يخصّ عيسى حتى يمتنّ الله به هنا ، بل يعمّه وسائر الأنبياء والمرسلين ، بل وسائر الأبرار والأخيار.
    وأما خامسا فإن حمل الرفع على رفع روحه ، بحذف المضاف ـ كما وقع في فتيا الشيخ ـ أمر لا يخصّ عيسى أيضا ، مع كون الحذف خلاف الأصيل ، فلذا يكون الرفع لشخصه ، فيشمل الرّوح والجسد معا ، وأنت لا تجد أحدا من المفسرين يحمل الرفع هنا على رفع المكانة ، أو رفع الرّوح فقط ، لظهور دلالته القطعية على الرفع الحسّيّ هنا.
    وهذا كلّه مع قطع النظر عن تواتر الأخبار في الرفع والنزول ، وإلّا فمن استذكر تواتر الأخبار في ذلك ، لا يسعه أن يتشكّك لحظة في هذا الأمر ولو لم يستحضر وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، فكيف والكتاب والسنة المتواترة والإجماع متواردة متضافرة على عقيدة الجماعة في ذلك.
    وأما قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] فنصّ أيضا في الرفع الحسيّ حتما ، لأن (إِلَيَ) تمنع من احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة كما سبق ، مثل منع (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : 38] من أن يكون (يَطِيرُ) [الأنعام : 38] مجازا على ما فصّل في موضعه.
    وكلمة الفخر الرازي في بعض الوجوه عند تفسير قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : 55] لا تكون إلا سبق قلم منه ، لظهور بطلان ذلك رواية ودراية ، بما فصّلناه آنفا. وكم له ولغيره من وجوه لا وجه لها في النقل ولا في الدراية ، على أنه يجزم مع باقي المفسّرين بالرفع والنزول عند تفسيره للآيات كلّها ، فما ذا عليه بعد هذا لو غلط في وجه؟ سبحان من لا يسهو ولا يغلط.
    وأما (مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : 55] فمن التوفّي وهو القبض والأخذ في أصل اللغة ، ويستعمل مجازا في معنى الإماتة كما يظهر من «أساس البلاغة» للزمخشري ، فيكون معنى الآية : إني قابضك من الأرض ورافعك إلى سمائي. وقال ابن قتيبة : قابضك من الأرض من غير موت.

    وهذا المعنى منسجم مع باقي الآيات والأخبار فيكون نصا أيضا في رفعه حيا ، لأن احتمال المجاز لم ينشأ من دليل ، فيبقى قطعيّ الدلالة على الوجه الذي شرحناه ، ولو فرضنا اشتراك التوفّي بين الأخذ والإماتة والإنامة لكان لحقه البيان بقاطع من الآيات الأخر ، فيكون قطعيّ الدلالة على الرفع الحسيّ والأخذ من غير موت.
    ولو فرضنا عدم لحوق بيان لا يتأتى حمله على الموت هنا ، لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال ، ومجاز في الاستقبال عندهم ، فلو حملناه على الحقيقة يكون المعنى : إني مميتك الآن. فيكون قصد اليهود حاصلا ، وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ قصدهم لم يحصل. ولو حملناه على الاستقبال مجازا لا يكون مستقبل أولى من مستقبل إلا بدليل ، فيتعيّن المستقبل الذي حدّده باقي الأدلة ، وهو ما بعد نزوله إلى الأرض.
    «والواو» لا تفيد الترتيب ، فيكون هذا من باب تقديم ما هو مؤخّر في الوقوع ، لأجل التقريع على مدّعي ألوهيته ، ببيان أنه سيموت ، وإليه ذهب قتادة والفراء وعليه يحمل ما رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، جمعا بين الأدلة.
    على أنّ ابن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس اتفاقا ، وقد قال فيه يعقوب بن سفيان : ضعيف الحديث منكره ، ليس محمود المذهب ، لا هو متروك ، ولا حجّة. فيكون مختلفا فيه ، وإن انتقى مسلم بعض حديثه.
    ومعاوية بن صالح الحضرميّ الراوي عنه ، لم يكن يحيى بن سعيد القطان يرضاه ، وقد قال أبو حاتم : لا يحتجّ به ، وإن انتقى مسلم بعض حديثه.
    وعبد الله بن صالح كاتب الليث الراوي عن الحضرمي ، كثير الغلط ، فلا يثبت بمثل هذا السّند هذا التفسير عن ابن عباس.
    ووهب بن منبّه هو الذي يقول بموته ، ثم رفعه ، ثم إحيائه في السماء ، لكنه كثير الرواية عن كتب أهل الكتاب ، فلا يعوّل على ما لا يرويه عن المعصوم عند أهل العلم.
    وقد صرّح محمد بن إسحاق بأنّ القول بموته قول النصارى ، وليس بين قول من قال : أنامه ثم رفعه ، وقول من قال : قبضه من الأرض ورفعه حيّا إلى السماء ، كبير فرق ، فيكون قول ابن حزم في «المحلّى» بموته ، ثم رفعه ، ثم إحيائه ونزوله ، مما لا تعضده رواية ولا دراية بل تكرير إيقاع الموت عليه مما ينافيه النصّ.

    وفي «العتبيّة» عزو وفاته ثم نزوله إلى مالك ، ولعلّ ابن حزم انخدع بذلك. وقد سبق أن شرحنا حال «العتبيّة» في العدد (34) 1361 ه‍ ، وليس في ذلك القول كبير خطورة غير ضعف مدرك الوفاة ، حيث كان مع الجماعة في الإيمان بالنزول ، كما صرّح بذلك في «الفصل» و «المحلّى».
    وقال الآلوسيّ : والصحيح كما قال القرطبي : أنّ الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم ، وهو اختيار الطبري ، والرواية الصحيحة عن ابن عباس اه.
    وقال ابن جرير بعد نقله روايات تفسير التوفّي بالنوم أو القبض أو الموت : «وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال معنى ذلك : أني قابضك من الأرض ، ورافعك إليّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ينزل عيسى ابن مريم» ، ثم ساق أحاديث في النزول ، ثم ردّ ردا مشبعا على من زعم تكرّر الإحياء والإماتة بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام.
    وليس في قوله «وأولى الأقوال بالصحة» ما يحتجّ به على أن تلك الأقوال مشتركة في أصل الصحة ، كيف وقد ذكر بينها ما هو معزوّ إلى النصارى ، ولا يتصوّر أن يصحّ ذلك في نظره ، بل كلامه هذا من قبيل ما يقال : «فلان أذكى من حمار ، وأفقه من جدار» ، كما يظهر من عادة ابن جرير في تفسيره عند نقله لروايات مختلفة ، كائنة ما كانت قيمتها العلمية ، وقد يكون بينها ما هو باطل حتما ، فلا يكون لصاحب المقال إمكان التمسك بمثل تلك العبارة في تقوية الروايات المردودة.
    وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : 117] فبمعنى قبضتني بالرفع إلى السماء ، كما يقال : توفّيت المال إذا قبضته ، وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور ، وروي عن أبي عليّ الجبّائيّ المعتزليّ ـ وهو من أجرأهم في الشذوذ ـ أنّ المعنى (أمتّني) ، وادّعى أنّ رفعه عليه‌السلام إلى السماء كان بعد موته ، وإليه ذهب النصارى كما قال الآلوسيّ ، وقال القرطبي : «قيل : هذا يدل على أنّ الله عزوجل توفّاه قبل أن يرفعه ، وليس بشيء ، لأنّ الأخبار تظاهرت برفعه ، وأنه في السماء حيّ» اه.
    وقد سبق بيان حقيقة التوفّي بحيث لا يدع أدنى ريبة. وما يقال من أنّ المتبادر من التوفّي هو الموت ، فيمكن أن يسلّم ذلك بالنظر إلى اليوم ، لكن تطوّر اللغة في زمن متأخّر إلى معنى ، لا يستلزم أن يكون هذا المعنى مفهوما من اللفظ في تخاطب الصحابة رضي الله عنهم وقت نزول القرآن الحكيم ، ولو كان هذا المعنى مفهوما من لفظ التوفّي إذ ذاك ، لكان (حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : 42] لغوا في قوله تعالى : (اللهُ)

    (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : 42] ، وجلّ كلام الله من أن يقع فيه لغو. ولا تعويل في تفسير كتاب الله على تخاطب اليوم بل على التخاطب في عهد التنزيل كما لا يخفى.
    والرسالة مثلا تستعمل بمعنى الواجب اليوم ، استعمالا شائعا منذ زمن غير بعيد ، فحاشا أن نفهم من الرسالة الواردة في نصوص الكتاب والسنة هذا المعنى بتلك المناسبة ، فنلغي معنى الوحي والرسالة من الله سبحانه ، لأنّ مسايرة التطوّر في اللغة في تطوير معاني الكتاب الحكيم ، تكون تحريفا للكلم عن مواضعه حتما.
    وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : 159] ، فالضميران في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) يعودان على عيسى ، لأنه المتحدّث عنه في السّياق ، ولأنّ عود أحدهما على غير ما يعود عليه الآخر فيه تشتيت للضمائر ، وهذا مما ينزه عنه الكتاب الكريم ، ولذا قال أبو حيان ـ وأنت تعرف منزلته في العربية ـ «والظاهر أنّ الضميرين في به ، وموته عائدان على عيسى ، وهو سياق الكلام ، والمعنيّ : من أهل الكتاب : الذين يكونون في زمان نزوله» ا ه ولا صارف عن الظاهر.
    وقال ابن كثير : «وهذا القول هو الحقّ كما سنبينه بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ، لأنه المراد من سياق الآي في بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلّم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبّه لهم ، فقتلوا الشّبه وهم لا يتبيّنون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وأنه باق حيّ ، وأنّه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلّت عليه الأحاديث المتواترة» اه. ثم ساق أحاديث كثيرة في النزول ، في (1 ـ 578) كما فعل مثل ذلك في باب الملاحم والفتن في أواخر «تاريخه» في القسم غير المطبوع منه (1).
    وكلام ابن جرير واضح جدا في تعيين إرجاع الضميرين إلى عيسى رواية ودراية ، وكذا ما ذكرناه في العدد (34 ـ 1361 ه‍) في هذا الصدد.
    وقد صحّ عن أبي هريرة في «الصحيحين» إرجاعهما إليه ، كما صحّ عن ابن عباس في رواية محمد بن بشار ، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، عن أبي حصين ، عن ابن جبير ، عنه عند ابن جرير وابن كثير ، وهذا سند كالجبل في الصحة ، بل الرواية مستفيضة عنه بطرق أخرى.
    __________________
    (1) ثم طبع هذا القسم من تاريخ ابن كثير باسم «النهاية» لابن كثير.

    وأين هذا من سند فيه عتّاب بن بشير ، وخصيف ، أو سند فيه أبو هارون الغنوي إبراهيم بن العلاء وعكرمة ، أو جويبر والضحاك ، أو محمد بن حميد وأبو تميلة يحيى بن واضح وحسين بن واقد وعكرمة ، أو أبو حذيفة موسى بن مسعود وشبل وعبد الله بن أبي نجيح؟
    ولا يلتفت في باب الرواية إلى غير الصحيح عند وجود الصحيح ، كما لا يلتفت إلى ما يوجب ترك موجب السياق أو إخراج اللفظ عن مدلوله الظاهر حيث لا صارف ، فعلم أن الاحتمال هنا لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الآية نصّا في النزول.
    وميل الزمخشري إلى عود ضمير (مَوْتِهِ) [سبإ : 14] ، على الكتابي ، إنما نشأ من رواية شهر بن حوشب عنده ظنا منه أنها صحيحة ، لأنه لا تعويل على الرأي والدراية عند ثبوت الرواية عن المعصوم ، أو عمن تلقى من المعصوم ، لأنه «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» عند أهل الدين. ولو علم أنّ رواية محمد بن السائب الكلبي عن شهر مردودة عند أهل النقد لما عرّج عليها.
    ثم قول النووي تعويلا على قراءة أبيّ بن كعب ، مخالف لمذهبه في القراءات الشاذة. وقراءة أبيّ هذه في سندها عتّاب بن بشير وخصيف ، وكلاهما ضعيف ، والقراءة الشاذة ما لم يصحّ سندها لا يحتجّ بها في باب التفسير عند أهل العلم.
    ثم ترجيح إرجاع الضمير إلى الكتابيّ في (مَوْتِهِ) [سبإ : 14] لما في ذلك من المحافظة على عموم الإيمان لكل كتابي ، ففيه هدم مصر ، لبناء قصر! لأنّ فيه إخراج كلمة (قَبْلَ) من معناها ، بحمل الإيمان هنا على الإيمان أثناء الموت لا قبله ، وحمل الإيمان على خلاف المعنى المتبادر منه وهو الإيمان النافع ، على أنّ ما لا ينفع لا يسمّى إيمانا في الشرع ، وإلغاء ما أقسم الله عليه بقوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النّساء : 159].
    وأما ترك العامّ على عمومه هنا ، فمن عدم التدبّر في الملابسات ، لأنّ لام جواب القسم ونون التأكيد مما يمحّض الفعل للاستقبال ، فيكون (لَيُؤْمِنَنَ) [النّساء :
    159] بمعنى : أنه يؤمن كلّ كتابيّ موجود في زمن خاصّ من أزمنة المستقبل ، يعينه تقييده بلفظ (قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : 159] ، فيكون الكلام مصروفا إلى ما بعد نزول عيسى ، كقوله عليه‌السلام : «ينزل فيكم عيسى ابن مريم» ، فإنه بمعنى : أنه ينزل في الأمّة الموجودين بعد النزول ، لا الموجودين في زمنه عليه‌السلام.
    والتخصيص بالقرائن والملابسات في الكتاب والسنة في غاية الكثرة ، فعلم أن الرواية والدراية تطابقتا على إرجاع الضميرين إلى عيسى عليه‌السلام.

    وأما قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : 61] فقد اعترف بطل الخروج على المتوارث بعود الضمير فيه على عيسى ، وعدم احتمال عوده على غيره ، لكن ظنّ أنه يجد في السّياق ما يمكّنه من صرفه عن وجهته ، ولم يعلم أن كون الخطاب للمشركين وأهل الجاهلية يضرّه ولا ينفعه ، لأنهم لا يقرّون بحدوث عيسى بدون أب ، ولا بإبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى بإذن الله. وإنما هذا وذاك مما نصّ عليه القرآن الكريم وهم لا يؤمنون به ، فكيف يتصور إقامة الحجة عليهم بما لا يقرّون به؟
    فتعيّن أنّ عود الضمير إلى عيسى ، باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، فأصبح نصا في النزول لا يعدل عنه.
    وقراءة «لعلم للسّاعة» بفتحتين قراءة عدة من الصحابة والتابعين كما في «البحر» وغيره ، لكن تغاضى عنها الشيخ مع صحة سندها ، حيث لم تكن هذه القراءة على هواه ، لأنها تعيّن عود الضمير إلى عيسى باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، مع أنه كان شديد التمسك بالقراءة المنسوبة إلى أبيّ بن كعب ، مع الضعف في سندها كما سبق ، لأنه كان يعدّها من صالحه ، وهكذا يكون الهوى!
    وقد جاء في صحيح ابن حبّان بسند صحيح بطريق مصدع ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : 61] قال : نزول عيسى ابن مريم من قبل يوم القيامة.
    فهل يمكن لمن يخضع لمعايير العلم أن يتعنّت بعد هذا كلّه في ردّ ما عليه الجماعة؟ وقد فهم أهل التفسير أمثال الزمخشري من إشارات آيات سوى ما تقدّم رفع عيسى ونزوله ، فهما يدلّ على يقظة بالغة. وفي إيضاح مداركهم طول نستغني عن الخوض فيها بصرائح الآيات المتقدمة.
    فظهر مما سبق كلّ الظهور بطلان قول الشيخ : «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظن بنزول عيسى أو رفعه ، فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن عقيدة ويكفّر منكره كما يزعمون».
    واتضح أيضا أنّ نصوص القرآن الحكيم وحدها تحتّم عليه القول برفع عيسى حيّا ، ونزوله في آخر الزمان ، حيث لا اعتداد باحتمالات خيالية لم تنشأ من دليل ، كيف والأحاديث قد تواترت في ذلك ، واستمرّت الأمّة خلفا عن سلف على الأخذ بها ، وتدوين موجبها في كتب الاعتقاد من أقدم العصور إلى اليوم ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال.

    السنّة وثبوت العقيدة
    وفي العدد (518) مقال بهذا العنوان يقول كاتبه في مفتتحه : إنه بيّن فيما سبق أنه «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظنّ برفع عيسى ونزوله ، فضلا عما يفيد اليقين».
    وقد علم القارئ الكريم بما قرّرناه في الفصل السابق بطلان هذا الزّعم من كل ناحية ، وأثبتنا أنّ في القرآن الحكيم نصوصا قاطعة تدل على الرفع والنزول ، وعلى هذا الفهم درج أئمة الأمّة وعلماؤها ولا سيما المفسّرين على تعاقب الدهور ، وإنما روي موته ثم رفعه عن وهب بن منبّه ومحمد بن إسحاق ، وهما إنما حكيا ذلك عن أهل الكتاب ، وذلك من ضرورة قولهم بقتله وصلبه.
    وقد كذّب القرآن ذلك ، فلم يبق إلا قول أهل الحق : إنه رفع حيّا ، وسينزل قبل يوم القيامة ، ومن حمل التوفّي على الموت ، مثل قتادة والفرّاء جعل قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : 55] من باب تقديم ما هو مؤخّر في الوقوع ، لنكتة ، كقوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : 43].
    وأما ابن حزم فقد قال بموته ، ثم رفعه ، ثم نزوله اغترارا منه بما في «العتبيّة» المشروح حالها في العدد (34 ـ 1361 ه‍) من مجلة الإسلام ، وما فيها من عزو موته إلى مالك رواية ساقطة عند أهل النقد ، وحمل التوفّي على الموت إخراج للكلمة عن وضعها ، كما يعلم من كلام ابن قتيبة وابن جرير والزمخشري وغيرهم.
    وبعد هذا الحمل لا بدّ من الحمل على التقديم والتأخير كما فعل قتادة والفرّاء ، جمعا بين الأدلة ، لأن الواو لا تفيد الترتيب ، ونسبة إنكار رفعه حيّا إلى المعتزلة مطلقا تساهل ، وإنما هو قول الجبّائي ، وهو كثير الشذوذ ، ومن جملة شذوذه أنه يرى عدم جواز الأخذ بخبر الآحاد عقلا ، فإذا أخذ كاتب المقال برأيه هذا يخلص من أخبار الآحاد بمرّة واحدة.

    وما لفرد لا يصحّ أن ينسب إلى جماعته ، وها هو خطيب المعتزلة ولسانهم الناطق تراه في «الكشاف» يقرّ بالرفع والنزول على طول الخطّ ، وكذا الإماميّة عند دفاعهم عن خروج المهديّ ، فلا يكون منكر الرفع والنزول إلّا مفارقا للجماعة ، جاريا مع الهوى ، منابذا للكتاب والسنة ، ونبذ ما عليه الجماعة ، المستمدّ من الكتاب والسنة ، والميل إلى رأي مستمدّ من أهل الكتاب : إبعاد في الشذوذ ، وقد قال ابن أبي عبلة : الرأي الشاذّ إنما يحمله الرجل الشاذّ.
    ثم ذكر الكاتب الفرق بين خبر الآحاد والخبر المتواتر ، بإطالة مستغنى عنها ، ونقل كلمات بعض أهل العلم في ذلك ببتر وتزيّد ، على أمل أن يجد فيها ما يغطّي على شذوذه ، والواقع أن من قال : إنّ خبر الآحاد يفيد العمل فقط ، يريد بالعمل ما يشمل عمل الجوارح وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ كما نصّ على ذلك البزدوي نفسه ، حيث قال في آخر مبحث خبر الآحاد :
    فأمّا الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ، ومن ذلك ما هو دونه ، لكنه يوجب ضربا من العلم ، على ما قلنا ، وفيه ضرب من العمل أيضا ، وهو عقد القلب عليه ، إذ العقد فضّل على العلم والمعرفة ، وليس من ضروراته ، قال الله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النّمل : 14] ، وقال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : 146] ، فصحّ الابتلاء بالعقد ، كما صحّ الابتلاء بالعمل بالبدن».
    وبذلك يعلم وجه تدوين أخبار الآحاد في كتب الحديث في المغيّبات وأمور الآخرة ، كما يعلم أنه لا يوجد تلازم كلّيّ بين العلم والاعتقاد على ما سبق تفصيله ، فالآن قد ظهر من يفهم معنى «العقيدة» ومن لا يفهمه حقا. ومن تزبّب قبل أن يتحصرم ، يلقى ما يلقاه من تزعّم قبل أن يتعلّم.
    ثمّ من قال : إنّ خبر الآحاد لا يفيد العلم ، يريد خبر الآحاد من حيث هو بالنظر إلى رأي جماعة ، وإلا فخبر الآحاد الذي تلقّته الأمّة بالقبول يقطع بصدقه ، كما نصّ على ذلك أبو المظفّر السّمعانيّ في «القواطع».
    وقد حكى السّخاويّ في «فتح المغيث» عن جماعة من المحقّقين : إفادة خبر الآحاد العلم عند احتفافه بالقرائن ، بل قال جماعة : إنّ ما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم يفيد في غير مواضع النقد منه العلم ، لاحتفافه بالقرائن ، ومنهم الغزالي.

    ثم العمل بخبر الآحاد ثابت بالدليل القطعيّ المفيد للعلم ، كما نصّ على ذلك أبو الحسن الكرخي ، والسمعانيّ في «القواطع» ، والغزاليّ في «المستصفى» ، وعبد العزيز البخاريّ في «شرح أصول فخر الإسلام».
    والاعتقاد عمل قلبي يؤخذ من خبر الآحاد ، كما سبق من فخر الإسلام ، فيكون إنكار أخذ الاعتقاد من خبر الآحاد إنكارا للدليل القطعيّ المفيد للعلم الموجب للعمل بخبر الآحاد ، أعمّ من أن يكون عمل الجوارح ، وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ ما ذا يكون موقف الكاتب إزاء هذا؟ حتى على فرض أنّ خبر النزول خبر آحاد؟
    فيعلم أن حفّاظ الأمة ما كانوا عابثين في تدوينهم لأخبار الآخرة والأمور الغيبية في كتبهم ، ولا كان الأئمة لاعبين في تدوينهم السمعيات في كتب العقائد ، رغم خيال هذا الكاتب.
    ثم تأويل الغزاليّ لقول بعض المحدّثين : «إنّ خبر الآحاد يفيد العلم» بالعلم بوجوب العمل به ، لا يمكن تأويل كلام ابن حزم به ، لأنه ينافي صريح كلامه في «الإحكام» 1 : 124 ، حيث قال بعد سرد مقدّمات : «وإذا صحّ هذا فقد ثبت يقينا أنّ خبر الواحد العدل عن مثله مبلّغا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ مقطوع به ، موجب للعلم والعمل معا». ومعه في هذا الرأي أناس ذكرهم هناك ، والعالم البعيد عن الهوى لا يقتصر في النقل على ما يحسبه نافعا له بدون تمحيص ، بل يرى الحقّ هو النافع حيثما كان.
    وحديث نزول عيسى على فرض أنه خبر آحاد ، مما اتّفق البخاريّ ومسلم عليه بدون نكير من أحد من حيث الصناعة الحديثية ، وتلقّاه الأمة بالقبول خلفا عن سلف ، واستمرّ علماء الأمة على اعتقاد مدلوله على توالي القرون ، فيتحتم الأخذ به.
    هذا إذا فرض أنه خبر آحاد ، فكيف وهو متواتر قطعا ، على ما ذكرنا من نصوص أهل الشأن في ذلك ، فيكون إنكار ذلك بعد الإلمام بأطراف الحديث بالغ الخطورة ، نسأل الله السلامة.
    والمتحقّق في مسألة الرفع والنزول هو الخبر المتواتر. وقد نصّ البزدويّ في آخر بحث المتواتر ، على أنّ منكر المتواتر ومخالفه يصير كافرا ، وذكر في صدد التمثيل للمتواتر «وذلك مثل القرآن ، والصلوات الخمس ، وأعداد الركعات ، ومقادير الزكوات ، وما أشبه ذلك». ونزول عيسى ليس بأقلّ ذكرا في كتب الحديث من مقادير الزكوات.

    ثم قال البزدوي : «ومن الناس من أنكر العلم بطريق الخبر أصلا ، وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ، ولا دينه ، ولا دنياه ، ولا أمّه ، ولا أباه». فيعلم من ذلك مبلغ إبعاد الكاتب في النّجعة حيث يقول : «وهكذا تجد نصوص العلماء من متكلّمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، فلا تثبت به العقيدة» ، ونجد المحقّقين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروريّ ، لا يصحّ أن ينازع أحد في شيء منه ، ويحملون قول من قال (كابن حزم في حسبان الكاتب) : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» على أن مراده العلم بمعنى الظن ، كما ورد ، أو العلم بوجوب العمل».
    وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني ، وأبي إسحاق الأسفراييني ، والقاضي أبي الطيّب ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وشمس الأئمة السّرخسي ، والقاضي عبد الوهاب ، ورواية ابن خويزمنداد عن مالك ، وقول أبي يعلى ، وأبي الخطّاب ، وابن الزاغوني ، وابن فورك ، وغيرهم فيما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم ، وفي الخبر المحتفّ بالقرائن ، أو خبر الآحاد مطلقا كما سبق.
    والواقع أنّ فريقا قال : إنّ خبر الآحاد إنما يفيد العمل. وهو مذهب الجمهور ، لكن من جملة العمل اعتقاد القلب ، وفريقا قال : إنه يفيد العلم والعمل من غير شرط ، كابن حزم ، وفريقا قال : إنه يفيدهما جميعا عند احتفافه بالقرائن ، وليس قول فريق منهم في صالح كاتب المقال لو تدبّر ، لأنهم متفقون على أنه يفيد العمل القلبيّ ـ وهو الاعتقاد ـ وإفادته العمل مقطوع بها ، والكاتب ينكر هذه الإفادة القطعية.
    ثم إنّ المكلّف إذا جزم بخبر آحاد يسمعه في أمر اعتقادي ، فقد تمّ إيمانه المنجي في الآخرة ، لأن المطلوب منه هو الاعتقاد الجازم كائنا ما كان طريق حصول ذلك له ، ولا يستوجب ذلك أن لا يكون في ذلك الأمر أدلّة سواه ، ولا هو بملزم أن يكون هو القائم بالحجّة في عصره ، وإن كان لكلّ مسألة اعتقادية حجج قطعية ، وقد قال عبد العزيز البخاري في «شرح أصول البزدوي» : ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحّتها توجب علم اليقين ، بطريق الضرورة ، وهو مذهب أحمد بن حنبل» ا ه.
    وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه : «أتراني خرجت من الكنيسة أو ترى عليّ زنّارا؟!!» لمن سأله أتأخذ بهذا الحديث؟ ـ في حديث من أخبار الآحاد ـ يدلّ على مبلغ تشدّده فيمن يعرض عن الحديث ، كما صحّ ذلك عنه بأسانيد في كثير من الكتب.

    وأما تأويل الغزالي لقول من قال من بعض المشارقة : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» ، فلا يمشي في توجيه كلام ابن حزم ، لأنه مخالف لصريح قوله كما سبق ، وهذا كلّه على تقدير أنّ حديث نزول عيسى خبر آحاد كما يزعم الكاتب ، وإلا فتواتر هذا الحديث أمر مفروغ منه ، بنصوص أهل الشأن ، والمحتفّ بالقرائن قسيم لخبر الواحد عند الغزالي.
    وأدهى من ذلك كلّه قول الشيخ المتهجم : «ومن هنا يتبيّن أن ما قلناه في الفتوى من (أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات) قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء.
    هكذا سلب العقل عن جماعة علماء الأمّة الذين ليس بينهم من يرى رأيه ، وقوله هذا في فتياه بالطل بشقّيه ، كما أنّ تعليقه عليه هنا باطل بطلانا (مركّزا) ، لأنّ خبر الآحاد يفيد عقيدة اتفاقا ، كما ذكرنا نصوص أهل العلم في ذلك آنفا ـ وهم عقلاء ومن يرميهم بفقد العقل أيكون هو العاقل؟ ـ ولا ينافي ذلك ثبوتها بأدلة سواه.
    ولو لا الاعتماد والاستناد على أخبار الآحاد في باب المغيّبات لكان حفّاظ الأمّة لاعبين في تدوين ما يتعلق بها في كتبهم ، ولكان علماء التوحيد هازلين حينما يقولون في كتبهم في الأمور الغيبية : صحّ الحديث في ذلك عن المعصوم ، ولا استحالة في حمله على ظاهره.
    لأنه من المقرّر عند أهل الحق أنّ النصوص تحمل على ظواهرها ، ما لم يمتنع حملها على ظواهرها ، فإذا امتنع ظاهر النص أوّل إذ ذاك فقط ، فيذكرون الأخذ بالاظهر ما لم يمتنع الأخذ به امتناعا عقليا أو شرعيا.
    ثم الغريب كل الغرابة أن يدّعي عن ذلك الحكم الباطل بشقّيه «أنه مجمع عليه» ، مع كونه لا يعير سمعا إلى حجّيّة الإجماع ، كما يعلم من كلامه في العدد (519) في الرسالة. وهذا مما تضحك منه الثّكلى لظهور بطلان الأصل بشقّيه ، فضلا عن ثبوت الإجماع عليه ، بل لا يصح نقل أحد الشقين عن أحد يعي ما يقوله ، بل القول «بأنّ ذلك ثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء» لا يصدر ممن يزن كلامه.

    ثم الغريب ممن لا يرى الحجة في أحاديث الصحيحين والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات ، كيف يحتجّ بأقوال أناس من المتأخرين وبينهم من لم ينشف حبر ما كتبه بعد؟!! فابن الصلاح إن كان حجة عنده فيما يقوله في المتواتر ، يكون حجّة أيضا فيما يقوله في الصحيحين ، وهو يقول في مقدمته بالقطع بصحة أحاديثهما ، وحديث نزول عيسى مما اتّفقا على روايته ، فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون.
    والواقع أنّ قول ابن الصلاح إنما هو في الواتر اللفظي ، فلا يمسّ كلامه كلامنا من قرب ولا بعد ، ثم ظنّه ندرة التواتر اللفظي خلاف الواقع كما توسّع في بيان ذلك الحفّاظ بعده أمثال الزين العراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وغيرهم ، فأبانوا الدليل وأوضحوا السبيل ، ونقل نصوصهم هنا يخرجنا إلى التوسع فيما يعلمه صغار طلبة العلم.
    ولا يستطيع أحد أن ينكر كثرة التواتر المعنوي باشتراك الأحاديث في معنى خاص ، والتواتر في حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، تواتر معنوي حيث تشاركت أحاديث كثيرة جدا ، بينها الصّحاح والحسان بكثرة في التصريح بنزول عيسى ، مع اشتمال كل حديث منها على معاني أخرى ، وهذا ما لا يستطيع إنكاره أحد ممن شمّ رائحة علم الحديث.
    وليس الاختلاف في شروط التواتر أو الإجماع مما يوهن أمر أحدهما لأن الاختلاف في شيء لا يوجب عدم الجزم بشيء فيه ، والاختلاف بعقل وبدون عقل شأن البشر ، وقد اختلف الناس في الله وفي رسوله وفي كل شيء ، ولم يمنع ذلك من الجزم بالحقائق بعد تمحيص الأقوال.
    فالاستناد في توهين أمر الإجماع أو التواتر ، على الاختلاف في شرط قبول كلّ منهما ، لا يكون إلا من ضيق العطن وجمود القرحية ، وقد استقرّ عند أهل العلم بأدلة ناهضة ملموسة ، أنّ التواتر ليس في حاجة إلى عدد خاص من خمسة فما فوقها ، بل إلى مجرّد ورود الخبر عن أناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات ، وهذا النوع من الخبر في غاية الكثرة لكثرة طرقه في دواوين الحديث.
    وما نصّ أهل الشأن على تواتره يكون كثير الطرق في كتب الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والمصنفات والأجزاء والتواريخ ، ويكون كيان أسانيده من صحاح وحسان وضعاف من جهة قلة الضبط منجبر ضعفها بأدلة تدلّ على ضبط من رمي بقلة الضبط ، بموافقة الثقات الأثبات له في الرواية ، فتكون الضّعاف مغمورة بين تلك

    الأخبار الكثيرة التي معظمها صحاح وحسان ، وأما كثرة الطّرق من أسانيد تالفة فقط ، فلا تفيد الحسن ولا الصحة فضلا عن التواتر.
    وأمّا ما نصّوا على أنه متواتر ، فيبدأ تخريجه من الصحيحين وباقي السنن إلى سائر الصحاح والمسانيد والمصنفات ، فمن لا يطمئنّ قلبه إلى مثله في الدين ، لا يطمئنّ إلى شيء ولو تليت عليه الكتب المنزلة كلّها.
    وليست كثرة وجود المتواتر تواترا معنويا موضع نزاع القوم ، ولا هذا مقابل قول ابن الصلاح ، بل مجرّد وجود الحديث في الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا ، بطرق كثيرة تحيل العادة تواطؤ رجالها على الكذب : يؤذن بتواتر الخبر قطعا عند كل حاظ بعقله ، تواترا لفظيا إذا اتّفقت ألفاظهم ، وتواترا معنويا إذا اختلفت ألفاظهم ، مع اتفاقها في معنى يكون قدرا مشتركا بين الجميع.
    وهذا القسم هو الكثير جدّ الكثرة كما يظهر من كتب أهل الشأن ، ومعنى اجتماع تلك الكتب على تخرجي الحديث ـ في لفظ بعضهم ـ اجتماع عدد منها يحتوي تلك الطرق الكثيرة ، التي هي مدار الحكم بالتواتر ، لظهور بطلان حمل الكلام على الاستغراق الحقيقي ، لأنّ جمع كتب الحديث كلّها غير ميسور لأحد في دور من الأدوار ، فكفى جمع عدد من الكتب المشهورة المتداولة ، يحتوي تلك الطرق ، لظهور أنّ التعليق بالمحال ليس من عادة العلماء.
    وكم من حديث لا يوجد في الموطأ أو المنتقى لابن الجارود مثلا ، ويكون موجودا في باقي الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع ، بسبب أنّ الموطأ والمنتقى يقتصران على أحاديث الأحكام ، مع كون باقي الكتب أشمل في الرواية ، والحديث المذكور لا يكون من باب الأحكام مثلا.
    وتخطئة ابن الصلاح في دعوى ندرة التواتر مشروحة في «النّكت» و «شرح الألفية» للعراقي و «التدريب» للسيوطي وغيرها من الكتب المعروفة ، بحجج ملموسة. وعدّ الكاتب هذا القول أوسع المذاهب في المتواتر غلط بل هو الذي حقّقته الدلائل الناهضة ، ومذهب لا يشترط في عدد الرواة أكثر من خمسة يكون هو أوسع المذاهب في التواتر.
    والظاهر أنه غاب عن كاتب المقال اختلاف الأقوال في الأعداد التي يجب تحقّقها في التواتر ، فيكون ما عليه الجماعة هو أعدل الأقوال ، فلا تقوم حجّة لسواه ،

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:41

    فمحاولة الكاتب التمسّك باجتماع الكتب على تخريج الحديث ، وعدّه لذلك أوسع المذاهب للتخلّص من التواتر : مما يذهب هكذا أدراج الرياح عند من تدبّر ما ذكرناه.
    ثم دعواه الإسراف في الحكم بالتواتر قديما وحديثا ، إبعاد في النّجعة ، وليس مثل هذه الدعوى المجردة مما يسمع من مثله ، بعد أن ساق أهل الشأن الطرق التي بها يحكمون على الحديث بالتواتر من كتب الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها.
    والمزاعم المجرّدة عن الدليل لا يهزم بها حق ، ولا ينصر بها باطل ، بل ترتدّ إلى زاعمها هزيما كما صدر ، ويقال لقائلها : «ما هكذا تورد الإبل يا بطل!».
    وإن دلّت هذه الظاهرة منه على شيء ، إنما دلّت على أنه يريد التشكيك في السنة ودلالتها ، كما فعل مثل ذلك في دلالة الكتاب الكريم ، فنوصيه أن يقلع عن هذا ، ويحذر من المخاطرة بنفسه فيما لا قبل له به ، لأن الحقّ ظاهر لا يستره التمويه عن الأبصار ، والباطل مفضوح كائنا من كان ناصره ، وأوّل فخر لمن يقوم بالتدليل على تواتر خبر أن يسرد أسماء الصحابة الذين قاموا بروايته ، ثم التابعين ، ثم وثم طبقة فطبقة ، والاستياء من مثل هذا الجيش العرمرم ، شأن من يكون في صفّ الباطل وانهزم.
    ولا أدري ما هو الداعي له إلى ذكر التعصّب المذهبي في خلع لقب التواتر على خبر الآحاد في نظره ، ونزول عيسى ليس اعتقاد أهل مذهب فقط ، بل المسألة إجماعية لا يوجد مذهب ينفيها ، فدونك «الفقه الأكبر» رواية حماد ، و «الفقه الأبسط» رواية أبي مطيع ، و «الوصية» رواية أبي يوسف ، و «عقيدة الطحاوي» ، يظهر منها أنّ اعتقاد نزول عيسى مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأتباعهم ، وهم شطر الأمة المحمدية.
    وكذا مالك وأصحابه وأتباعه ، والشافعيّ وأصحابه وأتباعه ، وليس أحد منهم ينكر نزول عيسى ، ولأحمد بن حنبل كتابات بعث بها إلى أصحابه في بيان معتقد أهل السنة ، وفي جميعها هذه المسألة ، وتلك الرسائل مروية بأسانيدها عند أهل العلم ، مدوّنة في «مناقب أحمد» لابن الجوزي ، وفي «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى وغيرهما ، وكذا الظاهرية.
    وتصريح ابن حزم بنزوله عليه‌السلام موجود في 3 : 249 من «الفصل» ، وفي 1 : 9 وفي 7 : 391 من «المحلى» ، بل المعتزلة كذلك كما يظهر من كلام الزمخشري ،

    وكذلك الإماميّة كما يظهر من كلامهم في الدفاع عن خروج المنتظر ، فأين يكون التعصّب المذهبي في مثل هذه المسألة ، المخرج دليلها في الصحاح كلّها والسّنن كلّها والمسانيد كلّها ، ودان بها جميع الفرق؟
    نعم هنا قوّة تمسك للأمّة بحكم قطعيّ ، لا يبغون عنه حولا إلى شبه اليهود والنصارى في المسألة. ولا حجّة في كلام بعض العصريين الذين تعوّدوا التساهل في كل شيء ، لأنهم صحفيّون قبل كل شيء ، لا خبر عندهم بأدلة المسألة ، ولا ورع يحجزهم عن الإفتاء فيما غاب عنهم دليله.
    أفدني بربك ما هو الداعي هنا إلى ذكر الوضّاعين ، أو الأخبار الجارية على الألسن؟ وقد ألفت في القبيلين كتب خالدة ، يستفيد منها كلّ من يرغب في علوم السنة ، وليس خبر النزول من هذا الوادي ولا من ذاك الوادي كما سبق.
    وطرق بحث المعجزات الحسية هنا تطوّع من الكاتب في صف نفاتها بدون أيّ مناسبة له هنا ، غير توسيع دائرة البحث ، ليبقى وهو يتكلّم ، نفع كلامه أم لم ينفع ، فيا نفاة المعجزات الحسية ، اعملوا (معروفا) لا تضنّوا على فخر الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ بمعجزات أثبتها القرآن لسائر الأنبياء.
    وقد أجاد ابن كثير في «تاريخه» سرد المعجزات الثابتة لفخر المرسلين ، مما ثبت مثله للأنبياء قبله ، وتبيين أنه ما أوتي نبيّ قبله معجزة إلا وأعطي مثلها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، وقد نصّ أهل العلم على ما تواتر منها مباشرة ، وما تواتر القدر المشترك فيه فقط.
    وإن كان كاتب المقال تسرّب إلى فكره شيء من تشكيكات البرنس قيتانو الإيطالي ، في تاريخه الكبير عن الإسلام ، فدواء ذلك كتاب الشيخ شبل النعماني وزميله الشيخ سليمان النّدوي في السّير ، وهما أجادا وأفادا.
    والمعجزات الحسيّة يجدها الباحث في كتب الصحاح والسنن والسّير مع تبيين مراتبها ، كما يجدها في «الشفا» وشروحه ، و «المواهب» وشرحها إن كان يقتصد في البحث.
    وأما تواتر أحاديث المهديّ والدجّال والمسيح ، فليس بموضع ريبة عند أهل العلم بالحديث ، وتشكّك بعض المتكلمين في تواتر بعضها ، مع اعترافهم بوجوب اعتقاد أنّ أشراط الساعة كلّها حقّ ، فمن قلّة خبرتهم بالحديث ، وهم معذورون في ذلك ، ما لم يعاندوا بعد إقامة الحجة عليهم في المسائل.

    وكتاب «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدّجّال والمسيح» للشوكاني ، مطبوع في الهند ، وقد نقل منه صديق خان جملة صالحة في كتابه «الإذاعة لما كان وما يكون من أشراط الساعة» ، وهو أيضا مطبوع في الهند ، وهما ممن أقرّ لهم كاتب المقال بالإمامة والقدوة ، بل هما من أئمة هذا الشّاذّ.
    وليس إلى مثل الكاتب المتهجم التحدّث عن مراتب الحديث ، وله رجال وللتشغيب رجال. ورمي من أجاد جمع الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه‌السلام ، ونفع الأمة بعلمه ، بالتمويه والرّكض وراء الارتزاق ، مما لا يصدر من حرّ سلم قلبه من الدّغل.
    ومما يقضى منه العجب أن يرمى ممّن خرق الإجماع وفارق الجماعة في المسألة : من ناصر معتقد جماعة المسلمين بالمكابرة والعناد والإصرار على التضليل!! ، ولا شك أنّ من عنده شيء من الوازع الدّيني أو الزاجر الخلقي ، يربأ بنفسه أن يقف في مثل هذا الموقف.
    ثم لما رأى الكاتب انهزامه من كل جانب ، وتضييق الأدلة الخانقة لخناقه أراد أن يسلك في المسألة ما سلكه في تأويل الشيطان فيما سبق! فقال : «إنّ حديث النزول ليس بمحكم ، لا يحتمل التأويل حتى يكون قطعيّ الدلالة». والمحكم لا يمتاز عن أخواته من أقسام الوضوح إلا بعدم احتماله للنسخ ، وأما الخبر فلا يحتمل النسخ ، فيكون الظاهر والنصّ في هذا الموضوع في حكم المحكم.
    وأما احتمال التأويل فاحتمال خياليّ لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الدليل قطعيّ الدلالة كما سبق بيانه مرات ، قال الغزالي في «المستصفى» 1 : 357 «أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل ، فلا يخرج اللفظ عن كونه نصّا» ، ومثله في «التلويح» و «مرآة الأصول» وغيرها.
    ثم قال الكاتب : «فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ، ولم يجدوا مانعا من تأويلها».
    لكن لا يوجد بين علماء أهل الحق من يؤوّل النصوص ما لم تستحل معانيها الظاهرة ، ولذا تجد في كتب أهل الحق النصّ على أنّ «النصوص تحمل على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد وكفر ، وردّ النصوص كفر».

    ثم نقل الكاتب عن «شرح المقاصد» نقلا مبتورا ما يظنّ به أنه يكون حجّة له في تأويل ما ورد في أشراط الساعة ، ولا سيما نزول عيسى عليه‌السلام ، مع إغفال ما يحقّق المسألة من كلام السعد في مواضع من «شرح المقاصد» ، فأنقل كلام السعد هنا مع إثبات ما أهمله الكاتب ، ليظهر ما إذا كان قول السعد في صالحه أم لا.
    قال السعد في «شرح المقاصد» 2 : 226 «وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة ، رواها العدول الثقات ، وصحّحها المحدّثون الأثبات ، ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ، لأنّ المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا.
    وزعمت الفلاسفة أنّ طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله : بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي ، وأوّل بعض العلماء النّار الخارجة من الحجاز : بالعلم والهداية سيّما الفقه الحجازيّ ، والنّار الحاشرة للناس : بفتنة الأتراك ، وخروج الدجّال : بظهور الشرّ والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح ...».
    فصدر كلامه على القاعدة المتّبعة عند أهل الحق ، من حمل النصوص على ظواهرها ما دامت معانيها أمورا ممكنة ، ومؤوّل طلوع الشمس كما سبق لا يكون من أهل الشريعة ، وكذلك مؤوّل الأشراط على ما سبق ، لأنّ تلك التأويلات بعيدة كلّ البعد عن لغة التخاطب ، فتكون من قبيل التأويلات للباطنيّة ، وقد عرفت حكمها ، وليس شيء منها على قواعد التأويل المعروفة عند أهل العلم ، راجع «قانون التأويل» للغزالي.
    فكأنّ الكاتب لم يدرس شيئا من كتب التوحيد عند أهله ، ليفهم مغزى كلام المتكلمين في السّمعيّات : هذه أمور ممكنة في العقل. يعنون أنه دلّ السمع على ثبوتها ، فوجب حملها عليها. ومنهم من يعبّر عن ذلك بقوله : لا يمتنع حملها على ظواهرها يعني عقلا ، فتعيّن حملها عليها شرعا ، لا بمعنى أنه لا مانع من حملها على ظاهرها شرعا ولا من عدم حملها.
    وليس المقام يتسع لشرح الوجوب والامتناع والإمكان ووجه كون سلب الضرورة عن جانب العدم أعمّ من الوجوب في جانب الوجود ، وهذا من مبادئ المعارف لمن يشتغل بعلم أصول الدين ، ففهم الكاتب هنا يجلب إلى نفسه ضحك الضاحكين من صغار المتعلّمين.

    ومما يحقّق عند القارئ مبلغ بعد الكاتب عن علم الكلام قوله تفريعا على كلام السعد المذكور : «ومن ذلك نرى أنّ السعد لا يقرّر وجوب حملها على ظواهرها ، حتى تكون من قطعيّ الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرّر بصريح العبارة أنه لا مانع من حملها على ظواهرها. فيعطي بذلك حقّ التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل».
    وعادة المتكلمين أن يفرّعوا وجوب الاعتقاد بمعنى الدليل الشرعيّ على عدم استحالة معناه المؤدية إلى التأويل ، وكم ترى السّعد نفسه يقول في السمعيات : «إنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة ، وانعقد عليها إجماع الأمة ، فيكون القول بها حقا ، والتصديق بها واجبا» ، ومثله يتكرّر في «شرح النسفية» ، وفي «التجريد» للنصير الطوسي ، و «المواقف» للقاضي عضد الدين.
    والذين ذكرهم السعد هنا بعد قوله : «عند أهل الشريعة» ، ليسوا من أهل الشريعة في نظره ، كما هو ظاهر ، والسعد هو الذي يقول في آخر «شرح المقاصد» : «ذهب العظماء من العلماء إلى أنّ أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر وإلياس في الأرض ، وعيسى وإدريس في السماء ، عليهم الصلاة والسلام».
    كما يقول في 2 : 198 : «وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلّها فكفر ، صغيرة كانت أو كبيرة ، وكذا الاستهانة بها بمعنى عدّها هيّنة ترتكب من غير مبالاة ، وتجري مجرى المباحات ، ولا خفاء في أنّ المراد ما ثبت بقطعيّ ، وحكم المبتدع ـ وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ـ ينبغي أن يكون حكم الفاسق ، لأنّ الإخلال بالعقائد ليس بأدون من الإخلال بالأعمال» ، يعني فيما هو غير مكفّر.
    ثم قال : «وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه ، والإهانة والطّعن واللّعن وكراهية الصلاة خلفه».
    ثم قال : «وطريقة أهل السّنّة أنّ العالم حادث ، والصانع قديم متصف بصفات قديمة ... لا شبيه له ، ولا ضدّ ، ولا ندّ ، ولا نهاية له ، ولا صورة ، ولا حدّ ، ولا يحلّ في شيء ، ولا يقوم به حادث ، ولا يصحّ عليه الحركة والانتقال ... وأنّه ليس في حيّز ولا جهة ... وأنّ أشراط الساعة من خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابّة الأرض : حقّ ...» إلى آخر معتقد أهل السنة والجماعة المبسوطة هناك.

    وبعد أن علمت نصوص كلام السعد ، في شتى المواضع من كتابه المذكور ، تعلم علما باتا أنّ مراده بقوله : «ولا يمتنع حملها على ظواهرها» بعد تقريره لثبوت الأحاديث ، لا يكون إلا بمعنى أنها أمور ممكنة عقلا دلّ السمع على ثبوتها ، فيجب التصديق بها.
    ولم يكتف الكاتب بما سبق منه من التحريف الشائن ، حتى خيّر الناس في الإيمان بأحد طرفي النّفي والإثبات ، وهذا هو الجهل بعينه في باب الاعتقاد ـ وإن كان له سابقة في تقرير لزملائه ـ وختم كلامه بأنه تبيّن جليّا مما تقدّم «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعيّة ما ، لا من ناحية ورودها ، ولا من ناحية دلالتها».
    هكذا يظنّ بنفسه أنه تمكّن من إبطال كتب السنة من صحاح وسنن ومسانيد وغيرها ، بشطبة قلم ، كما تمكّن في حسبانه أيضا من إلغاء كتب الكلام والتوحيد وما حوته في المسألة من أول عهد إلى اليوم ، وكتب السنة لا تزال بخير ، وكذا كتب التوحيد ما دام للإسلام عرق ينبض ، وإنما الضائع من أضاع نفسه بمناهضة الأمّة ، حتى أصبح مثلا في الآخرين. ولعل فيما ذكرناه في هذا الفصل كفاية في نقض ما في المقال المذكور ، والله سبحانه هو ولي الهداية.

    الإجماع وثبوت العقيدة
    وبهذا العنوان كلمة أيضا في العدد (519) ، تناول فيها الكاتب ثالث حجج الشرع عند أئمة الدين ، بالتشكيك بكل ما استطاع ، وبه يكون أتمّ رسالته في تهوين دلالة حجج الله من الكتاب والسنة والإجماع ، في نفوس المصغين إليه من العامّة وشبه العامّة.
    ولست أدري ما هو الداعي له إلى هذا اللف والدوران ، وتقعيد القواعد في النيل من الأدلة المجمع عليها بين أهل الحق ، وكان يستطيع بدون ذلك أن يقول : إنّ في وفاة عيسى عليه‌السلام ونفي نزوله في آخر الزمان النّصّ الفلانيّ من الكتاب يدلّ على وفاته ونفي نزوله ، أو الدليل الفلانيّ من السنة أخرجه فلان وفلان ، يخالف ما اعتقده الجماعة في ذلك ، أو الرواية الفلانية عن فلان من أئمة الدين ، بالسند الفلاني تفيد وفاته ونفي نزوله ، لو كان شيء من ذلك موجودا في دواوين العلم.
    لكن لو أجلب الكاتب بخيله ورجله ما استطاع سبيلا إلى رواية في وفاته ونفي نزوله عن أحد لم ينخدع بروايات أهل الكتاب ، فضلا عن أن يجد شبه دليل في الكتاب أو السنة ، إزاء نصوص كتاب الله وسنة رسوله المتواترة وإجماع علماء المسلمين ، الدالة على معتقد الجماعة في ذلك.
    وكم قلنا : إنّ رواية ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، غير ثابتة ، للانقطاع وللكلام في رجال سندها ، بل صحّ واستفاض خلاف ذلك عنه ، فيجب حمل تلك الرواية على التقديم والتأخير ، لئلا تخالف ما صحّ واستفاض عنه ، إذا جعلنا لها شيئا من القيمة كما هو رأي قتادة والفرّاء.
    وقول وهب بن منبّه بموته : لم يسنده إلى المعصوم ، وإنما نقله من أهل الكتاب ، ورواية محمد بن إسحاق تنصّ على أنّ القول بموته قول النصارى ، والجبّائي منخدع برواية أهل الكتاب ، وابن حزم على غلطه بعدم الفرق بين التوفّي والوفاة مصرّح باعتقاده نزوله في آخر الزمان ، حيث قال في «المحلّى» في 1 : 9 : «إنّ عيسى

    ابن مريم سينزل» ، وساق بسنده حديث النزول هناك ، وهكذا يقول أيضا في 7 : 391 فيهون أمر خلافه ، وإن كان واهن المدرك.
    وإنما الخلاف الخطر هو نفي نزوله عليه‌السلام ، وقد سبق منا بيان وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، مع نقل نصوص الحفاظ على تواتر حديث النزول ، والإجماع على الاعتقاد بنزوله.
    وممن قال ذلك الحافظ عبد الحق بن عطية الأندلسيّ وأبو حيّان الحافظ في تفسيريهما ، وفي «البحر المحيط» 2 : 473 : «قال ابن عطية وأجمعت الأمّة على ما تضمّنه الحديث المتواتر ، من أنّ عيسى في السماء حيّ ، وأنه ينزل في آخر الزمان» ، وفي «النهر المادّ من البحر» 2 : 473 بالهامش : «وأجمعت الأمّة على أنّ عيسى عليه‌السلام حيّ في السماء ، وسينزل إلى الأرض ، إلى آخر الحديث الذي صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك» ، وفي «البحر» أيضا 3 : 391 «(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : 158] هذا إبطال لما ادّعوه من قتله وصلبه وهو حيّ في السماء الثانية ، على ما صحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض».
    ومن خلقه الله من غير أب إذا عاش في السماء عيشة الملائكة بدون حاجة إلى الأغذية بإذن الله سبحانه إلى اليوم الموعود ، ما استبعد ذلك مؤمن لا يكون في قلبه دغل.
    وقد ذكر الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» عيسى عليه‌السلام في عداد الصحابة ، حيث رآه ليلة المعراج وهو حيّ ، وهكذا فعل ابن حجر أيضا في «الإصابة» ولا يخدش في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في أنّ الإسراء كان مناما ، فإنه إنما رواه محمد بن إسحاق عن بعض آل أبي بكر رضي الله عنه بدون سند ، وبالرواية عن مجهول بدون سند ، لا يثبت شيء عن عائشة ولا غيرها.
    ومن لغط بأنّ الإسراء كان نوما لهذا الخبر بنى على غير أساس ، وإطباق كتب العقائد من الصدر الأول إلى اليوم على الرفع والنزول ، مما لا يدع مجالا للتشكيك في الإجماع على ذلك ، إلا عند من لا يبالي بالإجماع ولا بالمجمعين.
    وليس الإجماع بالموضع الذي يراه فيه كاتب المقال ، بل يقول فيه ابن حزم في «مراتب الإجماع» : «إنّ الإجماع قاعدة من قواعد الملّة الحنيفيّة ، يرجع إليه ، ويفزع نحوه ، ويكفّر من خالفه» ، مع كونه من أشدّ الناس كلاما فيه ، والخلاف في شيء

    ليس مما يزيل حقيقة ذلك الشيء من الوجود ، بل أهل البصيرة النافذة يمحصونه بين ضوضاء الأخذ والرد ، فيظهر الحقّ واضحا جليّا بعد التمحيص ، لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
    ولعلّ الحقّ في ذلك لا يعدو ما قلته في «الإشفاق على أحكام الطلاق» ، في صدد الردّ على من يقول من أبناء اليوم : إنّ الإجماع الذي يدّعيه الأصوليون ما هو إلا خيال ... ولا استقرّ رأي العلماء على قول مقبول في معنى الإجماع ـ في نفسه! ـ وكيف يحتجّ به ومتى؟».
    ولا بأس أن أسوق هنا بعض ذلك ، دفعا لما عسى أن يعلق ببعض الخواطر من تشكيك ذلك المشكّك.
    ومما قلت هناك : «هذا كلام لا يصدر ممن يعقل ما يقول ، وإن دلّ هذا الكلام على شيء ، فإنما دلّ على أنّ قائله ما درس شيئا من أصول الفقه ، ولو نحو «مرآة الأصول» ، أو «التحرير» ، على واحد من المبرّزين في العلم ، فضلا عن كتاب البزدوي ، وشروحه ، ولا اطلع على «بحر» البدر الزركشي ، ولا «شامل» الإتقاني ، فضلا عن «تقويم» الدّبوسي ، و «ميزان السمرقندي» ، و «فصول» أبي بكر الرازي.
    ولم يطّلع أيضا على «فصول» الباجي ، و «محصول» أبي بكر بن العربي ... ، ولا «برهان» ابن الجويني ، ولا «قواطع» السمعاني ... ولا على «تمهيد» أبي الخطّاب ، و «روضة» الموفّق و «مختصرها» للطّوفي ، ولا «عمد» القاضي عبد الجبار ، و «معتمد» أبي الحسين البصري ، ولا «محصول» الرازي ، بل «تنقيحه» للقرافي ، بل اكتفى في هذا العلم الخطير بتقليب صفحات كتيّب للشوكاني أو القنّوجي ، شيخي التخبّطات في المسائل في الدّور الأخير ...
    أو لم يعلم هذا المتقول أنّ حجيّة الإجماع مما اتّفق عليه فقهاء الأمّة جميعا ، وعدّوه ثالث الأدلة ، حتى إنّ الظاهرية على بعدهم عن الفقه ، يعترفون بحجّيّة إجماع الصحابة ، ولهذا لم يتمكّن ابن حزم من إنكار وقوع الطلاق الثلاث مجموعة ، بل تابع الجمهور في ذلك.
    بل قد أطلق كثير من العلماء القول بأنّ مخالف الإجماع كافر ، حتى شرط للمفتي أن لا يفتي بقول يخالف أقوال جماعة العلماء المتقدّمين ، ولهذا كان لأهل العلم عناية خاصّة بمثل «مصنّف» ابن أبي شيبة ، و «إجماع» ابن المنذر ، ونحوهما من

    الكتب التي تتبيّن بها مواطن الاتفاق والاختلاف في المسائل بين الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم.
    وقد دلّ الدليل على أنّ هذه الأمّة محفوظة من الخطأ ، وأنّهم عدول شهداء على الناس ، وأنهم خير أمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأنّ من تابعهم تابع سبيل من أناب ، ومن خالفهم سلك سبيل غير المؤمنين ، وناهض علماء الدين.
    ولا أدري من أين أتت هذه الفوضى في التفكير ، ومن أين تسرّبت هذه السّموم الفاتكة إلى أذهان بعض المتفيهقين في هذا العصر؟ ... فإذا ذكر أهل العلم الإجماع ، فإنما يريدون به إجماع من بلغوا رتبة الاجتهاد من بين العلماء ، باعترافهم ، مع ورع يحجزهم عن محارم الله ، ليمكن بقاؤهم بين الشهداء على الناس.
    فمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد باعتراف العلماء له بذلك ، فهو خارج من أن يعتدّ بكلامه في الإجماع ، ولو كان من الصالحين الورعين ، وكذلك من ثبت فسقه أو خروجه على معتقد أهل السنة ، لا يتصوّر أن يعتدّ بكلامه في الإجماع ، لسقوطه من مرتبة الشهداء على الناس.
    على أنّ المبتدع كالخوارج وغيرهم لا يعتدّون بروايات ثقات أهل السنة في جميع الطبقات ، فكيف يتصوّر أن يوحد فيهم من العلم بالآثار ما يؤهّلهم لدرجة الاجتهاد.
    ثم أقلّ ما يجب على المجتهد المستجمع لشروط الاجتهاد ، باعتراف العلماء : أن يدلي بحجّته ، ويصارح الجمهور بما يراه حقا تعليما وتدوينا ، إذا رأى أهل العلم على خطإ في مسألة من المسائل ، حسب ما يراه هو ، لا أن ينقبع في داره ، أو ينزوي في رأس جبل بعيد عن أمصار المسلمين ، ساكتا عن بيان الحق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس ، ناكثا عهد الله وميثاقه في تبيين الحق ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، فبمجرّد ذلك يلتحق بالفاسقين الساقطين عن مرتبة قبول الشهادة ، فضلا عن مرتبة الاجتهاد.
    ومن المحال في جاري العادة بين هذه الأمّة ، نظرا إلى نشاط علماء المسلمين في جميع الطبقات لتدوين أحوال من له شأن في العلم ، وتسابقهم في كتابة العلوم وتسجيلها ، وإفشاء ما يلزم الجمهور علمه في أمر دينهم ودنياهم امتثالا منهم لأمر

    تبليغ الشاهد للغائب ، ووفاء بميثاق تبيين الحق : أن لا تكون جماعة العلماء في كل عصر يعلمون من هم مجتهدو ذلك العصر ، الحائزون لتلك المرتبة العالية ، القائمون بواجبهم؟.
    فإذا ذاع رأي رآه جمهرة الفقهاء في أي قرن من القرون ، من غير أن يعلم أهل الشأن مخالفة أحد من الفقهاء لهذا الرأي ، فالعاقل لا يشكّ في أنّ هذا الرأي مجمع عليه ، وهو الذي يعوّل عليه المحققون من أئمة الأصول ، وهذا مما لا يمكن أن تجري حوله الثرثرة : بأنّ في الإجماع كلاما من جهة حجيته ، وإمكانه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، وإمكان نقله كما لا يخفى.
    وليس معنى الإجماع أن يدوّن في كل مسألة مجلّدات تحتوي على أسماء مائة ألف صحابيّ مات عنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم ، بالرواية عن كل واحد منهم فيها ، بل تكفي في الإجماع على حكم صحّة الرواية فيه عن جمع من المجتهدين من الصحابة ، وهم نحو عشرين صحابيا فقط في التحقيق ، بدون أن تصحّ مخالفة أحد منهم لذلك الحكم ، بل قد لا تضرّ مخالفة واحد أو اثنين منهم ، في مواضع فصّلها أئمة هذا الشأن في محله ، وهكذا الأمر في عهد التابعين وتابعيهم.
    ومن أحسن من أوضح هذا البحث بحيث لا يدع وجه شكّ لمتشكّك ، ذلك الإمام الكبير أبو بكر الرازيّ الجصّاص ، في كتابه «الفصول في الأصول» ، وقد خصّ فيه لبحث الإجماع وحده نحو عشرين ورقة من القطع الكبير ، وهو كتاب لا يستغني عنه من يرغب في العلم للعلم ، وكذا العلامة الإتقانيّ في «الشامل» شرح «أصول» البزدوي ، وهو في عشرة مجلّدات ، يذكر فيه نصوص الأقدمين بحروفها ، ثم يناقشهم فيما تجب المناقشة فيه ، مناقشة من له غوص.
    ومن الإجماع ما يشترك فيه العامّة مع الخاصّة ، لعموم بلواهم ، كإجماعهم على أنّ الفجر ركعتان ، والظهر أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ركعات ، ومنه ما ينفرد به الخاصّة وهم المجتهدون ، كإجماعهم على الحقّ الواجب في الزّروع والثمار ، وتحريم الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، فلا تنزل مرتبة هذا الإجماع عن ذاك ، لأنّ المجتهدين لا يزدادون حجّة إلى حججهم بانضمام العوامّ إليهم.
    فمن ادّعى أنّ من الإجماع ما هو قطعيّ يستغنى عنه بالكتاب المتواتر والسنة المتواترة ، وما دونه يتسكّع في الظن ، فقد حاول ردّ حجيّة الإجماع ، واتّبع غير سبيل المؤمنين ، وشرح ذلك في الكتب المبسوطة ، ولا يتحمّل هذا الموضع للإفاضة فيه.

    وما ذا على الإجماع من كون بعض أنواعه ظنيّا؟ وجحد ما هو يقينيّ منه كفر ، وإنكار ما جرى مجرى الخبر المشهور منه ضلال وابتداع ، وجاحد ما دون ذلك كجاحد بعض ما صحّ من أخبار الآحاد على حدّ سواء.
    أما قول محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في الإجماع ، فبعيد عما يفقهه الفقهاء ، وهو ليّن الملمس في كتبه بالنسبة إلى أمثال المقبليّ ومحمد بن إسماعيل الأمير والشوكانيّ من أذياله الهدّامين ، لكن مع هذا اللين تحمل كتبه سمّا ناقعا ، وهو أول من شوّش فقه العترة النبوية ببلاد اليمن ، وكلامه في الإجماع يرمي إلى إسقاط الإجماع من الحجية ، وإن لم يصرّح تصريح الشوكانيّ في «جزء الطلاق الثلاث». انتهى ما نقلته من «الإشفاق».
    وقول الشوكانيّ في جزئه المذكور «إنّ الحقّ عدم حجيّة الإجماع ، بل عدم وقوعه ، بل عدم إمكانه ، بل عدم إمكان العلم به ، وعدم إمكان نقله» متابعة للنّظّام على طول الخطّ : مما لا يستكثر من مثله في التجرّؤ على الأحكام ، وهو الذي لا يعترف بعدد محدود في نكاح النساء ، على خلاف الكتاب والسّنّة ، كما في «وبل الغمام» له. وتجد تفصيل الردّ عليه في «تذكرة الراشد» ، وإن كان هذا على خلاف ما في «نيل الأوطار» ، وله مراحل في الدعوة إلى بدعته.
    وقد علّقنا على مواضع من «مراتب الإجماع» لابن حزم برمز (م) في الغالب ، ما يعيد الحقّ إلى نصابه في مواضع انحرافه عن الجادّة ، وهكذا فعلنا فيما علّقناه على «النّبذ» لابن حزم بتوفيق الله سبحانه.
    وليس بين الأئمة المتبوعين كبير خلاف في الإجماع ، وما كلّ من تحدّث فيه تحدّث بما يقام لكلامه وزن ، والحقّ واضح لمن درس الإجماع من جميع نواحيه ، لكن ضعف المناعة الفقهية في متفقهة الأدوار الأخيرة ، جعلهم ضحايا للآراء الشاذّة التي تنشر هنا ، بسعي من أصحاب غايات ، وذلك ناشئ من الفوضى وقلة التبصّر في مناهج تفقيههم وإن كان القائمون بالأمر يصعب عليهم الاعتراف بذلك ، لكنّ الأمر واقع ، ما له من دافع.
    ثم إنّ أضيق المذاهب في الإجماع هو مذهب الظاهرية ، المقتصرين على الصحابة في الإجماع ، ونزول عيسى عليه‌السلام مما نصّ عليه ثلاثون من الصحابة رضي الله عنهم ، وآثارهم الموقوفة عليهم مدوّنة في «التصريح» للكشميري كما سبق ، ولم يصحّ عن صحابيّ واحد القول بما يخالف ذلك.

    وما أخرجه الطبراني في سنده مجالد ، فإذا لم يكن مثله إجماعا ، فلا يوجد في الدنيا إجماع ، ويقول أبو حامد الأسفراييني شيخ الطريقة العراقية في مذهب الشافعي ـ عن أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول ، وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر ، فيسكتون بدون أن يظهر منهم اعتراف ولا إنكار ـ إنّه إجماع وحجة مقطوع بها. فلا يكون لكاتب المقال متمسّك بما نقله من «رسالة» الشافعي رضي الله عنه ، حيث حمّله ما لا يتحمّله.
    وردّ ما يروى عن أحمد في الإجماع : في «السيف الصقيل» ص 110 ، ثم الخلاف في الاحتجاج بالإجماع في العلميّات ليس مما يوهن أمر الإجماع في موضوع بحثنا ، لأنّ ذلك في المسائل العويصة التي تضطرب فيها العقول ، وقد دلّلنا على أنّ الأخبار في النزول متواترة ، وثبوت تواترها ليس في حاجة إلى اعتراف صاحب المقال بتواترها ، بعد أن نصّ أصحاب الشأن على تواترها. والإجماع اليقينيّ على ما ثبت بالتواتر ، مما لا ينكره إلا مكابر.
    ثم إنّ اعتقاد النزول عمل القلب ، فيكون التمسّك بالإجماع هنا تمسكا به في باب العمل ، فيكون الأخذ بالإجماع في هذا الموضع أمرا متفقا عليه بين العلماء.
    وما نقله كاتب المقال عن «التحرير» لابن الهمام ، في أشراط الساعة وأمور الآخرة ، من لزوم استنادها على النقل دون الإجماع ، هو عين ما قاله صدر الشريعة في «التوضيح» ، لكن نظر فيه السعد المحقّق في «التلويح» وقال : إنّ النّقل قد يكون ظنّيّا فبالإجماع يصير قطعيا». وهذا كلام متين.
    وابن الهمام هو الذي يقول في «المسايرة ، في العقائد المنجية في الآخرة» ، في عداد المكفّرات : «وكذا مخالفة ما أجمع عليه ، وإنكاره بعد العلم به». والخلاف في كون الإجماع مدركا مستقلا هنا ، لا في الاعتداد به إذا وقع ، وتوارد الأدلة على شيء مما يزيده قوّة.
    وقال في «المسايرة» أيضا : وأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام ، وخروج يأجوج ومأجوج ، والدابّة ، وطلوع الشمس من مغربها حقّ» فما ذا بعد الحقّ إلا الضلال ، وقول ابن رشد الحفيد في الفرق بين العلميّات النظرية والعمليّات في باب الإجماع : منزع آخر ، ليس هذا موضع بسطه.

    وأما قول الكاتب : «وعلى فرض أنّ أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه ، نقول : إنّ نزول عيسى قد استقرّ فيه الخلاف قديما وحديثا ، أمّا قديما فقد نصّ على ذلك ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع» ، حيث يقول : اختلفوا في عيسى عليه‌السلام : أيأتي قبل يوم القيامة أم لا ...؟. كما نصّ عليه أيضا القاضي عياض في شرح مسلم ، والسعد في «شرح المقاصد» ، وقد سقنا عبارته في البحث السابق ، وهي واضحة جليّة في أنّ المسألة ظنية في ورودها ودلالتها. وأمّا حديثا فقد قرّر ذلك ...» :
    فخلو من صلاحية التّترّس به ، فإنّ ابن حزم لم يحك نفي النزول عن أحد من أهل الحق بسند صحيح ، حتى يقام له وزن ، وإنما هو توليد واستنتاج مما يحكى في موته ، ثم رفعه ، وقد محّصنا هذه الحكاية فيما سبق ، بل قال ابن رشد الكبير بعد أن قال : لا بد من نزوله لتواتر الأحاديث بذلك : «فما ذكره ابن حزم من الخلاف في نزوله : لا يصح» ، كما في «شرح» الأبيّ على «مسلم».
    وأما لفظ القاضي عياض في «شرح مسلم» فهو «نزول عيسى عليه‌السلام ، وقتله الدّجّال : حقّ وصحيح عند أهل السنة ، للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله ، فوجب إثباته ، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية» اه. وذلك البعض هو الجبّائي. ولو علم تواتر الخبر لما خالف ، على أنّ خلاف المبتدعة لا يخلّ بالإجماع في التحقيق كما سبق ، وجمهرة المعتزلة مع أهل الحقّ في المسألة ، على ما يظهر من كلام خطيبهم الزمخشريّ في «الكشاف».
    وأما ما نقله السعد بعد ذكره قوله أهل الشريعة ، وبعد ذكره لزعم الفلاسفة : فبعيد عن أن يكون نقلا لخلاف يعتدّ به ، بل هو قول بعض من سار سير الباطنية في التأويل كما سبق ، ولذا أغفل ذكر اسمه ، ومن طريقة تأويله يظهر أنه من المبتدعة الذين لا يلتفت إليهم ، والتأويل من غير داع عقليّ ولا شرعيّ على خلاف لغة التخاطب : شأن الباطنية ومن سار سيرهم ، هذا هو قديمه.
    وأما حديثه فالدكتور محمد توفيق صدقي (في المجلّد الحادي عشر من المنار ص 367) ومن لفّ لفّه ، من أصحاب الصّحافة ، فبالنظر إلى أنّ هؤلاء ليس عندهم من العلوم الضرورية ، لمن يريد أن يتكلّم في هذا الموضوع ، ما يسوغ لهم الكلام فيه ، ضربنا عن ذكرهم صفحا ، على أنّ منازلهم في العلم والورع غير مجهولة عند الشعب الكريم.

    وكفى في معرفة الدكتور مقالاته الصريحة في نفي الاحتجاج بالسنة مطلقا ، وقصر الاحتجاج على القرآن ، ومن جملة ما قاله في (11 ـ 370) : «واعلم أنّ المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة (هكذا) والظاهر أنّ هذه عقيدة سرت من النّصارى إلى المسلمين ، ولم يأت بها القرآن ، والأحاديث لا يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت ، وليس في هذه المسألة حديث متواتر».
    فيعلم من ذلك أنه قدوة كاتب المقال ، كما أنه قدوة الحدثاء الذين تحدّثوا في المسألة على خلاف ما عليه الجماعة ، ولكاتب المقال قدوة آخر في الباب ، وهو ابن هود الدمشقيّ ، وكان أصحابه يعتقدون فيه أنه المسيح ابن مريم ، ويقولون : إنّ أمّة كان اسمها مريم .. ويعتقدون أنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل فيكم ابن مريم» ، هو هذا ، وأنّ روحانيّة عيسى تنزل عليه.
    وابن تيمية بيّن لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى ، وأنّ ذلك الوصف لا ينطبق على هذا ، وكان منهم من يفسّر طلوع الشمس من مغربها : بطلوع كلامهم ، وبطلوع النّفس من البدن ، ونزول عيسى ابن مريم من السماء : بنزول روحانيّته أو جزئيته على هذا الشخص.
    فإذا وصل التقوّل والتحريف إلى هذا الحد ، نشكر الله على سلامة الدين والعقل ، ونسكت ، نسأل الله الصون.
    وبهذا يعلم من هو قدوة صاحب «المنار» في قوله المنقول في مقال الكاتب «وليس فيه نصّ صريح بأنه ينزل من السماء ، وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كلّ زمان من ظهور الإسلام بثّها في المسلمين». انظر إلى هذا الرأي التالف وهذه الجرأة البالغة من صاحب «المنار»!!
    والقول بسعي النصارى في بثّ تلك العقيدة في المسلمين من ظهور الإسلام إذا قورن بصحة نزوله عليه‌السلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على لسان ثلاثين من أصحابه رضي الله عنهم ، بأسانيد في الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها : علم مبلغ إيغال قائله في الباطل ، أينطق المصطفى صلوات الله وسلامه بما بثّه النصارى ويروج عليه؟ أم الصحابة يروج عليهم هذا الدّس؟ أم حفّاظ الأمّة وأئمتها يروج عليهم هذا البثّ وهذا الدّسّ فيروونها في كتبهم خالفا عن سالف بطريق التواتر ، ولا يتصوّر ما هو أبلغ من هذا المروق ، وها هي حجّة كاتب المقال!!

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:43

    ومن يرى مثل هذا الرأي في أصحاب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم ، ورواة السّنن عنهم طبقة فطبقة ، وفي كتب الحديث من صحاح وسنن ومسانيد وجوامع ومصنّفات وكتب التفسير بالرواية والدراية وسائر الكتب : فقد كشف النّقاب عن وجهه ، فلم يدع حاجة إلى المناقشة معه ، وليس شيخ الكاتب بالأمس بحجّة كشيخه اليوم. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)) [الإسراء : 84].
    وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله تعالى في تبيين الحقّ في المسألة ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وكان ختام تحريره في يوم الاثنين 18 جمادى الآخرة سنة 1362 ه‍.





    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    قال القاضي الإمام السعيد ، سيف السنّة ، ولسان الأمة ، أبو بكر : محمد بن الطيب بن محمد رضي الله عنه.
    الحمد لله ذي القدرة والجلال ، والعظمة والكمال. أحمده على سوابغ الإنعام وجزيل الثواب ، وأرغب إليه في الصلاة على نبيه محمد المختار وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار ، والتابعين لهم بإحسان [إلى يوم القرار] (1).
    أما بعد : فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الديّنة ـ أحسن الله توفيقها ـ لما تتوخاه من طلب الحق ونصرته ، وتنكب الباطل وتجنبه. واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين. واتباع السلف الصالح من المؤمنين ، من ذكر جمل ما يجب على المكلفين اعتقاده ، ولا يسع الجهل به ، وما إذا تدين به المرء صار إلى التزام الحق المفروض ، والسلامة من البدع والباطل المرفوض. وإني بحول الله تعالى وعونه ، ومشيئته وطوله ، أذكر لها جملا مختصرة تأتي على البغية من ذلك ، ويستغنى بالوقوف عليها عن الطلب ، واشتغال الهمة بما سواه. فنقول وبالله التوفيق :
    إن الواجب على المكلف :
    1 ـ أن يعرف بدء الأوائل والمقدمات التي لا يتم له النظر في معرفة الله عزوجل وحقيقة توحيده ، وما هو عليه من صفاته التي بان بها عن خلقه ، وما لأجل حصوله عليها استحق أن يعبد بالطاعة دون عباده. فأول ذلك القول في العلم وأحكامه ومراتبه ، وأن حده : أنه معرفة المعلوم على ما هو به ، فكل علم معرفة وكل معرفة علم.
    2 ـ وأن يعلم أن العلوم تنقسم قسمين : قسم منهما : علم الله سبحانه ، وهو صفته لذاته ، وليس بعلم ضرورة ولا استدلال ، قال الله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)
    __________________
    (1) تنبيه : الكلمات الموجودة بين أقواس مربعة هي من تصحيح الإمام الكوثري.

    [النّساء : 166] وقال : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : 11] وقال : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : 14] فأثبت العلم لنفسه ، ونص على أنه صفة له في نص كتابه.
    والقسم الآخر : علم الخلق. وهو ينقسم قسمين : فقسم منه علم اضطرار ، والآخر علم نظر واستدلال : فالضروري ما لزم أنفس الخلق لزوما لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه ؛ نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس ، وما ابتدئ في النفس من الضرورات.
    والنظري منهما : ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية ، وكان طريقه النظر والحجة. ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه.
    وجميع العلوم الضرورية تقع للخلق من ستة طرق : فمنها : درك الحواس الخمس ، وهي : حاسة الرؤية ، وحاسة السمع ، وحاسة الذوق ، وحاسة الشم ، وحاسة اللمس وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم ، ولون ، وكون ، وكلام ، وصوت ، ورائحة ، وطعم ، وحرارة ، وبرودة ، ولين ، وخشونة ، وصلابة ، ورخاوة فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس : هو العلم المبتدأ في النفس ، لا عن درك ببعض الحواس ، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه ، وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة ، والألم ، والغم ، والفرح ، والقدرة ، والعجز ، والصحة ، والسقم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان ، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق ، وكل معلوم بأوائل العقول ، والعلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر ، أو نخل ، وأن اللبن لا يكون إلا من ضرع وكل ما هو مقتضى العادات.
    وكل ما عدا هذه العلوم وهو علم استدلال لا يحصل إلا عن استئناف الذكر والنظر وتفكر بالنظر والعقل فمن جملة هذه الضرورات العلم بالضرورات الواقعة بأوائل العقول ، ومقتضى العادات التي لا تشارك ذوي العقول في علمها البهائم ، والأطفال والمنتقصون ؛ نحو العلم الواقع بالبديهة ، ومتضمن كثير من العادات ، ونحو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان ، وأمثال ذلك من موجب العادات وبداءة العقول التي لا يخص بعلمها العاقلون.
    3 ـ وأن يعلم أن الاستدلال هو : نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس ، وأن الدليل هو : ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره ، وهو على ثلاثة أضرب : عقلي : له تعلق بمدلوله ، نحو دلالة

    الفعل على فاعله ، وما يجب كونه عليه من صفاته. نحو حياته ، وعلمه ، وقدرته ، وإرادته. وسمعي شرعي : دال من طريق النطق بعد المواضعة ، ومن جهة معنى مستخرج من النطق ، ولغوي : دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ، ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ ، وقد لحق بهذا الباب : دلالات الكتابات والرموز ، والإشارات والعقود ، الدالة على مقادير الأعداد ، وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. والدال هو ناصب الدليل : فالمدلول هو ما نصب له الدليل. والمستدل الناظر في الدليل ، واستدلاله نظره في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه.
    4 ـ وأن يعلم أن المعلومات على ضربين : معدوم وموجود ، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم : هو المنتقى الذي ليس بشيء. قال الله عزوجل : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : 9] وقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)) [الإنسان : 1] فأخبر أن المعدوم منتف ليس بشيء ، والموجود هو الشيء الكائن الثابت. وقولنا «شيء» إثبات ، وقولنا «ليس بشيء» نفي. قال الله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : 19] وهو سبحانه موجود غير معدوم.
    وقول أهل اللغة : علمت شيئا ، ورأيت شيئا ، وسمعت شيئا ، إشارة إلى كائن موجود ، وقولهم : ليس بشيء هو واقع على نفي المعدوم ، ولو كان المعدوم شيئا كان القول ليس بشيء نفيا لا يقع أبدا إلا كذبا ، وذلك باطل بالاتفاق.
    5 ـ وأن يعلم أن الموجودات كلها على قسمين. منها : قديم لم يزل وهو الله تعالى ، وصفات ذاته التي لم يزل موصوفا بها ولا يزال كذلك. وقولهم : «أقدم ، وقديم» موضع للمبالغة في الوصف بالتقدم وكذلك أعلم وعليم ، وأسمع وسميع.
    والقسم الثاني : محدث ، لوجوده أول ، ومعنى المحدث ما لم يكن ثم كان ، مأخوذ ذلك من قولهم : حدث بفلان حادث. من مرض ، أو صداع ؛ وأحدث بدعة في الدين ، وأحدث روشنا ، وأحدث في العرصة بناء ، أي فعل ما لم يكن من قبل موجودا.
    6 ـ وأن يعلم أن المحدثات كلها على ثلاثة أقسام : جسم ، وجوهر ، وعرض. فالجسم في اللغة هو : المؤلف المركب. يدل على ذلك قولهم : رجل جسيم وزيد أجسم من عمرو ، وهذا اللفظ من أبنية المبالغة ، وقد اتفقوا على أن معنى المبالغة في الاسم مأخوذ من معنى الاسم ؛ يبين ذلك أن قولهم : «أضرب» إذا أفاد كثرة الضرب

    كان قولهم : ضارب مفيدا للضرب ، وكذلك إذا كان قولهم : المؤلف المركب مفيدا كثرة الاجتماع والتأليف ، وجب أن يكون قولهم جسم مفيدا كذلك.
    والجوهر : الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجه فيه غيره.
    والعرض : هو الذي يعرض في الجوهر ، ولا يصح بقاؤه وقتين ، يدل على ذلك قولهم : «عرض لفلان عارض من مرض ، وصداع» إذا قرب زواله ، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عزوجل : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : 67] وقوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : 24] فكل شيء قرب عدمه وزواله ، موصوف بذلك ، وهذه صفة المعاني القائمة بالأجسام ، فوجب وصفها في قضية العقل بأنها أعراض.
    7 ـ وأن يعلم أن العالم محدث ، وأنه لا ينفك علويه وسفليه من أن يكون جسما مؤلفا ، أو جوهرا منفردا ، أو عرضا محمولا. وهو محدث بأسره. وطريق العلم بحدوث أجسامه وحدوث أعراضه. والدليل على ثبوت أعراضه : تحرك الجسم بعد سكونه ، وتفرقه بعد اجتماعه ، وتغير حالاته ، وانتقال صفاته ، فلو كان متحركا لنفسه ، ومتغيرا لذاته لوجب تركه في حال سكونه ، وتغيره واستحالته في حال اعتداله ، وفي بطلان ذلك دليل على إثبات حركته ، وسكونه ، وألوانه ، وأكوانه ، وغير ذلك من صفاته ، لأنه إذا لم يكن كذلك لنفسه وجب أن يكون لمعنى ما تغير عن حاله واستحال عن وصفه.
    والدليل على حدوث هذه الأعراض : ما هي عليه من التنافي والتضاد ، فلو كانت قديمة كلها لكانت لم تزل موجودة ، ولا تزال كذلك ، ولوجب متى كانت الحركة في الجسم أن يكون السكون فيه ، وذلك يوجب كونه متحركا في حال سكونه ، وميتا في حال حياته ، وفي بطلان ذلك دليل على طروق السكون بعد أن لم يكن ، وبطلان الحركة عند مجيء السكون ، والطارئ بعد عدمه ، والمعدوم بعد وجوده محدث باتفاق ؛ لأن القديم لا يحدث ولا يعدم ، ولا يبطل.
    والدليل على حدوث الأجسام : أنها لم تسبق الحوادث ، ولم تخل منها ، لأننا باضطرار نعلم : أن الجسم لا ينفك من الألوان ، ومعاني الألوان من الاجتماع والافتراق ، وما لا ينفك من المحدثات ، ولم تسبقه كان محدثا. لأنه إذا لم يسبقه كان موجودا معه في وقته أو بعده ، وأي ذلك وجد وجب القضاء على حدوثه ، وأنه معدوم قبل وجوده.

    8 ـ وأن يعلم أن للعالم محدثا أحداثه. والدليل على ذلك وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر ، ولا يجوز أن يكون ما تقدم منها وتأخر متقدما ومتأخرا لنفسه ، لأنه ليس التقدم بصحة تقدمه أولى من التأخر بصحة تأخره ، فوجب أن يدل على فاعل فعله ، وصرفه في الوجود على إرادته وجعله مقصورا على مشيئته ، يقدم منها ما شاء ويؤخر ما شاء. قال الله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : 107] قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)) [النّحل : 40] ويدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلا كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بالفعل ، فإن تعلق الكتابة ، والصناعة بالكاتب والصانع كتعلق الكاتب في كونه كاتبا بالكتابة ؛ فلو جاز وجود فعل لا من فاعل ، وكتابه لا من كاتب وصورة وبنية محدثة لا من مصور ، لجاز وجود كاتب لا كتابة له ، وصانع لا صنعة له ، فلما استحال ذلك وجب أن يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلا. لوجود الفعل وحصوله منه ، ومن صفات هذا الصانع تعالى أنه : موجود ، قديم ، واحد ، أحد ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، سميع ، بصير ، باق (1) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] وسندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله بعد البداية بفرائض المكلفين ، وشرائع المسلمين مما يقرب فهمه ولا ينبغي جهله ، ولا بد للمكلف من علمه والعمل [به] فإذا أتينا على هذه الجملة رجعنا إلى القول في التوحيد ، وإثبات أسماء الله تعالى وصفاته ، وذكر ما يجوز عليه وما يستحيل في صفته ، وما توفيقي إلا بالله.
    9 ـ وأن يعلم : أن أول نعم الله تعالى على خلقه الحيّ الدرّاك خلقه فيهم إدراك اللذات ، وسلامة الحواس ، ونيل ما ينتفعون به من الشهوات التي تميل إليها طباعهم ، وتصلح عليها أجسامهم ، ولو أحياهم ، وآلمهم ومنعهم إدراك اللذات لكانوا مستضرين بالآلام ، وبمثابة الأحياء المعذبين من أهل النار ، وهذه نعمة الله سبحانه على جميع الحيوان الحاس ، العاقل منهم والناقص ، والمؤمن والكافر.
    10 ـ وأن يعلم أن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم ، وإجراؤه على ألسنتهم ، وتوفيقهم لفعله ، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان ، والتوفيق له نعمة خصّ الله تعالى بها المؤمنين دون الكافرين ، ولذلك قال عزوجل : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [البقرة :
    __________________
    (1) والبقاء ليس صفة حقيقة عند الباقلاني بل هو دوام الوجود (ز).

    64](وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النّساء : 83](وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النّور : 21] وقال عزوجل : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : 103] وقال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : 17] فلو كانت هذه النعمة له على الكافرين لم يكن لتخصيصه بها المؤمنين وامتنانه على المؤمنين وجه ، إذ كان قد أنعم بها على المردة والكفرة الضالين.
    11 ـ وأن يعلم : أن طرق المباين عن الأدلة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه : (1) كتاب الله عزوجل و (2) سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (3) إجماع الأمة و (4) ما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد ، و (5) حجج العقول. قال الله تعالى آمرا باتباع كتابه والرجوع إلى بيانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)) [محمّد : 24] وقال عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النّساء : 82] وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : 9] وقال سبحانه : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النّحل : 89] و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : 38].
    وقال عزوجل في الأمر باتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : 7] وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4)) [النّجم : 3 ، 4] وقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النّور : 63].
    وقال سبحانه في وصف عدالة أمة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر باتباعها ، والتحذير من مخالفتها : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : 143] وقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : 110] وقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)) [النّساء : 115].
    وقال في الأمر بالقياس والحكم بالنظائر والأمثال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : 2] وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النّساء : 83] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاضيه معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أنفذه إلى اليمين لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق : «بم تحكم؟ قال : بكتاب الله عزوجل. قال :

    فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي وأحكم. فقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله لما يرضي الله ورسوله». فأقره على الحكم والاجتهاد وجعله أحد طرق الأحكام.
    وقال عزوجل في الأمر باتباع حجة العقل : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)) [الذّاريات : 21] وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)) [الواقعة : 58 ، 59] وقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)) [آل عمران : 190] وقال : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)) [يس : 78 ، 79] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : 27] فأمرنا بالاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له بحسب نظيره ، وهذا هو الحكم ، المعقول والتقاضي إلى أدلة العقول.
    12 ـ وأن يعلم : أن فرائض الدين وشرائع المسلمين ، وجميع فرائض المسلمين وسائر المكلفين على ثلاثة أقسام : فقسم منها : يلزم جميع الأعيان وكل من بلغ الحلم وهو : الإيمان بالله عزوجل ، والتصديق له ، ولرسله ، وكتبه ، وما جاء من عنده ، والعبادات على كل مكلف بعينه ، من نحو الصلاة ، والصيام ، وما سنذكره ونفصله فيما بعد إن شاء الله.
    والقسم الثاني : واجب على العلماء دون العامة ، وهو القيام بالفتيا في أحكام الدين ، والاجتهاد ، والبحث عن طرق الأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، وهذا فرض على الكفاية دون الأعيان ، فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة وكذلك القول في حفظ جميع القرآن ، وما تنفذ به الأحكام من سنن الرسول عليه‌السلام ، وغسل الميت ، ومواراته ، والصلاة عليه ، والجهاد ، ودفع العدو ، وحماية البيضة وما جرى مجرى ذلك مما هو فرض على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة.
    والقسم الثالث : من الواجبات من فرائض السلطان دون سائر الرعية : نحو إقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، وقبض الصدقات ، وتولية الأمراء ، والقضاة ، والسعاة ، والفصل بين المتخاصمين ، وهذا وما يتصل به من فرائض الإمام وخلفائه على هذه الأعمال دون سائر الرعية والعوام وليس في فرائض الدين ما يخرج عما وصفناه ويزيد على ما قلناه.

    13 ـ وأن يعلم : أن أول ما فرض الله عزوجل على جميع العباد. النظر في آياته ، والاعتبار بمقدوراته ، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيته ؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار ، ولا مشاهد بالحواس ، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة ، والبراهين الباهرة.
    والثاني : من فرائض الله عزوجل على جميع العباد ؛ الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله ، وما جاء من عنده ، والتصديق بجميع ذلك بالقلب والإقرار به باللسان.
    14 ـ وأن يعلم : أن الإيمان بالله عزوجل هو : التصديق بالقلب ، بأن الله الواحد ، الفرد ، الصمد ، القديم ، الخالق ، العليم ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق ؛ قوله عزوجل : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : 17] يريد بمصدق لنا. ومنه قوله عزوجل : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر : 12] أي تصدقوا. ويقال فلان يؤمن بالله وبالبعث ؛ أي يصدق بذلك. وكذلك قولهم : فلان يؤمن بالشفاعة والقدر ، وفلان لا يؤمن بذلك ، يعني به التصديق ، وينفي الإيمان به التكذيب. وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه‌السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب.
    والإيمان بالله تعالى يتضمن التوحيد له سبحانه ، والوصف له بصفاته ، ونفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه.
    والتوحيد له هو : الإقرار بأنه ثابت موجود ، وإله واحد فرد معبود ليس كمثله شيء ؛ على ما قرر به قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)) [البقرة : 163] وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    وأنه الأول قبل جميع المحدثات. الباقي بعد المخلوقات ، على ما أخبر به تعالى من قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) [الحديد : 3] والعالم الذي لا يخفى عليه شيء والقادر على اختراع كل مصنوع ، وإبداع كل جنس مفعول ، على ما أخبر به في قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : 102](وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : 120].
    وأنه الحيّ الذي يموت ، والدائم الذي لا يزول ، وأنه إله كل مخلوق ، ومبدعه ومنشئه ، ومخترعه ، وأنه لم يزل [مسميا] لنفسه [بأ] سمائه ، وواصفا لها بصفاته ، قبل

    إيجاد خلقه ، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته ، التي منها : الحياة التي بها بان من الموت والأموات ، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات ، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات ، وأحاط بجميع المعلومات ، والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المسموعات والمبصرات ، والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات ، والبقاء الذي به سبق المكونات ، ويبقى به بعد جميع الفانيات ، كما أخبر سبحانه في قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : 180] وقوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النّساء : 166](وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : 11] وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصّلت : 15] وقوله : (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذّاريات : 58] فنصّ تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته ، وأخبره أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات ، كما قال عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88] وقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27)) [الرّحمن : 27] واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن ، في قوله عزوجل : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : 64] وقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : 75] وأنهما ليستا بجارحتين ، ولا ذوي صورة وهيئة ، والعينين (1) اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه‌السلام ، فقال عزوجل : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : 39] و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : 14] وأن عينه ليست بحاسة من الحواس ، ولا تشبه الجوارح والأجناس ، وأنه سبحانه لم يزل مريدا وشائيا ، ومحبا ومبغضا ، وراضيا ، وساخطا ، ومواليا ، ومعاديا ، ورحيما ، ورحمانا. ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته ، لا إلى غضب بغيره. ورضى يسكنه طبعا له ، وحنق وغيظ يلحقه ، وحقد يجده ، إذا كان سبحانه متعاليا عن الميل والنفور.
    وأنه سبحانه راض في أزله عمن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به. وغضبان على من علم أنه بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره ، وقد قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : 107] و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : 185] وقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)) [النّحل :
    __________________
    (1) وتثنية العين لم ترد في الكتاب ، وحديث الدجال ليس فيه إلا نفي النقص من الله سبحانه لا إثبات العينين له مع كونه خبر آحاد فيتعين الاقتصار على ما ورد في الكتاب وهو ما في الآيتين وإلا يكون في الأمر فتح باب التشبيه (ز).

    40] وقال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : 119](وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : 30] في أمثال هذه الآيات الدالة على أنه شاء مريد ، وأن الله جلّ ثناؤه مستو على العرش ، ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] بغير مماسة وكيفية ، ولا مجاورة ، وأنه في السماء إله وفي الأرض إله كما أخبر بذلك.
    وأنه سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين في المعاد ، فيرونه بالأبصار ، على ما نطق به القرآن في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 22 ، 23] وتأكيده كذلك بقوله في الكافرين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)) [المطفّفين : 15] تخصيصا منه برؤيته للمؤمنين ، والتفرقة فيما بينهم وبين الكافرين ، وعلى ما وردت به السنن الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أخبر به عن موسى عليه‌السلام ، في قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] ولو لا علمه بجواز الرؤية بالأبصار لما أقدم على هذا السؤال.
    15 ـ وأن يعلم : مع كونه تعالى سميعا بصيرا : أنه مدرك لجميع المدركات التي يدركها الخلق : من الطعوم ، والروائح ، واللين ، والخشونة ، والحرارة ، والبرودة ؛ بإدراك معين ، وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات.
    فتعالى [الله] عن التصوير والجوارح ، والآلات.
    16 ـ وأن يعلم : أنه مع إدراك سائر الأجناس [من] المدركات وجميع الموجودات ، غير ملتذ ولا متألم بإدراك شيء منها ، ولا مشقة [له منها] ولا نافر عنها ، ولا منتفع بإدراكها [ولا متضرر] بها. ولا يجانس شيئا منها ، ولا يضادها ، وإن كان مخالفا لها.
    17 ـ وأن يعلم : أنه سبحانه ليس بمغاير لصفات ذاته ، وأنها في أنفسها غير متغايرات ؛ إذ كان حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان ، والمكان والوجود والعدم. وأنه سبحانه يتعالى عن المفارقة لصفات ذاته ، وأن توجد الواحدة منها مع عدم الأخرى.
    18 ـ وأن يعلم : أن صفات ذاته [هي التي] لم تزل ، ولا يزال موصوفا بها. وأن صفات أفعاله هي التي سبقها ، وكان تعالى موجودا في الأزل قبلها.
    ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته [كلها] راجع إلى إرادته ، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة ، لا على

    ما يقوله القدرية ، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده ، وما يجعله منه كسبا لعباده ، من خير ، وشر ، ونفع ، وضر ، وهدى ، وضلال ، وطاعة ، وعصيان ، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.
    19 ـ وأن يعلم : أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا به وأنه قائم به ومختص بذاته ، ولا يصح وجوده بغيره ، وإن كان محفوظا بالقلوب ومتلوا بالألسن ، ومكتوبا في المصاحف ، ومقروءا في المحاريب ، على الحقيقة لا على المجاز (1) وغير حال في شيء من ذلك ، وأنه لو حلّ في غيره لكان ذلك الغير متكلما به ، وآمرا وناهيا.
    ومخبرا وقائلا : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : 14] وذلك خلاف دين المسلمين ، وأن كلامه سبحانه لا يجوز أن يكون جسما من الأجسام ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، وأنه لو كان كذلك لكان من جنس كلام البشر ، ومحدثا كهو : يتعالى الله سبحانه أن يتكلم بكلام المخلوقين.
    20 ـ [وأن] يعلم : أن كلامه مسموع بالآذان ، وإن كان مخالفا لسائر اللغات ، وجميع الأصوات ، وأنه ليس من جنس المسموعات ، كما أنه [مرئي] بالأبصار ، وإن كان مخالفا لأجناس المرئيات ، وكما أنه موجود مخالف لسائر الحوادث الموجودات ، وأن سامع كلامه منه تعالى بغير واسطة ولا ترجمان. كجبريل ، وموسى ، ومحمد عليهم‌السلام حق ، سمعه من ذاته غير متلو ولا مقروء ، ومن عداهم ممن يتولى الله خطابه بنفسه إنما يسمع كلامه متلوا ومقروءا ، وكذلك قال الله عزوجل : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : 164] وقال : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : 253] وأن قراءتنا القرآن كسب لنا نثاب عليها ، ونلام على تركها إذ وجبت علينا في الصلوات. وأنه لا
    __________________
    (1) لأن القرآن يطلق على ما قام بالله من الألفاظ العلمية الغيبية ـ وهو غير مخلوق وغير حال في مخلوق ـ وعلى المكتوب بين الدفتين وعلى المحفوظ في القلوب من الألفاظ الذهنية ، وعلى الملفوظ بالألسن على سبيل الاشتراك اللفظي عنده ، والقرينة هي التي تعين المراد منها في كل موضع ، وما سوى الأول مخلوق ، وهذا البحث أنضج عند المتأخرين من أئمة الأشاعرة ، والتحقيق : أن وصف القرآن بما سوى الأول وصف للمدلول بصفة الدال ، كما في شرح المقاصد (ز).

    يجوز أن يحكى كلام الله عزوجل ولا أن يلفظ به (1) لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه وكلام الله تعالى لا مثل له من كلام البشر ، ولا يجوز أن يلفظ به بتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون كلام الله تعالى قائما بذاته قديم ومحدث وذلك خلاف الإجماع والمعقول ، وأن كلام الله تعالى غير متبعض ولا متغاير ، وأن الصفة هي ما قامت بالشيء وأن الوصف قول الواصف الدال على الصفة خلاف ما يذهب إليه القدرية.
    وأنه مقدر لأرزاق جميع الخلق ، وموقّت لآجالهم ، وخالق لأفعالهم ، وقادر على مقدوراتهم ، وإله ورب لها. لا خالق غيره ، ولا رزّاق سواه ، كما أخبر تعالى في قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : 40] وقال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : 34] وقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : 3] وقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)) [النّحل : 20].
    وأن بيده الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، وأنه مقدّر جميع الأفعال ، لا يكون حادث إلا بإرادته ، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
    وأنه فعال لما يريد ، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه ، كما قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) [الأعراف : 178](مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : 186].
    وأنه موفق أهل محبته وولايته لطاعته ، وخاذل لأهل معصيته ، فدلّ ذلك كله [على] تدبيره وحكمته ، وأنه عادل [في] خلقه بجميع ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير ، وشر ، ونفع ، وضر ، وغنى ، وفقر ، ولذة ، وألم ، وصحة ، وسقم ، وهداية ، وضلال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)) [الأنبياء : 23](قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)) [الأنعام : 149].
    وأنه سبحانه يعيد العباد ، ويحيي الأموات ، وأنه يقصد يوم القيامة لفصل القضاء ، ويجيء الملائكة صفا صفا ، و [يمد] الصراط ، ويزن الأعمال ، وأنه سبحانه قد خلق الجنة والنار.
    __________________
    (1) يعني لا يجوز أن يقال حكى كلام الله أو لفظ به في صدد الإفادة عن قراءته وتلاوته ، لأن الحكاية توهم المحاكاة وفيها شائبة المماثلة وهو سبحانه منزّه عنها ، وكذا اللفظ والتكلم بكلام الله لإيهام ذلك المشاركة ، تعالى الله عن ذلك ، على أن تلك العبارات مما لم يرد إذن من الشارع في إطلاقها على كلام الله (ز).

    وما لا يتأتى الواجب إلا بفعله صار واجبا ؛ كالطهارة مع الصلاة ، والقراءة في الصلاة ، وإمساك جزء من الليل في الصيام ، وإدخال جزء من الرأس في غسل الوجه ، إلى غير ذلك مما لا يمكن تحصيل الواجب إلا به صار واجبا.
    مسألة
    وإذا صحّ وجوب النظر فالواجب على المكلف النظر والتفكر في مخلوقات الله ، لا في ذات الله ، والدليل عليه قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : 191] ولم يقل : في الخالق ، وأيضا قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)) [الغاشية : 17] فالنظر ، والتفكر ، والتكييف يكون في المخلوقات ، لا في الخالق ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في الله» (1) وأيضا قوله عليه‌السلام : «مثل الناظر في [قدر] (2) الله كالناظر في عين الشمس ، فمهما ازداد نظرا ازداد حيرة». وأيضا : فإن موسى عليه‌السلام لما سأله اللعين فرعون عن ذات الله ، أجابه بأن مصنوعاته تدل على أنه إله ورب قادر ، لا إله سواه. إذا نظر فيها وتأمل ولم يحدد له الذات فلا يكفيها ؛ لأنه لما قال له : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : 23] قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) [مريم : 65] إلى أن كرر عليه السؤال وأجابه بمثل الأول ، إلى آخر الآيات (25 ـ 26 و 28) كلها ، فمهما سأله عن الذات أجابه بالنظر في المصنوعات التي تدل على معرفته.
    وقيل : سئل بعض أهل التحقيق عن الله عزوجل ما هو؟ فقال : إله واحد. فقيل له : كيف هو؟ فقال : ملك قادر ، فقيل له : أين هو؟ فقال : بالمرصاد. فقال السائل : ليس عن هذا أسألك؟ فقال : الذي أجبتك به هو صفة الحق ، فأما غيره فصفة الخلق. وأراد بذلك أن يسأله عن التكييف ، والتحديد ، والتمثيل ، وذلك صفة المخلوق لا صفة الخالق ، ولأن المتفكر إذا تفكر في خلق السموات والأرض وخلق نفسه وعجائب صنع ربه ، أدّاه ذلك إلى صريح التوحيد ؛ لأنه يعلم بذلك أنه لا بد لهذه المصنوعات من صانع ، قادر ، عليم ، حكيم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    __________________
    (1) أخرجه أبو نعيم في الحلية واللالكائي في شرح السنة بألفاظ متقاربة في المعنى (ز).
    (2) هكذا في الأثر ولم نجده مرفوعا فإذا كان النظر في قدر الله موجبا للحيرة فبالحري كون النظر في الله موجبا للحيرة ممنوعا (ز).

    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن العالم محدث ؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ، والدليل على حدوثه : تغيره من حال إلى حال ، ومن صفة إلى صفة ، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثا ، وقد بيّن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة ، لما قالوا له : يا رسول الله : أخبرنا عن بدء هذا الأمر؟ فقال : «نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء ، ثم خلق الله الأشياء» فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل عليه‌السلام ، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة ؛ لأنه لما رأى الكوكب قال : هذا ربي ، إلى آخر الآيات (6 ـ 76 ـ 79) فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت [على زنها] محدثة مفطورة مخلوقة ، وأن لها خالقا ، فقال عند ذلك : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : 79].
    مسألة
    وإذا صحّ حدوث العالم ؛ فلا بد له من محدث أحدثه ، ومصوّر صوّره ، والدليل على ذلك : أن الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها ، والصورة لا بد لها من مصوّر صوّرها ، والبناء لا بد له من بان بناه. فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب ، وصناعة لا من صانع ، وحياكة لا من ناسج. وإذا صحّ هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ، ومحدث أحدثها ، إذ كانت ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.
    دليل ثان : ويدل على ذلك أيضا : علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض ، وتأخر بعضها عن بعض ، مع علمنا بتجانسها وتشاكلها ، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه ؛ لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه ، وكذلك المتأخر منها ، لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر ، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أولى منه بالتأخر ، دليل على أن له مقدما قدّمه ، وعاجلا عجّله في الوجود ، مقصورا على مشيئته.
    ويدل على صحة ذلك أيضا : علمنا بأن الصور الموجودة ؛ منها ما هو مربّع ، ومنها ما هو مدوّر ، ومنها شخص أطول من شخص ، وآخر أعرض من آخر ؛ مع تجانسها ، ولا يجوز أن يكون المربّع منها ربّع نفسه ، ولا المطوّل منها طوّل نفسه ،

    ولا القبيح منها قبّح نفسه ، ولا الحسن منها حسّن نفسه ، فلم يبق إلا أن لها مصوّرا صوّرها ؛ طويلة ، وقصيرة ، وقبيحة ، وحسنة ، على حسب إرادته ومشيئته.
    ويدل على صحة ما ذكرناه : أن الموجودات لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ، أنا وجدنا منها الموات والأعراض ، أعني الجمادات التي لا حياة فيها ، لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ولا لغيرها ، لأن من شرط الفاعل أن يكون حيا ، قادرا ، فبطل كونها محدثة لنفسها بل لها محدث أحدثها.
    ويدل على صحة ذلك أيضا : أنا وجدنا أنفس الموجودات في العالم ، الحيّ القادر العاقل المحصل ، وهو الآدمي ، ثم أكمل ما تكون. تعلم وتحقق أنه كان في ابتداء أمره نطفة ميتة ، لا حياة فيها ولا قدرة ، ثم نقل إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم من حال إلى حال ، ثم بعد خروجه حيا من الأحشاء إلى الدنيا. تعلّم وتحقّق أنه كان في تلك الحالة جاهلا بنفسه وتكييفه ، وتركيبه ، ثم بعد كمال عقله وتصوره وحذقه وفهمه لا يقدر في حال كماله أن يحدث في بدنه شعرة ولا شيئا ، ولا عرقا فكيف يكون محدثا لنفسه ومنقلا (1) لها في حال نقصه من صورة إلى صورة ومن حالة [إلى حالة] وإذا بطل ذلك منه في حال كماله كان أولى أن يبطل ذلك منه في حال نقصه ، ولم يبق إلا أن له محدثا أحدثه ، ومصورا صوّره ومنقلا نقله ؛ وهو الله سبحانه وتعالى.
    مسألة
    وإذا ثبت أن للعالم صانعا صنعه ، ومحدثا أحدثه ، فيجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون مشبها للعالم المصنوع المحدث ؛ لأنه لو جاز ذلك لم يخل : إما أن يشبهه في الجنس ، أو في الصورة ، ولا يجوز أن يكون مشبها له في الجنس ؛ لأنه لو أشبهه في الجنس لجاز أن يكون محدثا كالعالم المحدث ، أو يكون العالم قديما كهو. لأنه حقيقة المشتبهين المتجانسين : ما سدّ أحدهما مسد الآخر وناب منابه ، وجاز عليه ما يجوز عليه ، ولا يجوز أن يكون يشبه العالم في الصورة لأن حقيقة الصورة هي الجسم المؤلف ، والتأليف لا يكون إلا من شيئين فصاعد ؛ ولأنه لو كان صورة لا تحتاج إلى مصوّر صوّره ، لأن الصورة لا تكون إلا من مصوّر على ما قدّمنا بيانه ،
    __________________
    (1) هكذا في الأصل وهو بصيغة اسم الفاعل من التفعيل أي ناقلا لها ومصلحا من حال إلى حال (ز).

    وقد بيّن ذلك تعالى بأحسن بيان فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : 17] وقد سئل بعض أهل التحقيق عن التوحيد ما هو؟ فقال : هو أن تعلم أنه ما باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم.
    وقال الجنيد رضي الله عنه : التوحيد إفراز القوم عن الحدوث ، فاحكموا أصول العقائد بواضح الدليل ولائح الشواهد.
    وقال أبو محمد الحريري رضي الله عنه : من لم يقف على علم التوحيد يشاهده من شواهده ، زلّت به قدم الغرور في مهواة التلف.
    وقال الجنيد : أول ما يحتاج إليه المكلف من عقد الحكمة : أن يعرف الصانع من المصنوع ، فيعرف صفة الخالق من المخلوق ، وصفة القديم من المحدث.
    وسئل أبو بكر الزاهد رضي الله عنه عن المعرفة ما هي؟ فقال : المعرفة اسم ومعناه : وجود تعظيم في القلب ، يمنعك عن التعطيل والتشبيه.
    وقيل لأبي الحسن البوشنجي : ما التوحيد؟ فقال : أن تعلم أنه غير مشبه بالذوات ولا بنفي الصفات.
    مسألة
    وإذا ثبت أن صانع الموجودات ومحدثها لا يجوز أن يكون يشبهها ، فيجب أن تعلم أن محدث العالم قديم ، أزلي لا أول لوجوده. ولا آخر لدوامه. والدليل على صحة ذلك : أنه لو لم يكن قديما كما ذكرنا لكان محدثا ، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث أحدثه ؛ لأن غيره من الحوادث إنما احتاجت إلى محدث لأنها محدثة. ولو كان ذلك كذلك لاحتاج كل محدث إلى محدث آخر ، إلى ما لا نهاية له ولا غاية ، ولمّا بطل ذلك صحّ كونه قديما أزليا.
    وبمثل هذا الدليل : يستدل على بطلان قول من زعم من أهل الدهر أن الحوادث لا أول لوجودها ، فافهمه ترشد ، إن شاء الله تعالى.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن صانع العلم جلّت قدرته واحد أحد ؛ ومعنى ذلك : أنه ليس معه إله سواه ، ولا من يستحق العبادة إلا إياه ، ولا نريد بذلك أنه واحد من [جهة العدد] وكذلك قولنا أحد ، وفرد وجود ذلك إنما نريد به أنه لا شبيه له ولا

    نظير ، ونريد بذلك أن ليس معه من يستحق الإلهية سواه ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : 171] ومعناه : لا إله إلا الله.
    والدليل على أن صانع العالم على ما قررناه : قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : 22] والدليل المعقول مستنبط من هذا النص المنقول ، فإنا نرى الأمور تجري على نمط واحد ، في السموات والأرض وما فيهما من شمس وقمر وغير ذلك. ولو كانا اثنين أو أكثر فلا بد أن يجري خلاف أو تغير من أحدهما على الآخر ، وقد بيّنه سبحانه وتعالى فقال : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (43) [الإسراء : 42 ، 43].
    وأيضا : فلو جاز أن يكونا اثنين أو أكثر فيريد أحدهما شيئا ويريد الآخر ضده ، فلا يخلو أن يتم مرادهما ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ، ولا يجوز أن يتم مرادهما ؛ لأن في إتمام مراد أحدهما عجز الآخر ، لأنه تم ما لا يريد ، وفي ذلك تعجيز لكل واحد منهما ؛ لأنه تم ما لا يتم مراد واحد منهما ، فقد ثبت عجزهما أيضا. ومن يكون عاجزا فليس بالإله ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ؛ فالذي تم مراده هو الإله ، والذي لم يتم عاجز ليس بالإله ، فلم يكن إلا إله واحد كما ذكرنا.
    فإن قيل : فيجوز أن يختلفا في الإرادة. قلنا : هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين :
    إما أن يكون ذلك القول أحدهما للآخر لا ترد إلا ما أريد ، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأمورا ، والمأمور لا يكون إلها ، والآمر على الحقيقة هو الإله ، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما ؛ إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحدا على ما قررناه.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن الباري جلّت قدرته حيّ. وهذه المسألة أول مسائل قول الشيخ (1) «موصوف بما وصف به نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه فنقول الباري يوصف بالحياة».
    __________________
    (1) أي أبا الحسن الأشعري ، وقوله هذا تتفرع عنه مسائل كما بسط المؤلف (ز).

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:44

    والدليل عليه قوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : 255] وقوله تعالى :
    (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : 58]. وأيضا : فإن الفعل يستحيل وجوده من الموات الذي لا حياة له ، والله تعالى فاعل الأشياء ومنشئها ، فوجب أن يكون حيا.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أنه تعالى قادر على جميع المقدورات.
    والدليل عليه قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : 120] ولأنا نعلم قطعا استحالة صدور الأفعال من عاجز لا قدرة له ، ولما ثبت أنه فاعل الأشياء ثبت أنه قادر.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات.
    والدليل عليه قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النّساء : 166] وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [البقرة : 255] وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)) [غافر : 19] وقوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [آل عمران : 29] وقوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : 14] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.
    وأيضا : فيدل على أنه عالم : صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان ، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها ، ومن جوّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخط ، كان عن المعقول خارجا ، وفي عمل الجهل والجا.
    ويدل على صحة ذلك أيضا : أنه حي ، قادر ، عالم ، أنا لو جوّزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي ، عالم ، قادر ، لم ندر لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة ، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز.

    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث ، والمرادات ، والدليل عليه قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : 107] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : 185] وقوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : 67] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النّساء : 28] وقد قيل في بعض الآثار : أنه تعالى يقول : يا ابن آدم ؛ تريد وأريد ، ولا يكون إلا ما أريد.
    ويدل على أنه مريد من جهة العقل : ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت ، ومكان دون مكان ، وزمان دون زمان ، وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا ، وهذا بعد هذا ، وهذا على صفة ، والآخر على صفة غيرها ، وهذا من مكان ، وهذا من مكان آخر ، إلى غير ذلك.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أنه سميع لجميع المسموعات ، بصير لجميع المبصرات.
    والدليل عليه قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)) [الزّخرف : 80] وقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)) [المجادلة : 1] وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (14)) [العلق : 14] وأيضا : فإنه لو لم يوصف بالسمع والبصر لوجب أن يوصف بضد ذلك ، من الصمم والعمى ، والله يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الله تعالى متكلم ، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث. والدليل عليه قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : 253] وقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : 164] وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [الأنعام : 115]. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق». ولا تصف ببداية ولا نهاية ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذكما بكلمات الله التامة العامة». ومحال أن يعوّذ مخلوق بمخلوق ، فثبت أنه عوّذ مخلوقا بغير

    مخلوق ، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ولأنه لو لم يكن متكلما لوجب أن يوصف بضد الكلام ؛ من الخرس والسكوت والعيّ ، والله يتعالى عن ذلك.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الله سبحانه باق. ومعنى ذلك : أنه دائم الوجود.
    والدليل عليه قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : 27] يعني ذات ربك. وأيضا قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88] يعني ذاته ، ولأنه قد ثبت قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الباري عالم بعلم قديم متعلق بجميع المعلومات ، ولا يوصف علمه بأنه مكتسب ولا ضروري ، وأنه قادر بقدرة قديمة شاملة لجميع المقدورات ، مريد بإرادة قديمة متعلقة بجميع الكائنات سميع بسمع قديم متعلق بجميع المسموعات ، بصير ببصر قديم متعلق بجميع المبصرات ، متكلم وكلامه قديم متعلق بجميع المأمورات والمنهيات ، والمخبرات. فعلمه سبحانه وتعالى لا يوصف بالضرورة والكسب ؛ لأن ذلك صفات علم الخلق. وقدرته لا توصف بالاستطاعة ؛ لأن ذلك صفات الخلق ، وسمعه لا يوصف بأنه يقوم بالحواس كسمع الخلق ، وبصره لا يوصف بأنه يقوم بالآماق كبصر الخلق ، وكلامه لا يوصف بالجوارح والأدوات ؛ لأن ذلك صفات كلام الخلق. بل صفات ذاته قديمة أزلية ، لم يزل موصوفا بها ، ولا يزال كذلك ، لا تشبه بصفات المخلوقين ، ولا يقال إنها هو ولا غيره ، ولا صفاته متغايرة في أنفسها.
    والدليل على هذه الجملة قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)) [الإخلاص : 3 ، 4] فكما [أن] ذاته لا تشبه ذوات الخلق ، فكذلك علمه لا يشبه علم الخلق ، ولا يوصف بصفة علم الخلق ، وكذلك قدرته وإرادته : لا تشبه قدرة الخلق ولا إرادتهم ، ولا يوصف شيء من صفاته بصفات الخلق ، فاعلم ذلك وتحققه توفّق للصواب ، بمشيئة الله تعالى.
    والدليل على أن صفاته لا يقال لها هي هو : أنها لو كانت هي هو لكانت خالقة فاعلة مثله ، فلا يجوز أن يقال هي هو. ويدل على صحة هذا المعنى قول عليّ

    عليه‌السلام في القرآن : ليس بخالق ولا مخلوق. لأنه لو جعله خالقا كان إلها ثانيا مع الله ، ولو جعله مخلوقا لوجب أن يكون الباري موجودا بلا كلام ثم خلق كلامه بعد ، وذلك لا يصح ؛ لأن صفات ذاته قديمة بقدم ذاته.
    فإن قيل : فليس ثم إلا خالق أو مخلوق. قلنا : نعم ولكن خالق [قديم بصفات ذاته ومخلوق حادث] بصفات ذاته التي توجد بعد أن لم تكن ، وتعدم بعد أن كانت ، وصفات القديم لا تتصف بوجود بعد عدم ، ولا بالعدم بعد الوجود ، وإنما قلنا إن صفات ذاته ليست بأغيار له ، ولا هو غير صفاته ، ولا صفاته متغايرة في أنفسها ؛ لأن حدّ الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر ؛ إما بزمان أو بمكان ، وهذا يستحيل تصويره في الله تعالى وصفات ذاته. فافهم وتزيد التحقيق ، وفّقنا الله وإياك وجميع المسلمين آمين يا رب العالمين.
    مسألة
    فإن قيل : قد أثبتم أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم ، أفتقولون : إنه يغضب ويرضى ، ويحب ، ويبغض ، ويوالي ، ويعادي ، وأنه موصوف بذلك؟ قيل لهم : أجل ، ومعنى وصفه بذلك : أن غضبه على من غضب عليه ، ورضاه عمن رضي عنه ، وحبه لمن أحب ، وبغضه لمن أبغض ، وموالاته لمن والى ، وعداوته لمن عادى. أن المراد بجميع ذلك : إرادته إثابة من رضي الله عنه وأحبه وتولاه. وعقوبة من غضب عليه وأبغضه وعاداه ، لا غير.
    ويدل على هذه الجملة : أنه يوصف بالغضب ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) [النّساء : 93] وقوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)) [النّور : 9] إلى غير ذلك من الآيات.
    ويدل على أنه يوصف بالحب : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : 222] وقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : 54] وقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : 134] إلى غير ذلك.
    ويدل على أنه يوالي : قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : 68] وقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : 55] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى من آذى لي وليا» إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

    ويدل على أنه يعادي : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : 98] وقوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : 1] إلى غير ذلك من الآيات والآثار.
    ويدل أنه يبغض : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يبغضهم الله تعالى : شيخ زان ؛ وبائع حلّاف ؛ وفقير محتال».
    مسألة
    فإن قيل : فما الدليل على أن غضب الله سبحانه ورضاه ، ورحمته ، وسخطه ، وحبه وعداوته ، وموالاته وبغضه إنما هو إرادته لإثابة من رضي عنه وأحبه ووالاه ونفعه ، وأن غضبه ، وسخطه ، وبغضه ، وعداوته إنما هو إرادة عقاب من غضب عليه وسخط وعادى وإيلامه وضرره؟
    قيل له :
    الدليل على ذلك : أن الغضب والرضا ونحو ذلك لا يخلو ؛ إما أن يكون المراد به إرادته النفع والضرر فقط ، أو يكون المراد به نور الطبع وتغيره عند الغضب ، ورقته وميله وسكوته عند الرضا ، فلما لم يجز أن يكون الباري جلّت قدرته ذا طبع يتغير وينفر ، ولا ذا طبع يسكن ويرق ، وأن هذه من صفات المخلوقين ، وهو يتعالى عن جميع ذلك : ثبت أن المراد بغضه ، ورضاه ، ورحمته ، وسخطه إنما هو إرادته وقصده إلى نفع من كان في معلومه أنه ينفعه ، وضرر من سبق في علمه وخبره أنه يضره لا غير ذلك.
    مسألة
    فإن قيل : فهل يجوز أن يوصف بالشهوة؟ قيل له :
    إن أراد السائل بوصفه بالشهوة إرادته لأفعاله فذلك صحيح من طريق المعنى غير أنه أخطأ وخالف الأمة في وصف القديم بالشهوة ؛ إذ لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، لأن أسماءه تعالى لا تثبت قياسا ، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه : (مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته ، وتسميته ، وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته). يعني : إما بنص كتاب ، أو سنة. وإن أراد هذا السائل أن يصفه بالشهوة التي هي [شوق] النفس وميل الطبع إلى المنافع واللذات فذلك محال ممتنع على القديم سبحانه وتعالى ، بما قدمنا ذكره من قبل.

    مسألة
    ويجب أن يعلم : [أن كل ما] يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه.
    فمن ذلك : أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات ، والاتصاف بصفات المحدثات ، وكذلك لا يوصف بالتحول ، والانتقال ، ولا القيام ، ولا القعود ؛ لقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)) [الإخلاص : 4] ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث ، والله تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] قلنا : بلى ، قد قال ذلك ، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة ، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث ، وتقول : استواؤه لا يشبه استواء الخلق ، ولا نقول إن العرش له قرار ، ولا مكان ، لأن الله تعالى كان ولا مكان ، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان.
    وقال أبو عثمان المغربي يوما لخادمه محمد المحبوب : لو قال لك قائل : أين معبودك؟ ما ذا كنت تقول له؟ فقال : أقول حيث لم يزل ولا يزول. قال : فإن قال : فأين كان في الأزل؟ ما ذا تقول؟ فقال : أقول حيث هو الآن. يعني : إنه كما كان ومكان.
    وقال أبو عثمان : كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة ، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا : إني قد أسلمت جديدا.
    وقد سئل الشبلي عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] فقال : الرّحمن لم يزل ولا يزول ، والعرش محدث ، والعرش بالرحمن استوى.
    وقال جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء ، أو على شيء ، فقد أشرك ؛ لأنه لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا ، والله يتعالى عن جميع ذلك.
    وقال بعض أهل التحقيق : (ألزم الكل الحدث ، لأن القدم له ، فهو سبحانه لا يظله فوق ، ولا يقيه تحت ، ولا يقابله حدّ ، ولا يزاحمه [عدّ] ، ولا يأخذه خلف ، ولا يحده أمام ، ولا يظهره قبل ، ولا يفنيه بعد ، ولا يجمعه كل ، ولا يوجده كان ، ولا يفقده ليس ، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت متى : فقد سبق الوقت

    كونه (1) وإن قلت : أين فقد تقدم المكان وجوده ، فوجوده إثباته ، ومعرفته توحيده (أن) تميزه من خلقه ما تصور في الأوهام فهو بخلاف [ذلك] كيف يحل به ما منه بدؤه. أو يتصف بما هو إنشاؤه ، لا تمقله العيون ، ولا تقابله الظنون ، قربه كرامته ، وبعده إهانته ، علوه من غير ترق ، ومجيئه من غير تنقل ، هو الأول ، والآخر والظاهر ، والباطن ، والقريب البعيد ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الحوادث كلها مخلوقة لله تعالى ، نفعها وضرها ، إيمانها وكفرها ، طاعتها ، ومعصيتها.
    والدليل على ذلك : قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)) [الصّافات : 96] وأيضا فإن الله تعالى رد على الكفار لما ادعوا معه شركاء في الاختراع ، فقال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرّعد : 16] وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : 22] ، فأخبر تعالى أنه خالق لسيرنا ؛ وهي الحركات والسكنات. وقال تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : 3] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله خالق كل صانع وصنعته». وأجمعت الأمة على القول : بأن لا خالق إلا الله في الدارين ، كما أجمعوا أن لا إله غيره.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن الحوادث كلها تقع مرادة لله تعالى ، وأنه لا يتصور أن يوجد في الدنيا والآخرة شيء لم يرده تعالى ؛ من نفع ، وضر ، ورزق ، وأجل ، وطاعة ، ومعصية ، إلى غير ذلك من سائر الموجودات.
    والدليل على ذلك : ما بيّنّاه من قبل ، وأنه خالق لها ، وإذا صح ذلك ترتب عليه أنه مريد لما خلق ، قاصد إلى إبداع ما اخترع ، ويدل على ذلك أيضا : قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : 35] وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)) [الأنعام : 125]
    __________________
    (1) أي وجوده (ز).

    وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)) [الأنعام : 111] وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) [يونس : 99] وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)) [السّجدة : 13] والآيات في هذا المعنى في القرآن لا تحصى عددا. وأيضا فإن الأمة قد أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة : «ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن» وأيضا فإنه لو أراد شيئا وأراد غيره شيئا فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة ، والله يتعالى عن ذلك.
    وقال بعض أهل التحقيق : (والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى ولا كما قال النبيون ولا كما قال أهل الجنة ، ولا كما قال أهل النار ، ولا كما قال أخوهم إبليس) ؛ لأن الله تعالى قال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النّحل : 93] وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : 30].
    وقال شعيب : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : 89] وقال موسى عليه‌السلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) [الأعراف : 155] وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعراف : 188] وقال أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : 43] وقال أهل النار : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : 106] وقال أيضا : (بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزّمر : 71] وقال إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : 39] وقد قال تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [الرّعد : 11].
    مسألة
    واعلم : أنه لا فرق بين الإرادة ، والمشيئة ، والاختيار ، والرضى ، والمحبة على ما قدمنا. واعلم : أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال ، فمن رضي سبحانه عنه لم يزل راضيا عنه ، لا يسخط عليه أبدا ، وإن كان في الحال عاصيا ، ومن سخط عليه فلا يزال ساخطا عليه ولا يرضى عنه أبدا وإن كان في الحال مطيعا.

    ومثال ذلك : أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضيا عن سحرة فرعون ، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال ، لكن لما آمنوا في المآل ؛ بان بأن تعالى لم يزل راضيا عنهم ، وكذلك الصديق ، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضيا عنهما في حال عبادة الأصنام ، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
    وكذلك لم يزل ساخطا على إبليس ، وبلعم ، وبرصيص ، في حال عبادتهم ؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
    وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : 101] فقال : هم قوم سبقت لهم العناية في البداية ، فظهرت لهم الولاية في النهاية.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن العبد له كسب وليس مجبورا (1) بل مكتسب لأفعاله ؛ من طاعة ومعصية ؛ لأنه تعالى قال : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : 134] يعني من ثواب طاعة (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : 286] يعني من عقاب معصية. وقوله : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الرّوم : 41] وقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشّورى : 30] وقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)) [فاطر : 45].
    ويدل على صحة هذا أيضا : أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به ، أو الارتعاش ، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره ، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق ، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق ، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب ، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.
    __________________
    (1) وبهذا يظهر أن كون العبد مجبورا في أفعاله ليس من مذهب الأشعري وأول من نطق بعزو ذلك إليه هو الفخر الرازي ، واهما في التخريج ، وادعاء ، كونه مجبورا من الخطورة بمكان (ز).

    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الاستطاعة للعبد تكون مع الفعل (1) لا يجوز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه ، كعلم الخلق وإدراكهم ، لا يجوز تقديم العلم على المعلوم ، ولا الإدراك ، على المدرك.
    والدليل على ذلك : قوله تعالى : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [الكهف : 101] يعني قبولا عند الدعوة. يعني : أنه لم يكن لهم استطاعة عند مفارقة الدعوة ، فيحصل معها القبول ، وأيضا قوله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : 67] وقول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) [إبراهيم : 40] فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكان يقول : قد جعلتك مقيما ، ولم يكن لسؤاله معنى ؛ لأنه سئل في شيء قد أعطيه وهو قادر عليه. وأيضا قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) [الفاتحة : 5] فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لم يكن للسؤال فيها معنى ، ولأن القدرة الحادثة لو تقدمت على الفعل لوجد الفعل بغير قدرة ؛ لأنها عرض ، والعرض لا يبقى ، ولا يصح أن يوجد بعد الفعل. وأيضا : لأنه يكون فاعلا من غير قدرة ، فلم يبق إلا أنها مع الفعل.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى ، من حيث العقل ، مقطوع بها للمؤمنين في الآخرة ؛ تشريفا لهم وتفضلا ، لوعد الله تعالى لهم بذلك.
    والدليل على جوازها من حيث العقل : سؤال موسى عليه‌السلام ، حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143]. ويستحيل أن يسأل نبي من أنبياء الله تعالى
    __________________
    (1) ومبنى ذلك : تجدد الأعراض ، لكن دليل التجدد غير تام ، ومذهب أبي حنيفة : تقدم الاستطاعة على الفعل ؛ بمعنى سلامة الآلات الصالحة للفعل والترك ، والمعتزلة مع أبي حنيفة في هذا ، وحاول الفخر الجمع بين الرأيين : بأن القوة العضلية سابقة ، والقدرة المستجمعة لشرائط التأثير مع الفعل ، فلا ينافي أحدهما الآخر في نظره ، لأن مجرد القوة العضلية غير كاف في صدور الفعل ما لم يرده سبحانه اتفاقا ، وإرادته تعالى هي تركه العبد يمضي فيما اختاره ، كما ذكره عبد القاهر البغدادي ، فلا تكون في ذلك سمة جبر ، ما دام فعل العبد مستندا إلى اختياره نفسه ، والقوة العضلية هي مدار التكليف ، وهي صالحة للفعل والترك ، والقدرة المستجمعة لشروط التأثير غير صالحة إلا لأحدهما ، فيكون الوجوب في هذا من قبيل الضرورة بشرط المحمول ، فلا يكون من الضرورة في شيء (ز).

    مع جلالة قدره وعلو مكانه ما لا يجوز عليه سبحانه ، ولو لا أنه اعتقد جوازها لما سألها ، ولأنه تعالى علقها باستقرار الجبل ، ومن الجائز استقرار الجبل ، ويدل عليه أيضا : أنه موجود ، والموجود يصح أن يرى.
    وأما الدليل على ثبوتها من طريق الكتاب والسنة : قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : 44] واللقاء إذا قرن بالتحية لا يقتضي إلا الرؤية. وأيضا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : 26] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : «الزيادة النظر إلى وجهه الكريم» وقد ذكر مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 22 ، 23] والمراد بقوله (ناضِرَةٌ) أنها مشرقة ، والمراد بقوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أنها لربها رائية ؛ لأن النظر إذا عدى بكلمة إلى اقتضى الرؤية نصا ، كقوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) [البقرة : 259] وقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)) [الغاشية : 17] وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله «وزيادة» قال : هي النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وأيضا : فإن الصحابة لما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل نرى ربنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته». وروي «لا تضامون في رؤيته» وروي «لا يلحقكم ضرر ولا ضيم في رؤيته». ومعنى ذلك : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبّه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ؛ فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبّه الرؤية بالرؤية ؛ وأن الرائي المعاين للقمر ليلة البدر أربع عشرة لا يشك في أن الذي يراه قمر. فكذلك الناظر إليه سبحانه وتعالى في الجنة لا يشك أن الذي يراه سبحانه وتعالى بلا تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تحديد ، وهذا كما يقول القائل : أعرف صدقك كما أعرف النهار ، ورأيت زيدا كما رأيت الشمس. ويدل عليه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يتجلى للخلق عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة» (1).
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الطاعة ليست بعلة الثواب ، ولا المعصية علة للعقاب ، ولا يجب لأحد على الله تعالى ، بل الثواب وما أنعم به على العبد فضل منه ، والعقاب عدل منه. ويجب على العبد ما أوجبه الله تعالى عليه ، ولا موجب ولا واجب على الله.
    __________________
    (1) لا يثبت ، والمصنف كثيرا ما يورد أحاديث ضعيفة (ز).

    والحسن ما وافق الأمر من الفعل ، والقبيح ما وافق النهي من الفعل ، وليس الحسن حسنا من قبل الصورة ، ولا القبيح قبيحا من قبل الصورة.
    والدليل على الفصل الأول : أنه لا واجب عليه لأحد من الخليقة ، وأن حقيقة الواجب ما استوجب من وجب عليه الذم بتركه ، والرد تعالى عن الذم علوا كبيرا.
    ويدل على صحة ذلك أيضا قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) [الرّوم : 45] فاعلم أن ذلك بفضله لا بالعمل. وأيضا قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) [النّساء : 83] وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيدخل أحد منا الجنة بعمله؟ فقال : لا. فقيل ولا أنت؟ فقال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته ، فقال له بعض الصحابة : ففيم العمل؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وإنما وعد الله سبحانه بالثواب وأوعد بالعقاب ، وقوله الحق ووعده الصدق ، فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات ، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات ، وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض ، لا له سبحانه وتعالى ؛ فإنه علم بالأشياء قبل كونها ، كما قال بعضهم : «تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون ، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون».
    والدليل على الفصل الثاني : وهو : أن الحسن ما وافق الأمر ، والقبيح ما خالف الأمر : أن لذة الجماع في الزوجة والأمة ، صورتها في الفرج [الحلال] كصورتها في الفرج الحرام ، إلا أن ذلك حسن في الملك بموافقة الشرع ، قبيح في غير ذلك بمخالفة الشرع. وكذا القتل : وصورته في القصاص كهي في القتل من غير قصاص ، إلا أن أحدهما حسن لمطابقة الشرع ، والآخر قبيح بمخالفة الشرع. وكذا الأكل في آخر يوم من شهر رمضان ، كصورة الأكل يوم الفطر ، إلا أن أحدهما حسن لموافقة الشرع ، والآخر قبيح لمخالفته ، وكذلك بالعكس : إمساك يوم من شهر رمضان ، كصورة الإمساك يوم الفطر ، إلا أنه في أحدهما حسن للموافقة ، وفي الآخر قبيح للمخالفة.
    وجميع قواعد الشرع تدل على أن الحسن : ما حسّنه الشرع وجوّزه وسوّغه. والقبيح : ما قبّحه الشرع وحرّمه ، ومنع منه ، لا من حيث الصورة ، فتفهّم ذلك يخلصك من جميع ما يورده جهّال القدرية من شبههم التي تضل عقول العوام. فإذا ثبت هذا وتقرر : جاء منه أن الباري سبحانه وتعالى ليس فوقه آمر أمره ، ولا ناه نهاه ؛ حتى تتصف أفعاله تارة بالحسن لموافقة الأمر ، ولا بالقبح لمخالفة الأمر ، بل هو

    المالك على الحقيقة ، يتصرف في ملكه كيف يشاء ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)) [الأنبياء : 23].
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله تعالى ، فلا رازق إلا الله : حلالا كان أم حراما.
    والدليل على ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرّعد : 26] وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : 6] وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)) [الرّوم : 40]. وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول «لا رازق إلا الله» كما أجمعوا على أنه «لا خالق إلا الله».
    ويدل عليه أيضا : أنه لو فرض نشوء صبي من حال كونه طفلا إلى بلوغه بين اللصوص وقطّاع الطريق وكان يتناول من طعامهم المسروق المنهوب ، ثم من بعد إدراكه والبلوغ سلك مسلكهم في السرقة والنهب والغارة إلى أن شاخ وهرم ولم يتناول لقمة من حلال قط ، فلو قال قائل : إن هذا الشخص لم يرزقه الله رزقا قط ، ولا أكل له رزقا ، كان هذا القائل معاندا للنص الوارد ، وخارقا لإجماع المسلمين. فدلت هذه الجملة : أن لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ، وردّ الروح إلى الميت عند السؤال ، ونصب الصراط ، والميزان ، والحوض والشفاعة للعصاة من المؤمنين ، كل ذلك حق وصدق ، ويجب الإيمان والقطع به ؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل.
    وكذلك يجب القطع بأن الجنة والنار مخلوقتان في وقتنا ، وكذلك يجب القطع بأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع ، وأن عذاب جهنم مخلد للكفار ، وإن من كان مؤمنا لا يخلد في النار.
    والدليل على إثبات عذاب القبر : قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : 124]. قال أبو هريرة : يعني عذاب القبر. وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

    «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». وقد قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : 46] ، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا ، وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «أعوذ بالله من عذاب القبر».
    والدليل على سؤال منكر ونكير قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم : 27] يعني وفي الآخرة عند سؤال منكر ونكير. وأيضا : فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دفن ابنه إبراهيم جلس عند رأس القبر ، فتكلم بكلام ، ثم قال : «ابني قل أبي» ، وروي عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله عنه : «كيف بك يا عمر إذا جاءك فتانا القبر؟ فقال : أكون كما أنا الآن؟ فقال له : نعم. فقال له : إذا أكفيكهما». وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : رأيت أبي في النوم ، فقلت له يا أبت ؛ منكر ونكير حق؟ فقال : إي والله الذي لا إله إلا هو ، لقد جاءاني فقالا لي : من ربك؟ فأخذت عليهما وقلت لهما : لا أخلي عنكما حتى تعرفاني من ربكما ، فقال أحدهما للآخر : دعه فإنه عمر الفاروق سراج أهل الجنة.
    ويدل على نصب الصراط : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)) [مريم : 71] قيل في التفسير : هو العبور على الصراط. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب الصراط على متن جهنم دحض مزلة والأنبياء يقولون : سلّم. سلّم. والناس يمرون عليه ، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالجواد من الخيل. إلى آخره».
    والدليل على نصب الميزان : قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : 47] وقوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : 105] وأيضا فإن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال لها : «أما عند مواطن ثلاثة فلا : الكتاب ، والميزان ، والصراط».
    واعلم أن الموزون في الميزان هو صحائف الأعمال. وقيل في بعض الآثار : يشخص رجل يوم القيامة على رءوس الخلائق ، فيعرض عليه تسعة وتسعون سجلا مملوءة سيئات ، فيقال له احضر وزنك ، قيل : فيوضع في كفة قال : فيحار العبد ، فيقال له : هل تعلم لك خبيئة أو حسنة؟ قال : فيدهش ، فيقول : يا رب لا أعلم شيئا. فيقول تعالى : بل لك عندي خبيئة ، فيخرج له بقدر الإصبع ، فيقول : ما تغني هذه في جنب هذه السجلات ، فإذا فيها «لا إله إلا الله». اللهم ثبّتنا عليها بحولك وقوتك.

    والدليل على الحوض : قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1)) [الكوثر : 1] قيل في التفسير : هو الحوض. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضي كما بين أيلة إلى مكة ، له ميزابان من الجنة أكاويبه (1) كعدد نجوم السماء ، شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ، وأطيب رائحة من المسك ، من كذب به اليوم لم يصبه الشرب يومئذ».
    والدليل على ثبوت الشفاعة : قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : 28] يدل على ثبوت الشفاعة لمن أراد سبحانه وتعالى ، ويدل عليه قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : 79] وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرت بين أن يدخل شطر أمتي [الجنة] وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ؛ لأنها أعم وأكفأ ، أترونها للمؤمنين المتقين ، لا ، ولكنها للمؤمنين الخاطئين» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة ، ويقال للعالم قف أنت فاشفع لمن شئت».
    والدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان : قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 133] والمعدّ لا يكون إلا موجودا مهيئا. وأيضا قوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) [الكهف : 102] إلى غير ذلك من الآيات. وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرضت عليّ ليلة الإسراء الجنة والنار» إلى غير ذلك من الأخبار.
    والدليل على تخليد النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار : قوله تعالى في أهل الجنة : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البيّنة : 8] والآي في ذلك كثير ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ، فينظرون إليه فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم ، هذا الموت ، فيذبح ، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة : خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت».
    والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : 48] وقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزّمر : 53] وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان» فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر ، ولا يخرجون من النار ، وكذلك الموحد : لا
    __________________
    (1) جمع الجمع لأكواب ، هكذا في بعض الروايات ، وفي بعضها أكوابه. وفي بعضها : آنيته (ز).

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:46

    تضره سيئة مع إثبات التوحيد ، ولا يخلد في النار. قيل : وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك ـ وهو التوحيد ، وقول لا إله إلا الله ـ ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك ـ وهو الشرك ـ فاغفر لي ما بين ذلك.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الإيمان على ضربين : إيمان قديم ، وإيمان محدث ، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى ؛ لأنه سمّى نفسه مؤمنا ، فقال : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : 23] وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه ، لقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : 18] وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه ، وكلامه قديم ، صفة من صفات ذاته.
    والإيمان المحدث : إيمان الخلق ؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم ، بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : 22] وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : 7] ولأن إيمان العبد صفة للعبد ، وصفة المخلوق مخلوقة ، كما أن صفة الخالق قديمة ، أعني صفة ذاته ، وأيضا : فإن حدّ القديم هو : الذي لا حد لوجوده ، ولا آخر لدوامه ، وحدّ المحدث : ما لم يكن ثم كان ، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة ، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة ، وكيف تكون صفة المحدث قديمة ، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل ، ولا يمكن قيامها بنفسها ، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن ، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.
    واعلم أن حقيقة الإيمان هو : التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف عليه‌السلام : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : 17] أي بمصدق لنا وأيضا : أن الرسول عليه‌السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب ، فقال : «أنا أومن به وأبو بكر وعمر» يريد أصدّق. أيضا : قول أهل اللغة : فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار ؛ أي يصدّق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الآخرة ، أي لا يصدق به.
    واعلم : أن محل التصديق القلب ، وهو : أن يصدق القلب بأن الله إله واحد ، وأن الرسول حق ، وأن جميع ما جاء به الرسول حق ، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل ، فإنما ذلك عبارة عما في القلب ، ودليل

    عليه. ويجوز أن يسمى إيمانا حقيقة على وجه ، ومجازا على وجه : ومعنى ذلك : أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه ، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقرّ بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة ، وإنما هو مؤمن مجازا ، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا ، لأنه مؤمن من حيث الظاهر ، وهو عند الله غير مؤمن.
    والدليل على صحة ذلك : قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)) [المنافقون : 1] فأخبر سبحانه بكذبهم ، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم ، وإنما كذب قلوبهم ، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا ، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح ، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه ، وكذلك بالعكس من هذا ، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى ، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك : قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النّحل : 106] فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر ، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.
    واعلم : أنا لا ننكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان ، وعلى ما جاء في الأثر (1) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة ، لأن من أقر بلسانه ، وصدق بقلبه ، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط ، وحكمنا له أيضا بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب ، من حيث شاهد الحال ، وقطعنا له بذلك في الآخرة ، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك ، ويميته عليه. ولو أقرّ بلسانه ، وعمل بأركانه ، ولم يصدق بقلبه ، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولمّا يدخل الإيمان في قلبه» وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى. ومنه : أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف ، وإنما الاضطراب ، والاختلال ، والاختلاف في فهم من سمع ذلك ، وليس له فهم صحيح ، نعوذ بالله من ذلك.
    وكذلك أيضا : لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة ؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين : إما أن يكون ذلك
    __________________
    (1) لم يصح مرفوعا ، وفي صحيح مسلم الإيمان أن تؤمن بالله الحديث ... (ز).

    راجعا إلى القول والعمل ، دون التصديق ؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان ، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك : أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام إذا ترك صلاة أو صياما أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة ، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات ، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم ، ولم يفعل واحدا منهما ، فإنه يوصف بالكفر ، وانسلخ من الإيمان ، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد ، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال ، ولا يجوز من طريق التصديق ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير» وكذلك قوله «حتى يأمن جاره بوائقه» وأراد بذلك الكف عن الأذى ، ولم يرد التصديق ، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.
    والأمر الثاني : في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان ، يتصور أيضا أن يكون من حديث الحكم لا من حيث الصورة ، فيكون ذلك أيضا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل ، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعا إلى الجزاء والثواب ، والمدح والثناء ، دون نقص وزيادة في تصديق ، من حيث الصورة. وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة.
    أما الكتاب : فقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : 10] ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح ؛ لأن كل واحد منهما من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام ، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب ، والدرجة ، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.
    وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهبا ما أنفقه أحد من الصحابة ، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب ، والجزاء ، والدرجة أزيد وأكمل من نفقة غيرهم ، [فهي] وإن كانت في الصورة أكثر ، لكنها أنقص من حيث الحكم ، لا من حيث العين ، فاعلم حكم ذلك وتحققه ، ووازن هذا من أفعالنا اليوم ، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير

    مكة والمدينة ، وأتى بجميع شرائطها ، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلّى عليه الآخر ، لا يقال : إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين ، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم ؛ في تحصيل الفضل والثواب ، ولهذا نظائر يطول تعدادها ، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا ، لأن معنى الإسلام الانقياد ، ومعنى الإيمان التصديق ، ويستحيل أن يكون مصدق غير منقاد ، ولا يستحيل أن يكون منقاد غير مصدق ؛ وهذا كما يقال : كل نبي صالح ، وليس كل صالح نبيا.
    ويدل على صحة هذه الجملة قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : 14] فنفى عنهم الإيمان وأثبت أن ذلك منهم إسلام لا إيمان. وأيضا : قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17)) [الحجرات : 17] فغاير بين الإسلام والإيمان.
    ويدل على صحة هذا القول أيضا أن الرسول عليه‌السلام فرق هو وجبريل بين الإسلام والإيمان حين سأله ، فقال له ما الإيمان؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره» فقال جبريل عليه‌السلام : صدقت. والمراد بجميع ذلك أن : تصدق بالله ورسوله ، إلى آخر ما ذكر ، ثم قال له : فما الإسلام؟ فقال : «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة» وهذا واضح في كونهما غيرين ، وأن محل الإيمان القلب ، وهو التصديق ، ومحل الإسلام الجوارح ، وهذا الحديث يقوي لك جميع ما ذكرت لك. وأن التصديق متى اختل منه شيء انخرم الإيمان ، والقول والعمل يزيد وينقص ، ولا ينخرم الإيمان مع التصديق بجميع ما جاء به الرسل عليهم‌السلام ، فعلى ما قررت لك لا يجوز أن نطلق. فنقول : إيمان أحدنا كإيمان جبريل ، ولا كإيمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كإيمان الصدّيق رضي الله عنه (1) ، بل نمنع من ذلك ، ونريد به أن إيمان هؤلاء أفضل وأكمل
    __________________
    (1) ومن يجعلهم سواسية في الإيمان ، يريد تساويهم في الاعتقاد الجازم فقط (ز).

    وأرفع ، من طريق الحكم الذي بينت لك ، ومن طريق آخر ، وهو أنه قد بان لهؤلاء من دلائل الوحدانية أكثر مما بان لنا ، فلا نطلق التسوية بين إيمانهم وإيماننا ، ولا نريد بذلك أنا نصدق بعض ما جاء به الرسل عليهم‌السلام والصديق يصدق بالجميع ، بل لا يصح لأحد إيمان حتى يصدق بالجميع ، لكن إيمان الصدّيق أكمل وأفضل من الوجوه التي بينت لك.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أنه لا يجوز أن يقول العبد «أنا مؤمن حقا» ويعني به في الحال ، ويجوز أن يقول «أنا مؤمن إن شاء الله» لأن ذلك يكون شكا في الإيمان ، ولأن الاستثناء إنما يصح في المستقبل ، ولا يصح في الماضي ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى في قوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : 23 ، 24] وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا غدا إن شاء الله نازلون بخفيف بني كنانة» ولأن المشيئة لله تعالى سابقة لكل موجود ، فلو لا المشيئة لما وجد الموجود ، فكما لا يجوز أن يستثنى في الحال فلا يجوز أن يقطع في المستقبل. فاعلم ذلك وتحققه.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الاسم هو المسمى بعينه وذاته ، والتسمية الدالة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز.
    والدليل عليه قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرّحمن : 78] ومعناه : تبارك ربك ، وأيضا قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : 1] ولا يشك عاقل أن المسبّح هو الله تعالى ، لا قول من يقول التسبيح ، ويدل عليه قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)) [يوسف : 40] وقد علمنا أنهم ما كانوا يعبدون الأقوال والتسميات ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فأما قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : 180] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» ، فالعدد في ذلك راجع إلى التسميات التي هي عبارات الاسم ، فالتسمية تدل على الذات حسب دلالة الكتابة على المكتوب ، فمن لا يميز

    بين الاسم والتسمية وبين الكتابة والمكتوب وما جرى هذا المجرى فلا يحل الله له أن يفتي في دين الله تعالى ، نعوذ بالله من الجهل بالله تعالى وصفاته.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أنه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء ، خلافا لما تدّعيه البراهمة.
    والدليل عليه أيضا : أنه مالك الملك يفعل ما يشاء ، مع ما سبق من أنه ليس في إرسال الرسل استحالة ، ولا خروج عن حقائق العقول ، فدل على جواز ذلك.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه ، وإنما يثبت بالمعجزات ، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء ، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك.
    يبين لك ذلك : أن موسى عليه‌السلام جاء في زمان سحرة وسحر ، فتحداهم بقلب العصا حية ، فعلم المحققون منهم في السحر ، أن ذلك خارج عن قبيل السحر ؛ لعجزهم عن ذلك ، وخرقه لعادة السحر ، فسارعوا إلى الإيمان ، وهذا يدل على فضل العلم من أي نوع كان : فإنه أول من سارع إلى الإيمان السحرة ، لعلمهم بالسحر ، فكان في علمهم ذلك ـ وإن كان باطلا ـ فضل كبير على غيرهم من قومهم ممن لا يعلم السحر.
    وكذلك عيسى عليه‌السلام : جاء في زمان قوم طبّ ومداواة ، فأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فأتى بما هو خارج عن قبيل الطب. خارقا للعادة فيه ، لا يقدر عليه مخلوق.
    وكذلك : نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جاء في وقت فصاحة وشعر وخطب ونظم ونثر ، فأتاهم بما هو خارج عن عاداتهم في النظم والنثر ، وهو أفصح وأجزل وأوجز ، وتحداهم بالإتيان بمثله ، فوجدوا ذلك خارجا عن نظمهم ونثرهم وخارقا لعادتهم ، فعجزوا عنه فسارع من هداه الله إلى الإيمان به ، ولله الحمد والمنّة ، على الهداية والتوفيق.

    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى كافة الخلق ، وأن شرعه لا ينسخ ، بل هو ناسخ لجميع من خالفه من الملل.
    والدليل على ذلك : ثبوت نبوته ، وصدق مقاله ، وقد أخبر بجميع ذلك.
    واعلم أن أكبر معجزاته القرآن العربي ، وفيه وجوه من الإعجاز :
    أحدها : ما اختص به من الجزالة ، والنظم والفصاحة الخارجة عن أساليب الكلام ، وتحدى به فصحاء العرب بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بمثله ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، ولم يتأت لهم ذلك في مدة ثلاث وعشرين سنة.
    ومن وجوه الإعجاز في القرآن : اشتماله على قصص الأولين ، وما كان من أخبار الماضين ، مع القطع بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، ولم يعهد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع زمانه تعاط لدراسة كتب ولا تعلّمها ، وقد نفى عنه سبحانه وتعالى ذلك بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)) [العنكبوت : 48].
    ومن وجود الإعجاز : [أن] اشتمال القرآن على [ما لا يحصى من] علم غيوب متعلقة بالمستقبل ظاهر جلي ، مثل قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : 128] وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : 27] ومثل قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : 21] إلى غير ذلك ، من وجوه الإعجاز في القرآن كثير جدا.
    وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات ومعجزات سوى القرآن : كانشقاق القمر ، واستنزال المطر ، وإزالة الضرر من الأمراض ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتسبيح الحصى في يده ، ونطق البهائم ، إلى غير ذلك من المعجزات والآيات الخارقة للعادة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رزقنا الله شفاعته ، وحشرنا في زمرته.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل ، ولا تنخرم ، بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة ، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم ، وحالة اشتغالهم ، إما بأكل أو شرب ، أو قضاء وطر. والدليل عليه : أن حقيقة النبوة : لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة دون غيرها من الحالات ، لكانوا في غيرها من الأحوال غير موصوفين بذلك.

    وقد غلط من نسب [إلى مذهب] المحققين من الموحدين إبطال نبوة الأنبياء عليهم‌السلام بخروجهم من دار الدنيا. وليس ذلك بصحيح ، لأن مذهب المحققين : أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة ، وإنما صار رسولا واستحق شرف الرسالة والنبوة بقول مرسله : وهو الله تعالى : أنت رسولي ونبيي. وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.
    والدليل على صحة هذا أيضا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل ، فقيل له : متى كنت نبيا؟ فقال : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فحاصل الجواب في هذا : أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين الآن ، حسب ما كان ثابتا لهم في حال الحياة ، لم ينثلم ولم ينتقص ، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ ، ومن راجع نفسه ولم يغالط حسه عرف وتحقق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآن لم يخاطب شفاها ، ولا يأمرهم ولا يكلمهم من غير واسطة ، لكن حكم شريعته وصحة نبوته ثابت لم ينتقض ، لأجل خروجه من الدنيا ، ولم تزل مرتبته ، ولا انخرمت رسالته ، ولا بطلت معجزته فاعلم ذلك وتحققه.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدّم خلق الله أجمعين ، من الأنصار والمهاجرين ، بعد الأنبياء والمرسلين : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) [التّوبة : 40] ولا أفضل من اثنين ثالثهما الله تعالى لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : 54] وهو الصدّيق وأصحابه ، لما قاتل أهل الردة ، ولقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزّمر : 33] قيل في أصح التفاسير : الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق أبو بكر الصديق ؛ يؤكد صحة هذا التفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الناس لي كذبت ، وقال أبو بكر صدقت» ويدل عليه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : 10] والصديق رضي الله عنه أول من أنفق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤكد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمنّ الناس عليّ في نفس ومال أبو بكر الصديق ، ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر».
    ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي الدرداء «أتمشي أمام من هو خير منك ، والله ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ،

    وليس في السماء ولا في الأرض بعد النبيين أو المرسلين خير من أبي بكر». وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة ، لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته ، وانقيادهم له ، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مجيبا لقوله رضي الله عنه لما قال : أقيلوني ، فلست بخيركم. فقال : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا. يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره ، واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمة ، وأرجحهم إيمانا ، وأكملهم فهما ، وأوفرهم علما ، وأكثرهم حلما ، وبه نطق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الأرض».
    ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، لاستخلافه إياه ، وقد ورد في فضائله رضي الله عنه من الأحاديث ما لا يحصى ، ومن جملة ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان بعدي نبي لكان عمر ، إن الله ربط الحق بلسان عمر وقلبه» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كادت أنفاس عمر تسبق الوحي» لأنه كلمه في أسارى بدر ، وأن تضرب أعناقهم ، فنزل قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)) [الأنفال : 67] فقال : «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر» حين نزل قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)) [الأنفال : 68] وقال : لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليك البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب وقال : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التّحريم : 5] فنزلت الآية في ذلك ، وفضله أكثر من أن يحصى.
    وبعده : أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، لإجماع المسلمين أنه من جملة الستة الذين نص عمر عليهم. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عثمان أخي ورفيقي في الجنة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان لنا ثالثة زوجناكها يا عثمان» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوت الله تعالى أن يرفع الحساب عن عثمان ففعل» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يزيد في المسجد أضمن له الجنة؟» فزاد فيه عثمان وقال : «من يشتري رومة أضمن له الجنة» فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين. وقال : «من يجهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان : تسعمائة وخمسين بعيرا ، وأتمها ألفا بخمسين فرسا.
    وبعده أمير المؤمنين : علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ، وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضائله أحاديث كثيرة منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فأعطاها لعلي عليه‌السلام.

    مسألة
    والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيّنّاه : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ، ومصابيح أهل اليقين ، شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وشهد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم خير القرون ، فقال : «خير القرون قرني» فلما قدّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور ، علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحدا تشهيا منهم ، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه.
    قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام : ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة : أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك [هو] قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)) [النّور : 55] ووعده حق ، وخبره صدق ، لا يقع بخلاف مخبره ، فلا بد من أن يتم ما وعدهم به ، وأخبر أن يكون لهم ، ولا يصح إلا على هذا الترتيب : لأنه لو قدم عليّ عليه‌السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة ، لأن عليّا عليه‌السلام مات بعد الثلاثة. وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر ، لأن عثمان مات بعد موتهما ، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده ، والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت. ولله الحمد على الهداية والتوفيق.
    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن ما جرى بين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ، ونترحم على الجميع ، ونثني عليهم ، ونسأل الله تعالى لهم الرضوان ، والأمان ، والفوز ، والجنان. ونعتقد أن عليّا عليه‌السلام أصاب فيما فعل وله أجران. وأن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم الأجر ، ولا يفسّقون ولا يبدّعون.
    والدليل عليه قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : 119] وقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ)

    (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)) [الفتح : 18] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران [على] اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه.
    ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن عليه‌السلام : «إن ابني سيّد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين ، وحكم لهم بصحة الإسلام. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون بين أصحابي هنات ونزغات يكفرها الله تعالى لهم ويشقى فيها من شقي». وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47)) [الحجر : 47].
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن ، وأنهن أمهات المؤمنين ، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ، ونقول في الجميع : خيرا ، ونبدّع ، ونضلّل ، ونفسّق من طعن فيهن أو في واحدة منهن ، لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم ، فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقا مخالفا للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك.
    مسألة
    ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم ، والسكوت عنه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم وما شجر بين أصحابي» وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : ما تقول فيما شجر بين الصدر الأول؟ فقال : أقول كما قال الله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : 10] وسئل عن ذلك جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام فقال : أقول ما قال الله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : 52]. وسئل بعضهم عن ذلك فقال : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)) [البقرة : 134]. وسئل عمر بن عبد العزيز عن ذلك فقال : «تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهّر منها لساني ؛ مثل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل العيون ودواء العيون ترك مسها».

    مسألة
    ويجب أن يعلم : أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط.
    منها : أن يكون قرشيا ؛ لقوله عليه‌السلام : «الأئمة من قريش».
    والثاني : أن يكون مجتهدا من أهل الفتوى ؛ لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك ، فالإمام أولى.
    والثالث : أن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور ، ويكون حرا ورعا في دينه. وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عليه‌السلام :
    «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا» وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر ، وفقنا الله للصواب ، وعصمنا من الخطأ والزلل بمنّه ورحمته.
    * * *
    فصل
    اعلموا رحمنا الله وإياكم : أن أهل البدع والضلال من الخوارج ، والروافض والمعتزلة قد اجتهدوا أن يدخلوا على أهل السنة والجماعة شيئا من بدعهم وضلالهم فلم يقدروا على ذلك ، لذب أهل العلم ودفع الباطل ، حتى ظفروا بقوم في آخر الوقت ممن تصدى للعلم ولا علم له ولا فهم ، ويستنكف ويتكبر أن يتفهم وأن يتعلم ؛ لأنه قد صار متصدرا معلما بزعمه ، فيرى بجهله أن عليه في ذلك عارا وغضاضة ، وكان ذلك منه سببا إلى ضلاله وضلال جماعته من الأمة.
    واعلم : أن أخبث من ذكرنا من المبتدعة ، وأكثرهم شبها وأعظمهم استجلابا لقلوب العوام : المعتزلة ، فجعلوا يتطلبون أن يضلوا من ذكرنا في مسألة القدر ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الرؤية ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الشفاعة والصراط والميزان ، وعذاب القبر ، وجميع ما أنكروه مما صحت فيه الآثار فلم يقدروا عليهم في شيء من ذلك ، ولم يظفروا به ، فجاءوا إلى مسألة القرآن وعقدهم فيه أنه مخلوق محدث موصوف بصفات المخلوقين ، فما قدروا أن يصرحوا بكونه مخلوقا ، فما زالوا يحسنوا لهم أمورا حتى قالوا : بأن القرآن يتصف بصفات الخلق ، وذلك أكبر عمدة لهم في كونه مخلوقا ، فرضوا منهم بأن يقولوا بخلق القرآن معنى وإن لم يصرحوا به نطقا. وكان أكبر غرض هؤلاء الجهلة ممن يتصدى للعلم وليس من أهل ذلك ، أن ينفروا العوام من أهل التحقيق والذين يعرفون مغزاهم في ذلك ، حتى لا يسمع

    كلامهم ولا يتعلم منهم حتى ينقرضوا شيئا فشيئا ويتم لهم ما أرادوا في الجهال والعوام.
    وأنا بحمد الله وعونه وحسن توفيقه أبين لك ذلك مسألة مسألة ، وأذكر لك شبههم في كل مسألة ، وهي أربع مسائل : مسألة القرآن وهي أهمها : و (الثانية) مسألة القدر والجرح والتعديل و (الثالثة) مسألة الرؤية و (الرابعة) مسألة الشفاعة.
    مسألة
    اعلم : أن الله تعالى متكلم ، له كلام عند أهل السنة والجماعة ، وأن كلامه قديم وليس بمخلوق ، ولا مجعول ، ولا محدث ، بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته ، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات. ولا يجوز أن يقال كلام الله عبارة ولا حكاية ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يجوز أن يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق ، ولا غير مخلوق ، ولا أني أتكلم بكلام الله ، هذه جملة أنا أفضلها واحدا واحدا إن شاء الله تعالى.
    مسألة
    فأما الدليل على كون كلام الله قديما غير مخلوق ، فمن الكتاب قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : 54] فصل بين الخلق والأمر ، فدل على أن الأمر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضا قوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) [الأحزاب : 4] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)) [النّحل : 40] ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به «كن» واحتاج القول إلى قول ثالث ، والثالث إلى رابع ، إلى ما لا نهاية له ، وهذا محال باطل ، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق ، وهو كلامه القديم.
    ويدل عليه من السنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه». فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه ؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون ، فكذلك القول في كلامه ، فوجب أن يكون غير مخلوق ، وكلامهم مخلوقا.
    ويدل عليه أيضا : أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القرآن فقال : «كلام الله غير مخلوق».

    ويدل عليه أيضا : إجماع الصحابة ، وهو أن عليا عليه‌السلام لما أنكر عليه التحكم وكفر الخوارج فقال بحضرة الصحابة : والله ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن. ولم ينكر ذلك منكر ، فدل على أنه إجماع ، ولأنه لو كان مخلوقا : لم يخل أن يكون خلقه في نفسه أو في غيره أو في غير شيء ، ولا يجوز أن يكون مخلوقا في نفسه لأن ذاته لا تقوم بها المخلوقات والحوادث يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
    ولا يجوز أن يكون خلقه في غيره ، لأنه لو كان خلقه في غيره لكان ذلك الغير إلها ، آمرا ، ناهيا قائلا : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)) [النّمل : 9] وهذا محال باطل ، ولا يجوز أن يكون خلقه في غير شيء ، لأنه يؤدي إلى وجود كلام من غير متكلم وهذا محال. فإذا ثبت بطلان هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا أنه مخلوق ، بل هو صفة من صفات ذاته ، قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، موصوف به ، فيما لم يزل وفيما لا يزال. ولا يجوز أن يباينه ، ولا يزايله ، ولا يحل في مخلوق ، ولا يتصف بالحول رأسا ، فاعلم ذلك وتحققه.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : 16] وربما قرر عليك هذا السؤال والدليل ، كما قرره بشر المريسي على عبد العزيز المكي وهو : أنه قال له : أتقول إن القرآن شيء أو ليس بشيء؟ فقال : بل هو شيء فقال : يا أمير المؤمنين سلم أن القرآن مخلوق ، لأن الله تعالى قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : 16].
    والجواب أن يقال : في أول [الأمر أي] شيء أردت بقولك إنه شيء [فإن أردت] أنه موجود ثابت فنعم ، وإن أردت بقولك إنه شيء كالأشياء من حيث خروجه من العدم إلى الوجود كالأشياء الموجودة بعد العدم فلا نقول ذلك.
    والموجود الثابت لا يدل على أنه مخلوق محدث ، فإن الله موجود ثابت دائم الوجود ليس بمخلوق. وأما الجواب على جملة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فالمراد به الخصوص دون العموم فإنه (1) بعضه [قطعا] وأنه [غير] داخل في ذلك كما سمى نفسه ، فقال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : 12] ثم قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : 185] ولا تدخل نفسه في ذلك ، وإنما المراد به كل نفس منفوسة مخلوقة كذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : 16] يعني مما يصح فيه الخلق والحدث ، وصفات ذاته قديمة بقدمه وموجودة بوجوده ، فلم تدخل في ذلك. ومثل هذا في
    __________________
    (1) أي فإن المراد بعض الشيء (ز).

    القرآن كثير ، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهما‌السلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : 16] ولم يؤتيا سماء ولا أرضا ، ولا شمسا ولا قمرا ولا جنة ، ولا نارا ، ولا ملائكة ، ولا عرشا ، ولا غير ذلك ، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : 23] ومعلوم أنها لم تؤت النبوة ، ولا تسخير طير ، إلى غير ذلك ؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم ، لأنها ما دمرت هودا ، ولا السماء ، ولا الملائكة ، ولا الجبال ، إلى غير ذلك.
    قال الشريف الأجل جمال الإسلام : ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو : أن يقول : الآية حجة عليكم ، وأن القرآن ليس بمخلوق ، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق ، فسمّى نفسه خالقا ، وسمّى كل شيء دونه مخلوقا ، فالخالق بجميع صفات الذات ، غير مخلوق ، لأن الاسم هو المسمى ، على ما قررنا ، وهذا صحيح ، لأن الخالق هو الله العالم ، القادر ، المريد ، المتكلم ، وكلامه هو القرآن ، فدلّ على أنه غير مخلوق ، ولا داخل في الأشياء المخلوقة ، والذي يفهم من ذلك ؛ فإن كل عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته ، وحياته ، وعلمه ، وكلامه. وكذلك إذا قيل [آخذ] الملك اليوم كل أحد ، وصغر كل صفة وحقرها ومعلوم [أن ذاته ما دخلت] في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : 16] يعني غير ذاته ، وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.
    فإن احتجّوا بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : 2] فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق. الجواب من ثلاثة أوجه :
    أحدها : أن الآية حجة عليهم ، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث ، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثا. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث ، فيجب أن يكون القرآن ؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق ، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه ، سبحانه وتعالى.
    الجواب الثاني : أن الذكر هاهنا يراد به وعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وتوعده لهم وتخويفه ، لأن وعظ الرسل عليهم‌السلام يسمى ذكرا. يدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)) [الغاشية : 21] ويقال : فلان في مجلس الذكر ، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك ؛ أن قريشا لم تلعب عند سماع القرآن ، ولكنها

    كانت تفحم عند سماعه ، حتى قال عتبة : والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر ، وإن عليه لطلاوة ، وإن له لحلاوة. وفزعوا أيضا أن تفتتن عند سماعه نساؤهم وأولادهم ، حين كان يقرأ أبو بكر رضي الله عنه.
    الجواب الثالث : أنه أراد ما يأتيهم من نهي محدث مجدد بعد نبي إلا استمعوه وهم يلعبون ، هل هذا إلا بشر ، وقد سمّى الله تعالى رسوله ذكرا بقوله : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (11)) [الطّلاق : 11].
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النّساء : 47](وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : 38] فالجواب : أنه تعالى أراد عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين ، وما حكم به وقدره من أفعاله ، وهذا بمنزلة قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [هود : 40] يعني ما أمرنا به من زيادة الماء وإغراق الكافرين من قوم نوح عليه‌السلام ، ولم يعن (قولنا) وكذلك أيضا قال : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : 97] يعني شأنه وأفعاله وطرائقه ، ولم يرد (قوله) وهذا بمنزلة قول القائل :
    فقلت لها أمري إلى الله كله
    وإني إليه في الإياب لراجع

    يعني سري وأفعالي ، ولم يرد بذلك الأمر من القول ، وجمع هذا أمور ، وجمع الأمر من القول الأوامر ، ولو لا عجزهم وجهلهم لم يلجئوا إلى مثل هذا التمويه على العوام والجهال مثلهم. ولو نظروا إلى قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر : 44] تعالى أنه أراد أفعالي وأموري ، دون أمره الذي هو قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصّلت : 53] ورجعوا إليه.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : 3] والمجعول مخلوق ، بدليل قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : 30] أي خلقنا ؛ فالجواب من ثلاثة أوجه :
    أحدها : أن معنى ذلك : إنما سميناه قرآنا عربيا ، والجعل يكون بمعنى التسمية ، بدليل قوله عزوجل : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)) [الحجر : 91] يعني سموه ؛ فبعضهم سماه شعرا ، وبعضهم سحرا ، وبعضهم كهانة ، إلى غير ذلك. ولم يرد أنهم خلقوه. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)) [الزّخرف : 19] يعني سموهم وحكموا عليهم

    بذلك ، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : 30] يعني سموا. وكذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)) [المائدة : 103] وفي القرآن مثل هذا كثير.
    الجواب الثاني : أنه أراد : إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب ، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي ، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل ، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني ، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب ، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.
    والجواب الثالث : أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق ، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية ، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل : جعلت النجم والرجل ، ويسكت حتى يصله بقوله : جعلت النجم هاديا ودليلا ، وجعلت الرجل صديقا وصاحبا. فلما قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : 3] تعدى إلى مفعولين ، فيكون بمعنى الحكم والتسمية. فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : 101] وقالوا : ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة ، قلنا : هذا جهل منكم أيضا ، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة ؛ أو في حكم ، فيكون تقدير الكلام : وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية ، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.
    دليل الأول : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : 101] يعني حكم آية أو تلاوتها.
    ودليل الثاني : قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : 34] وقوله تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : 115] فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه ، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى ، ومنعوه نطقا ، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستي
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:47

    فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : 86] وقالوا : ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.
    فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم ؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم ، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا : أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال : استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له : كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ فقال : يسرى عليه فيذهب حفظه من الصدور ، ورسمه من المصاحف. وهذا صحيح ، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله ، وحفظه مخلوق مثله ، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب (1) الذي هو كلامه القديم ، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.
    فإن احتجوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» قالوا : وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا : كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهّال الناس ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب ، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، وقد قرنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره ؛ ألا تراه قال : «مخافة أن تناله أيديهم» ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره ، وقد بيّن عليه‌السلام ذلك في حديث آخر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أصحابه : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن ، دون نفس القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، لأنه صفة من صفات ذاته ، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى.
    فإن قالوا : أجمعنا على أن القرآن سور ، والسور آيات ، والآيات كلمات ، والكلمات حروف وأصوات ، وجميع ذلك يدل على كونه محدثا مخلوقا ؛ لأن السور معدودة محسوبة ؛ لها أول وآخر ، وكذلك الآيات والحروف ، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق ، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في
    __________________
    (1) وصف القرآن القائم بالله سبحانه بالمكتوب ، والمحفوظ والمتلو من قبيل وصف المدلول بوصف الدال مجازا كما حققه التفتازاني في شرح المقاصد على ما سبق (ز).

    مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق ؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق ، ما قرروه من هذه الشبهة ، وقالوا مثل قولهم : إن كلامه حروف وأصوات ، فإن لله وإنا إليه راجعون (1).
    والجواب عن هذه الشبهة : أن يقال لهم : أما ما ذكرتم من الحصر ، والتحديد والتبعيض ، والحروف والأصوات ، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته ؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان ، وشفتين ، وحلق ، والله يتعالى ويتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
    وكذلك ما ذكرتم من الحصر ، والعد ، والأول ، والآخر ، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتبتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح ، لأنه تعالى قال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)) [الكهف : 109] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)) [لقمان : 27] ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة ، ويتلو التالي منا عدة ختمات ، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه ،
    __________________
    (1) قال السعد في شرح المقاصد : (انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى ، وهو أنه من صفات الله وهي قديمة ، والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات ، وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين ، فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله تعالى ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ، ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية ، فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة ، وهو في التحقيق عائد إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وأن القرآن هو أو هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي أولا. فلا نزاع لنا في حدوث الكلام الحسي ولا لهم في قدم النفسي لو ثبت) ثم قال السعد : (وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر) وهذا التحقيق هو مفتاح هذا البحث الطويل العريض. وقد أثبت المصنف الكلام النفسي بكل ما جلاه في موضعه ، وحدوث ما سواه مما في الأذهان والألسنة والخطوط جلي واضح عند أرباب العقول فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (ز).

    وخطنا لكلامه ، وحفظنا لكلامه. فأما صفته التي هي كلامه على الحقيقة فلا تتصف بالزوال ، والحصر ، والعد ، والأول والآخر على ما أخبر سبحانه وتعالى على مقتضى التحقيق. لأن كل ما اتصف بالبداية والفراغ والحصر والعد فإنما هي صفة المخلوق لا صفة الخالق القديمة بقدمه الموجودة بوجوده ، التي لا يجوز أن تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من ضلالة الفريقين وتخلص من جهل الطائفتين.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء. والتلاوة غير المتلو (1) والكتابة غير المكتوب ، وهذا إنما خالف فيه من لا حس له ، ولا فهم ، ولا عقل ولا تصور ، ونحن بحمد الله نبيّن الفرق بين الأمرين من الكتاب والسنة ودليل العقول.
    فأما الدليل من الكتاب فكثير جدا. أحدها : قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : 106] فأخبر تعالى أن القرآن منه منزل موحى ، وأن الرسول يقرؤه ويعلّمه ، فالموحي المنزل المقروء هو كلام الله تعالى القديم وصفة ذاته ، والقراءة له فعل الرسول التي هي صفته. وأيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) [المائدة : 67] ففعل الرسول البلاغ الذي هو القراءة. وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : 16] وقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجّ : 52] وقوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : 121] وقوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)) [النّمل : 91](وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : 92] فمعلوم أن هاهنا آمر أمر بشيئين ، وهو الله تعالى ، ومأمور وهو الرسول ، فأمره بالعبادة له ، فحصل هاهنا آمر ، ومأمور ، ومأمور به ، فالآمر هو
    __________________
    (1) اعلم أن المتلو في الحقيقة هو اللفظ ، والمكتوب هو أشكال الحروف ، والمحفوظ هو الحروف المتخيلة ، والمسموع هو الصوت ، وأما التلاوة ، والكتابة والحفظ ، والسماع بالمعاني المصدرية فإنما هي نسب بين التالي والمتلو ، والكاتب والمكتوب ، والحافظ والمحفوظ ، والسامع والمسموع ، فطرفا كل من هذه النسب مخلوقان ، وإنما القديم هو ما قام به سبحانه. وإطلاقنا المتلو والمحفوظ والمكتوب والمسموع ونحو ذلك على ما قام به سبحانه من قبيل وصف المدلول بصفة الدال ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات نص قول السعد في شرح المقاصد في ذلك (ز).

    الله تعالى ، والمأمور الرسول ، والمأمور به العبادة ، فالمعبود غير العبادة التي هي فعل الرسول ، فكذلك التلاوة (1) غير المتلو ، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها ، والمتلو كلامه القديم ، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم ؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق ، إنما أمر بتلاوة كلامه ، كما أمر بعبادته ، وعبادته غيره ، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه ، فحصل من هذا : تال. وهو الرسول عليه‌السلام وتلاوته صفة له. ومتلو : وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : 98]. ففرق بين القراءة والمقروء :
    وأيضا قوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) [الكهف : 27] فذكر قراءة ومقروءا ، وتلاوة ، ومتلوا ، وعند الجاهل أن ذلك شيء واحد. وأيضا فإنه أمر بالتلاوة والقراءة ، والأمر هو استدعاء الفعل ، والفعل صفة المأمور لا صفة الآمر ؛ ألا يرى أنه أمر بالعبادة ، والعبادة صفة العابد لا المعبود. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : 48] فأخبر تعالى أنه لم يكن تاليا ، ثم جعله تاليا ولم يكن كاتبا ، ولم يجعله أيضا في الثاني كاتبا ، وقد جعل غيره تاليا لكلامه كاتبا له ، ومعلوم عند كل عاقل أن ما لم يكن ثم كان وهي التلاوة ؛ صفة للرسول لم يكن موصوفا بها ثم صار موصوفا بها ، غير كلام الله الذي هو صفة له لا يستحق غيره الوصف بها ولا يتصف بأنه لم يكن ثم كان ، ومعلوم أن الرسول كان تاليا قبل أن تكون أمته تالية ، وحافظا قبل أن تكون أمته حافظة ، ثم صارت أمته تالية حافظة لما أقرأها وحفظها ، فتلاوته فهو كلام الله القديم و [كذا] الذي تلته أمته بتلاوتها. فلا يخفى على عاقل أن التلاوة غير المتلو ، كما أن العبادة غير المعبود ، والذكر غير المذكور ، والشكر غير المشكور ، والتسبيح غير المسبح ، والدعاء غير المدعو إلى غير ذلك.
    __________________
    (1) ومما يجب الانتباه إليه هنا : أن التلاوة بالمعنى المصدري لها طرفان كما سبق ؛ جانب الفاعل وجانب الأثر المترتب عليه ، الذي يقال له الحاصل بالمصدر المبني للمفعول ، وهذا هو المتلو حقيقة. فالتالي والمتلو بهذا المعنى مخلوقان ، وأما ما دلّ عليه هذا الصوت المكيف فهو صفة لله قائمة به وقديمة قدم باقي صفاته الذاتية الثبوتية ، فليس مراد المصنف بالمتلو والمحفوظ والمكتوب ما هو أثر مترتب على المعنى المصدري للتلاوة والحفظ ، والكتابة بل مراده بها الصفة القائمة بالله التي لا ترتب ولا تقدم ولا تأخر فيها. وفي شرح المقاصد تفصيل ذلك (ز).

    ويدل على صحة ذلك من السنة وأن القراءة والتلاوة صفة القارئ ، والمقروء المتلو صفة الباري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود ، فأضاف القراءة إلى ابن مسعود ، والمقروء صفة الله تعالى ، والذي يدل على صحة هذا القول أنه يجوز أن يقال هذا الحرف قراءة ابن مسعود وليس قراءة أبيّ وغيره من القراء ولا يجوز أن يقال إن المقروء الذي يقرأه ابن مسعود غير المقروء الذي يقرأه أبي ، لأن القراءة تكون غير القراءة والقرآن الذي يقرأه هذا بقراءته هو القرآن الذي يقرأه هذا أنه شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وإن تغيرت القراءة له واختلفت. والذي يوضح لك هذا ويبينه تبيينا مستوفيا أن عمر رضي الله عنه لما مر على بعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف قراءة عمر فأنكر ذلك عليه وقال : قد قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف هذه القراءة ولبّبه حتى أتى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال : «خلّ عنه ؛ اقرأ يا عمر ، فقرأ فقال : هكذا أنزل ، ثم قال للآخر : اقرأ ، فقرأ بالقراءة التي سمعها عمر منه فقال : هكذا أنزل. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه». فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم باختلاف القراءتين وأن كل واحدة منهما تؤدي إلى ما تؤدي إليه الأخرى ، وهو المتلو المقروء القديم الذي لا يختلف ولا يتغير. وأيضا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدة طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم واتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ، ولكن بالألف عشر ـ الحديث ...».
    وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله» فأضاف القرآن إلى الله تعالى لأنه صفة من صفات ذاته ، وأضاف التلاوة إلى التالي لأنها صفته يؤجر عليها كما يؤجر على جميع أفعال طاعاته. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل» وهذا يدلك على الفرق بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضهم على أخذ القراءة للقرآن عن هؤلاء الأربعة لأنهم قد باينوا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم في جودة القراءة وصحتها والعلم بها ، وهذا المعنى صحيح لأن الغلط ، واللحن ، والتحريف ، والتصحيف إنما يقع في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارئ ؛ فأما القرآن المقروء فهو كلام الله تعالى الذي قد أخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولأن القراءة تتعوج فيقومها القارئ الماهر ، لأنها يجوز عليها التعويج والتغيير ؛ فأما كلام الله القديم فليس يوصف بالتعويج. دليله : قوله

    تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً) [الكهف : 1 ، 2] وأيضا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه ، وأبو بكر ؛ وعبد الله بن مسعود يقرأ ؛ فاستمع لقراءته ، فلما ركع ـ أو سجد ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد». فأضاف القراءة إلى عبد الله ، لأنها صفته وعبادته عليها يثاب ويؤجر ؛ والمقروء بها كلام الله القديم الأزلي ، وقد روي : «من سره أن يقرأ القرآن رطبا» وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر ، وعمر وإني أقرأ سورة النساء ، فكنت أسجلها سجلا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه» ، ومعلوم عند كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما وصف بالغضاضة والطراوة والتسجيل قراءة ابن مسعود دون كلام الله تعالى المتلو المقروء ، لأنه لا يوصف بالشيء وضده ، فاعلم ذلك وتحققه ؛ ولأن صفة القراءة تارة تكون غضة رطبة من قارئ دون قارئ إنما ذلك راجع إلى صفات المحدثين الذين يتفاضلون في قراءتهم وأصواتهم فتكون قراءة بعضهم غضة رطبة ، وقراءة بعضهم فجة سمجة ، ويكون صوت أحدهم حادا حسنا ، وصوت آخر فجا جهورا عاليا ، فأما القرآن المقروء المتلو فلا يختلف في ذاته بأي قراءة قرئ ، وبأي تلاوة تلي ، وبأي صوت سمع. بل الأدوات ، والأصوات واللغات تختلف في الجودة والرداءة والخفاء والجهارة.
    * * *
    فصل
    وقد روي من الأخبار والآثار عن سيد الأولين والآخرين وصحابته رضي الله عنهم في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ما لا يحصى عددا ونحن نذكر شيئا من ذلك يقوي جميع ما تقدم.
    فمن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعجمي ، والأعرابي. قال : فاستمع وقال : «اقرءوه فكل حسن ، سيأتي قوم يقومونه كما يقومون القدح ، يتعجلونه ولا يتأملونه».
    وعن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقترئ يقرئ بعضنا بعضا فقال : «الحمد لله كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود اقرءوا اقرءوا قبل أن يجيء قوم يقومونه كما يقومون القدح ، ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأملونه» ، ففصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين الحديثين بين التلاوة والمتلو ، والقراءة

    والمقروء ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنى بالأحمر العربي الفصيح ، وبالأسود الأعجمي ، فالعجمي يقع في قراءته اللكنة والتمتمة ويسلم من ذلك العربي الفصيح فاستمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءتهم المختلفة وحثّهم ورغّبهم في القراءة وأخبر أن كتاب الله واحد ليس بمختلف ولا متغاير ، ثم أعلمهم بمجيء قوم من بعدهم ممن يقوم القراءة تقويم القدح ، فعلم كل عاقل أن كلام الله القديم الأزلي ليس مما يعوج فيقوم ، وإنما العوج يقع في قراءة القارئ فيقوم.
    ويدل عليه أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه : عجبت للناس وتركهم لقراءتي وأخذهم قراءة زيد بن ثابت ، وقد أخذت من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت غلام صاحب ذؤابة. فأضاف ابن مسعود قراءته إلى نفسه ، وأضاف قراءة زيد إلى نفسه ، وأخبر أن قراءته أكمل من قراءة زيد ؛ لأخذه لها من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغاير بين القراءتين ، ومعلوم عند كل عاقل أن المقروء والمتلو الذي يقرأه عبد الله هو المقروء المتلو الذي يقرأه زيد ، وإن كانت قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.
    ويدل عليه ما روي عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا وائل يحدث : أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : إني قرأت المفصل كله في ركعة فقال عبد الله : هذّا كهذّ الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن. وعنه أيضا أنه قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة ، فقال عبد الله : هذّا كهذ الشعر ، إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع. ومعلوم أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشبه كلام الله تعالى بهذا الشعر ، وإنما شبه قراءة القارئ دون كلام الباري. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد». وأيضا ما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن متثبتا أو بإعراب كان له بكل حرف فضل أربعين حسنة». فكل عاقل يعلم ويتحقق أن القراءة المعربة غير القراءة الملحونة ؛ لأن من صحح قراءة الفاتحة صحت صلاته ، ومن ترك ذلك مع قدرته عليه بطلت صلاته. فأما كلام الله تعالى القديم فلا يتصف بالصحة وضدها بل هو صحيح على كل حال ، وإن وقع الفساد في القراءة.
    وأيضا ما روي قتادة قال : قلت لأنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : يمد صوته مدا. وأيضا ما روى عبد الله بن مغفل قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح وهو على ناقته أو جمله وهو يسير وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة. فمعلوم عند كل عاقل عارف أن الترجيع والمد ، واللين ، إنما تقع في القراءة التي هي صفة القارئ دون كلام الله القديم الأزلي ، ومن اعتقد أن الترجيع ،

    والمد ، واللين الذي هو صفة القارئ ومد صوته ولينه راجع إلى الكلام القديم الأزلي فقد جهل الله تعالى وصفات ذاته ، وصرح بحدوث القرآن وخلقه. وأيضا ما روى النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن» وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النظر في كتاب الله عبادة» وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطوا أعينكم حظها من العبادة ، قالوا : يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال : قراءة القرآن نظرا ، والاعتبار والتفكر فيه» وقال ابن مسعود : «النظر في المصحف عبادة» فقد اتضح بهذه الأخبار الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل قراءتنا عبادة منا ، والعبادة منا صفتنا التي نثاب عليها ونؤجر ، وذلك أن الله تعالى وصف عبادته على الأعضاء ، وكل عضو من ابن آدم مخصوص بنوع من العبادة ، فالقلب مخصوص بالعلم بالله تعالى وبمعرفته وبحفظ كلامه ، والإيمان به وبكلامه ، ثم المعرفة غير المعروف ، والعلم غير المعلوم ، والإيمان غير المؤمن به ، والحفظ غير المحفوظ ، لأن العلم صفة العبد ، والمعلوم الرب تعالى ، وكذلك الإيمان صفة للعبد ، والمؤمن به هو الله تعالى. وكذلك الحفظ صفة العبد لم يكن يحفظ ثم صار حافظا ، والمحفوظ كلام الله القديم الذي لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان بل قديم موجود بوجود الحق سبحانه وتعالى ، موجود قبل الحفظ وبعده ، واللسان مخصوص من العبادة بالذكر لله تعالى والتسبيح له والدعاء له ، وقراءة كلامه ، ثم الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى ، والتسبيح صفة المسبح ، والمسبّح هو الله تعالى ، والدعاء صفة الداعي والمدعو هو الله تعالى. كذلك القراءة صفة القارئ التي هي له عبادة وطاعة ، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارئ وقبل قراءته. فافهم إن كان لك فهم.
    وعبادة العين : النظر في المصحف ، والتفكر في الآيات من كلام الله تعالى ، فالناظر إنما يثاب على نظره الذي هو صفة لا على المنظور فيه الذي هو صفة الله تعالى. ولهذا المعنى : أن من كان أكثر قراءة ونظرا وتفكرا كان أكثر ثوابا ممن نظر أقل من نظره ، وقرأ أقل من قراءته ؛ فالزيادة والنقصان إنما يكونان في أفعال العباد التي تتصف بالشيء وضده فأما القديم الذي هو كلام الله فلا يتصف بالشيء وضده. فاعلم ذلك وتأمله تهد إن شاء الله.
    ويدل على الفرق بين القراءة والمقروء ، ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق عدة : أنه قال : «خذوا القرآن من أربعة : عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل» ثم خصّ عبد الله بن مسعود فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن

    غضا رطبا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود. فالدليل من وجهين :
    أحدهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ هؤلاء الأربعة بجودة القراءة دون غيرهم من الصحابة ، وإن كان المقروء بقراءة هؤلاء هو المقروء بقراءة غيرهم ، ففاضل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القراءة وقدّم بعضها على بعض ، وكلام الله القديم لا يجوز عليه الجودة والرداءة بل كله شيء واحد جيد لا يختلف ، وإن اختلفت القراءة له.
    الثاني من الدليلين : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضاف القراءة إلى ابن مسعود دون القرآن الذي هو كلام الله تعالى فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن مسعود». فقراءة ابن مسعود صفة له ، والمقروء كلام الله صفة له لا لابن مسعود. وأيضا فإنه وصف قراءة ابن مسعود بأنها غضة رطبة وهذه صفة لا تقع إلا على صفة المحدثين ؛ لأن قراءة بعضهم تكون غضة رطبة ، مستحسنة تميل إليها القلوب ، وقراءة بعضهم فجة غليظة تنفر عنها الطبائع ، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه ، وكذلك بعض القراءات مصححة معربة ، وبعضها ملحونة معوجة مفسدة ، والمقروء بهذه ، هو المقروء بهذه لأن القديم لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد تارة أخرى ، إنما يتصف بالفساد تارة وبالصحة تارة أخرى صفة المخلوقين ، وهي قراءتهم دون المقروء والمتلو الذي هو كلام الله القديم.
    * * *
    فصل
    وأما الدليل على أن الحروف والأصوات من صفات قراءة القارئ ، لا أنها من كلام الباري سبحانه وتعالى من الأخبار فكثير جدا ، لكن إن شاء الله أذكر من ذلك ما يقع به الكفاية لكل عاقل محصل.
    فمن ذلك : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل فقرأ يخفض طورا ويرفع طورا. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا ، فموضع الدليل من هذين الخبرين أنهما أضافا القراءة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضافا الخفض والرفع بتفسير الحروف حرفا حرفا إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري ، وكل حديث أذكره لك بعد هذين الحديثين فتأمله ؛ فإني أذكرها سردا إن شاء الله ، فتجد في كل حديث ما يدلك على صحة ما أقول ، وهو : إضافة الصوت ، والحرف إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري القديم الأزلي.

    فيدل على صحة ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته آية آية ، ولو شاء العاد أن يعدها أحصاها. وهذا يدلك على أن القراءة تنعد وتنحصر ، والمقروء القديم لا ينعد ولا ينحصر فافهم ذلك.
    ويدل على ذلك أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت : أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته بالقرآن؟ قالت : ربما رفع وربما خفض. ويدل عليه أيضا ما روي عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.
    ويدل عليه أيضا ما روي عن أنس أنه قال : ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه ، وحسن الصوت وكان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسن الوجه وحسن الصوت إلا أنه كان لا يرجّع. وأيضا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : «ما لك إذا قرأت لا ترفع صوتك» قال : إني أسمع من أناجي. وقال لعمار : «ما لك إذا قرأت تأخذ من هذه السورة ومن هذه السورة؟ فقال : سمعتني أخلط به ما ليس منه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكله طيب» فموضع الدليل : أن الرسول عليه‌السلام أضاف قراءة كل واحد وصوته إليه ، وذكر أنها قراءة مختلفة ، وأضاف إلى كل واحد صفته من القراءة والصوت ، ولم يضف إلى كلام الله تعالى شيئا من ذلك فافهم.
    وأيضا ما روي عن أم هانئ رضي الله عنها قالت : كنت أسمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا علي عريشي. وأيضا ما روى جبير بن مطعم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي بأصحابه المغرب ، فسمعته وهو يقرأ ، وقد خرج صوته من المسجد : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (Cool) [الطّور : 7 ، 8] فكأنما صدع قلبي ، ويقال إن هنا كان سبب إسلامه ، لأنه جاء يكلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر ، فلما سمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسن صوته قال : فكأنما صدع قلبي ، وكأني بالعذاب قد أحاط بي ، فصدقت وآمنت من ساعتي. وهذا الحديث أدل دليل على الفرق بين القراءة والمقروء ، وأن الصوت صفة الصائت والقارئ دون كلام الباري ، لأن الذي صدع قلبه وهداه إنما هو الذي فهمه من كلام الله تعالى الذي أوعد به المستكبرين ؛ فعلو الصوت من قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة للرسول عليه‌السلام ، والذي صدق به قلبه هو ما فهمه من كلام الله تعالى الذي سمعه بواسطة قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلو صوته ،

    لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى ، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها ، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشّورى : 52] فالهادي الشافي المقروء لا القراءة ، والمفهوم من الصوت لا الصوت.
    يدل على ذلك أيضا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :
    «ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله عزوجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا» قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال : «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» فبيّن لك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقي لا قراءة القارئ.
    وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا؟ فقالوا : حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر». وكان حارثة من أبر الناس بأمه ، وأضاف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصوت إلى الرجل الصائت دون القرآن. ولو أني أتقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة ؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح ، فإذا تقرر هذا صحّ لك أن القراءة صفة القارئ ، والمقروء على الحقيقة كلام الباري ، وكذلك الحفظ صفة الحافظ ، والمحفوظ كلام الله تعالى ، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته ، والمكتوب كلام الله تعالى ، كما أن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة ، والصوم ، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة ، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.
    وأما الدليل من جهة العقل هو : أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة ، وتارة فجة تنفر منها الطباع ، وتارة رفيعة عالية ، وتارة منخفضة خفية ، وتارة يلحقها اللحن والخطأ ، وتارة تصح وتقوم ، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضا الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها ، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله ، فصحّ أن

    الكتابة صفة الكاتب ، والمكتوب بها كلام الله تعالى ، وأيضا فإن الكتابة يلحقها المحو يتصور عليها الغرق ، والحرق ، والتواء ، والتلف ، وكلام الله القديم لا يتصور عليه شيء من ذلك. وكذلك الحفظ ، والسمع تارة يوجد ، وتارة يعدم ، وما يجوز عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فليس بصفة لله تعالى ، وإنما هو صفة المخلوق المربوب ، لكن المسموع من القرآن ، والمحفوظ منه ، والمقروء منه ، والمكتوب منه كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا مربوب. فافهم تصب إن شاء الله.
    وأيضا فإن من حلف بالطلاق الثلاث أن لا يقوم من مقامه حتى يفعل فعلا يكون عبادة وطاعة لله تعالى ؛ فقرأ عشر آيات من القرآن ثم قام ولم يفعل شيئا غير ذلك لم يحنث في يمينه بإجماع المسلمين ، فصحّ أن قراءته فعله وعمله الذي صار به فاعلا ، عابدا ، طائعا. وأن المقروء بقراءته كلام الله تعالى القديم الذي ليس بفعل لأحد فافهم.
    وأيضا : فإن قراءة القارئ تارة تكون طاعة وقربة ، وتارة تكون معصية وذنبا. فأما الطاعة فهي إذا قرأها وهو طاهر غير جنب وغير مرائي بها أحدا من الخلق ، ويكون معصية إذا قرأها وهو جنب مرائي ، وما يكون تارة طاعة وأخرى معصية كيف يكون صفة الحق؟ ـ تعالى عن ذلك ـ بل هو صفة الخلق ، لكن المقروء في الحالتين شيء واحد ، وهو كلام الله تعالى القديم لا يتصف بالشيء وضده. فافهم ، وفي بعض هذا مقنع لمن لم يكن يكابر الضرورات.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة (1) كما قال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)) [الواقعة : 77 ، 78] وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)) [البروج : 21 ، 22] لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ هو القرآن المكتوب في مصاحفنا شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا ، وأن الخط الذي فيه غير الخطوط التي في مصاحفنا ، وأن القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا ،
    __________________
    (1) عند من يرى وجود الشيء في الأعيان والأذهان واللسان والكتابة ونحوها حقائق يشترك بينها لفظ الوجود اشتراكا لفظيا (ز).

    وكذلك ما اختلف وغاير غيره واختص بمكان دون مكان وزمان دون زمان ، فهو مخلوق مربوب ، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير ولا يجوز عليه شيء من صفات الخلق ، فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته [قديمة] وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة. كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : 49] لكن نعلم قطعا أن زيدا الحافظ غير عمرو الحافظ ، وأن قلب هذا غير قلب هذا ، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا. لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه ، وهو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، إذ هو صفة الله تعالى قديم غير مخلوق ، وكذلك نقول إنه مقروء بألسنتنا نتلوا بها على الحقيقة لكن نعلم أن زيدا القارئ غير عمرو القارئ ، وأن لسان زيد غير لسان عمرو ، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو ، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، بل هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق وهذا كما قال تعالى : (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : 14] يعلمه زيد بعلمه ويعلمه عمرو بعلمه ، ويعبده زيد بعبادته ، ويعبده عمرو بعبادته ، ويدعوه زيد بدعائه ، ويدعوه عمرو بدعائه ويذكره زيد بذكره ، ويذكره عمرو بذكره ، ويسبحه زيد بتسبيحه ، ويسبحه عمرو بتسبيحه ، فزيد غير عمرو ، وذكره غير ذكر عمرو ، وعبادته غير عبادة عمرو ، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا ، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا ، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا ، والله تعالى القديم الواحد الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة (1) لكن بواسطة وهو القارئ.
    دليل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : 6] واعلم : أن المسموع فهو كلام الله القديم صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها ، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع
    __________________
    (1) على القول بالاشتراك بين الوجودات السابق ذكرها ، وأما على القول بأن القرآن اسم للنظم الدال لا من حيث تعين من قام به فيكون واحدا بالنوع ، كما هو قولهم في أسماء الكتب ، فيكون المقروء هو هو بدون إشكال الحدوث والقدم ، فما قام بالقديم قديم ، وما قام بالحادث حادث (ز).

    السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى يحدث الله تعالى له سمعا إذا أراد أن يسمعه كلامه ، وفهما إذا أراد أن يفهمه كلامه ، لأن المسموع لم يكن ثم كان عند السمع والفهم ، وهذا كما أن الله موجود قديم بوجود قديم ، وإذا خلق رجلا أو امرأة لعبادته وسهل له العبادة التي لم تكن ثم كانت فإنه يصير عابدا لله تعالى ، الذي هو موجود قديم دائم قبل العبادة وبعدها ، وإنما الذي لم يكن ثم كان هو العابد والعبادة ، فافهم الحق وحدوده.
    مسألة
    فحصل من هذا : أن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب : تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب ، ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة (1) لكن حجبه عن النظر إليه ، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضا من ملك أو رسول أو قارئ ؛ وهو استماع الخلق من الرسول عند قراءته للصحابة وقراءة الصحابة على التابعين ، وكذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ؛ يسمع كلام الله تعالى على الحقيقة لكن
    __________________
    (1) وفي شرح المقاصد : (اختصاص موسى عليه‌السلام بأنه كليم الله تعالى ، فيه أوجه ، أحدها ـ وهو اختيار الغزالي ـ أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف ، كما ترى ذاته في الآخرة بلا كم ولا كيف ، وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات ، ولكن سماع غير الصوت والحرف ، لا يكون إلا بطريق خرق العادة ، وثانيها : أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة ، وثالثها : أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا. وحاصله أنه أكرم موسى عليه‌السلام فأفهمه كلامه بصوت تولى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه ، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي ، وأبو إسحاق الأسفراييني ، وقال الأسفراييني : اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بتّ القول بذلك ، ومنهم من قال لما كان المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا ، فالاختلاف لفظي لا معنوي ا. ه) والصوت سواء كان من جهة أو الجهات كلها حادث مخلوق لا يقوم بالله سبحانه ، وفي طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى عند ترجمة الإصطخري في صدد ذكر عقيدة أحمد : (وكلم الله موسى تكليما من فيه ، وناوله التوراة من يده إلى يده) ومن هذا يعلم مبلغ ضلال هؤلاء المجسمة المتسترين بالانتساب إلى أحمد زورا وحاش لله أن يكون الإمام أحمد يثبت لله فما ، وما إلى ذلك من وجوه الضلال في العقيدة المعزوة إليه هناك ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات (ص 193) ولي إفاضة في ذلك في كثير من المواضع والله سبحانه هو الهادي (ز).

    بواسطة ، فتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب ، كتكليمه لنبينا عليه‌السلام ليلة المعراج. دليل الثلاثة قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشّورى : 51] وهو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعه الله تعالى كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب ، لأنه تعالى في تلك الليلة قال : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)) [النّجم : 10] ولا يحمل الوحي هاهنا على الإلهام بل على السماع والإفهام ؛ أو من وراء حجاب ، كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن الرؤية ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فيسمع من يشاء كلامه بواسطة تبليغ الرسول أو قراءة القارئ. وهذه جملة بليغة في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال.
    والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) [الشّعراء : 192 ـ 195] فيجب أن تعتقدها هنا أربعة أشياء هنا : منزّل ، ومنزّل ، ومنزول عليه ، ومنزول به. فالمنزل هو الله تعالى لقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : 9] وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النّحل : 44] والمنزل على الوجه الذي بيّنّاه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال كلام الله تعالى القديم الأزلي القديم بذاته ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192)) [الشّعراء : 192] والمنزل عليه قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)) [الشّعراء : 194] والمنزول به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل ، ونحن نتلو بها إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) [الشّعراء : 195] والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر ، قول جبريل عليه‌السلام. يدل على هذا قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)) [الحاقّة : 38 ـ 43] وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29))

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:49

    [التّكوير : 15 ـ 29] وهذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن. وقالوا : ما هذا إلا قول البشر ، فرد عليهم بهاتين الآيتين وكذلك رد عليهم أيضا لما قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النّحل : 103] فحصل من هذا أن الله تعالى علّم جبريل عليه‌السلام القرآن. دليله قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)) [الرّحمن : 1 ، 2] وجبريل عليه‌السلام علّم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليله قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5)) [النّجم : 5] وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ مع جبريل حال قراءته فزعا منه أن يذهب عنه حفظه حتى نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : 114] وبقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)) [القيامة : 16] معناه لا تعجل بقراءتك حتى يفرغ جبريل عليه‌السلام. ثم طمّن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يحفظه إياه ويثبت حفظه في قلبه ، فقال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)) [القيامة : 17] يعني في صدرك حفظه. ووعده أن لسانه يقرؤه قراءة لا يحصل معها نسيان فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6)) [الأعلى : 6] يعني قراءة لا نسيان معها ، فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات لا يجوز أن تفارق الموصوف ، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها ، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها. فافهم ذلك. فجاء من ذلك أن جبريل عليه‌السلام علم كلام الله وفهمه ، وعلّمه الله النظم العربي الذي هو قراءته ، وعلّم هو القراءة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، ولم يزل ينقل الخلف عن السلف ذلك إلى أن اتصل بنا فصرنا نقرأ بعد أن لم نكن نقرأ ، فالقراءة أغيار لأن قراءة جبريل عليه‌السلام غير قراءة نبينا عليه‌السلام ، وقراءة نبينا عليه‌السلام غير قراءة أصحابه ، وقراءة أصحابه غير قراءة من بعدهم ، ثم كذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ، يعلم كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ قبل الصحابة ، ثم قرأت الصحابة ، ثم قرأ التابعون ثم كذلك إلى اليوم ، لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق هو المقروء بقراءة الرسول عليه‌السلام وقراءة الجميع. وهذا أمر واضح إن شاء الله تعالى.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن الله تعالى لا يتصف كلامه القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق ، وأنه تعالى لا يفتقر في كلامه إلى مخارج ، وأدوات ، بل يتقدس عن جميع ذلك ، وأن كلامه القديم لا يحل في شيء من المخلوقات.

    والدليل على ذلك : أنه قد صحّ وثبت أن من شرط الصفة قيامها بالموصوف ، والدليل على صحة ذلك أولا : أن حد القديم ما لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه ، وأن القديم لا يدخله الحصر والعد ، ونحن نعلم وكل عاقل أن هذه الأشكال من الحروف لم تكن قبل حركة الكاتب وإنما يحدثها الله مع حركة الكاتب شيئا فشيئا. ثم هي مختلفة الصور والأشكال ، ويدخلها الحصر والحد ، وتعدم بعد أن توجد ، وكل ذلك صفة المحدث المخلوق لمن كان له عقل سليم. وأيضا فإن حروف الكلمة يقع بعضها سابقا لبعض فعند خط الكاتب «با» قد حصلت وثبتت قبل خطه «سينا» وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه «ميما» وكذلك النطق إذا تلفظ بالباء حصلت قبل السين وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق (1) : وكذلك الأصوات يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض ويخالف بعضها بعضا وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق. وأيضا فإن القول بقدم الأصوات والحروف يوجب القدم لجميع كلام الخلق ، وأصوات الناطق والصامت ، وهذا قول يؤدي إلى قدم جميع العالم أجمع ، وأيضا فإن الحروف التي يزعمون أنها قديمة وأنها صفة لكلامه تعالى لا يخلو إما أن تكون هذه الحروف التي تجري في كلام الخلق أو مثلها أو ضدها. فإن قالوا : إنها هي وجب قدم كلام الخلق ، وكذلك إن قالوا مثلها وجب ذلك أيضا ، لأن حد المثلين ما سدّ أحدهما مسدّ الآخر وناب منابه وساوقه من جميع الوجوه.
    وإن قالوا : بل هي مضادة لهذه الحروف فقد يقولون القول [من غير] أن يكون [له] معنى وهذا بين الفساد.
    ويدل على أن كلام الله القديم لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ؛ ما روي عن ابن عباس أنه قال : لما سلط الله بختنصر على اليهود لما قتلوا يحيى عليه‌السلام سلطه عليهم فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. قال عزير عليه‌السلام في جملة مناجاته : (يا رب سلّط عليهم عدوا من أعدائك ، بطر رحمتك ، وأمن مكرك ، وهدم بيتك ، وحرق كتابك) فأوحى الله تعالى إليه من جملة ما أوحى أن بختنصر إنما أحرق
    __________________
    (1) قال المصنف في النقض الكبير ـ كما في الشامل لإمام الحرمين ـ : (من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء ، والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن العقول وجحد الضرورة وأنكر البديهة. فإن اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته ، فإذا ادعى أنه لا أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة ، وكيف يرجى أن يرشد بالدليل من يتواقح في جحد الضروري اه) راجع ما علقناه على السيف الصقيل (ص 462) (ز).

    من التوراة الخط ، والحروف ، والورق ، والدفتر ولم يحرق كلامي ، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم ، ويؤكد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل هذا القرآن في إهاب وألقي في النار لم يحترق» ولم يرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجلد ، والمداد والحروف المصورة لا تحترق ، وإنما أراد أن كلام الله تعالى هو القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم ، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال. فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ـ ونعوذ بالله تعالى ـ لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفا فحرقه بالنار حتى صار رمادا ، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم ، وإنما احترق الورق ، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.
    دليل آخر على حدث الحروف : وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته ، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته ، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.
    دليل آخر على ذلك : وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما ، ولو تهجّى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك ، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى. وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه ، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال : إن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام بلا جوارح ، ولا أدوات ، ولا حروف ، ولا شفة ، ولا لهوات ، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضا ما روي عن علي عليه‌السلام أنه سئل هل رأيت ربك؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه : لم أعبد ربا لم أره. فقال له : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويحك يا دعبل! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو [قريب] ولا بالحركة ، ولا بقيام ، ولا انتصاب ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر ، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ ، رءوف رحيم لا يوصف بالرقة ، آمر لا بحروف ، قائل لا بألفاظ ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته ، وخلف كل شيء ، ولا يقال شيء قدامه ، وأمام كل شيء ، ولا يقال له أمام ، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج ، (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : 54] لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا.

    ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه‌الله ؛ فإنه قال : جلّت ذاته عن الحدود ، وجلّ كلامه عن الحروف ، فلا حد لذاته ، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضا ما حدّث به أبو بكر (1) النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال : رأيت في يد بكر بن خنيس كتابا فزدت فيه حرفا أو نقصت منه حرفا : فقال لي بكر بن خنيس : يا آدم من أمرك أن تفعل هذا؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة ، فلما خلق الباء أضجعت ، وقيل للألف لم انتصبت قائمة؟ قالت : أنتظر ما أومر. وقيل للباء لم أضجعت؟ قالت : سجدت لربي. فقال بكر : فأيهما أجل؟ الذي فعل ما لم يؤمر به ـ يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود ـ أو الذي انتظر ما يؤمر ـ يعني الألف ـ. قال آدم بن أبي إياس : فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين :
    أحدهما : أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.
    والثاني : أنه فضل الألف على الباء ، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض ، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم : وأيضا ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلي كعب الأحبار أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء ، ويقال : كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.
    وأيضا ما روي عن عبد الله بن سعيد أنه قال : عرضت حروف المعجم على الرّحمن تعالى وتقدّس وهي تسعة وعشرون حرفا فتواضع الألف من بينها فشكر الله تعالى له فجعله قائما ، وجعله أمام اسمه الأعظم ـ يعني الله ـ فإنه لم يسم به غيره.
    ويدل عليه أيضا : أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد ، لأن حروف التوراة حروف عبرانية ، وكذلك القول في حروب الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد ، لا يختلف ولا يتغير.
    وأيضا فإن الحروف تحتاج إلى مخارج ، فحرف الشفة غير حرف اللسان ، وحرف الحلق غيرهما ، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزّه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.
    __________________
    (1) محمد بن الحسن صاحب شفاء الصدور الكذاب المشهور (ز).

    وأيضا فإن الحروف متناهية معدودة ، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه ، وقدرته ، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد ، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد ، بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)) [الكهف : 109] وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : 27] فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ما له نهاية له بداية ، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلا للكلام معه ، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن القراءة (1) غير المقروء ، وأنها صفة للقارئ ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق ، بل هو كلام الرب ، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى ؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا صفة مخلوق ، وهذا كما تقول : إن الذكر غير المذكور ، لأن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور بذكره هو الله تعالى ، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين ، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى ؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح ، والمسبح هو الله تعالى ، والذي يحقق هذه الجملة النفي ، والإثبات ، والوجود ، والعدم. فإنك تقول : قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم ، وقراءته اليوم غير قراءته أمس ، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفي تارة أخرى فتقول : لم يقرأ زيد يوما ولم يوجد منه قراءة ، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم ، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته ، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول : عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس ، فعبادته اليوم غير عبادته أمس ، وعبادته أمس
    __________________
    (1) ليكن على ذكر منك ما علقناه على مواضع من هذا الكتاب وغيره من أن وصف القرآن القائم بالله المقروء والمكتوب ، والمخطوط ، والمسموع من قبيل وصف المدلول بوصف الدال عند السعد وغيره من المحققين (ز).

    ليست موجودة اليوم ، لكن المعبود موجود قبل أمس وفي اليوم لا يجوز أن يوصف بالشيء وضده. وعلى هذا نفس المحفوظ ، والمسموع ، والمكتوب ، فإن الكتابة توجد بعد أن لم تكن ، والحفظ يوجد بعد أن لم يكن ، والسمع يوجد بعد أن لم يكن ؛ ويتصور على الحفظ العدم بالنسيان. ويتصور على السمع العدم بالصمم ؛ ويتصور على الكتابة العدم بالغسل بالماء وطول الزمان والحرق بالنار ، لكن المحفوظ من كلام الله تعالى ، والمكتوب ، والمسموع لا يتصور عليه العدم بوجه من الوجوه ، لأنه قديم كذاته تعالى في القدم ، ولا تقول كذاته تعالى من جميع الوجوه ، لأنه لو كان كذاته تعالى من جميع الوجوه لوجب أن يكون خالقا رازقا محييا مميتا.
    * * *
    فصل
    [ويعلم من] جميع ما تقدم : أن القراءة تارة توصف بالصحة والحسن ، وتارة بالفساد والقبح. فيقال : قراءة فلان حسنة صحيحة جيدة ، ويقال : قراءة فلان قبيحة فاسدة ، فالقراءة تتصف بالشيء وضده ، لأنها صفة القارئ ، والمقروء بها لا يتصف بالشيء وضده ، لأنه صفة الباري. وكذلك أيضا القراءة تكون تارة طيبة مستلذة ، وتارة تأباها الطباع وتنفر عنها الأنفس ، لكن المقروء والمتلو من كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتغير بتغير غيره. وكذلك الكتابة تكون تارة بالذهب ، وتارة بالفضة ، وتارة بالمسك والعنبر ، وتارة تنحت في الخشب ، وتارة تكون بقطع الآجر ، فكتابة الذهب غير كتابة الفضة ، وكذلك كتابة المسك غير كتابة العنبر ، لكن المكتوب وهو القرآن كلام الله بالذهب هو المكتوب بالفضة ، وكذلك المكتوب بالمسك هو المكتوب بالعنبر ، وما أعلم أحدا يخالف في هذا إلا أحد رجلين : إما جاهل غبي ليس له حس ولا تصور ، وإما منافق مداهن ، نعوذ بالله من الجميع ونسأله حسن التوفيق في الدنيا والآخرة.
    فتحقق [من] جميع ما ذكرنا أن القراءة فعل من أفعال العباد ، والمقروء والمتلو لا يجوز أن يكون فعلا من أفعال العباد ، ولا نقول أيضا إنه من صفات الفعل لله تعالى بل هو من صفات الذات. يدل على صحة هذا القول أن رجلا لو حلف بالطلاق لأقمت من موضعي هذا حتى أفعل فعلا يكون طاعة من طاعات الله فقرأ آيات من القرآن ثم قام قبل أن يفعل شيئا آخر أنه قد برّ في يمينه ولم يحنث ، فعلم أن القراءة فعل القارئ الذي يثاب عليها تارة ويعاقب عليها أخرى ، والمقروء في حال

    الطاعة هو المقروء في حال المعصية ، وهذا أمر قد اتضح بحمد الله تعالى لمن له أدنى عقل وتصور.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يقول أحد إني أتكلم بكلام الله ، ولا أحكي كلام الله ولا أعبر كلام الله ولا أتلفظ بكلام الله ، ولا أن لفظي بكلام الله مخلوق ولا غير مخلوق ، بل الذي يجوز أن يقول : إني أقرأ كلام الله تعالى ، كما قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : 98] وكما قال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمّل : 20] ويجوز أن يقول : إني أتلو كلام الله ، كما قال تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : 92] ويجوز أن يقول إني أحفظ القرآن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن ثم نسيه ... الخبر». فكل ما نطق به الكتاب والسنة في القرآن جاز لنا أن نطلقه ، وما لا ينطق به كتاب ولا سنة فلا نطلقه في الله تعالى ، ولا في صفاته. فاعلم ذلك وتحققه.
    وأيضا فإن زيدا إنما يكون متكلما بكلامه ، ولا يجوز أن يكون زيد متكلما بكلام عمرو ، وكذلك لا يكون زيد أسود سوادا من عمرو ، ومن عجيب الأمر أن المجسمة الحشوية لا يجوزون أن يتكلم زيد بكلام عمرو وعمرو مخلوق ، وكلامه مخلوق ، والمخلوق إلى المخلوق أقرب في الشبه والذات والصورة والحكم ، ويجوزون أن يقولوا : نتكلم بكلام الله تعالى وكلام الله غير مخلوق ولا يشبه كلام الخلق في الذات والحكم.
    مسألة
    ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه ، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم ، وقد بيّن تعالى ذلك بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : 4] فأخبر تعالى أنه أرسل موسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل بلسان عبراني ، فأفهم كلام الله القديم القائم بالنفس بالعبرانية ، وبعث عيسى عليه‌السلام بلسان سرياني ، فأفهم قومه كلام الله القديم بلسانهم ، وبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان العرب ، فأفهم قومه كلام الله القديم القائم

    بالنفس بكلامهم ؛ فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما ، لكن الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط ، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان ، وقد بيّن تعالى ذلك فقال : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)) [الجاثية : 29] فقام الخط مقام النطق ، لما كان يدل على الكلام دلالة النطق ، لكن الخطوط تختلف بحكم الاصطلاح والمواضعة وقلة الحروف وكثرتها ، فحرف الإنجيل والتوراة كل واحد منها خلاف الآخر ، وكذلك حروف العرب وخطوطهم تخالف غيرها ، وكذلك حروف الهند وخطوطهم تخالف الجميع ، لكن لكل خط وحرف بين أهله يقوم لهم في الدلالة على الكلام القائم بأنفسهم مقام دلالة نطق ألسنتهم ، ويختصون بذلك في الفهم والاصطلاح عند كلام اللسان ، وعند رسم الحروف الخطوط ، حتى لا يفهم غيرهم ذلك إلا أن يتعلم لغتهم وخطوطهم ، فصحّ أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس دون غيره ، وإنما الغير دليل عليه بحكم التواضع والاصطلاح ويجوز أن يسمى كلاما إذ هو دليل على الكلام ، لا أنه نفس الكلام ، الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات ، وقد بيّن ذلك تعالى بقوله في قصة زكريا عليه‌السلام : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : 41] يعني أن لا تفهم الكلام القائم بنفسك باللسان ، وإنما أفهمه بالرمز والإشارة ففعل كما أمره تعالى ، فأخبر عنه فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)) [مريم : 11] فأفهم أمره الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه بالإشارة دون نطق اللسان ، وكذلك الأخرس الذي لا ينطق باللسان ولا يسمع الصوت ، إنما يفهمنا كلامه القائم بنفسه ، ونفهمه كلامنا القائم بأنفسنا بالإشارة دون نطق اللسان ، فحصل من هذه الجملة أن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا ، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحرف والأصوات ووجودهما ، فحقيق الكلام القائم بالنفس موجود عند الحرف والصوت ، لكن الخلق كلامهم مخلوق كهم وكلام الله ليس بمخلوق كهو ، سبحانه وتعالى. ونريد بقولنا كهو أن صفات ذاته لا توصف بالخلق والحدث ولا بشيء من الخلق والحدث ، كما أنه تعالى لا يوصف بالخلق والحدث. ولا بشيء من صفات الخلق

    والحدث ، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق ، لأن المعتزلة تشنع وتقول : إذا كان الباري عالما بعلم ومتكلما بكلام والكل قديم (1) يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل ، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو ، وهذا تمويه منهم على عقول العوام ، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة ، ويميلوا إلى باطلهم من نفي صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى ، وإن لم ينطقوا به ، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقا ضرورة ، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
    ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب ؛ ما نذكر (2) فمن ذلك قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1)) [المنافقون : 1] ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم ، إنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضا قوله تعالى مخبرا عن الكفار : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة : 8] فأخبر تعالى : أن القول بالنفس قائم وإن لم ينطق به اللسان ، والقول هو الكلام ، والكلام هو القول. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : 7] قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : 235] وأيضا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النّحل : 106] فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله ، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان ، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب ؛ فدلّ بهذه الآيات وما جرى
    __________________
    (1) وقول القاضي عضد الدين في الواقف : (لا ثبت في غير الإضافة) حاسم للنزاع بين الفريقين عند من أحاط خبرا بما يقوله ، وراجع حاشية الخيالي وعبد الحكيم على النسفية (ز).
    (2) لقد أحسن المصنف كل الإحسان في التدليل على الكلام النفسي بتوسع لا تجده في غير هذا الكتاب ؛ والنزاع بين الفريقين في إثبات ذلك ونفيه كما سبق (ز).

    مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات (1) على الكلام الحقيقي.
    ويدل على ذلك من جهة السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه». وهذا في حق المنافقين ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان ، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة ، وأن استغفار اللسان تبع لذلك ، فصحّ أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس.
    وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : إذا ذكرني عبدي في نفسه» فأثبت الذكر للنفس ، فالذكر والقول ، والكلام ، واحد ، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس.
    ويدل على ذلك أيضا قول عمر رضي الله عنه : زورت في نفسي كلاما فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان ، وعمر كان من أجل هذا اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة ، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام ، وكان في نفسي قول ، وكان في نفسي حديث ، إلى غير ذلك. وأنشد الأخطل :
    لا تعجبنك من أثير خطبة
    حتى يكون مع الكلام أصيلا

    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
    جعل اللسان على الفؤاد دليلا

    واعلم أن مذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن كلام الله القديم ليس بمخلوق ، ولا محدث ، ولا حادث ، ولا خلق ، ولا مخلوق ، ولا جعل ، ولا مجعول ، ولا فعل ، ولا مفعول. بل هو كلام أزلي أبدي هو متكلم به في الأزل ، كما هو متكلم به فيما لا يزال. لا أول لوجوده ، ولا آخر له ، وأنه لا يقال إن كلامه حكاية ولا عبارة ولا إني أحكي كلام الله ، ولا إني أعبر كلام الله ، بل نقول : نتلو كلام الله ، ونقرأ كلام الله ، ونكتب كلام الله ، ونحفظ كلام الله ، وأنه يجب التفرقة بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، والكتاب والمكتوب ، والحفظ ، والمحفوظ ، ولا يجوز
    __________________
    (1) وهذا يعود إلى ما حققه السعد كما سبق (ز).

    أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت ، ولا يقال إن القديم يجوز حلوله في المحدث كحلول الشيء في الشيء. وقد قدّمنا الأدلة على جميع ذلك وحققناه ، ومذهب المشبهة الحلولية المجسمة ؛ أن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم ، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة ، لا أخصص بعضهما على بعض ، وهذا قول يفضي إلى قدم العالم عند كل محقق ، ومنهم من قال : بل الأصوات والحروف إذا ذكرنا الله تعالى بها أو تلونا به كلامه قديمة ، فإذا ذكرنا بها غير الله وأنشدنا بها شعرا كانت محدثة ، وهذا جهل عظيم وتخبط ظاهر ، لأن الشيء عندهم على هذا القول تارة يكون محدثا ثم يصير قديما ، وتارة قديما ثم يصير محدثا ، وليس في الجهل أعظم من هذا وكفى به ردا لقولهم. ومنهم من يقول : أصواتنا وحروفنا بالقرآن قديمة وبغير القرآن محدثة ، وهذا مثل القول الأول على الحقيقة وإن اختلفت العبادة ، وقد بيّنّا فساده ، ومنهم من حدث في هذا الوقت وبان له فساد الأقوال المقدّم ذكرها فقال بجهله : أقول إن القرآن بأصوات وحروف تكلم بها الله ، وإن كلامه حروف وأصوات ، لكن حروف قديمة وأصوات قديمة. لا تشبه هذه الحروف والأصوات المخلوقة التي تجري في كلام الخلق ، وهذا أيضا جهل من قائله ، ويؤدي أن لا يكون في المصاحف القرآن. لأن الحروف التي تكتب بها المصاحف هي هذه الحروف التي تجري في سائر ما يكتب ويؤدي إلى أن القرآن الذي نقرؤه ليس بقرآن ، لأن القرآن بحروف وأصوات قديمة ، ولا تشبه هذه الحروف والأصوات ، ونحن لا نسمع إلا صوتا مثل هذه الأصوات ، ولا نرى حرفا ولا نسمعه إلا مثل هذه الحروف ؛ وهذا القول يوجب أن لا يكون عندنا قرآن بالجملة أو يؤدي إلى أن يكون هذا القرآن بهذه الحروف والأصوات المعروفة غير ذلك القرآن الذي هو بحروف وأصوات قديمة ، لا تشبه هذه الحروف والأصوات ، والجميع فاسد باطل ، وسيأتي بطلان مقالتهم في هذا وغيره في جواب ما يزعمون أنه حجة لهم في هذا وغيره ، إن شاء الله تعالى.
    وزعمت المشبهة أن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، وزعموا أن القديم يحل في المحدث (1) ويختلط به ، وتمسكوا في جميع ذلك بآيات وآثار زعموا أنها حجة لهم فيما صاروا إليه من هذه البدعة العظيمة التي جميعها يدل على أن كلام الله مخلوق محدث ، فاحتجوا في التلاوة هي المتلو ، وأن الله يسمى تاليا ، ولا فرق
    __________________
    (1) كما هو رأي السالمية (ز).

    عندهم في أن يقال تال أو متكلم. قالوا : والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : 252] وبقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : 3]. قالوا : فسمّى نفسه تاليا كما سمّى نفسه متكلما وقائلا ، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين :
    أحدهما : أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم ، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو ، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : 252] والحق هاهنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه ، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها ؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)) [السّجدة : 3] وأيضا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [سبإ : 23] فدلّ على أن الحق هو المتلو القديم ، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى ، قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) [العنكبوت : 48] فنفى قبل أن يكون تاليا ، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت ، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.
    والجواب الثاني : أن قوله «نتلو» يريد به بأمر من يتلو عليك ، وهو جبريل عليه‌السلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه ، وهذا صحيح ، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب ، فالدليل عليه قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : 101] وقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)) [الشّعراء : 193 ـ 195] وصار هذا كقوله في قوم نوح : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11)) [الحاقّة : 11] يعني السفينة ، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه ، والحامل فيها نوح عليه‌السلام ، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه ، والدليل على الحامل أنه كان نوحا عليه‌السلام ، قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : 40] وهذا أيضا كقوله تعالى في قصة مريم عليها‌السلام : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : 91] والنافخ كان جبريل عليه‌السلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) [النّحل : 26] وجبريل عليه‌السلام الذي كان أتى البنيان ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه

    وكذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : 52] والذي جاءهم بالكتاب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن لما كان مجيئه بالكتاب إليهم بأمره تعالى أضاف ذلك إلى نفسه ، والقرآن من هذا مملوء إذا تتبع. إنه يضيف الفعل إلى نفسه وإن كان الفاعل له غيره ، لما كان بأمره.
    وأما الدليل من كلام العرب ، فإنه يقال : نادى الأمير في البلد ، فيضاف النداء إليه لما كان بأمره ، وإن كان المنادي غيره ، فصحّ ما قلناه.
    ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : 3] أتقولون : إن الله تعالى قاصّ؟ هذا قول لا يجوزه أحد من المسلمين ؛ لكن لما قصّ عليه جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى أضاف القصص إلى نفسه ، لما كان بأمره ، وقد بيّن ذلك بقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : 3] فالقرآن كلامه وصفته ، وقصّ جبريل عليه‌السلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الذي تضمن قصص الأولين وأخبارهم. فإن احتجوا على أن القراءة هي المقروء بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قرأ الله (طه (1)) [طه : 1] و (يس (1)) [يس : 1] قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليها» قالوا : فأضاف القراءة إلى الله تعالى. فالجواب عن هذا من وجهين :
    أحدهما : أنه ذكر أن القراءة وجدت قبل السموات والأرض بألفي عام ، ودل على أنها لم تكن موجودة ثم وجدت ، والمقروء القديم ليس لوجوده أولية ، بل هو موجود بوجوده تعالى ، فدلّ على الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن المقروء موجود بوجوده تعالى.
    والجواب الثاني : أنه أمر بعض الملائكة أن يقرأ (طه (1)) [طه : 1] و (يس (1)) [يس : 1] قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة ذلك قالوا : وأضاف القراءة إلى نفسه. لما كانت بأمره ، فصار هذا كقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : 42] والمتوفى هو ملك الموت ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : 11] لكن لما كان توفّيه لهم بأمره أضاف ذلك إلى نفسه.
    * * *

    فصل
    ومما يقوي جميع ذلك من السنة : أن الفعل يضاف إلى الآمر به ، وإن كان لم يفعله بنفسه ، وإنما أمر بفعله ؛ ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا ؛ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يباشر الرجم بنفسه ، لكن لما أمر الصحابة جاز أن يضاف إليه.
    وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قطع يد سارق ثوب صفوان ومعلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما باشر القطع ، لكن أمر به ، فأضيف الفعل إليه لما صدر عن أمره. وكذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جلد شارب الخمر أربعين ، ولم يباشر الجلد بنفسه ، لكن لما كان عن أمره جاز إضافة الفعل إليه. والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا. وأيضا يقال : جبى عمر رضي الله عنه خراج العراق ، ولم يباشر الجباية بنفسه ، لكن لما جبى بأمره جاز إضافة الفعل إليه. وكذلك يقال : افتتح عمر رضي الله عنه الشام والأمصار ، وهو لم يباشر ذلك بنفسه ، لكن الصحابة والجند بأمره ، فصحّ بهذه الجملة أن التلاوة فعل التالي ، لكن هي بأمر الله تعالى وإيجاده ، فصحّ أن يضاف إليه القراءة والتلاوة على هذا الوجه ، فأما المتلو والمقروء فليس بفعل لأحد بل هو كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته الذي ليس بمخلوق ولا يتصف بشيء من صفات الخلق.
    * * *
    فصل
    ثم نقول لهؤلاء الجهلة الضّلال : كيف يجوز لكم أن تقولوا إن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، والله تعالى قد فصل بينهما ، وجعل القراءة فعل القارئ ، والمقروء هو القرآن الذي هو كلام الباري ، في غير موضع من كتابه.
    أحدها : قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : 98] فأفرد القراءة عن القرآن ، وأن القراءة فعل الرسول ، والمقروء ليس بفعل لأحد ، بل هو كلام الله القديم ، وهذا كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) [آل عمران : 41] فأفرد الذكر عن المذكور ، فالذكر فعل الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى القديم الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] وأيضا قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزّمّل : 20] وقوله تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) [العنكبوت : 45] وقوله تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : 92] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : 29] وفي القرآن أكثر من ألف موضع يدل على الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ، لمن له حس سالم ، وعقل ثابت. ومن القدر الذي قدمناه دليلان :

    أحدهما : أنه تعالى ذكر تلاوة ، ومتلوا ، وقراءة ، مقروءا ، فبطل بذلك زعمهم أنه شيء واحد.
    الثاني : أنه أمر بالقراءة ، والتلاوة ، والأمر هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. والصفة القديمة التي هي المقروء ، والمتلو لا يصح فيه الفعل ولا استدعاء الفعل ، فصحّ أن المأمور به استدعى غير المقروء ، والمتلو هي القراءة والتلاوة. فافهم هذا التقرير فإنه يوجب الفرق بين الأمرين ، ضرورة الإشكال فيه. ثم نقول لهم : القراءة قد اختلفت وتنوعت أنواعا ، أفتقولون إن المقروء الذي هو القرآن مختلف متنوع؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : لا فقد ثبت أن الذي جاز عليه الاختلاف والتنوع غير الذي لم يجز عليه ذلك ، وأيضا فإن كل قراءة منسوبة إلى قارئها ، فيقال هذه قراءة أبي ، وهذه قراءة ابن مسعود ، وكذلك في سائر القراءات ، ولا يجوز أن ينسب المقروء الذي هو القرآن إلى أحد من الخلق ، فيقال هذا قرآن أبي ولا قرآن ابن مسعود ، فصحّ أن القراءة فعل القارئ ، فصحّ أن تنسب قراءة كل واحد إليه ، لأنها فعله الذي يثاب ويمدح عليها تارة ويعاقب ويندم عليها أخرى ، والمقروء بسائر القراءات كلام الله تعالى الذي ليس بفعل لأحد ، فصحّ الفرق بين الأمرين.
    * * *
    فصل
    ثم نقول لهم : ما تقولون فيمن قال : إن قرأت بقراءة أبي جعفر يزيد القعقاع ـ شيخ نافع ـ فعبدي حر ، فقرأ بقراءة الجحدري عاصم ، أيعتق عبده أم لا؟ ليس فيه خلاف بين المسلمين. ولو قال إن قرأت مقروء ابن كثير فعبدي حر ، فقرأ بقراءة ابن عامر عتق عبده ، لأن المقروء شيء واحد ، وإن اختلفت القراءات.
    * * *
    فصل
    ثم نقول : لو اجتمع مائة قارئ فقرءوا القرآن أليس عدة القراء مائة ، كل واحد منهم يثاب على قراءته ، فالثواب مائة ثواب على مائة قراءة ، أفتقولون : إن القرآن الذي قرءوه بقراءتهم مائة قرآن أم قرآن واحد ، فلا يقول عاقل إلا أنه قرآن واحد ، لكن القراءات متعددة ، فصحّ الفروق بين القراءة والمقروء.
    * * *

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:53

    فصل
    ثم نقول لهم : إذا قرأ القارئ القرآن وحصل له الثواب ، أحصل له الثواب على فعل فعله أو على غير فعل؟ فإن قالوا : على غير فعل فعله وجب أن يكون هذا الثواب يحصل للساكت كما حصل للقارئ ، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قالوا : على فعل فعله ، صحّ أن الذي فعل القراءة ، أو السماع إلى القراءة ، والمقروء المتلو الذي هو كلام الله ليس بفعل لأحد ، وكذلك المسموع ليس بفعل لأحد ؛ فصحّ الفرق بين الأمرين. فافهم.
    وأيضا فإنه يجوز إذا أعرب القارئ القراءة ، ومكن ما يجب تمكينه ، ووقف فيما يجب الوقوف عليه ، وبدأ بما يجوز البداءة به ، وقطع ما يجوز القطع عليه ، ووصل ما يجوز وصله ، فجائز أن يقال فلان حسن القراءة ، جيد القراءة ، وإذا كان بالعكس من ذلك جاز أن يقال : فلان ليس بحسن القراءة ولا جيد القراءة ، ولا يجوز أن يقال لمقروء غير حسن ولا جيد ، بل المقروء حسن ، سواء كانت القراءة حسنة أو غير حسنة. فافهم الفرق بين الأمرين.
    ثم نقول لهم خبرونا : أليس الله تعالى فرض علينا القراءة في الصلاة؟ فإذا قالوا : بلى. قلنا : أفرض علينا شيئا نفعله أو غير شيء نفعله؟ فإن قالوا : فرض علينا شيئا نفعله. قلنا : وما هو هذا الشيء؟ فلا بد أن يقولوا : القراءة. قلنا : فقد صحّ أن القرآن موجود قبل القارئ له وقراءته في الصلاة ، ثم أمره تعالى بأن يقرأ : أي يفعل فعلا يسمى قراءة ففعل العبد صفة العبد لا صفة الرب ، هذا بمنزلة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) [الأحزاب : 41] أليس المذكور غير الذكر الذي هو فعل الذاكر المأمور بفعله ، فكذلك القراءة فعل القارئ والمقروء القرآن ، ثم نقول لهم أليس كلام الله تعالى موجود بوجوده ، قديم بقدمه قبل أن يخلق خلقا ، فلا بد من نعم. فنقول : فهل يصح وجود القراءة من القارئ قبل وجوده؟ فلا بد من لا. فنقول : ما كان موجودا قبل القارئ فهو القرآن الذي هو كلام الله ، وما وجد من القارئ بعد أمره بالقراءة فهو فعله لا محالة ، وهذا قدر لا يخفى على بشر سليم العقل.
    فإن احتجوا على أن الكلام القديم يوصف بالصوت والحرف ، بقوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : 6] قالوا : والذي يسمع إنما هو صوت وحرف ، وقد نسبه إليه ، فدل على أنه متكلم بصوت وحرف. فالجواب من وجهين :

    أحدهما : أن يقال لهم : ما أنكرتم أن تكون هذه الآية حجة عليكم ، وذلك أن كل عاقل يقول : إن المشرك لا يسمع كلام الله بلا واسطة ، وهي قراءة القارئ ، فلا بد من وجود القراءة التي هي حروف وأصوات ، فيحصل لهذا المشرك السماع حينئذ لكلامه تعالى ، فحصل معنا عند ذلك مسمع أسمع كلام الله بإسماع أوجده ، وهي قراءته التي هي حروف وأصوات ، ومسموع وهو كلام الله تعالى الذي لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ، لأن الحروف والأصوات يتقدم بعضها على بعض ، وصار هذا بمنزلة من أسمعنا الله بذكره ، بأن قال : يا الله. قلنا : حصل معنا مسمع وهو الذاكر ، وإسماع أسمعنا به المسموع ، وهو المذكور ، فالإسماع يقع بحروف وأصوات ، فيجوز لكل أن يقول : إن الله المذكور هو حروف وأصوات (1).
    الجواب الثاني : أن المراد بهذه الآية ما هو سماع الحروف والأصوات إنما المراد بهذه الآية : حتى يتدبر كلام الله ويفهم ما فيه. لعله يرجع عن شركه ويهتدي ، فالحروف والأصوات لا تهدى ، إنما الذي يهدى هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى. دليله : قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : 9].
    جواب ثالث : وهو أن يقال لهم : إذا كان الكلام القديم أصواتا وحروفا.
    والكلام المخلوق الذي من الشعر والخطب أصواتا وحروفا ، فقد صار الكلام القديم كالكلام المخلوق ، وهذا القول يوجب أن يكون كل كلام قديم أو محدث [سواء] لأن الحرف والصوت في قول القائل إذ أخبر عن قول اللعين فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النّازعات : 24] فاعبدون ، فصورة الحروف في قول فرعون أنا ربكم ، كصورتها في قراءة القارئ (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 92] ، فصحّ أن الحروف والأصوات ليست [كلام] فرعون ، ولا الرب تعالى ، فالحرف والصوت يعبر به عن كلام فرعون ، ويقرأ به كلام الله تعالى ، فصحّ ، أن الحرف والصوت أداة يقرأ بها الكلام القديم ، لا أن الحرف والصوت نفس الكلام القديم.
    جواب رابع : وهو أن يقال لهم : خبرونا عن قولكم إن الله تعالى متكلم بأصوات وحروف ، أهي هذه الحروف والأصوات الجارية الدائرة في سائر كلام الخلق ، أو غيرها؟ فإن قالوا : هي هذه فقد جعلوا جميع كلام الخلق قديما كله ؛ وإن قالوا : بل هي غير هذه الحروف والأصوات الجارية في كلام الخلق. قلنا : فصحّ
    __________________
    (1) يعني الاسم المسمى (ز).

    حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون ؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى ، بل هو غائب عنا ، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضا يجب أن لا يكون في المصحف قرآن ؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق ، وكل هذين القولين باطل ؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم : خبرونا : أيصح خروج حرف من غير مخارج؟ فإن قالوا : لا. قلنا : فتقولون إن الباري ـ تعالى عن قولكم ـ ذو مخارج من شفة للفاء ؛ وحلق للحاء ؛ ولسان للثاء ؛ وإن قالوا : نعم جسموا بإجماع المسلمين (1) ؛ وإن قالوا : لا تحتاج الحروف إلى مخارج ؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم ، وذلك أن كلامه منه خرج ، وكلامه عندهم حروف ، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج ؛ وكل هذا القول كفر وضلال ، وسفه وحمق وجهل عظيم.
    * * *
    فصل
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (حم (1)) [غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1] و (الم (1)) [البقرة : 1 ، آل عمران : 1 ، العنكبوت : 1 ، الروم : 1 ، لقمان : 1 ، السجدة : 1] ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله ، فصحّ أن كلامه حروف ، قلنا : الجواب عن هذا من وجوه :
    أحدها : إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى ، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف ، ولام ، وميم نفس الكلام القديم ، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل ، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم ، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف ، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل
    __________________
    (1) فتعسا لمن عزا إلى أحمد ـ كما سبق ـ سماع موسى التوراة من الله من فيه ، كما في طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى في ترجمة الإصطخري ؛ وذكره ابن بدران أيضا في المدخل. نعوذ بالله من الخذلان (ز).

    قديما ، هذا جهل ظاهر. وإن قلتم المفهوم من (الم (1)) [البقرة : 1] و (حم (1)) [غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشّورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1] ونحو ذلك هو كلام الله تعالى عند نظر الناظر إليها ، وأن المسموع عند قراءة القارئ (الم (1)) [البقرة : 1] و (حم (1)) [الشّورى : 1] ونحو ذلك هو كلامه تعالى وهذا صحيح ، وصحّ بذلك أن الكلام القديم يفهم بالحروف المنظومة ، على اختلاف نظمها بين أرباب تلك الخطوط والأشكال كلام الله تعالى ، فكذلك صحّ أن القراءة هي حروف وأصوات بها يسمع كلام الله القديم على حسب اختلاف اللغات بين أربابها ، لا أنها نفس كلامه القديم. وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف المقطعة في أوائل السور على ثمانية أقوال :
    أحدها : أنها أسماء من أسماء القرآن ، كالذكر والفرقان ، وهذا قول قتادة وابن جريج.
    الثاني : أنها اسم لكل سورة ذكرت في أولها ، وهذا قول زيد بن أسلم.
    الثالث : أنها يعبر بها عن اسم الله الأعظم ، وهذا قول السدّي ، والشعبي.
    والرابع : أنها أقسام أقسم بها الله تعالى ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة.
    والخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، فالألف من أنا ، واللام من الله ، والميم من أعلم. فكان معنى ذلك أنا الله أعلم. وهذا قول ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ونحوه عن ابن عباس أيضا ؛ والعرب قد تعبر عن الكلمة بحرف منها ، كقول القائل : قلت لها قفي. قالت : قاف. أي وقفت ، ومثله في كلام العرب كثير. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : (كهيعص (1)) [مريم : 1] الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق.
    السادس : أن كل حرف منها يدل على معان مختلفة ، فالألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد ، والألف آلاء الله ، يعني نعمه ، واللام ملكه ، والميم مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة ، آجال ذكرها.
    والسابع : أنها حروف من حساب الجمل ، لما روي عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : مر أبو ياسر [ابن أخطب] ورسول الله يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة (الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : 1 و 2] فأتاه أخوه حييّ بن أخطب ، فأخبره ، فقال حييّ بن أخطب : وأقبل على اليهود ، فقال لهم : الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم

    أربعون ، وهذه أحد وسبعون سنة ، ثم [ذهب حيي مع هؤلاء النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و [قال رسول الله فهل معك غير هذه؟ قال نعم (المص (1)) [الأعراف : 1] قال : أثقل وأطول ، والألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه أحد وستون ومائة سنة ، ثم قال : هل معك غير هذه يا محمد؟ قال : نعم ، قال : ما ذا؟ قال : (الر) [يونس : 1 ، هود : 1 ، يوسف : 1 ، إبراهيم : 1 ، الحجر : 1] فقال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم (المر) [الرّعد : 1] قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. قال : لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثير. ثم قاموا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو يسار لأخيه حيي ولمن معه من اليهود : وما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. قالوا : والله لقد تشابه علينا أمره ، قيل فنزلت فيهم (1) : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7)) [آل عمران : 7].
    والثامن : أنها حروف هجاء ، أعلم الله بها العرب حين تحداهم ، أن تلاوة القرآن بحروف كلامهم هذه التي عليها بناء كلامهم ، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم ، إذ لم يخرج تلاوته عن مباني كلامهم.
    جواب ثاني : وهو أنك تقول : إذا قلتم أن الحرف المفرد إذا أتى به في تلاوة كلام الله هو نفس كلام الله ، فما تقولون فيمن أسقط شيئا من كلام الله ، أيجوز ذلك أم لا؟ فلا بد من أن يقولوا لا يجوز. فيقال لهم : خبرونا عن جماعة من القراء من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان الذين قرءوا (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)) [الفاتحة : 4] وهم الأكثر ، قد أسقطوا ألفا هي في قراءة غيرهم. لأن غيرهم يقرءون مالك بالألف. فإن قالوا : أخطئوا فلا يجوز لهم ذلك. وهو القول الصحيح الصواب. قلنا : فصحّ أن الألف ليس نفس كلام الله القديم ، لأنه لا يجوز لأحد أن
    __________________
    (1) والخبر ضعيف (ز).

    يسقط منه شيئا (1) ، وإنما الألف صفة قراءة دون قراءة ، فالمقروء مع إثبات الألف هو المقروء مع إسقاط الألف شيء واحد ، لا يزيد بزيادة الحروف ولا ينقص بإسقاط الحروف ، والقراءة تزيد بزيادة الحروف وتنقص بإسقاط الحروف ، وقد قيل : إن من قرأ القرآن بقراءة ابن كثير كتب له أجر ختمة وثلث ، لأنه يزيد في الحروف أكثر من سائر القراء لأنه يقرأ لديه وإليه وعليه ، والكسرة عندهم تقوم مقام حرف ، وقرأ في التوبة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : 25 و 266 ، آل عمران : 15 ، 136 ، 195 ، 198] وهذا يوضح لك أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» أن الحروف عائدة إلى القراءة. وطول حروفها دون المقروء الذي هو كلام الله تعالى لا يزيد ولا ينقص. وسنذكر ذلك في الجواب عن هذا الخبر إذا احتجوا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
    جواب آخر : وهو أنك تقول : خبرونا عن حروف كلام الله على زعمهم ، أهي ثمانية وعشرون حرفا أو أكثر أو أقل؟ فإن قالوا هي ثمانية وعشرون حرفا فقد جعلوا القديم مما يحله الحصر والعد والافتتاح والانتهاء [وهي] صفة المخلوقات لا صفة القديم. وإن قالوا : أكثر. قلنا : أكثر إلى ماله حد أو إلى ما لا حد له؟ فأي القولين قالوا كان باطلا ، لأن القرآن لا يخرج في الكتابة والتلاوة على أكثر من هذه الثمانية وعشرين حرفا ، فعلى قولهم يجب أن يكون معنا بعض القرآن لا كله ، لأن القرآن عندهم حروف يزيد على هذه الحروف ، ولعل الذي يكون معنا من القرآن أقله ، لا سيما إن قالوا إن الحروف القديمة لا يدخلها حصر ولا عد ، وهذا قول ساقط واه عند كل عاقل محصل ، فلم يبق إلا أن الحروف والأصوات أدوات نكتب بها ونتلو بها الكلام القديم ، وغير الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. فافهم ذلك.
    وجواب آخر : وهو أن تقول لهم : خبرونا أليس قد قرأ سائر القراء غير نافع وابن عامر في سورة الحديد في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : 24] بإثبات الهاء والواو ، وقرأ نافع وابن عامر بإسقاط الهاء والواو ، فالذي أسقط من الهاء والواو كلام الله تعالى أو قراءة كلام الله تعالى ، فلا يجوز لعاقل أن
    __________________
    (1) وإسقاط الألف وإثباتها متواتران ، فيكونان كآيتين ، ولم يسقطها قارئ بنفسه ولا أثبتها قارئ آخر بنفسه ، فلا تكون في الجواب وجاهة كما سيأتي (ز).

    يقول الهاء والواو كلام الله ؛ لأن من أسقط شيئا من كلام الله كفر (1) ولا خلاف بين المسلمين أنهما على الحق ، وربما رجحوا قراءتهما على غيرهما ، فلم يبق إلا أن الحروف آلة للقراءة تسقط تارة وتثبت أخرى ، والمقروء المتلو ثابت لا يحتمل النقصان ولا الزيادة ، لأنه قديم لكن المخلوق يجوز ثبوته تارة وإسقاطه أخرى.
    * * *
    فصل
    فإن احتجوا على إثبات قدم الحروف ، وأن كلام الله القديم يتصف بالحروف ، بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزل القرآن على سبعة أحرف».
    فالجواب : أنه لا حجة في هذا الحديث من وجوه عدة ، لأنكم تخالفون هذا الحديث. لأن الرسول قال على سبعة أحرف ، وأنتم على ثمانية وعشرين حرفا ، فقد أسقطتم متن هذا الحديث ، ولم تقولوا به ، فلا حجة لكم فيه.
    جواب آخر : وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل على سبعة أحرف» ولم يقل تكلم الله بحرف ، وأنتم إنما تريدون إثبات الحرف لكلامه ، لا نزول كلامه فلا حجة لكم فيه.
    جواب آخر : وهو أن قوله عليه‌السلام على سبعة أحرف ، لم يرد بها حروف التهجي ، وإنما أراد بها غير ذلك ، بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسر ذلك بغير حروف التهجي ، لأنه قال : «على سبعة أحرف» ثم فسرها فقال : «أمر ، ونهي ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص» وقال بعض الصحابة والتابعين يعني على سبع لغات ، مما لا يغير حكما من تحليل ولا تحريم ، مثل قوله تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) [القصص : 31] فكانوا لا يفرقون بين قول التالي أقبل أو هلم ، أو يقال : لأن معانيها متفقة وإن اختلفت اللغات فيها ، وما جرى هذا المجرى ، وكانوا في صدر الإسلام مخيرين فيها ، فلما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن على أحدها ، وهو قوله (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) منع هذا الإجماع من غير أقبل إلى هلم وتعال. ونحو ذلك ، وقيل عن بعض الصحابة والتابعين : إن قوله على سبعة أحرف أراد بذلك على سبع لغات للعرب ، في صيغة
    __________________
    (1) والإسقاط والزيادة في مثل هذه المواضع متواتران ؛ فيكونان في حكم آيتين فلا وجاهة في هذا الجواب. وكفى باقي الأجوبة (ز).

    الألفاظ في التلاوة وكيفية مخارجها ونقص حروفها وزيادتها ووجوه إعرابها ، كالذي اختلف فيه القراءات ، فقرأ بعضهم : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : 133] بغير الواو ، وقرأ آخرون بواو ، وقرأ بعضهم «فيكون» بالنصب في مواضع ، وقرأ آخرون فيكون بالرفع فيما نصبه الأولون ، وقرأ بعضهم : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : 37] فنصب آدم ورفع كلمات وهو ابن كثير ، وقرأ آخرون برفع آدم ونصب كلمات ، إلى نحو هذا مما لا يحصى عددا ، فبطل احتجاجهم بالإجماع مما نقل عن الرسول والصحابة والتابعين أن أحدا منهم قال إنه أريد بالسبع حروف التهجي ، وإنما المراد به اختلاف القراءات دون غيرها ما روي أن عمر رضي الله عنه مرّ ببعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأه إياها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : فكدت أن أساوره ، يعني أعجل عليه. فأبطش به ، ثم قال : لببته حتى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأتنيها فقال : خلّ عنه. ثم قال : اقرأ ، فقرأ عليه القراءة التي سمعتها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت عليه القراءة التي أقرأنيها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، الكل شاف كاف فاقرءوا ما تيسر منه» فأد هذا الحديث وجوها :
    أحدها : أن الحروف واختلافه صفة القراءة التي يجوز فيها الاختلاف ، لا كلام الله القديم الذي لا يجوز فيه الاختلاف (1).
    الثاني : أن عمر ما أنكر عليه أن القرآن المقروء بقراءته كلام الله ، إنما أنكر عليه القراءة التي هي صفة القارئ وظن أن هذه القراءة فاسدة وقراءته أعلمه الرسول عليه‌السلام أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، وإن اختلفا ، لأن المقروء بها لا يختلف لاختلافها.
    الثالث : أن الرسول أخبر أن القرآن يقرأ على سبع قراءات ، وأن تعدد القراءات لا يدل على تعدد القرآن ؛ لأن السبع المقروء بها واحد ، وهو كلام الله القديم ، الذي لا يشبه كلام الخلق ، ولا يختلف في حال من الأحوال ، وإن اختلفت القراءات. فافهم التحقيق ترشد إن شاء الله تعالى.
    * * *
    __________________
    (1) كان أحمد يقول : القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق : فما تواتر من زيادة ونقص كلاهما أبعاض القرآن باعتبار الوجود العلمي ، فلا وجاهة في هذا الجواب (ز).

    فصل
    فإن احتجوا على أن الله تعالى متكلم بحروف ، بما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول ألم حرف ، لكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم حرف» قالوا : فدل على [أنه] تكلم بحروف ، فالجواب من وجوه :
    أحدها : أن الحديث لا حجة فيه على ما تريدون ، لأنه لم يقل تكلم الله بحروف ، وإنما قال : من قرأ فله ؛ وهذا لا حجة فيه.
    جواب آخر : وهو أن الأجر إنما يقع على الطاعة التي هي القراءة ، لا على القديم الذي هو كلام الله ، ونحن نقول : إن الحرف عائد إلى القراءة لا إلى المقروء ، والذي يحقق ذلك أنه إذا جلس اثنان حافظان لكلام الله تعالى وهما ساكنان ؛ أليس كل واحد منهما معه كلام الله في صدره ، كما أخبر تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : 49] ولا يحكم بأن لكل واحد منهما حسنة ، وإن كان كلام الله موجودا معهما ؛ فإذا قرأ أحدهما وسكت الآخر ، أليس يحصل للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، لوجود القراءة منه ، وليس للساكت منهما هذه الحسنات ، وإن كان معه كلام الله القديم على الوجه الذي ذكرنا ، وإنما زاد عليه هذا ، بأن وجدت منه القراءة التي هي حروف وفعل منه يسمى طاعة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادات أمتي قراءة القرآن» فصحّ أن الثواب على الفعل الذي هو طاعة ، لا على الكلام القديم ، فكان الحرف صفة التلاوة لا صفة المتلو.
    جواب آخر : وهو أنه قد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أضاف الحرف إلى التلاوة ، لا إلى كلام الله القديم ، وهو ما روى عبد الله بن مسعود أن الرسول قال : «تعلموا القرآن فإنه مأدبة الله فتعلموه واتلوه فإنكم تؤجرون على تلاوته بكل حرف عشر حسنات».
    فأضاف الحرف إلى التلاوة لا إلى المتلو ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهم الجاهل أنه حجة له.
    * * *
    فصل
    فإن احتجوا في إثبات الصوت لكلام الله تعالى ، وأنه متكلم بأصوات ، بما روي في الحديث : «إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه

    من قرب» (1) الخبر ... قالوا : فقد أضاف الرسول عليه‌السلام الصوت إلى الله تعالى ، فصحّ ما قلناه ، الجواب من أوجه :
    أحدها : أنك تقول أولا لا حجة لكم فيه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال تكلم الله بصوت ، ولا قال بصوت ، ولا قال كلام الله أصوات ، كما تزعمون بجهلكم ؛ وإنما قال نادى الله بصوت ، وليس الخلاف إلا أن كلامه أصوات ، فلا حجة لكم فيه.
    جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي فيه ما يدل على [أن] الصوت من غير الله بأمره ، لأنه روي إذ كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، يأمر مناديا فينادي ، فصحّ أن النداء من غيره ، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه ، كما يقال : نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال : أمر الخليفة مناديا فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا ، ولا فرق بين الموضعين ، فإن كل عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه ، وأن يضاف إليه ، وإن لم يكن هن المنادي بنفسه ، ويصحح جميع ذلك القرآن ، قال الله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)) [ق : 41 ، 42] فأضاف النداء إلى المنادي ، فصحّ أن الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء ؛ ومن عجيب الأمر أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا ، كالخليفة والأمير ، وينفون عنه ذلك ثم يجوزونه في حق رب العالمين.
    جواب ثالث : وذلك أنا وكل محقق يقول : إن هذا الصوت ليس بموجود اليوم ، وإنما يكون يوم القيامة ، وكلام الله قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، فصحّ أن هذا شيء لم يكن بعد ، وإنما يكون يوم القيامة ، ومن زعم أن صفة الله تعالى ليست بموجودة اليوم ، وإنما توجد يوم القيامة فقد جعل كلام الله تعالى مخلوقا لا محالة ، فصحّ بهذه الجملة أن الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى ، وإنما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء في ذلك اليوم.
    __________________
    (1) يريد به حديث جابر ، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو ضعيف. وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد ، وهو ممن لا يحتج بهم عند بعضهم ، ولذا علقه البخاري بقوله «ويذكر» على أن كون الإسناد مجازيا متعين بحديث الدار قطني «يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم» .. الحديث. راجع ما علقناه على السيف الصقيل (453) (ز).

    جواب آخر : وهو أن كل ما أضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له ، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة ، لأن الخبر قد جاء بقول الله تعالى : «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، جعت فلم تطعمني ، عطشت فلم تسقني ، عريت فلم تكسني» فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر ، ومن زعم أنه يجوع ويعطش ، ويمرض ويعرى ، فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : 73] على قراء من قرأ بالنون [المفتوحة] والنافخ إسرافيل. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : 57] فأضاف الأذية إليه ، ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة ، فلم يبق إلا أن النداء والصوت حصل من الصائت المأمور ، لا من الآمر ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضاف إليه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) [الأعراف : 52] وإنما جاء به محمد عليه‌السلام بأمره. وقال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر : 37] والطامس جبريل ، وميكائيل طمسا أعين قوم لوط ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه وكذلك يقال : رجم وجلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الراجم والجالد غيره ، لكن لما كان بأمره حسن أن يضاف إليه. فافهم الحق لتبطل به الباطل.
    فإن احتجوا بما روي : أن الله تعالى إذا تكلم الله بالوحي ، وروي بالأمر من الوحي جاء له صوت كجر السلسلة على الصفا (1). فالجواب عن هذا من وجوه عدة :
    أحدها : أن هذا هو الحجة عليكم ، لأن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت الذي في الخبر الأول ، لأن ذلك قال فيه «يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» وهذا الصوت إنما يسمعه بعض الملائكة ، فصحّ أن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت ، ولو كان الصوت صفة قديمة لما اختلف ولا تغير لأن القديم لا يجوز عليه الاختلاف ، ولا التغير ، فلما اختلف وتغير دلّ أن ذلك صفة الخلق لا صفة الحق. فافهم.
    جواب آخر : وذلك أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي ، جاء له صوت ، ولم يقل إذا تكلم الله بصوت فالوحي غير الموحي ، لأن الموحي كلام الله تعالى ، والوحي إنزال كلام الله ، وإعلام كلام الله ، والذي يدل على صحة ذلك القرآن. وذلك أن الله تعالى فصل بينهما فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً) [الشّورى : 7] فالوحي إنزال القرآن ،
    __________________
    (1) والمحفوظ هو الموقوف ، كما ذكره الدار قطني في العلل ، ولا يحتج بالموقوف في باب الصفات ، والسكري في (خلق الأفعال) مختلط لا يحتج به عند ابن أبي حاتم ، وفي سند خبر الصوت عنعنة الأعمش وهو مدلس. راجع ما ذكرناه فيما علقناه على الأسماء والصفات (ز).

    وإعلام القرآن ، وإفهام القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النّساء : 163] أي أنزلنا إليك وأفهمناك كلامنا القديم ، كما أنزلنا وأفهمنا من قبلك كلامنا القديم فالإفهام لم يكن ثم كان. وأما المفهوم الذي هو كلام الله القديم فهو موجود ثابت قبل الإفهام وبعده على صفة واحدة ، لا يختلف ولا يتغير.
    جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي من طرق عدة ، وأضيف إليه الصوت المشبه بجر السلسلة إلى الخلق ، لا إلى كلام الحق ، فمن ذلك ما روى النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخرّوا سجدا ، وأول من يرفع رأسه جبريل عليه‌السلام ؛ فتكلم الله من وحيه بما أراد ، فينتهي به جبريل عليه‌السلام على الملائكة ، كلما مرّ بسماء سأل أهلها ما ذا قال ربنا؟ فيقول جبريل الحق ، وهو العلي الكبير» فثبت أن الصوت المشبه بالسلسلة صوت رجفة السموات ، لأنهم سمعوا صوت رجفة السموات لا كلام الله تعالى ، ولهذا سألوا جبريل الله تعالى ما ذا قال ربنا ، فدلّ على أنهم لم يسمعوا كلامه ، وإنما سمعوا صوت رجفة السماوات ، التي شبهت بحر السلسلة ، لأنهم لو سمعوا ما سمع جبريل لفهموا كما فهم جبريل.
    وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان» فأضاف الرسول عليه‌السلام هذا الصوت المشبه إلى صوت أجنحة الملائكة ، لا إلى كلام الله تعالى وحديث أبي هريرة هذا صحيح. أخرجه البخاري ، وحديث النواس أخرجه مسلم في كتابه ، وروى أبو الضحى مسروق ، عن عبد الله أنه قال : «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان» وفي رواية : «سمع أهل السماء للسماء صلصلة» وليس في شيء من هذه الروايات إذا تكلم الله سمعوا من الله صلصلة ، وإنما سمعوا من السماء إذا أحدث الله فيها رجفة ، وجعل ذلك علامة لأهل السموات. يعلمون بها أن الله تعالى تكلم بالأمر ، وأن المخصوص بسماع كلامه جبريل عليه‌السلام ، ولهذا سألوه ما ذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول : قال الحق. فيقولون : قال الحق. فيصفون الله تعالى بقول الحق ، لا بالصلصلة والصوت ، فصار هذا الحديث حجة عليهم لا لهم.

    جواب آخر : وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عددا أن الصوت مخلوق ، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري ، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : 1] فقال : هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمه‌الله أنه قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، قيل : فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات تسبيحهم وصلاتهم.
    وقال أبو العالية : قال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه : قدسوا بأصوات حسنة ، فإنه أسمع له ، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك (1) بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : 25] قال : يقيم الله داود عليه‌السلام عند ساق العرش ، فيقول : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم ، فيقول : كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ قال : فيقول جلّ وعز : إني أرده عليك. قال : فيرده عليه ، فيزداد صوته حسنا ، فيأخذ في التمجيد ، فيستفرغ داود نعيم الجنان ؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم.
    فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليه‌السلام التي يمجد بها ويقدس بها ، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات.
    وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي المهاجرين والأنصار. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله عنه : صلّى بنا أبو موسى صلاة الصبح فما سمعت بصوت ولا بربط أحسن صوتا منه. وتبين من هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل الصوت صفة للقارئ لا لله تعالى ، فقد روي عنه في هذا المعنى ما لا يحصى عددا ، فمن ذلك : ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قام رجل من الليل فرفع صوته بالقرآن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «لقد أذكرني كذا. وكذا آية» قال أبو ذر : كان لي جار وكان يرفع صوته بالقرآن فشكوته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقال له ذو البجادين فقال : «دعه فإنه أوّاه» وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن ، فقرأ ليلة وفرسه مربوط عند رأسه ، وابنه نائم إلى جنبه ، فدار الفرس في رباطه ، فقرأ فدار الفرس في رباطه ، فانصرف وأخذ ابنه وخشي أن يطأه الفرس ، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل تسمع صوتك» وروى ابن سابط قال : أبطأت عائشة رضي الله عنها على
    __________________
    (1) لم يرفعه إلى المعصوم (ز).

    رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما حبسك يا عائشة؟» قالت : يا رسول الله ، سمعت رجلا يقرأ ما سمعت من رجل يقرأ قراءة أحسن منها ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسمع صوته ، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك». روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع قراءة أبي موسى ذات ليلة فقال : «أبو موسى مزمار من مزامير داود» ومعلوم أنه شبه حسن صوته بالقراءة بالمزمار ، لا كلام الله القديم الذي لا يشبهه شيء من أصوات الخلق ولا نغماتهم. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ في ليلة هو وعائشة رضي الله عنها ، وأبو موسى يقرأ ، فقاما فاستمعا لقراءته ، ثم إنهما مضيا ، فلما أصبح لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأبي موسى : «يا أبا موسى مررت بك البارحة ومعي عائشة فاستمعنا لقراءتك» فقال أبو موسى : يا نبي الله ، أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا. قال : «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن وإن كنت لم أر منازلهم حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار». وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه ، وهو أكبر حجة في نفي الصوت عن كلام الله القديم ، لأنه فصل الأصوات من القرآن ، فأضاف الأصوات إلى الأشعريين ولم يضفها إلى كلام الله الذي هو القرآن.
    وقال شهر بن حوشب : قدم أبو عامر الأشعري على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من قومه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليدلني على حسن إيمان الأشعريين حسن أصواتهم بالقرآن» وفي هذه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لا يحصى عددا : أن الأصوات صفة الصائتين لا صفة كلام رب العالمين ، وفي بعض ذلك مقنع وكفاية لم أراد الله له الهداية.
    * * *
    فصل
    فإن قالوا : أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا : بلى. فإن قالوا : فليس يجوز أن يكون مسموعا على الحقيقة إلا ما كان صوتا أو حرفا.
    فالجواب : أن هذا جهل عظيم ، وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة ، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسما وجوهرا وعرضا. أفتقولون : إن الله تعالى جسم ، وجوهر ، وعرض؟ فإن قالوا :

    نعم. فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه ، وإن قالوا : يرى وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ولا يشبه شيئا من المرئيات. قلنا : فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة ، وليس بحروف ولا أصوات ، ولا يشبه بشيء من المسموعات ، فكما أنه يرى على الحقيقة ولا تكييف لكلماته. فاتقوا الله وقفوا عند حدوده ، ولا تكونوا ممن قال فيهم : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : 229]. وتمسكوا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قد سمّى نفسه بانيا ، وهو بان على الحقيقة ، لأنه قال : (أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28)) [النّازعات : 27 ، 28] ولم نر بانيا على الحقيقة ، إلا بآلة من عدة وآجر ، وحجر وخشب وغير ذلك : أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك ، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا : نعم ، كفروا لا محالة ، وإن قالوا : هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا : وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة ، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.
    * * *
    فصل
    فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم ـ لو عقلوا ـ كان إقرارا منهم بخلق الله تعالى ، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة ، والتحويل ، وتفريغ مكان ، وإشغال مكان ، وأمكنة ، وحصر ، وعد ، وإفساح ، وفراغ ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم ، وهو جرأة ، وحجة عليهم ، أقروا بقول إخوانهم من النصارى ، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد ، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال ، إن شاء الله.
    فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» قالوا : فصحّ أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول ، فالجواب من وجوه عدة :
    أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد بذلك المصحف ، لأنه قد بيّن ذلك فقال «مخافة أن تناله أيديهم» ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو ،

    والمصحف قد يسمى قرآنا ، لأن فيه كتابة القرآن ، وقد روي ذلك صريحا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم : «ولا يمس القرآن إلا على طهارة» فأراد بذلك :
    المصحف الذي حلّ فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي.
    جواب آخر : وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : 82] يعني أهل القرية (وَالْعِيرَ) [يوسف : 82] يعني أهل العير. وقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النّساء : 43] قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : 60] أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال : (وَالطُّورِ (1)) [الطّور : 1](وَالضُّحى (1)) [الضّحى : 1] وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى ، وهذا كثير جدا في كلام العرب ، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك ، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان ، والعرب تقول : بنو فلان تطؤهم الطريق ، يريدون يطؤهم أهل الطريق ، وأبين من هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : 57] يريد أنبياء الله وأولياء الله.
    وجواب آخر وهو : أنا نعلم ـ وكل عاقل يعلم ـ أن الرسول عليه‌السلام إنما أراد بالقرآن هاهنا شيئا محترما يتصون عليه من الأيدي ، ولم يرد نفس كلام الله القديم ، والذي يدل على صحة ذلك : أن الحافظ للقرآن : القرآن في صدره عندنا حفظا ، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم ، وعندهم ـ على حسب عقدهم ـ أنه حال في صدور الحافظ كحلول الشيء في الشيء ، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحدا من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو ، فلم يبق إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو ، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم ـ حاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.
    * * *
    فصل
    فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» قالوا : وقد أطلق عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القرآن يجعل في الإهاب ، فدلّ على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال :

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:55

    أحدها : أن هذا كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليلا على صدقه ، وكان معجزة له ، وكان إذا كتب في جلد أو رقّ أو غير ذلك ثم ألقي في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق ، فيكون معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات ، ثم انقضى ذلك بعد موته : بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم.
    الثاني : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار لم يحترق» أراد بذلك فضل حفظه القرآن ، وأنهم لأجل ما حفظوا من كلام الله تعالى وصار حفظه في صدورهم تصير عليهم النار بردا وسلاما ، فلا تحرقهم ، كما كانت على الخليل عليه‌السلام بإذن الله تعالى. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم الشفيع لصاحبه يوم القيامة» فيكون ببركة شفاعة القرآن لصاحبه وعمله به لا تتسلط النار على إهابه فتحرقه ، وهذا صحيح ؛ لأن الإهاب هو الجلد قبل الذبح ، أو قبل الدباغة.
    دليل الأول : قول عائشة رضي الله تعالى عنها في مدح أبيها الصديق رضي الله عنه : «وحقن الدماء في أهبها».
    ودليل الثاني : قوله عليه‌السلام : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فأما بعد الدباغ فلا يقال له إهاب ، وإنما يقال له أديم أو رق ، أو نحو ذلك.
    الثالث : وهو الأصح والأجود : أن القرآن إذا كتب في إهاب أو غير ذلك ، وألقي في النار ، فإن القرآن لا يحرق ولا يتصور عليه الحرق ولا الغرق ولا العدم ، وإن تصور ذلك على الرق والجلد. والورق والخط والمداد. وهذا يوضح أنه مكتوب على الحقيقة. وليس بحال حلول الأجسام في الأجسام ؛ لأن المداد لما حلّ حلول الأجسام في الأجسام احترق مع الرق والورق ، والقرآن لما لم يكن حالا لم يتصور عليه العدم بحرق ولا غرق ولا غير ذلك ، وهذا واضح صحيح. يؤكد ذلك أنا إذا كتبنا اسما من أسماء الله تعالى في محل يتصور عليه الحرق والغرق والبلى والتمزق ، فإن عدم ببعض ما ذكر فإنما يعدم ويذهب المحل المكتوب فيه واللون المكتوب به. وأما المكتوب على الحقيقة وهو الرب تعالى فلا يتصور عليه شيء من العدم والذهاب ، كما أخبر تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88].
    * * *

    فصل
    فإن احتجوا بخبر روي ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن فاختلط بلحمه ودمه ...» قالوا : وهذا يدل على حلوله واختلاطه بلحوم الحفاظ ودمائهم في حال صغرهم. فالجواب عن هذا من أوجه :
    أحدها : أن هذا الحديث يرويه إسماعيل (1) بن رافع ، وعمر (2) بن طلحة ، وهما ضعيفان جدا ، لا يؤخذ بقولهما في هذا ولا غيره.
    الثاني : أن الصبيان الحفاظ للقرآن كثير ، وكلام الله تعالى قديم ، وشيء واحد ، فإذا اختلط بدم صبي ولحمه على زعمهم وامتزج واختلط فكيف يمتزج بلحم آخر ودمه ؛ إذا الشيء الواحد إذا اختلط وامتزج بشيء استحال امتزاجه بغيره ، نعوذ بالله من هذا المذهب الذي يؤدي القول به إلى اختلاط الصفة القديمة وامتزاجها بدم المخلوقين ولحومهم ، ولعمري أن قول النصارى دون هذا ، لأن النصارى ؛ إنما تقول كلمة واحدة قديمة اختلطت بجسم واحد وهو جسم المسيح عليه‌السلام ، حتى صار الجسم لاهوتيا من أجل الكلمة ، ناسوتيا من جهة مريم عليها‌السلام ، فاختلط عندهم القديم بالمحدث اختلاط الماء باللبن ، فوافقتهم هذه المقالة الخبيثة ، وزادوا عليهم ، لأنهم قالوا : جسم واحد اختلط به القديم ، وهؤلاء يقولون اختلط القديم بألف ألف جسم وأكثر ، نعوذ بالله من هذا القول الذي لا يقوله من له مسكة من حس وعقل.
    الجواب الثالث : أن هذا الحديث إن صح ، فمراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحفظ في الصغر أجود وأثبت من الحفظ في حال الكبر ، ويعني باختلاطه باللحم والدم جودة الحفظ ، لا اختلاط المحفوظ الذي هو كلام الله القديم. وصار هذا كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : 93] يعني حب العجل ، لأن العجل لا يدخل ولا يحل في القلوب ، وإنما يدخل ويحل حبه. هذا أيضا كما يقال : التعليم في الصغر كالنقش في الحجر. والتعليم في الكبر كالنقش في المدر ، يريدون بذلك أن الحفظ في الصغر أثبت وأبقى منه في حال الكبر.
    * * *
    __________________
    (1) قال النسائي : متروك (ز).
    (2) قال الذهبي : لا يكاد يعرف (ز).

    فصل
    فإن قيل : إذا كان القديم لا يحل في المصحف ؛ فما معنى تعظيمه وتوقيره عن الأدناس والأنجاس وأن لا يحمل إلا على طهارة.
    فالجواب : أن هذا جهل وتخبط لأن توقير المحل والمكان لا يدل على حلول القديم الذي لا يتصور عليه الحلول فيه ، كما أنا نحرم المسجد ولا ندخله إلا على طهارة من غير جنابة ، ولا ندخل إليه شيئا نجسا ولا قذرا ، وننزهه عن البصقة والنخامة ، وإن كانت طاهرة توقيرا له وتعظيما. وإن كانت أرضه وتربته وأحجاره مخلوقة ، وخشبه وطينه مخلوقان ، لا أنه قديم ، ولا أنه حلّ فيه قديم ، وكذلك الطواف بالبيت لا يدخل بنجاسة إليه ، ولا يصح الطواف ، حتى يكون الطائف متطهرا من النجس والحدث ، ولا يدل هذا على أن البيت قديم ، ولا أنه حل القديم فيه ، كذلك الخطوط التي يكتب بها القرآن ، والصحف التي يكتب فيها نوقره ونعظمه وننزهه أن يمس إلا على طهارة ، ولا يقرب إليه شيء من الأنجاس ، بل نعظمه ونشرفه ، ولا يوجب ذلك كون المداد الأسود والصفرة والحمرة قديمة أو حل القديم فيها ، وهذا أمر واضح لمن له عقل وتحصيل. إذا تأمله ونظر فيه.
    * * *
    فصل
    ثم يقال لهذه العصابة ـ هداهم الله من الضلال ـ ما تقولون فيمن أخذ قلما وورقة ومداد حبر ، وكتب ألف. لام. لام ، ها. أتقولون إن المكتوب على الحقيقة هو الله تعالى أم لا؟ فإن قالوا : ما هو المكتوب على الحقيقة. فقد خالفوا إجماع أهل السنة والجماعة. وإن قالوا : هو المكتوب على الحقيقة. قلنا : أفتقولون إن الله تعالى انتقل من العرش (1) وحل في هذه الورقة؟ فإن قالوا : نعم. كفروا بإجماع الأمة ، وجعلوا الباري تعالى يحويه أصغر الأماكن ، وإن قالوا : ليس بحال وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره. قلنا : فكذلك كلامه تعالى مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا مقروء بألسنتنا متلو في محاريبنا غير حال في شيء من المخلوقات.
    * * *
    __________________
    (1) على قولهم بالاستقرار المكاني على العرش (ز).

    فصل
    ثم يقال لهم : خبرونا إذا كتب كاتب في ورقة (فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)) [النّازعات : 21 ـ 24] أفتقولون : إن الكاتب قديم ، أم كتابته قديمة ، أم الورق الذي كتب فيه قديم ، أم اللعين فرعون ، وقوله قديم ، فلا يجوز لعاقل أن يقول شيئا من هذه الأشياء قديم ، بل الكاتب مخلوق ، وكتابته مخلوقة ، والورقة مخلوقة ، والقلم مخلوق ، والحبر مخلوق ، وفرعون اللعين مخلوق ، وما ادعاه من الربوبية كذب مخلوق ، وإنما الذي هو ليس بمخلوق كلام الله تعالى القديم الذي هو خبر يشمل جميع المخبرات التي أخبرنا عن فرعون اللعين وقوله الكذب. فصحّ أن كلام الله القديم ليس بالخط ولا بالورق ولا بقول فرعون اللعين ، لأن قول فرعون اللعين كذب ، وكلام الله حق وصدق ، وكذلك إذا كتب الكاتب في ورقة (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الأنعام : 152] أتقولون : إن اليتيم وماله قديم ، والخط الذي كتب ذلك قديم ، والكاتب له قديم. لا. بل الجميع مخلوق ، وإنما القديم كلام الله الذي هو نهيه الذي يشمل جميع المنهيات ، وهو غير اليتيم والمال والكاتب والكتابة ، وإذا كتب كاتب : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : 60](وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : 43] أترى [أن] الكاتب قديم أو الكتابة قديمة ، أو الأكل والآكل ، والشارب والشرب ، والمصلي والصلاة ، والمزكي. والزكاة قديمة. لا والله ؛ ليس شيء من ذلك قديما ، وإنما القديم كلام الله تعالى ، الذي هو أمره الشامل لجميع المأمورات. فصحّ بهذه الجملة الفرق بين كلام الحق وكلام الخلق ، وإن كلامه تعالى قديم غير مخلوق ، ولا يتصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يفتقر تعالى في كون كلامه صفة له قديمة غير مخلوقة ، إلى شيء من أدوات الخلق من لسان ، وشفة ، وحلق ، وحرف ، وصوت ، بل هو متكلم ، وله كلام ، صفة له قديمة غير مخلوقة ، ولا يجوز عليها شيء من صفات الخلق. فاعلم ذلك وتحققه ولا توفيق إلا بهدي من الله وفضل ورحمة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    * * *
    فصل
    يتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها : وهي :
    مسألة الخلق والإرادة ، وأنه [لا] يكون من العباد شيء إلا وهو خلق الله تعالى ومراد له ، لا يجوز أن يخلق أحد غيره ، ولا يكون في ملكه إلا ما أراده.

    الثانية : مسألة الشفاعة ، وأنها حق وصدق ، وأعلى الشفاعة عند الله شفاعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشفع أيضا من أذن له في الشفاعة في العصاة ؛ من ملك ، ونبي ، ومؤمن.
    الثالثة : مسألة الرؤية ، وأنها جائزة ، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد ، كما جاء في الكتاب والسنة ، ودلّ عليه العقل أيضا ، وإنما ختمنا الكتاب بمسألة الرؤية ، لأنها أعلى العطايا وأسنى الكرامة من الله تعالى لعباده المؤمنين ، وليس فوقها مزيد ، بل هي الزيادة المذكورة في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : 26].
    مسألة
    اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الخالق وحده ، لا يجوز أن يكون خالق سواه ، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره ؛ فهي منه خلق وللعباد كسب ، على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : 286] وأمثال هذه الآية من الأدلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب ، فالواحد منا إذا سمي فاعلا فإنما يسمى فاعلا بمعنى أنه مكتسب ، لا بمعنى أنه خالق لشيء. وقالت المعتزلة ، والنجارية (1) ، والجهمية ، والروافض : إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد ، وإن كل واحد منا ينشئ ما ينشئ ويخلق ما يفعل ، وليس لله تعالى على أفعالنا قدرة جملة ، ونعوذ بالله من الاعتقاد وسوء المقال.
    والدليل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وبطلان قول من خالفهم من أهل الزيغ والبدع الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل ؛ فالدليل من الكتاب أكثر مما يحصى ، لكن أذكر منه ثلاثة تنبه اللبيب على بقيتها إن شاء الله تعالى.
    فمن ذلك قوله تعالى (2) : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)) [الصّافات : 96] فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم ، كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم ، وهذا من أوضح الأدلة من الكتاب.
    __________________
    (1) لعل النجارية والجهمية مقحمتان في هذا الموضع بقلم الناسخ ، بل لا يعرف هذا في المعتزلة إلا من عهد الجبائي ، كما هو مشروح في موضعه (ز).
    (2) والكلام في هذا طويل في إيثار الحق (ز).

    الثاني : قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : 102] ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعا ، وإن اختلفنا في خالقها ، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق ، فدلّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا. قلنا : قد احترزنا بحمد الله تعالى عن هذا السؤال بقولنا : إنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق ، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة ؛ بل هي صفة الخالق ـ تعالى ـ قديمة بقدمه موجودة بوجوده قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.
    وجواب آخر يبطل هذا السؤال وهو : أنك تقول : إن الله تعالى مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، ألا ترى أن الواحد منا إذا قال دخلت الدار فضربت من فيها ، أو أخرجت من فيها ، أو أعطيت من فيها لا يدل ذلك على أنه دخل تحت الخطاب ، بأن يكون ضرب نفسه ، ولا أخرج نفسه ولا أعطى نفسه ، لأنه مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب وكذلك قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : 102] هو مخاطب ، فلا يدخل تحت الخطاب بذاته ولا بصفاته جلّ عن ذلك وتعالى ، كما قال : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : 39] قهر الكل ولم يدخل في القهر ذاته وصفاته. فافهم التحقيق لتدفع به كل بدعة وتمويه من أهل البدع إن شاء الله.
    الثالث : قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)) [الرّوم : 40] والدلالة من هذه الآية من أوجه :
    أحدها : أنه قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [الرّوم : 40] وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : 40] يعني ثم خلق أرزاقكم ، وعند المخالف أن العبد يخلق أفعاله ورزقه ، فهو خلاف ما أخبر الله تعالى به من كونه خالقا لنا ولأرزاقنا.
    الوجه الثاني : من الدلالة : أنه قال : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : 28] فكما لا يقدر أحد أن يخلق موته ولا حياته ، فكذلك لا يقدر أن يخلق فعله ورزقه ؛ من حركة ولا سكون ولا غير ذلك.
    الثالث : سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن عقدهم وخبثهم إذ أضافوا فعل شيء وخلقه إلى غيره ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : 18] ثم أكد ذلك

    بعده بمواضع فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : 3] سبحانه وتعالى. وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : 17].
    وأما الدليل من السنة فكثير أيضا ، غير أني أذكر منه خبرين ننبه العاقل الفطن على الاستدلال بأمثالهما من السنة :
    الأول : ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق كل صنعة وصانعها» (1) وصنعة الصانع إنما هي بحركاته وأفعاله ، سواء كان في صنعة مباحة وطاعة ، ككتابة القرآن ، والحديث ، والفقه. أو محظورة ؛ من تصوير صور الحيوان ، أو عمل السلاح ليقتل به المسلمين. فصحّ بهذا الخبر أن الله جلّ وعلا خالق للفاعل منا ولفعله.
    الخبر الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : «فرغ ربك من أربع : من الخلق ، والخلق ، والرزق ، والأجل فلو جهد الخلق على أن يؤتوك ما لم يقدره الله لم يقدروا على ذلك» وروي : «لو جهد الخلق على أن ينفعوك أو يضروك لم يقدروا على ذلك» والمخلوقات منها الضار والنافع ، في العاجل والآجل ، وقد جعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك إلى تقدير الله تعالى وخلقه له ، ولم يجعل إلى العباد شيئا من ذلك. فاعلمه وتحققه.
    * * *
    فصل
    ويدل على صحة ما قلناه : إجماع المسلمين ، وأنهم يقولون : لا خالق إلا الله ، كما يقولون : لا رازق ، ولا محيي ، ولا مميت إلا الله تعالى. فنقول : فلا يكون الخلق من غيره ، وأثبتوه خالقا.
    * * *
    فصل
    ويدل على صحة ما قلناه من جهة العقل. وأنه لا خالق إلا الله تعالى ، وهو كثير جدا ، لكن نختصر على قدر فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
    فمن ذلك : أن نقول لهم : إن قلتم إن الواحد منا يخلق أفعاله ، من طاعة ، أو معصية ، أو إيمان ، أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق ، وأنه لا يتم خلقه
    __________________
    (1) أخرجه البخاري في خلق الأفعال (ز).

    إلا بخلقنا. وذلك أن الجسم لا يخلو من حركة ، أو سكون ، أو كفر ، أو إيمان ، أو طاعة ، أو معصية ، فصحّ أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب ، وأنه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق الآخر ، وهذا شرك ظاهر ، نعوذ بالله منه.
    دليل آخر من جهة العقل : وأنه لا خالق إلا الله ، لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : 14] ونحن نجد الواحد منا يفعل ما لا يعلم فعله فيه ، ولا يحصره ولا يعده بقدرة ، حتى إن الواحد منا يريد أن يتكلم صوابا فيرمى خطأ ، إلى غير ذلك ، فيفعل ما لا يعلمه ولا يريده ، وأيضا الواحد منا إذا خرج إلى المسجد حتى وصل إليه ، فعند المخالف أن كل خطوة خطاها خلقها وأنشأها ، ولو سئل عن عدد كل خطوة خطاها لم يدر ما يقول ولا يعلمه ولا يعرفه ؛ فلم يبق إلا أن الخالق لأفعالنا وأكسابنا هو الله تعالى الذي يعلمها ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : 14].
    دليل آخر من جهة العقل : وهو : من شرط الخالق للشيء أن يكون قادرا على خلق الشيء وضده ، فإن من يقدر على خلق الحياة يقدر على خلق ضدها ، وهو الموت ، وكذلك من يقدر على خلق التفريق في الجسم يقدر على خلق الاجتماع له ، حتى يعود كما كان جسما مؤلفا ، ولما وجدنا أحدنا لا يقدر على ذلك صحّ أنه غير خالق ، ولما وجدنا الخالق تعالى يقدر على خلق الشيء وضده دلّ على أنه هو الخالق لا خالق سواه ، وقد قيل عن الشيخ الإمام أبي بكر بن فورك (1) رضي الله عنه أنه كان مع إسماعيل المعروف بالصاحب في بستان ، وكان يعتقد شيئا من ذلك ، فأخذ سفرجلة وقطعها من الشجرة ، وقال له : ألست أنا قطعت هذه السفرجلة؟ فقال له رضي الله عنه مجيبا : إن كنت تزعم أنك خلقت هذه التفرقة فيها فاخلق وصلها بالشجرة حتى تعود كما كانت. فبهت وتحير ولم يقدر على جواب.
    وبلغني أيضا أن بعض القدرية وقف على إحدى رجليه وشال الأخرى ، وقال : ألست أنا رفعت هذه وحططت هذه؟ فقال له بعض أهل السنة : إن كنت تزعم أنك خلقت الشيل في هذه المشتالة فاخلق الشيل في الأخرى حتى تصير مشتالة معها ، فبان له الحق ورجع عن قوله الباطل.
    __________________
    (1) زميل المؤلف في عهد طلبه العلم عند الباهلي ، وإن كانا متباعدي الدار في عهد إمامتها ونشرهما العلم ، ونوّه بجواب ابن فورك هنا كما بلغه تقديرا لصاحبه كما هو شأن الإخلاص في العلم (ز).

    دليل آخر من جهة العقل : وهو أنك تقول : حقيقة الخلق والإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وإذا كان الواحد منا على زعمكم يقدر أن يخلق حركة معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق شيئا زائدا فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق له لونا غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وفي هذا القول الخبيث التسوية بين قدرة الله تعالى وقدرة العباد ، وأنهم يقدرون على ما يقدر عليه. تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.
    * * *
    فصل
    نذكر فيها شبها يزعمون أن لهم فيها حجة ، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى كما قال : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشّورى : 16] فإن احتجوا بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السّجدة : 17] قالوا : فأثبت لنا العمل ، والعمل هو الفعل ، والفعل هو الخلق ، فالجواب : أنه تعالى أراد هاهنا بالعمل الكسب ، والعبد مكتسب على ما بيّنّا. يدل على ذلك : أنه قال في موضع آخر : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التّوبة : 82] نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملا له ، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم إلى الوجود ، وقد بيّنّا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلم يكن لهم في الآية حجة.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] وبقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السّجدة : 7] وبقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : 110] فالجواب من أوجه :
    أحدها : أنه يعني بقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] يعني أحسن المقدرين ، فعيسى عليه‌السلام يقدر الطين صورة ، والخلق يقدرون الصورة صورة ، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود ، فقال تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] أي المقدرين. فاعلم ذلك.
    جواب آخر : وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه ، لكن لما ذكر معه غيره قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره ، كما يقال : عدل العمرين ، وإنما هو أبو بكر وعمر ، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد ، وكذلك قول الفرزدق :
    أخذنا بأكناف السماء عليكم
    لنا قمراها والنجوم الطوالع



    والقمر واحد ، لكن لما جمعه مع الشمس سماهما قمرين. وكأنه تعالى لما علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] على زعمهم أن معه غيره ، وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : 27] على زعمكم ، لأن عندهم أن النشأة أهون من الإعادة ، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إن معه خالقا غيره ، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.
    جواب آخر : وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب : يراد بها إثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه الآخر من كل وجه ، وذلك في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)) [الفرقان : 24] فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة ، مع حسن المستقر ، وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا ، لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل ، فكذلك قوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] أثبت الخلق له وأنه هو المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل : العسل أحلى من الخل لا يريد أن للخل حلاوة بوجه ، بل يريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا ، ورأسا ، فكذلك قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 14] أثبت الخلق له دون غيره.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : 3] فكيف يجوز أن يكون خالقا لكفر الكافرين ، وعصيان العاصين ، وفيه من التفاوت غير قليل.
    فالجواب : أن هذا سوء فهم ، وذلك أن هذا أراد به سبحانه وتعالى خلق السموات في الصورة ، وأنه ليس فيها فطور ولا شقوق ، أجمع المفسرون على ذلك ، فلا حجة لكم فيها ، ثم إن أول الآية حجة عليكم ، لأنه قال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : 2] وبين الموت والحياة تفاوت ، وهو خالق الجميع لا خالق لذلك غيره ، فكذلك كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإن كان بينهما تفاوت في الحكم فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع وإحكام الخلق ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : 15] فلو كان الله الخالق لوكزة موسى لقال : هذا من عمل الرّحمن ، الجواب من وجهين :
    أحدهما : أن قول موسى هذا القول على وجه الأدب ، أي : إني أرتكب ما نهيت عنه من شره النفس ووسوسة الشيطان ، ألا تراه قال في ضلال السبعين من قومه

    لما لم يكن له في ذلك كسب : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : 155] فيجب على العبد عند خطئه وذنبه أن يرد اللوم والتقصير إلى نفسه وإلى وسوسة الشيطان ، ولا يرد ذلك إلى خلق الله تعالى وإرادته ، لأنه يصير كالمحتج عليه تعالى ، وليس لأحد عليه حجة : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)) [الأنعام : 149]. ومثل هذا قول أبيه آدم عليه‌السلام وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : 23] فردا التقصير والنقص واللوم إلى أنفسهما ، لأن هذا موضع الأدب والتذلل ، لا موضع الاحتجاج ، ومثل هذا كثير.
    الجواب الثاني : أن الإجماع منا ومنكم : أن الوكزة ليست خلق الشيطان ولا عمله ، بل هي عندنا من خلق الله تعالى واختراعه ، ولموسى عليه‌السلام كسب. وعلى عقدهم النحس أنها خلق موسى وعمله ، وليس لله فيها خلق ولا اختراع ولا عمل ، فبطل احتجاجهم بالآية ، ولم يبق إلا ما قلناه ، وهو أنه أراد بقوله : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : 90] أي زيّن ذلك وحسّنه لي ، والله المعين.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : 79] فأوضح تعالى أن السيئة منا ، والحسنة منه ، فالجواب من ثلاثة أوجه :
    الأول : أنه لا يصح لكم الاحتجاج معشر المعتزلة بهذه الآية بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب ؛ لأن ظاهرها فيه تعلق لمن يقول إن الخير خلق الله تعالى وفعله ، والشر خلقنا وفعلنا ، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ، لأنكم تقولون إن أحسن الحسن وخير الخير الإيمان والمعرفة. وتقولون ليس لله في هذا قدرة ولا خلق ، وإنما هو بقدرة العبد المؤمن وخلقه ، فلا حجة لكم فيها.
    الجواب الثاني : أن صريح النص في أول هذه الآية حجة عليكم ، لأنه يقال : رد عليهم ، وأمر نبيه عليه‌السلام أن يرد عليهم ، بقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : 78] ثم جهلهم وإياكم ، وأكد ذلك بقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النّساء : 78] فصارت الآية حجة واضحة عليكم لا لكم.
    الجواب الثالث : قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : 79] وهذا صحيح من وجهين :
    أحدهما : أن مثله في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : 191] تقديرا لكلام يقولون ربنا

    ما خلقت هذا باطلا. ومثله قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) [الأنعام : 93] ومثله أيضا قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : 106] تقدير الكلام (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : 106] فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : 106] فكذلك هذا ، فتقدير الكلام فيه (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) [النّساء : 78] فيقولون : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) [النّساء : 79].
    الوجه الثاني : أن هذه الآية إن لم تحمل على ما قلناه صار بعضها ينقص بعضا ويخالف بعضا ، وليس في كتاب الله تعالى مناقضة ولا اختلاف ، فصحّ ما قلناه ؛ لأنه قال في أول الآية : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : 78] ثم يرجع في سياقها فيقول : لا إنما البعض مني والبعض من خلقي ، كلا والله ، بل ذكر ذلك في سياق الآية تجهيلا لقائله وردا عليه. فافهم الحق وادفع به الباطل.
    فإن احتجوا فقالوا : وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا فوجب أن يكون خلقا لنا وفعلا لنا. قالوا : وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام ، وإذا أراد أن يقعد قعد. وإذا أراد أن يتحرك تحرك ، وإذا أراد أن يسكن سكن ، وغير ذلك ، فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته دلّ على أن أفعاله خلق له ، وفعل له ، فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أن هذا غير صحيح أولا ، فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده ولا يحصل ما يريد ولا ما يقصد. فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض ، وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر ، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه ، إلى غير ذلك. فبطل ما ذكرتموه ، وصحّ أن فعله خلق لغيره ، يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى ، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة. والخلق من الخالق (1).
    الجواب الثاني : أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل ذلك على أنه خلق لهم واختراع ، ألا ترى أن مشي الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو ، وتقريب ، واستطراف ، ووقوف ، إلى غير ذلك. ولا يقول
    __________________
    (1) وأما إرادة العبادة للفعل فهي مدار تكليفه ، وهي بيده. جعلها الله هكذا تحقيقا لمسئولية العبد عن أفعاله. وهي متقدمة تقدما ذاتيا على الخلق. كما جرت عادة الله على ذلك. فيكون اختيار العبد بعيدا عن سمة الجبر (ز).

    عاقل إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ، ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه ، وكذلك أيضا السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح ، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد ، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح ، وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا : فكذلك أفعال أحدنا قد تقع ، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له ، ولا يقول أحد إن واحدا منا يقدر أن يخلق لونا لغيره ولا لنفسه ، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا ، وليس هو خلقا له ولا موجودا له ، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك.
    يؤكد هذا أيضا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك ، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع ، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها [وكذلك] ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك.
    وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي ، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له ، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى ، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده ، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده ، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى.
    فإن قيل : فإذا لم يكن أحدنا خالقا لفعله ، فكيف يكون ملوما عليه ومعذبا به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب؟ فالجواب :
    إننا لا نقول إن المدح والثواب ، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا ؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقا له واختراعا ، بل نقول : إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى ، ويجب ويستحق بحكمه لا [بأن] يوجب الواجب عليه خلق [فعل] أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين : أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئا يستحق به إيجاب ذلك عليها ، وإن ذلك الذي

    فعلته خلق لها ، بل هو خلق لغيرها ، وهو الله تعالى عند المسلمين ، وخلق للقاتل على زعمكم ، أفصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله وحكمه ، لا بخلق العاقلة وفعلها ، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة ، إنما تجب وتستحق بإيجاب الله تعالى وإرادته ، لا بكونها خلقا للفاعل ، فاعلم ذلك وتحققه.
    وكذلك أيضا الأكل في الصيام ناسيا ، فعل العبد ، كما هو فعل له عند تعمده ، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر ، ويذم ويعاقب عليه ، والآخر بالضد من ذلك ، وإن كان الجميع فعلا للعبد ، فصحّ أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى ، لا بكون خلقا للفاعل ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهموه.
    فإن قيل : من فعل الطاعة كان طائعا ، ومن فعل المعصية كان عاصيا ، فالجواب : أن هذا غير صحيح ، لأن كون الباري تعالى خالقا وفاعلا لا يوجب أن يتصف بالطاعة والمعصية ، لأن الطاعة صفة الطائع ، والمعصية صفة العاصي ، ولا يوجب ذلك وصف خالق الطاعة والمعصية بكونه طائعا عاصيا ، ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد ، ولا يكون صفة لله تعالى ، وإن كان تعالى هو خالق السواد ، فكذلك التحرك صفة لمن له الحركة ، لا صفة من خلق الحركة والولد لمن له الولد ؛ لا لمن خلق الولد ، والحلاوة صفة العسل ، لا لمن خلق الحلاوة فيه. وكذلك الحموضة في الخل صفة للخل ، لا لمن خلق الحموضة فيه ، وكذلك الموت إذا خلقه الله في أحدنا صار ميتا ، واتصف بذلك ، ولا يوجب أن يتصف الخالق للموت بأنه ميت ، لما خلق الموت وفعله بالحي. فكذلك المعصية صفة من حلّت به المعصية ، والطاعة صفة لمن حلّت به الطاعة ، ولا يوجب ذلك وصف خالقها بأنه طائع ولا عاص.
    فإن قيل : لا يجوز أن يكون الله خالق الظلم والجور والكذب ، لأن من فعل الظلم كان ظالما ، ومن فعل الجور كان جائرا. ومن فعل الكذب كان كاذبا والله تعالى يتنزه عن جميع ذلك ، فصحّ أن هذه الأشياء ليست بفعل له ، ولا خلق له.
    فالجواب : أن هذا السؤال هو الأول بعينه ، والجواب عنه قد تقدم ، لكن نزيد هاهنا جوابا آخر : وذلك أنا نقول : ليس الأمر على ما يقع لكم ، بل نقول إن الله تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به ، وخلق الجور جورا للجائر به ، وخلق الكذب كذبا للكاذب به ، كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها ، وخلق الضوء ضوء للمستضيء به ، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها ، وخلق السواد سوادا للأسود به ، وخلق السم

    سما للمسموم به. فكما أن الله تعالى خلق الظلمة لليل والضياء للنهار ، والحمرة للأحمر ، والسواد للأسود ، والسم للحية ، ولا يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء ولا سوادا ولا حمرة ولا سما [له] فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها ، والكذب كذبا للكاذب به ، والجور جورا للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائرا ولا ظالما ولا كاذبا ، فصحّ ما قلناه وبطل ما قالوه.
    جواب آخر : وذلك أن الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصورة والفعل ، وإنما يكون كذبا إذا خالف الأمر ، وكذلك الجور والظلم ، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمر أمره ، وناه نهاه ، وهم الخلق. وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه ، فلا يصح وصفه بشيء من هذا ، فاعلم ذلك وتحققه ، فإنه أصل قوي تدفع به جميع ظنونهم الفاسدة.
    فإن قيل : لا يجوز أن يقال للجور والكذب هذا خلق الله ، بل يعرض عن ذلك ، ولا يقال. فصحّ أنه خلق لغيره.
    فالجواب : أن هذا السؤال غير صحيح ، لأنك [إن] أردت الإطلاق في العموم ، فجائز بأن تقول : يا خالق المخلوقات ، ويا خالق الموجودات. ويا خالق كل شيء ، ويا خالق الضر والنفع. وإن أردت ذلك على الخصوص ، بأن تقول : يا خالق الكذب والجور ؛ فلا يجوز من طريق الأدب والإذن في ذلك ، كما أنا نقول يا خالق المخلوقات ، فيعم بذلك السموات ، والأرض ، والشمس ، والقمر ، والقردة ، والخنازير ، والكلاب ، والجعلان ، وغير ذلك من سائر المخلوقات ، فلا يجوز أن تقول على الانفراد يا خالق الأقدار والأنجاس ونحو ذلك من طريق الأدب ، وأنه لم يؤذن لنا في ذلك ، بل ندعوه بأسمائه الحسنى كما أمر ، فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : 180].
    مسألة
    اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يريده الله تعالى ، وأنه لا يؤمن مؤمن ولا يكفر كافر إلا بإرادة الله تعالى ، ولا يخرج مراد عن مراده ، كما لا يخرج مقدور عن قدرته. وقالت المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع : إن الله تعالى لا يريد إلا الطاعة والإيمان ، فأما من كفر وعصى فقد أتى بما ليس بمراد لله تعالى ، وقالوا : إن كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله تعالى ، حتى انتهى بهم القول إلى : أن البهائم تفعل أفعالا لم يردها تعالى ، وأنه لو أراد فعل غيرها منهم لم يحصل ذلك له وامتنع

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 8:57

    عليه ، سبحانه وتعالى عما يشركون. ونحن براء إلى الله تعالى من جهلهم وبدعهم ، ونقول : إن مذهب أهل السنة والجماعة الذي ندين الله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع ، ولا يعصى عاص ، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى إلا بإرادة الله تعالى ، وقضائه ومشيئته.
    ويدل على صحة ما قلناه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل. فأما الكتاب : فأكثر من أن يحصى ، لكن نذكر منها ما فيه الكفاية ، ويدل العاقل على نظائره من أدلة الكتاب ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)) [هود : 118](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : 119] وهذه الآية أوضح دليل وأقوم حجة من وجوه عدة :
    أحدها : أنه أخبر تعالى أنه لو شاء وأراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر والضلال ، وهذا خلاف قول المعتزلة ، لأنهم يقولون : إنه ما أراد إلا كونهم أمة واحدة على الإيمان ، بطل قولهم ببعض هذه الآية.
    الثاني : أنه قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : 118](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : 119] فأخبر تعالى أنه خلقهم لما أراد من اختلافهم ، وأنه لم يرد أن يكونوا أمة واحدة.
    الثالث : قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : 119] فأخبر تعالى أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره ، فصحّ أنه لا يكون من عباده ولا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره.
    ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : 125] فنصّ تعالى على أن الهدى بإرادته ، والضلال بإرادته ، وهذا نص واضح لا إشكال فيه.
    ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : 179] وجه الدليل : أنه تعالى خلق من الجن والناس قوما ليدخلوا النار ويكونوا أهلا لها ، ولا يكونون أهلا لها إلا بالكفر والطغيان والعصيان ، فعلم أن جميع ذلك بإرادته وقضائه وقدره.
    ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : 111] فأخبر تعالى أن الحجج والآيات لا تنفع ، وإنما تنفع المشيئة التي تتم بها الأشياء ، فمن شاء إيمانه آمن ، ومن شاء كفره لم يؤمن.

    ويدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : 41] وهذا نص في أنه أراد فتنة الكافر وإضلاله. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : 99] وهذا نص واضح يغني عن الشرح ، إلا أنه أخبر أنه ما شاء أن يؤمن أهل الأرض كلهم. وعند المخالف أنه قد شاء ذلك ، والله قد أكذبه في هذه الآية وأمثالها.
    ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : 41] وهذا صريح في إرادته بقاءهم على كفرهم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التّوبة : 46] فأخبر تعالى أنه أراد قعود المنافقين عن الخروج إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، ولو أن أحدنا أراد أن يستقصي جميع ما في القرآن من الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وإبطال بدعة القدرية مجوس هذه الأمة كما جاء في الأثر وقول الصحابة لطال ذلك ، وما وسعه كتاب (1).
    ويدل على صحة قول أهل السنة والجماعة من الأخبار ، ما روي في الصحاح في محاجة موسى وآدم عليهما‌السلام ، حتى قال آدم : يا موسى أترى هذا الأمر قد قدر علي أولم يقدر؟ فقال موسى : بل قدر عليك. فقال له آدم : فكيف يكون فراري من أمر قدر علي؟ قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحج آدم موسى ، أي ظهر عليه في الحجة (2) وهذا صريح من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جميع الرسل عليهم‌السلام أن جميع الأمور خيرها وشرها بقضاء الله وقدره ومشيئته.
    ويدل عليه أيضا الخبر المروي في الصحاح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتاه الرجل فسأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى» فقال : صدقت
    __________________
    (1) والأدلة المذكورة واضحة في عموم إرادة الله سبحانه. وليس في شيء منها إبطال اختيار العبد ليكون مجبورا في أفعاله ، وأما حديث القدرية مجوس هذه الأمة فقد ذكرنا كلام أهل الشأن فيه في مقدمة «التبصير» وفي سنده جعفر بن الحارث ، وهو منكر الحديث عند العقيلي ، وغلا ابن الجوزي والصنعاني فحكما بوضعه (ز).
    (2) ويرى ابن حزم كون موسى محجوجا ناشئا من جعله لو آدم على غير فعله لا من القدر ، كما في الإحكام (1 ـ 26) فلا يكون الحديث من أدلة القدر عنده ، وإن كان في الكتاب والسنة كثير من الأدلة على القدر ، ولا يرى ابن حزم أيضا معنى الإجبار والإكراه في القضاء والقدر على خلاف ظن بعض الناس كما في الفصل (3 ـ 51) (ز).

    يا محمد ، ثم أخبرهم أنه جبريل عليه‌السلام ، فصحّ بإجماع الأنبياء والرسل والملائكة والصحابة أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره.
    ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة حديث : «فتقول الملائكة يا رب أشقي أم سعيد ، فيقضي الله عزوجل ويكتب الملك ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» ثم أكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» فعلم كل عاقل أن الله تعالى أسعد من شاء وكتبه سعيدا وأشقى من شاء وكتبه شقيا ، وأخبار الرسول وأقوال الصحابة في هذا المعنى كثيرة جدا لا تحصى ، وفي بعض ما ذكرنا كفاية.
    ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة : إجماع المسلمين من الصحابة وهلم جرا إلى وقتنا هذا : أن الجميع منهم يطلق ، ويقول في الخلاء والملاء من غير نكير : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فوقع الإجماع من الخاص والعام أن الأمور كلها بمشيئة وقدر (1) من الله تعالى. وقيل أوحى الله إلى بعض الأنبياء : تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد ، فإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، وهذا نص واضح في أنه لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله تعالى. وقد سئل بعض السلف فقيل له : بم عرفت ربك؟ قال : بنقض العزائم ، وفسخ الهمم ، وذاك أن الواحد منا يعزم على الأمر ويهم به ، فيجري عليه غير ما عزم عليه وهمّ به ، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما قدر لنفسه ، والمريد أراد له غير ما أراد لنفسه ، فكان ما أراده العبد لنفسه. ولو شرعنا في ذكر ما روي عن السلف والخلف في هذا المعنى طال ولم يسعه كتاب (2).
    * * *
    فصل
    ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل أن الملك إذا جرى في ملكه ما لا يريد ، دلّ ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه ، والله تعالى موصوف
    __________________
    (1) وقدر الله في أفعال العباد الاختيارية على طبق علم الله بها ، وعلم الله بأفعال العبد باختياره لا ينافي اختياره فيها ، بل يحقق اختياره فيها ، فليس هناك شائبة جبر في التحقيق (ز).
    (2) أسباب الخذلان وأسباب التوفيق عند الله سبحانه تؤدي إلى تيسير النشر في أناس وتيسير الخير في أناس ، والأسباب التي يتلبس بها العبد تؤديه إلى مقتضاها وإن كانت تفاصيل ذلك مجهولة عند العبد ، فيعود الأمر إلى حسن اختيار العبد أو سوء اختياره (ز).

    بصفات الكمال ، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز ، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ، ويريده أضعف خلقه فيكون. كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء ، فثبت بحمد الله ومنّه مذهب أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل.
    * * *
    فصل
    في ذكر آيات وسنة يحتجون بها والجواب عنها.
    فإن قالوا : فما معنى قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : 205] قلنا :
    المراد به أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به ، فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدحه فاعله عليه ، وليس كل ما يريده المريد يقال فيه أنه أحبه ، ألا ترى أن المريد يريد بذل ماله للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرّة عينه ليؤدبه ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك يريد ربط جروحه وقطع سلعته وشرب المر من الدواء ، ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب ، ولا يقال إنه محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه ، وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه ، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه.
    جواب آخر : وهو ما ذكره بعض أصحابنا وهو أن قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : 205] يعني لا يحبه من أهل الصلاح والطاعة ، وهو كقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : 7] يعني لعباده المؤمنين ، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
    فإن قيل أليس قد قال الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : 148] فدلّ على أن الشرك ليس بمشيئة الله تعالى فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أن سياق الآية حجة عليهم ، لأنه قال فيها : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)) [الأنعام : 149].
    الجواب الثاني : أنهم إنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على سبيل الإيمان ، وإنما قصدوا تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

    الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : 99] وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : 47] قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على وجه الإيمان والاعتراف بأن الله قادر أن يطعمهم. فلذلك قالوا : ما في تلك الآية وجعلوه لهم حجة ، فجعله كذبا وأن حجتهم باطلة ، فصحّ ما قلناه.
    فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) [الذّاريات : 56] فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أنه أراد بعض الجن والإنس. الذي يدل على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والإنس يموت قبل أن يبلغ حد التكليف والعبادة ، وصار هذا كقوله تعالى لأصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : 27] وأراد البعض لا الكل ، لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول. الذي يقوي ذلك ويصححه : أنه قال في آية أخرى : (فَرِيقاً هَدى) [الأعراف : 30] يعني إلى الطاعة (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : 30] يعني عن العبادة والطاعة.
    ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : 179] وهم الذين لم يرد أن يطيعوه ، فأعلم ذلك.
    والجواب الثاني : أن المراد بذلك أن لا يقروا بالعبادة طوعا أو كرها ، وهذا قول ابن عباس ، وهو حسن ، لأن الكل لا بد أن يقروا بذلك ؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة.
    جواب آخر : وهو أن المراد بذلك إلا لآمرهم وأنهاهم ، وهذا قول مجاهد.
    فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : 17] فالجواب من ثلاثة أوجه :
    أحدها : أن معنى هديناهم ، أي دعوناهم قاله [سفيان] وهذا صحيح ، لأن الهدى يكون بمعنى الدعاء ؛ قال الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرّعد :
    7] أي داع يدعوهم إلى الهدى ، وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشّورى : 52] أي تدعو.
    الجواب الثاني : (وَهَدَيْناهُمْ) [الأنعام : 87] أي بيّنّا لهم سبيل الهدى ، قاله قتادة ، وهذا صحيح ، يدل عليه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)) [البلد : 10] يعني بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر. وقال الصديق رضي الله عنه لما كان هو والرسول

    عليه‌السلام قاصدين إلى الهجرة من مكة إلى المدينة فكان الناس يقولون يا أبا بكر ، وكان معروفا فيسلمون عليه ويسألونه. من هذا الرجل الذي معك؟ فيقول : رجل يهديني السبيل ، يعني يعرفني الطريق ، وهو يريد رضي الله عنه سبيل الحق والدين.
    الجواب الثالث : أعلمناهم الهدى من الضلالة.
    جواب رابع : وهو أن المراد بذلك هدينا فريقا منهم وأضللنا فريقا دليل ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45)) [النّمل : 45] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)) [الأعراف : 75 ، 76] فصحّ ما قلناه ، وأنه هدى بعضا وأضلّ بعضا بنص القرآن ، فاعلم ذلك.
    جواب خامس : وهو أن فريقا من ثمود آمنوا ثم ارتدّوا ، ففيهم نزلت الآية ، يدل عليه قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : 17] يعني رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان.
    فإن قيل : فما قولكم في قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : 7] فصح أنه لا يريد الكفر ، فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أنه لو كان كما قلتم لكان يقول : ولا يرضى لأحد الكفر ، أو يقول :
    ولا يرضى لكم الكفر ، فلما لم يقل ذلك لم يكن لكم حجة.
    الثاني : أنه قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : 7] وإذا أضافهم إليه بلفظ العبودية فإنما أراد بذلك خواص عباده المؤمنين دون الكافرين. ونحن نقول : إنه ما رضي للخواص الكفر ولا أراد لهم الكفر ، وإنما رضي لهم الإيمان. الذي يدل على صحة هذا : إن العباد إذا أضافهم إليه كان المراد بهم المؤمنين دون غيرهم ، قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : 42] وأراد بذلك المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)) [الزّخرف : 68] أراد المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)) [الإنسان : 6] أراد المؤمنين دون الكفار ، وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : 7] أراد المؤمنين دون الكافرين ، فاعلم ذلك وتحققه.

    الجواب الثاني : أن الرضا بالشيء هو المدح له والثناء عليه والإثابة عليه وكونه دينا وشرعا ، والله تعالى لا يرضى الكفر بمعنى أنه لا يمدحه ولا يثيب عليه ولا يرضى كونه دينا وشرعا ، دون إرادة وجوده وخلقه. فاعلم ذلك.
    فإن قيل : أتقولون أن الله تعالى قضى المعاصي وقدّرها ، كما أنه خلقها ، قلنا له : أجل : نقول ذلك بمعنى أنه خلقه وأوجده على حسب قصده وإرادته ، ولا نقول إنه قضاه بمعنى أنه أمر به ، ولا رضيه دينا وشرعا ، وأنه يمدحه ويثيب عليه.
    فإن قيل : فعلى كم وجه ينقسم القضاء؟ قيل له على وجوه كثيرة ...
    منها : قضاء يكون بمعنى الخلق ، وذلك قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصّلت : 12] يعني خلقهن ، ويكون القضاء بمعنى التسليط. والخلق ، وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) [سبإ : 14] يعني خلقنا وسلطنا عليه الموت ، ويكون بمعنى الإخبار والإعلام ، وهو قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) [الإسراء : 4] يعني أعلمناهم وأخبرناهم ، ويكون القضاء بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : 23] ، ويكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام ، يقال : قضى القاضي على فلان بكذا ، أي أوجبه عليه وألزمه إياه وحكم به عليه ، فإن الله تعالى قضى بالمعاصي والكفر ، بمعنى أنه أراده وخلقه ، وقدّره ، ولا يجوز أن يكون بمعنى أمر به واختاره دينا وشرعا ، ولا مدحه ، ولا يثيب عليه ، ولا فرضه فرضا على أحد ، بمعنى أنه أوجبه عليه ، فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من شبه المبتدعة وتلبيسهم على العوام ومن لا فهم له إن شاء الله.
    فإن قيل : أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قلنا : هذا يحتاج إلى تفصيل ، فنحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره على الإطلاق ، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية ، ولا يتقدم بين يديه بالاعتراض بل نسلم لما أراد فينا وفي غيرنا ، ولا نعترض بما يفعل ، فنقول : نحن نوصي بقضاء الله الذي هو خلقه ، كما أخبرنا به ومدحنا على فعله ، ووعد عليه الثواب ، فنرضى بذلك ونريده لنا ولجميع إخواننا من المسلمين ، ولا نقول : إن قضاءه الذي هو بمعنى خلقه ، وإيجاده الذي هو خلقه مذموما قبيحا ؛ ذنبا معصية كفرا ، إنا نرضى بذلك دينا وشرعا ولا نحبه ولا نرضاه ولا نريده لنا ولا لأحد من إخواننا المسلمين ، فاعلم هذا التفصيل تسلم من شبه الأباطيل ومن خدع أهل التعطيل. يؤكد هذا أو يقرره أنا نقول وكل مسلم عند الإطلاق : إن

    جميع الأشياء لله تعالى ، إنه خلقها وهي ملك له ، لا خالق ولا مالك لها غيره ، من والد ، وولد ، وزوجة ، وصاحبة ، فنطلق ذلك عند الإجمال. فأما عند التفصيل فنقول : إن لله الأسماء الحسنى. ونقول : إن له الجلال ، والجمال ، والقدرة ، والكمال ، ولا نقول : إن له الولد ، والوالد ، والصاحبة ، والزوجة ، والشريك. فاعلم ذلك. وكما نقول عند الإطلاق : إن كل مخلوق يبيد ويفنى ويزول ويضمحل ، ولا نقول عند التفصيل : إن حجة الله على خلقه والأعمال من الصلاة ، والصيام ، والحج ، إن ذلك يبيد ويفنى ويضمحل ، ونحو ذلك.
    ثم نقول لهم يا جهلة : أليس الله تعالى قضى بموت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك موت جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، فلا بد أن يقولوا : بلى. فنقول لهم : أفترضون بذلك وأشباهه؟ إن قالوا : نعم. وكلنا نقول : إنه قضى ذلك ، قلنا : وكذلك نقول نحن أيضا : قضى كل موجود وخلقه وأراده عند الإطلاق ، وعند التفصيل لا نقول : إنا رضينا موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمعنى إنا أحببنا ذلك ، وأنه سرنا ، فاعلم ذلك.
    فإن قيل : أليس الله تعالى قد نهى عن الكفر والمعصية؟ قلنا : بلى قد نهى عن ذلك ، فإن قالوا : فلا يحسن أن يريد شيئا ويريد وجوده ثم ينهى عنه ، قلنا : الجواب من وجهين :
    أحدهما : أن يقال لهم : أليس الله تعالى قد علم أن الكافر يكفر ، وأنه يوجد منه الكفر لا محالة ، فلا بد لهم من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فكيف نهاه عن أمر قد علم أنه يكون منه ولا بد من وجوده ، فلما جاز أن ينهى مع علمه أنه لا بد منه جاز أن ينهى عنه وإن أراده. فاعلم ذلك.
    جواب آخر : وهو أن يقال لهم : أليس الله تعالى نهى عن إيلام الرسل والمؤمنين ، فلا بد من [أن يقولوا] نعم ؛ فيقال لهم : فيوجد فيهم الألم من الأمراض والموت أم لا؟ فلا بد من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فإذا جاز أن ينهي عن إيلامهم ، ثم يريد ذلك ويحسن منه. فكذلك في مسألتنا يريد وينهي حتى يثبت لنفسه كمال القدرة ونفاذ الأمر والمشيئة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)) [الأنبياء : 23]. والجملة أن الأمر منا ، والنهي منا ، والفعل منا ، والإرادة منا إنما توصف تارة بكونها حسنة ، وتارة بكونها قبيحة ، إنما ذلك لمعنى ، وهو أن كل ما كان منا مخالفا لأمر الرب تعالى فهو قبيح ، وإن كانت صورته حسنة من حيث الحس والنظر والسمع ، ونحو ذلك ؛ وأن كل ما كان منا حسنا إنما كان ذلك لأنه موافق لأمر الرب

    تعالى ، لا من حيث الصورة والحسن. فإذا صحّ هذا جئنا إلى أفعاله تعالى وإرادته وأمره ونهيه ، فوجدناه ليس فوقه تعالى آمر يأمره ولا ناه ينهاه ، فصحّ أن جميع أفعاله وأمره ونهيه حسن على كل حال لا يتصف بغير ذلك ، فاعلم هذه الجملة توفّق إن شاء الله تعالى وفّقنا الله وإياكم وجميع المسلمين.
    * * *
    الشفاعة
    اعلم أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة الشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكبائر من هذه الأمة ، وقد قدّمنا المسألة وذكرنا الأخبار الواردة في الشفاعة أصلا ورأسا.
    واعلم أن المعتزلة افترقت فرقتين ؛ فقوم منهم أنكروا الشفاعة أصلا ورأسا ، وردّوا الأخبار الصحيحة الواردة فيها وما دلّ عليه القرآن من ذلك. وقالت الفرقة الثانية : إن للأنبياء شفاعة ، وللملائكة ، لكن لثلاث فرق من المؤمنين.
    فرقة منهم : أصحاب صغائر وليست لهم كبيرة من الذنوب. والفرقة الثانية : قوم عملوا الكبائر وتابوا منها وندموا عليها. والفرقة الثالثة : قوم من المؤمنين لم يعملوا ذنبا أصلا. فأما صاحب الكبيرة الذي مات من غير توبة فلا شفاعة له عندهم ، وكلا القولين باطل.
    أما الفرقة الأولى : فجحدت صحة الأخبار الصحاح ؛ وأما الفرقة الثانية : فذهبت إلى محال من القول ، لأن الشفاعة عندهم فيمن لم يعمل كبيرة أو عمل وتاب لا معنى لها ، لأنها تكون بمعنى أن الشافع يقول : يا رب لا تظلم عبادك. فإنك قد وعدت أنك تغفر الصغائر مع اجتناب الكبائر ؛ وكذلك التائب من الكبيرة لا تظلمه ، فإنك قد وعدت بقبول التوبة ، والله أجل وأعلى من أن يسأل ويشفع إليه بظلم ، فبطل قولهم.
    وأما من لم يذنب أصلا فعلى خبث عقدهم أنه قد وجب له على الله الثواب ، والجنة ، والنعيم المقيم ، فما معنى هذه الشفاعة له. فلم يبق إلا أنهم عاندوا الحق وضلّوا السبيل واستحوذ عليهم وسوسة المردة والشياطين ، حتى ردّوا القرآن والسنة وإجماع الأمة ، فنعوذ بالله منهم ومن خبث عقدهم.
    فإن قالت هذه الفرقة الأخيرة منهم : تكون الشفاعة لمن ذكرنا من الثلاث فرق شفاعة في الثواب ، قلنا : وهذا ضلال أيضا ، لأن القرآن إنما نطق بشفاعة الملائكة في

    وقاية المؤمنين شر ذنوبهم يوم القيامة ، ولم يذكر فيها زيادة الثواب ، وإنما أخبر عنهم يقولون : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) [غافر : 9] فصحّ أن الشفاعة في الذنوب والسيئات أن يغفر لها ويتجاوز عنها ، لا ما ذكرتم يا فرقة الضلال.
    فأما الأدلة على صحة الشفاعة ، فقد ذكرناها من الكتاب والسنة ، لكن نجدد هاهنا طرفا منها. أما من القرآن فقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : 79] روي [عن] أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري وجماعة من الصحابة لا يحصون عددا : أن ذلك في الشفاعة ، ثم ذكروا ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخبار يطول ذكرها وشرحها. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وهذا فيه الحجة على الفريقين ممن أنكر الشفاعة أصلا ، ومن قال إنها لغير أهل الكبائر. وقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشفع إلى ربي فيحد لي حدا فأخرجهم من النار ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار» ثم ذكر الحديث إلى أن قال : «حتى لا يبقى أحد من أهل الإيمان في النار ، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وهذا الحديث صريح في الحجة على كل من الفريقين من المعتزلة. وأخبار الشفاعة كثيرة جدا ، وقد قدّمنا منها ما فيه الكفاية وزيادة ، ولأن الشفاعة في أقل الدارين من أقل الشفعاء تكون في الذنوب وغيرها ، فما ظنك بالشفاعة في أعلى الدارين من أعلى الشفعاء عند الله عزوجل ، حتى ذكر في بعض الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغبط بذلك المقام ، يغبطه به الأولون والآخرون ، ثم تكون الشفاعة فيمن لا كبيرة له ، وإنكار هذا جهل وعناد وطعن في القرآن وصحيح الأخبار.
    * * *
    فصل
    نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها في صحة الشفاعة ، ونحن نجيب عنها بعون الله وحسن توفيقه. فإن قالوا : هذه الأخبار تعارض بمثلها ، فإنه قد روى الحسن البصري وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أن هذا عن الحسن لم يصح ، ولم يرد في [خبر] صحيح ولا في سقيم ، وإنما هو اختلاق وكذب ، ولا يعارض الآثار الصحاح المتفق على صحتها ، ثم لو جاز أن يكون قد روي فلم يسقط الصحيح المجمع على صحته بالضعيف السقيم الذي لا أصل له. مع إمكان الجمع بين الكل ، واستعمال الجميع ، فتحمل صحاح

    الأخبار على ما قلنا ، ويحمل هذا الخبر على أنه أراد به الكبائر التي تخرج من الإسلام ، نحو الكفر بعد الإيمان ، أو استحلال ما حرّم الله ، أو تكذيب بعض الرسل أو بعض الكتب ، ويصير هذا كما قلنا إنا نجمع بين كل ما ذكر في القرآن ، وإن كان ظاهره يناقض بعضها بعضا عند الجهّال مثلكم ، فإنه تعالى قال : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)) [المرسلات : 35] ثم قال في موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27)) [الصّافات : 27] فيحمل هذا على أنهم لا ينطقون عند الصراط ، والميزان ، والكتب ، ويسأل بعضهم بعضا بعد ذلك ، حتى لا نسقط شيئا من كتاب الله ولا ينقض بعضه ببعض فكذلك يحمل قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» في حق من يبقى على الإيمان حتى يخرج من دار الدنيا ، ويحمل ما ذكروا ـ لو كان صحيحا ـ على من خرج من الدنيا على غير إيمان ، ونكون أسعد وأولى ، لأنا نثبت الصحيح بتأويل لشيء باطل لا أصل له أن لو صحّ ، وهم يسقطون الصحيح المتفق على صحته بشيء باطل لم يصح.
    فإن قيل : هذا لا يصح مع قوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» والكافر بما ذكر به ثم ليس من أمته ، قلنا : بل يصح ذلك من وجهين :
    أحدهما : أنه أراد بذلك من كان من أمتي ثم ارتد ، أو نحو ذلك ، فقد يجوز أن يسمى الشيء بما كان عليه أولا ، وإن كان في الحال لا يسمى به ، ألا ترى إلى ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبيذ : «ثمرة طيبة وماء طهور» يعني كان ثمرة طيبة وماء طهورا ، لا يريد أنه في الحال ثمرة ، وكذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا : «ارجع فناد ألا إن العبد نام» ولم يرد أنه الآن عبد ، بل أراد أنه كان عبدا ، لأن الصديق أعتق بلالا قبل ذلك. يقال لعتيق الرجل : عبد بني فلان ، أي كان عبدا لهم ، ونحو ذلك كثير. ويحتمل أن يكون سماهم من أمته ، لأنهم كانوا في عصره ووقته وقرنه ، وكل قرن يسمى أمة ، ويكون ذلك فيمن كان آمن به في وقته ثم ارتد ، فمن ذكر من أهل الردة ، أو كان في وقته ولم يؤمن ، وسماه من أمته لأنه في قرنه وعصره. فصحّ ما قلناه وبطل تعلقهم بما لا أصل له.
    فإن قيل : أليس قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تحسّى سما وقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا» ، وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة ، ومن تردى من جبل. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، وعاق والديه» فهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة.

    فالجواب عن هذه الأخبار : أن [منها] ما صح [و] منها [ما لم يصح] ويجمع بين الكل ، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلا لفعله ، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام ، ونحو ذلك ، وهذا صحيح لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة». فقال أبو ذر : وإن زنا ، وإن سرق؟ فقال : «وإن زنا ، وسرق ، وقتل ، وشرب الخمر ، وإن رغم أنف أبي ذر» فصحّ ما قلناه ، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض ، ولا أسقطنا بعضها ببعض ، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النّساء : 150].
    فإن قيل : أليس عندكم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشفع إلا في مؤمن ، وقد وردت الروايات «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وكذلك روي أنه قال : «ليس منا من يأتينا بطينا ويأتي جاره خميصا» و «من غشنا فليس منا» و «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلى غير ذلك ، فكيف يشفع الرسول عليه‌السلام فيمن ليس بمؤمن؟
    فالجواب : أن يقال لهم : هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة ، فإنها محتملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت ، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.
    أحدها : أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك ، وهو مؤمن : أي مستحل لذلك ، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر» ، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء ، والله تعالى لم يحرمها ، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة ، ولا زنا ، ولا شرب خمر أي في البر ، والطهارة ، والعفة ونحو ذلك ، ويصير هذا كقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.
    فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : 28] قيل : معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة ، فأخبر تعالى أن ثم شفاعة ، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك ، ولم يرد إلا لمن رضي سائر عمله ، لأن من رضي سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة ، ويحتمل أن يكون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : 28] يعني لمن كان معه عمل مرتضى. والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى ، وإن كان عاصيا فاسقا ، وهو التوحيد والتصديق ، وقوله : لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر ، فصحّ ما قلناه.

    فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : 18] قلنا : معناه فالظلم بالشرك والكفر الذي لا ينفع معه طاعة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : 13] ولهذا لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : 82] حزن الصحابة رضي الله عنهم كذلك ، حتى قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه : يا رسول الله : وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هذا يا أبا بكر ، إنما الظلم الشرك هاهنا ، ألا ترى إلى قول لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : 13]» فدلّ أن لا شفاعة تنفع الكافر. ولا حميم يدفع عنه ، والمؤمن بخلاف ذلك بحمد الله وإن كانت له سيئات. فاعلم ذلك.
    فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)) [الزّخرف : 75](وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : 36] وقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : 56] وقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)) [المدّثر : 48].
    فالجواب : أن نقول : أنتم وإخوانكم من الخوارج دأبكم أبدا أن تجعلوا آيات العذاب في أهل الإيمان والتوحيد ، وهي لأهل الكفر والضلال دون المؤمنين بحمد الله تعالى ؛ وهذه الآيات كلها في أهل الكفر ، والذي يدل على صحة هذا ما قدمنا من الأخبار الصحاح : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وغير ذلك من الأخبار الصحاح.
    وأيضا فإن القرآن نطق بذلك فإنه قال في أول هذه الآية : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)) [المدّثّر : 42 ـ 48] فصحّ أن لا شفاعة لهم لأجل كفرهم ، وصارت في النار ، وجدا لهم لأجل كفرهم وصارت الآية إلى آخرة حجة عليهم ، إلا أن الله تعالى أخبر أن ثم شفاعة ، وأنتم تقولون أن لا شفاعة ؛ غير أنه تعالى أخبر أنها لا تنفع للكافرين ، فدلّ على أنها تنفع المؤمنين.
    فإن قيل : ما تقولون فيمن حلف بالطلاق الثلاث أنه يفعل فعلا ينال به شفاعة الرسول عليه‌السلام ، ويستحق به شفاعة الرسول ، أو قال : أفعل فعلا يجوز أن يشفع لي فيه الرسول مما أستحق من العقاب بما ذا تأمرونه؟ أتأمرونه بالمعصية أم بالطاعة؟ قلنا : الجواب من وجهين :

    أحدهما : أنا نقول نأمره بالتمسك بالتوحيد والإيمان دون فعل الذنوب ، لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب ، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب ، وهذا كما أن زيدا يشفع في ذنب صديقه ، أو قريبه ، أو حبيبه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك ، لا يقال إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب أو الخطأ الذي أخطأ ، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة أو القرابة المتقدمة أو السؤال المتقدم ، لا نفس الذنب ، ونأمره أيضا بفعل الطاعات حتى ينال بذلك شفاعة الرسول عليه‌السلام في الزيادة له من البر والنعيم ونحو ذلك.
    الجواب الثاني : أنا نعارضكم بمثل هذا : لا تجدون أنتم عنه محيصا ، فنقول لكم : ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : 222] فحلف رجل بالطلاق الثلاث ليفعلن فعلا يجب عليه فيه التوبة أو الاستغفار حتى يتوب منه ويستغفر ، ما تأمرونه؟ فإن قالوا : نأمره بالطاعة ، وفعل الخير. قلنا لهم : هذا لا يصح ؛ لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة أو الاستغفار من فعل الطاعة والخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم : نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه فقد استحللتم ما حرّم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم : لا نأمره بفعل المعصية ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم : نحن أيضا نقول لمن حلف ليفعلن فعلا ، يجوز أن يشفع فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول عليه‌السلام ، نقول له تمسك بالطاعة والإيمان ، فإن ابتليت بشيء من المعاصي فقد خرجت من اليمين ، ويجوز أن يشفع لك الرسول ، لا أنا نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.
    * * *
    رؤية الله تعالى
    اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة من جهة العقل ، وهي واجبة للمؤمنين في الآخرة من طريق الشرع ، وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه ، وإنما ختمنا بها لأنها أعلى الأشياء وأجلها ، وبها يختم للمؤمنين المصدقين لها حتى يستحقروا كل نعيم في جنبها ، جعلنا الله من أهلها بمنّه وفضله ، إنه جواد كريم.
    اعلم أن أهل السنة والجماعة قد جوّزوا الرؤية على الله تعالى شرعا وعقلا بلا خلاف بينهم على الجملة ، وإنما وقع الخلاف بينهم هل يكون ذلك ويجوز في الدنيا أم ذلك في الآخرة خاصة.

    فكل الصحابة أجمعوا ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الجنة ، يراه المؤمنون بلا خلاف في ذلك. واختلف الصحابة في الرسول عليه‌السلام هل رآه ليلة المعراج بالقلب أو بعيني الرأس على قولين : فكانت الصديقة عائشة رضي الله عنها في جماعة من الصحابة يقولون : رآه بقلبه دون عيني رأسه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه ليلة المعراج بعيني رأسه. ونحن نقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما ، فإذا تقرر هذا : فإن المعتزلة ، والنجارية ، والجهمية ، والروافض ، والخوارج : الكل منهم ينكرون الرؤية ولا يجوّزونها بوجه ، حتى قالوا : ولا يرى ولا يرى هو نفسه. وقد قدّمنا الأدلة على صحة الرؤية وجوازها فيما تقدم ، ولا بد أن نذكر هاهنا طرفا من الأدلة أيضا يؤكد ما تقدم ويقوّيه إن شاء الله.
    ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع ممن يعد إجماعه إجماعا ، ودليل العقل.
    فمن أدلة الكتاب قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] وهذا السؤال إنما كان من موسى بعد النبوة ، والبعثة ، والرسالة ، لأن الله تعالى قال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] ولا يخلو سؤال موسى عليه‌السلام هذا السؤال بعد النبوة والكمال من أحد أربعة أوجه : إما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه ، أو مع علمه باستحالتها على ربه ، أو سألها وهو شاك في ذلك ، أو سألها وهو ذاهل العقل لا يتفهم شيئا. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه بأنه يستحيل على ربه ، لأن من المحال أن يسأل النبي الكريم ربه ما يستحيل في حقه ، ولا يجوز عليه كما يستحيل في حقه سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يكون سأل ذلك وهو شاك جاهل حكم هذه المسألة أو ذاهل لا يدري ، لأن هذه المسألة من مسائل أصول الدين ، وكيف يجوز على النبي الكريم عليه‌السلام الشك فيها أو الذهول ، أو غفلة القلب عنها. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق إلا أنه عليه‌السلام سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه وتعالى. فإذا اعتقد النبي الكريم جواز الرؤية لم يخل من أن يكون مصيبا أو مخطئا ، ولا يجوز أن يخطئ النبي الكريم في اعتقاده ، فلم يبق إلا أنه أصاب ، وهذا التقرير لا مخرج للمخالف عنه بوجه ولا سبب. فافهمه.
    فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون موسى لم يسأل الرؤية ، وإنما سألها قومه وسألوه أن يسألها لهم ، أما أن يكون هو سألها لنفسه فلا.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:00

    فالجواب : أن هذا تعلل لا ينفعكم ولا ينجيكم مما قررنا وحققنا في اعتقاد موسى عليه‌السلام جواز الرؤية ؛ وذلك : أن موسى عليه‌السلام لو كان يعتقد استحالة جواز الرؤية لكان قد أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار وجهلهم بذلك غاية الجهل. ولم يساعدهم على ذلك. ولا سأل ما جهلهم عليه ، ولما ساعدهم كما فعل لما قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : 138] ولم يسأل ربه أن يجعل لهم إلها ، لأنه علم عليه‌السلام استحالة ذلك. فكيف يسأل له أو لهم الرؤية مع اعتقاده استحالة ذلك عليه سبحانه وتعالى ، فلم يبق إلا ما قلناه.
    جواب آخر : وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل ، لأنه قال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] فلا يحمل أرني أنظر ، على قومي ينظرون إليك ، فبطل ما قالوه ، وصار هذه بمنزلة قول من قول : قوله أي (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : 14] أي اعبد غيري ، وهذا لا يجوز ، فبطل قولهم.
    فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : 143] فنص على أنه لا سبيل إلى ما سأله فالجواب من وجهين :
    أحدهما : أن هذا لا يمنع من جواز الرؤية ، لأن قوله لن تراني إنما تضمن عدم وجود الرؤية عند السؤال ، لا استحالة الرؤية على ما قررنا ، ولو أراد استحالة الرؤية لقال : لن يجوز أن تراني. وقد لا يوجد الشيء ولا يدل على استحالته ، ألا ترى أن أحدا لو سأل نبي زمانه أن يسأل ربه أن يرزقه ولدا ، فسأل نبي ذلك الزمان ، فأوحى الله تعالى لن يرزق هذا السائل ولدا ، هل يدل ذلك على أنه لا يجوز وجود الولد في حق هذا السائل ، ويستحيل ، بل هو جائز وإن منع من وجوده عقب السؤال ، على أن حرف لن لا يقتضي عدم جواز الرؤية في الدنيا والآخرة. ولو قرن بأبد. ألا ترى أنه تعالى قال في حق اليهود : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : 95] يعني الموت ولم يقتض ذلك [أن لا يتمنوه] في الدنيا والآخرة ، لأنه أخبر تعالى أنهم يتمنون الموت في النار بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزّخرف : 77] يعنون الموت ، فإذا كان حرف لن مع اقتران أبد به لا يقتضي نفي ذلك في الدنيا والآخرة ، فكيف به إذا لم يقرن به أبد ، وأيضا الجواب يجوز فيه الاستثناء ، بأن كان يقول : لن تراني في الدنيا ولن تراني إلى وقت كذا وكذا ، كما قال أخو يوسف عليه‌السلام : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [يوسف : 80] ثم استثنى (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) [يوسف : 80] فصحّ أن حرف لن لا يحيل عليه جواز الرؤية ، وإنما توجب أن لا توجد الرؤية في هذا الوقت دون جوازها فصحّ ما قلناه.

    والجواب الثاني : أن الله تعالى علّق جواز الرؤية على أمر جائز ، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد ، وهو استقرار الجبل ، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دلّ على أن الرؤية جائزة.
    فإن قيل : أليس قد قال موسى عليه‌السلام : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] قالوا : والتوبة إنما تكون من الخطأ ، فلما علم عليه‌السلام أنه أخطأ تاب ، فالجواب من أوجه :
    أحدها : أن موسى عليه‌السلام لما رأى الآية من جعل الجبل دكا ، وصعوقه ، قال على جاري العادة من القول عند الفزع (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] وإن لم يكن سؤاله مستحيلا ، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع صوت الرعد العظيم ، أو رأى الظلمة العظيمة ، أو أمرا هائلا فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار ، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.
    وجواب آخر : وهو أنه يحتمل أن موسى عليه‌السلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس ، فجدّد التوبة منها وأكدها ، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.
    جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية ، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه ، أو سافر فلقي في سفره ما أتعبه وشقّ عليه يقول : أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر ، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزا غير محرم. ولا مستحيل ، وكذلك مسألتنا مثله.
    جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : 143] من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه ، حتى يؤذن لي في السؤال ، ولهذا قيل عن موسى عليه‌السلام : إنه تأدب بعد ذلك ، فقال : يا رب أسألك في جميع أموري؟ قال : نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.
    جواب آخر : وهو أن موسى عليه‌السلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة ، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة ، وأن لا يتقدم على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرؤية ، فكأنه قال : تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح ، لأن التوبة هي الرجوع ، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك.
    ويدل على صحة ما قدّمناه من قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 22 ، 23] وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : 26] وقوله :

    (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)) [المطفّفين : 15] والحجب للكفار عن رؤيته عذاب. فدلّ على أن المؤمنين غير محجوبين ، ولا يعذبون بعذاب الحجاب. فاعلم ذلك.
    ويدل على ذلك أيضا الأخبار التي قدّمنا ذكرها عند سؤال الصحابة مع قوله عليه‌السلام في دعائه إنه قال : «اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضر ـ أو مضر ـ ولا فتنة مضلة» وهذا أيضا تصريح من الرسول عليه‌السلام في جواز الرؤية ، وأنها غير مستحيلة ، لأنه لا يسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر مستحيل ، لا سيما بعد تقدم موسى عليه‌السلام في سؤال الرؤية ، وما كان منه ، فلو كانت غير جائزة أو مستحيلة لما سألها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سألها دل على الجواز ، وبطل ما قال أهل العناد. وبالله التوفيق.
    ويدل على صحة جواز الرؤية إجماع الصحابة على جوازها في الجملة ، وإنما اختلفوا هل عجلها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج أم لا؟ على قولين ، ولو لم يقع الاتفاق منهم على جوازها ، لما صحّ هذا الاختلاف ، فلما وقع هذا الاختلاف فقال بعضهم : عجل ذلك له في الدنيا قبل الآخرة. وقال البعض : لم يرد دليل على الجواز في الجملة وأنه متفق عليه ، وإلا كان يقول لمن قال بأنها لم تعجل : فكيف تجوز الرؤية وهي مستحيلة عليه ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم دلّ على إجماعهم على جوازها. فاعلم ذلك.
    ويدل على ذلك من جهة العقل : أنه تعالى موجود ، والموجود لا يستحيل رؤيته ، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضا فإنه تعالى يرى جميع المرئيات ، وقد قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (14)) [العلق : 14] وقال : (الَّذِي يَراكَ) [الشّعراء : 218] وكل راء يجوز أن يرى ؛ ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم ، لأنه تعالى فصل بين الأمرين ، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر ، ألا ترى أنه سمى نفسه عالما ، وسمى نفسه مريدا ، ولا أن نحمل الإرادة على العلم ، كذلك لا نحمل الرؤية على العلم. فاعلمه.
    جواب آخر : وهو أن الصحابة سألوا الرسول عليه‌السلام : هل نرى ربنا؟ فقال : «نعم» ولا يجوز أن يكون سؤالهم : هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا ؛ فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم ، ولهذا أجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب» يعني لا تشكون في رؤيته كما لا يشك [من] رأى القمر والشمس فيها ، فشبّه الرؤية بالرؤية في نفي الشك عن الرائي ، ولم يشبه المرئي بالمرئى. فاعلم ذلك.
    * * *

    فصل
    في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها ، وأخبار ، وشبه في نفي الرؤية.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : 103] قالوا : فأخرج ذلك مخرج التمدح ، كما تمدح بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : 101] فكيف يجوز أن يزول عن مدحته ، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة :
    أحدها : أن يقال لهم : ما أنكرتم على قائل يقول لكم ، لا حجة لكم في ذلك ، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : 103] لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه ، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار ، ولا يوجب كون ذلك مدحة له ، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار ، وليست بممدوحة ، لأنها لا تدركها الأبصار.
    فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون متمدحا بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه؟ قيل لهم : لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : 209 ، 220 ، 228 ، 240 ، 260 ، الأنفال : 10 ، 49 ، التوبة : 71] و (عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النّحل : 70] فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه ، تجدد أو انضم إلى غيره ، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم.
    جواب آخر : وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : 103] فحسب ، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات ، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود ، قادر على الرؤية ، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى ، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى ، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له ، بأن يحدث في أبصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته ؛ فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق ، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محييا مميتا ، أي لا يقدر على ذلك غيره ، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت ، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعا في البصر من الإدراك ، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف ، ولا شبه ، ولا تحديد. فاعلم ذلك.
    جواب آخر : وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية ؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية ، لأن البصر عندهم عرض ؛ فلا يدرك عند

    البغداديين منهم : أنه تعالى لا يرى شيئا ، إنما المراد بالإدراك العلم ، فهو يعلم الأبصار عندهم ، والأبصار لا تعلمه ، فبطل احتجاج الجميع منهم بهذه الآية ، لأن عندهم لا يراد بالإدراك الرؤية ، فلا يصح لهم الاحتجاج بها في نفي الرؤية.
    جواب آخر : وهو أن الآية لا حجة فيها ، لأنه قال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : 103] ولم يقل لا تراه الأبصار ، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية ، لأن الإدراك : الإحاطة بالشيء من جميع الجهات ، والله تعالى تعالى يوصف بالجهات ، ولا أنه في جهة ، فجاز أن يرى وإن لم يدرك ، وهذا كما قال تعالى في قصة اللعين فرعون : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) [يونس : 90] يعني أحاط به من جميع جوانبه ، فالغرق لا يوصف بأنه يرى ، وإنما يوصف بأنه أحاط بالشيء. كذلك المؤمن يوصف بأنه يرى ربه ولا يدركه بالإحاطة ، وهذا كما نقول : إنا نعلم ربنا ، ولا نقول إنا نحيط بربنا ، فكما كانت الإحاطة معنى يزيد على العلم كذلك الإدراك معنى يزيد على الرؤية ، وهذا صحيح. لأنا نجمع بين قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمّد : 19] وبين قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : 110] ونجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 22 ، 23] وبين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : 103] فنقول : معلوم ولا يحاط به ، ومرئي ولا يدرك. فصحّ ما قلناه ، وبطل قول الغير.
    جواب آخر : أن معنى الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وإن جاز أن تدركه في الآخرة ، ليجمع بين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : 103] وبين قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 23].
    جواب آخر : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : 103] يعني أبصار الكفار دون المؤمنين ، ليجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23)) [القيامة : 22 ، 23] وبين قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)) [المطفّفين : 15] وهذا صحيح ؛ لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين ، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.
    جواب آخر : وهو أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا والآخرة ؛ لأن هذه الأبصار جعلت للفناء ، وإنما يحدث لهم بصرا غير هذا البصر ، ويكون باقيا غير فان فيرى الباقي بالباقي ، وقد قيل : إنه تعالى يحدث لأوليائه حاسة سادسة غير هذه الحواس الخمس يرونه بها. وقال هذا القائل : الله أخبر في كتابه العزيز : أنه من أهل

    الجنة ، وخبره حق لا يدفع بالشبهة ، ولا يمكن الجمع إلا بما قلناه من وجود حاسة يرى بها الله تعالى ، دون هذه الحواس. والله أعلم بالصواب.
    جواب آخر : وهو أن يحمل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : 103] [على أنها لا تدركه] في جهة ، ولا تدركه جسما ولا صورة ولا متحيزا ولا حالا في شيء (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : 103] على جميع هذه الصفات ، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة ، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى.
    فإن احتجوا بقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النّساء : 153] فأكبر الله هذا السؤال فأنكره.
    قيل لهم : لا حجة لكم في ذلك ، لأن الله تعالى ما أكبر ذلك لكونه مستحيلا ، وإنما أنكره لأنهم سألوه ذلك على وجه التعنت ، ألا ترى أنه أنكر عليهم سؤالهم تنزيل الكتاب من السماء ، وليس ذلك بمستحيل ، وإنما أنكروا استكبارا وتعنتا منهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشكيكا للناس في نبوته ؛ لأن عندهم التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، وكل ذلك منزل من عند الله ، وإنما أرادوا بذلك التلبيس على العوام ، حتى لا يصدقوا بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتركوا ما أوجب الله عليهم من الإيمان به في التوراة والإنجيل ، كما قال تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : 157] فإكباره تعالى سؤالهم ذلك لأجل هذه المعاني لا يكون ذلك مستحيلا. وهذا كما أنكر تعالى سؤال قريش لما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) [الإسراء : 90 ، 91](أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : 93] وكل ذلك جائز غير مستحيل ، لكن أنكره عليهم وأكبره لما كان [ذلك] على وجه التعنت والتكذيب ، لما قد وضح من آياته وحججه ، وكذلك أنكر سؤالهم الرؤية لموسى عليه‌السلام على وجه التعنت ، لا لكونها مستحيلة.
    فإن احتجوا بالخبر المروي عن عائشة رضي الله عنها لما قال لها ابن الزبير ـ وهو ابن أختها ـ يا أماه : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : يا ابن أختي لقد قفّ شعر بدني ، والله تعالى يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : 51] قالوا : فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى ؛ فدلّ أن ذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى. الجواب من أوجه :

    أحدها : أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمدا رأى ربه ليلة أسري به بعيني رأسه ، ولو كان ذلك مستحيلا لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة ، كما لم يقع بينهم الخلاف في ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة والشريك ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف في ذلك وانقرض عصرهم على ذلك ، دلّ على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.
    وجواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما خالفت فيما رأى به محمد ربه ، فعندها رآه بالقلب دون العين ، وعند غيرها من الصحابة رآه بالقلب والعين معا ، فقد وقع الإجماع منهم على جواز الرؤية عليه تعالى ، وإنما اختلفوا فيما به رآه ، لا أصل جواز الرؤية عليه ، لأن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤية حقيقية لا رؤية مجاز ، بخلاف الواحد منا ، لأن رؤيته بالقلب قد تكون حقيقة وقد تكون تخيلا ومجازا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ، ولا ينام قلبي» وقال عليه‌السلام : «إني أراكم من وراء ظهري» ورؤية الأنبياء عليهم‌السلام حقيقة بالقلب والعين.
    دليلة : قصة إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصّافات : 102] فصحّ أن الإجماع قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم في جواز الرؤية على الله تعالى ، وإن وقع الخلاف بما رآه الرسول الله تعالى ليلة الإسراء ، فصار ذلك حجة على المخالف لا له.
    جواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت رؤية الباري بأبصار العيون في دار الدنيا ، لا على الإطلاق ، ولهذا روي عن أبيها وعنها رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : 26] قالوا : الزيادة النظر إلى الله تعالى في الجنة ، وقد روي هذا مرفوعا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصحّ مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى ، وبطل شبه المخالف واندحض مكره. ولله المنّة والحجة البالغة (1).
    __________________
    (1) رؤية أهل الجنة لله سبحانه مجردة عند أهل الحق من المقابلة والمسافة ونحوهما من لوازم الجسمية ، على خلاف الرؤية في الشاهد ، بأدلة تنزه الله سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا ، وهذا موضع اتفاق بين الفريقين سوى الحشوية ، فيجب أن يكونا متفقين أيضا على حصول معرفة ضرورية بالله سبحانه لهم في الجنة فوق معرفتهم الاستدلالية الغيبية به تعالى في دار الدنيا ، كما هو الفرق بين الإيمان بالغيب والإيمان بالشهود. وما عدا ذلك شغب يأباه المحصلون. نسأل الله الصون من معاندة الحق ونسأله التوفيق وجمع الكلمة حول الصدق (ز).

    فإن احتجوا فقالوا : لو جاز عليه سبحانه وتعالى الرؤية بالأبصار لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو محدودا ، أو حالا في مكان ، أو مقابلا أو خلفا ، أو عن يمين ، أو عن شمال ، أو يكون من جنس المرئيات ؛ لأننا لم نعقل مرئيا بالبصر إلا كذلك ، فلما استحال عليه جميع هذه الوجوه بطل أن يكون مرئيا ، أو يجوز عليه الرؤية ، وهذا في تصورهم الفاسد من أعظم الحجج عندهم في نفي الرؤية عنه سبحانه وتعالى ، وهي عند أهل السنة والجماعة [من أسقط الحجج] فليس هو اليوم مرئيا لخلقه ومدركا لهم ، ولا تجوز الإشارة في وصفه تعالى.
    فالجواب أن نقول لهم : هذه الحجة الباطلة تؤدي إلى إبطال الربوبية أصلا ورأسا ، أو تؤدي إلى إيجاب كون ربنا تعالى يشبه المخلوقات ، لأن من أنكر الصانع القديم يقول لنا : لو كان لنا صانعا لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة وطبع وآلة ، وغير ذلك ؛ لأنا لم نعقل صانعا إلا على هذه الأوصاف ، وأنتم تنفون عنه جميع هذه الأوصاف ، فبطل أن يكون ثم صانع ، بل تصنع نفسها أو يصنعها من هو على هذه الأوصاف ، وكذلك نقول : في العلم والحياة ، لأن العالم ، والحي ، لا يعقل إلا جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة أو فكر ، أو روية وغير ذلك. وقد وقع الإجماع منا ومنكم أنه عالم ، وأنه حي ، وأنه معلوم بالقلب ، وأنه موجود ؛ ثم كونه عالما ومعلوما ، وموجودا يصح وصفه بجميع ذلك ، وإن لم يكن جسما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا ذا علة ، ولا محدودا ولا حالا في مكان ، بخلاف العالم منا ، والمعلوم منا ، والموجود منا ، فكذلك لا يستحيل أن يكون مرئيا وليس ذا جسم ولا جوهر ولا عرض ، فبطل زعمكم وصحّ الحق وظهر أمر الله وأنتم كارهون.
    فإن احتجوا فقالوا : لو كان تعالى مرئيا ، أو تجوز عليه الرؤية لرأيناه الساعة لأن الموانع من الرؤية يستحيل وصفه بها ؛ لأنه لا يوصف بالدقة والرقة ، والحجاب والبعد ، وكل مانع من الرؤية ، فلو جاز أن يكون مرئيا لرأيناه الساعة لانعدام هذه الموانع في حقه.
    فالجواب : أن جميع ما ذكرتم لا يمنع من الرؤية ، لأن الملائكة فيهم من الدقة ، واللطافة ، ما ليس في غيرهم ، وبعضهم يرى بعضا ، والميت يراهم عند النزع ، والرسول كان يرى جبريل عليه‌السلام ، فبطل أن تكون الدقة ، والرقة ، واللطافة ،

    مانعة من الرؤية. وكذلك البعد لا يمنع الرؤية ، لأن السماء أبعد الأشياء منا والكواكب فيها ، لأن بيننا وبينها خمسمائة عام ، ونحن نراها ، ولم يمنعنا بعدها من رؤيتها ، وكذلك الحجاب لا يمنع من الرؤية ؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت التحت ، ودونه ألف ألف حجاب [عند الخلق] وكذلك الهدهد يرى الماء من تحت الأرض ودونه حجاب وحجاب ، فبطل أن يكون جميع ما ذكرتم هو المانع من الرؤية ، حتى يجب أن نراه الساعة.
    فإن قيل : فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى؟ قلنا : إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض ، فإذا خلق فينا إدراكا رأينا مرئيا لم نكن نراه من قبل ؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه ، ويراه إذا نزل به ، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكا له عند موت غيره ، وخلق في بصره إدراكا له عند موته. وكذلك الفرس ، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده ، ونحن لا نرى ذلك ؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكا حتى رأت ، ولم يخلق في أبصارنا إدراكا حتى نرى ، كما ترى ؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكا له في الدنيا حتى نراه ، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكا حتى نراه ، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.
    فإن قالوا : وإذا كان الأمر كذلك ، فجوّزوا أن يخلق الله لكم إدراكا ترون به ذرة ، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا : هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى ، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة ، والنار ، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط ، وهما من أعظم المخلوقات ، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولون ثوبه مع صغر ذلك ، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما رأى ، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة ، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد ، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليه‌السلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئا من الجنة والنار ، أو ما هو على صورهما ، يخلق منهما إذا خلقنا ، واختص هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم برؤية ما لم يره أصحابه ، وإن كانوا يرون الذرة لو دبّت على قميصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا : أن بعض الخلق يدرك صوتا خفيا جدا ، ولا يدرك صوتا عاليا جدا ، وإن وجد الصوتان في وقت واحد ، ومسافة واحدة ، وقد رأينا ذلك عيانا ؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل

    فأخفى صوته غاية الإخفاء ، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي ، ولم يدرك الصوت العالي ؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه ، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي ، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي ، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة ، ويخلق فيه مانعا من إدراك الفيل الكبير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : 284].
    فإن قيل : فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها ، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية ، لأن ذلك جائز في المقدور ، أو نشك في ذلك ، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.
    الجواب : أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم ؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى ، ولا نشك فيه ، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار ، ونشك في ذلك ؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك ، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم ، وكذلك أيضا من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلا لا من ذكر ولا من أنثى ، ثم لا يجب علينا أن نجوّز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ، وكذلك أيضا يجوز في مقدوره تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم ، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا ، أو نشك فيه ؛ فبطل ما قلتم ، وصحّ الحق.
    فإن احتجوا فقالوا : لو جاز أن يكون مرئيا لجاز أن يقال : يرى كله أو بعضه.
    فالجواب : أن هذا محال من القول ؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض ، والله تعالى منزّه عن الوصف بالكل والبعض ، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا : لو كان معلوما لجاز أن نقول : نعلم كله أو بعضه ، فنقول له : لا نقول نعلم كلّا ولا بعضا ، بل نقول نعلم واحدا أحدا فردا صمدا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] فكذلك نقول : نرى واحدا أحدا فردا صمدا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11].
    فإن قيل : لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقصت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون ، ولا يجوز أن تتناقض أحوال أهل الجنة.

    فالجواب : أن الأمر ليس على ما يقع لكم ، لأن تناقص الأحوال أن يريد المرء حالة عالية فيبقى في حالة ناقصة ، أو يريد ملاذا فلا يصل إليها ، عالية كانت أو دون ذلك ، فأهل الجنة ـ بحمد الله تعالى ـ قد تكاملت حالتهم ، إذ كانوا بحيث إذا شاءوا رأوا ربهم ، وإذا شاءوا اشتغلوا بملاذهم ، ولا يكون ذلك نقصا في أحوالهم ولا يلزم على هذا التقرير أن يقال : فهذا نقص في حق أهل الجنة إذا شاءوا الخلوة بالتلذذ عن رؤية ربهم تعالى. قيل هذا يلزمكم أنتم دوننا ، لأنا نحن نقول : هم (لا يشاءون إلا ما شاء الله لهم) فهم به وله في كل أحوالهم ، فإذا شاء لهم الرؤية شاءوها وتلذذوا بها ، وإذا شاء لهم الخلوة شاءوها وتلذذوا بها ، ولا نقص عليهم في ذلك ، ولا يلزم ما قلتم.
    جواب آخر : وهو أن أهل الجنة يجتمعون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينظرون إليه ، والاجتماع به والنظر إليه أعلى من الاجتماع بالحور والقصور ، والنظر إلى الحور والقصور ، ثم يشتغلون بالحور والقصور بعد نظره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن عادوا إلى قصورهم ونعيمهم ، وإن كان نظره أعظم وأعلى من ذلك ، فجاز مثل ذلك أيضا في جواز رؤية الباري ، وإن كانت أعلى الأشياء وأجلها ، فثبت ما قلناه ، وبطل التمويه بحمد الله.
    فإن قيل : إذا كان مرئيا فخبّرونا ما هو؟ قيل لهم إن أردتم بقولكم : ما هو : أي ما صورته ، وجنسه ، وطوله ، وعرضه إلى غير ذلك مما لا يجوز عليه ، فليس بذي صورة ولا جنس ولا طول ولا عرض ، وقد قدّمنا الأدلة على أنه لا يشبه خلقه ولا يشبهونه. وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما اسمه؟ فاسمه : الله ، الرّحمن ، الرّحيم ، الحي ، القيوم ، وإن أردتم بقولكم ما هو صنعه؟ فصنعه : العدل ، الإحسان ، والإنعام ، والسموات والأرض وجميع ما بينهما ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما الدلالة على وجوده؟ فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ أي أشيروا لنا إليه حتى نراه ، ولم أنها لا تصح إلا في المسجد؟ .....؟
    جواب آخر : وهو أن هذه الأخبار تحمل عليه على وجه التغليظ والمبالغة في الزجر ، حتى يقف الناس عن هذه الأمور ولا يقدموا عليها ، وهذا كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة. ولم يرد عليه‌السلام الإعراض عن الحكم أصلا بين الجد والإخوة ، فإنه قد حكم عدة نوب بقضايا مختلفة بين الجد والإخوة.

    فإن قيل : فإذا كان مرئيا فكيف هو؟ قيل لهم : إن أردتم بقولكم كيف هو؟ على أي تركيب ، أو على أي صورة هو ، أو على أي جنس هو؟ فلا تركيب له ، ولا صورة ولا جنس فنخبركم عن ذلك ، وإن أردتم بقولكم كيف هو وعلى أي صفة هو؟ فهو قديم ، حي ، علام قادر ، متكلم ، سميع بصير ، مريد ، وإن أردتم بقولكم كيف هو؟ كيف صنعه إلى خلقه؟ فصنعه إليهم الإحسان ، والعدل ، والتفضل ، والامتنان ، فإن قيل إذا كان مرئيا فأين هو؟ قيل لهم : إن أردتم أين هو في وصف المنزلة والرفعة والجلال فهو كما وصف نفسه بقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : 18] وبقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] وبقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزّخرف : 84] وبقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)) [الفجر : 14] قيل لهم : الأين سؤال عن مكان وليس هو مما يحويه مكان ، لما قدّمنا من الحجج والبراهين بحمد الله الملك المنّان. وحسبي الله ونعم الوكيل.
    تمّ الكتاب بعون الله





    بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك
    قال اللّه سبحانه وتعالى: و (يَبْقىٰ‌ وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: 27](1). قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ‌ وَجْهَهُ‌) [الأنعام: 52] أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة: (كُلُّ‌ شَيْ‌ءٍ هٰالِكٌ‌ إِلاّٰ وَجْهَهُ)‌ [القصص: 88] أي إلا هو.
    وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة يختص باسم زائد على الذات. فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات، وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه، وقال ابن حامد: أثبتنا اللّه تعالى وجها ولا يجوز إثبات رأس. قال: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.
    ومنها قوله تعالى: و (لِتُصْنَعَ‌ عَلىٰ‌ عَيْنِي) [طه: 39]، (وَاصْنَعِ‌ الْفُلْكَ‌ بِأَعْيُنِنٰا) [هود: 37] (2). أي بمرأى منا، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول أمرنا ونهينا.
    وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة (3). فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين.
    __________________
    (1) قال الزمخشري في الكشاف: (وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: 27] ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان.
    (2) يقول الزمخشري: بِأَعْيُنِنٰا [هود: 37] في موضع الحال بمعنى اصنعها محفوظا وحقيقته ملتبسا بأعيننا كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ه‍‌ ويقول الرازي في أساس التقديس عند الكلام على العين: لا بد من المصير إلى التأويل وذلك هو أن يحمل هذه الألفاظ‍‌ على شدة العناية والحراسة، والوجه في حسن هذا المجاز أن من عظمت عنايته بشيء وميله إليه ورغبته فيه كان كثير النظر إليه فجعل لفظ‍‌ العين التي هي آلة لذلك النظر كناية عن شدة العناية.
    (3) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري توفي عام أحد عشر وثلاثمائة، يعد في أكابر المحدثين، كان يورع نفسه عن الخوض في مسائل الكلام وينهي أصحابه عنه، ثم اضطره بعض أهل النظر إلى الدخول في هذه المآزم فزلّت قدمه وخرج إلى وجوه غير معقولة سامحه اللّه (ز).

    وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى اللّه عليه وسلم: «ليس بأعور» (1) وإنما أريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه.
    ومنها قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: 75] (2) اليد في اللغة بمعنى النعمة والإحسان، ومعنى قول اليهود لعنهم اللّه تعالى: (يَدُ اللّٰهِ‌ مَغْلُولَةٌ‌) [المائدة: 64] أي محبوسة عن النفقة؛ واليد القوة يقولون: له بهذا الأمر يد.
    وقوله: (بَلْ‌ يَدٰاهُ‌ مَبْسُوطَتٰانِ‌) [المائدة: 64] أي نعمته وقدرته(3). وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: 75] أي بقدرتي ونعمتي. وقال الحسن: (يدُ اللّٰهِ‌ فَوْقَ‌ أَيْدِيهِمْ)‌ [الفتح: 10] أي منته وإحسانه، هذا كلام المحققين.
    وقال القاضي (أبو يعلى) اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين. وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه، وقال: لو لم يكن لآدم عليه الصلاة والسلام مزية على سائر الحيوانات بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال: (بِيَدَيَّ‌) [ص: 75] ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، ولو كانت القدرة لم تثن.
    قلنا: بلى قالت العرب ليس لي بهذا الأمر يدان أي ليس لي به قدرة، قال عروة بن حزام:
    فقالا شفاك اللّه واللّه ما لنا
    بما ضمنت منك الضلوع يدان

    __________________
    (1) طالع الحديث الخمسين الآتي ترى مزيد تفصيل عن هذا الخبر.
    (2) يقول الزمخشري: أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له: يداك أوكتا وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك ا. ه‍‌ وقال الراغب الأصبهاني في مفرداته: قوله تعالى: (مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا) [يس: 71] وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: 75] عبارة عن توليه لخلقه باختراعه الذي ليس إلا له عزّ وجل، وخصّ‌ لفظ‍‌ اليد ليتصور لنا المعنى إذ هو أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا ليتصور لنا اختصاص المعنى لا لنتصور منه تشبيها، وقيل معناه بنعمتي التي رشحتها لهم، والباء فيه ليس كالباء في قولهم: قطعته بالسكين بل هو كقولهم: خرج بسيفه أي معه سيفه، معناه خلقته ومعه نعمتاي الدنيوية والأخروية اللتان إذا رعاهما بلغ بهما السعادة الكبرى.
    وقال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: 75] أي بنفسي من غير توسط‍‌ كأب وأم.
    (3) في أساس التقديس لمجدد القرن السادس الفخر الرازي: والسبب في حسن هذا المجاز أن كمال حال هذا العضو إنما يظهر بالصفة المسماة بالقدرة فلما كان المقصود من اليد حصول القدرة أطلق اسم القدرة على اليد، ولأن آلة إعطاء النعمة اليد فإطلاق اسم اليد على النعمة إطلاق لاسم السبب على المسبب.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:02

    وقولهم: ميّزه بذلك عن الحيوان فقد قال تعالى: (خَلَقْنٰا لَهُمْ‌ مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً) [يس: 71] ولم يدل على تمييز الأنعام على بقية الحيوان.
    قال تعالى: و (السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ) [الذّاريات: 47] أي بقوة ثم قد أخبر أنه قد نفخ فيه من روحه ولم يرد الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة إذ لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، ولا له أعضاء وجوارح يفعل بها لأنه تعالى الغني بذاته؛ فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام.
    وقد ظنّ‌ بعض الثلاثة أن اللّه تعالى يمسّ‌ حتى توهموا أنه مس طينة آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أن من جملة مخلوقاته جسما يقابل جسما فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه وتعالى جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين‌؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: (إِنَّ‌ مَثَلَ‌ عِيسىٰ‌ عِنْدَ اللّٰهِ‌ كَمَثَلِ‌ آدَمَ‌ خَلَقَهُ‌ مِنْ‌ تُرٰابٍ‌ ثُمَّ‌ قٰالَ‌ لَهُ‌ كُنْ‌ فَيَكُونُ‌) (59) [آل عمران: 59].
    ومنها قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ‌ اللّٰهُ‌ نَفْسَهُ‌) [آل عمران: 28] وقوله تعالى: (تَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِي وَلاٰ أَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِكَ‌) [المائدة: 116] قال المفسرون: ويحذركم اللّه إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته.
    وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا وهي صفة زائدة على ذاته، وهذا قول لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها. ومنها قوله تعالى: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: 11](1). ظاهر الكلام أن
    __________________
    (1) يقول الزمخشري في الكشاف: قالوا مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره: قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ومنه قولهم: قد أيفعت لذاته وبلغت أترابه يريدون إيفاعه وبلوغه اه‍‌.
    وقال الراغب: إن الندّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط‍‌ والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط‍‌ والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط‍‌ والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط‍‌ والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد اللّه نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: 11] وأما الجمع بين الكاف والمثل فقد قيل ذلك لتأكيد النفي تنبيها على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف فنفى بليس الأمرين جميعا وقيل المثل هاهنا بمعنى الصفة ومعناه: ليس كصفته صفة تنبيها على أنه وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر.

    له مثلا فليس كمثله شيء وليس كذلك، إنما معناه عند أهل اللغة أن يقام المثل مقام الشيء نفسه يقول الرجل مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى ليس كهو شيء.
    ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: 42](1). قال جمهور العلماء: يكشف عن شدة وأنشدوا: وقامت الحرب على ساق(2). وقال آخر: وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجدّ فيه شمّر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وثعلب واللغويين، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «أن اللّه عزّ وجل يكشف عن ساقه»(3). وهذه إضافة إليه معناها يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى يكشف عنها يزيلها، وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه وإنما ذلك من أمر شديد.
    وقد ذكر أبو عمر الزاهد: أن الساق بمعنى النفس، قال: ومنه قول علي رضي اللّه عنه لما قالت الشراة لا حكم إلا للّه تعالى فقال: لا بد من محاربتهم ولو
    __________________
    (1) ومما قاله الرازي في تفسير هذه الآية: يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ‍‌ لا يدل إلا على ساق فأما إن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ‍‌ ما يدل عليه.
    وفي محاسن التأويل للعلامة الجمال القاسمي رحمه اللّه: وقال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته استعارة من ساق الشجر.
    (2) قال البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) عند الاستشهاد بهذا الكلام من الشعر: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: 42] فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب.
    (3) في صحيح البخاري: ثنا آدم ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» الحديث، وقال الحافظ‍‌ ابن حجر: ووقع في هذا الموضع «يكشف ربنا عن ساقه» وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله عن ساقه نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة بن زيد بن أسلم بلفظ‍‌ (يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: 42] قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ‍‌ القرآن في الجملة اه‍‌.
    وقد أخذ ابن شاقلا على البخاري إخراجه حديث الساق في صحيحه لأنه من رواية ابن أبي هلال ويراه ليس من شرطه لضعفه. وقال ابن حزم أيضا: ابن أبي هلال ليس بالقوي قد ذكره بالتخليط‍‌ يحيى وأحمد بن حنبل (ز).

    تلفت ساقي، فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرون للّه سجّدا ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌ وَيُدْعَوْنَ‌ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ‌ (42)) [القلم: 42]».
    وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن الساق صفة ذاتية وقال: مثله يضع قدمه في النار. وحكي عن ابن مسعود قال: يكشف عن ساقه اليمنى فتضيء من نور ساقه الأرض، قلت: وذكره الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكره عن ابن مسعود محال ولا يثبت للّه تعالى صفة بمثل هذه الخرافات، ولا توصف ذاته بنور شعاعي تضيء به الأرض، واحتجاجه بالإضافة ليس بشيء لأنه إذا كشف عن شدته فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن معنى يكشف يظهر وإنما المعنى يزيل ويرفع.
    وقال ابن حامد: يجب الإيمان بأن للّه سبحانه وتعالى ساقا صفة لذاته فمن جحد ذلك كفر. قلت: لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحا فكيف من ينسب إلى العلم فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردون الأمر إلى اللغة وهؤلاء أثبتوا ساقا للذات وقدما حتى يتحقق التجسيم والصورة.
    ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ عَلَى الْعَرْشِ)‌ [الحديد: 4](1). قال الخليل بن
    __________________
    (1) يقول الآلوسي في تفسيره: والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في (الأسماء والصفات) بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وما روي عن مالك رضي اللّه عنه أنه سئل كيف استوى فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: «غير مجهول» أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه الاستقرار وهو غير مجهول. وقال في موضع آخر: وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن اللّه تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: (ثُمَّ‌ إِنَّ‌ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ‌ (19)) [القيامة: 19] ولنبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه اللّه مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون اه‍‌. وفيه توسط‍‌ في المسألة، وقد توسط‍‌ ابن الهمام في (المسايرة) وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصر بنا ابن عابدين الشامي في (رد المحتار) توسطا أخص من هذا التوسط‍‌ فذكر ما حاصله: وجواب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه، وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه، وإذا خيف

    أحمد: العرش السرير وكل سرير لملك يسمى عرشا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام، قال تعالى: (وَرَفَعَ‌ أَبَوَيْهِ‌ عَلَى الْعَرْشِ‌) [يوسف: 100] وقال تعالى: (أَيُّكُمْ‌ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا) [النّمل: 38]، اعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه: منها الاعتدال. قال بعض بني تميم: «فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم» أي اعتدلا، والاستواء تمام الشيء. قال اللّه تعالى: (وَلَمّٰا بَلَغَ‌ أَشُدَّهُ‌ وَاسْتَوىٰ)‌ [القصص: 14]، والاستواء القصد إلى الشيء. قال اللّه تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشيء. قال الشاعر:
    إذا ما غزا قوما أباح حريمهم
    وأضحى على ما ملكوه قد استوى

    وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء، وجميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.
    وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد: الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود(1). قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن اللّه تعالى على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه على العرش، وقال: والنزول انتقال.
    __________________
    ـ على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:
    فلما علونا واستوينا عليهم
    جعلناهم مرعى لنسر وطائر

    وقوله:
    قد استوى بشر على العراق
    من غير سيف ودم مهراق (ز)

    (1) قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به (أي بالقدم النوعي) في العرش اه‍‌ وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن اللّه استوى على العرش جلوسا، فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن اللّه أزلي فمكانه أزلي، وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي أن اللّه لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلا وأبدا ولننظر أين يكون اللّه بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا، فسبحان اللّه ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضى لنفسه، ولست أعرف هل قال ابن تيمية بشيء من ذلك على التحقيق، وكثيرا ما نقل عنه ما لم يقله اه‍‌ (ز).

    وعلى ما حكي تكون ذاته أصغر من العرش، فالعجب من قول هذا ما نحن مجسمة.
    وقيل لابن الزاغوني: هل تجددت له صفة لم تكن بعد خلق العرش‌؟ قال: لا، إنما خلق العالم بصفة التحت فصار العالم بالإضافة إليه أسفل، فإذا ثبتت لإحدى الذاتين صفة التحت ثبت للآخر استحقاق صفة الفوق، قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال: (اِسْتَوىٰ‌) [البقرة: 29] علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال: ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها.
    قلت: هذا رجل لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقرّ بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما تحيز، ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه، قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه.
    فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدثه، وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات.
    وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتا، والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات، فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تحس بالأجرام.

    وأما قولهم: «خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها» قلنا: ذاته المقدسة لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط‍‌ حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا.
    واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إِلَيْهِ‌ يَصْعَدُ الْكَلِمُ‌ الطَّيِّبُ‌ وَالْعَمَلُ‌ الصّٰالِحُ‌ يَرْفَعُهُ)‌ [فاطر: 10] وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: 18] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إما أن تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان(1). ثم إنه كما قال تعالى: (فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: 18] قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌) [الحديد: 4] فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر(2).
    وذهبت طائفة إلى أن اللّه تعالى على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية.
    * * *
    فصل: فإن قيل فقد أخرج في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: فعلا به إلى الجبار تعالى فقال وهو في مكانه: «يا رب خفّف عنا».
    الجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة انفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ‍‌ والمكان لا يضاف إلى اللّه تعالى إنما هو مكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في
    __________________
    (1) في التفسير الكبير للفخر الرازي: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق، إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة لأحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون في حيز معين (ز).
    (2) يقول الفخر الرازي في أساس التقديس: إن ظاهر قوله تعالى: (وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ) [ق: 16] وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: 4] وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمٰاءِ إِلٰهٌ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌ إِلٰهٌ)‌ [الزّخرف: 84] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآيات لتبقى الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس اه‍‌ (ز).

    داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه(1) ؛ وقد قال القاضي (أبو يعلى) في كتابه المعتمد: إن اللّه عزج وجل لا يوصف بالمكان.
    ومن الآيات قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ‌ مَنْ‌ فِي السَّمٰاءِ) [الملك: 16](2). قد ثبت قطعا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق.
    ومنها قوله تعالى: (يٰحَسْرَتىٰ‌ عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ‌) [الزّمر: 56] (3). أي في طاعته وأمره لأن التفريط‍‌ لا يقع إلا في ذاته وأما الجنب المعهود من ذي الجوارح فلا يقع فيه تفريط‍‌.
    __________________
    (1) زاد البيهقي في كتابه الأسماء والصفات: (وهي الجنة).
    (2) قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: إن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون اللّه تعالى شيئا حقيرا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال. وقال الزمخشري ووافقه الفخر: (من في السماء) في وجهان أحدهما من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ‍‌ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه، والثاني أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل إذا رأيته يركب بعض المعاصي، وقال الرازي أيضا: والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان اللّه وتعظيم قدرته كما قال: (وَهُوَ اللّٰهُ‌ فِي السَّمٰاوٰاتِ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌) [الأنعام: 3] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، وقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله (من في السماء) هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام (ز).
    (3) يقول الزمخشري في كشافه: والجنب الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط‍‌ في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال سابق البربري:
    أما تتقين اللّه في جنب وامق
    له كبد حرّى عليك تقطع

    وقال السيد محمود الآلوسي في تفسيره (روح المعاني): وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزّ وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي، ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعوّل على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد اللّه وحفصة (في ذكر اللّه) ه‍‌. وقال العلامة القاسمي في تفسيرها: أي في جانب أمره ونهيه إذ لم أتبع أحسن ما أنزل.

    وقال ابن حامد: نؤمن بأن للّه سبحانه وتعالى جنبا بهذه الآية.
    فوا عجبا من عدم العقول، إذا لم يتهيأ التفريط‍‌ في جنب مخلوق فكيف يتهيأ في صفة الخالق جلّ‌ جلاله، وأنشد ثعلبة:
    «خليليّ‌ كفا واذكرا اللّه في جنبي» أي في أمري.
    ومنها قوله تعالى: (فَنَفَخْنٰا فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِنٰا) [التّحريم: 12](1). قال المفسرون: أي من رحمتنا، وإنما نسب الروح إليه لأنه بأمره كان.
    ومنها قوله تعالى: (يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌) [الأحزاب: 57] (2). أي يؤذون أولياءه كقوله تعالى: (وَسْئَلِ‌ الْقَرْيَةَ‌) [يوسف: 82] أي أهلها. وقال صلى اللّه عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» وقال الشاعر:
    أنبئت أن النار بعدل أوقدت
    واستبّ‌ بعدك يا كليب المجلس

    ومنها قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: 210] (3). أي بظلل وكذلك قوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: 22] ذكر القاضي
    __________________
    (1) قال الشهاب الآلوسي: (وَنَفَخْتُ‌ فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِي) [الحجر: 29] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري.
    (2) قال الآلوسي: (إِنَّ‌ الَّذِينَ‌ يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌ وَرَسُولَهُ‌) [الأحزاب: 57] أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له، وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد اللّه مغلولة، والمسيح ابن اللّه، والملائكة بنات اللّه، والأصنام شركاؤه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
    (3) ومما قاله جار اللّه الزمخشري: ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى أن يأتيهم اللّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فإن اللّه عزيز)، فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام‌؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب اللّه قوله تعالى: (وَبَدٰا لَهُمْ‌ مِنَ‌ اللّٰهِ‌ مٰا لَمْ‌ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‌) [الزّمر: 47] اه‍‌ وساق الفخر الرازي في هذا المعنى فصلا مشبعا ـ شأنه في تفسير آيات الصفات ـ إلى أن قال: إن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: 210] وقوله: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: 22] إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ تَأْتِيَهُمُ‌ الْمَلاٰئِكَةُ‌ أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: 33] فصار هذا المحكم مفسرا لذلك

    (أبو يعلى) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال في قوله تعالى: (أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: 210] قال: المراد به قدرته وأمره، قال: وقد بيّنه في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: 33] ومثل هذا في التوراة «وجاء ربك» قال: إنما هي قدرته.
    قال ابن حامد: وهذا خطأ إنما ينزل بذاته بانتقال. قلت: وهذا كلام في ذات اللّه تعالى بمقتضى الحس كما يتكلم في الأجسام.
    قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قُلِ‌ الرُّوحُ‌ مِنْ‌ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: 85] قال: من كفّ‌ خلقه عن السؤال عن مخلوق فكفهم عن الخالق وصفاته أولى وأنشدوا:
    كيفية النفس ليس المرء يدركها
    فكيف كيفية الجبار في القدم

    * * *
    باب ذكر الأحاديث التي سموها أخبار الصفات
    اعلم أن في الأحاديث دقائق وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة في نقلها وتارة في كشف معناها وسنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى:
    الحديث الأول: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة
    __________________
    (3) ـ المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض، وقال تعالى بعده: (وَقُضِيَ‌ الْأَمْرُ) [البقرة: 210] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: 210] أي يأتيهم أمر اللّه، وأنهى كلامه بقوله: والذي هو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ‌ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ‌ كَافَّةً‌) [البقرة: 208] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: (فَإِنْ‌ زَلَلْتُمْ‌ مِنْ‌ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ‌ الْبَيِّنٰاتُ‌ فَاعْلَمُوا أَنَّ‌ اللّٰهَ‌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‌ (209)) [البقرة: 209] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌ وَالْمَلاٰئِكَةُ‌) [البقرة: 210]، حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لَنْ‌ نُؤْمِنَ‌ لَكَ‌ حَتّٰى نَرَى اللّٰهَ‌ جَهْرَةً‌ [البقرة: 55]، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على اللّه المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

    رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «خلق اللّه تعالى آدم عليه الصلاة والسلام على صورته»(1).
    للناس في هذا مذهبان: أحدهما السكوت عن تفسيره، والثاني الكلام في معناه.
    واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء إلى من تعود على ثلاثة أقوال:
    أحدها: تعود إلى بعض بني آدم، قال: وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبّح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».
    وإنما خصّ‌ آدم بالذكر لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذى عليها من بعده، وكأنه نبّه على أنك سببت آدم وأنت من ولده، وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب(2). ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى اللّه عزّ وجل لقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسبه إليه سبحانه كان تشبيها صريحا.
    وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».
    القول الثاني: أن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصلح أن تصرف إلى اللّه عزّ وجل، لقيام الدليل أنه تعالى ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم.
    ومعنى الحديث أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما، لم
    __________________
    (1) يقول الراغب الأصفهاني: الصورة أراد بها ما خص الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه، وإضافته إلى اللّه سبحانه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك، وذلك على سبيل التشريف له كقوله بيت اللّه وناقة اللّه ونحو ذلك: ونفخت فيه من روحي.
    (2) مما أورده الرازي في تأويل هذا الخبر قوله: إن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريبا من السماء فالنبي عليه السلام أشار إلى إنسان معين (وهو المضروب) وقال: «إن اللّه خلق آدم على صورته» أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة (ز).

    ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه(1). هذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه.
    القول الثالث: أنها تعود إلى اللّه تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما أن تكون صورة ملك، لأنها فعله وخلقه فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما التشريف بالإضافة كقوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ‌ لِلطّٰائِفِينَ‌) [الحجّ‌: 26] والثاني ابتدعها لا على مثال سبق. والقول الثاني أن تكون الصورة بمعنى الصفة تقول «هذا صورة هذا الأمر» أي صفته، ويكون خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، فميّزه بذلك عن جميع الحيوانات، ثم ميّزه على الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له، والصورة هاهنا معنوية لا صورة تخاطيط‍‌.
    وقد ذهب أبو محمد بن قتيبة(2) في هذا الحديث إلى مذهب قبيح فقال: «للّه تعالى صورة لا كالصور فخلق آدم عليها» وهذا تخليط‍‌ وتهافت، لأن معنى كلامه أن صورة آدم كصورة الحق تعالى.
    وقال القاضي (أبو يعلى) يطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته.
    وهذا تخليط‍‌ لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط‍‌ وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف.
    وقول القائل «لا كالصور» نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول «جسم لا كالأجسام» فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال «لا كالأجسام» نقض ما قال.
    * * *
    __________________
    (1) ومن الوجوه التي سردها الفخر في هذا المقام قوله: أنه تعالى لما عظم أمر آدم بجعله مسجود الملائكة، ثم إنه أتى بتلك الزلة فاللّه تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره فإن نقل إن اللّه تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاوس وغير تعالى خلقهما، مع أنه لم يغير خلقة آدم بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا عن عذاب المسخ ه‍‌. وذهب البيهقي هذا المذهب (ز).
    (2) هو صاحب التصانيف أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة أحد أئمة الأدب، إخباري، قليل الرواية، قد يعتمد في التشبيه على ما يرويه من كتب أهل الكتاب، يتهم بالنصب، كذبه الحاكم ووثقه غيره، مات عام ست وسبعين ومائتين (ز).

    الحديث الثاني: روى عبد الرّحمن بن عياش عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفيّ‌ فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات والأرض».


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:05

    ال الإمام أحمد: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة وقد روي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أتاني آت في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ قلت: لا أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض».
    وهذه أحاديث مختلفة وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق(1). وأن الإنسان يرى كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه على ما ذكرنا، وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال عليّ‌ والرضا عني، وإن قلنا: ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى رأيته وأنا على أحسن صورة(2). وروى ابن حامد من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لما أسري بي رأيت الرّحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ وعن عن»(3). وصفه لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته وإذا كأنه عروس حين كشف عنه
    __________________
    (1) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في مثل هذا المقام: ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: «إن رؤيا الأنبياء وحي» فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير أه‍‌ (ز).
    (2) بقي على المؤلف أن يتكلم على عجز الحديث، ونحن ننقل عن (أساس التقديس للفخر الرازي) ما بقي بالغرض: وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففي وجهان: الأول: المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه. الثاني: أن يكون المراد من اليد النعمة، وأما قوله: «بين كتفي» فإن صحّ‌ فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا، والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله عليه السلام في آخر الحديث «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» اه‍‌ (ز).
    (3) هكذا في الأصل المحفوظ‍‌ لدينا.

    حجابه مستو على عرشه وهذا الحديث كذب قبيح ما روي قط‍‌ لا في صحيح ولا في كذب فأبعد اللّه تعالى من عمله، فقد كنا نقول ذاك منام فيذكر هذا ليلة الإسراء كافأهم اللّه عزّ وجل وجزاهم النار، يشبهون اللّه سبحانه وتعالى بعروس ما كتب هذا مسلم، وأما حديث البرد في الحديث الماضي فإن البرد عرض لا يجوز أن ينسب إلى اللّه عزّ وجل.
    وقد ذكر القاضي (أبو يعلى) في كتابه الكناية (رأيت ربي في أحسن صورة) أي في أحسن موضع.
    * * *
    الحديث الثالث: روت أم الطفيل امرأة أبيّ‌ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عزّ وجل في المنام في أحسن صورة شابا منورا في خضر، في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب. هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد. قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسئل الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء» وهذا مروي. من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد، وكان يدس في كتبه هذه الأحاديث لا ثبوت لها ولا يحسن أن يحتج بها.
    وقد أثبت القاضي (أبو يعلى) صفات للّه تعالى فقال: قوله شاب وأمرد وجعد وقطط‍‌ والفراش والنعلان والتاج، قال: ثبت ذلك تسمية لا نعقل معناها. ومن يثبت بالمنام وما صحّ‌ نقله صفات! وقد عرفنا معنى الشاب الأمرد، ثم يقول «ما هو كما نعلم» كمن يقول قام فلان وما هو بقائم، وقعد وما هو بقاعد، قال ابن عقيل: هذا الحديث نجزم بأنه كذب ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا وصار هذا كما لو أخبرنا جماعة من المعدلين بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة الخياط‍‌ فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم.
    * * *
    الحديث الرابع: روي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليلة أسري بي رأيت كل شيء من ربي حتى رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ» هذا يرويه أبو القاسم محمد بن اليسع عن قاسم بن إبراهيم، قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة فيقول: قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشيء، قال الدار قطني: هو كذاب كافأ اللّه تعالى من عمل هذا.
    * * *

    الحديث الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يجمع اللّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم اللّه تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه تعالى منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا».
    وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيقال هل بينكم وبينه آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن»(1).
    اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى لا يجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف؛ قال أبو سليمان الخطابي: معنى فيأتيهم اللّه تعالى أي يكشف الحجاب لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي لم يكن شوهد قبل.
    وقال بعض العلماء: يأتيهم بأهوال القيامة وصور الملائكة(2). ولم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقول: إذا جاء ربنا عرفناه أي إذا أتانا نعرفه من لطفه وهي الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد المهولة فيسجدون شكرا؛ وقال بعضهم: صورة يمتحنهم بها كما يبعث الدجال فيقولون نعوذ باللّه تعالى منك. وفي حديث أبي موسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الناس يقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه إذا رأيتموه‌؟ فيقولون: نعم، فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه‌؟ فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرّون سجّدا» قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط‍‌ والأشكال وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما من الأدلة القطعية قوله تعالى: لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ [الشّورى: 11] ومن الأدلة العقلية
    __________________
    (1) لقدم الكلام على هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: 42].
    (2) باعتبار (في) بمعنى الباء، ونظيره قول ابن عباس في قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: 210] أي بظلل من الغمام على ما نقله الفخر الرازي في كتابه (أساس التقديس) (ز).

    أنه لو كان جسما كانت صورته عرضا ولو كان حامل الأعراض جاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع ولو كان جسما مع قدمه جاز قدم أحدنا. فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل صورة يليق إضافتها إليه وما ذلك إلا الحال الذي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون: كيف صورتك مع فلان، وفلان على صورة من الفقر؛ والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونها اللطف فيكشف عن الشدة، والتغير إنما يليق بفعله فأما ذاته فتعالت عن التغير، نعوذ باللّه أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة أن الصورة ترجع إلى ذاته وأن ذلك تجويز التغير على صفاته فخرجوه في صورة إن كانت حقيقة فذاك استحالة وإن كان تخيلا فليس ذاك هو إنما يريهم غيره.
    * * *
    الحديث السادس: روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا شخص أغير من اللّه ولذلك حرّم الفواحش ولا شخص أحب إليه المدحة من اللّه».
    لفظة «الشخص» يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم «لا شيء أغير من اللّه» والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك «شخص» من تغيير الرواة وقد يكون المعنى ليس منكم أيها الأشخاص أغير من اللّه لأنه لما اجتمع الكل بالذكر سمّى بأسمائهم والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا ومثل هذا قول ابن مسعود: وما خلق من جنة ولا نار أعظم من آية الكرسي؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: الخلق يرجع إلى الجنة والنار لا إلى القرآن ويجوز أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس كقوله تعالى: (مٰا لَهُمْ‌ بِهِ‌ مِنْ‌ عِلْمٍ‌ إِلاَّ اتِّبٰاعَ‌ الظَّنِّ‌) [النّساء: 157] وأما الغيرة فقد قالت العلماء: كل من غار من شيء أسندت كراهته له، فلما حرّم الفواحش ووعد عليها وصفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغيرة.
    * * *
    الحديث السابع: روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض»(1).
    __________________
    (1) يقول السيوطي في الجامع الكبير: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي في السنن والطبراني في الكبير وابن سعد.

    وإنما أضيفت القبضة لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ‌) [القمر: 37] وقد روى محمد بن سعد في كتاب الطبقات أن اللّه تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ‌ خَلَقْتَ‌ طِيناً [الإسراء: 61].
    * * *
    الحديث الثامن: روى سلمان قال: إن اللّه لما خمّر طينة آدم وضرب بيديه فيه فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى ثم خلط‍‌ بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
    وهذا مرسل، وقد ثبت بالدليل أن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شيء، وإن صح فيضرب مثلا لما جرت به الأقدار، وقال القاضي (أبو يعلى): تخمير الطين وخلط‍‌ بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم وهذا التشبيه المحض.
    * * *
    الحديث التاسع: روى عبيد بن حنين قال: بينا أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإنه قد أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري وقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان اللّه يا ابن أم أوجعتني، قال ذلك أردت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا» قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا(1).
    قال عبد اللّه بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في دواوين الشريعة المعتمد عليها؛ وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل المدينة. وفي
    __________________
    (1) روى الحافظ‍‌ البيهقي هذا الخبر في (الأسماء والصفات) وقال: فهذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه وفليح بن سليمان ـ أحد رواته ـ مع كونه من شرط‍‌ البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح وهو عند الحفاظ‍‌ غير محتج به، عن يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه، عنه يقول: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح ليس بالقوي. قال الشيخ: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ‍‌ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم اه‍‌. وذكر أيضا علة عدم اجتماع عبيد بقتادة (ز).

    الحديث علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، قال الإمام أحمد: ثم لو صحّ‌ طريقه احتمل أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم قتادة إنكاره.
    ومن هذا الفن حديث رويناه أن الزبير سمع رجلا يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه قال الزبير: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‌؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعان أن نحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة فإن أهل الكتاب قالوا: إن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض استراح فنزل قوله تعالى: (وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌) [ق: 38] فيمكن أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى ذلك عنهم ولم يسمع قتادة أول الكلام.
    وقد روى عبد الرّحمن بن أحمد في كتاب السنة قال: رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة‌؟ فقال: قاتل اللّه اليهود، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌ وَمٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ‌ أَيّٰامٍ‌ وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌ (38)) [ق: 38] فعرفت ما عنى به فأمسكت. قلت: وإنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود.
    وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يستلقون ويضعون رجلا على رجل، وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له واللّه أعلم.
    * * *
    الحديث العاشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أن رجلا من المشركين سبّ‌ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وقتل الرجل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما تعجبون من نصر اللّه تعالى ورسوله لقي اللّه تعالى متكئا فقعد له».
    هذا حديث مقطوع بعيد عن الصحة، ولو كان له وجه كان المعنى: فأقبل اللّه تعالى عليه وأنعم.
    * * *

    الحديث الحادي عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض»(1).
    قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات اللّه عزّ وجل لا تتبعض ولا يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال، وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم هم الذين قدمهم اللّه لها من شرار خلقه وأثبتهم لها، وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله: «وأما الجنة فينشئ لها خلقا».
    ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما فالقدم جمع قادم، ومن يرويه بلفظ‍‌ (الرجل) فإنه يقال: (رجل من جراد) فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد فيسرعون التهافت فيها.
    وقال القاضي (أبو يعلى): القدم صفة ذاتية، قال ابن الزاغوني: يقول إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. وهذا إثبات تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات.
    ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات(2). وبوّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل وإن رغمت المعتزلة، ثم قال: قال اللّه تعالى: (أَلَهُمْ‌ أَرْجُلٌ‌ يَمْشُونَ‌ بِهٰا أَمْ‌ لَهُمْ‌ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ‌ بِهٰا) [الأعراف: 195] فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام.
    قال ابن عقيل: تعالى اللّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها، ثم إنه أليس يعمل في النار أمر وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ويعالجها بصفة من صفاته وهو القائل: (كُونِي بَرْداً وَسَلاٰماً) [الأنبياء:
    69] فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك، وقد صرح
    __________________
    (1) يقول جار اللّه الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث): وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر اللّه فيكفها عن طلب المزيد فترتدع ه‍‌. وفي أساس البلاغة: من المجاز «فيضع قدمه عليها» أي فيسكنها ويكسر سورتها كما يضع الرجل قدمه على الشيء المضطرب فيسكنه.
    (2) وهو الكتاب الذي يسميه (كتاب التوحيد)، والإمام فخر الدين الرازي يقول عنه: (وهو في الحقيقة كتاب الشرك) (ز).

    بتكذيبهم فقال تعالى: (لَوْ كٰانَ‌ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً‌ مٰا وَرَدُوهٰا) [الأنبياء: 99] فكيف يظن بالخالق أن يردها، تعالى اللّه عن تجاهل المجسّمة.
    * * *
    الحديث الثاني عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار»(1).
    قال أبو عمر الزاهد: الجبار هاهنا الطويل، يقال نخلة جبارة(2). قال القاضي (أبو يعلى) نحملها على ظاهرها، والجبار هو اللّه عزّ وجل. قلت: وا عجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد! أو يجوز أن يقال: إن الذراع اثنان وأربعون مرة حتى يبلغ جلد الكافر ويضاف إلى الذات القديمة! تعالى اللّه علوا كبيرا.
    * * *
    الحديث الثالث عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود عليه الصلاة والسلام ذنبه فيقول اللّه تعالى كن أمامي فيقول يا رب ذنبي ذنبي، فيقول كن خلفي فيقول يا رب ذنبي فيقول له خذ بقدمي، وفي لفظ‍‌ عن ابن سيرين قال: إن اللّه تعالى ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه.
    والعجب من إثبات ذلك للحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين وما تصح عنهم ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب كما يذكر وهب بن منبه؛ قال القاضي (أبو يعلى) نحمله على ظاهره لأننا لا نثبت قدما وفخذا هو جارحة.
    واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق وقدم ووجه ويدين وأصابع وخنصر وإبهام وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح.
    __________________
    (1) يقول الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وأحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا، والترمذي عن أبي هريرة (بألفاظ‍‌ متقاربة).
    (2) قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) في كلامه على هذا الحديث: ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك. قال اللّه تعالى: (وَمٰا أَنْتَ‌ عَلَيْهِمْ‌ بِجَبّٰارٍ) [ق: 45] أي بملك مسلّط‍‌ والجبابرة الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:06

    ال الإمام أحمد: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة وقد روي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أتاني آت في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ قلت: لا أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض».
    وهذه أحاديث مختلفة وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق(1). وأن الإنسان يرى كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه على ما ذكرنا، وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال عليّ‌ والرضا عني، وإن قلنا: ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى رأيته وأنا على أحسن صورة(2). وروى ابن حامد من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لما أسري بي رأيت الرّحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ وعن عن»(3). وصفه لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته وإذا كأنه عروس حين كشف عنه
    __________________
    (1) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في مثل هذا المقام: ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: «إن رؤيا الأنبياء وحي» فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير أه‍‌ (ز).
    (2) بقي على المؤلف أن يتكلم على عجز الحديث، ونحن ننقل عن (أساس التقديس للفخر الرازي) ما بقي بالغرض: وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففي وجهان: الأول: المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه. الثاني: أن يكون المراد من اليد النعمة، وأما قوله: «بين كتفي» فإن صحّ‌ فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا، والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله عليه السلام في آخر الحديث «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» اه‍‌ (ز).
    (3) هكذا في الأصل المحفوظ‍‌ لدينا.

    حجابه مستو على عرشه وهذا الحديث كذب قبيح ما روي قط‍‌ لا في صحيح ولا في كذب فأبعد اللّه تعالى من عمله، فقد كنا نقول ذاك منام فيذكر هذا ليلة الإسراء كافأهم اللّه عزّ وجل وجزاهم النار، يشبهون اللّه سبحانه وتعالى بعروس ما كتب هذا مسلم، وأما حديث البرد في الحديث الماضي فإن البرد عرض لا يجوز أن ينسب إلى اللّه عزّ وجل.
    وقد ذكر القاضي (أبو يعلى) في كتابه الكناية (رأيت ربي في أحسن صورة) أي في أحسن موضع.
    * * *
    الحديث الثالث: روت أم الطفيل امرأة أبيّ‌ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عزّ وجل في المنام في أحسن صورة شابا منورا في خضر، في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب. هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد. قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسئل الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء» وهذا مروي. من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد، وكان يدس في كتبه هذه الأحاديث لا ثبوت لها ولا يحسن أن يحتج بها.
    وقد أثبت القاضي (أبو يعلى) صفات للّه تعالى فقال: قوله شاب وأمرد وجعد وقطط‍‌ والفراش والنعلان والتاج، قال: ثبت ذلك تسمية لا نعقل معناها. ومن يثبت بالمنام وما صحّ‌ نقله صفات! وقد عرفنا معنى الشاب الأمرد، ثم يقول «ما هو كما نعلم» كمن يقول قام فلان وما هو بقائم، وقعد وما هو بقاعد، قال ابن عقيل: هذا الحديث نجزم بأنه كذب ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا وصار هذا كما لو أخبرنا جماعة من المعدلين بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة الخياط‍‌ فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم.
    * * *
    الحديث الرابع: روي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليلة أسري بي رأيت كل شيء من ربي حتى رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ» هذا يرويه أبو القاسم محمد بن اليسع عن قاسم بن إبراهيم، قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة فيقول: قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشيء، قال الدار قطني: هو كذاب كافأ اللّه تعالى من عمل هذا.
    * * *

    الحديث الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يجمع اللّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم اللّه تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه تعالى منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا».
    وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيقال هل بينكم وبينه آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن»(1).
    اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى لا يجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف؛ قال أبو سليمان الخطابي: معنى فيأتيهم اللّه تعالى أي يكشف الحجاب لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي لم يكن شوهد قبل.
    وقال بعض العلماء: يأتيهم بأهوال القيامة وصور الملائكة(2). ولم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقول: إذا جاء ربنا عرفناه أي إذا أتانا نعرفه من لطفه وهي الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد المهولة فيسجدون شكرا؛ وقال بعضهم: صورة يمتحنهم بها كما يبعث الدجال فيقولون نعوذ باللّه تعالى منك. وفي حديث أبي موسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الناس يقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه إذا رأيتموه‌؟ فيقولون: نعم، فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه‌؟ فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرّون سجّدا» قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط‍‌ والأشكال وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما من الأدلة القطعية قوله تعالى: لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ [الشّورى: 11] ومن الأدلة العقلية
    __________________
    (1) لقدم الكلام على هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: 42].
    (2) باعتبار (في) بمعنى الباء، ونظيره قول ابن عباس في قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: 210] أي بظلل من الغمام على ما نقله الفخر الرازي في كتابه (أساس التقديس) (ز).

    أنه لو كان جسما كانت صورته عرضا ولو كان حامل الأعراض جاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع ولو كان جسما مع قدمه جاز قدم أحدنا. فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل صورة يليق إضافتها إليه وما ذلك إلا الحال الذي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون: كيف صورتك مع فلان، وفلان على صورة من الفقر؛ والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونها اللطف فيكشف عن الشدة، والتغير إنما يليق بفعله فأما ذاته فتعالت عن التغير، نعوذ باللّه أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة أن الصورة ترجع إلى ذاته وأن ذلك تجويز التغير على صفاته فخرجوه في صورة إن كانت حقيقة فذاك استحالة وإن كان تخيلا فليس ذاك هو إنما يريهم غيره.
    * * *
    الحديث السادس: روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا شخص أغير من اللّه ولذلك حرّم الفواحش ولا شخص أحب إليه المدحة من اللّه».
    لفظة «الشخص» يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم «لا شيء أغير من اللّه» والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك «شخص» من تغيير الرواة وقد يكون المعنى ليس منكم أيها الأشخاص أغير من اللّه لأنه لما اجتمع الكل بالذكر سمّى بأسمائهم والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا ومثل هذا قول ابن مسعود: وما خلق من جنة ولا نار أعظم من آية الكرسي؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: الخلق يرجع إلى الجنة والنار لا إلى القرآن ويجوز أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس كقوله تعالى: (مٰا لَهُمْ‌ بِهِ‌ مِنْ‌ عِلْمٍ‌ إِلاَّ اتِّبٰاعَ‌ الظَّنِّ‌) [النّساء: 157] وأما الغيرة فقد قالت العلماء: كل من غار من شيء أسندت كراهته له، فلما حرّم الفواحش ووعد عليها وصفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغيرة.
    * * *
    الحديث السابع: روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض»(1).
    __________________
    (1) يقول السيوطي في الجامع الكبير: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي في السنن والطبراني في الكبير وابن سعد.

    وإنما أضيفت القبضة لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ‌) [القمر: 37] وقد روى محمد بن سعد في كتاب الطبقات أن اللّه تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ‌ خَلَقْتَ‌ طِيناً [الإسراء: 61].
    * * *
    الحديث الثامن: روى سلمان قال: إن اللّه لما خمّر طينة آدم وضرب بيديه فيه فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى ثم خلط‍‌ بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
    وهذا مرسل، وقد ثبت بالدليل أن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شيء، وإن صح فيضرب مثلا لما جرت به الأقدار، وقال القاضي (أبو يعلى): تخمير الطين وخلط‍‌ بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم وهذا التشبيه المحض.
    * * *
    الحديث التاسع: روى عبيد بن حنين قال: بينا أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإنه قد أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري وقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان اللّه يا ابن أم أوجعتني، قال ذلك أردت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا» قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا(1).
    قال عبد اللّه بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في دواوين الشريعة المعتمد عليها؛ وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل المدينة. وفي
    __________________
    (1) روى الحافظ‍‌ البيهقي هذا الخبر في (الأسماء والصفات) وقال: فهذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه وفليح بن سليمان ـ أحد رواته ـ مع كونه من شرط‍‌ البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح وهو عند الحفاظ‍‌ غير محتج به، عن يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه، عنه يقول: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح ليس بالقوي. قال الشيخ: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ‍‌ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم اه‍‌. وذكر أيضا علة عدم اجتماع عبيد بقتادة (ز).

    الحديث علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، قال الإمام أحمد: ثم لو صحّ‌ طريقه احتمل أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم قتادة إنكاره.
    ومن هذا الفن حديث رويناه أن الزبير سمع رجلا يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه قال الزبير: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‌؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعان أن نحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة فإن أهل الكتاب قالوا: إن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض استراح فنزل قوله تعالى: (وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌) [ق: 38] فيمكن أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى ذلك عنهم ولم يسمع قتادة أول الكلام.
    وقد روى عبد الرّحمن بن أحمد في كتاب السنة قال: رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة‌؟ فقال: قاتل اللّه اليهود، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌ وَمٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ‌ أَيّٰامٍ‌ وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌ (38)) [ق: 38] فعرفت ما عنى به فأمسكت. قلت: وإنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود.
    وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يستلقون ويضعون رجلا على رجل، وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له واللّه أعلم.
    * * *
    الحديث العاشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أن رجلا من المشركين سبّ‌ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وقتل الرجل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما تعجبون من نصر اللّه تعالى ورسوله لقي اللّه تعالى متكئا فقعد له».
    هذا حديث مقطوع بعيد عن الصحة، ولو كان له وجه كان المعنى: فأقبل اللّه تعالى عليه وأنعم.
    * * *

    الحديث الحادي عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض»(1).
    قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات اللّه عزّ وجل لا تتبعض ولا يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال، وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم هم الذين قدمهم اللّه لها من شرار خلقه وأثبتهم لها، وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله: «وأما الجنة فينشئ لها خلقا».
    ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما فالقدم جمع قادم، ومن يرويه بلفظ‍‌ (الرجل) فإنه يقال: (رجل من جراد) فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد فيسرعون التهافت فيها.
    وقال القاضي (أبو يعلى): القدم صفة ذاتية، قال ابن الزاغوني: يقول إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. وهذا إثبات تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات.
    ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات(2). وبوّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل وإن رغمت المعتزلة، ثم قال: قال اللّه تعالى: (أَلَهُمْ‌ أَرْجُلٌ‌ يَمْشُونَ‌ بِهٰا أَمْ‌ لَهُمْ‌ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ‌ بِهٰا) [الأعراف: 195] فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام.
    قال ابن عقيل: تعالى اللّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها، ثم إنه أليس يعمل في النار أمر وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ويعالجها بصفة من صفاته وهو القائل: (كُونِي بَرْداً وَسَلاٰماً) [الأنبياء:
    69] فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك، وقد صرح
    __________________
    (1) يقول جار اللّه الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث): وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر اللّه فيكفها عن طلب المزيد فترتدع ه‍‌. وفي أساس البلاغة: من المجاز «فيضع قدمه عليها» أي فيسكنها ويكسر سورتها كما يضع الرجل قدمه على الشيء المضطرب فيسكنه.
    (2) وهو الكتاب الذي يسميه (كتاب التوحيد)، والإمام فخر الدين الرازي يقول عنه: (وهو في الحقيقة كتاب الشرك) (ز).

    بتكذيبهم فقال تعالى: (لَوْ كٰانَ‌ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً‌ مٰا وَرَدُوهٰا) [الأنبياء: 99] فكيف يظن بالخالق أن يردها، تعالى اللّه عن تجاهل المجسّمة.
    * * *
    الحديث الثاني عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار»(1).
    قال أبو عمر الزاهد: الجبار هاهنا الطويل، يقال نخلة جبارة(2). قال القاضي (أبو يعلى) نحملها على ظاهرها، والجبار هو اللّه عزّ وجل. قلت: وا عجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد! أو يجوز أن يقال: إن الذراع اثنان وأربعون مرة حتى يبلغ جلد الكافر ويضاف إلى الذات القديمة! تعالى اللّه علوا كبيرا.
    * * *
    الحديث الثالث عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود عليه الصلاة والسلام ذنبه فيقول اللّه تعالى كن أمامي فيقول يا رب ذنبي ذنبي، فيقول كن خلفي فيقول يا رب ذنبي فيقول له خذ بقدمي، وفي لفظ‍‌ عن ابن سيرين قال: إن اللّه تعالى ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه.
    والعجب من إثبات ذلك للحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين وما تصح عنهم ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب كما يذكر وهب بن منبه؛ قال القاضي (أبو يعلى) نحمله على ظاهره لأننا لا نثبت قدما وفخذا هو جارحة.
    واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق وقدم ووجه ويدين وأصابع وخنصر وإبهام وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح.
    __________________
    (1) يقول الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وأحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا، والترمذي عن أبي هريرة (بألفاظ‍‌ متقاربة).
    (2) قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) في كلامه على هذا الحديث: ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك. قال اللّه تعالى: (وَمٰا أَنْتَ‌ عَلَيْهِمْ‌ بِجَبّٰارٍ) [ق: 45] أي بملك مسلّط‍‌ والجبابرة الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:08

    الحديث الخامس عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن عبد اللّه بن عمر موقوفا أنه قال: «خلق اللّه تعالى الملائكة من نور الذراعين والصدر».
    وقد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا للّه عزّ وجل. وهذا قبيح لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات القديم! هذا أقبح مما ادعاه النصارى.
    * * *
    الحديث السادس عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن من ربه فيضع عليه كنفه فيقول تعرف ذنب كذا».
    قال العلماء: يدنيه من رحمته ولطفه، قال ابن الأنباري: كنفه حياطته وستره، يقال: قد كنف فلان فلانا إذا حاطه وستره وكل شيء ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأن يستر صاحبه.
    قال القاضي (أبو يعلى) يدنيه من ذاته. وهذا قول من لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى ولا يعلم أنه لا يجوز عليه الدنو الذي هو مسافة. وكذلك قوله: «إنه ليدنو يوم عرفة» أي يقرب بلطفه وعفوه.
    * * *
    الحديث السابع عشر: روى مسلم في أفراده من حديث معاوية بن الحكم قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة فصككتها صكة، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعظم ذلك عليّ‌ فقلت: ألا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فقال لها: «أين اللّه تعالى‌؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: رسول اللّه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اعتقها فإنها مؤمنة».
    قلت: قد ثبت عند العلماء أن اللّه تعالى لا تحويه السماء ولا الأرض ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ‌ جلاله عندها.
    * * *
    الحديث الثامن عشر: رواه أبو رزين قال: قلت: يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه‌؟ قال: «كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء»(1).
    __________________
    (1) رواه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير في تهذيب الآثار والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة (جمع الجوامع للسيوطي).

    العماء السحاب، واعلم أن الفوق والتحت يرجعان إلى السحاب لا إلى اللّه تعالى و «في» بمعنى فوق، والمعنى: كان فوق السحاب بالتدبير والقهر. ولما كان القوم يأنسون بالمخلوقات سألوا عنها، والسحاب من جملة خلقه، ولو سئل عما قبل السحاب لأخبر أن اللّه تعالى كان ولا شيء معه، كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «كان اللّه سبحانه وتعالى ولا شيء معه» ولسنا نختلف أن الجبار تعالى لا يعلوه شيء من خلقه بحال وأنه لا يحل في الأشياء بنفسه ولا يزول عنها، لأنه لو حلّ‌ بها كان منها ولو زال عنها لنأى عنها ..
    * * *
    الحديث التاسع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له».
    روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول إنه يستحيل على اللّه عزّ وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين:
    أحدهما: المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ‌ بَأْسٌ‌ شَدِيدٌ) [الحديد: 25] وإن كان معدنه في الأرض، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ‌ لَكُمْ‌ مِنَ‌ الْأَنْعٰامِ‌ ثَمٰانِيَةَ‌ أَزْوٰاجٍ‌) [الزّمر: 6] ومن لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في الجمل.
    والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل وهذا لا يجوز على اللّه عزّ وجل.
    قال ابن حامد: هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على اللّه تعالى. وقال القاضي (أبو يعلى): النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال. وهذا مغالط‍‌ ومنهم من قال يتحرك إذا نزل. وما يدري أن الحركة لا تجوز على اللّه تعالى. وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو

    كذب عليه(1). ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفته كل ليلة تتجدد(2). وصفاته قديمة كذاته.
    * * *
    الحديث العشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي فقال: إني مجهود، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من يضيفه هذه الليلة‌؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى امرأته فقال: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، فقال: فعلليهم بشيء إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «لقد عجب اللّه تعالى من صنيعكما بضيفكما الليلة».
    وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «عجب اللّه من قوم جر بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».
    قال العلماء: العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان مما لا يعلمه فيستعظمه وهو لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله، لكن معناه: عظم قدر ذلك الشيء عند اللّه لأن
    __________________
    (1) حكى ذلك أبو يعلى في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري، وهو كما قال المصنف نقل مفترى. وعجيب من ابن تيمية كتبه في معقوله ـ غير منكر ـ ما يرويه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه ... يتكلم ويتحرك .. اه‍‌. ونقل أيضا عن نقض الدارمي ـ ساكتا أو مقرا ـ الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط‍‌ ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط‍‌ ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة أه‍‌ (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم ه‍‌.
    (2) مما يقوله ابن حزم الظاهري في حديث النزول: هذا إنما هو فعل يفعله اللّه تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة تقول: نزل فلان عن حقه لي بمعنى وهبه لي وتطوّل به علي، ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علق التنزل المذكور بوقت محدود وصحّ‌ أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ، وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البتة وقد بيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض ألفاظ‍‌ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أن ذكر عليه السلام أن اللّه يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ‌ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق، وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدّمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم اه‍‌ (ز).

    المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده، ومعنى السلاسل أكرهوا على الطاعة التي بها يدخلون، وقال ابن الأنباري: معنى عجب ربك: زادهم إنعاما وإحسانا فعبر في هذا الحديث بالعجب عن ذلك.
    * * *
    الحديث الحادي والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «للّه أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها».
    قال المصنف: لما كان مسرورا بشيء راضيا قيل له فرح، والمراد الرضا بتوبة التائب، ولا يجوز أن يعتقد في اللّه سبحانه وتعالى التأثر الذي يوجد في المخلوقين، فإن صفات الحق تعالى قديمة لا تحدث له صفة.
    * * *
    الحديث الثاني والعشرون: روى مسلم في أفراده من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن اللّه تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط‍‌ ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»(1).
    قوله: «حجابه النور» ينبغي أن يعلم أن هذا الحجاب للخلق عنه لأنه لا يجوز أن يكون محجوبا، لأن الحجاب يكون أكبر مما يستره وكما أنه لا يجوز أن يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء لا يصح أن يكون لذاته نهاية وإنما المراد أن الخلق محجوبون عنه كما قال تعالى: (كَلاّٰ إِنَّهُمْ‌ عَنْ‌ رَبِّهِمْ‌ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‌) (15) [المطفّفين: 15] وأما السبحات فجمع سبحة ويقال إن السبحة جلال وجهه ومنه قوله: «سبحان اللّه» إنما هو تعظيم له وتنزيه.
    وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمنع إطلاق حجاب من دون اللّه تعالى لا على وجه الحد والمحاذاة. وهذا كلام مختلط‍‌ يرضى به العوام.
    * * *
    __________________
    (1) يقول النووي في شرح صحيح مسلم: والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته (ز).

    الحديث الثالث والعشرون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة».
    قوله: «في رمال الكافور» إشارة إلى الحاضرين ثمّ‌ في رمال الكافور وأقربهم منه أي أحظاهم عنده.
    وفي حديث آخر: «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرّحمن». وقال بعضهم: «يمين العرش» وفي حديث سوق الجنة: «ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره اللّه محاضرة» ويروى خاصره بالخاء المعجمة. وهذا يرويه يوسف بن عبد اللّه وهو خطأ والمخاصرة المصافحة. وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع أن يكون الحق تعالى في رمال الكافور. فقد أقرّ بالحصر، ثم قال: لا على وجه الانتقال. وهذا تلاعب، ثم قال: ولا يمتنع قربهم من الذات، وهذا يضيع معه الحديث، واستدل بقوله: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه تعالى» وقال: الخلوة عبارة عن القرب ويجوز القرب من الذات. وقد سبق ردّ هذا.
    * * *
    الحديث الرابع والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع، وفي لفظ‍‌ والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ‌ حَقَّ‌ قَدْرِهِ‌ [الأنعام: 91].
    قلت: وظاهر ضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم الإنكار(1) ، واليهود مشبهة، ونزول الآية دليل على إنكار الرسول صلى اللّه عليه وسلم عليهم، وفي معنى هذا الحديث قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف يشاء» ولما كان القلب بين إصبعين ذليلا مقهورا دلّ‌ هذا على أن القلوب مقهورة لمقلبها.
    وقال القاضي (أبو يعلى): غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. وهذا كلام
    __________________
    (1) يستبعد ابن خزيمة ـ وهو ممن وقع في خطأ التشبيه ـ أن يكون ضحك الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنكارا، وقد نقض الحافظ‍‌ ابن حجر زعمه هذا في الفتح (ز).

    مخلط‍‌ لأنه إما أن يثبت جوارح وإما أن يتأولها. وأما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح ثم يقول: ليست أبعاضا. فهذا كلام قائم قاعد ويضيع الخطاب لمن يقول هذا.
    * * *
    الحديث الخامس والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يطوي اللّه عزّ وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ...»(1). هكذا رواه مسلم وهي أتم الروايات؛ وقد ثبت بالدليل القاطع أن يد الحق سبحانه وتعالى ليست جارحة وأن قبضته الأشياء ليست مباشرة ولا له كف، وإنما قربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأفهام بما يدركه الحس، وأما رواية الشمال فضعيفة بالمرة، وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وكلتا يديه يمين مباركة»(2). وهذا يوهن ذكر الشمال.
    الحديث السادس والعشرون: رواه الإمام أحمد رحمه اللّه في مسنده من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: 143] قال: قال هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر، وفي لفظ‍‌ فأومأ بخنصره فساخ. وروى ابن حامد (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: 143] قال: خرج منه أول مفصل من خنصره.
    هذا الحديث تكلم فيه علماء الحديث وقالوا: لم يروه عن ثابت غير حماد بن سلمة، وكان ابن العوجاء الزنديق قد أدخل على حماد أشياء فرواها في آخر عمره، ولذلك تجافى بعض أصحاب الصحيح الإخراج عنه، ومخرج الحديث سهل وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقربه إلى الأفهام بذكر الحسيات فوضع يده على خنصره إشارة إلى أن اللّه تعالى أظهر اليسير من آياته.
    * * *
    __________________
    (1) في الذي بين أيدينا من نسخ صحيح مسلم زيادة «ثم يطوي الأرضين بشماله» (ز).
    (2) يقول القتيبي عند الكلام على هذا الحديث: إنما أراد بذلك معنى التمام والكمال لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص، ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما وإلى هذا ذهب المرار حين قال:
    وأن على الإوانة من عقيل
    فتى كلتا اليدين له يمين (ز)



    الحديث السابع والعشرون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عكرمة أنه قال: إذا أراد اللّه عزّ وجل أن يخوّف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تتزلزل وإذا أراد اللّه أن يدمدم على قوم تجلّى لهم.
    قال القاضي (أبو يعلى): «أبدى عن بعضه» هو على ظاهره وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض.
    قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته وما هو بعض لا يكلم وإنما المراد أبدى عن آياته.
    * * *
    الحديث الثامن والعشرون: روى أبو الأخمص الجمحي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: لعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها فتقول هذه نحر، وتشق أذن الأخرى وتقول صرم‌؟ قال: نعم، قال: «فلا تفعل فإن موسى اللّه تعالى أحد من موساك وساعد اللّه تعالى أشد من ساعدك».
    قال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع حمل الخبر على ظاهره في إثباته الساعد صفة لذاته. قلت: المراد بالساعد القوة لأن قوة الإنسان في ساعده وكان ينبغي أن يثبت الموسى أيضا.
    * * *
    الحديث التاسع والعشرون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرّحمن».
    قد ذكرنا صفة العين في الآيات المذكورة قبل الأحاديث، والمراد بالحديث أن اللّه تعالى يشاهد المصلي فليتأدب وكذلك قوله: «فإن اللّه تعالى قبل وجهه» أي يراه.
    * * *
    الحديث الثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من هذه‌؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال صلى اللّه عليه وسلم: «مه عليكم ما تطيقون فاللّه لا يمل اللّه تعالى حتى تملّوا» وفي لفظ‍‌ «لا يسأم اللّه تعالى حتى تسأموا».
    قال العلماء: معنى الحديث لا يمل اللّه تعالى وإن مللتم كما قال الشاعر:
    صليت مني هذيل بخرق
    لا يملّ‌ الشرّ حتى يملوا



    المعنى لا يملّ‌ وإن ملّوا وإلا لم يكن له فضل عليهم. وقال قوم: من ملّ‌ من شيء تركه، والمعنى لا يترك الثواب ما لم يتركوا العمل، وأما الملل الذي هو كراهة الشيء والاستثقال له ونفور النفس عنه والسآمة منه فمحال في حقه تعالى لأنه يقتضي تغيره وحلول الحوادث في حقه.
    * * *
    الحديث الحادي والثلاثون: روت خولة بنت حكيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن آخر وطأة وطئها الرّحمن بوجّ‌».
    وج: واد بالطائف وهي آخر وقعة أوقعها اللّه تعالى بالمشركين على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» مأخوذ من القدم وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره، قال القاضي (أبو يعلى) غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره وأن ذلك معنى بالذات دون الفعل لأنّا حملنا قوله ينزل ويضع قدمه في النار على الذات. وهذا الرجل يشير بأصولهم إلى ما يوجب التجسيم والانتقال والحركة وهذا مع التشبيه بعيد عن اللغة ومعرفة التواريخ وأدلة المعقول وإنما اغترّ بحديث روي عن كعب أنه قال: «وجّ‌ مقدس منه عرج الرب إلى السماء ثم قضى خلق الأرض» وهذا لو صحّ‌ عن كعب احتمل أن يكون حاكيا عن أهل الكتاب وكان يحكى عنهم كثيرا ولو قدرناه من قوله كان معناه أن ذلك المكان آخر ما استوى من الأرض لما خلقت ثم عرج الرب أي عمد إلى خلق السماء وهو قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ وَهِيَ‌ دُخٰانٌ‌) [فصّلت: 11] ويروى عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لما أسري بي مرّ بي جبريل عليه الصلاة والسلام حتى أتى الصخرة فقال: يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء» وهذا يرويه بكر بن زياد وكان يضع الحديث على الثقات. فإن قيل قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: (اِسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] صعد، قلنا: صعد أمره إذا لا يجوز عليه الانتقال والتغير.
    * * *
    واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:
    أحدها: إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: 22] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف.

    المرتبة الثانية: التأويل، وهو مقام خطر(1).
    __________________
    (1) يقول في شرح المشكاة: قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران: فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه اللّه سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين. وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك عما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيل ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ اللّه أن يظن بهم ذلك وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثمة اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أوّلا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: 29] أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخلف: أن معتقد الجهة كافر كما صرّح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني، وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: 4] (مٰا يَكُونُ‌ مِنْ‌ نَجْوىٰ‌ ثَلاٰثَةٍ‌ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ‌) [المجادلة: 7] الآية (فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ‌ وَجْهُ‌ اللّٰهِ‌) [البقرة: 115] وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ [ق: 16] و «قلب المؤمن بين إصبعين من أصبع الرّحمن» و «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على (الرّٰاسِخُونَ‌ فِي الْعِلْمِ‌) لا الجلالة. قلت: الجمهور على أن الوقف على (إلا اللّه) وعدوا وقفه وقفا لازما وهو الظاهر لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا اللّه جلّ‌ جلاله ولا إله غيره، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ولم يقدر أحد أن يقول إن هذا التأويل هو مراد اللّه جزما ففي التحقيق الخلاف لفظي ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ‍‌ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى، وهذا توسط‍‌ بين المذهبين وتلذذ بين المشربين واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر فقال: إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين. قلت: التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين مع أن التوقف مؤيّد بقول السلف ومنهم الإمام الأعظم اه‍‌.

    والمرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمّ‌ جهلة الناقلين إذ ليس لهم حظ‍‌ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على اللّه تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس، وإليه أشار القاضي (أبو يعلى) بقوله: لا يمتنع أن يحمل التي وطئها الحق تعالى على أصولنا وأنه معنى يتعلق بالذات. وأصولهم على زعمه ترجع إلى الحس.
    ولو فهموا أن اللّه تعالى لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا تغير ما بنوا على الحسيات، والعجب أنه يقر بهذا القول ثم يقول: «من غير نقلة ولا حركة» فينقض ما بنى.
    ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش: إن اللّه تعالى قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش.
    __________________
    ـ ويقول في شرح المشكاة أيضا: والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى اللّه تعالى وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين ه‍‌.
    وفي (إشارة النبيه في كشف شبه أهل التشبيه إملاء الشيخ نجم الدين أبي الفتح نصر اللّه بن العز بن سعد اللّه بن نجم الكاتب البغدادي): وقد تأول العلماء والأدباء والشعراء قديما وحديثا ولذلك قول بعضهم:
    أقول بالخد خال حين أذكره
    خوف الرقيب وما بالخد من خال

    أبكي إلى الشرق إن كانت منازلهم
    يجانب الغرب خوف القيل والقال

    ومن قال: (لا أقول بالتأويل ولا أشبه) فقد تأوّل لأنه إذا عدل عن معنى النزول عنده ومعنى اليمين في حديث «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» إلى غير ذلك فقد تأول فلا محيص لكم عن التأويل بحال اه‍‌.
    ويقول العلامة الآلوسي في تفسيره عند الكلام على الوجه: والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف واللّه تعالى أعلم بمراده ه‍‌. وقال أيضا: وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى اللّه مثل قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ‌ لَكُمْ‌ أَيُّهَ‌ الثَّقَلاٰنِ‌) (31) [الرّحمن: 31]، وقوله صلى اللّه عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين اللّه في أرضه فمن قبّله أو صافحه فكأنما صافح اللّه تعالى وقبّل يمينه» فأجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته كما قال السلف في اليمين اه‍‌.
    وقد عقد ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) بابا سرد فيه جماهير المؤولين (فيما يظهر فيه وجه الكلام) من الصحابة والتابعين وغيرهم (ز).

    قلت: ونحن نحمد اللّه إذ لم يبخس حظنا من المنقولات ولا من المعقولات، ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم.
    * * *
    الحديث الثاني والثلاثون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إلى اللّه تعالى بمثل ما خرج منه»(1). وهو القرآن وفي حديث عفان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «فضيلة القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه إن القرآن منه خرج وإليه يعود» والمعنى وصل إلينا من عنده وإليه يعود فيرفع.
    * * *
    الحديث الثالث والثلاثون: روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف سنة فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم به».
    هذا حديث موضوع يرويه إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن حفص وأما عمر بن حفص فقال الإمام أحمد بن حنبل: حرقت أحاديثه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ‍‌: هذا متن موضوع.
    * * *
    الحديث الرابع والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»(2). وفي لفظ‍‌ أخرجه البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن الرحم شجنة من الرّحمن».
    __________________
    (1) الذي في الجامع الكبير للسيوطي: «ما تقرّب العباد إلى اللّه بشيء أحب إليه مما خرج منه» ابن السني عن زيد بن أرطأ عن أبي أمامة.
    (2) في شرح صحيح مسلم للإمام النووي: قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض فسمّى ذلك الاتصال رحما، والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصليها وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم (ز).

    قال أبو عبيد: الشجنة كالغصن من الشجرة، ومعنى شجنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق ولا شجر تشجن إذا التف بعضها ببعض.
    قلت: لا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يراد أن اللّه تعالى يراعي الرحم فيصل من يصلها ويقطع من قطعها ويأخذ لها حقها كما يراعي القريب قرابته كأنه يزيد في المراعاة على الأجانب أو أن يراد أن الرحم حروف الرّحمن فكأنه عظم قدرها بهذا الاسم ويؤكد هذا حديث عبد الرّحمن بن عوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال اللّه تعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» وقد ورد هذا الحديث بلفظ‍‌ لم يخرج في الصحاح «الرحم شجنة من الرّحمن تعلق بحقوي الرّحمن تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني» وفي لفظ‍‌ «الرحم شجنة آخذة بحقو الرّحمن» وفي لفظ‍‌ «لما خلق اللّه تعالى الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرّحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة». وهذه كلها أمثال ترجع إلى ما بيّنّا، ومعنى تعلقها بحقو الرّحمن الاستجارة والاعتصام(1).
    قال أبو بكر البيهقي: الحقو الإزار، والمعنى تتعلق بعزه.
    قال ابن حامد: يجب التصديق بأن للّه حقوا فتأخذ الرحم بحقوه، قال: وكذلك نؤمن بأن للّه تعالى جنبا لقوله تعالى: (عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ‌) [الزّمر: 56].
    وهذا لا فهم له أصلا، كيف يقع التفريط‍‌ في جنب الذات، نعوذ باللّه من سوء الفهم.
    * * *
    الحديث الخامس والثلاثون: روى البخاري في صحيحه(2) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته».
    قال أبو سليمان الخطابي: وفي الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان للّه تعالى اختص فيهما، لا يشركه فيهما أحد ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة
    __________________
    (1) قال في النهاية: والحقو فيه مجاز وتمثيل ومنه قولهم: عزت بحقو فلان إذا استجرت به واعتصمت اه‍‌ وفي أساس البلاغة: لاذ بحقويه إذا فزع إليه.
    (2) يقول العجلوني في كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس:
    رواه مسلم وابن حبان وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم (بألفاظ‍‌ متقاربة)، وممن أخرجه بلفظ‍‌ الترجمة القضاعي عن أبي هريرة والحكيم الترمذي عن أنس ه‍‌. ولم يذكر البخاري فليحرر.

    المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الإزار والرداء مثلا، يقول واللّه تعالى أعلم: كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد كذلك لا يشركه في الكبرياء والعظمة مخلوق.
    * * *
    الحديث السادس والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ‌ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
    فذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا هي صفة زائدة عن الذات.
    وهذا قول مبتدع ينوع به التشبيه، لا يفرق بين الذات والنفس وما المانع أن يكون المعنى: ذكرته أنا، وقد سبق هذا في الكلام على الآيات. والتقريب والهرولة توسع في الكلام(1). كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ‌ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا) [الحجّ‌: 51] لا يراد به المشي.
    * * *
    الحديث السابع والثلاثون: روى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال»(2).
    قال العلماء: الجميل: المجمل بتحسين الصور والأخلاق والإحسان والذي أراه أن الجميل الذي أوصافه تامة مستحسنة. وقد فسّر القاضي (أبو يعلى) بما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى فقال: غير ممتنع وصفه بالجمال، فإن ذلك راجع إلى الذات، لأن الجمال في معنى الحسن قال: وقد تقدم قوله صلى اللّه عليه وسلم: «رأيت ربي في أحسن صورة».
    * * *
    __________________
    (1) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عند الكلام على التقرب والهرولة: ونحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه.
    (2) أثبت العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس هذا الحديث وقال رواه أحمد عن أبي ريحانة، ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني عن أبي أمامة وابن عمر وجابر، وابن عدي في الكامل عن ابن عمر.

    الحديث الثامن والثلاثون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ اللّه تعالى من أهل الجنة والنار أقبل يمشي في ظلل من الغمام والملائكة، فيقف على أول درجة فيسلم عليهم فيردون عليه السلام فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسأل، وعزتك وجلالك وارتفاعك في علو مكانك لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم وسقيناهم ولم ينقص ما عندنا، فيقول تعالى بلى سلوني فيقولون: نسألك رضاك، قال تعالى: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كل درجة حتى ينتهي إلى مجلسه.
    هذا حديث مكذوب به على عمر. وبعد فكيف يثبت للّه تعالى صفة بقول عمر!. قال القاضي (أبو يعلى): يشهد لحديث عمر قوله تعالى: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: 210] ولم يدر أن المعنى يأتيهم اللّه بظلل من الغمام.
    الحديث التاسع والثلاثون: روى عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المقام المحمود، قال صلى اللّه عليه وسلم: «وعدني ربي عزّ وجل بالقعود على العرش».
    هذا حديث لا يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
    قال ابن حامد: يجب الإيمان بما ورد به من المماسة والقرب من الحق تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في إقعاده على العرش، قال: وقال ابن عمر: (وَإِنَّ‌ لَهُ‌ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ‌) [ص: 25] قال: ذكر الدنو منه حتى يمس بعضه. وهذا كذب على ابن عمر، ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع.
    * * *
    الحديث الأربعون: روى الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه تعالى أن يدخلني الجنة فعظم الرب عزّ وجل فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأن له أطيطا كأطيط‍‌ الرحل الجديد إذا ركب من ثقله».
    هذا حديث مختلف جدا وقد رواه أبو إسحاق عن ابن خليفة عن ابن عمر قال: إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط‍‌ كأطيط‍‌ الرحل، رواه ابن جرير أن عبد اللّه بن خليفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصبعه فجمعها وإن له لأطيطا كأطيط‍‌ الرحل إذا ركب من ثقله» هذا على ضد اللفظ‍‌ الأول وكل ذلك من تخليط‍‌

    الرواة وسوء الحفظ‍‌ والأليق فما يفضل منه مقدار أربع أصابع والمعنى أنه قد ملأه بهيبته وعظمته، ويكون هذا ضرب مثل لقدر عظمة الخالق جلّ‌ جلاله وقول الرواة: «إذا قعد» و «إذا جلس» من تغييرهم ومن تعبيرهم بما يظنونه كما قال القائل «ثم استوى على العرش» قعد، وإنما قلنا هذا لأن الخالق تعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس فيفضل ذلك الشيء لأن هذه صفة الأجسام.
    * * *
    الحديث الحادي والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن اللّه تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». انفرد بلفظ‍‌ الصوت حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت وسئل الإمام أحمد عن حفص قال: كان يخلط‍‌ في حديثه.
    وفي الحديث الصحيح: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا». وفي حديث ابن مسعود: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا» وليس في الصحيح «سمع صوته أهل السماء».
    * * *
    الحديث الثاني والأربعون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما كلم اللّه موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه، فقال له: يا موسى إني كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع إلى بني إسرائيل قالوا: صف لنا كلام الرّحمن، قال: لا أستطيع، قالوا: قرّب لنا، قال: ألم تروا صوت الصواعق التي تقبل بأحلى كلام سمعتموه.
    هذا حديث لا يصح، يرويه علي بن عاصم عن الفضل بن عيسى قال النسائي: علي بن عاصم متروك الحديث، وقال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب.
    * * *
    الحديث الثالث والأربعون: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أنه قال: الساجد يسجد على قدم الرّحمن. هذا قول تابعي وهو مثل للقرب من فضل اللّه تعالى. وأثبت القاضي (أبو يعلى) بهذا وصف قدم وأنه يسجد على قدمه حقيقة لا على وجه المماسة.
    * * *

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:10

    الحديث الرابع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن».
    الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط‍‌ به الأمكنة.
    وقال القاضي (أبو يعلى): ظاهر الحديث أن المرئي في جنة عدن. وهذا التجسيم المحض. ورداء الكبرياء ما له من الكبرياء والعظمة، وكأنه إن منعهم فلعظمته وإن شاء كشف لهم؛ وقد تكلمنا على الوجه في الآيات وقلنا المراد هو.
    * * *
    الحديث الخامس والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لما قضى اللّه تعالى الخلق كتب في كتابه فهو عنده(1) فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ‍‌ «سبقت».
    قال القاضي (أبو يعلى) ظاهر قوله «عنده» القرب من الذات.
    واعلم أن القرب من الحق تعالى لا يكون بمسافة، إنما ذلك من صفة الأجسام، وقد قال تعالى: (مُسَوَّمَةً‌ عِنْدَ رَبِّكَ‌) [هود: 83].
    * * *
    الحديث السادس والأربعون: روى عن بعض التابعين أنه قال: خلق اللّه آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده.
    هذا لا يثبت عن قائله، وقد تكلمنا على قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: 75].
    * * *
    الحديث السابع والأربعون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (وَسِعَ‌ كُرْسِيُّهُ‌ السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌) [البقرة: 255] أنه قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره.
    رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس، ورفعه منهم شجاع بن مخلد(2). فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط‍‌. ومعنى الحديث أن الكرسي
    __________________
    (1) يقول العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم (ز).
    (2) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في (تقريب التهذيب): شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل البغوي نزيل بغداد صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف فذكره بسببه العقيلي في الضعفاء (ز).

    صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير، قال الضحاك: الكرسي الذي تجعل عليه الملوك أقدامهم، وقال القاضي (أبو يعلى): القدم قدم الذات وهي التي يضعها في النار.
    الحديث الثامن والأربعون: حديث العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، واللّه تعالى فوق ذلك».
    هذا الحديث لا يصح، تفرّد به يحيى بن العلاء، قال الإمام أحمد: هو كذاب يضع الحديث.
    وقد تكلمنا في الفوق في قوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: 18].
    قال القاضي (أبو يعلى): المراد من الفوقية استواء الذات على العرش. وهذا الكلام أصله التجسيم.
    * * *
    الحديث التاسع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب فإن اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل».
    وفي لفظ‍‌ أخرجه مسلم «فتربو في كف الرّحمن حتى تكون أعظم من الجبل».
    قال العلماء: هذا خطاب للناس بما يعلمونه ويفهمونه من الأخذ والتربية والنمو ، ولما كان التناول باليد والقبض بالكف خاطبهم بما يعقلون، وإنما جرى ذكر اليمين لأنها مرصدة لما عزّ من الأمور؛ ومعنى التربية المضاعفة.
    * * *
    الحديث الخمسون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال: «ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»(1).
    __________________
    (1) لفظ‍‌ الحديث في صحيح البخاري «أن اللّه ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه وأن المسيح الدجال أعور عين اليمنى» وقد قال الحافظ‍‌ ابن حجر: إن الإشارة إلى عينه صلى اللّه عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية

    قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إلا ربكم ليس بذي جوارح يتسلط‍‌ عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزي. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القدم، فإن الكامل في الصورة كثير.
    * * *
    الحديث الحادي والخمسون: روى البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تعالى قال: ما يزال عبدي يتقرب إليّ‌ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».
    قوله: «كنت سمعه وبصره» مثل، وله أربعة أوجه:
    أحدها: كنت كسمعه وبصره فهو يحب طاعتي كما يحب هذه الجوارح.
    الثاني: أن كليته مشغولة بي فلا يصغي إلى ما يرضيني ولا يبصر إلا عن أمري.
    الثالث: أني أحصل له مقاصده كما ينالها بسمعه وبصره ويده اللواتي تعينه، وأما التردد فخطاب لنا بما نعقل.
    * * *
    الحديث الثاني والخمسون: روى جبير بن مطعم قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول اللّه جهدت الأنفس وجاع العيال وتهتكت الأموال وهلكت
    __________________
    ـ وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه ه‍‌. وقال الفخر الرازي في (أساس التقديس) عند الكلام على هذا الحديث: وأما هذا الخبر فمشكل لأن ظاهره يقتضي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور وكون اللّه تعالى ليس بأعور وذلك بعيد، وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال، أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ثم إن المشهور أن ابن عمر لما روى حديث «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» طعنت عائشة رضي اللّه عنها فيه وذكرت أن هذا الكلام من الرسول كان مسبوقا بكلام آخر واحتجّت على ذلك بقوله تعالى: (وَلاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ‌ وِزْرَ أُخْرىٰ‌) [الأنعام: 164] لو حكى لزال هذا الإشكال فكذا هاهنا أنه من البعيد صدور مثل هذا الكلام من الرسول اه‍‌.

    الأنعام، فاستسق اللّه لنا فأستشفع باللّه عليك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ويحك تدري ما تقول» وسبّح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه ثم قال صلى اللّه عليه وسلم: «إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك ويحك أتدري ما اللّه، إن عرشه على سماواته هكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة ـ وأنه ليئط‍‌ به أطيط‍‌ الرحل بالراكب».
    ومعنى قوله: «أتدري ما اللّه» أي أتدري ما عظمة اللّه تعالى وجلاله ومعنى يئط‍‌ به أي يعجز عن عظمته وجلاله إذ كان معلوما أن أطيط‍‌ الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله فقرب بهذا النوع من عنده معنى عظمة اللّه وجلاله ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر، وقد ذكرنا فيما تقدم عن القاضي (أبي يعلى): يئط‍‌ من ثقل الذات، وهذا صريح التجسيم.
    * * *
    الحديث الثالث والخمسون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ : إِنَّ‌ اللّٰهَ‌ كٰانَ‌ سَمِيعاً بَصِيراً [النّساء: 58] فوضع إصبع الدعاء وإبهامه على عينيه وأذنه.
    قال العلماء: أراد بهذا تحقيق السمع والبصر منه فأشار إلى الجارحتين اللتين هما السمع والبصر، لا أن للّه سبحانه وتعالى جارحة.
    * * *
    الحديث الرابع والخمسون: روى أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عزّ وجل ينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره وهي مسكنه ثم يقول طوبى لمن دخلك، ثم ينزل في الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فيقول بعزتي».
    هذا الحديث يرويه زيادة بن محمد الأنصاري قال البخاري: وهو منكر الحديث وقال أبو حاتم بن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، ونقول: على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه فهذا بيته وذاك مسكنه، وإنما قلت هذا لأن السكنى مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى.
    * * *

    الحديث الخامس والخمسون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثياته عزّ وجل».
    الحثية: ملء الكف، والمراد التقريب بما نعقل، لا حقيقة الحثية.
    * * *
    الحديث السادس والخمسون: روى أبو أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه يجلس يوم القيامة على القنطرة بين الجنة والنار».
    يرويه عثمان بن أبي عاتكة، وعن يحيى: ليس بشيء.
    * * *
    الحديث السابع والخمسون: روى القاضي (أبو يعلى) عن محمد بن كعب قال: كان الناس إذا سمعوا القرآن من في الرّحمن لم يسمعوه قط‍‌.
    قال القاضي (أبو يعلى): ولا يمتنع أن يطلق الفم عليه.
    قلت: وا عجبا يعني (في) الرّحمن فمه، فيثبت للّه تعالى صفة بقول تابعي لا تصح الرواية عنه، هذا من أقبح الأشياء.
    فأما الحديث الذي قد سبق عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إليّ‌ بمثل ما خرج مني» فالمعنى: ظهر عنه، ولا يجوز أن يظن أنه كخروج جسم من جسم.
    * * *
    الحديث الثامن والخمسون: روينا عن سهل بن سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «دون اللّه تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت».
    هذا حديث لا أصل له.
    * * *
    الحديث التاسع والخمسون: رواه أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن للّه تعالى لوحا أحد وجهيه درة والآخر ياقوتة، قلمه النور فيه يخلق وبه يرزق، وبه يحيى وبه يميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء في يوم وليلة».
    هذا حديث موضوع يرويه محمد بن عثمان، وهو متروك الحديث.
    * * *

    الحديث الستون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الريح فلا تسبّوه فإنها من نفس الرّحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فاسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها».
    النفس بمعنى التنفيس عن المكروب(1). ومثله ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إني لأجد نفس ربكم من جهة اليمن» يعني تنفيسه عن الكرب بنصرة أهل المدينة إياي، والمدينة من جانب اليمن وهذا شيء لا يختلف فيه المسلمون.
    وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون للّه تعالى وصفا في ذاته بأنه يتنفس، قال: وقالوا الرياح الهابّة مثل العاصف والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة إلا ريحا من صفاته هي ذات نسيم خيالي وهي من نفس الرّحمن.
    قلت: على من يعتقد هذا اللعنة لأنه يثبت جسدا مخلوقا، ما هؤلاء بمسلمين.
    قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا : ليس هذا المذهب.
    قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المقولات غير مقلد فيما أعتقده، وكيف أترك بهرجا وأنا أنقده وقلت:
    سبقت بحمد اللّه من كان من قبلي
    فقل للذي يرجو لحاقي على مهل

    وإنكم لو تنقصون عتابكم
    لعزّ على التفتيش أن تجدوا مثلي

    ثم قصيدة مطولة وهي:
    حمدت إلهي كيف لا وله الفضل
    كما قد تولاني فذلت لي السبل

    وأخرجني من بين أهلي مفهما
    وعلّمني علما به قيمتي تغلو

    وحركني للمكرمات أحوزها
    فهمة نفسي دائما أبدا تعلو

    وألهمني بالعلم حتى ملكته
    فصار مرير الصبر عند فمي يحلو

    وقد زاد عشقي للعلوم فأصبحت
    كتمثال ليلى عند قيس فما يسلو

    __________________
    (1) يقول الزمخشري في أساس البلاغة: وما لي نفس أي فرج. وقال ابن قتيبة: وقد فرج اللّه عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ‌ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ‌ تَرَوْهٰا) [الأحزاب: 9].


    فما من علوم بثّها اللّه في الورى
    إلى خلقه إلا ولي معها وصل

    وصنفت ما قد صنف الناس جنسه
    فيا قاصدي الإنصاف لي ميزوا وأبلوا

    ولي من بديهات الكلام عجائب
    تكر عليهم كلما طولت تحلو

    وقد قادني علمي إلى الزهد في الدنا
    وما جمعا إلا لعبد له فضل

    نعم وتقاة اللّه أشرف خلة
    ولا خير في قول إذا ضيع الفعل

    قنوعي بما يكفي يقيني من الأذى
    وبعد يقيني بالمقادير لا ذل

    وأحسن من علم ترامى بأهله
    إلى مين مخلوق يماثله الجهل

    وأسكن قلبي حب كل محقق
    عشقت كما قد تعشق الأعين النجل

    وبغداد دار ليس يغبن أهلها
    وما حبهم إلا لمن ما له شكل

    وكل البلاد أشحنتها فضائلي
    أقرّ بفضلي الدين والحزن والسهل

    وذكرى وراء النهر بالفضل وافر
    وفي المغرب الأقصى وما بلغت إبل

    * * *
    ولما نظرت في المذاهب كلها
    طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

    فألفيت عند السبر قول ابن حنبل
    يزيد على كل المذاهب بل يعلو

    وكل الذي قد قاله فمشيد
    بنقل صحيح والحديث هو الأصل

    وكان بنقل العلم أعرف من روى
    يقوم بأنباء وإن شأنه عضل

    * * *
    ومذهبه أن لا يشبه ربه
    يتبع في التسليم من قد مضى قبل

    فقام له الحساد من كل جانب
    فقام على رجل الثبات وهم زلوا

    وكان له أتباع صدق تتابعوا
    فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

    وجاءك قوم يدعون تمذهبا
    بمذهبه ما كل فرع له أصل

    فلا في الفروع يثبتون لنصره
    وعندهم عن فهم ما قاله شغل

    إذا ناظروا قاموا مقام مقاتل
    فوا عجبا والقوم كلهم عزل

    قياسهم طردا إذا صدروا به
    وهم من علوم النقل أجمعها عطل

    إذا لم يكن في النقل صاحب فطنة
    تشابهت الحيات وانقطع الحبل

    ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة ال‍‌
    ذي نقلوه في الصفات وهم غفل

    وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد
    فمال إلى تصديقهم من به جهل




    وصار الأعادي قائلين لكنا
    مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

    فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم
    ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

    لعمري لقد أدركت منهم مشايخا
    وأكثر من أدركته ما له عقل

    وما زلت أجلو عنهم كل خلة
    من الاعتقاد الرذل كي يجمع الشمل

    تسموا بألقاب ولا علم عندهم
    فوائدهم لا حرم فيها ولا حل

    موائدهم لا يلحق الخل بقلها
    وإن شئت لا خل عليها ولا بقل

    * * *
    وأكثر حساد لنا أهل مذهبي
    فلو قدروا أفتوا بأن دمي حل

    تمنوا بجهل أن تزل بي النعل
    ولم تمش في مجد بمثلي لهم رجل

    ومنذ مضى شيخ الجماعة أحمد
    إلى الآن لم يوجد لعالمكم مثل

    لقد بات عندي ألف ألف يقوموا
    سحابة وعظي كلهم صيب وبل

    وروضات علمي كلها تمرح الجنا
    وبستانهم إذ ما تأملته أثل

    وكيف ترى تبرى الحسود وداؤه
    إذا سئل الطب الخبير به يسلو

    تفرد بالبغض القبيح مخالف
    أليس اجتماع الناس لي شاهد عدل

    تمّ‌ كتاب دفع شبه التشبيه للإمام ابن الجوزي
    جاء في آخر (مجلس في نفي التشبيه من أمالي الحافظ‍‌ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي): أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن منصور المؤمل لنفسه:
    اللّه أكبر أن يكون لذاته
    كيفية كذوات مخلوقاته

    أو أن تقاس صفاتنا في كلما
    نبديه من أفعالنا بصفاته

    تبا لذي سفه يقول بأنه
    جسم وأن سماتنا كسماته

    لبديع صنعته عليه شواهد
    تبدو على صفحات مصنوعاته

    ذرا الأنام بقدرة أزلية
    وأراده فيهم لتقديراته

    ورأى بعين العلم ما تأتي به
    لمحات أعينهم وما لم تأته

    * * *





    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    ترجمة
    الإمام الحصني مؤلف هذا الكتاب
    إنا إنما نذكر ترجمة هذا الإمام رضي الله عنه ليعرف القارئ من ترجمته مقدار كتابه هذا فإنا نرى أن الكتب أشبه بالأبناء فمن لا والد له من الأبناء ضائع لا قيمة له حتى في نظر نفسه ومن له والد حقير كان حقيرا كوالده ومن جلّ والده جلّ ويزداد عظما كلما عظم والده هذا شيء لا نزاع فيه. وهكذا الكتب إذا رأى الناس كتابا لا يعرف مؤلفه ارتفعت ثقتهم به وظنوا به الظنون وإذا عرف المؤلف نظروا إليه وبمقدار عظمته في نفوسهم علما وعملا تكون ثقتهم بكتابه واستفادتهم منه. وأعدل حكم على الرجل هو الذي يصدر عليه من معاصريه الناظرين إليه المحيطين علما بكل أحواله مع ما في المعاصرة من منافسات ومنازعات وأحقاد يهيجها الحسد الذي يدفن الفضائل وينشر الرذائل فإذا صدر مع هذا حكم جليل من معاصر دلّ ذلك على أن الحقيقة أرفع وأسمى. رفع سؤال إلى علماء عصره رضي الله عنه عن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمع ما قاله عنه أحد معاصريه قال ما نصه : فأجاب شيخنا وسيدنا ومولانا العارف الورع العابد الزاهد المحقق المدقق شيخ الإسلام ومفتي الأنام وعلم الأعلام الرباني والصدر النوراني. منقح الألفاظ. ومحقق المعاني. بحر العلوم. والمبرز على ذوي الفهوم. داعي الخلق للحق. الناصح لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. بقية السلف. وزين الخلف. شافعي زمانه. وسيبويه أوانه. القطب الكبير. والغوث الشهير. والعلم المنير. والعلامة النحرير. والمجتهد الأخير. البحر الزاخر. والسيف الباتر. زبدة المتقدمين. وعمدة المتأخرين. ومفزع العباد. وحجة الله على العباد. وصمصامة أهل الزيغ والفساد. رحلة وقته. ووحيد عصره. وفريد دهره. نسيج وحده. جامع أشتات العلوم والفضائل. القائم في نصرة الحق بالبراهين والدلائل. قدوة أهل الأصول والفروع. وناثر فرائد المنقول والمسموع. الحسيب النسيب. والمتصل في الدين بالمصطفى الحبيب. الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن

    سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن ناسي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن عبد الله بن عمر بن موسى بن يحيى علي الأصغر بن محمد التقي بن حسن العسكري بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني الشافعي الأشعري الحصني قدس الله روحه. ونوّر ضريحه. وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه. وضاعف له جزيل هباته. وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته. ونفعنا بعلومه الجمة وفوائده. كما حلّى أجياد الدهر بقلائد فرائده. آمين. بجاه سيد الأولين والآخرين. اه من الفتاوى السهمية في ابن تيمية. بمجموعة 33 دولاب 15 من مكتبة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ محمد بخيت المطيعي حفظه الله وهو وصف لم يدع قولا لقائل في هذا الإمام الهمّام رضي الله عنه ورضي عنا به : ولد رضي الله عنه بدمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة من الهجرة الشريفة وبها أخذ العلم عن أئمة عصره وأخذ عنه أئمة وكان من الزهد في الدنيا بدرجة لا تقل عن درجات سلف الأمة الصالحين وكان لتقواه وخشيته لربه وقورا مهيبا حتى عند الأكابر من ولاة الأمور وكان إذا رأى ما لا يرضاه ربه صدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ـ لم يقتصر في بث علومه على ما كان يلقيه من جواهر المعارف والآداب في دروسه حال حياته بل ألّف من الكتب الجليلة الكثيرة ما يجعل نفعه العلمي خالدا : فمن مؤلفاته شرح صحيح مسلم في ثلاثة مجلدات ، وشرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في الفقه الشافعي في خمسة مجلدات نافع جدا ، وشرح منهاج النووي في خمسة مجلدات كذلك ، وتفسير آيات متفرقات في مجلد ، وقواعد الفقه على المذهب الشافعي في مجلدين ، وتلخيص مهمات الإسنوي في مجلدين ، وتنبيه السالك على مضار المسالك في ستة مجلدات ، وأسنى المسالك لسير السالك في مجلد ، وقمع النفوس في مجلد ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلد ، وشرح الأربعين النووية في مجلد ، وسير نساء السلف العابدات في مجلد ، وتلخيص تخريج أحاديث الأحياء في مجلد ، وأهوال القبور في مجلد ، وتأديب القوم في مجلد ، وشرح الهداية في أوهام الكفاية في مجلد ، وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. قال السخاوي : حسن للغاية وقد طبع في العام الماضي فكاد يطرب الشافعية فرحا طلبة وعلماء ، وتقرر رسميا أن يقرأ بالأزهر لجلالته ، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد وهو هذا الكتاب الذي يجل عن نظير في موضوعه كيف لا وقد أتي على بناء مخالفه من أساسه. مات رحمة الله عليه ليلة الأربعاء منتصف شهر جمادى الثانية سنة تسع وعشرين وثمانمائة وحملت

    جنازته على أعناق الأفاضل وكان يوم وفاته يوما مشهودا لم يتخلف عنه أحد من أهل دمشق حتى الحنابلة الذين كانت له عليهم حملات ثم حملات. ومع كونه وصّى أن يخرج بجنازته بغلس ذهب من غفل عن جنازته من الناس إلى قبره وصلوا عليه غير مرة ودفن عند والده وأقاربه بالجهة الجنوبية للجامع الأموي سقى الله روضة ضمته غيوث فضله وإحسانه وكرمه ورضوانه. وقد عنى بترجمته كثير منهم المقريزي في العقود وابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب وابن حجر في أنباء الغمر ، والتقي ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية والرضي القري في بهجة الناظرين والسخاوي في الضوء اللامع وغيرهم فمن أراد أن يعرف من هو الإمام التقي الحصني علما وعملا فليرجع إلى تلك التراجم رضي الله عنه وعن جميع العلماء العاملين خصوصا من أسهروا عيونهم وأتعبوا أبدانهم ووقفوا أفكارهم على نصر دين ربهم والذود عن حياضه : إن أحبوا فلله وإن أبغضوا فلله جعلنا الله من محبيهم السالكين سبيلهم اللهم آمين اللهم آمين.
    قال حضرة صاحب الفضيلة العلامة صاحب النسخة الفرعية ما نصه :
    سبب تأليف هذا الكتاب
    قال العلامة التقي محب السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهر الكوثري : في ظهر الأصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون.
    فائدة : سبب تكلم المؤلف رحمه‌الله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي أنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال : فرأيته يقول بمسألة التناسخ ولا يقطع لأطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر ونقل للشيخ المؤلف أيضا أن شخصا قال عند هذا المبتدع المشار إليه : يا جاه محمد ، فقال : لا تقل يا جاه محمد ، وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده فقال : لا تقل يا جاه محمد فإنه قد بقي قفة عظام نعوذ بالله العظيم من هذه الزلة الجسيمة وسمع هذا الكلام أيضا ابن أخي الشيخ المؤلف فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه ثم قال : يا عم لو تكلمت في ذلك فقال : أنا مشغول بنفسي فقال : ما يخلصك هذا عند الله عزوجل كيف يتعرض هذا الجاهل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحط مرتبته ومراتب النبيين ويتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وغير ذلك مما هو زندقة لا يخلصك هذا عند الله مع تمكنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله وتعظيم

    رسول عليه الصلاة والسلام فقال المؤلف رحمه‌الله تعالى : ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل انظر فيه فإذا تكلمت تكلمت على بصيرة ، فأتى بأشياء من كلامه فلما رأى كلامه تكلم بما تكلم رحمه‌الله : قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت : نقلتها من خط شيخنا شهاب الدين بن قرا تلميذ المؤلف ملخصا (1) لها. انتهى ما وجدته بخط ابن طولون في ظهر الأصل المذكور. وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب الضوء اللامع في القرن التاسع للحافظ محمد بن عبد الرّحمن السخاوي وفي طبقات الشافعية للتقي ابن قاضي شهبة وفي طبقات الرضى الغزي العامري وله مؤلفات ممتعة كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات وشرحه على المنهاج كذلك وطبع حديثا شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهدا وعلما وسيرة وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه.
    __________________
    (1) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة 953 سنة تسعمائة وثلاث وخمسين وشيخه عبد القادر النعيمي له مؤلفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة. وابن قرا هو الشهاب الخوارزمي المحدّث مترجم في الضوء اللامع ، قاله صاحب الأصل.

    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين ، وأكرم السابقين واللاحقين ، وسلّم ومجّد وكرم ، سبحان من بيده الضر والنفع ، والوصل والقطع ، والتفرقة والجمع ، والعطاء والمنع ، وفق من أحب لتنزيهه فحمى موضع نظره منه وكذا السمع ، وخذل من أبغض فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألفه من رديء الطبع ، فهب على الأول نسيم إسعاده وعلى الثاني ريح إبعاده ، لصدع قلبه بتمويه العدو فيا له من صدع ، تقدس وتمجد بعز كبريائه وجلاله ، وتفرد بأوصاف عظمته وكماله ، كما عمّ بجوده وإفضاله ونواله ، تقدّس وتبارك عن مشابهة العبيد ، وتنزّه عن صفات الحدوث.
    فمن شبه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد ، ومن عطل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحق مائل ومحيد (1) ، وكلا القسمين سفيه وشقي وغير رشيد ، ومن ورائهما عذاب شديد.
    ونال خلع الرضوان في دار الأمان من نزه مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.
    فشتان بين من هو راتع في رياض السلامة ونزل الكرامة في دار المقامة ، وبين المطرود المبعود (2) وقد حق عليه الوعيد.
    وبعد ، فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام أخباث السريرة ، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد ، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد. والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة وهم أكفر ممن تمرد وجحد ، ويضلون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التعبد والتقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند ، كل ذلك
    __________________
    (1) كان ينبغي أن يقول حائد : ولعله اختار ذلك مراعاة للسجع ، اه مصححه.
    (2) اسم المفعول مبعد فيقال فيه كما قيل فيما قبله ، اه مصححه.

    خزعبلات منهم وتمويه وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوام وبهذه الأحرف يظهر الأمر إن شاء الله تعالى لكل أحد إلا لمن أراد عزوجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد. ومن قال بنفي ذلك أي بنفي خلود العذاب وسرمديته وهو ابن تيمية وأتباعه فقد تجرأ على كلام الغفور. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)) [فاطر : 36] وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)) [المائدة : 37] والآيات في ذلك كثيرة عموما وخصوصا ومنها قوله تعالى : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : 65] والغرام المستمر الذي لا ينقطع فلو انقطع قدر نفس لا يسمى غراما.
    ومن ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : 22] قال الإمام أحمد معناه جاء أمر ربك.
    قال القاضي أبو يعلى : قال الإمام أحمد : المراد به قدرته وأمره وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : 33] يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لأنه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.
    ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزّه نفسه عن ذلك ومن ذلك قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : 54] فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الاستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن.
    قال الأئمة : وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عزوجل ومن أسمائه القدوس وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه وكذا في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)) [الإخلاص : 1] إلخ ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية وغير ذلك مما فيه مبالغة في

    تنزيهه سبحانه وتعالى وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي وكان من المحققين وكذلك أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء فقال تحت السياط فكيف أقول ما لم يقل وقال في آية الاستواء هو كما أراد فمن قال عنه إنه قال في الاستواء إنه من صفات الذات أو صفات الفعل أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مما فيه إلحاقه عزوجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون.
    ومنهم ابن حامد والقاضي تلميذه وابن الزاغوني وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مما ذكرت بعضه وبالغوا في الافتراء إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم كالمغيرة بن سعيد وأبي محمد الكرامي لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم وحرف المغيرة ومعه خمسة من أتباعه كما أذكره من بعد.
    قال ابن حامد في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : 27] وفي قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88] نثبت لله وجها ولا نثبت له رأسا.
    وقال غيره : يموت إلا وجهه ، وذكروا أشياء يقشعر الجسد من ذكر بعضها.
    قال أبو الفرج بن الجوزي : رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة : ابن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب وقد رأيتهم نزلوا إلى مرتبة فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا : يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم ويتنفس ثم إنهم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها

    صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم وكفروا تقليدا وقد نصحت للتابع والمتبوع ثم أقول لهم على وجه التوبيخ : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول : (أقول ما لم يقل) هل بلغكم أنه قال إن الاستواء من صفة الذات المقدسة أو صفة الفعل فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء وهذا كله ابتداع قبيح بمن ينكر البدعة ثم قلتم إن الأحاديث تحمل على ظاهرها. وظاهر القدم الجارحة وإنما يقال تمر كما جاءت ولا تقاس بشيء فمن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات وذلك عين التشبيه فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم وأمروا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر عليكم أحد ولا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الإمام أحمد ـ ما ليس منه فلقد كسوتم هذا المذهب شيئا قبيحا حتى لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة.
    فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم ونزعة يهودية في التشبيه وكذا نزعة نصرانية فإنه لما قيل عن عيسى عليه‌السلام أنه روح الله سبحانه وتعالى اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم عليها‌السلام وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم وما ذاك إلا أنهم سموا الأخبار أخبار صفات وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة فإنه سبحانه وتعالى قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : 29] وليس لله صفة تسمى روحا فقد ابتدع من سمى المضاف صفة ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم ثم إنهم في مواضع يؤولون بالتشهي وفي مواضع أغراضهم الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحس ويقولون ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته ثم يقولون لا كما يعقل يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيئ الفهم وذلك عين التناقض ومكابرة في الحس والعقل لأنه

    كلام متهافت يدفع آخره أوله وأوله آخره ، وفي كلامهم (ننزهه غير أننا لا ننفي عنه حقيقة النزول) وهذا كلام من لا يعقل ما يقول ومثل قول بعضهم المفهوم من قوله : «هو الله الحي القيوم» في حقه هو المفهوم في حقنا إلا أنه ليس كمثله شيء فانظر أرشدك الله كيف حكم بالتشبيه المساوي ثم عقبه بهذا التناقض الصريح وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى روية ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] أنه مستقر على العرش مع قولهم في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : 16] أن من قال إنه ليس في السماء فهو كافر ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيزين في آن واحد وفي زمن واحد ومن المعلوم أن في للظرفية ويلزم أنه سبحانه وتعالى مظروف تعالى عن ذلك.
    وفي البخاري من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشقّ ذلك عليه حتى رئي في وجهه فقام فحكها بيده فقال : «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة» وفيه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في جدار القبلة فحكها ثم أقبل على الناس فقال : «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلّى».
    وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فقال : «ما بال أحدكم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه».
    وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» وفي رواية «والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وفي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» وحديث المريض «أما لو عدته لوجدتني عنده».
    وقال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : 52] وقال تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)) [القصص : 30] وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : 115].

    وفي الترمذي في حديث العنان وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض والأخرى كما بين السماء والأرض ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى» ومثل هذه الأدلة كثير وكلها قاضية بالكون السفلي دون العلوي.
    واعلم أن الاستواء في الغلة على وجوه وأصله افتعال من السواء ومعناه أي السواء العدل والوسط وله وجوه في الاستعمال منها الاعتدال. قال بعض بني تميم : استوى ظالم العشيرة والمظلوم ، أي اعتدلا ، ومنها إتمام الشيء ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : 14] ومنها القصد إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : 29] أي قصد خلقها ، ومنها الاستيلاء على الشيء ، ومنه قول الشاعر :
    ثم استوى بشر على العراق
    من غير سيف ودم مهراق

    وقال آخر :
    إذا ما غزا قوما أباح حريمهم
    وأضحى على ما ملكوه قد استوى

    ومنها بمعنى استقر ، ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : 44] وهذه صفة المخلوق الحادث كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 12 ، 13] وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع.
    وقطع المادة في ذلك أن المسألة علمية وكفى الله المؤمنين القتال والجدال.
    قال أبو الفرج بن الجوزي : وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.
    قال عبد الله بن وهب : كنا عند مالك بن أنس ودخل رجل فقال : يا أبا عبد الله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] كيف استواؤه؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع. وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه. فأخرج.
    كان ابن حامد يقول : المراد بالاستواء القعود. وزاد بعضهم : استوى على العرش بذاته فزاد هذه الزيادة وهي جرأة على الله بما لم يقل.

    قال أبو الفرج : وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الله عزوجل على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه العرش ، ثم قال : والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ولأن ذلك مستحيل في حقه عزوجل ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام ولا نزاع في ذلك وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عزوجل منزّه عن ذلك شرعا وعقلا بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث.
    ومن المعلوم أن الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لا بد فيه من المماسة. والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] ومن المعلوم في قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 13] أنه الاستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عزوجل وبين خلقه وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وذلك كفر محقق.
    ثم من المعلوم أن الاستواء من الألفاظ الموضوعة بالاشتراك وهو من قبيل المجمل فدعواه أنه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل لجعله المشترك دليلا على أحد أقسامه خاصة فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضحكة لجعله القسم قسيما فمن تأمل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركب يحتجون بالأدلة المجملة التي لا دليل فيها قطعا عند أهل العلم ويتركون الأدلة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم بل بعضها نصوص كما قدمته في حديث النخامة وغيرها فتنبه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.
    ومن المعلوم أنه عزوجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما أعني الزمان والمكان مخلوقان وبالضرورة أن من هو في مكان فهو مقهور محاط به ويكون مقدرا ومحدودا وهو سبحانه وتعالى منزّه عن التقدير والتحديد وعن أن يحويه شيء أو يحدث له صفة تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا.
    فإن قيل ففي الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أنه ذكر المعراج وفيه «فعلا بي الجبار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفف عنا» .. الحديث ، فالجواب أن الحافظ أبا سليمان الخطابي قال : إن هذه لفظة تفرّد بها شريك

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:12

    ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو مكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه.
    وفي الحديث «فأستأذن على ربي وهو في داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه. وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان فإن قيل يلزم من كلامكم نفي الجهات ونفيها يحيل وجوده فالجواب أن هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبياء يجرون الجهات المتعلقة بالآدميين بالنسبة إلى الله عزوجل عن ذلك. وأيضا إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض بمحال ويوضح هذا أنك لو قلت كل موجود لا يخلو أن يكون عالما أو جاهلا قلنا إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلا فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل ونحن ننزه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزّه نفسه عن كل ما يدل على الحدث وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك ، ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدو فأهلك خلقا وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا وصرفوا عنه عقولهم إلى تنزيهه سبحانه وتعالى فسلّموا.
    ومن الأحاديث التي يحتجون بها حديث عبد الرّحمن بن عائش عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت أنت أعلم يا رب ، فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه أن طرقه مضطربة ، وقال الدارقطني كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح ، وقال البيهقي روي من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه يدل على أن ذلك كان في النوم ويدل على ذلك أنه روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أتاني آت في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة الصبح فقال : «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم يا رب ، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض» وروي من وجوه كثيرة فهي أحاديث مختلفة وليس فيها ما يثبت مع أن عبد الرّحمن لم يسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

    فالمعنى رأيته على أحسن صفاته أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك. لأن الصورة يعبر بها ويراد الصفة كما في حديث خلق الله آدم على صورته تقول : هذه صورة هذا الأمر أي صفته فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصرة والإرادة مع أن أن هذا الحديث فيه علل منها أن الثوري والأعمش كان يدلس ولم يذكر أنه سمع الحديث من حبيب بن أبي ثابت ومنها أن حبيبا كان يدلس ولم يعلم أنه سمعه من عطاء وهذا كله يوجب وهنا في الحديث ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه‌السلام فالمعنى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه.
    قال الإمام أبو سليمان الخطابي : وذكره تغلب في أماليه وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث فالمشبه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عزوجل من ذلك.
    ومن ذلك حديث القدم «لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» الحديث ، وهذا يرجع إلى المحكم ، قال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : 2].
    وقال الحسن البصري : القدم في الحديث هم الذين قدمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها. وقال البيهقي عن النضر بن شميل : القدم هنا الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار. وقال الأهري : القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار. وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم وكل قادم عليها يسمى قدما والقدم جمع قادم كما يقال عيب وعائب. وروى الدارقطني حتى يضع قدمه أو رجله وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظن مع أن الرجل في اللغة هي الجماعة ألا تراهم يقولون رجل من جراد فيكون المعنى يدخلها جماعة يشبهون الجراد في الكثرة.
    قال ابن عقيل : تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وهذا عين التجسيم وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكون تعالى الله عن تخايل الجسمية ، وذكر كلاما مطولا بالغا في التنزيه وتعظم الله تعالى.
    وقد تمسك بهذا الحديث ابن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات ، وزاد فروى من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما أسري بي رأيت الرّحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت ربي

    أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه» وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عزوجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أعظم فرية ممن شبه الله عزوجل بأمرد وعروس ، وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجه ويقول : ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم وحاشاه من ذلك بل هو من أعظم المنزهة لله عزوجل وقد خاب من افترى.
    وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين : من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر تقدس الله عزوجل عما يقولون علوا كبيرا ، وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف الله عزوجل وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لا يعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة فيجرونها على المتعارف عند الخلق فيقعون في الكفر ، ونوضح ذلك إيضاحا مبينا يدركه أبلد العوام فضلا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار الذين جعل الله عزوجل قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها.
    فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الضيف وفيه «لقد عجب الله من صنيعكما الليلة» وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجب ربك من قوم جيء بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».
    قال ابن الأنباري : معنى عجب ربك زادهم إنعاما وإحسانا فعبّر بالعجب عن ذلك.
    قال الأئمة : لأن العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان فيستعظمه مما لا يعلمه وذلك إنما يكون في المخلوق وأما الخالق فلا يليق به ذلك فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده لأن المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده ، فالمعنى في حديث الضيف عظم قدره وقدر زوجته عنده حتى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه وعظّم قدر المجيء بهم في السلاسل حتى أدخلهم الجنة وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه.
    ومن ذلك حديث «لله أفرح بتوبة عبده» ومعناه أرضى بها ومنه (1) قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : 53] أي راضون ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن
    __________________
    (1) أي من هذا الاستعمال ، اه مصححه.

    وكذا الأحاديث ومنها حديث النزول وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له» إلى آخره ، وهذا الحديث رواه عشرون نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لأن ذلك من صفات الحدث فمن قال ذلك في حقه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى.
    ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : 25] مع أن معدنه في الأرض وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : 6] فيا لله العجب من شخص لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيلها. وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : 48] وقال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [الطّلاق : 10] فنسب الإنزال إلى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى.
    وقد قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [الأعراف : 186] أي ببدعته (فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : 186] والعمه في البصيرة كما أن العمى في البصر والعمه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك.
    وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا : أمروا هذه الأحاديث بلا كيف ، قال الأئمة : فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة والحركة فإن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى آخر يفتقر إلى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة كما في قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل : 50] فإن الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة والرب سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث.
    وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي : هو فوق العرش بذاته وينزل من مكانه الذي هو فيه فينزل وينتقل ، ولما سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه فقال : النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله انتقال ، أراد أن يغالط الأغبياء بذلك. وقال غيره : يتحرك إذا نزل ، وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد فجورا منهم بل هو كذب محض على هذا السيد الجليل السلفي المنزّه فإن النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجددها كل ليلة وتعددها ، والإجماع منعقد على أن صفاته قديمة فلا تجدد ولا تعدد تعالى الله عما يصفون.

    وقد بالغ في الكفر من الحق صفة الحق بالخلق وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا.
    ومنها حديث الأصابع وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع وفي لفظ : والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91] وفي لفظ : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا له.
    قال الأئمة ومنهم أبو سليمان الخطابي : لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع بصحته مستند إلى أصل في الكتاب أو السنة المقطوع بصحتها (1) وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه.
    وقال غيره : قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91](وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى) [الزّمر : 67] دفعا لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات.
    قال الأئمة : معناه ما عرفوه حق معرفته. وقال المبرد : ما عظموه حق عظمته.
    وقبضة الله عزوجل عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، واليمين في كلام العرب بمعنى الملك والقدرة كما قال تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)) [الحاقّة : 45] أي بالقوة والقدرة. وأشعار العرب في ذلك أكثر جدا من أن تذكر وأشهر من أن تنشد وتبرز وتظهر.
    وفي الحديث «الحجر الأسود يمين الله تعالى» وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : 10] وقال أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب الإمام أحمد : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الحجّ : 74] إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم. وفي معنى هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف شاء» وفي ذلك إشارة إلى أن القلوب مقهورة لمقلبها.
    __________________
    (1) لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الأصل لاستراحوا وأراحوا ، اه مصححه.

    قال الخطابي : واليهود مشبهة ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم ولهذا ضحك عليه الصلاة والسلام على وجه الإنكار وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته بل يطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه. وقال غيره : من حمل الأصابع على الجارحة فقد رد على الله سبحانه وتعالى في قوله : (سُبْحانَهُ) [البقرة : 116] وأدخل نفسه في أهل الشرك لقوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : 18] وهو عزوجل يذكر في كتابه المبين التحرس عما لا يليق دفعا وردا لأعدائه كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : 116] وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ) [الأنعام : 100] ونحو ذلك.
    وآكد من ذلك قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)) [الجنّ : 3] قدّم تنزيهه عزوجل أولا في هذه الآية والقرآن طافح بذلك ومنها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ «سبقت» قال القاضي المشبه تلميذ ابن حامد : ظاهر قوله عنده القرب من الذات وما قاله يستدعي القرب والمساحة وذلك من صفات الأجسام وقد عمي عن قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود : 83] ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة ثم إن هذا القاضي روى عن الشعبي أنه قال إن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل وهو كذب على الشعبي.
    وقال بعضهم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : 54] قعد عليه. وقال ابن الزاغوني : خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث ، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» إلخ ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار بل ولا جماد تعالى الله وتقدس عن ذلك.

    قال ابن الجوزي : وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه ، ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش إن الله قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش ، ثم قال : ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا فعابنا الناس بكلامهم ولو فهموا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بما يوصف به الخلق لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه. وفي ذلك تكذيبه في تنزيهه وتقديسه نفسه عزوجل.
    وقال أبو الوفاء بن عقيل : تحسب الجهلة أن الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزوجل ، والذي أوقعهم في ذلك القياس المظنون وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضي عليه دليل العقل بالرد.
    قال أبو الفرج ابن الجوزي : والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب : أحدها : إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : 22] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف ، المرتبة الثانية : التأويل وهو مقام خطر ، المرتبة الثالثة : القول فيها بمقتضى الحس وقد عمّ جهله الناقلين إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله عزوجل وما يستحيل فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس ولو فهموا أن الله عزوجل لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير لما بقوا على الحسيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك ، ولا شك أن مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلمين على الخوض في ذلك.
    قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره : (خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه والآن رجعت إلى قولهم عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني).
    قال أبو الوفاء بن عقيل : معنى دين العجائز أن المدققين بالغوا في البحث والنظر ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل فوقفوا مع المراسم واستطرحوا وقالوا لا ندري.

    وسئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر).
    فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها وعلى أتباعه ما أشققها (1) اعتقاد قويم ومنهاج سليم.
    قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واسمه عبد الرّحمن بن علي لما رأى الحساد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه حسدا من أنفسهم فصرحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحييوا من الخبير العليم. ونسبوه إليه افتراء عليه. ومن نظمه في ذلك :
    ولما نظرت في المذاهب كلها
    طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

    فألفيت عند السير قول ابن حنبل
    يزيد على كل المذاهب بل يعلو

    وكل الذي قد قاله فمشيد
    بنقل صحيح والحديث هو الأصل

    وكان بنقل العلم أعرف من روى
    يقوم ......... (2)

    ومذهبه أن لا يشبه ربه
    ويتبع في التسليم من قد مضى قبل

    يشير إلى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر :
    فقام له الحساد من كل جانب
    فقام على رجل الثبات وهم زلوا

    وكان له أتباع صدق تتابعوا
    فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

    وجاءك قوم يدعون تمذهبا
    بمذهبه ما كل زرع له أكل

    ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة
    الذي نقلوه في الصفات وهم غفل

    وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد
    فمال إلى تصديقهم من به جهل

    فصار الأعادي قائلين لكلنا
    مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

    فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم
    ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

    لعمري لقد أدركت منهم مشايخا
    وأكثر ما أدركته ما له عقل

    __________________
    (1) لعله ما أشقها بحذف إحدى القافين أو بإبدال إحداهما فاء ، اه مصححه.
    (2) هكذا بياض بالأصل ويصح أن يتمم بنحو قولنا : إذا نام السوي وبه يخلو ، اه مصححه.

    وحذفت أبياتا من هذه القصيدة لأني في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز إلى منهج الحق والرشاد.
    وسئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك) وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به.
    وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك فقال : (من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانا ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه).
    وسئل الإمام مالك عن الاستواء فقال : (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فنفى العلم بالكيف فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه.
    وقال الإمام مالك عند قوله : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النّحل : 74] من وصف شيئا من ذاته سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبّه الله بنفسه.
    وقال مالك رضي الله عنه : (الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة ، وقوله : (والكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عزوجل لأن الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عزوجل منزّه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة ، وقوله : (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه ، وقوله : (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه فلما ذهب العالمون به وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزوجل وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : 187] فهذه (1) الأئمة
    __________________
    (1) لعله فهؤلاء ، اه مصححه.

    التي (1) مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة فمن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين والله حسبه وسيجزي الله المفترين.
    وفي الصحيحين : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» وقال عليه الصلاة والسلام : «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والنافرة والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد ورجاله ثقات.
    وسئل الإمام أحمد عن الشافعي فقال : (ما الذي أقول فيه وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها ، وأطلع على معارفها أربابها ، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها ، فالمحدثون صيادلة والشافعي طبيبهم ، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم ، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلا وللشافعي عليه منّة) وكان كثير الدعاء للشافعي ، قال له ابنه عبد الله : أي شيء كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ قال : (يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض).
    وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] فقال : (الرّحمن جلّ وعلا لم يزل والعرش محدث بالرحمن استوى ثم قال كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم محدث ومصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم كلا كيف يحيط به علم وقد اتفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : 3] أي عبارة تخبر عنه ، حقيقة الألفاظ كلام ، قصرت عنه العبارات ، وخرست عنه الألسنة بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] تعالى الله وتقدّس عن المجانسة والمماثلة).
    قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : معناها ليس له نظير. وقال أهل التحقيق : ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها ، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)) [النّمل : 26] فسبحانه هو المنزّه عن التشبيه القدوس المبرّأ عن الآفات ، والمسبح بجميع اللغات ، السلام السالم من نقائص المخلوقات ، الصمد
    __________________
    (1) لعله الذين ، اه مصححه.

    السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات ، الغني عن الأغيار ، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات ، الفرد الذي لا نظير له ، المنفرد بصفات الكمال والقدرة ، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسماوات ، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه ، وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات.
    قال البغداديون في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)) [البقرة : 117] كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان ، وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك (1) وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو ، حي قيوم لا أول لحياته ، ولا أمد لبقائه ، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك ، والدرك عن الاستنباط ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، وأسنده الطلب إلى شكله اه.
    وقولهم : كل صنع ، عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : 11] ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك ، كيف وقد تنزّه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان ، وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات. جلّت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)) [مريم : 67].
    وسأل بعض المخبثين (2) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السنية ،
    __________________
    (1) قوله : بالدرك متعلق بمحذوف فيما يظهر تقديره وأعجز الخلق عن أن يحيطوا به بالدرك ، الخ ، والدرك الإدراك ، اه مصححه.
    (2) لعله خبيثي الخ ، وقوله للإمام : لعل اللام الأولى من تصرفات النسّاخ وهذا ظننا في كل ما تقدم أو يجيء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة ، لأن الإمام الحصني أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك ، اه مصححه.

    والمناهج العلية ، يحيى بن معاذ الرازي فقال له : أخبرنا عن الله ، فقال : إله واحد ، فقال له : كيف هو؟ قال : إله قادر ، قال : فأين هو؟ قال : بالمرصاد ، فقال السائل : لم أسألك عن هذا ، فقال : ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق ، فأما صفته فالذي أخبرتك عنه.
    فالسائل سأل عن الذات والكيفية فأجابه هذا الحبر بالصفات الجلالية القدسية وهذا أخذه من قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون اللعين لما قال له موسى عليه‌السلام : (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزّخرف : 46] فسأله فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : 23] فقال موسى : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)) [الدّخان : 7] فضمن الجواب العدول عما سأل لأنه عدل فيه عن مطابقة السؤال لأن فرعون سأل عن ماهيته سبحانه وتعالى وموسى أجابه عن قدرته وصفاته فجاز له حين خلط في السؤال وأخطأ وسأل عما لا يمكن إدراكه العدول عن سؤاله فقال فرعون : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشّعراء : 25] أنا أسأله عن شيء فيجيب عن غيره ، فقال موسى عليه‌السلام : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشّعراء : 26] فلما قال موسى عليه‌السلام ذلك استشعر فرعون أنه أخطأ في السؤال فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه فقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشّعراء : 27] رماه بذلك حتى يتخلص ويصير موسى عليه‌السلام في مقام لا يلتفت إلى قوله ولا يؤخذ به ، فتأمل أرشدك الله عزوجل وهداك إلى الحق كيف أن ذلك معلوم عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف فلا أجهل ولا أعمى بصيرة من فرعون أهدى منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته.
    قال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل).
    وقال أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة : (من اعتقد في الله عزوجل ما يليق بطبعه كالعامي فهو مشبه فإنه عزوجل منزه عن كل ما يصفه الآدمي أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحدث تعالى وتقدس عن ذلك) فإيمان العامي لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك (1).
    __________________
    (1) هذا الكلام ليس على عمومه فإن من العامة من يندهش العالم لمبلغ كمال إيمانه بالله عزوجل وقد يصدق ذلك في بعض العوام الذين لم ينشئوا في حجور أهل الدين ولم يختلطوا بهم وهو أندر من الكبريت الأحمر بين طبقات العوام ، اه مصححه.

    قال ابن عباس : سبحانه وتعالى بخلقه يؤمنون به مجملا ويكفرون به مفصلا حملهم على ذلك زخرف العدو وإغواؤه رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) [يوسف : 106] هم الذين شبّهوا الله بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمّارة بالسوء وعدم تأملهم قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : 51] وفي ذلك إشارة إلى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها أو تدري كيف كنهها في أنفسها بعدم شهودهم خلق السماوات والأرض وخلق أنفسها فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها فكيف تدري أو تدرك شيئا من صفات موجدها من العدم وبارئها ومالكها.
    وقال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذّاريات : 49](سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : 36] وفي ذلك إشارة ظاهرة إلى عجزك عن إدراك كنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] وهو سبحانه وتعالى مباين لخلقه من كل وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيله وهم أو يتصوره خيال. كل ذلك محال. فهو الملك القدوس المنزّه في ذاته و
    صفاته عن مشابهة مخلوقاته وأنت من مخلوقاته ، ركبك على منوال عجيب ، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب ، مع تنقل تارات من ماء مهين فقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)) [المؤمنون : 12 ـ 14] الإنسان هنا هو آدم عليه‌السلام وسلالته لأنه سلة من كل تربة وكان عليه‌السلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي الإنسان (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حرز منيع وهو الرحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي دما (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وبين كل خلقتين أربعون يوما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو نفخ الروح فيه. قاله ابن عباس ومجاهد والشعبي وغيرهم. وقيل : نبات الأسنان والشعر قاله قتادة. وقيل ذكرا أو أنثى قاله الحسن. وقيل غير ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصورين والمقدرين تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار. المعنى أن من هذه من بعض مقدوراته يستحق التعظيم والتنزيه لأن هذه التارات والتنقلات إنشاء بعد إنشاء في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية ثم الإنشاء الآخر أن شق الشقوق وخرق الخروق وأخرج

    العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية وركّبها على منوال غريب مع كونه خلقا سويا فأظهر يد القدرة والآيات الظاهرة وكمال الصنع والحكمة الباهرة وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة وغير ذلك مما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني إلى غير ذلك مما يطول عده ويعسر تقديره وحده (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
    ولو قيل لك أخبرني عن قدر عروقك رقة وثخانة وطولا وقصرا أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان لعجزت عن بيان ذلك ولخرست ، وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نتفة تراب جعله بشرا منتشرا فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلا من عدم الرشاد ، وسلك سبيل الفساد والعناد ، وصيّر نفسه أخس العباد ، فمن حقق نظره واستعمل فكره وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم فلا يقدره أحد قدره ولا يعرفه سواه وإن قربه وأدناه ، فسبحانه ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه ، عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك.
    قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومن تأمل كلام الله عزوجل وجده محشوا بتنزيهه تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتارة بالإشارات وتارة بما تقصر عنه العبارات وهؤلاء (1) العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قربوا من درجة النبوة لأنهم دلوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ويرجح مدادهم على دم الشهداء ويستغفر لهم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وهم أمناء الله عزوجل في أرضه وأحدهم على الشيطان أشد من ألف عابد وقد قيل في قوله تعالى : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : 114] أي زدني علما بالقرآن ومعانيه وهؤلاء لهم علم لدني يرد على قلوبهم من غيب الهدى لها جولان في الملكوت فترجع إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة وإلا هلك وأهلك غيره ، ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها ، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يهلك ويهلك غيره فيلقي الله بذنوبه وذنوب غيره فيضاعف عليه العذاب.
    __________________
    (1) معطوف على الأنبياء أي عجزوا كما عجز الأنبياء عن وصف ربنا عزوجل كما ينبغي له ويليق به ولو لا ما علمهم الله تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه وإنما قلنا بذلك العطف لأنه لم يجيء بعدهم حديث عنهم فليعلم ، اه مصححه.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:14

    قال محمد بن المنكدر وهو من سادة التابعين وكانت عائشة رضي الله عنها تحبه وتكرمه وتبره : الفقيه يدخل بين الله عزوجل وبين عباده فلينظر كيف يدخل. وصدق ونصح قدس الله روحه. وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للإسلام والمسلمين وكانوا شديدين على من خالف ولا سيما لما ظهر أهل الزيغ وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم وكانوا يقولون هم الذين عنى الله عزوجل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : 7] الآية وكذا قالت عائشة رضي الله عنها ، وكانوا يقولون إذا جلس أحد للوعظ والتذكير تفقدوا منه أمورا ولا تغتروا بكل واعظ فإن الواعظ إذا لم يكن صادقا ناصحا سليم السريرة من الطمع والهوى هلك وأهلك ، وذكروا أشياء ببعضها تنطفئ نار الشبه التي بها يموه أهل الزيغ ومن لا يقبلها فما ذاك إلا أن الله عزوجل يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة ومن يرد الله عزوجل إضلاله فلا هادي له (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرّعد : 41](لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : 23] قسم الخلق إلى شقي وسعيد ، فهو الفعال لما يريد ، فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى ، ومن ابتع هوى نفسه الأمّارة وأهل الزيغ والضلالة وحاد عن سبيل من بهم يقتدي هلك في المرقى.
    ولنرجع إلى قول السلف رضي الله عنهم : إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أمورا إن كانت فيه وإلا فاهربوا منه وإياكم والجلوس إليه وإلا هلكتم من حيث طلبتم النجاة. قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع وكثرت المقالات وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه ، وحديث حذيفة رضي الله عنه يدل لذلك واللفظ لمسلم قال حذيفة : (كنا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم : نحن سمعناه ، فقال : لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره ، قالوا : أجل ، قال : تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ، ولكن أيكم سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي الله عنه : فأسكت القوم فقلت : أنا ، قال : أنت لله أبوك؟ قال حذيفة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تعرض الفتن على القلوب كالحصير فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاة فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» قال حذيفة رضي الله عنه : وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر ، قال : قال عمر رضي الله عنه : اكسر لا أبا لك فلو أنه فتح

    لعله كان يعاد ، قال : لا بل يكسر ، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط).
    قال أبو خالد : فقلت لسعيد : يا أبا مالك : ما «أسود مربادا»؟ قال : شدة البياض في السواد ، قلت : فما «الكوز مجخيا»؟ قال : منكوسا ، فقوله ليس بالأغاليط يعني أنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.
    والفتن كل أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء وأصله في اللغة الاختبار وشبهت بموج البحر لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدة عظمها وشيوعها ، وقوله «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم وتؤثر فيه لشدة التصاقها وهذا شأن المشبهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثر وتحسن لعقولهم ذلك حتى يعتقدوا ذلك دينا وقربانا من الله عزوجل وما يقنع أحدهم حتى يبقى داعية وحريصا على (1) إفتان من يقدر على إفتانه كما هو مشاهد منهم ، وإلى مثل ذلك قوله : «أشربها» أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : 93] أي حبه ، فقوله : «إن بينك وبينها بابا مغلقا» معناه أن تلك الفتن لا تفتح ولا يخرج منها شيء في حياتك ، وقوله : «يوشك» هو بضم الياء وكسر الشين معناه أنه يكسر عن قرب و «الرجل» هو عمر وقد جاء مبينا في الصحيح والحاصل أن الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر رضي الله عنه ما دام حيا فإذا مات دخلت ، ومبدأ الفتن هو الذين شرقوا (2) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمهم أن الدين لا يتم إلا بهما لأن عندهم علما بذلك وكانوا يظهرون الإسلام ويقرءون شيئا من القرآن وكانوا يرمزون إلى التعرض بالنقص حتى في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أن منهم من كان يؤم الناس ولا يقرأ في الجهرية إلا بعبس لما فيها من العتاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل ابن أم مكتوم وهم رضي الله عنه على (3) قتاله وتظاهر شخص بسؤال ما الذاريات ذروا فقال عمر رضي الله عنه : اللهم أمكني منه ، فمرّ يوما فقيل له : هو ذا ، واسم الرجل صبيغ ، فشمّر عمر رضي الله عنه عن ذراعيه وأوجعه جلدا ثم قال : أرحلوه فأركبوه على
    __________________
    (1) يريد فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون الخ ، اه مصححه.
    (2) أي غصوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصاحبيه فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للإسلام في وجودهم لعلمهم الخ ، اه مصححه.
    (3) على موضع الباء ، اه مصححه.

    راحلته ، فقال : طيفوا به في حيه ليعلم الناس بذلك (1) وكان رضي الله عنه شديدا في دين الله عزوجل لا تأخذه في الله لومة لائم وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب (قمع النفوس).
    ولما كان أواخر القرن الأول اتسع الأمر من القصاص وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد وكان ساحرا واشتهر بالوصاف وجمع بين الإلحاد والتنجيم ويقول إن ربه على صورة رجل على رأسه تاج وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به ويقول إن الأمانة في قول الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) [الأحزاب : 72] هي أن لا يمنع على الخلافة ، وقوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : 72] هو أبو بكر رضي الله عنه.
    وقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر أن يحملها ويمنع عليا منها وضمن عمر أنه يعين أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده فقبل أبو بكر منه وأقدما على المنع متظاهرين ، ثم وصفهما بالظلم والجهل فقال : وحملها أبو بكر إنه كان ظلوما جهولا. وزعم أنه نزل في حق عمر رضي الله عنه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [الحشر : 16] الآية ، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلا لمن ثبت مع علي رضي الله عنه وكان يقول إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يختلفوا في شيء من الشرائع ، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الإمام ، وقال لمحمد الباقر : أقر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق ، فانتهره وطرده ، وكذا فعل بجعفر الصادق ولد محمد الباقر فقال : أعوذ بالله ، وكان يقول : انتظروا محمد بن عبد الله الإمام فإنه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام ، وكان له خبائث ، فلما كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبد الله القشيري فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه فهذا شأن أهل الزيغ.
    واستمر الأمر على ذلك إلا أنهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الكب (2) على سماع الحديث ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس العوام ثم كثرت المقالات في زمن الإمام أحمد وكثر القصاص وتوجع هو وابن عيينة وغيرهما منهم وكان الإمام أحمد يقول : كنت أود لو كان قصاصا صادقا نصوحا طيب السريرة ، ونبغ في زمنه محمد بن كرام السجستاني وترافق مع الإمام أحمد
    __________________
    (1) ونفاه بعد ذلك رضي الله عنه ولم يرجعه حتى صدقت توبته ، اه مصححه.
    (2) يريد الإكباب ، اه مصححه.

    وأظهر حسن الطريقة حتى وثقه هو وابن عيينة ، وسمع الحديث الكثير ووقف على التفاسير وأظهر التقشف مع العفة ولين الجانب ، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء ، ثم أخذ حانوتا يبيع فيه لبنا ، واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويذكر ويحدث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفا ، وكان من غلاة المشبهة وصار يلقي على العوام الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوام وما ألفوه ففطن الحذّاق من العلماء فأخذوه ووضعوه في السجن فلبث في سجن نيسابور ثمان سنين ثم لم يزل أتباعه يسعون فيه حتى خرج من السجن وارتحل إلى الشام ومات بها في زعر ولم يعلم به إلا خاصة من أصحابه فحملوه ودفنوه في القدس الشريف وكان أتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفا على التعبد والتقشف وقد زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون واستمر على ما هم عليه خلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا.
    قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : 8] قال سعيد بن جبير : هذه الآية نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ، المعنى أنه ركض في ميادين الباطل وهو يظنها حقا ، كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول عند هذه الآية : إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظن بكونها حقا وهؤلاء ينزع من قلوبهم نور المعرفة وسراج التوحيد من أسرارهم ووكلوا إلى ما اختاروا فضلّوا وأضلّوا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : 18] حتى ينكشف لهم الأمر كما قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزّمر : 47] قيل : عملوا أعمالا ظنوا أنها في كفة الحسنات فإذا هي في كفة السيئات ، وهذه الآية قيل إنها في أهل البدع يتصور (1) ويعتقد مع تمام الورع والزهد وتمام الأعمال الصالحة وفعل الطاعات والقربات ما عاقبته خطرة. ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحق ويعتقده على خلاف ما هو به إما برأيه ومعقوله الذي يحاكي به الخصوم وعليه يعول وبه يغتر قد زين له العدو وحلاه له حتى اعتقده دينا ونعمة وإما أخذا بالتقليد ممن هذه حاله ، وهذا التقليد كثير في العوام لا سيما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر وهو على وفق الطبع والعادة وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقا لا يحصون حتى أنهم يعتقدون أن الحق في
    __________________
    (1) أي أحدهم ، اه مصححه.

    مثال ما هم عليه وأن غيرهم على ضلالة ومثل هؤلاء ومن اتبعوهم إذا بدا لهم ناصية ملك الموت انكشف لهم بطلان (1) ما اعتقدوه حقا باطلا وجهلا وختم لهم بالسوء وخرجت أرواحهم على ذلك وتعذر عليهم التدارك وكذا كل اعتقاد باطل ، ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبد وشدة الزهد وكثرة الصوم والحج وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات لأنها تبع لأمر باطل ولا ينجو أحد إلا بالاعتقاد الحق ، وقد قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : 32] وهذه الآية صريحة في أنه ليس بين الحق والباطل واسطة والباطل هو الذهاب عن الحق مأخوذ من ضل الطريق وهو العدول عن سمته والحق هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)) [الأنعام : 153] وصف الله تعالى صراطه وهو دينه بالاستقامة وأمر باتباعه ، والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه فمن اتبعه أوصله إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
    قال سهل : الصراط المستقيم هو الاقتداء والاتباع وترك الهوى والابتداع ، ثم إنه تعالى نهى عن اتباع السبل لما فيها من الحيدة عن طريق الاستقامة فقال : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : 153] أي تميل بكم عن طريقه التي ارتضى وبه (2) أوصي إلى سبل الضلالات من الأهواء فتهلكوا.
    قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما الصراط المستقيم؟ فقال : ما تركنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جوادّ وعن يساره جوادّ وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : 153] الآية ، فأشار رضي الله عنه بالرجال الذين على الجوادّ إلى علماء السوء وأهل البدع ، وأشار بقوله : يدعون من مرّ بهم ، إلى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم.
    ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كل أحد وقالوا : إذا جلس للوعظ فتفقدوا منه أمورا فإن كانت فيه فاهربوا منه وإلا هلكتم من حيث ظننتم
    __________________
    (1) لعل لفظ بطلان من زيادة النساخ ، اه مصححه.
    (2) راعى في وصف الطريق بالتي جواز تأنيثها وراعى في رجوع الضمير إليها في به جواز تذكيره فليعلم ، اه مصححه.

    النجاة منها إن كان مبتدعا فاحذروه واجتنبوه فإنه على (1) لسان الشيطان ينطق ومن نطق على لسان الشيطان فلا شك ولا ريب في إغوائه فيهلك لإنسان من حيث يظن السلامة وأيضا ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير.
    روى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» ورواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن بشر وبهذا وغيره يجب التبري من أهل البدع والتباعد.
    قال بعض السلف : (من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عرى الإسلام عروة عروة).
    وقال شخص من أهل الأهواء لأيوب السختياني رضي الله عنه : أكلمك كلمة؟ فقال : لا الله ولا نصف كلمة ، وكان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا.
    قال رضي الله عنه : كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكي حتى نرحمه وكان يقول : إذا بلغني موت أحد من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي ، وكان يقول : والله ما صدق عبد إلا سره ألا يراه أحد (2).
    وكان يونس بن عبيد يقول : احفظوا عني ثلاثا مت أو عشت : لا يدخلن أحد على سلطان يعظه أو يعلمه ، ولا يخلون بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن ، ولا يمكن سمعه من ذي هوى ، وأشدها الثالثة لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك. وكان يقول : ما يزال العبد بخير ما أبصر ما يفسد عمله. ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري ، وكان أبو عبد الله الأصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكائين ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه ، قال : وقفت على علي بن ماشاذة وهو يتكلم على الناس فلما جاء الليل رأيت رب العزة في النوم فقال لي : وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنك النظر في الدنيا ، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئا.
    __________________
    (1) على بمعنى عن أو الباء ، اه مصححه.
    (2) أي وهو يعمل الصالحات وهو كلام جليل فليفكر فيه القارئ طويلا لعله يتحقق به ، اه مصححه.

    وقال الحميدي : سمعت الفضيل يقول : من وقر صاحب بدعة أورثه الله عمى قبل موته ، قيل : أراد أيضا عمى البصيرة.
    واعلم أن الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدا وقد ذكرت جملة منه في (تنبيه السالك على مظان المهالك) ومنها : أن يكون الواعظ سيئ الطعمة فإنه إنما ينطق بالهوى لأن مثل هذا يوقع الناس في الحرام أو ربما اعتقدوا حله لأنهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله.
    ومنها : أن يكون رديء العقل أحمق فإنه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح والأحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنه يصيب. قال عيسى عليه‌السلام : أبرأت الأكمه والأبرص وأعياني الأحمق ، فالأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه للطريق فاسد فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول إلى الغرض ويختار ما لا ينبغي أن يختار وهذا واجب الاجتناب بخلاف صاحب العقل الصحيح فإنه يثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأدلة والأعمال وخفايا النفس الأمّارة وغرور الشيطان.
    ومنها : أن يذكر الأدلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الأخبار والآثار لأنه بذلك يحل من القلوب الزواجر ويسهل ارتكاب المعاصي لا سيما إذا علم منه ارتكاب شيء ولو كان مكروها فإنه يوقع الناس في ورطة عظيمة.
    قال : إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوام بالحرام وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوام معناه أنهم يعتقدون حله لارتكاب العلماء ذلك لأنهم القادة وعليهم المعول في التحليل والتحريم.
    ومنها : أن يتعرض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار ويجمعها ويسردها ويكرر الآية والخبر مرارا لأنه يوقع العامي في ما اعتاده وألفه فيجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه ويزينه الشيطان له بغروره لا سيما إن كان الواعظ ممن يظهر زهدا وورعا وشفقة على الناس فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر ، والسلف رضي الله عنهم لهم اعتناء بشدة مجانبة هذا والتباعد عنه.
    ومنها : أن يكون متهما بالرفض وبسب الصحابة رضي الله عنهم وهؤلاء نبّه مالك رضي الله عنه على أنهم من سلالة المنافقين وأوضح ذلك نور الله تعالى قلبه

    فقال : أرادوا أن يقدحوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء فلم يجدوا مساغا فقدحوا في الصحابة لأن القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه وهؤلاء كفار لاستحلالهم سب أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
    ومنهم أقوام يلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره وهم لا يعتقدون البخاري ويسمونه فيما بينهم بالفشاري ولهم خبائث عديدة كل واحدة كفر محقق ، وبقي أمور لا أطول بذكرها فمن أراد الله به خيرا حماه عن مجالسة هؤلاء لأن القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن يرتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه وأقل ما ينال القلب التردد والحيرة وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان فإن كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميا والمبتدع أدخلها عليه بقال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعيد أن يرجع ويتقشع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكم الشبهة بالدليل وهذا من الهالكين إلا أن يتداركه الله برحمته لأن عمدة الناس الكتاب والسنة والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضي فمن حق العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم وأن لا يغتر بتقشفهم وكثرة تعبدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم فإن ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها وبها تتشرب القلوب لبدعتهم لا سيما من قلبه مشغوف بحب الدنيا إذا رئي زاهدا فيها مع إكبابه على الكتاب والسنة مع الورع والزهد والعفة والقناعة فلا شك ولا ريب أنه يرغب فيه غاية الرغبة ويميل إليه غاية الميل ولا يصده عنه صاد كما هو مشاهد من العوام ومحبتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة فتنبه لذلك فقد أوضحت طريق السلامة والتباعد عن مظان الهلكة فكم من شخص قصده صالح قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر وعليك بالاقتداء بالأطباء أعني أطباء القلوب وهم الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم العالمون بأسباب الحياة الأخروية ثم أتباعهم الذين أخذوا عنهم وشاهدوا منهم ما لم يشاهده غيرهم. شعر :
    من كان يرغب في النجاة فما له
    غير اتباع المصطفى فيما بدا

    فاتبع كتاب الله والسنن التي
    صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى

    فالدين ما قال النبي وصحبه
    فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدى

    فسبحان الحليم الودود ، الممهل الكريم العميم الجود ، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود ، ويرى جريان الماء في العود ، القادر فكل ما سواه بقدرته موجود ، نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك ، فتعالى عن

    الأشكال والأمثال والجهات والحدود ، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل فمن عطل وقع في الجحود ، وتنزيهه عن النقائص والأشباه محقق ومعلوم والتشبيه مذهب السامرة واليهود ، وكف الكف مشلولة بل مقطوعة وباب التشبيه مردود ومسدود ، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود ، وأصحاب الأخدود وعاد وثمود ، فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود ، ونتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين محمد كما توسل به أبو البشر فقبلته فهو أحمد المحمود ، صاحب الحوض المورود ، والمقام المحمود ، فهو أعظم الوسائل ولا يخيب من توسل به ولو كان من أهل الجحود.
    قال الله تعالى : (وَكانُوا) [البقرة : 61] أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) [البقرة : 25] أي بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْتَفْتِحُونَ) [البقرة : 89] أي يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] وهم مشركو العرب كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو اللهم انصرنا بجاه النبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة ، فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وثمود.
    فانظر أرشدك الله إلى قدره ودنو منزلته عند ربه كيف قبل عزوجل التوسل به من اليهود مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به ولا يوقرونه ولا يعظمونه بل يؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه فمن منع التوسل به فقد نادى على نفسه وأعلم الناس بأنه أسوأ حالا من اليهود. شعر :
    أنت الملاذ لنا وأنت المرتجى
    وبك اللياذ وأنت ملجأ من لجا

    يا سيد الكونين يا من قد سما
    معراجه فوق السماء وعرجا

    يا سيد الثقلين والحكم الهدى
    والمقصد الأسنى لأبواب الرجا

    يا سيدا من أم باب مقامه
    ألفاه خير مقام سؤل يرتجى

    يا سيدا ما أمه من ضامه
    ريب الزمان بخطبه الأنجا

    يا سيدا جعل الإله وجوده
    للعالمين المرتجى والملتجى

    يا خاتم الرسل الكرام ومن به
    رب البرية كل هم فرجا

    غيره :
    وكن مستجيرا بالذي نال رفعة
    إلى عزها ذل الملوك الأكاسر




    نبي له جاه عريض ومنصب
    عظيم له تعزي العلى والمفاخر

    جليل جميل راحم متعطف
    فصيح مليح كامل الحسن باهر

    ألا يا رسول الله يا غاية المنى
    لقد نلت فخرا ما لأدناه آخر

    أيا درة الأنباء يا جوهر الورى
    هنيئا لنفس في هواك تتاجر

    لقد ربحت في بيعها وتنعمت
    وقد سعدت يا درها والجواهر

    حبيبي رسول الله كن لي شافعا
    أغثني أجرني يوم تبلى السرائر

    بجاهك آمال الضعيف تعلقت
    إذا نصب الميزان والعقل طائر

    فكن شافعي عند الإله فإنه
    حليم كريم غافر الذنب ساتر

    مضى العمر في لهو وزهو وغفلة
    وإني عن الفعل الحميد لقاصر

    فيا رب داركنا بعفو ورحمة
    فأنت جميل العفو للكسر جابر

    وخذ بنواصينا وطهر قلوبنا
    ومنّ بعفو منك فالعفو غامر

    وصل على البدر الذي من جبينه
    بدا الشمس والأقمار والنجم زاهر

    نجزت هذه الأحرف المباركات على قارئها ومستمعيها المتأسين بأهل الحق التابعين للصفوة من أولي المعجزات المنزهين لرب العالمين والمعظمين لسيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء والمرسلين وسرج هذه الأمة من بعدهم كالصديقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكنت قد عزمت على أن أقتصر على ذلك لأن في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك ثم قيل لي وكرر علي أن أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيد الأولين والآخرين تبعا لسلالة القردة والخنازير لهم وجود وفيهم كثرة وقد أخذوا بعقول كثير من الناس لما يزينون لهم من الاطراء على قدوتهم ويزخرفون لهم بالأقوال والأفعال ويموهون لهم بإظهار التنسك والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحج والتلاوة وغير ذلك مما يحسن في قلوب كثير من الرجال لا سيما العوام المائلين مع كل ريح أتباع الدجال فانقادوا لهم بسبب ذلك وأوقعوهم في أسر المهالك فرأيت بسبب هذه المكائد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم قمعا لهذا الزائغ عن طريق أهل الحق وهم الأئمة الأربعة المقتدى بهم والمعول عليهم في جميع الأعصار والأقطار لأنهم النجوم الذين بهم يهتدى وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبدين وغيرهم من العلماء أهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة ولو كان أحرفا يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة

    فاستخرت الله عزوجل في ذلك مدة مديدة ثم قلت : لا أبا لك ، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما عملت ، وإلا ألجمت بلجام من نار ومقت وها أنا أذكر الرجل وأشير باسمه الذي شاع وذاع ، واتسع به الباع ، وسار بل طار في أهل القرى والأمصار ، وأذكر بعض ما انطوى باطنه الخبيث عليه وما عول في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه ولو ذكرت كثيرا مما ذكره ودونه في كتبه المختصرات لطال جدا فضلا عن المبسوطات وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطلع عليها إلا من تحقق أنه على عقيدته الخبيثة ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.
    قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس : لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه ، وأكد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه وما أفتى به مخالفا لجميع المذاهب وما خطئ فيه وما انتقد عليه وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات وما جاءت به المراسيم العاليات وأتعرض لبعض ما سلكه من المكائد التي ظن بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات وهيهات فأول شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد وشرع يطلب العلم ويتعبد فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه فأظهر التعفف فزادوا في الغربة فيه والوقوع عليه ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوداته حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلا ذلك المتفنن الفطن ثم مع ذلك شرع يتلقى الناس بالإنس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس لا سيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فطلبوا منه أن يذكر الناس ففعل فطار ذكره بالعلم والتعبد والتعفف ففزع الناس إليه بالأسئلة فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة قال له عادوني فيها فإذا جاءه قال هذه مسألة مشكلة ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلدها في عنقي فيقول أنا أوفي لك فيقول إن تكتم علي فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك فيفتيه بما فيه فرجه حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه

    فكان إذا كان في بعض المجالس قال (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلانا وزيرا وفلانا محتسبا وفلانا دويدارا وفلانا أمير البلد فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب فكانوا يقومون في نصرته. ثم اعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصا منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له ما عقيدة إمامك فإذا قال كذا وكذا قال أشهد أنها حق وأنا مخطئ واشهدوا أني على عقيدة إمامك ، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه ، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع ، ألا ترون كيف خرج سالما حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير لا سيما من العوام ، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكرا فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عزوجل في سجن الزندقة والكفر ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن حقا كان أو باطلا ولو بالأيمان الفاجرة سواء كانت بالله عزوجل أو بغيره وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز وهذا مذهب فرقة الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خزعبلات ومكر وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثا أو منعا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك ، وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة وقد وقفت على مصنف له في ذلك (1) وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له : يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن تيمية فقال : اشهد علي أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية فنسأل الله العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل (2) ثم اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك
    __________________
    (1) هذا شيء مدهش جدا ولو لا أن الذي يحكيه الإمام الحصني المعروف بشحه على دينه ما وجد ما يحكيه إلى القلوب سبيلا ، اه مصححه.
    (2) لا يتردد عاقل في أن ما سيحكيه الإمام الحصني بعد فعل دجاجلة لا علماء فليقرأه العاقل وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين الله ، اه مصححه.

    الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : 43] ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الأعناق مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم حتى إنهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلا في الأماكن الخفية بعد التحرز وغلق الأبواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة ويقولون إن للحيطان آذانا ، ومن جملة مكرهم وتحيلهم أن الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث له أتباع يظهرون له العلم والعظمة والتعبد والتعفف يخدعون بذلك أرباب الأموال لا سيما الغرباء فيدفع ذلك الغريب أو غيره إلى ذلك الشيخ شيئا فيأبى ويظهر التعفف فيزداد ذلك الرجل حرصا على الدفع فلا يأخذ منه إلا بعد جهد فيأخذها ذلك الخبيث ولا عليه من اطلاع الله تعالى على خبث طويته ويدفع بعضها إلى أتباعه وإلى غيرهم ويتمتع هو وخواصه بالباقي ولهم يد وقدرة على ذلك ، ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصانا أو غيرها ثم يقولون انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه وهكذا كان السلف ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع وكثير من الناس في غفلة من هذا ولو لا أن ذلك من جملة النصيحة لما ذكرته ولما تعرضت له وكان ما في نفسي شاغلا عن ذلك إلا أنه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بسبب نجدة الحروري المبتدع (لو لا أن أكتم علما لما كتبت إليه) يعني جواب ما كتب إليه بأن يعلمه مسائل والقصة مشهورة حتى في صحيح مسلم.
    وقال عليه الصلاة والسلام : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» رواه غير واحد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه منهم أبو داود وكذا الترمذي وحسنه والحاكم وصححه.
    ثم إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمة بدفعه إليهم لأنهم ليسوا من أهلها فليتنبه لذلك فإنه قد يخفي مع ظهوره وقد تشكك في ذلك وتلاعب الشيطان به فلنأخذ بجانب الاحتياط منه فإنه طريق السلامة والله أعلم.
    واعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر لكان لي في ذلك مزيد وكثرة ، وفيما ذكرته أنموذج ينبه بعضه على غيره لا بما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره التي أشار إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضها صرح به تصريحا ظاهرا لا يخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر.

    وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».
    وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :
    «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء وليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».
    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على المنبر : «ألا إن الفتنة هنا ـ ويشير إلى المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية «إن الفتنة هاهنا» ثلاثا ، وفي رواية : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيت عائشة رضي الله عنها فقال : «رأس الكفر هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وهذا المبتدع من حران الشرق بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع كجعد وغيره.
    وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية هم شر الخلق طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا : يا رسول الله وما سيماهم؟ قال : «التحليق والتسبيد فإذا رأيتموهم فأنيموهم» أي اقتلوهم ، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر وقيل ترك التدهن وغسل الرأس وغير ذلك ، والأحاديث في ذلك كثيرة وفي واحد كفاية لمن أراد الله عزوجل به الرشد والهداية فقد أوضحهم سيد الناصحين صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أوصافهم وأماكنهم إيضاحا جليا لا خفاء فيه ولا جهالة فلا يتوقف في معرفتهم بعد ذلك إلا من أراد الله تعالى إضلاله وإذا تمهد لك هذا أيها الراغب في فكاك نفسك من ربقة عقائد أهل الزيغ الضالين المضلين والاقتداء بأهل السلامة في الدين.
    فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ : المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن

    أراد الله عزوجل إهلاكه فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به (1) ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين فمنه ما دوّن في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات وتضمنه الفتاوى الزكيات من دنس أهل الجهالات ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رءوس الأشهاد في المجامع الجامعة حتى شاع وذاع واتسع به الباع حتى في الفلوات فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني (2) ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمه‌الله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة ، صورته :
    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    الحمد لله الذي تنزّه عن التشبيه والنظير ، وتعالى عن المثل فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنة والكتاب ، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ، وينزّه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : 4] ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته وأمر بالتفكر في الآيات ونهى عن التفكر في ذاته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع ، وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع ، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.
    وبعد فإن القواعد الشرعية ، وقواعد الإسلام المرعية ، وأركان الإيمان العلمية ، ومذاهب الدين المرضية ، هي الأساس الذي يبنى عليه ، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه ، والطريق التي من سلكها فاز فوزا عظيما ، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما ، ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها ، ويؤكد دوامها ، وتصان عقائد هذه الأمة عن
    __________________
    (1) ليتأمل هذا جدا فإنه عجيب ، اه مصححه.
    (2) لفظ ناصر الدين صفة لموصوف محذوف قطعا ليستقيم الكلام والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين الخ ، اه مصححه.

    الاختلاف ، وتزان بالرحمة والعطف والائتلاف ، وتخمد ثوائر البدع ، ويفرق من فرقها ما اجتمع.
    وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ، ومدّ بجهله عنان كلمه ، وتحدث بمسائل الذات والصفات ، ونص في كلامه الفاسد على أمور منكرات ، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون ، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام ، وشهر من فتاويه ما استخف به عقول العوام ، وخالف في ذلك فقهاء عصره ، وأعلام علماء شامه ومصره ، وبث به رسائله إلى كل مكان ، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، ولما اتصل بنا ذلك وما سلك به هو ومريدوه ، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه ، من هذه الأحوال وأشاعوه ، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه ، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم فقمنا في نصرة الله مشفقين من هذا النبأ العظيم ، وأنكرنا هذه البدعة ، وعزنا (1) أن يشيع عمن تضمنه ممالكه هذه السمعة ، وكرهنا ما فاه به المبطلون ، وتلونا قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) [الصّافات : 180] فإنه سبحانه وتعالى تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)) [الأنعام : 103] فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى أبوابنا ، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا ، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : 74] ولما وصل إلينا الجمع أولو العقد والحل ، وذوو التحقيق والنقل ، وحضر قضاة الإسلام ، وحكام الأنام ، وعلماء المسلمين ، وأئمة الدنيا والدين ، وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع ، ومن له دراية في مجال النظر ودفع ، فثبت عندهم جميع ما نسب إليه ، بقول من يعتمد ويعول عليه ، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده (2) وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون ، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزّخرف : 19] وبلغنا أنه قد استتيب مرارا فيما تقدم ، وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك ، وأقدم ، ثم عاد بعد منعه ، ولم يدخل ذلك في سمعه ،
    __________________
    (1) هذه الفقرة محرّفة ومعناها ليس بظاهر والذي يظهر أن أصلها وعذنا أن يشيع عمن تضمه ممالكه هذه السمعة ، يستعيذ السلطان بالله أن يشيع عنه هو تلك السمعة لأن الرجل في مملكته ، اه مصححه.
    (2) ليحفظ هذا ثم ليحفظه المغرورون ، اه مصححه.

    ولما ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور ، ويمنع من التصرف والظهور ، ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك ، وينهي عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك ، أو يعود له في هذا القول متبعا ، أو لهذه الألفاظ مستمعا ، أو يسري في التشبيه مسراه ، أو يفوه بجهة العلو بما فاه ، أو يتحدث أحد بحرف أو صوت ، أو يفوه بذلك إلى الموت ، أو ينطق بتجسيم ، أو يحيد عن الطريق المستقيم ، أو يخرج عن رأي الأئمة ، أو ينفرد به عن علماء الأمة ، أو يحيز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف ، فليس لمعتقد هذا إلا السيف (1) ، فليقف كل واحد عند هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة ، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة ، ولزوم ما أمر الله تعالى به والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل ، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل ، والسجن الطويل مستقره ومقيله وبئس المقيل ، وقد رسمنا بأن ينادي في دمشق المحروسة والبلاد الشامية ، وتلك الجهات الدنية والقصية ، بالنهي الشديد ، والتخويف والتهديد ، لمن اتبع ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه ، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه ، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه ، ومن أصر على الامتناع ، وأبى إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم ، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم ، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية ، ولا شهادة ولا إمامة ، بل ولا مرتبة ولا إقامة ، فإنا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد ، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيرا من العباد أو كاد ، بل كم أضلّ بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد ، ولتثبت المحاضر الشرعية ، على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية ، وقد أعذرنا وحذرنا ، وأنصفنا حيث أنذرنا ، وليقرأ مرسومنا الشريف على المنابر ، ليكون أبلغ واعظ وزاجر ، لكل باد وحاضر ، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه ، وكتب ثامن (2) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة (3).
    __________________
    (1) لينظر هذا كذلك ، اه مصححه.
    (2) كذا بالأصل والمعنى ظاهر ولعل الأصل في ثامن وعشرين من شهر الخ وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك ، اه مصححه.
    (3) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : 13] ، اه مصححه.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:16

    وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التواريخ وهو ابن شاكر ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي وكان من أتباع ابن تيمية وضرب الضرب البليغ لكونه قال لمؤذن في مأذنة العروس وقت السحر أشركت حين قال :
    ألا يا رسول الله أنت وسيلتي
    إلى الله في غفران ذنبي وزلتي

    وأرادوا ضرب عنقه ثم جددوا إسلامه وإنما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حق ابن تيمية في إقامة الحجة عليه مع أنه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته والعجب أن ابن تيمية ذكرها وهو سكت عنها.
    كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه
    فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال : كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال غير ذلك حتى أوصلوه إلى بعض الحكام واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فقال : قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)) [طه : 5] فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا : ما تقول في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : 115]؟ فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من الجهلة على التحقيق وأنه لا يدري ما يقول وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوام عليه وكذا الجامدين (1) من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه المرضي وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء وقد أطنب فيها وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظن أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله (إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) [الحديد : 4] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا) هذه عبارته بحروفها ، فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة
    __________________
    (1) كذا بالأصل وليس يخفى أن لفظ الجامدين حقها الجامدون وكذا العارون ، اه مصححه.

    بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش ومحتجا بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك ومن قبيل المجمل وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله وفساد تصوره وبلادته وكان بعضهم يسميه حاطب ليل وبعضهم يسميه الدار الهدار وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة (1) عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام وهو (2) من أعظم الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل علي رضي الله عنه واحدا منهم تكلم في مجلسه كلمة فيها ازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وقفت على المسألة أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء فتصدى لهم الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق ولم يبق منهم إلا الضعفاء في العلم ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقاها ابن تيمية عن شيخه وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصورها. عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.
    ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ذكره في الجزء العشرين قال : وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق فسئل ابن تيمية عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلهم بذلك فأفحم كمال الدين ابن تيمية وخاف ابن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي فرضوا منه بذلك وانصرفوا ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره فشفع فيه وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيمية ثم قال : ولما كان
    __________________
    (1) ظاهر أنها الفوقية وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة بين حياة الرسول ومماته ، اه مصححه.
    (2) ظاهر أن هذا اللفظ هم لا هو ، اه مصححه.

    سلخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس بالميدان أيضا وحضر نائب السلطنة أيضا وتباحثوا في أمر العقيدة وسلك معهم المسلك الأول فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيمية وفي الكتاب (تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيمية) فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر فأجاب فلما كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على ابن تيمية كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية وأن بعضهم صفع فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير شمس الدين بن محمد المهمندار إلى ابن تيمية وقال له قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا وكذلك راح إلى قاضي القضاة فشرعوا في التجهيز وسافر صحبة ابن تيمية أخواه عبد الله وعبد الرّحمن وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيمية وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق وأخبر بوصولهم إلى الديار المصرية وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهر بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء ، فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادعى على ابن تيمية في أمر العقيدة ، فذكر منها فصولا فشرع ابن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلم بما يقتضي الوعظ فقيل له يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك وقد ادعي عليك بدعوى شرعية فأجب ، فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من ذلك بل قيل له أجب فتوقف وكرر عليه القول مرارا فلم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة فتردد إليه جماعة من الأمراء فسمع القاضي بذلك فاجتمع بالأمراء وقال يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل ونقلوا أخويه معه بإهانة وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي وحضر القراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة فلما كان بعد أيام عرضها عليه فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما فيها امتثالا للمراسيم السلطانية وكانوا قد بيتوا على الحنابلة كلهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموي بعد الصلاة وحضر القضاة كلهم بالمقصورة وحضر

    معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل على يديه وفيه ما يتعلق بمخالفة ابن تيمية في عقيدته وإلزام الناس بذلك خصوصا الحنابلة والوعيد الشديد عليهم والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين محمد بن شهاب الدين الموقع وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذن وقرئ بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة واعترفوا أنهم يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها ابن تيمية وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء وحضر ابن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قبل مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه فأنكر فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحاما اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا فقيل لابن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها ، فقال القاضي نجم الدين بن صصري : حكمت بحبسك واعتقالك ، فقال له : حكمك باطل لأنك عدوي ، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق ، وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر ونصف وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر من شعبان قدم بريدي من الديار المصرية ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيمية فاعتقل في قلعة دمشق وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنه قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ثم إن الشاميين كتبوا فتيا أيضا في ابن تيمية لكونه أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء وآخر القول إنه أفتى بتكفيره ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك المالكي وكذلك كتب غيرهم ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلسا

    ويجمع العلماء والقضاة فرأى أن الأمر يتسع فيه الكلام ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيرها فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب عليها (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع) ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعا عليه (1) ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره ، وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان إلى نائب البلد وأمره أن يقرأ على السدة في يوم الجمعة فقرئ وكان قارئ الكتاب بدر الدين بن الأعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذن ومضمون الكتاب بعد البسملة أدام الله تعالى نعمه ونوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء وعقدنا بهذا السبب مجلسا بين أيدينا الشريفة ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقا وكتبوا خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية وقد جهزنا إلى الجناب العالي طي هذه المكاتبة فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه تضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى فيحيط به علمك الكريم ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه فإنه في كل وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها ويفسد على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع ما ذلك وتسد الذريعة منه فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية فيتقدم منع من سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتاوى أو يعمل بها في أمر الطلاق أو هذه القضايا المستحدثة وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله وإن كان من الشبان الذين يقصدون الظهور كما يقصده ابن تيمية فيؤديهم ويردعهم ردعا بليغا ويعتمد في أمر ما يجسم به مواد أمثاله لتسقيم أحوال الناس وتمشي على السداد ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله عزوجل
    __________________
    (1) لينظر هذا المغرورون ، اه مصححه.

    من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد الذرائع فيها وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
    وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين سبعمائة صورة الفتوى من المنقول من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى :
    الحمد لله هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة وسنّة مجمع عليها وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوى الغريبة ويجلس (1) إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
    وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي : لكن يحبس الآن جزما مطلقا. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي : ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرّحمن القزويني فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيرة عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن.
    وذكر الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الذهبي بعض محنته وأن بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة وكان سؤالهم عن عقيدته وعما ذكر في الواسطة وطلب وصورت عليه دعوى المالكي فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهرا ثم أخرج ثم حبس في حبس الحاكم وكان مما ادعى عليه بمصر أن قال : (الرّحمن استوى على العرش) حقيقة وأنه تكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه (2).
    __________________
    (1) ظاهر أن اللفظ ويحبس لا يجلس ، اه مصححه.
    (2) ليتأمل العاقل هذا ثم ليتأمله ، اه مصححه.

    وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : 255] ما صورته : (وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش (إن الله يجلس على الكرسي) وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه أظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه. ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات المتعلقة بالخالق والمخلوق (ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن المفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا) هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : 13] تعالى الله وتقدّس عن ذلك.
    وقال في الكلام على حديث النزول المشهور (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب) هذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصا على ظاهرها واعتقادها وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا وذكره إخبارا عن الملأ الأعلى والكون العلوي والسفلي ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك وهذا الخبيث لا يعرج على ما فيه التنزيه وإنما يتتبع المتشابه ويمعن الكلام فيه وذلك من أقوى الأدلة على أنه من أعظم الزائغين ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما قلته إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه.
    قال بعض السلف رضي الله عنهم : الإعراض عن الحق والتسخط له علامة الركون إلى الباطل وطريق الحق دقيق وبعيد ، والصبر معه شديد ، والعدو لا يزال عنه يحيد ، وأثقال الحق لا يحملها إلا مطايا الحق.
    وقال بعض السلف : داعي الحق داعي رشد ، ليس للشيطان فيه يد ، ولا للنفس فيه نصيب ، وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس ومتبعها هالك لا محالة لأنه عاص في صورة طائع ، ومبعد في صورة مقرب ، وصدق ونصح رضي الله عنه فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يحصون عدّا ، ولا يمكن ضبطهم حدا.

    قال العلماء : إن وسوسة التشبيه من إبليس فالرد عليه وإبطال وسوسته أن يقول في نفسه كل ما تصور في صدري فالرب بخلافه فإنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق له كيفية ومثل والرب سبحانه وتعالى لا مثل له ولا كيفية فما مثل في صدري فهو غير ربي فهو سبحانه وتعالى موحد الذات والصفات.
    وسئل علي رضي الله عنه عن التوحيد والعدل فقال : (التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه).
    وقال يحيى بن معاذ : (التوحيد في كلمة واحدة ما تصور في الأوهام فهو بخلافه).
    وقال علي رضي الله عنه : (ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود).
    وقال رضي الله عنه : (أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات المحدثة عنه فمن وصفه بحادث فقد قرنه ، ومن قرنه فقد؟؟؟ (1) ومن؟؟؟ فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عده).
    قال المحققون : (من اعتقد في الله سبحانه وتعالى ما يليق بطبعه فهو مشبه لأنه سبحانه وتعالى منزّه عما يصفه به أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحديث).
    وسئل ـ أعني عليا رضي الله عنه ـ : بم عرفت ربك؟ فقال : (عرفته بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كل شيء ولا يقال أمامه شيء وهو في كل شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره).
    وقال أيضا رضي الله عنه : (عرّفنا الله سبحانه وتعالى نفسه بلا كيف وبعث سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ القرآن وبيان المفصلات للإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقته بما جاء به).
    وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل).
    قال جعفر في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)) [الإخلاص : 1] (هو الذي لم يعط لأحد من معرفته غير الاسم والصفة) وقيل هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته
    __________________
    (1) قوله :؟؟؟ هي ثناه ، اه مصححه.

    وصفاته إلا هو وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ (2)) [الإخلاص : 2] قيل هو الذي أيست العقول من أن تطلع عليه أو تدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه ، وقيل هو السيد الذي لا نهاية لسؤدده وقيل هو المصمود إليه في الحوائج وقيل هو الذي لا يستغني عنه شيء من الأشياء.
    وقال ابن عباس رضي الله عنه : معناه الذي لا جوف له وقيل غير ذلك ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)) [الإخلاص : 3] نفي الجنسية والبعضية ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)) [الإخلاص : 4] نفي الشريك والنظير فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فتعالى أن تدركه الأوهام والعقول والعلوم بل هو كما وصف نفسه والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة كيف يكون ذلك وهو قديم الذات والصفات والتخيل إنما يكون في المحدثات.
    وسئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب فقال : كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور فجعلوا الآيات صفات ومعنى الآيات العلامات ، وهو كلام إمام محقق وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك ، فسبحان الأحدي الذات العلي الصفات المنزّه عن الآلات ، المقدّس عن الكيفيّات ، المنزّه عن مشابهة المخلوقات ، تعالى عما يقوله من الإلحاقات ، كيف يقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات ، وهي من آياته البينات الظاهرات ، رفع السماوات وبسط الأرض وثبتها بالأوتاد الراسيات ، وأتحفها بالمزن الماطرات ، فزهت بأنواع النباتات المختلفات ، كذلك يحيي الموتى.
    (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) [الحديد : 17] قال : أرباب البصائر وذوو التحقيقات : ليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلا من جهة موافقة اللفظ وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة وأن التكرار من حدوث الصفة جلّ ربنا أن يحدث له صفة أو اسم إذ لم يزل بجميع صفاته واحدا ولا يزال كذلك وكل أمور التوحيد والتفريد خرجت (1) من هذه الكلمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : 11] لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينبعث (2) إقداره إلا على إقراره لأن كل
    __________________
    (1) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة ، اه مصححه.
    (2) قوله : لا ينبعث هو لا تنعت الخ بدليل قوله بعد ذلك : لأن كل ناعت الخ ، اه مصححه.

    ناعت مشرف على المنعوت وجلّ ربنا أن يشرف عليه مخلوق. احتجب عن خلقه بخلقه ثم عرفهم صنعه بصنعه وساقهم إلى أمره بأمره فلا يمكن الأوهام أن تناله ولا العقول أن تختاله (1) ولا الأبصار أن تمثله ، ولا الأسماع أن تستمله (2) ، ولا الأماني أن تمتحنه ، هو الذي لا قبل له ولا مقصر (3) عنه ولا معدل ، ولا غاية وراءه ولا مثل ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، ولا يستره حجاب ، ولا يقله مكان ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه (4) فضاء ، ولا يتضمنه خلاء.
    (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : 11] قال ابن عباس رضي الله عنهما : (معنى الآية ليس له نظير) وقيل الكاف صلة أعني زائدة فالمعنى ليس مثله شيء وقيل المثل صلة فالمعنى ليس كهو شيء فأدخل المثل للتأكيد فمن الجهل البين أن يطلب العبد درك ما لا يدرك وأن يتصور ما لا يتصور كيف وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحواس ، أو يتصور بالعقل الحادث والقياس ، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل فهو جسم ولا (5) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ومن الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى الله عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدثين وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، جلت الذات القديمة الواجبة الوجود التي لم تسبق بقدم (6) أن تكون كالصفة الحديثة.
    قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)) [مريم : 67] فهو سبحانه وتعالى احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الإدراك والأبصار فعجز الخلق عن الدرك والدرك عن الاستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله وأسنده الطلب إلى شكله.
    __________________
    (1) يريد أن تتخيله ، اه مصححه.
    (2) لعلها تشمله أي هو ليس من جنس الأصوات فتسمعه الأسماع ، اه مصححه.
    (3) لعلها مفر ، اه مصححه.
    (4) لعل الأصل ولا يحيط به الخ ، اه مصححه.
    (5) قوله : ولا نهاية صوابه وله نهاية الخ كما هو ظاهر ، اه مصححه.
    (6) قوله بقدم هو بعدم كما هو واضح ، اه مصححه.

    قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقال رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه واستواؤه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)) [الإسراء : 43] لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : 91] أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك.
    قال بعض أهل المعاني والقلوب : لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ، ثم قال : ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا تغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك (1) عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) [الصّافات : 180] وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) [الأعلى : 1] مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه. فقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : 1] أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزّه اسمه ربك واذكره وأنت له معظّم وقيل نزّه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ اسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزّه مسمى ربك الذي خلق فسوّى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على اختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبّحه بلغته وبما يليق بجلاله.
    قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : 44] وقال : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ
    __________________
    (1) أي لو كنت كما ذكر تعرف قدر الخ ، اه مصححه.

    وَتَسْبِيحَهُ) [النّور : 41] قال مجاهد : تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقه من كمال صفات عظم ذاته ، قيل : يفقه تسبيحهم العلماء الربانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنورون البصائر الذين يشاهدون كل شيء مرقوما عليه بقلم القدرة هو الملك القدوس.
    وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح حيوانا وجمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده.
    وروى ابن السني أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلا سبّح الله تعالى وحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم» فقيل : ما أغبياء بني آدم؟ فقال : «شرار الخلق».
    وقال شهيب (1) بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : 23] فالملك اسم من أسمائه تعالى وكذا مليك وهو صفة مبالغة في الملك. قال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : 55] فالملك هو المستغني عن كل شيء ويفتقر إليه كل شيء ونافذ حكمه في مملكته طوعا أو كرها ، وقيل هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام وهذا على الحقيقة لا يكون إلا لله عزوجل أبدع المكونات العلويات والسفليات الجليات والخفيات أبدعها بقدرته ورتبها على اختلاف أطوارها بحكمته فكل ما برز فهو مقهور الوجود بكن ، وكل ما انعدم فهو مقهور العدم بكن وبهذا يعلم أن إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازي إذ المملوك لا يكون مالكا لأن من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم ولهذا لما تحقق أرباب القلوب أن الملك لله عزوجل تحققا قلبيا سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات وتبرءوا من الحول والقوة حتى بالإشارات فلا يقول مني ولا لي حتى قيل لبعضهم ألك رب؟ فقال : أنا عبد وليس لي نملة ومن أنا حتى أقول لي ، فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشرية وهواها وفك ربقة رق خيالاتها الباطلة ومناها ومحض رق العبودية لمولاها فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذللون له ولهذا تتمات ليس هذا المقام مقامها إذ الغرض التنزيه.
    __________________
    (1) معروف هذا الاسم بشهر ، اه مصححه.

    والقدوس من أسمائه عزوجل سمّى نفسه بذلك ليرشدك إلى تقديسه كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)) [الأنبياء : 20] وفيه الحث على دوام التقديس فالقدوس قيل هو المنزّه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد ، وقيل هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب وهاتان غير مرضيين عند المحققين.
    قال حجة الإسلام الغواص الغزالي : وهذا في حق الباري سبحانه وتعالى يقارب ترك الأدب كما أنه ليس من الأدب أن يقال لملك ليس بحائك ولا بحجام لأن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل القدوس المنزّه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره وهم أو يسبق إليه فكر أو يهجس به سر أو يختلج به ضمير أو يسنح له خفي خيال وقد أجاد رضي الله عنه وهاهنا فائدة جليلة للمنزه والمشبه وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظا وافرا من تكرير هذا الاسم والإمعان في معناه فإن كان منزّها عطف ذلك عليه وقدّس نفسه وقلبه وبدنه أما نفسه فيطهرها من الأوهام المذمومة كالغضب والحقد والحسد والغش وسوء الظن والكبر وحب الشرف والعلو وحب الدنيا ولوازمها وغير ذلك ويبدلها بالأوصاف المحمودة فيطهرها أيضا عن العاهات والشهوات وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات إذ هي أزمة الشيطان يقود بها إلى ارتكاب الموبقات وأما القلب فيطهره بالعقد الصحيح المطابق الجازم وبالمبادرة إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأهواء وتحقيق الإخلاص نية وقولا وعملا وبالرضى بما جرى فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت وذلك يرجع إلى ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان ولا يرى الأغيار إلا على العدم الأصلي فلا يتحرك في ظاهره ولا باطنه حتى في أنفاسه إلا بالله عزوجل وأما البدن فيطهره بماء الجوع ويكفنه بدوام التقشف ويحنطه بالعزلة ويطيبه بدوام الذكر والفكر ويدفنه في لحد الخوف فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه وبقي معناه فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات فيثمر له ذلك الشوق إلى رؤية مطلوبه فلا شيء أشهى إليه من الموت لأنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبوبه إلا به فمن أراد أن يجلسه في حضرة القدس على منابر التقديس فليجر على هذا التأسيس.
    ومر إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ فنظر إليه وقال : بأي لسان أصابته هذه الآفة وطهر فمه ومضى فلما أفاق السكران أخبر بما فعله به إبراهيم فخجل وتاب وحسنت توبته فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول غسلت لأجلنا فمه فلا جرم أنا طهرنا لأجلك قلبه.

    وأما المشبه والمجسم فلأنه بتكرار هذا الاسم يتعقل معناه فيضيء له نوره فينكشف له حجاب الضلال فإذا حقق المعنى المراد منه ظهر له نوره فأحرق حجاب الضلال فصفى قلبه للحق وزاح الباطل وقد وقع ذلك لبعض الغلاة في التشبيه والتجسيم مرّ يوما على هذه الآية (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : 23] فكرر هذا الاسم وتعقل معناه فقال : والله إنا لفي ضلال مبين بيّن فبادر في الحال وأتى بالشهادتين وقال : والله لا يخلصني إلا استئناف العمل. فانظر أرشدك الله تعالى إلى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حق أهل التنزيه والتشبيه والله أعلم.
    ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الاستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقي القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الاستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.
    ومن مقدوراته جلّ وعلا ما ذكره في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) [النّبأ : 38] قال أبو الفرج بن الجوزي : روي عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
    وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الروح ملك عظيم أعظم من السماوات والأرضين والجبال والملائكة يسبّح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا.
    قال ابن عباس : وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السماوات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك.
    روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «رأيت على كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبّح الله عزوجل» ومراده سدرة المنتهى ، سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين

    العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهم‌السلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين.
    وقال الله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)) [الرّحمن : 78] معنى (تَبارَكَ) جلّ وعظم ومعنى (ذِي الْجَلالِ) المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جلّ أن يعرف جلاله غيره تنزّه وعظم شأنه عما يقول فيه المبطلون لأن كل شيء يثني عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه ، والحق جلّ جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف (1) دون الغايات الجلالية فسبحانه ما أثني عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال : أجلّهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما (2) الإكرام فمعناه ذو الإنعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ، ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : 6] قال عمر رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غرني ، والكريم هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن (3) أعطي وكم أعطي ولا يضيع من لاذ به والتجا ، وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى ، وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجزله ثم ستره وقيل غير ذلك ، فمن تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : 7] ويقول كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث : «وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله
    __________________
    (1) لم يظهر لي في هذه العبارة معنى فلتحرر ، اه مصححه.
    (2) ذو الإنعام ليس معنى الإكرام بل معنى ذو الإكرام فهنا لفظ ذو ساقط ، اه مصححه.
    (3) لعله بما أعطى الخ ، اه مصححه.

    وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم المتبع له. وقال عمر بن عبد العزيز : انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : 7] وقال بعضهم : للقرآن تأويل استأثر الله تعالى بعلمه لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك ، والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم اعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت لله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات ، شعر :
    الله أكبر أن يكون لذاته
    كيفية كذوات مخلوقاته

    أو أن تقاس صفاتنا في كل ما
    تأتيه من أفعالنا بصفاته

    أبدا عقول ذوي العقول بأسرها
    متحيرات في دوام حياته

    لبديع صنعته عليه شواهد
    تبدو على صفحات مصنوعاته

    فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على (1) العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار الطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطوامح والأفكار والقرائح ، تقدس عن مثل وشبيه ، وتنزه عن نقص يعتريه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح ، تعالى عن الند المماثل والضد المكارح ، يفعل ما يشاء ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، هلك الجاهل والمكافح ، متكلم
    __________________
    (1) هنا لفظ أن محذوف كما هو ظاهر ، اه مصححه.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 9:17

    بكلام (1) مسموع بالآذان (2) بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح ، أين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما فما أجهلك بقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النّمل : 13] نسب الأبصار إلى الآيات فأين الحذّق يا قامح.
    ومن آياته إنزال القطر بقدرته ، وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته مع مخالفة الطعوم بمشيئته ، وإرسال الرياح لواقح. موصوف بالسمع والبصر يرى في الدجنة كما يرى في القمر ، من شبهه أو كيفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسنة ، وإن دليلهم لجلي واضح ، من شبهه أو مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم يوم تظهر المخبآت وتبلى السرائر وتبين الفضائح ، وإن قيل عنه في الدنيا إنه ولي صالح هلك الهالكون بآرائهم لأنه عمل غير صالح ، وفاز المنزّهون فيا لها صفقة رابح. هو الواحد المتوحد في صفاته الأزلي الجبار ، العظيم العزيز القهار ، تبارك وتعالى وتنزّه عن درك الخواطر والأفكار ، وسم كل مخلوق بميسم الافتقار ، وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته ومن أظهرها السماوات والأرض والبراري والبحار ، والأعين والأنهار ، وجريانها على المدرار ، وتصريف السحاب المسخّر بين السماء والأرض واختلاف الليل والنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : 13] يعلم حركات الأسرار ، ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار ، نوع هذا العالم الإنساني فمنهم شقي ومنهم سعيد وربك يخلق ما يشاء ويختار.
    وصفاته كذاته والمشبهة والمجسمة أهل زيغ وكفار ، نزّه نفسه بنفسه وقدّسها فمن شبه أو عطل فمأواه النار ، ومن أناب ورجع قبله وإن ارتكب العظائم الكبار ، لأنه سبحانه وتعالى عزيز غفّار ستّار.
    ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته ، وقمر السماء وشمسه ، وآدم عليه‌السلام وما مسه ، علم ذلك المنزّه فنزّه قدسه ، وجهله أعمى البصيرة المشبه فتصور فيه جنسه ، لأنه بجهله قاس الخالق جلّ وعلا على ما ألفه وأحسه ، فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسة ، وأما المعطل فجحد صفاته فما أغباه وما أخسه ، وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطل بيديك النقية ، وألحق بالمشبه دفعه ورفسه.
    __________________
    (1) المراد بهذا الكلام هو القرآن لأنه الذي يسمع ، اه مصححه.
    (2) قوله : بغير آلات ، متعلق بمتكلم فليفهم ، اه مصححه.

    مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار
    واعلم : أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى ، وأن الله تعالى يفنيها وأنه جعل لها أمدا تنتهي إليه وتفنى ، ويزول عذابها وهو مطالب أين قال الله عزوجل وأين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحّ عنه وقد سفّه الله تعالى في ذكره في كتابه العزيز كما سفّهه في تنزيهه لنفسه وأتى بأمور إقناعية (1) صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : 56] تبدل في كل ساعة مائة مرة ، وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) [النّساء : 56] أي شديد النقمة على من عصاه ، وقيل العزيز الشديد القادر القوي وقيل الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر وقيل الذي لا نظير له وقيل معناه المعز فيكون فعيل بمعنى مفعل كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه.
    وقال أهل المعاني وأرباب القلوب : العزيز من ظلت العقول في بحار تعظيمه وحارت الألباب دون إدراك نعته وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف كماله والقيام بشكر آلائه ، وقوله : (حَكِيماً) [الفتح : 7] أي حكم على الأعداء بدوام العذاب كما حكم للأولياء بدوام النعيم فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره فلا شيء من الأشياء إلا وفيه شيء من حكمته على وفقه لمناسبته (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النّمل : 88] وقال تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)) [الحج : 19 ـ 22] وقال : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النّبأ : 30] وقال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : 97] وقال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)) [المائدة : 37] وقال تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : 65] أي مقيما ملازما فكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام والآيات في ذلك كثيرة جدا وأما السنة فطافحة بذلك وتدل على إخراج المؤمنين دون غيرهم حتى يخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، وفي رواية مثقال ذرة من خير ، فأقول : يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود. قال الله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ
    __________________
    (1) أي للعامة البله الذين لم يخالطوا المؤمنين أما من عرف دين الله عالما ومخالطه فمعاذ الله أن يقتنع بغير كلام ربه فليعلم ، اه مصححه.

    الْخُلْدِ) [فصّلت : 28] إلى غير ذلك ولأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم وكذلك المؤمن يستحق الخلود وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام «نية المؤمن خير من عمله» وفي معناه أقوال أخر فادعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : 80] الآية ، أي قدرا مقدورا ، ثم يذهب عنا العذاب ، وكانت اليهود تقول إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقيل أربعين يوما الذي عبد آباؤنا العجل فيها وكانت تقول إن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبننا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا تحلّة القسم أربعين يوما. فالرجل ساع خلف سلفه كما تقدم وكما يأتي.
    مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم
    ومما انتقد عليه ، وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (1) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضا فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عزوجل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الحديد : 3] فجعل معه قديما وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «كان الله ولا شيء معه» وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه : «كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر فإن الدين ما قاله عزوجل» وقاله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء ويبقى هو. والظاهر هو الغالب على كل شيء والباطن هو العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والأقوال في ذلك كثيرة ، ومنها قول أبي القاسم الجنيد نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته لظاهريته وحجب الإدراك عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته. وقال أيضا : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران
    __________________
    (1) لعله (والذي لا أول له ليس كذلك) ، اه مصححه.

    الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب. وقال السيد الجليل محمد بن الفضل. الأول : ببره والآخر بعفوه والظاهر بإحسانه ، والباطن بستره ، ومن حق العبد أن يجعل له حظا من هذا الخطاب فيزين ظاهره بأنواع الخدمة ويزين باطنه بأنوار الهيبة ويحقق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقرباته بالصدق والإخلاص لقوله عزوجل : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : 282] وسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية فقال : إن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.
    ومما انتقد عليه : تكذيبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به عن نبوته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال عليه الصلاة والسلام : «وآدم بين الروح والجسد» وفي رواية «وإن آدم لمنجدل في طينته وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئ الأفهام» يقصد بذلك الازدراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحط من قدره ورتبته ، وما فيه رفعه يسكت عنه يفهم ذلك منه كل عالم امتلأ قلبه بعظمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وبما خصّه الله تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره.
    وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب : مكة أفضل بالإجماع ، وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي وعليها خطه وأنا أعرف خطه ، وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد والإمام أحمد وأتباعه برآء منه ومما هم (1) عليه وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه.
    ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق ، فإن الإمام أحمد قال : الذي أخبرنا بأن الطلاق واحدة أخبرنا بأن الطلاق ثلاث وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق.
    __________________
    (1) هم هو ، اه مصححه.

    وقال ـ أعني ابن تيمية ـ في الجواب عن المسألة المبسوطة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة وبالغ في الثناء عليه فيا لله العجب من هذا الأعمى البصيرة الذي لا يحس بتناقض كلامه كيف يجعل الإمام أحمد فيما له فيه غرض أعلم الناس بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله. ومن فجوره ادعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة حتى إنه مشهور في أشهر الكتب المتداولة بين الناس وهو الشفاء فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة وإن مالكا وأكثر أهل المدينة قائلون بأن المدينة أفضل من مكة وقال : أهل مكة والكوفة مكة أفضل ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمّ سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع وممن حكى الإجماع القاضي عياض في الشفاء بعد أن حكى الخلاف في التفضيل بين مكة والمدينة فقال : ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال : قال القاضي عياض : أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك ، فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حق سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة ويدل على ما قلته من الرمز (1) تخطئته في الطلاق وعدم الاعتداد بذلك كما رمز إلى تكفير الصديق رضي الله عنه في قوله في بعض تصانيفه من قال الله : ورسوله في أمر يلحقه فإنه يكون مشركا فإن الصديق رضي الله عنه لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أبقيت لأهلك؟» قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، ويؤيد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه لا ينبغي أن ينسب إلى غير الله تعالى ضر ولا نفع ولا أنه يغني وهذا من الدسائس أيضا فإنه يلبس به على كثير من الناس لا سيما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة فهي كلمة حق أريد بها باطل.
    وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التّوبة : 74] وقال تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) [التّوبة : 59] وغير ذلك فهذا نص القرآن العظيم على مثل هذا القول في
    __________________
    (1) هنا لفظ إلى محذوف ، اه مصححه.

    الذين يقولون إنه شرك ففي قولهم قدح في القرآن وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإقراره الصديق رضي الله عنه على هذا القول الذي هو شرك (1) وهذا منهم كفر بيقين لأنه واجب وحتم لازم على كل أحد أن يؤمن بالقرآن وبما جاء به سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رب العالمين من غير شك ولا ارتياب.
    قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)) [الفتح : 13] وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : 92] وقال : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النّساء : 136] جمع بينهما بواو العطف للشركة ولا يجوز هذا في حق غيره عليه الصلاة والسلام ولما خطب عليه الصلاة والسلام أم سلمة رضي الله عنها فاعتذرت إليه بأعذار منها وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد فقال لها من جملة قوله : «وأما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على الله وعلى رسوله» وقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : 55] واعلم أن ما ذكرته من الرمز إلى الصديق والفاروق رضي الله عنهما وأن فيه أشعارا بأنه رافضي هو كذلك ، وفي الرد على الرافضي أنه رافضي وهذا نبّه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي. نعم وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح (2) وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه (3) ما يدل على ذلك ، والله أعلم.
    ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكاسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك ، وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى مما يترتب
    __________________
    (1) يعني في زعمهم ، اه مصححه.
    (2) القول بتناسخ الأرواح كفر لأنه عبارة عن اعتقاد أن أرواح من يموتون تتصل بغيرهم فقد يكون روح الخواجة الذي مات اليوم روح أكبر عالم مرشد زاهد ورع بعد ذلك والعكس ، وقد يتصل روح الخنزير الذي مات بمحمد الذي ولد بعد ذلك ويعكس ، وقد يتصل بعد ذلك بكلب ثم يتصل بحمار ثم يتصل بنبي وهكذا إلى غير نهاية ، وهذا يقتضي أن لا بعث وأن لا جزاء ، فإن الروح لا يقف عند حد معلوم يجازى عليه بل قد يكون بحال يقتضي العذاب ويسبح بحال يقتضي النعيم ثم بحال لا يقتضي عذابا ولا نعيما وهكذا ، وهذا غير ما تنطق به الشرائع الإلهية كلها فهو مصادم للأنبياء ولما جاء به الأنبياء ، وكيف لا يكون ما هذا حاله كفرا وهذا المذهب لا دليل عليه من العقل مع كونه مع الشرع كما ذكرنا وذلك أن الأرواح ليست من عالم المحسوسات حتى نراها ونحكم عليها وهي لم تخبرنا عن نفسها بشيء فالجهالة بها مطلقة ، اه مصححه.
    (3) أي من ذلك البعض ، اه مصححه.

    على التصريح من أهل المكس وتجرئهم عليه وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق وأهمل الآخر فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك وكان شخص من الحنابلة يدعى بعلاء الدين بن اللحام البعلبكي وكان عندهم عظيما وصنّف في مذهب الإمام فأتيته وهو في حلقة في الجامع الأموي وهم يقرءون عليه في بعض مصنفاته فسألته عن شيء يتعلق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجاب ثم أخرى فما أجاب ثم قلت : ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ تقي الدين بن تيمية في المكس فقال : وشرع يقرر ما قرره ابن تيمية فأخذت الشق الآخر وقررته فسكت ولم يجد جوابا فقلت : يلزم أحد شيئين إما بطلان ما قاله أو تكفيره فقال : هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا اختصرتها فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم فإن ظفروا به فلا كلام وإن ظفر بهم قالوا هذه ما هي في كلامه فهم خلف إمامهم في المكر والخديعة والكذب وقد خاب من افترى ، والله أعلم.
    ومن الأمور المنتقدة عليه : وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود وعصوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر عليها أتباعهم الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقدروا أن يتوصلوا إلى الغض منه إلا بذلك. وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فاذكر بعض كلامهم فيها ثم أعود إلى تتميمه مستدلا بأمور سمعية وغيرها تفيد جلالته وعظامته وحياته في قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة وأن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأنه من الملحدين وجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه (الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم) وقد وقفت في كلامه على المواضع الذي كفر فيها الأئمة الأربعة (1)
    __________________
    (1) أحب أن لا يستغرب القارئ شيئا يراه منسوبا إلى هذا الرجل بعد تصريح العلماء عنه أنه يستخف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزدريه ويصغر من شأنه فإن الذي يجترئ على أسمى مقام في الوجود لا يتهيب ما دونه فليعلم ، اه مصححه.

    وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة.
    ولنرجع إلى قول بعض الأئمة فمنهم : الإمام العلامة شيخ شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي قال بعد ذكره أشياء لا أطول بذكرها وفيها دلالة على أن التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاجات بعد وفاته كالتوسل به في حال حياته ثم قال : وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا ومنعوا التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جمع بعضهم كلاما يتضمن نفي عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الوفاة ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته فقال : (والتفريق بين الحياة والوفاة كان ثابتا عند الصحابة فلهذا استسقي أمير المؤمنين عمر بالعباس ولو لا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر مع جلالته وكونه خليفة راشدا وكان يشاور أيضا ـ عن قبر رسول الله إلى غيره) ثم قال : (هذا لفظ المبتدع الجاهل التي قامت البينة عليه بأشياء من هذا القبيل وعزر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرح والحبس وغير ذلك في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة بالقاهرة وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين والاستناد فيه إلى استسقاء عمر بالعباس ليس له وإنما هو لشيخه فإنه لما أظهر القول بنفي التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أورد عليه حديث الاستسقاء ففزع إلى التفرقة المذكورة ولا متشبث في الحديث المذكور فإن عمر رضي الله عنه إنما قصد أن يقدم العباس ويباشر الدعاء بنفسه وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي أي الحياة الدنيوية ، وأما التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نسلّم أن عمر رضي الله عنه تركه بعد موته.
    وتقديم العباس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك ، ثم قال : وهذا القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعدم حاشاه من ذلك ـ يلزمه أن يقال إنه ليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم وهو قول بعض الضّلال.
    قال أبو محمد حزم في كتابه الملل والنحل : (حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو اليوم رسول الله لكن كان رسولا) ثم قال : (وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما عليه أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام إلى يوم القيامة) قال : (وإنما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث إن الروح عرض والعرض يفنى أبدا أو يحدث ولا يبقى وقتين) قال : (فروح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند هؤلاء بطل ولا روح له الآن عند الله وأما جسده ففي قبره تراب فبطلت نبوته ورسالته بموته عندهم فنعوذ بالله من هذا القول

    فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع إنه مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتفق عليه أهل الإسلام من الأذان في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهارا في شرق الأراضي وغربها كل يوم خمس مرات بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، كان يجب أن يقال على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النّساء : 164] وقال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : 109] وقال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزّمر : 69] فسماهم الله عزوجل بعد موتهم رسلا ونبيين والأصل الحقيقة وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النص أن كل مصل فرضا أو نفلا يقول في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو كان بعد موته في حكم العدم لما صحّت هذه المخاطبة) هذا معنى كلام ابن حزم ثم قال : (إن ابن حزم أورد على نفسه إيرادات وأجاب عنها) قلت : وقد حذفتها أنا لأجل الإطالة ولا تسع عقول العوام وكثير ممن أشير إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب ، ثم قال : (وإنما أطلت النفس في هذه المسألة وإن كانت في غاية الوضوح لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها وأفسد به عقائد خلق كثير من العوام فلذلك استطرقت في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام وللمقال فيها مجال واسع لكن إشباع القول في ذلك خارج عما نحن بصدده في هذا الكتاب والله تعالى أعلم).
    وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له (شرح التعرف لمذهب أهل التصوف) واعلم أرشدنا الله وإياك أيها الموفق المنزّه المعظم لسيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذريته الذين بهم تم الدين ولسائر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين إن في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلا أني وعدت بذكر شيء وخلف الوعد صعب شديد فأنا أذكر نبذة يسيرة وأرجو من الله عزوجل حصول البركة فيها وقد ذكرت في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك) جملة كثيرة تتعلق بذلك وبغيره وسقت فيها فتواه المطولة والجواب عما قاله ذكرته في فضل الحج والله أعلم.
    ومن الأمور المهمة معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان فمن الخذلان عدم إيمان الإنسان بالآيات والنذر كما قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : 101] قيل : المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل

    النجاة وما يغني ضياء العقل مع الخذلان إنما ينفع نور العقل مؤيدا بنور التوفيق وعناية الأزل وإلا فإنه متخبط بإدراكه بعقله فإذا وعيت ما قلته ووقفت على بعض ما أذكره من الأدلة ولم تجد قلبك مؤمنا بها فاعلم أنك من أهل الخذلان ومرقوم في حزب الشيطان وتابع لأهل البدع عصاة الرّحمن.
    قال كعب الأحبار : تجد الرجل يستكثر من أنواع البر ويحتاط في (1) صانع المعروف ويكابد سهر الليل وشدة ظمأ الهواجر وهو مع ذلك لا يساوي عند الله جيفة حمار يشير إلى أهل البدع والتبري منهم بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوى ، لما صالح عمر رضي الله عنه أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح به عمر رضي الله عنه وبإسلامه.
    قال له عمر : رضي الله عنه هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنتفع بزيارته قال : نعم يا أمير المؤمنين افعل ذلك ، فهذا ضريح في الندب إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وشد الرحل وأعمال المطي إليه والكلام على هذا يأتي إن شاء الله تعالى.
    بيان زندقة من قال إن روحه عليه الصلاة والسلام فنيت وأن جسده صار ترابا وبيان زيغ ابن تيمية وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنه سئل عنها :
    فقال في جوابه : الحمد لله رب العالمين ، من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات ، ويطلب منه قضاء الحاجات ، فيقول : يا سيدي الشيخ فلان أنا في حسبك أو في جوارك ، أو يقول عند هجوم العدو عليه : يا سيدي فلان ، يستوحيه أو يستغيث به ، أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته ، فإن هذا ظالم ضال مشرك ، وفي بعض النسخ كافر عاص لله تعالى باتفاق المسلمين فإنهم متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدّعي ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو غير ذلك ثم أكد ما قاله بقصة عمر والعباس في الاستسقاء تبعا لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود ، وأنت أرشدك الله تعالى وبصّرك إذا تأملت ما قاله في هذا الجواب اقشعر جلدك وقضيت العجب مما فيه من الخبائث والفجور وادعاء اتفاق المسلمين وما فيه من الرمز إلى تكفير الأنبياء وتضليلهم والتلبيس على الأغبياء بقصة عمر رضي الله عنه وليت شعري من أي الدلالات أن من توجه إلى قبر سيد الأولين
    __________________
    (1) صانع المعروف صوابها صنائع ، اه مصححه.

    والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسل به في حاجة الاستسقاء أو غيرها يصير بذلك ظالما ضالا مشركا كافرا. هذا شيء تقشعر منه الأبدان ولم نسمع أحدا فاه بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان. ولا بلد من البلدان ، قبل زنديق حران ، قاتله الله عزوجل وقد فعل ، جعل الزنديق الجاهل الجامد قصة عمر رضي الله عنه دعامة (1) للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء بسيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وحط رتبته في حياته وأن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته وذلك منه كفر بيقين وزندقة محققة فإنه عليه الصلاة والسلام حرمته وقدره ومنزلته عند ربه ما زالت ولم تزل وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عزوجل على الدوام ، ومن تأمل القرآن العظيم وجده مشحونا بذلك وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده عليه الصلاة والسلام وأشير هنا إلى نبذة يسيرة من ذلك ليتحقق السامع لها خبث هذا الزنديق وما انطوى عليه باطنه من الخبث بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالازدراء وما فاه به من الفجور والافتراء كما ترى :
    سل عن فضائله الزمان لتخبرا
    فنظير مجدك يا محمد لا يرى

    ولقد جمعت مناقبا ما استجمعت
    ما استعجمت يا سيدي فتفسرا

    ما بين مجدك والمحاول نيله
    إلا كما بين الثريا والثرى

    فمن ذلك : أنه سبحانه وتعالى تولى عصمته بنفسه فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : 67] وحقا عصمه عزوجل في ظاهره وباطنه حفظه في ظاهره من أن ينالوا ما همّوا به ورد كيدهم في نحورهم وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم التفات أو يكون له بهم اشتغال صان سره عن موارد السكون إليهم وعن نزغات الشيطان وفلتات النفس.
    ومنها : قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النّور : 63] قيل : معناه لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله ولكن فخّموه وعظّموه وشرّفوه وقولوا يا نبي الله يا رسول الله مع لين وتواضع ، قاله مجاهد وقتادة.
    __________________
    (1) قوله للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء الخ والصواب أن تقدم في وتؤخر إلى ليظهر معنى الكلام ، اه مصححه.

    وقيل : معناه احذروا دعاء الرسول عليكم فإن دعاءه مستجاب لا يرد وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
    وقيل : معناه من ضيّع حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ضيّع حرمة الله عزوجل ومن ضيّع حرمة الله فقد دخل في ديوان الأشقياء ، وحرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حرمة الله تعالى بل من ضيّع حرمة الأولياء فقد عرض نفسه للهلكة.
    ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : 45] أي عليهم بالتوحيد (وَمُبَشِّراً) [الأحزاب : 45] أي لهم بالتأييد والمغفرة (وَنَذِيراً) [البقرة : 119] أي محذرا إياهم الزيغ والضلالات (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : 9] أي تعظموه تعظيما يليق به وبمرتبته.
    قال الأئمة : لم يؤمن بالرسول من لم يعزه ويعز أوامره ويوقره ويوقر أصحابه رضي الله عنهم.
    ومنها : قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) [الأعراف : 157] أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) [الأعراف : 157] أي وقروه (وَنَصَرُوهُ) [الأعراف : 157] بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : 157] وهو القرآن (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : 157] أي الفائزون حصر الفلاح فيهم ، فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربه.
    ومنها : قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : 80] قال عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء كلام طويل : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل الله عزوجل طاعتك طاعته».
    وقال جعفر الصادق : معناه من عرفك بالنبوة والرسالة فقد عرفني بالربوبية والألوهية ، وقيل بطاعتك يصل العبد إلى الحق وبمخالفتك يقطع عنه ، وقيل غير ذلك ، ومن أحسنها من ألزم نفسه طاعته وصحح الاقتداء به أوصله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ، ألا ترى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النّساء : 69] الآية.
    ومنها : وهو أبلغ مما تقدم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) [الفتح : 10] أي يا محمد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : 10] نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة وقد تنبّه لذلك أرباب المعالي والقلوب العارفون بمراتبه عليه الصلاة والسلام وما وهبه الله تعالى من سني الأوصاف التي لا تليق بغيره ولا يقدر على حملها إلا هو ،

    قالوا : (إن البشرية في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية (1) وأضافه دون الحقيقة) وهو كلام حكيم منوّر القلب.
    وقال بعضهم : لم يظهر الحق سبحانه وتعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمة وأشرفها وهو المصطفى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : 10] ومنها قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) [الشّرح : 4] قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر ، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافرا.
    وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : «قال الله عزوجل إذا ذكرت ذكر معي» وقال قتادة رضي الله عنه : «رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة» وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به ، وقيل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) [الشرح : 4] ليعرف المذنبون قدر رتبتك لدي ليتوسلوا بك إلي فلا أرد أحدا عن مسألته فأعطيه إياها إما عاجلا وإما آجلا ولا أخيب من توسل بك وإن كان كافرا ، ألا ترى قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] وسيأتي الكلام على هذه الآية ، وقيل غير ذلك.
    ولما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة قيل : بكت مكة لفقده بدموع الحرقة على الخد وقالت : وا أسفاه على من أنزل عليه (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)) [البلد : 1] وهو مكة لحلولك فيه ومن جعل لا أصلية فالمعنى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1)) [البلد : 1] وأنت حال فيه بل أقسم بك وبحياتك وهذا يدل على علو قدره عند ربه ورفعته التي لم يفز بها غيره.
    وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما من رواية أبي الجوزاء رضي الله عنه : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ
    __________________
    (1) قوله عارية وأضافه دون الحقيقة لفظ أضافه بالضمير هو إضافة بالتاء ومعنى هذا الكلام غامض وكأن قائليه يريدون أن يقولوا إن حقيقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملكية وإن كانت صورته بشرية وهو معنى يكون مدحا إن سلّم أن حقيقة الملكية أفضل من حقيقة البشرية وليس لنا قسم آخر يراد إلحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إلا الإلهية ولا يتصور أن يكون مرادا للقائلين فليعلم ، اه مصححه.

    نفسا أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأيت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)) [الحجر : 72] والعمه في البصيرة والعمى في البصر.
    وفي رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المعنى وعيشك يا محمد إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، وقال بعضهم : أقسم بحياة محمد لأن حياته كانت به وهو في قبضة الحق وبساط القرب وشرف الانبساط ومقام الاتفاق الذي لا يقوم به غيره فبحياتك يكون القسم فإن الكل زاغوا وما زغت ومالوا وما ملت حتى برأناك ونزلناك منزلة ما نالها غيرك ولا ينالها أحد سواك وقيل المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق فحيوا بالأرواح وحييت بنا ولهذا تتمة مهمة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها.
    وقيل : أقسم الله عزوجل في الأزل بحياته ليظهر شرفه وعلو قدره ودنو منزلته عنده ليتوسل المتوسلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود وفي حياته وبعد وفاته وفي عرصات القيامة ولهذا وغيره لم يزل أهل الإيمان يتوسلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير ، وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك فكانوا يتوسلون به قبل وجوده فيستجاب لهم كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89].
    وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أهل خيبر تقاتل غطفان كلما التقوا هزمت غطفان يهود فعاذت يهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهود غطفان ويهود غير منصرف للعلمية والتأنيث علم على (1) قبيلة فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به فأنزل الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : 89] أي يدعون بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : 89].
    وإذا كان عزوجل يستجيب لأعدائه بالتوسل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه سبحانه مع علمه عزوجل بأنهم يكفرون به ويؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين فكيف لا يستجيب لأحبائه إذا توسلوا به بعد وجوده عليه الصلاة والسلام وبعثته رحمة للعالمين ، وإذا كان رحمة للعالمين فكيف لا يتوسل ولا يتشفع به.
    __________________
    (1) هي أمة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، اه صاحب الفرعية.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3290
    نقاط : 4977
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    العقيدة وعلم الكلام Empty
    مُساهمةموضوع: رد: العقيدة وعلم الكلام   العقيدة وعلم الكلام Emptyالثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 10:13

    ويروي محمد عبدي ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له.
    وفي رواية الحافظ الآجري «فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك» قال : وكان آدم عليه‌السلام يكنى أبا محمد.
    بدا مجده من قبل نشأة آدم
    وأسماؤه في العرش من قبل تكتب (1)

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) [الكهف : 82] قال : لوح من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال : على باب الجنة مكتوب أني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها.
    وذكر السميطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد وعلى جبينه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب (2) عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شقه الأيمن لا إله إلا الله وعلى شقه الأيسر محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وهو مرئي ظاهر لكل من له بصر وذكر غير ذلك.
    فسيد الأولين والآخرين عظيم عند ربه نوّه بذكره في الأزل وفي الكون العلوي والسفلي ليعلم أنه الفاضل الكامل وأنه أعظم الوسائل.
    قال أبو حميد : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ما لك : لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله عزوجل أدّب أقواما فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : 2] الآية ، ومدح قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [الحجرات : 3] الآية ، وذمّ قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)) [الحجرات : 4] وإن حرمته
    __________________
    (1) أي كتبت والتعبير بالمضارع بحكاية الحال الماضية ، اه صاحب الفرعية.
    (2) يتعين نصب لفظ مكتوب لأنه وصف لمنصوب ، اه مصححه.

    ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك (1) الله عزوجل.
    قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : 64] القصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان ، ومنهم الإمامة العلامة هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وقد اشتملت هذه القصة على تعظيمه بعد وفاته وأنه حي والتوسل به وحسن الأدب في حقه كما في حياته وأن في الآية الحث على المجيء إليه ليستغفر له ، وليس في الآية تعرض لزمن حياته دون الوفاة وكذا فهم العلماء مالك وغيره كما يأتي إن شاء الله تعالى.
    العموم واستحبوا لمن زار قبره المكرم أن يتلو هذه الآية ويستغفر ويتوسل به ويطلب الشفاعة منه ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر ابن تيمية فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه إذا وجد شيئا لا مساس فيه لما ابتدعه قال به وقبله ولم يطعن.
    وإذا وجد شيئا على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتفق على صحته ولا يذكر شيئا على خلاف هواه وإن اتفق على صحته لا سيما إذا كان آية أو خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل (2) إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه فمن ادعى التخصيص بغير دليل سمعي ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتهمناه واستدللنا بذلك على استنقاصه سيد الأولين والآخرين الكامل المكمل ، وهو كفر بإجماع أهل التوحيد.
    __________________
    (1) قوله : فيشفعك الله ، السياق يقضي أن يكون فيشفعك فيشفعه لأنه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشافع ، اه مصححه.
    (2) هذا المبدأ عليه أتباعه المفتونون به إلى اليوم يعرف ذلك منهم من يلتفت لحالهم أدنى التفاتة فالواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث ولا تضعيفهم فإنهم للهوى يصححون ويضعفون وأحب أن يأخذ القارئ قول الإمام الحصني (ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل) على ظاهره دون أن يظن فيه أي مبالغة وليطرده في اتباعه كذلك ، اه مصححه.

    وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحثا على رأسه من ترابه ثم قال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله عزوجل فوعينا عنك وكان فيما أنزل عليك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : 64] الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر قد غفر لك وهذه القصة غير قصة العتبى وقصة العتبى مشهورة في غاية الشهرة وقد ذكرها الأئمة في كتبهم قديما وحديثا وكنية العتبى أبو عبد الرّحمن واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو وكان من أفصح الناس وصاحب أخبار وصاحب رواية للآثار. حدّث عن أبيه وعن ابن عيينة وقد ذكر قصته خلائق منهم ابن عساكر في تاريخه وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن) وذكرها غيرهما بالأسانيد.
    وممن ذكرها الإمام العلامة المتفق على علمه ودينه وزهده أبو زكريا يحيى بن شرف النووي قدّس الله روحه ونوّر ضريحه قال في زيارة قبره : إنها من أعظم القربات وأفضل المساعي والطلبات وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له.
    قال العتبي : كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : 64] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
    يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
    فطاب من طيبهن القاع والأكم

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
    فيه العفاف وفيه الجود والكرم

    قال : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال : يا عتبى الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له ، وفي رواية غيره : الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي فخرجت فلم أجده فأفاد النووي قدس الله تعالى روحه أن أصحاب الشافعي استحسنوا ذلك وحكوه عن غيرهم وأفاد شمول الآية للحياة والممات وأنه يستشفع به إلى ربه وساق ذلك مساق ما هو متفق عليه ولم يتعرض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار وزدت أنا هذين البيتين لعلي يلحقني نصيب من شفاعته وهما :
    وفيه كل خصال الحمد قد جمعت
    فلذ به فهو من ترعى له الذمم

    وهو الذي يرتجى في كل معضلة
    وفي المعاد إذا زلّت بنا القدم



    قصة الراهبين مع أبي عبد الله
    وقال السيد الجليل قطاع المفاوز على قدم التوكل أبو عبد الله الفرحي قدّس الله سره ونوّر ضريحه : خرجت مرة أريد الزيارة من طريق المفاوز فوقعت في التيه فكنت فيه أياما حتى أشرفت على الموت فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين (1) يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما بالقرب فملت إليهما فقلت : أين تريدان فقالا : لا ندري ، فقلت : من أين أتيتما ، قالا : لا ندري ، قلت : فتدريان أين أنتما؟ قالا : نعم نحن في ملكه وبين يديه ، قال : فأقبلت على نفسي أقول : لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك ثم قلت : لهما أتأذنان لي في الصحبة؟ فقالا : ذاك إليك ، قال : فسرنا فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاة المغرب فتيممت وصليت فنظرا إلي وقد تيممت فضحكا مني فلما فرغا من صلاتهما بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر إذا بطعام موضوع قال : فبقيت أتعجب من ذلك فقالا لي : ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وتوضأت وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتى أصبحنا فصليت الفجر ثم قاما يسيران فساروا (2) إلى الليل فلما أمسينا تقدم الآخر فصلّى بصاحبه ثم دعا بدعوات ثم بحث الأرض بيده فنبع الماء وظهر الطعام فقالا لي ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وشربنا وتوضأت للصلاة ثم نضب الماء وغار حتى لم يبق له أثر فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي : يا مسلم الليلة توبتك ، قال : فاستحييت من قولهما وداخلني من ذلك هم شديد ، قال : فقلت في نفسي : اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكني أسألك وأتوسل إليك بنبيك المكرم عندك إلا تفضحني عندهما ولا تشمت (3) بنبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإذا بعين خرّارة وطعام كثير ، قال : فأكلنا وشربنا ولم نزل على حالنا حتى بلغت النوبة الثانية إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت أولا وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بطعام اثنين وشراب اثنين دون ما كان ، قال : فتقاصرت إلى نفسي وقصرت عن الأكل وأريتهما أني آكل فسكتا عني ، قال : وسرنا
    __________________
    (1) هذه القصة فيها خبئ خفي ولعل هذين الراهبين ملكان أو وليان لله تعالى أرسلهما سبحانه وتعالى للشيخ الفرحي لينتقل بحالهما من حاله إلى حال أرفع كما ترى في القصة ، وأما أنهما راهبان حقيقة فهذا ما لا يستطيع العقل فهمه فإنا لا نعرف أن الله تعالى يكرم إلا الصادقين من عباده المؤمنين فكيف يكرم بهذه الكرامة الباهرة التي تضمنتها القصة راهبين كافرين بسيد أنبيائه وهما يعرفانه حق المعرفة كما ترى من كلامهما ، فاعرف ذلك ، اه مصححه.
    (2) قوله : فساروا بالجمع ، هو : فسارا بالتثنية كما هو ظاهر ، اه مصححه.
    (3) أي تشمتهما ، اه مصححه.

    حتى بلغت النوبة الثالثة إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوي حالي في أمر صدق توسلي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمي بأنه وسيلة من قبلي فإذا بطعام اثنين والماء مثل ذلك فغمني ذلك ، قال : فغلبتني عيناي من الهم خوف الشماتة بديننا فإذا بقائل يقول لي : أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمدا من دون الأنبياء (1) وهي علامته وكرامة أمته من بعد إلى يوم القيامة.
    قال : فلما بلغت النوبة الرابعة إلي قالا : بلى يا مسلم ما هذا؟ إنا نرى في طعامك وشرابك نقصا فلم ذلك؟ فقلت لهما : أو لم تعلما أن هذا خصّ الله عزوجل نبيه نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين الأنبياء وخصّ أمته به من بعده إن الله عزوجل يريد لي الإيثار وقد آثرتكما اقتداء بنبي المكرم فقالا : صدقت ، ثم قالا : نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، صدقت في قولك هذا ، خلق محمد في كتب الله المنزلة إن الله عزوجل خصّ محمدا وأمته بذلك ، قال : وحسن إسلامهما ، قال : ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة فقالا : ذلك واجب ، قلت : نعم فاسألا الله تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن فدعوا ، فبينا نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها فإذا هي بيت المقدس ، قال : فدخلنا المسجد وأقمنا أياما ثم تجدد لي سفر ففارقتهما وقد ملئ قلبي فرحا بإسلامهما وبصحبة توسلي (2) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه غيّاث الصادقين في محبة (3) السالكين خلفه في صدقه مع ربه وصحة الاعتماد عليه. فانظر أرشدك الله كيف بصدق التوسل به جرى ما جرى من حصول الكرامات من نبع الماء وحصول الطعام والاهتداء لها ، فله عزوجل المنّة على ما أكرمنا به وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته.
    وقال سفيان الثوري : بينا أنا أطوف بالبيت وإذا أنا برجل لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا وهو يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت على الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل عندك من هذا شيء؟ فقال لي : من أنت؟ قلت : سفيان الثوري ، فقال : لو لا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي
    __________________
    (1) أي خصصنا به أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دون أمم الأنبياء وإلا فالأنبياء جميعا أوائل أهل الإيثار صلى الله وسلّم عليهم جميعا ، اه مصححه.
    (2) قوله : وبصحبة توسلي ، صوابه وبصحة توسلي الخ ، اه مصححه.
    (3) قوله : في محبة السالكين ، صوابه في محبته. السالكين ، الخ ، اه مصححه.

    ولما أطلعتك على سري ، ثم قال : خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيد الأنام حتى إذا كنا ببعض المنازل مرض والدي فعالجته فمات فلما مات اسودّ وجهه فغلبتني عيناي من الهم فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه ولا أنظف ثوبا ولا أطيب رائحة منه فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمرّ يده عليه فعاد وجهه أبيض ثم ذهب فتعلقت بثوبه وقلت له : يا عبد الله من أنت الذي منّ الله عزوجل علي وعلى والدي بك في دار الغربة لكشف هذه الكربة؟ فقال : أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله صاحب القرآن ، أما إن والدك كان مسرفا على نفسه ولكنه يكثر الصلاة علي فلما نزل به ما نزل استغاث بي وأنا غيّاث من أكثر الصلاة علي ، قال : فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيضّ. فانظر أرشدك الله عزوجل إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته كيف أغاث من استغاث به حتى في البرزخ فهو عليه الصلاة والسلام كما قيل :
    غياث لملهوف وغيث لآمل
    وعين لظمآن وعون لذي جهد

    له فوق إيوان الزمان مراتب
    يقصر عنها الأنبياء أول المجد

    فموسى وعيسى والخليل ونوحهم
    يقولون طه منتهى السئول والقصد

    حوى قصبات السبق من قبل آدم
    وكهلا وأيام الطفولة في المهد

    به طيبة طابت ولا غرو قد حوت
    طبيب قلوب الخلق من مرض الجحد

    فلولاه ما اشتاقت قلوب نفيسة
    إلى الشيخ من أرض الحجاز ولا الرند

    ولا ذكرت سلع ونعمان والنقا
    ولا استعذبت من شدة الوجد للوجد

    فسبحان من قرّبه وبجّله وعظّمه ومنحه وتوجه خلع الفضائل وجعله أعظم ما يتوجه به إليه وأعظم الوسائل.
    روى الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع لي أن يعافيني الله ، فقال : «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال : فادعه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم شفعه في» قال الترمذي : حديث حسن صحيح ورواه النسائي بنحوه ورواه البيهقي وزاد محمد بن يونس في روايته فقام وقد أبصر ، وفي رواية شعبة ففعل فبرئ ، وفي رواية : يا محمد إني توجهت بك إلى ربي فتجلى عن بصري ، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي ، قال

    عثمان رضي الله عنه : فو الله ما انصرفنا ولا طال الحديث حتى جاء الرجل كأنه لم يكن به ضر (1). فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والاستجابة وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس فيه التقييد بزمن حياته ولا أنه خاص بذلك الرجل بل إطلاقه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رءوف رحيم ، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم ، ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهموا التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف رضي الله عنه ذكره في أول الجزء الخمسين من مسنده أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف وشكا (2) إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي (3) حاجتك وتذكر حاجتك ، ورح حتى أرواح معك ، فذهب الرجل وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له ثم إن الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده حتى أدخله إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ، فأعلمه بها فقضاها له ، وقال : ما ذكرت حاجتك إلا الساعة ، ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما كان لك من حاجة فاذكرها ، ثم إن الرجل خرج من عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقي عثمان بن حنيف رضي الله عنه فقال له : جزاك الله خيرا أما إنه ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في ، فقال عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له عليه الصلاة والسلام : «أو تصبر؟» فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات» قال عثمان بن حنيف : فو الله ما انصرفنا ولا طال الزمان حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. ورواه البيهقي بإسناده من طريقين فهذا من
    __________________
    (1) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : «وإن كان لك حاجة» فمثل ذلك ، اه مستنسخ النسخة.
    (2) قوله وشكى يرسم شكا بالألف ، اه مصححه.
    (3) قوله : فتقضي حاجتك ، ليس بظاهر معناه وقد راجعت الأصل فرأيت النص فتقضى حاجتي وتذكر حاجتك ، الخ وبه يتضح المعنى ، اه مصححه.

    أوضح الأدلة على الاحتجاج بالتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته كحياته كفعل (1) عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته وهم أعلم بالله عزوجل وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم وإليهم ترجع الأمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنهم رضي الله عنه (2) ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه أن عنده ضغينة لهم وهذا من الواضحات الجليات التي لا ينكرها إلا صاحب دسيسة أعاذنا الله تعالى من ذلك.
    وقال القاضي عياض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو (الشفاء) الفصل الثاني في حرمته بعد وفاته : وأما حرمته (3) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه فهو لازم كما كان في حياته وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كل مؤمن متى ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه (4) لو كان بين يديه ويتأدب بما أدّبنا الله عزوجل به.
    وقال ابن حبيب : إذا دخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّ ركعتين بين الروضة والمنبر ثم اقصد القبر من تجاه القبلة وادن منه ثم سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه عليه الصلاة والسلام مسلم (5) ويعلم وقوفك بين يديه وكذا قاله غيره من الأئمة.
    قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : (أما زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فأحضر قلبك لتعظيمه ولهيبته وأحضر عظيم رتبته في قلبك واعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك) وهذا الذي قالاه معروف مشهور لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغضون أصواتهم في مسجده تعظيما له وتوقيرا.
    وفي البخاري أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دق الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.
    __________________
    (1) الكاف في قوله كفعل لام ، اه مصححه.
    (2) قوله : وأخذوها عنهم رضي الله عنه تؤخر فيه عنهم وتقدم عنه كما هو ظاهر ، اه مصححه.
    (3) الصواب وحرمة ويحذف الضمير ، اه مصححه.
    (4) قوله بما كان يأخذ بعينه عبارة الشفاء بما كان يأخذ به نفسه الخ ، اه مصححه.
    (5) قوله مسلم بتشديد اللام أي راد عليك السلام الذي تسلمه عليه ، اه مصححه.

    وروي أن عليا رضي الله عنه لما عمل مصراعي داره ما عملهما إلا بالمناصع توقيا لذلك ، والآثار بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكذا الأخبار بعرض الصلاة عليه وكذا برد (1) روحه الشريفة العظيمة الكريمة على الله عزوجل ، وإذا ثبت ردها ثبتت حياته وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحة التوسل به.
    في ابن ماجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفر منها. قال : قلت : يا رسول الله وبعد الموت؟ قال : «وبعد الموت فإن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق».
    وقال عليه الصلاة والسلام : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» رواه النسائي وكذا الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحح : وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه‌السلام» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد قال البيهقي : معنى قوله : إلا رد الله عليه روحه ، إلا وقد ردّ الله عليه روحه لأجل سلام من سلّم عليه واستمرت في جسده لأنه لا يبلى ولا تفتر صلاة المصلين عليه ولا سلام المسلّمين عليه من الثقلين وغيرهم.
    وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما (2) كنتم» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح ، والأحاديث في ذلك كثيرة.
    وقال كعب الأحبار : ما من فجر يطلع إلا أنزل الله سبعين ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر الشريف يضربون بأجنحتهم ويصلّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم وصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه.
    __________________
    (1) سيأتي للمصنف شرح الحديث الوارد بذلك وتوضيحه أن الوجود لا يخلو لحظة من مسلم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو دائما يرد السلام فهو دائما مردودة عليه روحه فهو دائما حي وشرح الحديث بأن جملة رد الخ حالية تحل إشكال الحديث كذلك وهناك أحاديث أخرى كثيرة تدل على حياة الأنبياء في البرزخ بلا قيد ولا شرط وهو أمر مجمع عليه بين علماء الأمة فليعلم ، اه مصححه.
    (2) توصل حيث بما ، اه مصححه.

    وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني صاحب الترغيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى علي في يوم جمعة وليلة جمعة مائة من الصلاة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا وكل بذلك ملكا يدخله على قبري كما يدخل عليكم الهدايا إن علمي بذلك بعد موتي كعلمي به في حياتي».
    وقال السيد الجليل سلمان بن شحيم قدس الله تعالى روحه : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله الذين يأتونك ويسلّمون عليك تفقه سلامهم؟ قال : «نعم وأرد عليهم».
    وقال بعض المشايخ : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقلت : استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر أنك لم تسأل شيئا قط ، فقلت : لا ، فأقبل علي وقال : «غفر الله لك» وكان موهوب ابن الجزري الشافعي إماما عالما فاضلا مفيدا يشارك في سائر العلوم مشاركة جيدة مع العقل والدين والإيثار لأهل الضرورات وكان يتجر فكثر ماله فأراد الصاحب أن يتعرض له ، قال : فخفت منه خوفا شديدا فلما كان في بعض الليالي رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله إني خائف من الصاحب ، فقال : «لا تخف منه وقل له بعلامة كذا وكذا لا تؤذني فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع في» فلما انتبهت صليت الصبح وركبت دابتي ووقفت للصاحب في الطريق وهو طالع إلى القلعة ، قال : فسلّمت عليه وصحبته وقلت له : معي رسالة ، فقال : ممن؟ قلت : من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قل له بعلامة كذا وكذا» فقال : صدقت أنت وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا اليوم أتشفع بك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمولى يرسم والمملوك يمتثل ومهما كان لك من الحوائج تعرفني بها أو لأحد أصحابك.
    وطلب بعض أمراء الجور رجلا أراد منه شيئا وهدده تهديدا وتواعده (1) بالعقوبات فقال له الرجل : أنا أتشفع إليك بسيد الأولين والآخرين أن لا تتعرض لي بما لا يحل لك ، فلم يلتفت إليه ولا إلى قوله ، فلما أصبح الصباح طلب الأمير الرجل وأكرمه بعد أن فكّ عنه الطلب فقيل للأمير في ذلك فقال : رأيت البارحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهرني وهمّ بي وقال : «يتشفع بي إليك ولا تقبل فو الله لا يتشفع به أحد إلي إلا قبلت شفاعته» فإني خفت على نفسي الهلكة.
    __________________
    (1) الصواب حذف ألف تواعده ، اه مصححه.

    وعن منصور بن عبد الله قال : سمعت ابن الجلاء يقول : دخلت مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبي شيء من الفاقة فتقدمت إلى القبر فسلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى ضجيعيه أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم قلت : يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة ، ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر وإذا أنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءني ودفع إلى رغيف خبز فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف. ومن تتمة القصة أن قال ابن الجلاء إنه دام بعد ذلك أربعين سنة لم يحتج فيها إلى طعام الدنيا ولا إلى شرابها ببركة تلك الأكلة.
    قال العلماء : الظاهر أن ما أتاه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طعام الجنة لأن من أكل من طعام الجنة استغنى عن طعام الدنيا ، قالوا : وهذه رؤيا حق لما جاء في الحديث «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي».
    ومثل هذا وقع للسيد الجليل أبي الخير الأقطع صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة قال : دخلت مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت : أنا ضيفك يا رسول الله وتنحيت ونمت خلف القبر فرأيت في المنام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني ، وقال : قم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فقمت إليه وقبلت بين عينيه فدفع إلي رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت وإذا في يدي نصف رغيف ، قال العلماء : وإنما يبقي نصف الرغيف ليتحقق الأمر وتظهر الكرامة لأولياء الله عزوجل الذين سلكوا سبيله بصدق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم.
    وقال ابن أبي ذرعة الصوفي : سافرت مع أبي ومع ابن حنيف إلى مكة وأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتنا طاوين وكنت دون البالغ فكنت أجيء إلى أبي غير دفعة وأقول : أنا جائع ، فأتى والدي إلى الحضرة الشريفة ، وقال : يا رسول الله أنا ضيفك الليلة وجلس على المراقبة فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع في يدي دراهم وفتح يده فإذا فيها دراهم وبارك الله تعالى لنا فيها إلى أن رجعنا شيراز فكنا ننفق منها.
    وقال السيد الجليل أبو العباس أحمد الصوفي : تهت في البادية ثلاثة أشهر وانسلخ جلدي فدخلت المدينة الشريفة وجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال لي : «يا أحمد جئت؟» قلت : نعم

    وأنا جائع وأنا في ضيافتك ، فقال لي : «افتح كفيك (1)» ففتحتهما فملأهما دراهم فانتبهت وهما مملوءتان فقمت فاشتريت لي خبزا حواري وفالوذجا وأكلت وقمت للوقت ودخلت البادية ومثل هذا كثير وهؤلاء رجال صدق يقطعون البوادي على قدم التوكل لا يعتمدون على غيره ولا يأنسون بسواه وتقع لهم ألطاف وأمور عجيبة وقد ذكرت جملة من ذلك في كتاب (تنبيه السالك) في فصل الكرامات ، فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب فلينظر فيه وفيما وهب لهم من الكرامات على مقدار طبقاتهم.
    وخرج بعض المشايخ يريد الزيارة في جماعة من الفقراء ، قال : فلما وصلنا إلى شعب النعام أدركنا العطش وبيننا وبين المدينة مراحل ، قال : فاستغثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصليت ونمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «مرحبا بك وبجماعتك» وضمني إلى صدره وقبّلني فقبّلت يده الكريمة وقدمه ، وقلت له : يا سيدي يا رسول الله أنا خائف على أصحابنا من العطش ، فقال : «لا تخف فإنا نسيّر لكم الماء وها نحن نعد لكم الضيافة» ورأيته عليه الصلاة والسلام مشمر الأكمام فجاءنا السيل في تلك الليلة وملأنا ركابنا فلما قدمنا المدينة تلقانا أحد خدام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : سلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشتهي أن أجتمع بك حتى أوفي لك بما أوصاني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جئت إليه ، فقال لغلامه : جئ بالمائدة ، فجاء بها وعليها كل خير يراد فالتفت إلي وقال : كل ، هذا الذي أوصاني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال لي : هذه ضيافتك يا فلان وسماني باسمي ، وما يبعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماه كما وقع لغيره من الخدام من تسمية أقوام قصدوا زيارته من أرض شاسعة كما أخبرني به الشيخ محمد فولاذ في المسجد الأقصى وكان من الأخيار وكثير التعبد والإيثار وحجّ ماشيا ما يزيد على ثلاثة حجة ، قال لي : إذا جاء أوان الحج هاج بي الشوق إلى تلك المعاهد الشريفة وإلى زيارة سيد الأولين والآخرين فآخذ زادي على ظهري وإناء الماء وأسير مع الناس إلى جنب وأنا مشغول بحالي ، قال : فاتفق أني تحدثت أنا وخادم الضريح وتذاكرنا مواهب الله عزوجل لسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : يا شيخ محمد إني أخدم هذا الضريح ستين سنة فاتفق في يوم حار أني سمعت السرير يصرصر وسمعت صوته عليه الصلاة والسلام وهو يقول : «وعليك السلام يا فلان ويا فلان بن فلان» وسمّى ثمانية أنفس ، قال الخادم : فقمت من ساعتي وجئت الضريح وإذا بشخص كاد أن يموت من الهزال جالس عند
    __________________
    (1) الصواب ففتحتهما ، اه مصححه.

    الضريح ، فسلّمت عليه وقلت : ما اسمك؟ فقال : فلان بن فلان لأحد الثمانية ، فقلت له : وأين رفقتك؟ فقال : عند باب الحرم ، قد عجزوا عن الوصول إلى الضريح ، قال : فعمدت إليهم فإذا ثلاثة من الذين سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : وأين بقيتكم؟ فقالوا : فارقناهم من وراء تلك الأكمة ، قال : فأخذت ما أحملهم عليه وماء وشيئا من الأكل ومضيت فوجدت الأربعة قد قضوا فجهزتهم ثم رجعت إلى الأربعة فأخذتهم وأكرمتهم وسألتهم من أين ورودهم فقالوا : من بلاد شاسعة تعاقدنا وتعاهدنا على زيارة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن لا نرجع عن ذلك ولو ذهبت أنفسنا ، فأما نحن فقد أعطانا الله عزوجل مرادنا وأما إخواننا الذين ماتوا عند الأكمة فنرجو أن الله عزوجل لا يخيب مسعاهم.
    ووقع مثل ذلك كثيرا جدا وقد دوّنه الأئمة كابن أبي الدنيا وغيره وعقدوا له باب الاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرّجوه بأسانيدهم على اختلاف الوقائع وفيها ما يتعلق بالصديق والفاروق رضي الله عنهما وها أنا ذا أتعرض لنبذة يسيرة جدا من غير الأسانيد لأنه اللائق بهذه الورقات فمن أراد الكثرة فعليه بالنظر في كتب الأئمة فإنها مجلدات والمهمل لذكرها قد نادى على نفسه بخبث طويته في حق أصفياء الله عزوجل وأوليائه ، أعاذنا الله من الزيغ والفتن ما ظهر منها وما بطن.
    فمن ذلك : ما أخبر به أبو عبد الله الحسين وأبو علي بن سعيد بن نبهان وكان من فضلاء بغداد ورؤسائهم وغيرهما قالوا : أراد رجل الحج فأحضره الأمير مقلد فقال : يا فلان تريد الحج؟ قال : نعم ، قال : إذا حججت وأتيت المدينة فاقرأ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني السلام وقل له لو لا صاحباك لزرتك قال الرجل : فحججت وأتيت المدينة ولم أقل الكلام عند القبر إجلالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كان الليل نمت فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامي فقال لي : «يا فلان لم لم تؤد الرسالة من مقلد؟» فقلت : يا رسول الله أجللتك أن أقول في صاحبيك ذلك فرفع رأسه إلى رجل فقال له : خذ هذا الموسى واذبحه ، قال : ففعل ، قال : فوافيت العراق فسمعت أن الأمير مقلد ذبح على فراشه فلما قدمت المدينة ـ أي بغداد ـ سألت عنه فقيل إنه ذبح على فراشه فذكرت للناس الرؤيا التي رأيتها فشاعت إلى أن بلغت الأمير قرواس بن المسيب فأحضرني وقال : اشرح لي الحال ، فشرحت له ، فقال : أتعرف الموسى؟ قلت : نعم ، فأحضر طبقا مملوءا مواسي والموسى في الجملة فقال لي : أخرج الموسى ، فضربت بيدي وأخذت الموسى الذي رأيته بيد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ناوله الرجل فقال : صدقت هذا الموسى وجدته عند رأسه وهو مذبوح.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    العقيدة وعلم الكلام
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
     مواضيع مماثلة
    -
    » العقيده وعلم الكلام
    » العقيده وعلم الكلام

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 47-منتدى العقائد والكلام-
    انتقل الى: