الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» مقاتل الطالبيّين مقاتل الطالبيّين المؤلف :أبي الفرج الاصفهاني
فدك في التاريخ Emptyأمس في 11:42 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج1
فدك في التاريخ Emptyأمس في 10:27 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج2
فدك في التاريخ Emptyأمس في 9:59 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» نهج البلاغه ج3
فدك في التاريخ Emptyأمس في 9:34 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  كلام جميل عن التسامح
فدك في التاريخ Emptyأمس في 8:57 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مفهوم التسامح مع الذات
فدك في التاريخ Emptyأمس في 8:48 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال الحكماء والفلاسفة
فدك في التاريخ Emptyأمس في 10:01 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» أقوال وحكم رائعة
فدك في التاريخ Emptyأمس في 9:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

»  أحاديث / شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا) شرح حديث (إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا)
فدك في التاريخ Emptyأمس في 9:50 am من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     فدك في التاريخ

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:41 am

    فاتحة الكتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إيّاك نعبد واياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.


    فهرست الكتاب
    1 ـ على مسرح الثورة 9
    2 ـ فدك 21
    3 ـ تاريخ الثورة 29
    4 ـ قبسات من الكلام الفاطمي 87
    5 ـ محكمة الكتاب 107



    أيّها القارئ الكريم :
    هذا انتاج اغتنمت له عطلة من عطل الدراسة في جامعتنا الكريمة ـ النجف الأشرف ـ وتوفرت فيها على درس مشكلة من مشاكل التاريخ الإسلامي ، وهي مشكلة فدك ، والخصومة التأريخية التي قامت بين الزهراء صلوات الله عليها والخليفة الأول رضي الله‏ تعالى عنه. وكانت تتبلور في ذهني استنتاجات وفكر ، فسجلتها على أوراق متفرقة. حتى إذا انتهيت من مطالعة مستندات القضية ورواياتها ، ودرس ظروفها ، وجدت في تلك الوريقات ما يصلح خميرة لدراسة كافية للمسألة ، فهذبتها ورتبتها على فصول ، اجتمع منها كتيب صغير ، وكان في نيتي الاحتفاظ به كمذكر عند الحاجة ، فبقي عندي سنين مذكرا ومؤرخاً لحياتي الفكرية في الشهر الذي تمخض عنه ، غير انّ بعض الاخوة ( أيدهم الله ) طلبوا مني طبعه وقد نزلت على رغبتهم تقديراً لهم ولتوفيره في المكتبة العربية والإسلامية والكتاب هو ما تراه بين يديك.
    ( المؤلّف )


    على مسرح الثورة
    فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون.
    الزهراء

    وقفت لا يخالجها شك فيما تقدم عليه ، ولا يطفح عليها موقفها الرهيب بصبابة من خوف أو ذعر ، ولا يمر على خيالها الذي كان جدّيّاً كل الجد ، تردد في تصميمها ، ولا ولا تساورها هاجسة من هواجس القلق والارتباك ، وها هي الآن في أعلى القمة من استعدادها النبيل ، وثباتها الشجاع على خطتها الطموح ، واسلوبها الدفاعي ، فقد كانت بين بابين لا يتسعان لتردد طويل ، ودرس عريض ، فلا بد لها من اختيار أحدهما وقد اختارت الطريق المتعب من الطريقين الذي يشق سلوكه على المرأة بطبيعتها الضعيفة لما يكتنفه من شدائد ومصاعب تتطلب جرأة أدبية ، وملكة بيانية مؤثرة ، وقدرة على صب معاني الثورة كلّها في كلمات وبراعة فنية في تصوير النقمة ونقد الأوضاع القائمة تصويراً ونقداً يجعلان في الألفاظ معنى من حياة ، وحظا من خلود ، لتكون الحروف جنود الثورة الخيرة ، وسندها الخالد في تاريخ العقيدة ، ولكنه الإيمان والاستبسال في سبيل الحق الذي يبعث في النفوس الضعيفة نقائضها ، ويفجر في الطبائع المخذولة قوة لا تتعرض لضعف ولا تردد.
    ولذا كان اختيار الثائرة لهذا الطريق ممّا يوافق طبعها ، ويلتئم مع شخصيتها المركزة على الانتصار للحق ، والاندفاع في سبيله.
    وكانت حولها نسوة متعددات من حفدتها ونساء قومها كالنجوم

    المتناثرة يلتففن بها بغير انتظام ، وهن جميعاً سواسية في هذا الاندفاع والالتياع ، وقائدتهن بينهن تستعرض ما ستقدم عليه من وثبة كريمة تهيئ لها العدة والذخيرة ، وهي كلما استرسلت في استعراضها ازدادت رباطة جأش ، وقوة جنان ، وتضاعفت قوة الحق التي تعمل في نفسها ، واشتدت صلابة في الحركة ، وانبعاثاً نحو الدفاع عن الحقوق المسلوبة ، ونشاطاً في الاندفاع ، وبسالة في الموقف الرهيب ، كأنّها قد استعارت في لحظتها هذه قلب رجلها العظيم ، لتواجه به ظروفها القاسية وما حاكت لها يد القدر أستغفر الله بل ما قدر لها المقدر الحكيم من مأساة مروعة تهد الجبل وتزلزل الصعب الشامخ.
    وكانت في لحظتها الرهيبة التي قامت فيها بدور الجندي المدافع شبحاً قائماً ترتسم عليه سحابة حزن مرير ، وهي شاحبة اللون ، عابسة الوجه ، مفجوعة القلب ، كاسفة البال منهدة العمد ، ضعيفة الجانب ، مائعة الجسم ، وفي صميم نفسها ، وعميق فكرها المتأملة اشعاعة بهجة ، واثارة طمأنينة ، وليس هذا ولا ذاك استعذاباً لأمل باسم ، أو سكونا إلى حلم لذيذ ، أو استقبالاً لنتيجة حسنة مترقبة ، بل كانت الاشعاعة اشعاعة رضا بالفكرة ، والاستبشار بالثورة ، وكانت الطمأنينة ثقة بنجاح لا هذا الذي نفيناه بل على وجه آخر ، وان في بعض الفشل الأجل ايجاباً لنجاح عظيم وكذلك وقع ، فقد قامت اُمّة برمتها تقدس هذه الثورة الفائزة بل تستمد منها ثباتها واستبسالها في هذا الثبات.
    ودفعتها أفكارها في وقفتها تلك إلى الماضي القريب يوم كانت موجات السعادة تلعب بحياتها السعيدة ، ويوم كانت نفس أبيها يصعد. ونسمه يهبط ، وكان بيتها قطب الدولة العتيد ، ودعامة المجد الراسخة المهيمنة على الزمن الخاشع المطيع.

    ولعل أفكارها هذه ساقتها إلى تصور أبيها 9 وهو يضمها إلى صدره الرحيب ، ويحوطها بحنانه العبقري ، ويطبع على فمها الطاهر قبلاته التي اعتادتها منه ، وكانت غذاءها صباحاً ومساء.
    ثم وصلت إلى حيث بلغت سلسلة الزمن فيواجهها الواقع العابس واذا بالزمان غير الزمان وها هو بيتها مشكاة النور ورمز النبوّة والاشعاعة المتألقة المحلقة بالسماء مهدد بين الفينة والفينة ، وها هو ابن عمها الرجل الثاني في دنيا الإسلام باب علم النبوّة ، ووزيرها المخلص ، وهارونها المرجى ، الذي لم يكن لينفصل ببدايته الطاهرة عن بداية النبوّة المباركة فهو ناصرها في البداية ، وأملها الكبير في النهاية ، يخسر أخيراً خلافة رسول الله 9 وتقوض معنوياته النورية التي شهدت لها السماء والأرض جميعا ، وتسقط سوابقه الفذة عن الاعتبار ببعض المقاييس التي تمّ اصطلاحها في تلك الاحايين.
    وهنا بكت بكاء شقيا ما شاء الله لها أن تبكي ، ولم يكن بكاء بمعناه الذي يظهر على الأسارير ، ويخيم على المظاهر ، بل كان لوعة الضمير ، وارتياع النفس ، وانتفاضة الحسرات في أعماق القلب ، وختمت طوافها الأليم هذا بعبرتين نضتا من مقلتيها.
    ثم لم تطل وقفتها ، بل اندفعت كالشرارة الملتهبة وحولها صويحباتها حتى وصلت إلى ميدان الصراع ، فوقفت وقفتها الخالدة ، وأثارت حربها الذي استعملت فيه ما يمكن مباشرته للمرأة في الإسلام ، وكادت ثورتها البكر أن تلتهم الخلافة لولا أن عاكسها شذوذ الظرف ، وتناثرت امامها العقبات.
    * * *
    تلك هي الحوراء الصديقة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه

    واله وسلم ) ريحانة النبوّة ، ومثال العصمة ، وهالة النور المشعة ، وبقية الرسول بين المسلمين ـ في طريقها إلى المسجد ـ وقد خسرت أبوة هي أزهى الأبوات في تأريخ الانسان ، وأفيضها حناناً ، وأكثرها اشفاقاً ، وأوفرها بركة.
    وهذه كارثة من شأنها أن تذيق المصاب بها مرارة الموت أو أن تظهر له الموت حلواً شهياً ، وأملا نيراً.
    وهكذا كانت الزهراء حينما لحق أبوها بالرفيق الأعلى ، وطارت روحه الفرد إلى جنان ربها راضية مرضية.
    ثم لم تقف الحوادث المرة عند هذا الحد الرهيب ، بل عرضت الزهراء لخطب آخر قد لا يقل تأثيراً في نفسها الطهور ، وايقاداً لحزنها ، واذكاء لأساها عن الفاجعة الأولى كثيراً وهو خسارة المجد الذي سجلته السماء لبيت النبوّة على طول التاريخ ، وأعني بهذا المجد العظيم سيادة الأمة وزعامتها الكبرى ، فقد كان من تشريعات السماء أن يسوس آل محمّد 9 امته وشيعته ، لأنهم مشتقاته ومصغراته ، واذا بالتقدير المعاكس يصرف مراكز الزعامة عن أهلها ، ومناصب الحكم عن أصحابها ، ويرتب لها خلفاء واُمراء من عند نفسه.
    وبهذا وذاك خسرت الزهراء أقدس النبوات والأبوات ، واخلد الرئاسات والزعامات بين عشية وضحاها ، فبعثتها نفسها المطوقة بآفاق من الحزن والأسف إلى المعركة ومجالاتها ، ومباشرة الثورة والاستمرار عليها.
    والحقيقة التي لا شك فيها أن أحداً ممن يوافقها على مبدئها ونهضتها لم يكن ليمكنه أن يقف موقفها ، ويستبسل استبسالها في الجهاد إلا وأن يكون أكلة باردة ، وطعمة رخيصة للسلطات الحاكمة التي كانت قد بلغت يومذاك أوج الضغط والشدة ، فعلى الاشارة عتاب ، وعلى القول حساب

    وعلى الفعل عقاب ، فلم يكن ليختلف عمّا نصطلح عليه اليوم بالأحكام العرفية ، وهو أمر ضروري للسلطات يومئذ في سبيل تدعيم أساسها ، وتثبيت بنيانها.
    أما إذا كان القائم المدافع بنت محمّد 6 وبضعته وصورته الناضرة. فهي محفوظة لا خوف عليها بلا شك ، باعتبار هذه النبوّة المقدسة ، ولما للمرأة في الإسلام عموماً من حرمات وخصائص تمنعها وتحميها من الأذى.
    * * *
    مستمسكات الثورة :
    ارتفعت الزهراء بأجنحة من خيالها المطهر إلى آفاق حياتها الماضية ودنيا أبيها العظيم التي استحالت حين لحق سيد البشر بربه إلى ذكرى في نفس الحوراء متألقة بالنور تمد الزهراء في كلّ حين بألوان من الشعور والعاطفة والتوجيه ، وتشيع في نفسها ضروبا من البهجة والنعيم ، فهي وان كانت قد تأخرت عن أبيها في حساب الزمن اياماً أو شهوراً ، ولكنها لم تنفصل عنه في حساب الروح والذكرى لحظة واحدة.
    واذن ففي جنبيها معين من القوة لا ينبض ، وطاقة على ثورة كاسحة لا تخمد ، وأضواء من نبوة محمّد 9 ونفس محمّد تنير لها الطريق ، وتهديها سواء السبيل.
    وتجردت الزهراء في اللحظة التي اختمرت فيها ثورة نفسها عن دنيا الناس ، واتجهت بمشاعرها إلى تلك الذكرى الحية في نفسها لتستمد منها قبسا من نور في موقفها العصيب ، وصارت تنادي : ـ
    الي يا صور السعادة التي أفقت منها على شقاء لا يصطبر عليه ..

    الي يا أعز روح علي ، وأحبها اليّ .. حدثيني وأفيضي علي من نورك الالهي. كما كنت تصنعين معي دائماً.
    الي يا أبي أناجيك ان كانت المناجاة تلذ لك ، وابثك همومي كما اعتدت أن أفعل في كل حين ، وأخبرك أن تلك الظلال الظليلة التي كانت تقيني من لهيب هذه الدنيا لم يعد لي منها شيء.
    قد كان بعدك أنباء وهنبثة
    لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

    الي يا ذكريات الماضي العزيز حدثيني حديثك الجذاب ورددي على مسامعي كل شيء لا تثيرها حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الذين ارتفعوا أو ارتفع الناس بهم إلى منبر أبي ومقامه ، ولم يعرفوا لآل محمّد 9 حقوقهم ، ولا لبينهم حرمة تصونه من الاحراق والتخريب ، ذكريني بمشاهد أبي وغزواته ألم يكن يقص علي ألواناً من بطولة أخيه وصهره واستبساله في الجهاد ، وتفوقه على سائر الأنداد ، ووقوفه إلى صف رسول الله 6 في أشد الساعات ، وأعنف المعارك التي فر فيها فلان وفلان وتقاصر عن اقتحامها الشجعان أيصح بعد هذا أن نضع أبا بكر على منبر النبي وننزل بعلي عمّا يستحق من مقام.
    خبريني يا ذكريات أبي العزيز أليس أبو بكر هو الذي لم يأتمنه الوحي على تبليغ آية إلى المشركين ؟. وانتخب للمهمة علياً فماذ يكون معنى هذا ان لم يكن معناه انّ علياً هو الممثل الطبيعي للاسلام الذي يجب ان تستند إليه كل مهمة لا يتيسر للنبي 6 مباشرتها.
    اني لا تذكر بوضوح ذلك اليوم العصيب الذي أرجف فيه المرجفون لما استخلف أبي علياً على المدينة وخرج إلى الحرب ، فوضعوا لهذا

    الاستخلاف ما شاؤا من تفاسير ، وكان علي ثابتاً كالطود لا تزعزعه مشاغبات المشاغبين ، وكنت أحاول أن يلتحق بأبي ليحدثه بحديث الناس وأخيراً لحق بالنبي 6 ثم رجع متهلل الوجه ضاحك الاسارير ، تحمله الفرحة إلى قرينته الحبيبة ليزف إليها بشرى لا بمعنى من معاني الدنيا بل بمعنى من معاني السماء. فقص علي كيف استقبله النبي 6 ورحب به وقال له : انت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انّه لا نبي بعدي (1) وهارون موسى كان شريكا له في الحكم ، واماماً لاُمته ، ومعداً لخلافته ، فلا بد أن يكون هارون محمّد 6 ولياً للمسلمين وخليفته فيهم من بعده.
    ولما وصلت إلى هذه النقطة من افكارها المتدفقه صرخت ان هذا هو الانقلاب الذي انذر االله تعالى في كتابه اذ قال : ( وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ). فها هم الناس قد انقلبوا على أعقابهم. واستولى عليهم المنطق الجاهلي الذي تبادله الحزبان في السقيفة حين قال أحدهما نحن أهل العزة والمنعة ، واولوا العدد والكثرة ، واجابه الآخر : من ينازعنا سلطان محمّد (ص) ونحن اولياؤه وعترته وسقط الكتاب والسنة في تلك المقاييس ثم اخذت تقول : ـ
    يا مبادئ محمّد 6 التي جرت في عروقي منذ ولدت كما يجري الدم في العصب ، انّ عمر الذي هجم عليك في بيتك المكي الذي اقامه النبي مركزاً لدعوته قد هجم على آل محمّد 6 في دارهم واشعل النار فيها أو كاد ..
    __________________
    (1) ورد حديث المنزلة في صحيح البخاري ومسلم وخصائص النسائي ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي ومروج الذهب.

    يا روح امي العظيمة انك القيت علي درساً خالداً في حياة النضال الإسلامي بجهادك الرائع في صف سيد المرسلين 6 وسوف أجعل من نفسي خديجة علي في محنته القائمة.
    لبيك لبيك يا أماه انّي أسمع صوتك في أعماق روحي يدفعني إلى مقاومة الحاكمين.
    فسوف أذهب إلى أبي بكر لأقول له لقد جئت شيئاً فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، ولأنبه المسلمين إلى عواقب فعلتهم والمستقبل القائم الذي بنوه بأيديهم وأقول : لقد لقحت فنظرة ريثما تحلب ، ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً ، وهناك يخسر المبطلون. ويعرف التالون ، غب ما اسّس الاولون.
    ثم اندفعت إلى ميدان العمل وفي نفسها مبادئ محمّد 6 وروح خديجة ، وبطولة علي. واشفاق عظيم على هذه الأمة من مستقبل مظلم.
    * * *
    طريق الثورة :
    لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا ، لان البيت الذي انبعث منه شرر الثورة ولهيبها هو بيت علي (ع) بالطبع الذي كان يصطلح عليه رسول الله 9 بيت النبوّة وهو جار المسجد لا يفصل بينهما سوى جدار واحد ، فلعلها دخلته من الباب المتصل به ، والمؤدي إليه من دارها مباشرة ، كما يمكن أن تكون مدخلها الباب العام ولا يهمنا تعيين أحد الطريقين ، وان كنت أرجح انّها سلكت الباب العام لأنّ

    سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهاذ فان دخولها من الباب الخاص لا يكلفها سيراً في نفس المسجد ولا اجتياز طريق بينه وبين بيتها ، فمن أين للراوي أن يصف مشيها ، وينعته بأنّه لا يخرم مشية رسول الله 6 وهو لم يكن معها بالطبع ، ولو تصورنا انّها سارت في نفس المسجد ، فلا ينتهي سيرها بالدخول على الخليفة ، وانّما يبتدئ بذلك ، لأن من دخل المسجد صدق عليه انّه دخل على من فيه ، وان سار في ساحته مع أن الراوي يجعل دخولها على أبي بكر متعقباً لمشيها ، وهذا وغيره يكون قرينة على ما استقريناه.
    * * *
    النسوة :
    وتدلنا الرواية على انّ الزهراء كانت تصحبها معها نسوة من قومها وحفدتها كما سبق ذكره ومرد هذه الصحبة ، وذلك الاختيار للباب العام إلى أمر واحد ، وهو تنبيه الناس ، وكسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد ، ويتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف على ما تريده وتعزم عليه من قول أو فعل ، وبهذا تكون المحاكمة علنية تعيها اسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب.
    ظاهرة :
    سبق أن الرواية التأريخية جاءت تنص على انّ الزهراء لم تكن لتخرم في مشيتها مشية ابيها 6.
    ويتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق فلعله كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف ولا اعتناء خاص ، وليس هذا ببعيد فانّها صلوات ا‏لله عليها قد اعتادت ان تقلد اباها وتحاكيه في سائر

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:42 am

    افعالها واقوالها ، ويحتمل ان يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يومذاك إلى تقليد أبيها في مشيه عن التفات وقصد فأحكمت التمثيل وأجادت المحاكاة ، فلم تكن لتخرم مشية النبي 6 وأرادت بهذا أن تستولي على المشاعر واحساس الناس وعواطف الجمهور بهذا التقليد الباهر الذي يدفع بأفكارهم إلى سفر قصير ، وتجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوّة المقدس. والأيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الأعظم 6 فيكون في ارهاف هذه الاحساسات وصقلها صقلاً عاطفيا ما يمهد للزهراء الشروع في مقصودها. ويوطئ القلوب لتقبل دعوتها الصارخة واستجابة استنقاذها الحزين ، ونجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة.
    * * *
    ولذا ترى ان الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر ، ودفعه تأثره هذا إلى تسجيلها فيما سجل من تصوير الحركة الفاطمية.
    صرخة باركتها الزهراء ، ورعتها السماء فكانت عند اندلاعها محط الثقل الذي تركز عنده الحق المذبوح ، والمحاولة اليائسة التي شاعت حولها ابتسامات أمل استحالت بعد انتهائها إلى عبوس مرير ، ويأس ثابت ، واستسلام فرضته حياة الناس الواقعة يومذاك.
    ثورة لم تكن لتقصد بها الثائرة نتيجة لها على ما يطرد في الثورات الأخرى بقدر ما كانت تستهدف إلى تثبيت الثورة لذاتها وتسجيلها فيما يسجله التأريخ في سطوره البارزة فكانت الثورة على هذا بنفسها تؤدي الغرض كاملاً غير منقوص ، وهذا ما وقع بالفعل وبه نفسر الحكم بنجاحها وان فشلت كما سنوضحه في موقع آخر من هذا الكتاب.


    2
    فدك
    ( بمعناها الحقيقي )
    « بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين »
    ( قرين الزهراء )
    أمير المؤمنين
    ( بمعناها الرمزي )
    الحد الأول : ( لفدك ) عدن
    والحد الثاني : سمرقند
    والثالث : أفريقية.
    والرابع : سيف البحر مما يلي الجزر وارمينية.
    ( حفيد الزهراء )
    الامام موسى بن جعفر

    فدك : قرية في الحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية في مطلع تأريخها المأثور. وكان يسكنها طائفة من اليهود ، ولم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله 9 على النصف من فدك وروي انّه صالحهم عليها كلها.
    وابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي ، فكانت ملكا لرسول الله 6 لأنّها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ثم قدمها لابنته الزهراء ، وبقيت عندها حتى توفي أبوها 9 فانتزعها الخليفة الأول 2 ـ على حد تعبير صاحب الصواعق المحرقة ـ وأصبحت من مصادر المالية العامّة وموارد ثورة الدولة يومذاك حتى تولّى عمر الخلافة فدفع فدكاً إلى ورثة رسول الله 9 وبقيت فدك عند آل محمّد 9 إلى أن تولّى الخلافة عثمان بن عفان فاقطعها مروان بن الحكم على ما قيل ، ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء. ولكن الشيء الثابت هو ان أمير المؤمنين علياً انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان ـ كسائر ما نهبه بنو اُمية في أيّام خليفتهم ـ.
    وقد ذكر بعض المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك انّ علياً لم

    يدفعها عن المسلمين بل اتبع فيها سيرة أبي بكر فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج.
    ولا أريد أن أفتح في الجواب بحث التقية على مصراعيه وأوجه بها عمل أمير المؤمنين ، وانّما امنع ان يكون أمير المؤمنين (ع) قد سار على طريقة الصديق ، فان التأريخ لم يصرح بشيء من ذلك بل صرح بأن أمير المؤمنين كان يرى فدكاً لأهل البيت ، وقد سجل هذا الرأي بوضوح في رسالته إلى عثمان بن حنيف كما سيأتي.
    فمن الممكن انّه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها بحاصلات فدك وليس في هذا التخصيص ما يوجب اشاعة الخبر لأن المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده كما يحتمل انّه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن اولاده عليهم الصلاة والسلام (1) بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة.
    ولما ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة أمعن في السخرية وأكثر من الاستخفاف بالحق المهضوم فاقطع مروان بن الحكم ثلث فدك وعمر بن عثمان ثلثها ، ويزيد ابنه ثلثها الآخر ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيّام ملكه ثم صفت لعمر بن عبدالعزيز بن مروان فلما تولّى هذا الأمر رد فدكاً على ولد فاطمة 3 وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه انّ فاطمة 3 قد ولدت في آل عثمان وآل فلان وفلان فعلى من أرد منهم ؟ فكتب إليه : أما بعد ، فاني لو كتبت اليك آمرك أن تذبح
    __________________
    (1) وهذا أقرب الاحتمالات ، لان الأول تنفيه رسالة أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف اذ يقول : وسخت عنها نفوس آخرين. والثالث يبعده قبول الفاطميين فيما بعد لفدك عند ما أعطيت اليهم في فرص متباعدة.

    بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة 3 من علي 7 ، فنقمت بنو امية ذلك على عمر بن عبدالعزيز وعاتبوه فيه وقالوا له : هجنت فعل الشيخين وقيل : انّه خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال لهم انكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت انّ أبا بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني عن أبيه عن جده انّ رسول الله 9 قال : فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني ، ويرضيني ما أرضاها ، وان فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبدالعزيز أبي فورثتها أنا واخوتي عنه فسألتهم ان يبيعوني حصتهم منها فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي فرأيت ان اردها على ولد فاطمة فقالوا له : فان أبيت إلا هذا فامسك الاصل واقسم الغلة ، ففعل.
    ثم انتزعها يزيد بن عبدالملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم.
    فلما قام أبو العباس السفاح بالأمر وتقلد الخلافة ردها على عبدالله ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن وردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ثم قبضها موسى بن المهدي من أيديهم.
    ولم تزل في أيدي العباسيين حتى تولّى المأمون الخلافة فردها على الفاطميين سنة (210) وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة : أما بعد ، فان أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله 6 والقرابة به أولى من استن بسنته وسلم لمن منحه منحة وتصديق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته واليه في العمل بما يقربه إليه رغبته ، وقد كان رسول الله 6 أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها وكان ذلك أمراً ظاهراً

    معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله 6 ولم تدع منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين ان يردها إلى ورثتها ويسلمها اليهم تقرباً إلى الله تعالى ، باقامة حقه وعدله والى رسول الله 6 بتنفيذ أمره وصدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتاب إلى عماله فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض نبيه 6 ان يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفذ عدته انّ فاطمة رضي الله عنها لاُولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله 6 لها وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله 6 بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها إلى محمّد ابن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمّد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين اياههما القيام بها لأهلها. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب إليه والى رسوله 6 وأعلمه من قبلك وعامل محمّد بن يحيى ومحمّد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام.
    ولما بويع المتوكل على الله انتزعها من الفاطميين واقطعها عبدالله ابن عمر البازيار وكان فيها احدى عشرة نخلة غرسها رسول الله 9 بيده الكريمة فوجه عبدالله بن عمر البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد ففلج.
    وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه اياها عبدالله بن عمر البازيار.

    هذه المامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط ولا يجمع على قاعدة ، وانّما حاكت اكثره الأهواء ، وصاغته الشهوات على ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية ، وعلى هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة ، وظروف متباعدة حيث توكل فدك إلى أهلها واصحابها الاولين ويلاحظ ان مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبرى بنظر المجتمع الإسلامي وأسياده ، ولذا ترى حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة ، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو أهل البيت مباشرة فهو إذا استقام اتجاهه ، واعتدل رأيه ، رد فدكاً على الفاطميين ، واذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أوّل القائمة من أعمال ذلك الخليفة.
    ويدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنويّة في النظر الإسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي انشأها حينما رد المأمون فدكاً ومطلعها : ـ
    أصبح وجه الزمان قد ضحكا
    برد مأمون هاشم فدكا

    وقد بقيت كلمة بسيطة وهي ان فدكاً لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعا متواضعاً كما يظن البعض ، بل الأمر الذي أطمئن إليه انّها كانت تدر على صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل السنوي منها وان ورد في بعض طرقنا الإرتفاع به إلى أعداد عالية جداً.
    ويدل على مقدار القيمة الماديّة لفدك أمور ـ :
    ( الأول ) : ما سيأتي من انّ عمر منع أبا بكر من ترك فدك للزهراء لضعف المالية العامّة مع احتياجها إلى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة وثورات العصاة.

    ومن الجلي أن أرضاً يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة ، وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابد انّها ذات نتاج عظيم.
    ( الثاني ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك : ان هذا المال لم يكن للنبي 6 وانّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فان تحميل الرجال لا يكون إلا بمال مهم تتقوم به نفقات الجيش.
    ( الثالث ) : ما سبق من تقسيم معاوية فدكاً أثلاثاً ، واعطائه لكل من يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثاً ، فان هذا يدلّ بوضوح على مدى الثروة المجتناة من تلك الأرض ، فانّها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على امراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والاموال الطائلة.
    ( الرابع ) : التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان ، وتقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.


    ـ 3 ـ
    تاريخ الثورة
    قد كان بعدك أنباء وهنبثة
    لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

    أبدت رجال لنا نوى صدورهم
    لما مضيت وحالت دونك الترب

    * * *
    صبت عليّ مصائب لو أنها
    صبت على الأيام صرن لياليا

    قد كنت أرتع تحت ظل محمد
    لا أخشى ضيما وكان جماليا

    واليوم أخضع للذليل واتقي
    ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

    ( الزهراء )

    اذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الأساسية لاقامة بناء تاريخي محكم لقضايا اسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامّة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مدار لبحثه كالحياة الدينية والاخلاقية والسياسية إلى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الإنساني على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات ، وينشئه التعبد والتقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذروة ، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج. لا من قيود لم يستطع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه.
    واما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيراً كان أو شراً ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث

    ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة ، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الاخاذ تاريخ اجيالنا السابقة ، فليس ذلك تاريخاً لاُولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوماً ما وكانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس ، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر ، بل هو ترجمة لاُشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.
    فاذا كنت تريد ان تكون حراً في تفكيرك ، ومؤرخا لدنيا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب ، فضع عواطفك جانباً أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد ، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد ان اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك ان تكون اميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على اسّس صحيحة من التفكير والاستنتاج.
    كثيرة جداً هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح ان يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها وأن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني احياناً حينما يتوسع الباحث في انطباعاته عن الموضوع ، ولكنها صورة باهتة في أكثر الاحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من النشاط والحركة والعمل وسوف تجد فيما يأتي امثلة بمقدار ما يتسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي 6 وتقررت فيه المسألة الأساسية في تاريخ الإسلام على شكل لا يتغير ، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين ..

    كلنا نود ان يكون التاريخ الإسلامي في عصره الأول الزاهر طاهراً كل الطهر ، بريئا مما يخالط الحياة الإنسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى ، فقد كان عصراً مشعاً بالمثاليات الرفيعة ، اذ قام على انشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الاطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله 9 روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم. بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود ، واليه تسير كما كان استاذهم الأكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الإلهي المنبعث من كل صوب وحدب ، وفي كل جهة من جهات الوجود ، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.
    ان عصراً تلغى فيه قيمة الفوارق الماديّة على الاطلاق ، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون ، ومجالات تنفيذه ، ويجعل مدار القيمة المعنويّة ، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله التي هي تطهير روحي ، وصيانة للضمير ، وارتفاع بالنفس إلى آفاق من المثالية الرفيعة ، ويحرم في عرفه احترام الغني لأنّه غني ، واهانة الفقير لأنّه فقير ، ولا يفرق فيه بين الأشخاص إلا بمقدار الطاقة الانتاجية ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ويتسارع فيه إلى الجهاد لصالح النوع الإنساني الذي معناه الغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه الدنيا ، واخراجها عن حساب الاعمال.
    ( أقول ) : ان العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والاعجاب والتقدير ، ولكن ماذا أراني دفعت الى

    التوسع في أمر لم أكن أريد ان أطيل فيه ؟ وليس لي ان افرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع في أمر آخر ، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني إلى ذلك ، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة أنا أفهم هذا جيداً ، واوافق عليه متحمساً ، ولكني لا أفهم ان يمنع عن التعمق في الدرس العلمي ، أو التمحيص التاريخي لموضوع كموضوعات الساعة التي نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن ، أو يحضر علينا ان نبدأ البحث في مسألة فدك على أساس ان أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة ومقاييسها ، أو ان نلاحظ أن قصّة الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن مرتجلة ولا وليدة يومها اذ دلنا على ذلك سير الحوادث حينذاك ، وطبيعة الظروف المحيطة بها.
    واكبر الظن ان كثيراً منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره مذهبا جعله يعتقد ان رجالات الزمن الخالي ، وبتعبير أوضح تحديداً انّ أبا بكر وعمر واضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامّة يومئذ لا يمكن ان يتعرضوا لنقد أو محاكمة ، لأنهم بناة ذلك العصر والواضعون لحياته خطوطها الذهبية ، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر ، وتجريدهم عن شيء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.
    واريد ان اترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادة لبحث طويل ، ولمحة من دراسة مهمة قد اعرض لها في فرصة أخرى من فرص التأليف ، واكتفي الآن ان اتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع.
    صحيح ان الإسلام في أيّام الخليفتين كان مهيمنا ، والفتوحات متصلة والحياة متدفقة بمعاني الخير ، وجميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي الشامل ، واللون القرآني المشع ، ولكن هل يمكن ان نقبل ان التفسير الوحيد لهذا وجود الصديق أو الفاروق على كرسي الحكم ؟.

    والجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع ولكنا نعلم ان المسلمين في أيّام الخليفتين كانوا في اوج تحمسهم لدينهم ، والاستبسال في سبيل عقيدتهم ، حتى أن التاريخ سجل لنا ان شخصاً أجاب عمر حينما صعد يوماً على المنبر وسأل الناس : لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين ؟ ـ اذن كنا نستتيبك فان تبت قبلناك فقال عمر : وان لم ؟ ـ قال : نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من إذا اعوججنا اقام اودنا.
    ونعلم ايضاً ان رجالات الحزب المعارض ـ واعني به أصحاب علي ـ كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة ، وكان أي زلل وانحراف مشوه للون الحكم حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب ، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصراً ، ويوم ولى أقاربه. ويوم عدل عن السيرة النبويّة المثلى ، مع انّ الناس في أيّام عثمان كانوا أقرب إلى الميوعة في الدين واللين والدعة منهم في أيّام صاحبيه.
    ونفهم من هذا ان الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في اسّس السياسة ونقاطها الحساسة لو ارادوا إلى ذلك سبيلا ، لانهم تحت مراقبة النظر الإسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمبادئه ، وجاعلاً لنفسه حق الاشراف على الحكم والحاكمين ، ولأنهم يتعرضون لو فعلوا شيئاً من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي لم يكن يزال يؤمن بان الحكم الإسلامي لابد ان يكون مطبوعاً بطابع محمدي خالص وان الشخص الوحيد الذي يستطيع ان يطبعه بهذا الطابع المقدّس هو علي وارث رسول الله ووصيه وولي المؤمنين من بعده.
    وأما الفتوحات الإسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الأيام ولكننا جميعاً نعلم أيضاً ان ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في ايام

    الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كل شان من شؤون الحرب ومعداته وأساليبه يتهيّأ بعمل أشبه ما يكون بالعمل الاجماعي من الأمة الذي تعبر به عن شخصيتها الكاملة تعبيراً عملياً خالداً ، ولا يعبر عن شخصيّة الحاكم الذي لم يصل إليه من لهيب الحرب شرر ، ولم يستقل فيه برأي ، ولم يتهيّأ له إلا بأمر ليس له فيه أدنى نصيب ، فان خليفة الوقت سواء أكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلم بكلمة الحرب عن قوة حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها بل أعلن عن قوة الكلمة النبويّة التي كانت وعدا قاطعاً بفتح بلاد كسرى وقيصر اهتزت له قلوب المسلمين حماسة واملاً بل ايماناً ويقيناً ، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته إلى مجالات العمل إلا حين ذكر هذا الحديث النبوي ، فقد كان هو والايمان المتركز في القلوب القوة التي هيأت للحرب كل ظروفه وكل رجاله وامكانياته ، وأمر آخر هيأ للمسلمين أسباب الفوز ، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل بحكومة الشورى عن قرب أو بعد ، وهو الصيت الحسن الذي نشره رسول الله للإسلام في آفاق الدنيا ، واطراف المعمورة ، فلم يكن يتوجه المسلمون إلى فتح بلد من البلاد إلا كان امامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم ومبادئهم.
    وفي أمر الفتوحات شيء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيئوا بقية الأمور وهو ما يتلو الفتح من بثّ الروح الإسلامية ، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد المفتوحة ، وتعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معنى وراء الشهادتين ، ولا أدري هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية أو نشك في ذلك كل الشك كما صار إليه بعض الباحثين وكما يدلّ عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الإسلامية

    كانت الظروف كلّها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية المنتجة التي قامت على عهدهما ، وفي بناء الحياة السياسية الخاصة التي اتخذاها.
    ولا أدري ماذا كان موقفهما لو قدر لهما ولعلي ان يتبادلوا ظروفهم فيقف الصديق والفاروق موقف الإمام ويسود في تلك الظروف التي كانت كلّها تشجع على بناء سياسة ، ومنهج لحكم جديد ، وانشاء حياة لها من ألوان الترف ، وضروب النعيم حظ عظيم ، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف كما عاكسها أمير المؤمنين ؟ .. فضرب بنفسه مثلاً في الإخلاص للمبدأ والنزاهة في الحكم.
    وأنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً إلى سيرة رشيدة في الحكم ، واعتدال في السياسة والحياة ، ومرغمين على ذلك ، وانّما اعني انّ الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.
    كما انّي لا أريد ان اجردهما عن كل أثر في التاريخ ، وكيف يسعني شيء من ذلك وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الإسلامي كله ، وانّما عنيت انهما كانا ضعيفي الأثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة وما ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.
    اكتب هذا كله وبين يدي كتاب ( فاطمة والفاطميون ) للأستاذ عباس محمود العقاد ، وقد جئته بشوق بالغ لاُرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء ، وأنا على يقين من ان أيّام التعبد بأعمال السالفين وتصويبها على كل تقدير قد انتهت وان الزمان الذي يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الإنساني ديناً كانت أو مذهباً

    أو تاريخاً أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الإسلام بعد أن طال قروناً ، ولعل الخليفة الأول كان هو أوّل من أعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الإنسانية والقدر وهدده وتوعده ولكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيئ إلى روح الإسلام واذن فكان لي ان اتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الأستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فإذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة وقصيرة جداً وإلى حد استبيح لنفسي أن أنقلها واعرضها عليك دون ان أطيل عليك فقد قال :
    ( والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه غير انّ الصدق فيه لا مراء انّ الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحقّ وانّ الصديق أجلّ من ان يسلبها حقّها الذي تقوم به البيّنة عليه ، ومن اسخف ما قيل انّه انّما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة إليه فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع ان أحداً بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شيء من هذا في اشاعة ولا في خبر يقين وما نعلم تزكية لذمّة الحكم من عهد الخليفة الأول أوضح بيّنة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادعاه عليه مدع وانّما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ اقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم أجمعين انتهى ).
    ونلاحظ قبل كل شيء أنّ الأستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار ولا يصل الحديث فيه إلى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها ، واعتقد ان في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا ، وتلاحظ أيضاً.

    أنّه بعد أن جعل مسألة فدك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه رأى انّ فيها حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال ( أحداهما ) انّ الصديقة أرفع من ان تنالها تهمة بكذب والأخرى انّ الصديق أجل من ان يسلبها حقّها الذي تثبته البيّنة. فإذا لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال ففيم الجدال الذي لا قرار له ولم لا تنتهي مسألة فدك إلى مقطع للقول متفق عليه.
    وأنا أفهم انّ للكاتب الحرية في ان يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارئ مدارك ذلك الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلّها في الحساب ليخرج منها بتقدير معين ولكني لا أفهم ان يقول انّ المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي إلا برأي مجرد عن المدارك يحتاج إلى كثير من الشرح والتوضيح وإلى كثير من البحث والنظر فإذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها إلى البيّنة ؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الإسلام عن ان يحكم العالم استناداً إلى علمه ؟ واذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك ؟ هذه أسئلة ومعها أسئلة أخرى أيضاً في المسألة تتطلب جواباً علمياً ، وبحثاً على ضوء أساليب الإستنباط في الإسلام.
    واريد ان أكون حراً واذن فاني استميح الأستاذ ان الاحظ ان تزكية موقف الخليفة والصديقة معاً أمر غير ممكن ، لأنّ الأمر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه وانتهاء المطالبة إلى هذا الحد لوسعنا ان نقول انّ الزهراء طلبت حقّها في نفس الأمر والواقع ، وانّ الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ

    المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها ، لأنّها عرفت انّها لا تستحق فدكاً بحسب النظام القضائي وسنن الشرع ، ولكننا نعلم انّ الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بلغت مبلغ الإتّهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.
    واذن فنحن بين اثنتين : احداهما ان نعترف بأن الزهراء قد ادعت بإصرار ما ليس لها بحقّ في عرف القضاء الإسلامي والنظام الشرعي وان كان ملكها في واقع الأمر ، والأخرى ان نلقي التبعة على الخليفة ونقول انّه قد منعها حقّها الذي كان يجب عليه ان يعطيها إيّاه أو يحكم لها بذلك على فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية ، فتنزيه الزهراء عن ان تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع والإرتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقّها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان إلا إذا توافق النقيضان.
    ولنترك هذا إلى مناقشة أخرى ، فقد اعتبر الأستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بيّنة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن حدود الشريعة لأنّه لو أعطى فدكاً لفاطمة لارضاها بذلك وارضى الصحابة برضاها ، ولنفترض معه انّ حدود القانون الإسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأنّ فدكاً صدقة ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الأستاذ بأنّهم يرضون بذلك ؟ .. أكان هذا محرماً في عرف الدين أيضاً ؟ أو أنّ أمراً ما أوحى إليه بأن لا يفعل ذلك ؟ بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته وعداً قاطعاً بأن تصرّف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامّة ؟
    وأمّا ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما إذا كان سخيفاً حقاً.

    اذا عرفنا ان مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً ولا جدالاً ، وأن درس مسائل السالفين ليس كفراً ولا زندقة ولا تشكيكاً في أعلام النبوّة كما كانوا يقولون ، فلنا ان نتساءل عمّا بعث الصديقة إلى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف أو لم يشأ ان يعرف هيبة للسلطة المهيمنة أو جلالاً للقوة المتصرفة يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد ، وشررها المتطاير ، وبقي الحكم من اشعاعة نور متألقة تلقي ضوءاً عليه ، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار بل كانت بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الأخير ، ويومها الأخير ، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات ونتائج ، ولا تتعرض لضعف أو تردد.
    وما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة ، أو بالاحرى هدف الخليفة 2 نفسه في ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط أو لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أولياته ثم يذكر بينها خصومة أهل البيت ، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه وموقفه السلبي بل الإيجابي المعاكس أو انّه كان منقاداً للقانون ، وملتزماً بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون ، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل وان لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة ، واعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض أو اجتماع الغرضين على نقطة واحدة ، وبالاحرى ان تقوم على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبي 6 فيها آمال بواسم ، وموجات من الاحلام ضحك لها الخليفة كثيراً وسعى في سبيلها كثيراً أيضاً.
    اننا ندرك بوضوح ، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الأكبر قد توفرت له

    كل بواعث الثورة على الأوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الأمر.
    واننا نحسن أيضاً إذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عمّا تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.
    واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الإسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الأولى إلى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح إلى النقطة المستعدة في طبيعتها إلى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.
    أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الأول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.
    والآخر موقف ينعكس فيه الأمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.
    وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده إلى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري إلى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان

    الزهراء فشلت بعد ان جعلت الخليفة يبكي ويقول اقيلوني بيعتي والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنى انّها لم تخرج إلى حرب ولم تشق عصا طاعة.
    هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والاشخاص فلماذا لا تنتهيان إلى اسباب متقاربة وبواعث متشابهة.
    ونحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع إلى الايام الأولى في حياة علي وعائشة حينما كان المنافسة على قلب رسول الله 6 بين زوجته وبضعته.
    ومن شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتثبت مشاعراً مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الأنصار والاصدقاء ، وقد اتسعت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي فلابد ان تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل ام المؤمنين على حسابه في بيت النبي.
    نعم ان انقلاب ام المؤمنين انّما هو من وحي ذكريات تلك الأيام التي نصح فيها علي لرسول الله 9 بأن يطلقها في قصّة الافك المعروفة.
    وهذا النصح ان دل على شيء فانه يدلّ على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته وعلى ان الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل علياً وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة واطوارها.
    نعرف من هذا ان الظروف كانت توحي إلى الخليفة الأول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء ولا ننسى انّه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله 6 ثم تقدم علي إلى ذلك فأجابه

    النبي إلى ما أراد وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة إذا كان شخصاً طبيعياً يشعر بما يشعر به الناس ويحس كما يحسون شعوراً بالخيبة والغبطة لعلي ـ إذا احتطنا في التعبير ـ وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه.
    ولنلاحظ أيضاً انّ أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله 9 ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء إلا لأن الوحي شاء ان يضع امامه مرة أخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.
    ولابد انّه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الاولية لدى رسول الله 6 ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الابناء.
    وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الاوقات انّ فاطمة هي التي دفعت بأبيها إلى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له ام المؤمنين التي كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً.
    انّ التاريخ لا يمكننا ان نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الأمر الذي تجمع عليه الدلائل انّ من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف وان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيّام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها ان لا تسكت إذا أراد المنافسون ان يستولوا على حقّها الشرعي الذي لا ريب فيه.

    هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة الوان أوضحها وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.
    وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء. وانّما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والاشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة ويهدف إلى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل امة انقلبت على اعقابها.
    وعلى هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز إلى المعنى العظيم ولا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة. وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في افقها محدودة في دائرتها إلى ثورة واسعة النطاق رحيبة الأفق.
    ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة ، فهل ترى نزاعاً مادياً ؟ أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا ؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.
    كلا !. بل هي الثورة على اسّس الحكم والصرخة التي أرادت فاطمة ان تقتلع بها الحجر الأساسي الذي بنى عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.
    ويكفينا لاثبات ذلك ان نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد امام الخليفة وبين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين والأنصار فانّها دارت اكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه الخالدة

    في الإسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه وورثة انبيائه في الخلافة والحكم والفات المسلمين إلى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل وانقلابهم على اعقابهم ، وورودهم غير شربهم ، واسنادهم الأمر إلى غير أهله ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والامامة.
    فالمسألة اذن ليست مسألة ميراث ونحلة إلا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا ، وليست مطالبة بعقار أو دار ، بل هي في نظر الزهراء مسألة اسلام وكفر ، ومسألة ايمان ونفاق ، ومسألة نص وشورى.
    وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ، اذ قالت فيما قالت : أين زحزحوها عن رواسي الرسالة. وقواعد النبوّة ، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين إلا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافؤا عن زمام نبذه إليه رسول الله (ص) لاعتلقه وسار اليهم سيراً سجحا لا تكلّم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح فضفاضه ، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، إلا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وان تعجب فقد اعجبك الحادث إلى أي لجأ استندوا وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلاً استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انّهم يحسنون صنعاً ، إلا انّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أفمن

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:43 am

    يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون.
    ولم يؤثر عن نساء النبي 9 انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا ، وأقرب إلى ذوق أبيها في الحياة ؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته ؟ أو أن الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة ، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن اوضاع الحكم.
    وأكبر الظن انّ الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها ، وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي وتكتمل بذلك البيّنة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث ، بل القضاء على نتائج السقيفة وهو لا يحصل باقامة البيّنة في موضوع فدك ، بل بان تقدم البيّنة لدى الناس جيمعاً على انّهم ضلوا سواء السبيل. وهذا ما كانت تريد ان تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.
    ولنستمع إلى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت من المسجد فصعد المنبر وقال : أيّها الناس ما هذه الدعة إلى كل قالة لأن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله 9 إلا من سمع فليقل. ومن شهد فليتكلم انّما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة كام طحال أحبّ اهلها إليها البغي. إلا انّي لو اشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت انّي ساكت ما تركت ، ثم التفت إلى الأنصار وقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم واحق من لزم عهد رسول الله 9 انتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، إلا انّي لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك.

    وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصيّة الخليفة ، ويلقي ضوءاً على منازعة الزهراء له ، والذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة وانطباعات الخليفة عنها ، فانّه فهم حق الفهم انّ احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وانّما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم وتظلماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الإسلام ، فلم يتكلم إلا عن علي فوصفه بأنّه ثعالة وانّه مرب لكل فتنة وانّه كام طحال وان فاطمة ذنبه التابع له ، ولم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.
    ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من انّ علياً والعباس كانا يتنازعان في فدك في أيّام عمر بن الخطاب فكان علي يقول انّ رسول الله 9 جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك رسول الله وأنا وارثه ويتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول انتما أعرف بشأنكما اما أنا فقد سلمتها اليكما.
    فقد نفهم من هذا الحديث إذا كان صحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً وانّ موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة وإلا فلما أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا وسلم فدكاً إلى العباس وعلي وموقفه منهما يدلّ على انّه سلم فدكاً اليهما على أساس انّها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل ، اذ لو كان على هذا الوجه لما صحّ لعلي والعباس ان يتنازعا في أن فدكاً هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة أو تركة من تركاته التي يستحقها ورثته وما أثر هذا النزاع ولو فرض انّها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه ، ولفض عمر النزاع وعرفها انّه لا يرى فدكاً مالاً موروثاً ولا من املاك فاطمة وانّما اوكل أمرها اليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها كما ان عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه انّه لم يكن واثقاً بنحلة رسول

    الله 9 فدكاً لفاطمة فليس من وجه لتسليمها إلى علي والعباس إلا الإرث.
    واذن ففي المسألة تقديران ( أحدهما ) انّ عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الإرث ( والآخر ) انّه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر تأويله ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك ، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر وإلا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث إذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم ، يومئذ ، ولماذا يخفي تأويله وتفسيره ، وهو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي أو الخليفة الأول فيما اعترضهما من مسائل.
    واذا عرفنا انّ الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه ، لأن الناس لم يعتادوا ان يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو في تسليم المواريث إلى أهلها ، فلم تكن فاطمة في حاجة إلى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لابد انّها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم والاستيلاء عليها.
    ( أقول ) : إذا عرفنا هذا وانّ الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل ان تنتزع منها : ـ تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على أسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ واتهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.
    * * *
    واذا أردنا ان نفهم المنازعة في اشكالها واسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها وتأثيرها كان لزاماً علينا ان نعرض تلك الظروف عرضاً

    مستعجلاً ونسجل صورة واضحة الألوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.
    ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الأول بذلك إلا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلوّن السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة ونزعها لشكلها الأول الذي يستمد قوته وسلطته من السماء.
    فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة نقطة التحول في تأريخ الإسلام التي وضعت حداً لأفضل العهود وأعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.
    وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الأخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت اقدس اداة وصل بين السماء والارض وابركها وأفيضها خيراً ونعمة واجودها صقلاً للانسانية اذ لفظ سيد البشر نفسه الأخير وطارت روحه إلى الرفيق الأعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس إلى بيت النبوّة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوّة التي كانت مفتاح مجد الأمة وسر عظمتها واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر وترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوّة وجلال النبي العظيم وقد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء وأبر الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به الإنسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوا ما يستيقظ عليه نائم.
    وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية ، والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة ، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن انّ رسول الله (ص)

    لم يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ممن ارجف بموته : لا أسمع رجلاً يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.
    والتفت الأنظار إلى مصدر الصوت ليعرفوا القائل فوجدوا عمر ابن الخطاب قد وقف خطيباً بين الناس وهو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعاً وشاعت الحياة في الناس من جديد فتكلموا وتحدثوا في كلام عمر والتف بعضهم حوله.
    واكبر الظن ان قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب وحاول جماعة منهم ان يجادلوه في رأيه ولكنه بقي شديداً في قوله ثابتاً عليه والناس يتكاثرون حوله ويتكلّمون في شأنه ويعجبون لحاله حتى جاء أبو بكر وكان حين توفي النبي في منزله بالسنح والتفت إلى الناس وقال من كان يعبد محمداً فانه قد مات ومن كان يعبدالله فانه حي لا يموت قال الله تعالى ( انك ميت وانهم ميتون ) وقال ( أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ) ولما سمع عمر ذلك اذعن واعترف بموت رسول الله (ص) وقال كأني ما سمعتها ـ يعني الآية.
    ونحن لا نرى في هذه القصّة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة كان بطل ذلك الظرف العجيب. والرجل الذي تهيّأت له معدات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر لأن المسألة ليست من الأهميّة بهذا الحد ولم يحدثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر لعمر في رأيه فلم يكن إلا رأياً شخصياً لا خطر له ولا شأن للقضاء عليه.
    وقد يكون من حق البحث ان الاحظ ان شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجهه إلى الناس كان شرحاً باهتاً في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شيء ، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبرى على ان قال انّ من كان يعبد محمداً فانّ محمداً قد مات
    وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر إذا كان يريد ان يقدم في نفسه زعيماً لتلك الساعة تأبيناً للفقيد الأعظم يتّفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات والحسرات يومئذ.
    ومن الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمداً فانه قد مات وهل كان في كلام عمر معنى يدلّ على انّه كان يعبد رسول الله (ص) أو كانت قد سرت موجة من الارتداد والالحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته وصبره وتماسكه من عقيدته حتى يعلن لهم ان الدين ليس محدوداً بحياة رسول الله لأنّه ليس بالاله المعبود.
    اذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم ولا علاقة برأي عمر ولا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم وشؤونهم وقد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.
    وكان يعاصر هذا الإجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للانصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ودعاهم فيه إلى اعطائه الرئاسة والخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فان أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد فهذا أوّل الوهن وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله 9 وفيه أبو بكر فارسل إليه ان اخرج اليّ فارسل انّي مشغول فارسل إليه عمر ان اخرج فقد حدث أمر لابد ان تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله 9 وأنهم أولياؤه وعترته ، ثم قال نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة ولا نقضي دونكم الأمور ، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فانّ الناس في ظلكم ولن

    يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة وأولوا العدد والكثرة وذووا البأس والنجدة وانّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فان أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ولا تمتنع العرب ان تولي أمرها من كانت النبوّة منهم من ينازعنا سلطان محمّد ونحن اولياؤه وعشيرته ، فقال الحباب بن منذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فان أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وانتم أحقّ بهذا الأمر منهم فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الأسد والله ان شئتم لنعيدها جذعة فقال عمر اذن يقتلك الله ، قال بل إيّاك يقتل فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار انكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدل وغير ، فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار الا أنّ محمداً من قريش وقومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر فقال أبو بكر هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله (ص) في الصلاة وهي أفضل الدين أبسط يدك فلما بسط يده ليبايعان سبقهما بشير من سعد فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق أنفست على ابن عمك الامارة ، فقال أسيد ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً ، وبايعوا أبا بكر واقبل الناس يبايعونه من كل جانب (1).
    ونلاحظ في هذه القصّة انّ عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة
    __________________
    (1) الجزء الأول من شرح النهج ص 127 ـ 128.

    واجتماع الأنصار فيها واخبر ابا بكر بذلك ومادمنا نعلم ان الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلابد انّه ترك البيت النبوي بعد ان جاء أبو بكر واقنعه بوفاة النبي فلماذا ترك البيت ولما اختصّ أبا بكر بنبأ السقيفة إلى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً معقولاً أولى من ان يكون في الأمر اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.
    الاول : تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق واصراره على استدعائه بعد اعتذاره بأنّه مشغول حتى اشار إلى الغرض ولمح إليه خرج مسرعاً وذهبا على عجل إلى السقيفة ، وكان من الممكن ان يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجييء ، فهذا الحرص لا يمكن ان نفسره بالصداقة التي كانت بينهما ، لأنّ المسألة لم تكن مسألة صداقة ولم يكن أمر منازعة الأنصار يتوقف على أن يجد عمر صديقاً له بل على أن يستعين بمن يوافقه في أحقيّة المهاجرين أياً كان.
    ولا ننسى ان نلاحظ انّه أرسل رسولاً إلى أبي بكر ، ولم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت تسامع الهاشميين أو غير الهاشميين به وقد طلب من الرسول في المرة الثانية ان يخبره بحدوث أمر لابد ان يحضره ونحن لا نرى حضور أبي بكر لازماً في ذلك الموضوع إلا إذا كانت المسألة مسألة خاصة وكان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقاً.
    الثاني : موقف عمر من مسألة وفاة النبي (ص) وادعاؤه انّه لم يمت ولا يستقيم في تفسيره ان نقول انّ عمر ارتبك في ساعة الفاجعة وفقد صوابه وادّعى ما ادّعى. لأنّ حياة عمر كلّها تدل على انّه ليس من هذا الطراز وخصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصّة مباشرة

    فالذي تؤثر المصيبة عليه إلى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج ويجادل ويقاوم ويناضل.
    ونحن نعلم أيضاً انّ عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بأيام أو بساعات حينما اشتدّ برسول الله (ص) المرض واراد ان يكتب كتاباً لا يضلّ الناس بعده فعارضه عمر وقال ان كتاب الله يكفينا وانّ النبي يهجر أو قد غلب عليه الوجع كما في صحاح السنة فكان يؤمن بأن رسول الله يموت وانّ مرضه قد يؤدّي إلى موته وإلا لما اعترض عليه.
    وقد جاء في تاريخ ابن كثير انّ عمر بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبو بكر على عمر قبل ان يتلوها أبو بكر فلم يقتنع عمر وانّما قبل كلام أبي بكر خاصة واقتنع به.
    فما يكون تفسير هذا كله إذا لم يكن تفسيره انّ عمر شاء ان يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا إليها وتتجه الأفكار نحوها تفنيداً أو تأييداً مادام أبو بكر غائباً لئلا يتم في أمر الخلافة شيء ويحدث أمر لابد ان يحضره أبو بكر ـ على حد تعبيره ـ وبعد ان أقبل أبو بكر اطمأن باله وامن من تمام البيعة للبيت الهاشمي مادام للمعارضة صوت في الميدان وانصرف إلى تلقط الأخبار حادساً بما سيقع فظفر بخبر ما كان يتوقعه.
    الثالث : شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة ، فقد تولّى أبو بكر الخلافة وأبو عبيدة المال وعمر القضاء (1) وفي مصطلحنا اليوم ان الأول تولّى السياسة العليا والثاني تولّى السياسة الاقتصادية والثالث تولّى السلطات القضائية وهي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم
    __________________
    (1) راجع الجزء الثاني من تاريخ ابن الأثير صفحة 161.

    الإسلامي وتقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الإسلامية يومئذ بهذا الأسلوب على الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأني بالصدفة على الأكثر ولا يكون مرتجلا.
    الرابع : قول عمر حين حضرته الوفاة لو كان أبو عبيدة حياً لوليته (1).
    وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمني لأنّه كان يعتقد أهلية علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حياً وميتاً (2).
    وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي 6 بها ـ بزعم الفاروق ـ هي السبب في ذلك ، لأنّ النبي 6 لم يخصه بالاطراء ، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر بأكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي كما تقرر ذلك صحاح السنة والشيعة.
    الخامس : إتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية ، كما سنرى في الفصل الآتي.
    السادس : قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ للفاروق 2 : احلب يا عمر حلباً لك شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (3).
    ومن الواضح انّه يلمح إلى تفاهم بين الشخصين على المعونة المتبادلة واتفاق سابق على خطة معينة وإلا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتسع لتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطراّ من الحلب.
    __________________
    (1) شرح النهج ج 1 ص 64.
    (2) الانساب للبلاذري ج 5 ص 16.
    (3) ج 2 ص 5 من شرح النهج.

    السابع : ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى محمّد بن أبي بكر ( رضوان الله عليه ) في إتهام أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي والتنظيم السري لخطوط الحملة على الإمام اذ قال له فيما قال : فقد كنا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا فلما اختار الله لنبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده واتم وعده وأظهر دعوته فابلج حجته وقبضه إليه ( صلوات الله عليه ) كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزه حقه وخالفه على أمره على ذلك اتفقا واتسقا ثم انهما دعواه إلى بيعتهما فابطا عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأراد به العظيم (1).
    ونحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر وعمر (رض) للبيعة من الإمام بثم على كلمتي اتفقا واتسقا. وهو قد يشعر بأن الحركة كانت منظمه بتنظيم سابق وانّ الإتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقاً على الإيجابيات السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.
    ولا أريد أن أتوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا ولكن هل لي أن الاحظ على ضوء ذلك التقدير التاريخي ان الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوره كثير من الباحثين بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلاً على تطلعه للأمر فإنه بعد أن أعلن الشروط الأساسية للخليفة شاء ان يحصر المسألة فيه فتوصل إلى ذلك بأن ردد الأمر بين صاحبيه الذين لن يتقدما عليه وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد ان يتعين وحده للأمر.
    فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة إلى تطبيق تلك الصورة التي قدمها للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدّي إلا إليه كان معناه انّه أراد أن يسلب الخلافة من الأنصار ويقرها في شخصه في آن واحد ولذا لم يبد تردداً أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر
    __________________
    (1) مروج الذهب ج 2 ص 315.

    عليه صاحباه وعمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنّه كان مداوراً سياسياً بارعاً في يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنّه أحسد قريش (1).
    ونجد فيما يروي عن الخليفتين في أيّام رسول الله (ص) ما يدلّ على هوى سياسي في نفسيتهما وانهما كانا يفكران في شيء على أقل تقدير فقد ورد في طرق العامّة انّ رسول الله (ص) قال : ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا هو يا رسول الله قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله ، قال : لا ولكن خاصف النعل يعني علياً.
    والمقاتلة على التأويل انّما تكون بعد وفاة رسول الله 6 والمقاتل لابد أن يكون أمير الناس فتلهف كل من أبي بكر وعمر على أن يكون المقاتل على التأويل مع انّ القتال على التنزيل كان متيسراً لهما في أيّام رسول الله (ص) ولم يشاركا فيه بنصيب قد يدلّ على ذلك الجانب الذي نحاول ان نستكشفه في شخصيتهما.
    بل أريد ان اذهب أكثر من هذا فألاحظ ان أناساً متعددين كانوا يعملون في صالح أبي بكر وعمر (2) وفي مقدمتهما عائشة وحفصة اللتان اسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله 6 حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على
    __________________
    (1) راجع شرح النهج ج 1 ص 125.
    (2) وقد سئل النبي 9 عندما هدّد طائفة من قريش برجل قرشي امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابهم على الدين ان ذلك الرجل هل هو ابو بكر فقال لا فقيل فعمر قال لا الخ ، راجع مسند أحمد ج 3 ص 33 والرواية تهمل اسم السائل الذي توهم ان الشخص الذي وصفه النبي 9 هو أبو بكر أو عمر واذا لم يكن أبو بكر وعمر معروفين بشجاعة وبسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله 9 فلابد أن أمرا آخر دعى السائل إلى ان يسأل ذينك السؤالين والبقية اتركها لك.

    انها الظرف الطبيعي للوصية ولابد انهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول انّ بعض نساء النبي ارسلن رسولا إلى اسامة لتأخيره عن السفر (1) فإذا علمنا هذا وعلمنا ان هذا لم يكن باذن النبي 6 وإلا لما أمره بالاسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك وان سفره مع من معه كان يعيق عن تحقق النتائج التي انتجها يوم السقيفة خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على أسلوب طبيعي يعزر ما ذهبنا إليه من رأي.
    ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله 6 من تجنيد جيش اسامة معروف وهو انّه احس بأنّ اتفاقاً ما بين جملة من أصحابه على أمر معين ، وقد يجعل هذا الإتفاق منهم جبهة معارضة لعلي.
    ونحن ان شككنا في هذا فلا نشك في أن النبي 6 قد جعل أبا بكر وعلياً في كفتي الميزان مراراً امام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم انهما لا يستويان في الميزان العادل وإلا فهل ترى اعفاء أبي بكر من قراءة التوبة على الكافرين بعد ان كلف بذلك امراً طبيعياً ولماذا انتظر الوحي وصول الصديق إلى منتصف الطريق لينزل على رسول الله 6 ويأمره باسترجاعه وارسال علي للقيام بالمهة أفكان عبثاً أو غفلة أو امراً ثالثاً وهو انّ رسول الله 6 أحس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه ووصيه هو أبو بكر فشاء وشاء له ربّه تعالى أن يرسل ابا بكر ثم يرجعه بعد ان يتسامع الناس جميعاً بارساله ليرسل علياً الذي هو كنفسه ليوضح للمسلمين مدى الفرق بين الشخصين وقيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه الله على تبليغ سورة إلى جماعة فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة.
    __________________
    (1) راجع الجزء الأول من شرح النهج ص 53.

    اذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع ان نختصره بنتيجتين : الأولى : ان الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها بشغف ولهفة.
    الثانية انّ الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزباً سياسياً مهما لا نستطيع ان نضع له صورة واضحة الخطوط ، ولكنا نستطيع ان نؤكد وجوده بدلائل متعددة ، ولا ارى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من مقامهم ، ولا بأس عليهم ان يفكروا في أمور الخلافة ويتفقوا فيها على سياسة موحدة إذا لم يكن لرسول الله 6 نص في الموضوع ولا يبرؤهم إذا كان النصّ ثابتاً بعدهم عن الهوى السياسي وارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة من المسؤولية أمام الله وفي حكم الضمير.
    * * *
    لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وشرح ما يدلّ عليه من نفسية المجتمع الإسلامي ومزاجه السياسي وتطبيق قصّة السقيفة على الأصول العميقة في الطبيعة العربية ، فان ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع وانّما أريد ان ألاحظ ان الحزب الثلاثي الذي قدر له ان يلي الأمور يومئذ كان له معارضون على ثلاثة اقسام :
    الأول : ـ الأنصار الذين نازعوا الخليفة وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ووقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية وانشقاق الأنصار على انفسهم لتمكن النزعة القبلية من نفوسهم.

    الثاني : ـ الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب ويسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان.
    الثالث : ـ الهاشميون واخصاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم وجماعات من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول الله 6 بحكم الفطرة ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.
    واشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الأول في سقيفة بني ساعدة وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عمّا زعموا من حقوق على نقطة كانت ذات وجاهة في نظر كثير من الناس فان قريشاً ما دامت عشيرة رسول الله 6 وخاصته فهي أولى به من سائر المسلمين وأحق بخلافته وسلطانه.
    وقد انتفع أبو بكر وحزبه باجتماع الأنصار في السقيفة من ناحيتين :
    ( الأولى ) ان الأنصار سجلوا على انفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك إلى صف علي ويخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما سنوضحه قريباً.
    ( الثانية ) انّ أبا بكر الذي خدمته الظروف فاقامت منه المدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الأنصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق بمصالحه من ظرف السقيفة اذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في ذلك اليوم.
    وخرج أبو بكر من السقيفة خليفة وقد بايعه جمع من المسلمين الذين اخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة أو عز عليهم ان يتولاها سعد بن عبادة.

    ولم يعبأ الحاكمون بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (ص) لجباية الأموال لعلمهم بطبيعة النفس الأموية وشهواتها السياسية والمادية فكان من السهل كسب الأمويين إلى جانب الحكم القائم كما صنع أبو بكر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصح كما تدل الرواية (1) أن يدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم (2) ثم جعل للأمويين بعد ذلك حظاً من العمل الحكومي في عدة من المرافق الهامة.
    وهكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين ولكن هذا النجاح جره إلى تناقض سياسي واضح لأن ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين إلى أن يجعلوا للقرابة من رسول الله (ص) حساباً في مسألة الخلافة ويقروا مذهب الوراثة للزعامة الدينية غير ان الحال تبدلت بعد موقف السقيفة والمعارضة اتخذت لها لوناً جديداً وواضحاً كل الوضوح يتلخص في أن قريشاً إذا كانت أولى برسول الله 6 من سائر العرب لأنّه منها فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش.
    وهذا ما أعلنه علي حين قال : إذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله (ص) كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة فان فلجت حجتهم كانت لنا دونهم وإلا فالأنصار على دعوتهم ، واوضحه العباس لابي بكر في حديث له معه اذ قال له : وأما قولك نحن شجرة رسول الله 9 فانكم جيرانها ونحن أغصانها.
    __________________
    (1) راجع شرح النهج الجزء الأول ص 130.
    (2) قد نستطيع ان نجيب على ضوء هذه القصّة عمّا عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قدر لهما أن يقفا موقف علي الذي كان يفرض عليه ان يغري كثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال والجاه.

    وقد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين لأنّ ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من العمل الإيجابي ضد الحكومة القائمة : ـ
    ( احدهما ) ضم الاحزاب الماديّة إلى جانبه كالأمويين والمغيرة بن شعبة وأمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع ويفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان كما نعرف ذلك من كلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله إلى المدينة وحديثه مع علي وتحريضه له على الثورة وميله إلى جانب الخليفة وسكوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين التي كان قد جباها في سفره وموقف عتاب بن أسيد الذي سنشير إلى سره في هذا الفصل.
    واذن فقد كان الهوى المادي مستولياً على جماعة من الناس يومئذ.
    ومن الواضح انّ علياً كان يتمكن من اشباع رغبتهم بما خلفه رسول الله 6 من الخمس وغلات أراضيه في المدينة وفدك التي كانت ذات نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق.
    والطور الآخر من المقاومة التي كان علي مزوداً بامكانياتها ما لمح إليه بقوله : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ، وأعني بذلك أن الفكرة العامّة يومئذ التي اجمعت على تقديس أهل البيت والاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول الله 6 كانت سنداً قوياً للمعارضة.
    وقد رأى الحزب الحاكم ان موقفه المادي حرج جداً لأنّ اطراف المملكة التي تجبى منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد إلا إذا استقرت دعائمه في العاصمة والمدينة بعد لم تخضع له خضوعاً اجماعياً.
    ولئن كان أبو سفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحكومة فمن الممكن أن يفسخ المعاملة إذا عرض عليه شخص آخر اتفاقاً أكثر منها

    ربحاً وهذا ما كان يستطيع علي أن يقوم به في كل حين فيجب والحالة هذه أن تنتزع من علي الذي لم يكن مستعداً للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي صارت مصادر من مصادر الخطر على مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء الأنصار على نصرتهم وعدم قدرة المعارضين على انشاء حزب من أصحاب المطامع والأهواء يومذاك.
    ولا يجوز ان نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقاً على طبيعة السياسة التي لابد من انتاجها. وما دمنا نعلم انّ الصديق اشترى صوت الحزب الأموي بالمال فتنازل لأبي سفيان عن جميع من كان عنده من أموال المسلمين وبالجاه أيضاً اذ ولى ابن أبي سفيان فقد جاء انّ أبا بكر لما استخلف قال أبو سفيان مالنا ولأبي فصيل انّما هي بنو عبدمناف فقيل له انّه قد ولى ابنك قال : وصلته رحم (1).
    فلا غرابة في ان ينتزع من أهل البيت اموالهم المهمة ليركز بذلك حكومته أو أن يخشى من علي (ع) ان يصرف حاصلات فدك وغير فدك على الدعوة إلى نفسه.
    وكيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق وهو الذي قد اتخذ المال وسيلة من وسائل الاغراء واكتساب الأصوات حتى اتهمته بذلك معاصرة له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد انّ الناس لما اجتمعوا على أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت : ما هذا ؟ قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت : اتراشوني عن ديني والله لا اقبل منه شيئاً فردته عليه (2).
    __________________
    (1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 202.
    (2) شرح النهج ج 1 ص 133.

    وأنا لا أدري من اين جاء إلى الخليفة ( رضي الله تعالى عنه ) هذا المال ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه وحدها ان لم يكن من بقية الأموال التي خلفها النبي 6 وكان أهل البيت يطالبون بها.
    وسواء أصح هذا التقدير أو لا فانّ المعنى الذي نحاول فهمه من هذه الرواية هو انّ بعض معاصري الصديق احس بما نحس به على ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلك الأيام.
    ولا ننس ان نلاحظ ان الظروف الاقتصادية العامّة كانت تدعو إلى الإرتفاع بمالية الدولة والاهتمام باكثارها استعداداً للطوارئ المترقبة فلعل هذا حدى بالحاكمين إلى انتزاع فدك كما يتبين ذلك بوضوح من حديث لعمر مع أبي بكر يمنعه فيه عن تسليم فدك إلى الزهراء ويعلل ذلك بانّ الدولة في حاجة إلى المال لانفاقه في توطيد الحكم وتأديب العصاة والقضاء على الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدون.
    ويظهر من هذا رأي للخليفتين في الملكية الفردية هو انّ للخليفة الحق في مصادرة أموال الناس لانفاقها في امور المملكة وشؤون الدولة العامّة بلاتعويض ولا استئذان فليس للفرد ملكية مستقرة لأمواله وعقاره في حال احتياج السلطات إلى شيء منها وقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الخلفاء الذين انتهى اليهم الأمر بعد أبي بكر وعمر فامتلأ تأريخهم بالمصادرات التي كانوا يقومون بها غير انّ أبا بكر لم يطبق هذا الرأي إلا في املاك بنت النبي 6 خاصة.
    وقد تردد الحزب الحاكم في معالجة الأسلوب الثاني من المعارضة بين اثنتين : ـ
    « احداهما » : أن لا يقرّ للقرابة بشأن في الموضوع ومعنى هذا انّه ينزع عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي البسها اياه.

    « والأخرى » : ان يناقض نفسه فيضل ثابتاً على مبادئه التي اعلنها في السقيفة ولا يرى حقاً للهاشميين ولا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال أو يراه لهم ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة فيه مقابلة حكم قائم ووضع تعاقد عليه الناس.
    واختارت الفئة المسيطرة ان تثبت على آرائها التي روّجتها في مؤتمر الأنصار وتعترض على المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست إلا احداثاً للفتنة المحرمة في عرف الإسلام.
    وهذا هو الأسلوب الوقتي الذي اتخذه الحاكمون للقضاء على هذا الجانب من المعارضة الهاشمية وقد ساعدتهم الظروف الإسلامية الخاصة يومئذ على نجاحه كما سنوضحه.
    غير اننا نحس ونحن ندرس سياسة الحاكمين بأنّهم انتهجوا منذ اللحظة الأولى سياسة معينة تجاه آل محمّد 6 للقضاء على الفكرة التي امدت الهاشميين بقوة على المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها ونستطيع ان نصف هذه السياسة بانها تهدف إلى الغاء امتياز البيت الهاشمي وابعاد انصاره والمخلصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الإسلامية يومئذ وتجريده عمّا له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الإسلامية.
    وقد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية :
    الاولى : سيرة الخليفة وأصحابه مع علي التي بلغت من الشدة انّ عمر هدّد بحرق بيته وان كانت فاطمة فيه ، ومعنى هذا اعلان انّ فاطمة وغير فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله ومن صور ذلك العنف وصف الخليفة لعلي بأنّه مرب لكل فتنة وتشبيهه

    له بام طحال أحبّ إلى أهلها إليها البغي وقد قال عمر لعلي بكل وضوح انّ رسول الله (ص) منا ومنكم.
    « الثاني » : ان الخليفة الأول لم يشارك شخصاً من الهاشميين في شأن من شؤون الحكم المهمة ولا جعل فيهم والياً على شبر من المملكة الإسلامية الواسعة مع أنّ نصيب الأمويين في ذلك كان عظيماً.
    وأنت تفهم بوضوح ان هذا وليد سياسة متعمدة من محاورة وقعت بين عمر وابن عباس أظهر فيها تخوفه من تولية الثاني حمص لأنّه يخشى إذا صار الهاشميون ولاة على أقطار المملكة الإسلامية أن يموت وهم كذلك فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد (1).
    ونحن إذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيت من البيوت الطامحة إلى السلطان بالولاية في الاقطار الإسلامية يهيؤهم لنيل الخلافة والمركز الأعلى ولاحظنا ان الأمويين ذوي الألوان السياسية الواضحة كان فيهم ولاة احتلوا الصدارة في المجالات الأدارية أيّام أبي بكر وعمر وأضفنا إلى ذلك انّه كان يعلم على أقل تقدير بان الشورى التي ابتكرها سوف تجعل من شيخ الأمويين عثمان خليفة خرجنا بنتيجة مهمة وتقدير تاريخي تدل على صحته عدة من الظواهر وهو أن الخليفتين كانا يهيئان للسلطان الأموي أسبابه ومعداته وهما يعلمان حق العلم انّ انشاء كيان سياسي من جديد للامويين خصوم بني هاشم القدامى معناه تقديم المنافس للهاشميين في زعيم اموي وتطور المعارضة الفردية للبيت الهاشمي إلى معارضة بيت مستعد للنزاع والمنافسة أكمل استعداد.
    ومن شأن هذه المعارضة انّها تطور وتتسع لأنّها ليست متمثلة في
    __________________
    (1) راجع مروج الذهب على هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الأثير ص 135.

    شخص بل في بيت كبير ، ونستطيع أن نفهم من هذا انّ سياسة الصديق وعمر هي التي وضعت الحجر الأساسي لملك بني امية حتى يضمنا بذلك المنافس لعلي وآل علي على طول الخطّ (1).
    « الثالث » عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشيء إلا لأن عمر نبهه إلى نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمّد 6 وذكره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله 6 (2).
    ولو كنا نريد التوسع في دراسة هذه الناحية لعطفنا على هذه الشواهد قصّة الشورى العمرية التي نزل فيها عمر ( رضي الله تعالى عنه ) بعلي (ع) إلى صف أشخاص خمسة لا يكافئون علياً في شيء من معانيه المحمدية ، وقد كان الزبير وهو أحد الخمسة يرى يوم توفي الرسول الله 6 ان الخلافة حق شرعي لعلي فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله واعده للمنافسة بعد حين اذ جعله أحد الستة الذين فيهم علي.
    واذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول ان تساوي بين بني هاشم وسائر الناس وترتفع برسول الله 6 عن الإختصاص بهم لتنتزع بذلك الفكرة التي كانت تزود الهاشميين بطاقة على المعارضة ولئن اطمأن الحاكمون إلى انّ علياً لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة على الإسلام فهم لا يأمنون من انتفاضة بعد ذلك في كل حين ومن الطبيعي حينئذ ان يسارعوا إلى الاجهاز على كلتا قوتيه المادية
    __________________
    (1) وهذا هو السر السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصّة الشورى وقد جاء عن عمر انّه هدّد الستة الذين أوكل اليهم الأمر بمعاوية وتنبأ لهم بأنّه سيملك الأمر كما في شرح النهج ج 1 ص 62 وهذا ان دلّ على فراسته فهو على لون سياسته أدل.
    (2) راجع شرح النهج ج 1 ص 135.

    والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل ان يسبقهم إلى حرب اكول.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:45 am

    والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل ان يسبقهم إلى حرب اكول.
    ومن المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدك فهو موقف تلاقى فيه الغرضان وتركز على الخطين الاساسيين لسياسته لأنّ الدواعي التي بعثته إلى انتزاع فدك كانت تدعوه إلى الاستمرار على تلك الخطة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قوياً في عرف الحاكمين يومذاك ويعزز بها سلطانه وإلا فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته الوعد القاطع بأن تصرّف منتوجاتها في سبيل الخير ووجوه المصلحة العامّة (1) إلا انّه خاف منها أن تفسر وعدها بما يتّفق مع صرفها لغلات فدك في المجالات السياسية وما الذي صده عن ارضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصته ونصيب الصحابة إذا صحّ ان فدكاً ملك للمسلمين سوى انّه أراد ان يقوي بها خلافته.
    وأيضاً فاننا إذا عرفنا انّ الزهراء كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه ودليلاً يحتج به انصار الإمام على أحقيّته بالأمر نستوضح ان الخليفة كان موفقاً كل التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة وجارياً على المنهج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق اذ اغتنم الفرصة المناسبة لافهام المسلمين بصورة لبقة وعلى أسلوب غير مباشر بأن فاطمة امرأة من النساء ولا يصح ان تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك فضلاً عن موضوع كالخلافة وانها إذا كانت تطلب ارضاً ليس لها بحقّ فمن الممكن ان تطلب لقرينها المملكة الإسلامية كلّها وليس له فيها حق.
    ونخرج من البحث بنتيجة وهي ان تأميم الصديق لفدك يمكن تفسيره.
    1 ـ بأنّ الظرف الإقتصادي دعى إلى ذلك.
    __________________
    (1) راجع شرح النهج ج 4 ص 80.

    2 ـ بأنّ أبا بكر خشي ان يصرف علي ثروة قرينته في سبيل التوصل إلى السلطان.
    وانّ موقفه من دعاوى الزهراء بعد ذلك واستبساله في رفضها قد يكون مرده إلى هذين السببين :
    1 ـ إلى مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة 2 عرضنا لجملة من أسبابها فيما سبق.
    2 ـ وحدة سياسية عامة بنى عليها الصديق سيرته مع الهاشميين وقد تبيناها من ظواهر الحكم يومئذ.
    * * *
    لعل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للتضحية في سبيل الإسلام والإخلاص للمبدأ إخلاصاً جرده عن جميع الاعتبارات الشخصية وأقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجله بموقفه من خلافة الشورى وقدم بذلك في نفسه مثلاً أعلى للتفاني في المبدأ الذي صار شيئاً من طبيعته.
    ان كان رسول الله 6 قد تمكن من محو ضلال الوثنية فقد استطاع ان يجعل من علي بما أفاض عليه من حقائق نفسه عيناً ساهرة على القضية الإلهية فنامت فيه الحياة الإنسانية بأهوائها ومشاعرها وصار يحيا بحياة المبدأ والعقيدة (1).
    __________________
    (1) قال رسول الله 6 : علي مع الحق والحق مع علي. ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة راجع تاريخ بغداد للخطيب ج 14 ص 321 وتفسير الرازي ج 1 ص 111 وكفاية الطالب للكنجي ص 135 والمناقب لاخطب خوارزم ص 77 وقال « ص » : اللهم أدر الحق معه حيث دار ، راجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 125 وكنز العمال ج 6 ص 175 وجامع الترمذي ج 2 ص 213.

    وان كان للتضحية الإنسانية الفاضلة كتاب فأعمال علي عنوان ذلك الكتاب المشع باضواء الخلود (1).
    وان كان لمبادئ السماء التي جاء بها محمّد 6 تعبير عملي على وجه الأرض فعلي هو تعبيرها الحي على مدى الدهور والأجيال.
    وان كان النبي (ص) قد خلف في أمته علياً والقرآن (2) فانما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لمعاني علي العظيم ولتكون معاني علي انموذجاً لمثل القرآن الكريم.
    وان كان الله تعالى قد جعل علياً نفس رسول الله 6 في آية المباهلة (3) فلأجل أن يفهم المسلمون انّه امتداد طبيعي لمحمّد 6 وشعاع متألق من روحه العظيمة.
    وان كان النبي 6 قد خرج من مكة مهاجراً خائفاً على نفسه وخلف علياً على فراشه ليموت بدلاً عنه فمعنى ذلك ان المبدأ المقدّس هو الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما واذا كان لابد للقضية الإلهية من شخص تظهر به وآخر يموت في سبيلها فيلزم أن يبقى رجلها الأول لتحيا به ويقدم رجلها الثاني نفسه قربانا لتحيا به أيضاً.
    وان كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد
    __________________
    (1) قال رسول الله 6 : لضربة علي خير من عبادة الثقلين ، أو قال : لمبارزة علي لعمر أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة ، راجع المستدرك للحاكم ج 3 ص 32.
    (2) قال رسول الله (ص) : انّي تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، راجع الصواعق المحرقة ص 136.
    (3) راجع تفسير الرازي وأسباب النزول للواحدي.

    والدخول فيه جنباً (1) فمفهوم هذا الإختصاص ان في معانيه معنى المسجد لأنّ المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادة وعلي هو الرمز الإلهي الحي في دنيا الروح والعقيدة.
    وان كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه اذ قال المنادي : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي (2) فانّها عنت بذلك ان فتوة علي وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع إلى مداها انسان ولا ترقى إلى افقها بطولة الابطال واخلاص المخلصين.
    ومن مهزلة الأقدار ان هذه الفتوة التي قدسها الهاتف الإلهي كانت عيباً في رأي مشايخ السقيفة ونقصاً في علي يؤاخذ عليه وينزل به عن الصديق الذي لم يكن يمتاز عليه إلا بسنين قضاها كافراً مشركاً.
    وأنا لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية والإسلام في حياة شخص واحد مجداً يمتاز به عمن خلصت حياته كلّها لله.
    ولئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوة الطبيعية التي تجعل الأجسام الدائرة حول المحور تسير على خط معين فلقد ظهرت في علي قبل مئات السنين قوة مثلها ولكنها ليست من حقائق الفيزياء بل من قوى السماء وهي التي جعلت من علي مناعة طبيعية للإسلام حفظت له مقامه الأعلى ما دام الإمام حياً ومحوراً تدور عليه الحياة الإسلامية لتستمد منه روحانيتها وثقافتها وروحها وجوهرها سواء أكان على رأس الحكم أو لا.
    __________________
    (1) راجع مسند الإمام أحمد ج 4 ص 369 ومستدرك الحاكم ج3 ص 125 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 451 وتذكرة سبط ابن الجوزي ومناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي والصواعق لابن حجر والخصائص للنسائي.
    (2) ذكر ذلك الطبري في تاريخه ج 3 ص 17 وابن هشام في سيرته وابن أبي الحديد في شرح النهج والخوارزمي في المناقب.

    وقد عملت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه فجذبته إلى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال : لولا علي لهلك عمر ، وظهر تأثيرها الجبّار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اسندت فيه مقدرات الخلافة إلى عامة المسلمين ذلك الالتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب.
    ونعرف من هذا انّ علياً بما جهزته السماء به من تلك القوة كان ضرورة من ضرورات الإسلام (1) التي لابد منها وشمساً يدور عليها الفلك الإسلامي بعد النبي 6 بحسب طبيعته التي لا يمكن ان تقاوم حتى التجأ الفاروق إلى مسايرتها كما عرفت.
    ويتجلى لدينا أيضاً ان الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذ لأنّه ـ مع كونه طفرة ـ يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصيّة الإمام فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحني حتى تبلغ النقطة التي وصل إليها الحكم الأموي تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة على الإعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها إلى نقطة معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض الإعتدال في السير. وهذا الفصل الرائع من عظمة الإمام يستحق دراسة وافية مستقلة قد نقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصيّة علي المعارض للحكم والساهر على قضية الإسلام والموفق بين حماية القوة الحاكمة من الانحراف وبين معارضتها في نفس الوقت.
    وان كانت مواقف الإمام كلّها رائعة ، فموقفه في الخلافة بعد رسول الله 6 من أكثرها روعة.
    __________________
    (1) وعلى ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله « ص » لعلي : لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي ، وقوله له عندما تهيأ للخروج إلى غزوة تبوك : لابد من أن أقيم أو تقيم ، راجع خصائص النسائي ص 7 ومسند الإمام أحمد ج 1 ص 331 ومناقب الخوارزمي ص 75 وذخائر العقبى ص 87.

    وان كانت العقيدة الإلهية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه فهي تريد أيضاً بطلاً يتقبل القربان ويعزز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعلي إلى فراش الموت وبالنبي 6 إلى مدينة النجاة يوم الهجرة الاغر كما أشرنا إليه قريباً ولم يكن ليتهيأ للامام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلام البطلين لأنّه لو ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه وولداً رسول الله 6 طفلان لا يتهيّأ لهما من الأمر ما يريد.
    وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على نفسه : ـ
    أحدهما : أن يعلن الثورة المسلحة على خلافه أبي بكر.
    والآخر ان يسكت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج هذا ما نريد ان نتبينه على ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصيبة.
    انّ الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من عرفناهم حماسة وشدة في أمر الخلافة. ومعنى هذا انّهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جداً حينئذ ان يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً أخرى في سبيل أهوائه السياسية لأنّنا نعلم انّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي واخضب سنان رمحي واضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن اطاعني ولو اجتمع معكم الانس والجن ما بايعتكم. واكبر الظن انّه تهيب الأقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أوّل شاهر للسيف ضد الخلافة القائمة وانّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة اعلان الحرب وأخذ يترقب تضعضع الأوضاع ليشهر

    سيفه بين السيوف فكان حرياً به ان تثور حماسته ويزول تهيبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى صوتاً قوياً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول اجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف كما أعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة.
    ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.
    واذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام (1) من انّ رسول الله 6 لما توفي ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد اهلها يرتدون فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والايمان كما انّي لا أؤمن بأن مرد ذلك التراجع إلى انّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول الله 6 وأكبر الظن انّ خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة بل تعليل القضية في رأيي انّ الامير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة فاستخفى واشاع بذلك الاضطراب حتى إذا عرف انّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج في صالح البيت الأموي ظهر مرة أخرى للناس واعاد الأمور إلى مجاريها وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك الحين. وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء
    __________________
    (1) راجع تأريخ الكامل ج 2 ص 123.

    أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على أبي بكر وأصحابه اذ قال : انّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلا الدم ، وقال عن علي والعباس : امّا والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما. فالامويون قد كانوا متأهبين للثورة والانقلاب وقد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعم المعارضة ولكنه عرف انّهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم وانّما يريدون الوصول إلى اغراضهم عن طريقه فرفض طلبهم وكان من المنتظر حينئذ ان يشقوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلحة تتناحر ولم يطمئنوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ومعنى انشقاقهم حينئذ اظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة.
    واذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف اعلاناً لمعارضة دموية تتبّعها معارضات دموية ذات أهواء شتى وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.
    ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم بل لتناحرت ثورات شتى وتقاتلت مذاهب متعددة الأهداف والاغراض ويضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب ان يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة ويركزوا قواهم لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات.
    انّ علياً الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع ادوار حياته منذ أن ولد في البيت الإلهي والى انت قتل فيه قد ضحى بمقامه الطبيعي ومنصبه الإلهي في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصياً عليها وحارساً لها.
    وفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها فان رسول الله 6 لما أمره ربّه بتبليغ دعوته والانذار برسالته جمع بني عبدالمطلب وأعلن عن نبوته بقوله : ( انّي والله ما اعلم شاباً في
    العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ) وعن امامة أخيه بقوله : ( انّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ) (1) ومعنى ذلك أنّ امامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمّد 6 وانّ الرسالة السماوية قد اعلنت عن نبوة محمّد الكبير (ص) وامامة محمّد الصغير في وقت واحد.
    انّ علياً الذي ربّاه رسول الله 6 وربّى الإسلام معه فكانا ولديه العزيزين كان يشعر باخوته لهذا الإسلام وقد دفعه هذا الشعور إلى افتداء أخيه بكل شيء حتى انّه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون يومذاك (2) ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدّس ، لأنّ أبا بكر ان كان قد ابتزه حقه ونهب تراثه فالإسلام قد رفعه إلى القمة وعرف له اخوته الصادقة وسجلها بأحرف من نور على صفحات الكتاب العزيز :
    وصمد الإمام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل ؟ وأي أسلوب يتخذه لموقفه ؟ هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي 6 وكلماته التي أعلنت انّ علياً هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الإسلامي والزعيم الذي قدمته السماء إلى أهل الأرض.
    تردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الأوضاع القائمة فسكت عن النصّ إلى حين.
    ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والأوضاع ان الإعتراض بتلك النصوص المقدسة والإحتجاج بها في ساعة
    __________________
    (1) أخرجه الطبري في تاريخ وابن الأثير في الكامل وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة.
    (2) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 165.

    ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم إلى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن أكثر النصوص التي صدرت من رسول الله 6 في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها إلا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلك النصوص اذن الأمانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد ان تصل عن طريقهم إلى سائر الناس في دنيا الإسلام يومئذ والى الأجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الإمام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله 6 في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك ان يكذب الحزب الحاكم صديق الأمة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.
    وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأنّ كثيراً من قريش وفي مقدمتهم الأمويون كانوا طامحين إلى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على أساس من النصّ النبوي تسجيلاً لمذهب الإمامة الإلهية ، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الإسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمّد الأكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسراً. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللاً اقصاء علي عن الأمر : ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة (1) فقد يدلنا هذا على أن اسناد الأمر إلى علي في بداية الأمر كان معناه في الذهنية العامّة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أنّ المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من
    __________________
    (1) راجع تاريخ الكامل ج 3 ص 24.

    نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد نصيراً من علية قريش يشجعه على مقاومة الحاكمين فانه لا يجد منهم عضداً في مسألة النصّ إذا تقدم إلى الناس يحدثهم انّ رسول الله 6 قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال : انّي مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي الخ.
    وأما الأنصار فقد سبقوا جميع المسلمين إلى الاستخفاف بتلك النصوص والاستهانة بها اذ حدث بهم الشراهة إلى الحكم إلى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم إذا استدل بالنصوص النبويّة جنوداً للقضية العادلة وشهوداً عليها لانهم إذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفهسم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد وهذا ما يأبونه على أنفسهم بطبيعة الحال.
    وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال : لا نبايع إلا علياً مناقضة كتلك المناقضة لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلاف مسألة انتخاب لا نص فليس إلى التراجع عن هذا الرأي في يوم اعلانه من سبيل.
    وأما اعتراف المهاجرين بالأمر فلا حرج فيه لأنّ الأنصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة وانّما كانوا يتذاكرون ويتشاورون ولذا نرى الحباب بن المنذر يحاول بثّ الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم إلى رأيه بما جلجل به في ذلك الإجتماع من كلام وهو يوضح انّهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها إلا بعضهم.
    واذن فقد كان الإمام يقدر انّه سوف يدفع الحزب الحاكم إلى انكار النصوص والاستبسال في هذا الانكار إذا جاهر بها ولا يقف إلى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لانّ الناس بين من قادهم الهوى

    السياسي إلى انكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات وبين من يرى انّ فكرة النصّ تجعل من الخلافة وقفاً على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. واذا سجلت الجماعة الحاكمة وانصارها انكاراً للنص واكتفى الباقون بالسكوت في الأقلّ فمعنى هذا انّ النصّ يفقد قيمته الواقعية وتضيع بذلك مستمسكات الإمامة العلوية كلّها ويؤمن العالم الإسلامي الذي كان بعيداً عن مدينة النبي (ص) على انكار المنكرين لأنّه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.
    ولنلاحظ ناحية أخرى فان علياً لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه وتشهد له بالنصوص النبويّة المقدسة وتعارض انكار الفئة الحاكمة كان معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر وتتعرض لهجوم شديد من الحاكمين ينتهي بها إلى الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس لكيانه السياسي إلى حد بعيد فإنّه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره إلى المقابلة العملية وقد عرفنا سابقاً انّه لم يكن مستعداً لاعلان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.
    ولم يكن للاحتجاج بالنص أثر واضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها واساليبها الدقيقة لمحو تلك الأحاديث النبويّة من الذهنية الإسلامية لأنّها تعرف حينئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة ومادة خصبة لثورة المعارضين في كل حين.
    واني اعتقد انّ عمر لو التفت إلى ما تنبه إليه الأمويون بعد أن احتج الإمام بالنصوص في أيّام خلافته واشتهرت بين شيعته من خطرها لاستطاع أن يقطعها من اصولها ويقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من اطفاء نورها وكان اعتراض الإمام بالنصّ في تلك الساعة ينبهه إلى ما يجب ان ينتهجه من أسلوب فأشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها

    السياسة وسكت عنها على مضض واستغفل بذلك خصومه حتى انّ عمر ( رضي الله تعالى عنه ) نفسه صرح بأن علياً هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبي (1) 6.
    ثم ألم يكن من المعقول ان يخشى الإمام على كرامة حبيبه وأخيه رسول الله 6 أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس ـ إذا جاهر بنصوص النبي 6 وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله (ص) حين طلب دواة ليكتب كتاباً لا يضلّ الناس بعده أبداً ، فقال عمر : انّ النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع ، وقد اعترف فيما بعد لابن عباس انّ رسول الله (ص) كان يريد ان يعين علياً للخلافة وقد صدّه عن ذلك خوفاً من الفتنة (2).
    وسواء أكان رسول الله (ص) يريد ان يحرّر حق علي في الخلافة اولا فانّ المهم ان نتأمل موقف عمر من طلبه فهو إذا كان مستعداً لاتهام النبي (ص) وجهاً لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن وضرورة الإسلام خوفاً من الفتنة فما الذي يمنعه عن إتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى انّ رسول الله (ص) لم يصدر عن أمر الله في موضوع الخلافة وانّما استخلف علياً بوحي من عاطفته بل كان هذا اولى من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى على النصّ أشدّ مما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما إذا كان النبي 6 قد خلف نصاً تحريرياً بامامة علي يعلمه الجميع.
    __________________
    (1) راجع ذخائر العقبى ص 67.
    والحديث يدلنا على ان الفاروق كان يميل أحياناً إلى تغيير الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الأمر مع الهاشميين غير ان الطابع السياسي الأول غلب عليه أخيراً.
    (2) راجع شرح النهج ج 2 ص 114.

    واذا كان رسول الله 6 قد ترك التصريح بخلافة علي في ساعته الأخيرة لقول قاله عمر فان المفهوم ان يترك الوصي الإحتجاج بالنصوص خوفاً من قول قد يقوله :
    ونتيجة هذا البحث ان سكوت أمير المؤمنين عن النصّ إلى حين كان يفرضه عليه :
    1 ـ انّه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن إلى شهادته بذلك.
    2 ـ انّ الإعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت انظار الحاكمين إلى قيمتها الماديّة فيستعملون شتى الأساليب لخنقها.
    3 ـ انّ معنى الإعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها وهذا ما لم يكن يريده الامام.
    4 ـ انّ إتهام عمر للنبي 6 في آخر ساعاته عرف علياً بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم ومدى استعدادهم لتأييدها والمدافعة عنها وجعله يخاف من تكرر شيء من ذلك فيما إذا أعلن عن نصوص امامته.
    * * *
    انتهى الإمام إلى قرار حاسم ، وهو ترك الثورة وعدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً وعلانية إلا إذا اطمأن إلى قدرته على تجنيد الرأي العام ضد أبي بكر وصاحبيه وهذا ما أخذ يحاوله علي في محنته آنذاك فبدأ يطوف سراً على زعماء المسلمين ورجالات المدينة يعظهم ويذكرهم ببراهين الحق وآياته والى جانبه قرينته تعزز موقفه وتشاركه في جهاده السري ولم يكن يقصد بذلك التطواف انشاء حزب يتهيّأ له القتال به لأنّنا نعرف انّ علياً كان له حزب من الأنصار هتف باسمه وحاول الالتفاف حوله وانّما أراد أن يمهد بتلك المقابلات لاجماع الناس عليه.

    وهنا تجيء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة فانّ الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوّة خطوطه بإتقان كان متفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة وينهي خلافة الصديق كما تنتهي القصّة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز على القوة والعدة.
    وكان الدور الفاطمي يتخلص في أن تطالب الصديقة الصديق بما انتزعه منها من أموال وتجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الأساسية واعني بها مسألة الخلافة وافهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا فيها عن علي (ع) إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ وانهم بذلك أخطأوا وخالفوا كتاب ربهم ووردوا غير شربهم.
    ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح اوضاع الساعة وتمسح عن الحكم الإسلامي الذي وضعت قاعدته الأولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به عن طريق إتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب.
    وقد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيّآن للامام فيما لو وقف موقف قرينته.
    أحديهما : انّ الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة ومكانتها من أبيها على استثارة العواطف وإيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيامه الغراء وتجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت.
    والأخرى : انّها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة التي تتطلب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة وما دام

    هارون النبوّة في بيته محتفظاً بالهدنة التي اعلنها حتى تجتمع الناس عليه ومراقباً للموقف ليتدخّل فيه متى شاء متزعماً للثورة إذا بلغت حدها الأعلى أو مهدئاً للفتنة إذا لم يتهيّأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء بمقاومتها أمّا ان تحقق انتفاضاً اجماعياً على الخليفة وأمّا أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجرّ إلى فتنة وانشقاق.
    وإذن فقد أراد الإمام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء ويبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للإستفادة منها والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. وأراد أيضاً أن يقدم لأمة القرآن كلّها في المقابلة الفاطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة. وقد تمّ للإمام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحق العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.
    وتتلخّص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر : ـ
    الأوّل : ـ إرسالها لرسول ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها وهذه هي الخطوة الأولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.
    الثاني : ـ مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص وقد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغيرهما لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.
    ولا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب إلى ذلك أصحابنا بل قد يغلب على ظني تقدم المطالبة بالإرث لأنّ الرواية تصرح بانّ رسول الزهراء انّما كان يطالب بالميراث والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة وأيضاً فانّ دعوى الإرث أقرب

    الطريقين إلى استخلاص الحق لثبوت التوارث في التشريع الإسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من أبيها الذي يشمل فدكاً في معتقد الخليفة لعدم اطّلاعه على النحلة وليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك اطلاقاً لأنّ المطالبة بالميراث لم تتجه إلى فدك خاصة وانّما تعلقت بتركة النبي (ص) عامة.
    الثالث : ـ خطبتها في المسجد بعد عشرة أيّام من وفاة النبي (ص) كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.
    الرابع : ـ حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زارها بقصد الإعتذار منها واعلانها غضبها عليهما وانهما اغضبا الله ورسوله (ص) بذلك (4).
    الخامس : ـ خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهن عندها.
    السادس : ـ وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها (2) وكانت هذه الوصيّة الاعلان الأخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.
    وقد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى ونجحت بمعنى آخر.
    فشلت لأنّها لم تطوح بحكومة الخليفة 2 في زحفها الأخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي (ص).
    ولا نستطيع ان نتبين الأمور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة غير ان الأمر الذي لا ريب فيه ان شخصيّة الخليفة (رض) من أهم الاسباب التي أدت إلى فشلها لأنّه من أصحاب المواهب السياسية وقد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء من كلام
    __________________
    (1) راجع الإمامة والسياسة واعلام النساء.
    (2) راجع حلية الأولياء ج 2 ص 43 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 163 واُسد الغابة ج 5 ص 524.

    وجهة إلى الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء واذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد. في أكبر الظنّ. فيقول : ما هذه الدعة إلى كل قالة انّما هو ثعالة شهيده ذنبه ـ وقد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق ـ فان هذا الانقلاب من اللين والهدوء إلى الغضب الفائر يدلّنا على مقدار ما أوتي من سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في كل حين.
    ونجحت معارضة الزهراء لأنّها جهزت الحق بقوة قاهرة وأضافت إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلّها وفي محاورتها مع الصديق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصة إذا قالت لهما : أرأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول الله 6 تعرفانه وتفعلان به فقالا نعم فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا من رسول الله 6 يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني (1) قالا نعم سمعناه من رسول الله (ص) قالت : فانّي أشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (ص) لأشكونكما عنده (2).
    __________________
    (1) صحت عن رسول الله (ص) عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح انّه قال لفاطمة ان الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك وقال : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها ـ راجع صحيح البخاري ج 5 ص 274 وصحيح مسلم ج 4 ص 261 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154 وذخائر العقبى ص 39 والصواعق ص 105 ومسند أحمد ج 4 ص 328 وجامع الترمذي ج 2 ص 219 وابن ماجة ج 1 ص 216.
    (2) تجد حديث غضب فاطمة على أبي بكر في صحيح البخاري ج 5 ص 5 وج 6 ص 196 وصحيح مسلم ج 2 ص 72 ومسند أحمد ج 1 ص 6 وتاريخ الطبري ج 3 ص 202 وكفاية الطالب ص 226 وسنن البيهقي ج 6 ص 300.

    ويصوّر لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الإعتراض على خصميها ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها والانتهاء فيها إلى رأي معين لأنّ ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث ولأنّنا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات وانّما نسجلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها ووجهة نظرها فقط فانّها كانت تعتقد انّ النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة والدين وأعني بها انّ الصديق قد استحق غضب الله ورسوله 6 باغضابها وآذاهما بأذاها لانهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنص الحديث النبوي الصحيح فلا يجوز ان يكون خليفة ‏ ورسوله وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان ذلكم كان عند الله عظيماً * انّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً * والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم * يا أيّها الذين آمنوا لا تتولّوا قوماً غضب الله عليهم * ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ).

    ـ 4 ـ
    قبسات من الكلام الفاطمي
    يوم جاءت إلى عدي وتيم
    ومن الوجد ما أطال بكاها

    تعظ القوم في أتم خطاب
    حكت المصطفى به وحكاها

    ( الأزري )

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:46 am

    نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء 3 لنعطيها حقّها من التحليل والتوضيح ونفهمها كما هي في عالم الخلود وكما هي في واقعها الرائع قالت : ـ
    « ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار فمحمّد 6 عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الربّ الغفّار ومجاورة الملك الجبّار ».
    انظر إلى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذوذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها وجنته الخالدة لأنّها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله وما قيمة اللذة الماديّة جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمّد 6 الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الإنسانية كما ارتفع بها ولم يبلغ بها أحد سواه أوجهاً المحمدي ( ولم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الإلهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الأخير للطواف الإنساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير وتطمئنّ إليه الروح ) (1).
    فهو إذن : المربي الأكبر للروح ، والقائد الفريد الذي سجلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى الماديّة في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.
    __________________
    (1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا ـ العقيدة الإلهية في الإسلام ـ.

    وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو ان يكون محور ذلك العالم الروحي الجبّار وهذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي : فمحمّد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الأبرار فهو القطب أبداً في الدنيا والآخرة غير انّه في الأولى متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الإنسانية عليه على أسلوب خالد وفي الأخرى مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره فتخف به الملائكة لتقدّم بين يديه آيات الحمد والثناء.
    وما دام النبي 6 من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي ـ ان صحّ التعبير ـ واي ترف روحي أسمى من مجاورة المالك الجبّار والظفر برضوان الربّ الغفار.
    وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فإذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.
    وقالت :
    وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد 6 بعد اللتيا والتي ، وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتهم ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله (ص) سيد

    اولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون (1).
    ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الإسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة ـ ان صحّ التعبير ـ من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء والأرض وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الإنسانية وشخصية اكتفت من الجهاد المقدّس بالوقوف في الخط الحربي الأخير ـ العريش ـ وياليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الإسلام. في عرف التضحية ، في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الأرض.
    ولا نعرف في تاريخ الإنسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الإمام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحقّ هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الإسلام وصنعت له تاريخه الجبّار.
    فعليّ هو المسلم الأول في اللحظة الأولى من تاريخ النبوّة عندما لعلع الصوت الإلهي من فم محمّد 6 ثم هو بعد ذلك الغيور الأول والمدافع الأول الذي اسندت إليه السماء تصفية الحساب مع الإنسانية الكافرة.
    ان فوز الإمام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من ناحيتين : ـ
    ( احداهما ) : انّه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم
    __________________
    (1) تعني بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.

    الذي لم يكن قد فصل فيه تماماً المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.
    ( والأخرى ) : ان جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك إليه سبيلاً وجذوة مضطرمة بحرارة الإيمان لا يجد الخمود إليها طريقاً. وهذه الجذوة المتقدة أبداً وذلك الإخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل إليه الأمة حراسة معنوياتها الغالية وحماية شرفها في التاريخ.
    اقرأ حياة النبي 6 وتاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى انّ علياً هو الذي أدهش الأرض والسماء بمواساته (1) وان الصدّيق (رض) هو الذي التجأ إلى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً
    __________________
    (1) أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله 6 جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليه ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبدا‏ الجمحي ، قال : ثم أبصر رسول الله 6 جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرئيل : يا رسول الله ان هذا للمواساة ، فقال رسول الله (ص) : انّه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وانا منكما ، قال : فسمعوا صوتاً :
    لا سيف إلا ذو الفقار
    ولا فتى إلا علي

    ولنتأمل جواب رسول الله 6 لنلاحظ كيف انّه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمّد وعلي إلى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال : انّه مني وأنا منه ولم يرض بأن يفصل الإمام عن شخصه لأنهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلاً أعلى تأتم بها الإنسانية ويهتدي على ضوئها الابطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء ، وأنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمّد وبين من هو من محمّد (ص).

    بعدة من أبطال الأنصار لحمايته (1) حتى يطمئن بذلك من غوائل الحرب.
    وهو الذي فر يوم أحد (2) كما فرّ الفاروق (3) ولم يبايع رسول الله 6 على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء وبايع رسول الله 6 على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك أرباب التاريخ (4) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالاً في ذلك الموقف مهما يكن لونه (5).
    واذن فلماذا وقف مع الثائبين ان كان لم يفرّ ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (ص) بعدة أصابات اضطرته إلى الصلاة جالساً.
    ولعلّنا نعلم جميعاً ان شخصاً إذا كان في وسط الصراع ومعترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه إلا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصديق إذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين وقد نجا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف امام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه فهل أشفق المشركون على أبي بكر ولم يشفقوا على محمّد وعلي والزبير وأبي دجانة وسهل بن حنيف.
    وليس لدي من تفسير معقول للموقف إلا ان يكون قد وقف إلى جوار رسول الله 6 وكسب بذلك موقفاً هو في
    __________________
    (1) راجع عيون الأثر ج 1 ص 258.
    (2) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.
    (3) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله (ص) ـ راجع شرح النهج ج 3 ص 389 ، 390.
    (4) صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج 3 ص 388. والمقريزي في الامتاع ص 132.
    (5) اعترف بذلك ابن أبي الحديد ج 3 ص 389.

    طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول الله (ص). وليس هذا ببعيد لأنّنا عرفنا من ذوق الصدّيق انّه كان يحب ان يكون إلى جانب رسول الله (ص) في الحرب لأن مركز النبي (ص) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الإسلامية على حراسته والذب عنه.
    وخذ حياة الإمام علي (ع) وحياة الصديق وادرسهما فهل تجد في حياة الأول خموداً في الإخلاص أو ضعفاً في الاندفاع نحن التضحية أو ركوناً إلى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير. لأنّه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة وشخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه استعداد للخلود ما خلد محمّد استاذه الأكبر لأنّه نفسه (ص) (1).
    ثم حدّثني عن حياة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) أيّام رسول الله 6 فهل تجد فيها إلا تخاذلاً وضعفاً في الحياة المبدئية والحياة العسكرية يظهر تارة في التجائه إلى العريش وأخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين (2) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله 6 بالخروج تحت راية اُسامة
    __________________
    (1) بنص آية المباهلة.
    (2) كما في السيرة الحلبية ج 3 ص 123 ، اذا. حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدلّ عليه في صحيح البخاري اذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انّه قال : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله. فان هذا يوضح انّ عمر كان بين المنهزمين.

    للغزو (1) ومرة أخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (ص) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق ( رضي الله تعال عنه ) واذا به من طراز صاحبه (2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيّام السلم التي اعتز بها الإسلام يوم اسلم كما يقولون ورجع عمر مع اصحابه يجبنهم ويجبنونه (3) فقال رسول الله (ص) انّي دافع الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له (4) ويشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز بعليه العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه ا‏لله ورسوله (5).
    يا خليفتي المسلمين ـ أو بعض المسلمين ـ رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد والمعاناة في سبيل الله ؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز عن ذلك ؟ ألم تستمعا إلى القرآن الذي اسندت اليكما حراسته والتوفر على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول : ـ
    __________________
    (1) فقد جاء في عدة من المصادر انّ عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبي 6 للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج 3.
    (2) راجع مسند أحمد ج 5 ص 253 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 27 وكنز العمال ج 6 ص 394.
    (3) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.
    (4) صحيح البخاري ج 5 ص 18 ومسند أحمد ج 5 ص 353.
    (5) واكبر الظن انّ الجيش الذي سار الإمام على رأسه لاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فر بالأمس ونفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره فان علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذي كانوا يجبنون الفاروق في الحملة السابقة أبطالاً فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس والإخلاص.

    ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
    وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق (رض) في الإسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم فلا بد انهما تأولاً ووجداً عذراً في فرارهما ونحن نعلم انّ مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفة كان واسعاً حتى انّه اعتذر عن خالد لما قتل مسلماً متعمداً بأنّه اجتهد فأخطأ (1).
    عذرتكما ان الحمام لمبغض
    وانّ بقاء النـفس للنفس محبوب

    ليكره طعم الموت والموت طالب
    فكيف يلذ الموت والموت مطلوب

    ولنعتذر إذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار وقد اضطرنا إلى ذلك الوقوف عند المقارنة الفاطمية وما تستحقه من شرح وتوضيح.
    قالت : ـ
    « تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار ».
    هذا الخطاب موجه إلى الحزب الحاكم لأنّه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء إلى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع إلى اتمام البيعة بالخوف من الفتنة. واذن فهو إتهام صريح له بالتآمر على السلطان واتخاذ التدابير اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها وتربص الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وتجريد البيت الهاشمي منها.
    وقد رأينا في الفصل السابق انّ الإتفاق السري بين الصديق والفاروق وأبي عبيدة (1) رضي الله عنهم مما تعززه الظواهر التاريخية.
    __________________
    (1) تاريخ ابن شحنة على هامش الكامل ج 11 ص 114.
    (2) نعتذر إلى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجرداً عن اللقب ، وليس هذا ذنبي بل ذنب الأجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الأمر إليه فيمنحه الناس لقباً من الألقاب ، وأما لقب الامين فالارجح عندي انّه لم يحصل

    ولا ينبغي ان نترقب دليلاً مادياً أقوى من كلام الزهراء الذي بينا اشعاره إلى هذا المعنى بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا ريب انّها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما اخص ما يوصف به انّه اقرب إلى واقعها وأكثر اصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.
    ومن حق البحث ان نسجّل انّ الزهراء هي أوّل من أعلنت ـ ان لم يكن زوجها هو المعلن الأول ـ عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة واتهمتها بالتآمر السياسي ثم تبعها على ذلك جملة من معاصريها كأمير المؤمنين صلوات الله عليه ومعاوية بن ابي سفيان ـ كما عرفنا سابقاً ـ.
    ومادام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء ويشير إليه الإمام ويلمح إليه معاوية هو الذي سيطر على الحكم ومقدرات الأمة وما دامت الاسر الحاكمة بعد ذلك التي وجّهت جميع مرافق الحياة العامّة لخدمتها قد طبقت اصول تلك السياسة وعناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الإسلام فمن الطبيعي جداً ان لا نرى في التأريخ أو على الأقلّ التاريخ العام صورة واضحة الألوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد ابطاله الأوّلون في تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخالص الذي هو أبعد ما يكون عن الألوان السياسية والاتفاقات السابقة.
    * * *
    قالت : ـ
    ( فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب. والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابداراً زعمتم خوف الفتنة إلا في الفتنة سقطوا وانّ جهنم لمحيطة بالكافرين.
    __________________
    عليه عن طريق النبي 6 ولا عن طريق الناس وانّما لقب بالامين لمناسبات حزبية خاصة ليس من شأنها تقرير الاوسمة الرسمية.

    أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تجلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما اسّس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم ) (1).
    لئن كان الصديق وصاحباه يشكلون حزباً ذا طابع خاص فمن العبث ان ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع ان يعلنوا عن الخطوط الرئيسية لمناهجهم ويبرروا بها موقفهم يوم السقيفة ومع هذا :
    فلا بد من مبرر ..
    ولا بد من تفسير ..
    فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم إلى اتمام البيعة لأحدهم وتلهفهم على المقامات العليا تلهفاً لم يكن منتظراً بالطبع من صحابة على نمطهم لأن المفروض فيهم انّهم أناس من نوع اكمل وعقول لا تفكر إلا في صالح المبدأ ولا تعبأ إلا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي وأما اقتناص الكراسي فلا ينبغي ان يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمّد 6.
    أحسّ الحاكمون بذلك وادركوا ان موقفهم كان شاذا على أقل تقدير فأرادوا ( رضي الله عنهم ) ان يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية والخوف على الإسلام من هبوب فتنة طاغية تجهز عليه ونسوا أن الرقعة تفضح موضعها وان الخيوط المقحمة في الثوب تشي بها.
    ولذا دوت الزهراء بكلمتها الخالدة : ـ
    زعمتم خوف الفتنة إلا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين
    __________________
    (1) وردت هذه القطعة في خطابها الثاني الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار في بيتها.

    نعم انّها الفتنة ثم هي ام الفتن بلا ريب.
    ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة وتتنبئين لأمة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في أفقه سحب حمراء ؟
    ماذا أقول‏ ؟ .. بل انهار من دم تزخر بالجماجم وهي تنعى على سلفها الصالح فعلهم وتقول : إلا انّهم في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
    كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة وكانت أم الفتن.
    كانت فتنة في رأي الزهراء ـ على الأقلّ ـ لأنّها خروج على الحكومة الإسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي (ص) والاولى من المسلمين بأنفهسم (1).
    ومن مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه بأنّه خاف الفتنة وهو لا يعلم ان اتنزاع الأمر ممن اراده له رسول الله (ص) باعتراف عمر (2) هو الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.
    وأنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنة الذين لا مطمع لهم في السلطان إلا بمقدار ما يتصل بصالح الإسلام ان يسألوا رسول الله 6 عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع
    __________________
    (1) بنص حديث الغدير الذي رواه « 111 » من الصحابة و (84) من التابعين باحسان و « 353 » مؤلف من اخواننا السنة كما يظهر بمراجعة كتاب « الغدير » للعلامة الاميني. واحب أن ألاحظ هنا ان كثيراً من القرآن لم يروه من الصحابة عدد يبلغ مبلغ الرواة لحديث الغدير منهم فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك إلى التشكيك في القرآن الكريم.
    وأما دلالة الحديث على خلافة علي وامامته فهي أيضاً ترتفع عن التشكيك لوضوحها وبداهتها وتعدد القرائن عليها ولتراجع في ذلك «مراجعات» سيدنا سادن المذهب وحامي التشيع في دنيا الإسلام آية الله السيد عبدالحسين شرف الدين دام ظله العالي.
    (2) راجع ج 3 شرح النهج ص 114 و 115.

    الأعلى للحكومة الإسلامية من بعده وقد طال المرض به أياماً متعددة وأعلن فيها مراراً عن قرب أجله واجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله وتفصيلات تجهيزه (1) ولم يقع في أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسألة الأساسية بل لم يخطر في بال اولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف ولا يهمل الأمة والحوا عليه في ذلك خوفاً من الفتنة (2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله (ص) فهل ترى انّهم كانوا حينذاك في غفلة عن اخطار الموقف بالرغم من انذار النبي 6 بفتن كقطع الليل والمظلم حتى إذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلى توهجت مشاعرهم بالغيرة على الدين وملأ قلوبهم الخوف من الفتنة والانعكاسات السيئة أو تعتقد معي ان النبي 6 كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل ولذلك لم يسأله السائلون.
    دع عنك هذا واختلق لهم ما شئت من المعاذير فان هؤلاء الغيارى على الإسلام لم يكتفوا بترك السؤال بل منعوا رسول الله 6 من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب كتاباً لا يضلّ المسلمون بعده أبداً. والفتنة ضلال واذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبداً فهل كانوا يشكون في صدق النبي 6 أو يرون انّهم أقدر على الاحتياط للاسلام والقضاء على الشغب والهرج من نبي الإسلام ورجله الاول.
    وخليق بنا ان نسأل عمّا عناه النبي (ص) بالفتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في اخريات أيامه اذ يقول : ليهنكم ما أصبحتم فيه قد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم (3).
    __________________
    (1) راجع تاريخ ابن الأثير ج 2 ص 122.
    (2) العقد الفريد ج 3 ص 17.
    (3) راجع تاريخ الكامل ج 2 ص 222.

    ولعلّك تقول : انّها فتن المرتدين وهذا تفسير يقبل على فرض واحد وهو : انّ النبي 6 كان يتخوف على موتى البقيع من الارتداد فأما إذا لم يكن يخشى عليهم من ذلك كما ـ هو في الواقع ـ لأنهم على الأكثر من المسلمين الصالحين وفيهم الشهداء فلماذا يهنئهم على عدم حضور تلك الأيام ولا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الأموية التي قام به عثمان ومعاوية بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريباً.
    واذن فتلك الفتن التي عناها النبي (ص) لابد أن تكون فتنا حادثة بعده مباشرة ولابد أيضاً أن تكون أكثر اتصالاً بموتى البقيع لو قدرت لهم الحياة من فتن الردة والمتنبئين.
    وهي اذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها : إلا في الفتنة سقطوا وانّ جهنم لمحيطة بالكافرين.
    وهل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله (ص) بالفتنة ان تمنح لقب الفتنة الأولى في دنيا الإسلام.
    وقد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى لأنّها فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها إلا القليل من سوقتها الذين ليس لمثلهم الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الإسلام ولا في لغة القوانين الدستورية جميعاً.
    تلك هي خلافة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) عندما خرج من السقيفة « وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى ازبد شدقاه » وجماعته تحوطه « وهم متزرون بالأزر الصنعانية لا يمرون باحد إلا خبطوه وقدموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى (1) ».
    __________________
    (1) راجع شرح النهج ج 1 ص 74.

    ومعنى هذا ان الحاكمين زفوا إلى المسلمين خلافة لم تباركها السماء ولا رضي بها المسلمون وان الصدّيق لم يستمد سلطانه من نص نبوي ـ بالضرورة ـ ولم ينعقد الاجماع عليه مادام سعد لم يبايع إلى أن مات الخليفة وما دام الهاشميون لم يبايعوا إلى ستة أشهر من خلافته ـ كما في صحيح البخاري.
    قالوا : ان أهل الحل والعقد قد بايعوه وكفى.
    ولكن إلا يحتاج هذا المفهوم إلى توضيح والى مرجع يرجع إليه في ذلك ؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر أهل الحل والعقد واعطاهم هذه الصلاحيات الواسعة ؟.
    ليس هو الأمة ولا النبي الأعظم ، لأنّنا نعلم أن أبطال السقيفة لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر ولم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل والعقد.
    كما انّه لم يؤثر عن رسول الله (ص) اعطاء هذه الصلاحيات لجماعة مخصوصة فكيف تمنح لعدد من المسلمين ويستأمنون على مقدرات الأمة بغير رضى منها في ظلّ نظام دستوري كنظام الحكم في الإسلام كما يزعمون.
    ومن العجيب في العرف السياسي ان تعين الحكومة نفسها أهل الحلّ والعقد ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.
    واعجب من ذلك اخراج علي والعباس وسائر بني هاشم وسعد بن عبادة والزبير وعمّار وسلمان وأبي ذر والمقداد وجميع أهل الحجى والرأي

    ـ على حد التعبير ابن العباس لعمر ـ (1) من أهل الحل والعقد إذا صحّ ان في الإسلام طبقة مستأثرة بالحل والعقد.
    وقد جر وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الإسلامية إلى تهيئة الجو لارستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام وواقعه المصفى من الطبقية والعنعنات.
    وهل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها أكياس عبد الرحمن بن عوف وطلحة واضرابهما إلا بسبب هذا اللقب المشؤوم على الإسلام الذي لقبوا به فرأوا انّهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين ويتحكم في حقوق الناس كما يريد.
    وقالوا : ان الاكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية والمبدأ الذي لابد أن تقوم على اساسه الخلافة.
    وقد استهان القرآن الكريم بالأكثرية ولم يجعل منها في حال من الأحوال دليلاً وميزانا صحيحاً إذا جاء فيه :
    ( ان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ).
    ( وأكثرهم للحقّ كارهون ).
    ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنّاً ).
    ( ولكن أكثرهم يجهلون ).
    وقد روي عن رسول الله (ص) في صحاح السنة انّه قال : بينا أنا قائم ( يعني يوم القيامة على الحوض ) فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج
    __________________
    (1) اذ قال له : أما أهل الحجى والنهى فانهم ما زالوا يعدونه ـ أي علياً ـ كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام ولكنهم يعدونه محروماً مجدوداً راجع شرح النهج ج 3 ص 115.

    رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت أين ؟ فقال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال انّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ إلى أن قال ـ : فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.
    ولا يمكن ان تكون هذه الاكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله (ص) مصدر السلطة في الإسلام لأنّها لا تنشئ بطبيعة الحال إلا خلافة مطبوعة بطابعها.
    واذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنيين الذين عرفنا آنفاً مراكزهم الجهنمية على الأغلب في الحياة الخالدة واعتبرنا اكثرية المسلمين عموماً هي المقياس الصحيح فلا بد أن نلاحظ ان المدينة هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالأكثرية المدنية أو انّ أبا بكر لم يكتف بها وانّما بعث إلى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة بالخير ليأخذ آراءهم ويستشيرهم ؟ كلا لم يحدث شيء من ذلك وانّما فرض حكومته على آفاق المملكة كلّها فرضاً لا يقبل مراجعة ولا جدالاً حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر.
    وقالوا : ان الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين ولا ريب ان ذلك قد حصل لأبي بكر.
    ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم لأنّ البعض لا يمكن ان يتحكم في شؤون الأمة كلّها ولأن حياة الأمة لا يمكن ان تعلق على خيط ضعيف كهذا الخيط ويركن في حفظ مقدساتها ومقامها إلى حكومة أنشأها جماعة من الصحابة لم يزكهم اجماع شعبي ولا نص مقدس بل هم أناس عاديون من الصحابة. ونحن نعلم ان ( منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ ولنكوننّ من الصالحين. فلمّا آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما

    وعدوه وبما كانوا يكذبون ) ومنهم من خصّ الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم ونفاقهم فقال لرسوله : ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ).
    فجماعة فيها المنافق وفيها من يؤذي رسول الله وفيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أيا كان ملاكاً للمنصب الأول في العالم الإسلامي.
    وتعليقاً على هذه الملعومات نقول : انّ خلافة الصديق لم تكن خلافة نصّ ولا خلافة أكثريّة ولا نتيجة انتخاب مباشر ولا غير مباشر ، نعم بذل في سبيلها بعض المسلمين جهوداً رائعة والتفت حولها طائفة من الناس وانتصرت لها جماعات عديدة في المدينة ولكن هؤلاء جميعاً ليسوا إلا بعض المسلمين والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع لأنّ الحكم الذي يستمدّ معنويّته القانونيّة من الأمّة يلزم ان يكون صاحبه ممثلاً للامة بجميع عناصرها أو أكثر عناصرها هذا أولا وأما ثانياً فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم إلا الله بنص القرآن الكريم وتنزيه هذا البعض المتوفر على انشاء الكيان السياسي للأمّة حينئذ عن النفاق لابد أن يكون عن طريق النصّ أو الامّة.
    واذن فليسمح لنا الطريق أن نميل إلى رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل ، لأنّنا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على أمة وتصرفه في مرافقها الحيوية جميعاً كالصديق (رض) في أيّام خلافته أو في الأشهر الأولى أو في الأسابيع الأولى من حكومته التي خطبت فيها الزهراء ـ على أقل تقدير ـ.
    وما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم واستقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي ان يكون لها رأي في

    الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضة واستعد الهاشميون للمقاومة وقد كان تقدير هذا المعنى قريباً ومعقولاً إلى حد بعيد فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا إلى نتيجتهم المطلوبة في مدة قد لا تزيد على ساعة.
    ولماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه ابطاله فقد بلغ من تقديس الفاروق انّه أمر بقتل من عاد إلى مثل بيعة أبي بكر وكرر ذلك الموقف.
    واذا اردنا أن نأخذ هذا الكلام ونفهمه على انّه كلام امام يراعي دستور الإسلام ، فمعنى ذلك انّه رأى موقف أبي بكر واصحابه في السقيفة فتنة وفساداً لأنّ القتل لا يجوز بغير ذلك من الأسباب.
    وهي بعد ذلك كله أم الفتن لأنّها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله الذي يأتيه البر والفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رض) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم (1).
    وهي التي فتحت للاهواء والاطماع السياسية ميدانها الواسع فتولدت الأحزاب وتناحرت السياسات وتفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام ذهب بكيانهم الجبّار ومجدهم في التاريخ.
    وماذا ظنّك بهذه الأمة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الأولى في ارجاء العالم بسبب أن زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين اعني علياً ـ لم يتخذ للمعارضة أسبابها المزعزعة لكيان الأمة ووحدتها.
    ( أقول ) : ماذا تقدر لها من مجد وسلطان وهيمنة على العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المتضاربين والامراء السكارى بنشوة السلطان ولم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ ولم يستغل
    __________________
    (1) راجع الدر المنثور ج 6 ص 19.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 7:48 am

    حكّامها الغاشمون إمكانيات الأمة للذاتهم وهنائهم ويستهينون بعد ذلك بمقدراتها جميعاً.
    لم ينظر الصدّيق والفاروق إلا إلى زمانهما الخاص فتصورا ان في طاقتهما حماية الكيان الإسلامي ولكنّهما لو تعمّقا في نظرتهما كما تعمّقت الزهراء وتوسعا في مطالعة الموقف لعرفا صدق الانذار الذي انذرتهما به الزهراء.

    ـ 5 ـ
    محكمة الكتاب
    انّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل انّ الله نعمّا يعظكم به انّ الله كان سميعاً بصيراً
    ( القرآن الكريم )

    اذا أردنا ان نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة فلابد أن نأخذ انفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين :
    الناحية الأولى : موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه إلى ما رواه عن رسول الله 6 في موضوع الميراث بأساليب متعددة وصور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته وهي لا تتفق على حد تعبير واحد ولا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في المسألة.
    1 ـ وقبل كل شيء نريد ان نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبويّة واطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول الله 6 وثباته عليه ويمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات (1) من أنّ الخليفة سلّم فدكاً للحوراء وكاد الأمر ان يتمّ لولا ان دخل عمر وقال له : ما هذا ؟ فقال له : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ الكتاب فشقه ، ونحن ننقل هذه الرواية
    __________________
    (1) ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية ج 3 ص 391.

    في تحفظ وان كنا نستقرب صحّتها لأنّ كل شيء كان يشجع على عدم حكاية هذه القصّة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. واذا صحّت فهي تدلّ على أنّ أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الإرث عن رسول الله 6 لأنّ حروب الردة التي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيّام (1) خطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق (2).
    2 ـ وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة (3) وقد بلغ به التأثر حيناً ان قال للناس وقد اجتمعوا حوله أقيلوني بيعتي ، وندرك من هذا انّ الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده إلى الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة وضعف في المدرك الذي استند إليه ويثور به ضميره أحياناً فلا يجد في مستنداته ما يهدئ نفسه المضطربة وقد ضاق بهذه الحالة المريرة فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها للانسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أو شكّ الستار ان يسدل عليها وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها إلا التبعات.
    3 ـ ولا ننسى انّ أبا بكر أوصى أن يدفن إلى جوار رسول الله 6 ولا يصحّ ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونيا في الموضوع واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته
    __________________
    (1) راجع مروج الذهب ج 2 ص 193.
    (2) ولعلّ هذا يضعف من شأن الرواية لانّ الخليفة لو كان مستعدّاً للتراجع لأجاب الزهراء إلى ما تطلب في المسجد حينما خطبت واسمعته من التأنيب والتقريع الشيء الكثير.
    (3) رواه الطبري كما في ص 18 من سمو المعنى في سمو الذات للأستاذ الكبير الشيخ عبدالله العلائلي.

    من أرض الحجرة ـ إذا كان للزوجة نصيب في الأرض وكان نصيب عائشة يسع ذلك ـ ولو كان يرى ان تركة النبي (ص) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم ، وهب ان البالغين اجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.
    4 ـ ونحن نعلم أيضاً ان الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كن يسكن فيها في حياة رسول الله (ص) فما عساه ان يكون سبب التفريق الذي انتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامّة وابقاء بيوت نساء النبي (ص) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله ؟ حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبي 6 أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن فلنا ان نستفهم عمّا اثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بيّنة عليه ولا ادّعته واحدة منهنّ وليست حيازتهنّ للبيوت في زمان رسول الله 6 شاهداً على ملكيتهنّ لها لأنّها ليس حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (ص) ككلّ زوجة بالنسبة إلى زوجها. كما انّ نسبة البيوت اليهنّ في الآية الكريمة ـ وقرن في بيوتكنّ ـ لا يدلّ على ذلك لأنّ الإضافة يكفي في صحبتها أدنى ملابسة وقد نسبت إلى النبي (ص) في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل اذ قال الله تبارك وتعالى : يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم فإذا كان الترتيب القرآني حجّة لزم الأخذ بما تدلّ عليه هذه الآية وورد في صحّاح السنّة عن رسول الله (ص) اسناد البيت إليه في قوله : انّ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
    5 ـ ولنتساءل عمّا إذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب إليه الخليفة مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلين 6 واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة واجراءه على الصدّيقة دون سائر ورثة الأنبياء أو انّ الرسل السابقين قد اهملوا تبليغه وتعريف

    خلفائهم وورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة واستبقاء لها في أولادهم وآلهم أو انّهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً أو أنّ السياسة السائدة يومذاك هي التي انشأت هذا الحكم ؟
    6 ـ ومن جهة أخرى هل يمكننا ان نقبل انّ رسول الله (ص) يجر على أحبّ الناس إليه واقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسرّ لسرورها وينقبض لإنقباضها (1) ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من اعلامها بحقيقة الأمر لئلا تطلب ما ليس لها بحقّ وكأنّ رسول الله (ص) لذ له ان ترزي ابنته ثم تتّسع هذه الرزيّة فتكون أداة اختلاف وصخب بين المسلمين عامّة وهو الذي أرسل رحمة للعالمين فبقي مصرّاً على كتمان الخبر عنها مع الاسرار به إلى أبي بكر.
    * * *
    1 ـ لأجل ان نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنويّة بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع إلى قسمين : ـ
    ( الأول ) ما جاء في بعضها من انّ أبا بكر بكى لما كلّمته فاطمة ثم قال يا بنت رسول الله والله ما ورث أبوك ديناراً ولا درهماً وانّه قال : انّ الأنبياء لا يورثون وما ورد في حديث الخطبة من قوله : انّي سمعت رسول الله (ص) يقول : انّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنّما نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة.
    ( الثاني ) التعبير الذي تنقله عدة اخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن رسول الله (ص) من انا لا نورث ما تركناه صدقة.
    __________________
    (1) هذه صيغ أحاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي.

    2 ـ والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما إذا كانت هذه الصيغ تدلّ بوضوح لا يقبل تشكيكاً ولا تأويلاً ـ وهو النصّ في العرف العلمي ـ على أنّ النبي 6 لا تورث تركته أو ما إذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر وان كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح ـ وهو الظاهر في الاصطلاح ـ وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجع المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدّي باللفظ من معان اخر ـ وهو المجمل ـ.
    3 ـ إذا لاحظنا القسم الأول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل ان تكون بياناً لعدم تشريع توريث الأنبياء كما فهمه الخليفة ويمكن ان تكون كناية عن معنى لا يبعد ان يقع في نفس رسول الله (ص) بيانه وهو تعظيم مقام النبوّة وتجليل الأنبياء. وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الإلهية اجلى دلالة واكثر مادية من الزهد في الدنيا ولذائذها الزائفة ومتعها الفانية فلماذا لا يجوز لنا افتراض انّ النبي (ص) أراد ان يشير إلى ان الأنبياء أناس ملائكيون وبشر من الطراز الأسمى الذي لا تشوبه الأنانيّات الأرضيّة والأهواء البشريّة لأنّ طبيعتهم قد اشتقّت من عناصر السماء ـ بمعناها الرمزي ـ المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الارضي فهم أبداً ودائماً منابع الخير والطالعون بالنور والموروثون للايمان والحكمة والمركزون للسلطان الإلهي في الأرض وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس ولا بالساعين وراء نفائسها ولماذا لا يكون قوله : انّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً كناية عن هذا المعنى لأن توريثهم لهذه الأشياء انّما يكون بحيازتهم لها وتركهم إيّاها بعد موتهم وهم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً ولا يقيمون لها وزناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركة كما إذا قلنا : انّ الفقراء لا يورثون لا انّهم يختصون عن سائر الناس بحكم يقضي

    بعدم جريان أحكام الإرث على تركاتهم. والهدف الأصلي من الكلام بيان جلال الأنبياء. وهذا الأسلوب من البيان مما يتّفق مع الأساليب النبويّة الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.
    4 ـ ولكي تتّفق معي على تفسير معين للحديث يلزم ان نعرف معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم. ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورث من يكون سبباً لانتقال المال من الميّت إلى قريبه. وهذا الانتقال يتوقف على أمرين : ـ
    ( أحدهما ) وجود التركة.
    ( والآخر ) القانون الذي يجعل للوارث حصّة من مال الميّت ويحصل الأول بسبب نفس الميّت والثاني بسبب المشروع الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً اسندت إليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبياً يشرع بوحي من السماء فكلّ من الميّت والمشرع له نصيب من ايجاد التوارث ولكن المورث الحقيقي الذي يستحقّ التعبير عنه بهذا اللفظ بحقّ هو الميّت الذي أوجد مادة الإرث لأنّه هو الذي هيأ للإرث شرطه الأخير بما خلفه من ثروة واما المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لأنّه لم يجعل بوصفه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاماً يقضي بأن الميّت إذا كان قد ملك شيئاً وخلفه بعد موته فهو لأقاربه وهذا وحده لا يكفي لايجاد مال موروث في الخارج بل يتوقف على ان يكون الميّت قد أصاب شيئاً من المال وخلفه بعده.
    فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً إلى طبيعة من الطبائع فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها فإذا القيت إليها بورقة فاحترقت كنت انت الذي احرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق إلى الطبيعة والقاعدة التي تعلل ذلك ان كل شيء يسند بحسب اصول التعبير إلى

    المؤثر الأخير فيه وعلى ضوء هذه القاعدة نعرف ان نسبة التوريث إلى شخص تدلّ على انّه المؤثر الأخير في الإرث وهو الموروث الذي أوجد التركة فالمفهوم من جملة انّ الأنبياء يورثون انّهم يحصلون على الأموال ويجعلونها تركة من بعدهم واذا نفي التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي انّهم لا يهيؤون للارث شرطه الأخير ولا يسعون وراء الأموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم ، واذن فليس معنى الأنبياء لا يوروثون عدم التوريث التشريعي ونفي الحكم بالإرث لأنّ الحكم بالإرث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في الحديث.
    وعلى طراز آخر من البيان انّ التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الأنبياء ان كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي الغاء قانون الإرث من شرائع السماء ، لانّ توريثهم التشريعي لا يختصّ بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصة وان كان هو التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب للارث سقطت العبارة عمّا أراد لها الصديق من معنى وكان معناها ان الأنبياء لا تركة لهم لتورث.
    5 ـ وفي الرواية الأولى مهد الخليفة للحديث بقوله : والله ما ورث ابوك ديناراً ولادرهماً وهذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركة وعدم ترك رسول الله (ص) شيئاً من المال فإذا صحّ للخليفة ان يستعمل تلك الجملة في هذا المعنى فليصح ان تدلّ صيغة الحديث عليه ايضاً ويكون هو المقصود منها.
    6 ـ واذا لاحظنا الامثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز قيمة هذا التفسير لانّ ذكر الذهب والفضة والعقار والدار ـ مع انّها من مهمات التركة ـ لا يتّفق مع تفسير الحديث بأن التركة لا تورث

    لأنّ اللازم ذكر اتفه الأشياء لبيان عموم الحكم بعدم الإرث لسائر مصاديق التركة كما انا إذا اردنا ان نوضح عدم ارث الكافر لشيء من تركة ابيه لم نقل : ان الكافر لا يرث ذهباً ولا فضة ولا داراً وانّما نقول : انّه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميّت وبتعبير واضح انّ الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكلّ أقسام التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم اندراجه في التركة التي لا تورث وقولنا : الأنبياء لا يورثون أو انّ الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم يدلّ أوّل ما يدلّ على عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمها فذكر هذه الأمور في الحديث يرجح انّ المقصود بنفي توريث الأنبياء بيان زهدهم وعدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأنّ المناسب لهذا الغرض ذكر الأموال المهمة التي تكون حيازتها وتوريثها منافياً للزهد والمقامات الروحية العليا. وامّا الأخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون اقسامها الواضحة المهمّة.
    7 ـ وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الايجابيّة في الحديث أي جملة. ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة فانّها لا تدل على تشريع وراثة هذه الأمور بل على توفرها في الأنبياء إلى حد يؤهلهم لنشرها واشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذ انّ المراد بالجملة الأولى التي نفت التوريث بيان انّ الأنبياء لا يسعون للحصول على الذهب والعقار ونحوهما ولا يكون لهم من ذلك شئ ليرثه آلهم.
    8 ـ ولا يجوز لنا ان نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي 6 بقوله : انّ الناس لا يورثون الكافر من اقاربهم ، بل يلزمنا ان نفرق بين التعبيرين لأنّ المشرع إذا تكلّم عمن يشرع لهم

    أحكامهم كان الظاهر من كلامه انّه يلقي بذلك عليهم حكماً من الاحكام فاخبار النبي 6 عن عدم توريث الناس للكافر من اقاربهم لا يصح تفسيره بأنّه اخبار فقط بل يدلّ فوق هذا على أن الكافر لا يرث في شريعته وتختلف عن ذلك العبارة التي نقلها الخليفة لأن موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعة ممن تشملهم تشريعات النبي (ص) وأحكامه فليس في الأمر ما يدلّ على حكم وراء الأخبار عن عدم توريثهم.
    9 ـ وليس لك ان تعترض بأن الأنبياء كثيراً ما يحوزون على شيء مما ذكر في الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير ان يكون الحديث كاذباً لأنك قد تتذكّر ان الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصة وهو ينطوي على معنى خاص وأعني به اسناد الإرث إلى المورث وهذا الاسناد يتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تركه ميراثاً بعده كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب فإذا استطاع شخص ان يقرأ أفكار عالم من علماء الأخلاق ويهذب نفسه على هدى تلك الأفكار لم يصح تسمية ذلك العالم مهذباً لأن ايجاد اي شيء سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليماً أو نحو ذلك لا يستقيم اسناده إلى شخص إلا إذا كان للشخص عمل ايجابي وتأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشيء الموجود والانبياء وان حازوا شيئاً من العقارات والدور ولكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً. ونقرر علاوة على هذا ان المقصود من الكلام ليس هو بيان ان الأنبياء لا يورثون ولا يتركون مالاً بل ما يدلّ عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم وما دامت الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الأنبياء لبعض تلك الأموال عن صواب التفسير الذي قدمناه كما انّ من كنى قديماً عن الكريم بأنّه كثير الرماد لم يكن كاذباً سواء أكان في بيت الكريم رماد أو لا لأنّه لم يرد

    نعته بهذا الوصف حقاً وانّما أشار به إلى كرمه لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرماد وعدم التوريث من أوضح آثار الزهد والورع فيجوز ان يكون رسول الله 6 قد أشار إلى ورع الأنبياء بقوله : ان الأنبياء لا يورثون.
    10 ـ ولأجل ان نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا ان نميز بين معان ثلاثة ـ :
    الأول : ان تركة الميّت لا تورث ومعنى هذا ان ما كان يملكه إلى حين وفاته وتركه بعده لا ينتقل إلى آله بل يصبح صدقة حين موته.
    الثاني : ان ما تصدق به الميّت في حياته أو اوقفه على جهات معينة لا يورث بل يبقى صدقة ووقفاً والورثة انّما يرثون غير الصدقات من الأموال التي كان يملكها الميّت إلى حين وفاته.
    الثالث : انّ الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث وكل ما سوف يتركه من أموال انّما هو من الصدقات والأوقاف.
    ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر ان صيغة الحديث ليست واضحة كلّ الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص بل في طاقتها التعبيرية امكانيات التفسير بالمعاني الانفة الذكر جميعا فان النصف الثاني من الحديث وهو ـ ما تركناه صدقة ـ يجوز ان يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدأ وخبر يمكن ان يكون تكملة لجملة لا نورث ففي الحال الأولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأول والثالث من المعاني السابقة لأن جملة ـ ما تركناه صدقة ـ قد يراد بها ان التركة لا تنتقل من ملك الميّت إلى آله وانّما تصبح صدقة بعد موته وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث وهو ان جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميّت شيئاً ليورث كما إذا اشار الانسان إلى امواله وقال : ان هذه الاموال

    ليست ملكاً لي وانّما هي صدقات اتولاها والحديث على تقدير ان تكون له وحدة معنوية يدلّ على المعنى الثاني اي ان الصدقات التي تصدق بها الميّت في حياته لا تورث دون سائر تركته ويكون الموصول مفعولاً لا مبتدأ ويتضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا : ـ ما تركناه صدقة لا نورثه ـ فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان ان الصدقات لا تورث لا ان كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح ان يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلاً على عدم انتقال الصدقات إلى الورثة لا على عدم تشريع الإرث اطلاقاً وقد يكون من حق سيبويه علينا ان نشير إلى ان قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال ـ ما تركناه صدقة ـ معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح انّ الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة إلى الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.
    11 ـ واذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله وليس من الاسراف في القول ان نقرّر ان تفسير الحديث بما يدلّ على انّ أموال النبي (ص) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نتبين لوناً من الرجحان للمعنى الثاني ـ وهو ان المتروك صدقة لا يورث ـ دون سائر التركة إذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث وهو النون وهضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصح إلا على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن تواضع رسول الله (ص) في قوله وفعله فالظواهر تجمع على أن النون قد استعملت في جماعة وان الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها وليس مختصاً بالنبي (ص) والاوفق باصول التعبير ان تكون الجماعة جماعة المسلمين لا الأنبياء لأنّ الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء ولم يسبق بعهد يدلّ عليهم وليس لك ان تعترض بأن صيغة الحديث يجوز انّها كانت مقترنة

    حال صدورها من النبي 6 بقرينة أو مسبوقة بعهد يدلّ على انّ مراده من الضمير جماعة الأنبياء لانّ اللازم ان نعتبر عدم ذكر الخليفة لشيء من ذلك ـ مع أن الراوي لحديث لابد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره ـ دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. واضف إلى هذا ان اغفال ذلك لم يكن من صالحه واذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيصة.
    والمفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (ص) وقد جرت عادة المتكلمين على انّهم إذا أوردوا جملة في مجتمع من الناس وادرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة فلو ان شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه وأخذ يحدثهم وهو يعبر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء لفهم من الضمير ان المتكلم يعني بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم ولو أردا جماعة غير اولئك الحاضرين لم يكن مبيناً بل ملغزاً. وتعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي اثبته الحديث للمسلمين ـ الذين قد عرفنا ان الضمير يدلّ عليهم ـ هل يجوز ان يكون عبارة عن عدم توريث المسلم لتركته ؟ أو أن الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له وانّما هي من الصدقات. كلا ! فان هذا لا ينفق مع الضروري من تشريع الإسلام ، لأنّ المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين. وانت ترى معي الآن بوضوح ان الحكم ليس إلا ان الصدقة لا تورث فان هذا أمر عام لا يختص بصدقه دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن. لأنّ قواعد الشريعة واحكامها لم تكن قد تقررت

    واشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والاوقاف بموت المالك ورجوعها إلى الورثة متسع.
    ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له واعتراضها به على الخليفة.
    أما أولاً : فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث انّ السلطة الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالاً ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الأنبياء على الدعوى الصارمة اذ يقول هكذا هو ـ كما في طبقات ابن سعد ـ فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثورة بنصيب إلا الرد والفشل.
    وأمّا ثانياً : فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء وغرضها الذي كان يتلخص في القضاء على الأساليب التي هي أقرب إلى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلاً في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معاً ولكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب ان يستنكر اغضاء الخليفة عنها كل احد ، ويجر ذلك الاستنكار إلى معارضة حامية.
    فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامّة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين (1) والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الأنبياء كيحيى وداود 8 ، ثم عرضت المسألة على وجه آخر وهو : ان ما حكم به الخليفة لو كان حقاً للزم ان يكون أعلم من رسول الله (ص) ووصيه لأنهما لم
    __________________
    (1) من الواضحات العلمية اخيراً ان الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لأنّه حاكم أو وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم واصالة الاطلاق وانّما احتجت الزهراء بالآيات العامّة لأنّها لم تكن تعترف بوثاقة الصديق وعدالته.

    يخبراها بالخبر مع انهما لو كانا على علم به لاخبراها به ، ومن الواضح انّ الصديق لا يمكن ان يكون اعلم بحكم التركة النبويّة من النبي (ص) أو علي الذي ثبتت وصايته لرسول الله (ص) وذلك في قولها :
    يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ اذ يقول : وورث سليمان داود ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا ( رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال ( واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) افخصكم الله بآية اخرج منها أبي ؟ ام هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان ؟! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟! (1).
    وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية وليس من العجيب ان تصرّف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب فإنّه السلطان الأول على النفس والمهد الطبيعي الذي تترعرع فيه روح الثورة.
    وقد نجحت الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهزّ المشاعر وتكهرب العواطف وتهيمن على القلوب كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء.
    ولأجل ان نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملونة بأروع الألوان لا بأس بأن نستمع إلى الصديقة حين خاطبت الأنصار بقولها :
    يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله (ص) يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان من احدثتم
    __________________
    (1) نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.

    وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله (ص) أمتّم دينه ها ان موته لعمري خطب جليل ، استوسع وهنه ، واستبهم فتقه ، وفقد راتقه واظلمت الأرض له ، وخشعت الجبال واكدت الآمال ، اضيع بعده الحريم وهتكت الحرمة واذيلت المصونة ، وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته وانبأكم بها قبل وفاته فقال : ( وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقيبه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) أيّها بني قيلة أهتضم تراث أبي بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة ، ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجنن ، وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار الخ ..
    واذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث وتأويله مما تهضمها السلطات الحاكمة ولا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للثائرة من ثورتها.
    وهذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحلة في خطابها أيضاً.
    * * *
    1 ـ يجب الآن توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء في مسألة الميراث وتحديد رأيه فيها ـ بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقة من وضوح المعنى وخفائه ـ وهو موقف لا يخلو من تعقيد إذا تعمقنا شيئاً ما في درس المستندات التاريخية للقضية ومع انّ المستندات كثيرة فانّها مسألة محيرة ان نعرف ماذا عسى ان تكون النقطة التي اختلف فيها المتنازعان ، ومن الصعوبة توحيد هذه النقطة.
    والناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر والزهراء هو مسألة توريث الأنبياء فكانت الصديقة تدعي توريثهم والخليفة ينكر ذلك. وتقدير الموقف على هذا الشكل لا يحل المسألة حلاً نهائياً ولا يفسر عدة أمور ـ :

    ( الأول ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها ـ وقد طالبته بفدك ـ : ان هذا المال لم يكن للنبي (ص) وانّما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله 6 وليته كما كان يليه. فان هذا الكلام يدلّ بوضوح على انّه كان يناقش في أمر آخر غير توريث الأنبياء.
    ( الثاني ) : قوله لفاطمة في محاورة أخرى : أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي وقد قال رسول الله (ص) : لا نورث ما تركناه صدقة يعني هذه الأموال القائمة وهذه الجملة التفسيرية التي الحقها الخليفة بالحديث تحتاج إلى عناية فانّها تفيدنا انّ الخليفة كان يرى انّ الحكم الذي تدلّ عليه عابرة الحديث مختص بالنبي 6 وليس ثابتاً لتركة سائر الأنبياء ولا لتركة سائر المسلمين جميعاً فحدد التركة التي لا تورث بالأموال القائمة وذكر انّ رسول الله 6 كان يعنيها هي بالحديث. وعلى هذا التحديد نفهم انّ المفهوم للخليفة من الحديث ليس هو عدم توريث الصدقات لأنّ هذا الحكم عام ولا اختصاص له بالنبي 6 فلا يجوز ان يحدد موضوعه بالأموال القائمة بل كان اللازم حينئذ ان يأتي الخليفة بجملة تطبيقية بأن يقال : انّ الأموال القائمة مما ينطبق عليه الحديث.
    كما يتضح لدينا انّ الخليفة لم يكن يفسر الحديث بأنّ النبي 6 لا تورث تركته وأملاكه التي يخلفها بل تصبح صدقة بعد موته لأنّه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على أسلوب آخر لأن المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركة النبي (ص) على الاطلاق ولا يعني الأموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك ان هذه الأموال الخاصة لو كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك انّ هذه الأموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك النبي (ص) قبل وفاته لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتاً لها كما انّ غيرها من

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 2973
    نقاط : 4624
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    فدك في التاريخ Empty
    مُساهمةموضوع: رد: فدك في التاريخ   فدك في التاريخ Emptyالأحد أكتوبر 20, 2024 9:40 am

    اتّضح موقفه وتقررت الملاحظات التي لا حظناها في الحديثين الذين رواهما عن النبي (ص) وتتلخص المؤاخذة التي آخذناه بها حتى الآن في عدة أمور نشير إليها لنجمع نتائج ما سبق :
    ( الأول ) ان الخليفة لم يصدق روايته في بعض الاحاديين كما المعنا في مستهل هذا الفصل ..
    ( الثاني ) انّ من الاسراف في الاحتمال ان نجوز اسرار رسول الله 6 إلى الخليفة بحكم تركته واخفاءه عن بضعته وسائر ورثته وكيف اختصّ الخليفة دون غيره بمعرفة الحكم المذكور (1) مع أن النبي (ص) لم يكن من عادته الإجتماع بأبي بكر وحده إلا بأن يكون رسول الله 6 أخبره بالخبر في خلوة متعمدة ليبقى الأمر مجهولاً لدى ورثته وبضعته ويضيف بذلك إلى آلامها من ورائه محنة جديدة.
    ( الثالث ) انّ علياً هو وصي رسول الله 6 بلا ريب للحديث الدالّ على ذلك الذي ارتفع به رواته إلى درجة التواتر واليقين حتى شاع في شعر أكابر الصحابة فضلاً عن رواياتهم كعبد الله ابن عباس وخزيمة بن ثابت الأنصاري وحجر بن عدي وأبي الهيثم بن التيهان وعبدالله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبدالمطلب وحسان بن ثابت وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2) واذن فالوصاية من الاوسمة الإسلامية الرفيعة التي اختصّ بها الإمام بلا ريب (3).
    __________________
    (1) حتى قالت عائشة في كلام لها. واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحاد في ذلك علماً فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (ص) يقول : انّا معاشر الأنبياء لا نورث الخ ، راجع صواعق ابن حجر.
    (2) راجع شرح النهج ج 1 ص 47 ـ 49 وج 3 ص 15.
    (3) قال ابن أبي الحديد ج 1 ص 46 : فلا ريب عندنا انّ علياً (ع) كان وصي رسول الله (ص) وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد.

    وقد اختلف شيعة علي وشيعة أبي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب السابقون الأولون إلى انّها بمعنى النصّ عليه بالخلافة وتأولها الآخرون فقالوا : انّ علياً وصي رسول الله (ص) على علمه أو شريعته أو مختصاته ولا نريد الآن الإعتراض على هؤلاء أو تأييد اولئك وانّما نتكلم على الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث ونقرر النتيجة التي يقضي بها على كل من تلك التفاسير.
    فنفترض اولاً : ان الوصاية بمعنى الخلافة ثم نتبين الصديق على هدى الحديث فاننا سوف نراه شخصاً سارقاً لأنفس المعنويات الإسلامية ومتصرفاً في مقدرات الأمة بلا سلطان شرعي. ولا مجال لهذا الشخص حينئذ ان يحكم بين الناس. ولا يسعنا ان نؤمن له بحديث. ولنترك هذا التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا ونقول : انّ علياً وصي رسول الله 6 على علمه وشريعته فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية المقدسة ان نؤمن بحديث ينكره الوصي. وما دام هو العين الساهرة على شريعة السماء فلابد ان يؤخذ رأيه في كل مسألة نصاً لا مناقشة فيه لأنّه ادرى بما اوصاه به رسول الله (ص) وأئتمنه عليه وخذ اليك بعد ذلك الأسلوب الثالث فانه ينتهي إلى النتيجة السابقة عينها لأنّ علياً إذا كان وصياً لرسول الله (ص) على تركته ومختصاته فلا معنى لسطو الخليفة على التركة النبويّة ووصي النبي (ص) عليها موجود وهو اعرف بحكمها ومصيرها الشرعي.
    ( الرابع ) ان تأميم التركة النبويّة من اوليات الخليفة في التاريخ ولم يؤثر في تواريخ الامم السابقة ذلك ولو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها الخلفاء بالنسبة إلى تركة سائر الأنبياء لاشتهر الأمر وعرفته أمم الأنبياء جميعاً.
    كما انّ انكار الخليفة لملكية رسول الله (ص) لفدك ـ كما تدل

    عليه بعض المحاورات السابقة ـ كان فيه من التسرع شيء كثير لأنّ فدكاً مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً باتفاق أعلام المؤرخين من السنة والشيعة. وكلّ أرض يستسلم أهلها على هذا الأسلوب فهي للنبي (ص) خالصة. وقد أشار الله تعالى في الكتاب الكريم إلى ان فدكاً للنبي 6 بقوله : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه بخيل ولا ركاب (1) ولم يثبت تصدق النبي بها ووقفه لها.
    ( الخامس ) انّ الحديثين الذين استدل بهما في الموضوع لا يقوم منهما دليل على ما أراد ، وقد خرجنا من دراستهما قريباً بمعنى لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفة عن قرب أو بعد ، وان أبيت فلتكن المعاني الآنفة الذكر متكافئة ولتكن العبارة ذات تقادير متساوية. ولا يجوز حينئذ ترجيح معنى لها والاستدلال بها عليه.
    2 ـ هذه هي الاعتراضات التي انتهينا إليها آنفاً. ونضيف إليها الآن اعتراضاً سادساً بعد ان نفترض ان جملة انّا معاشر الأنبياء لا نورث أقرب إلى نفي الحكم بالميراث منها إلى نفي التركة الموروثة ونقدر لجملة : لا نورث ما تركناه صدقة. من المعنى ما ينفع الخليفة ونلغي تفسيرها بأن الصدقة المتروكة لا تورث ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقادير. وهذا الإعتراض الجديد هو ان اللازم ـ في العرف العلمي ـ متى صحت هذه الفروض تأويل الخبر ولم يجز الركون إلى أوضح معانيه لأنّه يقرر حينئذ عدم توريث سائر الأنبياء لتركاتهم لما جاء في بعضها من التصريح بالتعميم نحو انّا معاشر الأنبياء لا نورث ولما دلّ عليه بالنون في قوله لا نورث ما تركناه صدقة ، من تعليق الحكم على جماعة وحيث
    __________________
    (1) راجع سيرة ابن هشام ج 2 ص 239 وتاريخ الكامل ج 2 ص 85 وشرح النهج ج 4 ص 78.

    يتّضح انّ الحكم في الحديث عدم توريث التركة يتجلى ان المراد بالجماعة جماعة الأنبياء اذ لا توجد جماعة أخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها إلى الورثة ، وقد دلّ صريح القرآن الكريم على توريث بعض الأنبياء اذ قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مخبراً عن زكريا 7 : « واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضياً » والإرث في الآية بمعنى ارث المال لأنّه هو الذي ينتقل حقيقة من الموروث إلى الوارث وأما العلم والنبوة فلا ينتقلان انتقالاً حقيقياً ، وامتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل والمعقول (1) واضح كل الوضوح واما إذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما فلا ريب في تجرد الصور العلمية (2) وانها قائمة بالنفس قياماً صدورياً (3) بمعنى انّها معلولة للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات ـ
    __________________
    (1) وتقوم الفكرة في هذه النظرية على أن الصور المعقولة ـ وهي عبارة عن وجود مجرد عن المادة ـ لاقوام لها إلا بكونها معقولة فالمعقولية نفس هويتها وتجردها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. وهذا آية الوحدة الوجودية واذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود وكلّما صار الوجود النفسي مصداقاً فالمفهوم عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري واصبح من طراز أرفع ، ولا مانع مطلقاً من اتحاد مفاهيم متعددة في الوجود كما يتحد الجنس والفصل وليس ذلك كالوحدة الوجودية لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين فان هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب العقل دون ذاك الاتحاد. والتوسع لا مجال له.
    (2) فان الحقّ تجرّد جميع مراتب العلم والصور المدركة ولكن على تفاوت في مراتب التجريد فانّ المدرك بالذات لا يمكن ان يكون نفس الشيء بهويته الماديّة فحتى المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرّد وليس في نورية خروج الشعاع أو الانطباع وما ثبت حول الرؤية في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسّر الادراك البصري تفسيراً فلسفياً فلابدّ من الإعتراف بتجرده فضلاً عن الخيال والعقل وقد أوضحنا هذا المذهب في كتابنا العقيدة الإلهية في الإسلام.
    (3) لا قياماً حلولياً بمعنى كونها اعراضاً لها وانّما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة لحل المشكلة التي اعترضت الباحثين عندما ارادوا ان يوفقوا بين أدلة الوجود الذهني وبين ما اشتهر من كون العلم كيفا وهي انّ الصورة المعقولة إذا كانت كيفا فما نتعلقه من الانسان ليس جوهراً لأنّه كيف وليس

    لا بمجرد الاتصال فقط ـ متقوم بعلته ومرتبط الهوية بل فيستحيل انتقاله إلى علة أخرى ولو افترضنا ان الصور المدركة اعراض وكيفيات قائمة بالمدرك قياماً حلولياً فيستحيل انتقالها لاستحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع كما برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بان اعترافنا باشتمال الصور المدركة على الخصائص العامّة للمادة من قابلية الانقسام ونحوها.
    واذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول الصور العلمية جيمعاً.
    واذا لاحظنا النبوّة وجدنا انّها هي الأخرى أيضاً مما لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقلنا انّها مرتبة من مراتب الكمال النفسي ودرجة من درجات الوجود الإنساني الفاضل الذي ترتفع إليه المهية الإنسانية في ارتقاءاتها الجوهرية وتصاعداتها نحو الكمال المطلق أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من الكلمة واعتبرنا النبوّة منصباً إلهياً مجعولاً لا كمنصب الملك والوزير ويكون ذلك التكامل النفسي شرطاً له فالمفهوم الأول يمتنع انتقاله بالضرورة لأنّه نفس وجود النبي 9 وكمالاته الذاتية ، والنبوة بالمعنى الآخر
    __________________
    انساناً اذن لان كل انسان جوهر وانّما هو مثال. ولما أفلست جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهة من انكار الوجود الذهني وتقرير مذهب المثالية. واختيار التعدد وكون العلم عرضاً والمعلوم جوهراً وتفسير الجوهر بأنّه الموجود المستقل خارجاً لا ذهناً والانقلاب : اضطر الباحثون المتأخرون إلى تقرير ان الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا كيف غير ان الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي اختار في الاسفار انّها جوهر بحسب ماهيتها وكيف بالعرض. ويمكن الإعتراض عليه بأن كل ما بالعرض لابد ان ينتهي إلى ما بالذات واذن فلابد ان نفترض كيفاً حقيقياً متحداً مع الصورة لتكون كيفا بالعرض وتنتهي النظرية حينئذٍ بصاحبها إلى أحد أمرين أما الالتزام بتعدد ما في النفس أو الاصطدام بالمشكلة الأولى نفسها ولذا كان الافضل تقرير ان الصورة المدركة من الانسان مثلاً جوهر وليست بعرض اطلاقاً وارتباطها بالنفس ارتباط المعلول بالعلة لا العرض بموضوعه.

    يستحيل انتقالها أيضاً لأنّها حينئذ أمر اعتباري متشخص الاطراف ولا يعقل تبدل طرف من اطرافه إلا بتبدل نفسه وانقلابه إلى فرد آخر فنبوة زكريا مثلاً هي هذه التي اختصّ بها زكريا ولن يعقل ثبوتها لشخص آخر لأنّها لا تكون حينئذ تلك النبوّة الثابتة لزكريا بل منصباً جديداً أو مقاماً نبوياً حادثاً.
    والنظر الاولي في المسألة يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوة من دون حاجة إلى هذا التعمق والتوسع واذن فالنتيجة التي يقررها العقل في شوطه الفكري القصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي ان المال وحده الذي ينتقل دون العلم والنبوة.
    3 ـ وقد يعترض على تفسير الإرث في كلام زكريا بارث المال بأن يحيى 7 لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بارث النبوّة لأنّ يحيى قد حصل عليها ويكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب. ولكن هذا الإعتراض لا يختصّ بتفسير دون تفسير لأنّ يحيى 7 كما انّه لم يرث مال أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. وما ثبت له من النبوّة لم يكن وراثياً وليس هو مطلوب زكريّا وانّما سأل زكريّا ربّه وارثاً يرثه بعد موته ولذا قال : واني خفت الموالي من ورائي أي بعد موتي فان كلامه يدلّ بوضوح على انّه أراد وارثاً يخلفه ولم يرد نبياً يعاصره وإلا لكان خوفه من الموالي بعد وفاته باقياً ـ فلا بد ـ على كل تقدير ـ ان نوضح الآية على أسلوب يسلم عن الإعتراض وهو أن تكون جملة يرثني ويرث من آل يعقوب ، جواباً للدعاء بمعنى ان رزقتني ولداً يرث لا صفة ليكون زكريّا قد سأل ربّه وليّاً وارثاً. فما طلبه النبي من ربّه تحقق وهو الولد وتريثه وتوريثه المال أو النبوّة لم يكن داخلاً في جملة ما سأل ربّه وانّما كان لازماً لما رجاه في معتقد زكريّا (ع).
    ويختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جواباً من النواحي اللفظية

    في الأعراب لأن الفعل إذا كان صفة مرفوع واذا كان جواباً يتعين جزمه. وقد ورد في قراءته كلا الوجهين.
    واذا لاحظنا قصّة زكريا في موضعها القرآني الآخر وجدنا انّه لم يسأل ربّه إلا ذريّة طيّبة فقد قال تبارك وتعإلى في سورة آل عمران : هنالك دعا زكريا ربّه قال : ( ربّ هب لي من لدنك ذريّة طيّبة ).
    وافضل الأساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزاً على القرآن نفسه وعلى هذا فنفهم من هذه الآية انّ زكريّا كان مقتصداً في دعائه ولم يطلب من ربّه إلا ذريّة طيّبة وقد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جملة واحدة تارة وجعل لكل من الذريّة ووصفها دعوة مستقلّة في موضع آخر فكانت جملة هب لي من لدنك ولياً طلباً للذريّة وجملة واجعله ربي رضيّاً دعوة بأن تكون الذرية طيّبة. واذا جمعنا هاتين الجملتين ادت نفس المعنى الذي تفيده عبارة هب لي من لدنك ذريّة طيّبة. وتخرج كلمة ( يرثني ) بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء ولا بد حينئذ ان تكون جواباً له.
    4 ـ وعلى ذلك يتّضح انّ كلمة الإرث في الآية الكريمة قد اعطيت حقّها من الاستعمال واريد بها ارث المال لا ارث النبوّة لأن الشيء انّما يصح ان يقع جواباً للدعاء فيما إذا كان ملازماً للمطلوب ومتحققاً عند وجوده دائماً أو في أكثر الاحايين. ووراثة النبوّة ليست ملازمة لوجود الذرية اطلاقاً بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الأشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذة وكمال عظيم فلا يجوز ان توضع النبوّة بجلالها الفريد جواباً لسؤال الله تعإلى ذريّة طيّبة لأن النسبة بين الذرية الإنسانية وبين الجديرين بتحمل اعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين واما وراثة المال فيمكن ان تكون جواباً لدعاء زكريا 7 لأنّ الولد يبقى بعد أبيه على الأكثر فوراثته للمال مما يترتّب على وجوده

    غالباً واضف إلى ذلك انّ زكريا نفسه لم يكن يرى النبوّة ملازمة لذريته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية ولذا سأل ربّه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضياً.
    5 ـ ولنترك هذا لندرس كلمة الإرث في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جواب للدعاء. وفي رأيي ان هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج بنتيجة جديدة بل الإرث في كلمة ـ يرثني ـ هو ارث المال في الحالين معاً بلا ريب. والذي يعين هذا المعنى للكلمة على التقدير الجديد أمران : ـ
    الأول : انّ زكريا 7 لو كان قد طلب من ربّه ولداً وارثاً لنبوته لما طلب بعد ذلك ان يكون رضياً لأنّه خدل في دعوته الأولى ما هو رافع من الرضا.
    الثاني : ان اغفال الإرث بالمرة في قصّة زكريا الواردة في سورة آل عمران ان لم يدلّ على ان الإرث خارج عن حدود الدعاء فهو في الأقلّ يوضح انّ معنى الإرث في الموضع القرآني الآخر للقصة ارث المال لا ارث النبوّة لأن زكريا لو كان قد سأل ربّه أمرين أحدهما ان يكون ولده طيباً رضياً والآخر ان يرث نبوته لما اقتصر القرآن الكريم على ذكر الوصف الأول الذي طلبه زكريا 7 فانه ليس شيئاً مذكوراً بالاضافة إلى النبوّة ، ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما إذا سألك سائل بستاناً ودرهماً فاعطيته الامرين معاً ثم اردت ان تنقل القصّة وتخص الدرهم بالذكر. لا أراك تفعل ذلك إلا إذا كنت كثير التواضع ورجحان البستان على الدرهم في حساب القيم الماديّة دون امتياز النبوّة على طيب الذرية في موازين المعنويات الروحية واذن فقصة زكريا التي جاءت في سورة آل عمران. ولم يذكر فيها عن الإرث كثير أو قليل دليل على انّ الإرث المذكور في الصورة الأخرى للقصة بمعنى ارث المال لا ارث النبوة

    والا لكان من أبرز عناصر القصّة التي لا يمكن اغفالها.
    6 ـ ولاحظ بعض الباحثين في الآية الكريمة نقطتين تفسران الإرث فيها بإرث النبوة.
    الاولى ـ قول زكريا عاطفاً على كلمة ( يرثني ) : ـ ويرث من آل يعقوب ـ فان يحيى لا يرث أموال آل يعقوب ، وانّما يرث منهم النبوّة والحكمة.
    الثاني ـ ما قدمه النبي تمهيداً لدعائه من قوله : وأني خفت الموالي من ورائي حيث انّ خوفه انّما كان بسبب الاشفاق على معالم الدين والرغبة في بقائها باستمرار النبوّة لأنّ هذا هو اللائق بمقام الأنبياء دون الحرص على الأموال والخوف من وصولها إلى بعض الورثة.
    واعترض أصحابنا على النقطة الأولى بان زكريا 7 لم يسأل ربّه ان يرث ولده أموال آل يعقوب جميعاً وانّما أراد ان يرث منها فلا يكون دليلاً على التفسير المزعوم.
    وأمّا النقطة الثانية فهي من القرآئن على التفسير الذي اخترناه لأنّ الخوف على الدين والعلم من ابناء العم لا معنى له لأن اللطف الإلهي لا يترك الناس سدى بلا حجّة بالغة فمعالم الدين وكلمة السماء محفوظة بالرعاية الإلهية والنبوّة مخصوصة أبداً بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشى عليها من السطو والنهب واذن فماذا كان يحسب زكريا ربّه صانعاً لو لم يمن عليه بيحيى ، أكان يحتمل ان يكلف برسالته مواليه أعني بني عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الإلهية وعدم جدارتهم بهذا الشرف أو كان يرى انّ الله تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجة عليه ليس هذا ولا ذاك مما يجوّزه نبي. وانّما خاف زكريا من بني اعمامه على أمواله فطلب من الله ولداً رضياً يرثها. ولا جناح عليه في ذلك اذ يحتمل ان

    تكون رغبته في صرف أمواله عن بني عمومته بسبب انّها لو آلت اليهم لوضعوها في غير مواضعها وانفقوها في المعاصي والوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشرّ وامارات السوء حتى قيل انّهم شرار بني اسرائيل.
    وقد حاول ابن أبي الحديد ان يصور وجهاً لخوف زكريا من الموالي على الدين من ناحيتين : ـ
    الأولى : عن طريق اصول الشيعة فذكر ان دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبي غير مستقيم على مذهب الشيعة لأنّ المكلفين قد حرموا بغيبة الإمام عندهم الطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد وهم يقولون في ذلك انّ اللوم على المكلّفين لانهم قد حرّموا انفسهم اللطف فهلا جاز ان يخاف زكريا 7 من تبديل الدين وتغييره وافساد الاحكام الشرعية لأنّه انّما يجب على الله التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الاديان وبدلوها لم يجب عليه ان يحفظها عليهم لاٌهم هم الذين حرموا انفسهم اللطف.
    ولأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم انتقل بك إلى الناحية الثانية فأقول : انّ الخوف من انقطاع النبوّة انّما يصح على اصول الشيعة إذا نشأ عن احتمال افساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك كما هو الحال في زمان غيبة الإمام المنتظر صلوات الله عليه لا فيما إذا كان سببه الاطلاع على عدم لياقة جماعة خاصة للنبوة مع استحقاق الناس لها فان ارسال الرسول أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله تعالى لما أوجبه على نفسه من اللطف بعباده واذن فقصور أبناء العمومة عن نيل المنصب الإلهي لا يجوز ان ينتهي بزكريا إلى احتمال انقطاع النبوّة وانطماس معالم الدين إذا كان الناس مستحقين للالطاف الالهية. واذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين

    السماء والارض سواء أكان بنو العمومة صالحين للنبوة أو لا وسواه من الله عليه بذرية أو بقي عقيماً. والآية الكريمة تدل على أن الباعث إلى الخوف في نفس زكريا انّما هو فساد الموالي لا فساد الناس.
    الناحية الثانية : عن طريق تفسير الموالي بالأمراء بمعنى ان زكريا خاف ان يلي بعد موته امراء ورؤساء يفسدون شيئاً من الدين فطلب من الله ولداً ينعم عليه بالنبوة والعلم ليبقى الدين محفوظاً.
    ولنا أن نتساءل عمّا إذا كان هؤلاء الرؤساء الذين اشفق على الدين منهم هم الأنبياء الذين يخلفونه أو انّهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء. ولا خوف منهم على التقدير الأول اطلاقاً لأنهم انبياء معصومون. واما إذا كانوا ملوكاً فقد يخشى منهم على الدين ولكن ينبغي ان نلاحظ ان وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة والاستخفاف بالدستور الإلهي اولا فان كان كافياً لوقاية الشريعة وصون كرامتها فلماذا خاف زكريا من اولئك الأمراء ما دامت الالطاف الإلهية قد ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الإنسانية الواعية وخلود الاتصال بين الأرض والسماء ما بقيت الأرض اهلاً للتثقيف السماوي. وان لم يكن وجود النبي كافياً للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد لزكريا يرث عنه النبوّة ما دام النبي قاصراً عن مقاومة القوة الحاكمة وما دام الأمراء من الطراز المغشوش مع ان الآية تدلّ على أنّ زكريّا كان يرى انّ خوفه يرتفع فيما إذا من الله عليه بولد رضي يرثه.
    ونتيجة هذا البحث ان الإرث في الآية هو ارث المال بلا ريب. واذن فبعض الأنبياء يورثون وحديث الخليفة يقضي بأنّ الجميع لا يورثون.
    فالآية والرواية متعاكسان وكل ما عارض الكتاب الكريم فهو ساقط.

    ولا يجوز ان نستثني زكريا خاصة من سائر الأنبياء لأن حديث الخليفة لا يقبل هذا الاستثناء وهذا التفريق بين زكريا 7 وغيره والنبوة ان اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون ولا نحتمل أن يكون لنبوة زكريا 7 خاصية جعلته يورث دون سائر الانبياء. وما هو ذنب زكريا 7 أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز. أضف إلى ذلك ان تخصيص كلمة الأنبياء الواردة في الحديث والخروج بها عمّا تستحقه من وضع لا ضرورة له بعد أن كان الحديث قابلاً للتفسير على أسلوب آخر ان لم يكن هو المفهوم الظاهر من الحديث كما اوضحناه سابقاً فهو تفسير على كل حال فلماذا نفسر الحديث بأن تركة النبي لا تورث لنضطر إلى ان نقول بأنّ رسول الله 6 كان يعني بالأنبياء غير زكريّا 7 بل لنأخذ بالتفسير الآخر ونفهم من الحديث ان الأنبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه ونحفظ للفظ العام حقيقته (1).
    ونعرف مما سبق ان صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما اراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم ومصيرها الاهمال حينئذ وليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركاً قانونياً في موضوع التوريث ولذا لم يتفطن الصديق إلى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآية الآنفة الذكر ولم يوفق واحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه. وليس ذلك إلا لأنهم احسوا بوضوح ان الحديث يناقض الآية بمعناه الذي يبرر موقف الحاكمين.
    __________________
    (1) والجملة خبرية وليست انشائية لان انشاء حكم على الأنبياء بعد وفاتهم وانقراض ورثتهم لا معنى له وحينئذ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال وليس شأن صيغة الحديث شأن الجمل الانشائية التي يكشف تخصيصها عن عدم ارادة الخاص بالارادة الجدية ويقدم لذلك على سائر التأويلات والتجوزات بل هي خبرية والجملة الخبرية إذا خالفت الارادة الاستعمالية فيها الجد والحقيقة كانت كذباً فتخصيصها يستلزم صرفها إلى المعنى المجازي وحينئذ فلا يرجع على تجوز آخر إذا دار الأمر بينهما.

    ولا يمكن ان نعتذر عن الخليفة بأنّه يجوز اختيار أحد النصّين المتناقضين وتنفيذه كما يرتئيه جماعة من علماء الإسلام وقد اختار ان ينفذ مدلول الحديث وذلك لأنّ المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنّه الحق وهل بعد الحق إلا الضلال.
    * * *
    الناحية الثانية : المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله 6 اياها فدكاً فقد ادعت الصديقة النحلة وشهد بذلك قرينها وأم أيمن فلم يقبل الخليفة دعواها ولم يكتف بشاهديها وطالبها بيّنة كاملة وهي رجلان أو رجل وامرأتان.
    1 ـ والنقطة الأولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم في المسألة مع أن خلافته لم تكتسب لوناً شرعياً إلى ذلك الحين على أقل تقدير ولكننا لا نريد الآن ان نضع هذه المؤاخذة قيد الدرس لأنّ المناقشة على هذا الشكل تبعثنا إلى آفاق واسعة من البحث وتضطرنا إلى نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسة في الإسلام وهي عملية لها حساب طويل.
    2 ـ والملاحظة الثانية في الموضوع هي انّ فدكاً إذا كانت في حيازة الزهراء 3 فلا حاجة لها إلى البيّنة وفي هذه الملاحظة امران :
    أولاً : من هو الذي كانت فدك في حيازته ؟ وهل كانت في يد الزهراء حقاً ؟ قد يمكن ان نفهم ذلك من قول أمير المؤمنين في رسالته الخالدة إلى عثمان بن حنيف : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. فان المفهوم من كلمة أيدينا ان فدكاً كانت في أيدي أهل البيت وقد نصت على ذلك روايات الشيعة.

    وحصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الإمام بفدك يدلّ على انّها كانت في حيازة علي وزوجه خاصة ويمنع عن تفسير العبارة بان فدكاً كانت في يد رسول الله 6 باعتبار ان حيازته حيازة أهل البيت لأنّنا نعلم انّ رسول الله (ص) كانت في يده أشياء أخرى غير فدك من مختصاته واملاكه.
    وثانياً : هل الحيازة دليل على الملكية ؟ والجواب الإيجابي عن هذه المسألة مما أجمع عليه المسلمون ولولا اعتبارها كذلك لاختل النظام الاجتماعي للحياة الإنسانية.
    وقد يعترض على دعوى ان فدكاً كانت في يد الزهراء بانها لم تحتج بذلك ولو كانت في يدها لكفاها ذلك عن دعوى النحلة والاستدلال بآيات الميراث وفي المستندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الإعتراض لأنّها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة غير أننا لا نريد دراسة المسألة على ضوء شيء منها.
    ولكن ينبغي أن نلاحظ أن فدكاً كانت أرضاً مترامية الأطراف وليس شأنها شأن التوافه من الاملاك والمختصات الصغيرة التي تتضح حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة. فإذا افترضنا ان فدكاً كانت في يد فاطمة يتعهدها وكيلها الذي يقوم بزراعتها فمن يجب ان يعرف ذلك من الناس غير الوكيل.
    ونحن نعلم ان فدكاً لم تكن قريبة من المدينة ليطلع أهلها على شؤونها ويعرفوا من يتولاها فقد كانت تبعد عنها بأيام كما انّها قرية يهودية وليست في محيط اسلامي لتكون حيازة فاطمة لها معروفة بين جماعة المسلمين.
    فماذا كان يمنع الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفة سوف يطالبها بالبينة على أن فدكاً في يدها إذا ادعت ذلك كما طالبها على النحلة ما دام

    في نظرها ـ مسيراً في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشيء.
    وكان من السهل في ذلك اليوم ان تبتلع الحوت وكيل فاطمه على فدك أو أي شخص له اطلاع على حقيقة الأمر كما ابتلعت أبا سعيد الخدري فلم يرو النحلة وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة وأراحت الفاروق (1) أو أن يتهم بالردة لأنّه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما اتهم مانعوا الزكاة والرافضون لتسليمها له.
    3 ـ ولنترك هذه المناقشة لنصل إلى المسألة الأساسية وهي : انّ الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء ويؤمن بآية التطهير التي نفت الرجس عن جماعة منهم فاطمة أولاً.
    ونحن لا نريد ان نتوسع في الكلام على العصمة واثباتها للصديقة بآية التطهير لأنّ موسوعات الامامية في فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمة ولا نشك في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت تحدث بنزول آية التطهير في فاطمة وقرينها وولديها (2) وقد صرحت بذلك صحاح الشيعة والسنة وكان رسول الله (ص) كلما خرج إلى الفجر بعد نزول الآية يمرّ ببيت فاطمة ويقول الصلاة يا أهل البيت انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ، وقد استمر على هذا ستة أشهر (3).
    __________________
    (1) وقد جاءت الرواية مصرحة بانّ عمر ارسل رسولاً إلى سعد ليقتله ان لم يبايع فلما أبى سعد قتله الرسول راجع عقد الفريد ج 3 ص 63.
    (2) راجع صحيح مسلم ج 2 ص 331.
    (3) رواه الإمام أحمد في مسنده ج 3 ص 295 عن أنس وأخرجه الحاكم أيضاً وشهد بصحته.

    واذن فلماذ طلب الخليفة بيّنة من فاطمة على دعواها وهل تحتاج الدعوى المعلوم صدقها إلى بيّنة ؟
    قال المعترضون على أبي بكر : ان البيّنة انّما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى والعلم أقوى منها فإذا لزم الحكم للمدعى الذي تقوم البيّنة على دعواه يجب الحكم للمدعى الذي يعلم الحاكم بصدقه.
    والاحظ ان في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البيّنة وعلم الحاكم بالاضافة إلى صلب الواقع وانّما لوحظ مدى تأثير كل منهما في نفس الحاكم وكانت النتيجة حينئذ ان العلم أقوى من البيّنة لأنّ اليقين أشدّ من الظنّ. وكان من حقّ المقارنة ان يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في كل مخاصمة. ولا يفضل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البيّنة لأن الحاكم قد يخطأ كما انّ البيّنة قد تخطأ فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للزلل والاشتباه.
    ولكن في المسألة أمر غفل عنه الباحثون أيضاً وهو أن ما يعلمه الخليفة من صدق الزهراء يستحيل ان لا يكون حقيقة ، لأنّ سبب علمه بصدقها ليس من الأسباب التي قد تنتج توهما خاطئاً وجهلاً مركباً وانّما هو قرآن كريم دلّ على عصمة المدعية. وعلى ضوء هذه الخاصية التي يمتاز بها العلم بصدق الزهراء يمكننا ان نقرر أن البيّنة التي قد تخطأ إذا كانت دليلاً شرعياً مقتضياً للحكم على طبقه فالعلم الذي لا يخطئ وهو ما كان بسبب شهادة الله تعالى بعصمة المدعي وصدقه أولى بأن يكتسب تلك الصفة في المجالات القضائية.
    وعلى أسلوب آخر من البيان نقول : ان القرآن الكريم لو كان قد نص على ملكية الزهراء لفدك وصدقها في دعوى النحلة لم يكن في المسألة متسع للتشكيك لمسلم أو مساغ للتردد لمحكمة من محاكم القرآن ومن الواضح أن نصه على عصمة الزهراء في قوة النصّ على النحلة

    لأنّ المعصوم لا يكذب فإذا ادعى شيئاً فدعواه صائبة بلا شك ولا فرق بين النصّ على العصمة والنصّ على النحلة فيما يتصل بمسألتنا سوى ان ملكية الزهراء لفدك هي المعنى الحرفي للنصّ الثاني والمعنى المفهوم من النصّ الأول عن طريق مفهومه الحرفي.
    4 ـ ونقول من ناحية أخرى : ان احداً من المسلمين لم يشك في صدق الزهراء ولم يتهمها بالافتراء على أبيها وانّما قام النزاع بين المتنازعين في أنّ العلم بصواب الدعوى هل يكفي مدركاً للحكم على وفقها او لا ؟ فلندع آية التطهير ونفترض انّ الخليفة كان كأحد هؤلاء المسلمين وعلمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاوياً على الامتياز الذي أشرنا إليه في النقطة السابقة بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضه للخطأ والاشتباه ولا يدلّ حينئذ جعل البيّنة دليلاً على مشاركته لها في تلك الخاصية لأنّه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقاً.
    ولكن الحاكم يجوز له مع ذلك ـ أن يحكم على وفق علمه كما يجوز له أن يستند في الحكم إلى البيّنة بدليل ما جاء في الكتاب الكريم مما يقرر ذلك اذ قال الله تعالى في سورة النساء : ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ) وقال في سورة الاعراف : ( ممن خلقنا أمة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ) أي يحكمون.
    وللحق والعدل ملاحظتان : ـ
    ( احداهما ) الحق والعدل في نفس الأمر والواقع.
    ( والاخرى ) الحق والعدل بحسب الموازين القضائية فالحكم على وفق البيّنة حق واعتدال في عرف هذه الملاحظة وان اخطأت ويعاكسه الحكم على وفق شهادة الفاسق فانه ليس حقاً ولا عدلاً وان كان الفاسق صادقاً في خبره.

    والمعنى بالكلمتين في الآيتين الكريمتين ان كان هو المعنى الأول للحق والعدل كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى البيّنة فإذا احرز الحاكم ملكية شخص لمال صحّ له أن يحكم بذلك لأنّه يرى انّه الحق الثابت في الواقع والحقيقة العادلة فحكمه بملكية ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به الله تعالى. واما إذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني اعني ما يكون حقّاً وعدلاً بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين على شيء في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذ ان أي قضاء يكون قضاء بالحق وعلى طبق النظام وأي قضاء لا يكون كذلك.
    ومن الواضح ان المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الأول دون الثاني وخاصة كلمة الحق فانّها متى وصف بها شي ء فهم ان ذلك الشيء أمر ثابت في الواقع فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. ويدل على ذلك الأسلوب الذي صيغت عليه الآية الأولى فانّها تضمنت أمراً بالحكم بالعدل وواضح جداً أن تطبيق التنظيمات الإسلامية في موارد الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي لأن نفس وضعها قانوناً للقضاء معناه لزوم تطبيقها فلا يكون الأمر بالتزام القانون إلا تكراراً أو تنبيها وليس من حقيقة الأمر في شيء واما الأمر بالحكم على طبق الحقائق الواقعية سواء أكان عليها دليل من بيّنة وشهادة أولا فهو من طبيعة الأمر بالصميم لأنّه تقرير جديد يوضح ان الواقع هو ملاك القضاء الإسلامي والمحور الذي ينبغي ان يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والأدلة الخاصة (1).
    __________________
    (1) واذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العلمية قلنا : انّ الأمر على التقدير الثاني يكون ارشادياً اذ لا ملاك للأمر المولوي في المقام حيث ان المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث والتحريك فظهور الأمر في المولوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الأول لجواز الأمر مولوياً باتباع الواقع فيما إذا دلت عليه البيّنة خاصة وامكان الأمر باتباعه مطلقاً.

    واذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء الإسلامية (1).
    واضف إلى ذلك انّ الصديق نفسه كان يكتفي كثيراً بالدعوى المجردة عن البيّنة فقد جاء عنه في صحيح البخاري (1) انّ النبي (ص) لما مات جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال. من كان له علي دين أو كانت قبله عدة فليأتنا قال جابر : وعدني رسول الله 6 ان يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يده ثلاث مرات فعد في يدي خمسمأة ثم خمسمأة ثم خمسمأة.
    وروي في الطبقات (2) عن أبي سعيد الخدري انّه قال : سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : من كانت له عدة عند رسول الله 6 فليأت ؟ فيأتيه رجال فيعطيهم فجاء أبو بشير المازني فقال : انّ رسول الله (ص) قال يا أبا بشير إذا جاءنا شيء فأتنا. فاعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدوها الفاً وأربعمائة درهم.
    __________________
    وأنا اعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلمية الدائرة في مباحث المنطق والفلسفة والفقه والاصول ـ إلا حين اضطر إلى ذلك اضطراراً ـ لأنني أحاول ان تكون بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم.
    (1) ان قيل : ان الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق وهو لا يعلم الحكم باستحقاقه للعقاب يدلّ على عدم كون القضاء من آثار الواقع فيدور الأمر بين صرف هذه الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم وحمل العقاب فيها على التجري وبين صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت : لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة للآيات بصورة العلم فيكون موضوع القضاء مركباً من الواقع والعلم به وبتعبير آخر انّه من أثار الواقع الواصل.
    (2) ج 3 ص 180.
    (3) ج 4 ص 134.

    فاذا كان الصديق لا يطلب أحداً من الصحابة بالبينة على الدين أو العدة فكيف طلب من الزهراء بيّنة على النحلة.
    وهل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أنّ الظروف السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص ؟
    ومن الغريب حقاً أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي 6 بمبلغ من المال وتردّ دعوى بضعة رسول الله (ص) لأنّها لم تجد بيّنة على ما تدعيه.
    واذا كان العلم بصدق المدعي مجوزاً لاعطائه ما يدعيه فلا ريب أن الذي لا يتهمّ جابراً أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضاً.
    واذا لم يكن اعطاء الخليفة لمدعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ بدعواه وانّما دعاه احتمال صدقه إلى اعطائه ذلك وللامام ان يعطي أي شخص المبلغ الذي يراه فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة فدك.
    وهكذا انجز الصديق وعود رسول الله (ص) التي لم تقم عليها بيّنة وأهمل هباته المنجزة التي ادعتها سيدة نساء العالمين وبقي السؤال عن الفارق بين الديون والعدات وبين نحلة بلا جواب مقبول.
    5 ـ ولنستأنف مناقشتنا على أساس جديد وهو : انّ الحاكم لا يجوز له الحكم على طبق الدعوى المصدقة لديه إذا لم يحصل المدعى على بيّنة تشهد له ونهمل النتيجة التي انتهينا إليها في النقطة السابقة ونسأل على هذا التقدير.
    أولاً ـ عمّا منع الصديق من التقدم بالشهادة على النحلة إذا كان عالماً بصدق الحوراء سلام الله عليها اذ يضم بذلك شهادته إلى شهادة علي وتكتمل بهما البيّنة ويثبت الحق واعتباره لنفسه حاكماً لا يوجب سقوط

    شهادته لأنّ شهادة الحاكم معتبرة وليست خارجة عن الدليل الشرعي الذي أقام البيّنة مرجعاً في موارد الخصومة.
    وثانياً ـ عن التفسير المقبول لاغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه بحسب الفرض. ولأجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرق بين أمرين اختلطا على جملة الباحثين في المسألة :
    ( أحدهما ) الحكم للمدعي بما يدعيه.
    ( والآخر ) تنفيذ آثار الواقع واذا افترضنا ان الأوّل محدود بالبينة فالآخر واجب على كل تقدير لأنّه ليس حكماً ليحدد بحدوده فإذا علم شخص بأن بيته للآخر فسلمه لمالكه لم يكن هذا حكماً بملكيته له وانّما هو اجراء للاحكام التي نص عليها القانون. كما انّ الحاكم نفسه إذا ادعى شخص عنده ملكية بيت وكان في حيازته أو دل الاستصحاب على الملكية المدعاة فاللازم عليه وعلى غيره من المسلمين ان يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدعي وليس معنى هذا ان الحاكم حكم بأنّ البيت ملك لمدعيه مستنداً إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب وان المسلمين اخذوا انفسهم باتباع هذا الحكم بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك وليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعة وانّما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.
    والفارق بين حكم الحاكم بملكية شخص لمال أو فسقه ونحوهما من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم وبين تطبيق آثار تلك الأمور هو : امتياز الحكم بفصل الخصومة ونعني بهذا الامتياز ان الحاكم إذا أصدر حكماً حرم نقضه على جميع المسلمين ولزم اتباعه من دون نظر إلى مدرك آخر سوى ذلك الحكم.
    وأما تطبيق القاضي لآثار الملكية عملياً بلا حكم فلا يترتب عليه

    ذلك المعنى ولا يجب على كل مسلم متابعته واجراء تلك الآثار كما يجريها إلا إذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.
    والنتيجة : ان الخليفة إذا كان يعلم بملكية الزهراء لفدك فالواجب عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه ولا ينزعها منها اجاز له أن يحكم على وفق علمه أولا. ولم يكن في المسألة منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب اليمين منه واستحقاقه للمال إذا اقسم لأن الأموال التي كانت تطالب بها الزهراء اما ان تكون لها أو للمسلمين. وقد افترضنا انّ أبا بكر هو الخليفة الشرعي للمسلمين يومئذ واذن فهو وليهم المكلف بحفظ حقوقهم وأموالهم فإذا كانت الزهراء صادقة في رأيه ولم يكن في الناس من ينازعها فليس للخليفة ان ينتزع فدكاً منها وتحديد الحكم بالبينة خاصة انّما يحرم الحكم ولا يجيز انتزاع الملك من صحابه.
    واذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه لا يخفف من صعوبة الحساب ولا يخرج الخليفة ناجحاً من الامتحان.
    ( محمّد باقر ال
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    فدك في التاريخ
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » حضارات ما قبل التاريخ
    »  عصور ما قبل التاريخ
    » ما هو أقدم عصر عرفه التاريخ
    » افادات من ملفات التاريخ محمد سليم
    »  أسلحة عمرها 8 آلاف سنة في عُمان واليمن تغير ما نعرفه عن التاريخ

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 33- منتدى كتب العقائد والكلام-
    انتقل الى: