الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
نافذه على الفلسفه Emptyاليوم في 10:39 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
نافذه على الفلسفه Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
نافذه على الفلسفه Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
نافذه على الفلسفه Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
نافذه على الفلسفه Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
نافذه على الفلسفه Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
نافذه على الفلسفه Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
نافذه على الفلسفه Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
نافذه على الفلسفه Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     نافذه على الفلسفه

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:46 am

    كلمة المكتب
    الحمد لله‏ والصلاة والسلام على أنبياء الله‏ ، لا سيما رسوله الخاتم وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
    أما بعد ، لا شك أن إصلاح المناهج الدراسية المتداولة في الحوزات العلمية والمعاهد الدراسية في العصر الحاضر ـ الذي عُرف بعصر ثورة المعلومات ـ بات حاجة ملحّة يقتضيها تطور العلوم وتكاملها عبر الزمان ، وظهور مناهج تعليمية وتربوية حديثة ، تتوافق مع الطموحات والحاجات الإنسانية المتجددة.
    وهذه الحقيقة لم تعد خافية على القائمين على هذه المراكز ، فوضعوا نصب أعينهم إصلاح النظام التعليمي في قائمة الأولويات بعد أن باتت فاعليته رهن إجراء تغييرات جذرية على هيكلية هذا النظام.
    ويبدو من خلال هذه الرؤية أن إصلاح النظام الحوزوي ليس أمراً بعيد المنال ، إلا أنه من دون إحداث تغيير في المناهج الحوزوية ستبوء كافة الدعوات الإصلاحية بالفشل الذريع وستموت في مهدها.
    والمركز العالمي للدّراسات الإسلامية ـ الذي يتولّى مهمّة إعداد المئات من الطلاب الوافدين من مختلف بقاع الأرض للاغتراف من نمير علوم أهل البيت ـ عليهم ‏السلام ـ شرع في الخطوات اللازمة لإجراء تغييرات جذرية على


    المناهج الدراسية المتبعة وفق الأساليب العلمية الحديثة بهدف عرض المواد التعليمية بنحو أفضل ، الأمر الذي لا تلبّيه الكتب الحوزوية السائدة؛ ذلك أنها لم تؤلف لهدف التدريس ، وإنما ألفت لتعبر عن أفكار مؤلفيها حيال موضوعات مرّ عليها حقبة طويلة من الزمن وأصبحت جزءاً من الماضي.
    وفضلا عن ذلك فإنها تفتقد مزايا الكتب الدراسية التي يراعى فيها مستوى الطالب ومؤهلاته الفكرية والعلمية ، وتسلسل الأفكار المودعة فيها وأداؤها ، واستعراض الآراء والنظريات الحديثة التي تعبر عن المدى الذي وصلت إليه من عمق بلغة عصرية يتوخى فيها السهولة والتيسير وتذليل صعب المسائل مع احتفاظها بدقة العبارات وعمق الأفكار بعيداً عن التعقيد الذي يقتل الطالب فيه وقته الثمين دون جدوى.
    وانطلاقا من ‏توجيهات كبار العلماء والمصلحين وعلى رأسهم سماحة الإمام الراحل ـ قدس ‏سره ـ ، وتلبية لنداء قائد الثورة الإسلامية آية‏ الله ‏العظمى الخامنئي ـ مد ظله الوارف ـ قام هذا المركز بتخويل «مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية» مهمة تجديد الكتب الدراسية السائدة في الحوزات العلمية ، أن يضع له خطة عمل لإعداد كتب دراسية تتوفر فيها المزايا السالفة الذكر.
    وقد بدت أمام المكتب المذكور ـ ولأول وهلة ـ عدة خيارات :
    1 ـ اختصار الكتب الدراسية المتداولة من خلال انتقاء الموضوعات التي لها مساس بالواقع العملي.
    2 ـ إيجازها وشحنها بآراء ونظريات حديثة.
    3 ـ تحديثها من رأس بلغة عصرية وإيداعها أفكار جديدة إلا أن العقبة الكأداء التي ظلت تواجه هذا الخيار وقوع القطيعة التامة بين الماضي والحاضر ، بحيث تبدو الأفكار المطروحة في الكتب الحديثة وكأنها تعيش في غربة عن التراث و

    للحيلولة دون ذلك ، لمعت فكرة جمع الخيارات المذكورة في قالب واحد تمثّل في المحافظة على الكتب الدراسية القديمة كمتون وشرحها بأسلوب عصري يجمع بين القديم الغابر والجديد المحدث.
    وبناء على ذلك راح المكتب يشمّر عن ساعد الجدّ ويستعين بمجموعة من الأساتذة المتخصصين لوضع كتب وكراسات في المواد الدراسية المختلفة ، من فقه وأصول وتفسير وكلام وفلسفة ورجال وحديث وأدب وغيرها.
    وتطلع المكتب في حقل الفلسفة إلى تبسيط المباحث المطروحة فيها قدر المستطاع وعرضها للمبتدئين بأسلوب خال من التعقيد والإطناب ، فوجد بغيته في كتاب «نافذة على الفلسفة» للأستاذ صادق الساعدي الذي ألفه نزولا عند رغبة المكتب.
    فجاء الكتاب بمستوى الطموحات ـ خاصةً وإنه أعد للطالب تمارين تساعده على فهم كثير مما جاء في المتن ـ بعد أن طوى مراحل مختلفة من النقد والتمحيص على يد مجموعة من أساتذة الفلسفة ممن لهم باع طويل في هذا الحقل وفي طليعتهم سماحة الأستاذ الألمعي الكبير حجة ‏الإسلام والمسلمين الشيخ الفياضي ـ دامت ‏إفاضاته ـ حيث أبدوا فيه آراءهم السديدة ونظراتهم الثاقبة.
    وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بخالص الشكر إلى الأستاذ صادق الساعدي على ما تحمله من جهد وعناء في تأليف هذا الكتاب وإلى جميع من أسدوا خدمة في سبيل إنجازه.
    المركز العالمي للدراسات الإسلامية
    مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية



    المقدمة
    تُعدّ الفلسفة ركيزة مهمة ومنطلقاً أساسياً لصياغة فهم ورؤية كونية واضحة عن الكون والحياة ، وهي بذلك تضع لكل شيء حدَّهُ وتحدّد موقعه وترسم له الخطى ما بين مبدئه ومنتهاه.
    ولا شك في عمق الفلسفة ودقة بحوثها بما تتضمنه من مسائل جُعل العقل أداة وحيدة لحلها وبيان مداخلها ومخارجها ، مما يتطلب همّة عالية وجهداً وافراً لاستيعاب مطالبها وحل غوامضها وألغازها ، الأمر الذي بعث على استيحاش روّاد الحقيقة من الخوض في غمارها والدخول في تفاصيلها.
    ومما زاد في الطين بلّةً أن علماء الفلسفة لم يطرحوا أفكارهم بلغة سهلة سلسة يسهل على الغير قراءتها والتجوال في حقولها ، فبعث على أن تكون الفلسفة طلاسم لا يفكر أكثرُ الناس في الاقتراب منها لأنها مجموعة رموز وأسرار لا يتمكن من معرفتها إلا ذوو الاختصاص ممن قضى عمره في خوض لججها وبذل مهجته للوصول إلى عمقها وقعرها!
    وقد حاولنا من خلال نافذتنا الفلسفية الصغيرة التي بين يديك أن نوقفك على ألف باء الفلسفة وذلك بطرح أهم ما ورد فيها من مسائل ، بأسلوب مدرسي مبسّط يميط اللثام ويرفع عنها الإبهام ، ليكون ما طرحناه مقدمة للدخول إلى مباحث الفلسفة وتفاصيلها في كتبها المطوّلة ، آملين أن نوفّق في المستقبل لتسليط الضوء عليها بلغة عصرية واضحة تجعلها في متناول روّادها ، فمنه تعالى نستمد العون والتوفيق لأداء ما يجب علينا بدفع عجلة العلم والمعرفة إلى أمام ، إنه خير ناصر ومعين.
    صادق الساعدي



    الدرس الأول
    نبذة تاريخية فلسفية
    * ولادة الفكر البشري
    * ولادة الفكر الفلسفي
    * تيارات الشك والسفسطة
    * القرون الوسطى
    * الفجر الجديد
    * المدرسة المشائية والإشراقيّة والحكمة المتعالية
    * فكِّر وأجب


    ولادة الفكر البشري :
    لازم التفكير وجود الإنسان منذ نعومة أظفاره إلى يومنا هذا ، وترك آثاراً مهمّة في حياته حيث خلق انعطافات وتحولات مهمّة في مسار حركته ، وطوَّر أسلوب تعامله مع محيطه على مختلف الميادين والصُعد.
    وبهذا اختلفت حياة الإنسان المتطورة عن حياة الحيوان بقوالبها الجاهزة والجامدة ، فكم تجد الفارق واضحا بين بيوت الإنسان التي كانت في حدود الكهوف والمغارات والتي تطورت إلى عمارات ناطحات للسحاب ، وبين بيوت النحل السداسية ذات الأشكال الجامدة التي لم يكتب لها تغيير منذ أن وجد هذا الحيوان ولحد الآن.
    ولادة الفكر الفلسفي :
    والفكر الفلسفي الذي أثارته وأفرزته تساؤلات الإنسان عن الكون والحياة ، والمبدأ والمعاد ، كان أحد المحاور الفكرية التي استقطب اهتمام البشر من لدن آدم ولحدِّ الآن ، ودفعه صوب التأمل والنظر ، ومن ثم نحو الإبداع والابتكار في هذا المجال ، وقد كان لحكماء الفرس واليونان قصب السبق في ذلك على بقية الأمم وكان ذلك قبل الميلاد بعدة قرون حيث طفحت على سطح مناظراتهم و

    تأملاتهم الفلسفية العديد من الآراء والنظريات ، التي كان يسودها الاتزان تارة والتهافت والتضارب تارة أخرى ، وفي ذات الوقت النمو والثراء بفعل التلاقح الفكري الحر الذي وفّرَ أجواء خصبة لذلك.
    تيارات الشك والسفسطة :
    وفي ظل هذه الظروف برزت تيارات الشك والسفسطة واحتلّت مساحة واسعة من التفكير الفلسفي ، بعد أن احتل أربابها وهم السوفسطائيون ، منابر التعليم والخطابة والمحاماة ، وأنكروا حقائق الأشياء ووجودها الخارجي ، فانعكس ذلك على أذهان الناس وخلق عندهم بلبلة ذهنية وشكاً بكل حقيقة مهما كان طابعها ، وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد.
    ولم يستمر الوضع على هذا الحال حيث تصدى سقراط لعلاج الموقف بقوة ، وتبعه على ذلك أفلاطون ، وتلاهما أرسطو طاليس الذي أسّس قواعد الاستدلال والتفكير الصحيح في علم المنطق ، حيث كشف عن زيف السفسطة ومغالطتها ومنزلقاتها التي أودت بالتفكير الإنساني إلى الهاوية. وبذلك تربع اليقين على عرشه ، وعادت مياه الحقيقة إلى مجاريها وتلاشت تيارات الشك والإنكار ، وعلى هذا المنوال استمر الحال حتى بعد رحيل العمالقة الثلاثة؛ سقراط وأفلاطون وأرسطو ، حيث استمر تلامذتهم في ترويج أفكارهم ، فدفعوا عجلة اليقين إلى أمام.
    إلا أن مكانة هؤلاء أخذت بالتهاوي بين الناس بمرور الزمان ، فتقلص دورهم وقلّت أهميتهم ، فشدّوا رحالهم إلى الإسكندرية ، لتكون محطة جديدة لنشر

    أفكارهم وتداول معارفهم واستمروا على هذا المنوال حتى القرن الرابع بعد الميلاد.
    القرون الوسطى :
    وفي هذه الفترة اعتنق إمبراطورُ الروم المسيحيةَ ، وتبنّى أفكارها باعتبارها آراء الدولة الرسمية ، إلا أنه في ذات الوقت فتح أمام العلماء أبواب النقد لطرح آراءهم ووجهات نظرهم ، وعلى أثر ذلك تدهورت الأوضاع وتفاقمت الأمور بفعل التعارض والتضارب في وجهات النظر بين الكنيسة والعلماء مما دفع الإمبراطور (جستنيان) إلى إصدار أوامره بغلق المراكز العلمية والجامعات والمعاهد الفكرية ، وتعطيل المدارس في أثينا والإسكندرية ، ففر العلماء خوفا من البطش والتصفية الجسدية ، وحينها انطفأ مشعل العلم وانتكست راية المعرفة ، ومنها دخلت أوربا في عصورها المظلمة ، والتي تسمى أيضا بالقرون الوسطى ، حيث استغرقت ألف عام من الزمان ، وعلى نحو التحديد من أوائل القرن السادس بعد الميلاد وانتهاءً بالقرن الخامس عشر بعد الميلاد وامتازت هذه الفترة باستيلاء الكنيسة على المراكز العلمية استيلاءً تاماً؛ فكانت المباحث العلمية والفلسفية تفرضها الكنيسة على أنها تعاليم دينية لا تقبل النقاش.

    الفجر الجديد :
    وفي هذه الفترة بالذات ازدهرت الحركة العلمية في شبه الجزيرة العربية بفضل نور الإسلام ، الذي ولد هناك في تلك الفترة وقد أضاء كل شيء ، وبدت حينها حركة علمية تنشط وتتفاعل وتتلاقح وتنمو بفضل ما حث عليه الدين الإسلامي من طلب العلم من المهد إلى اللحد ، حتى ولو كلف ذلك خوض اللجج وسفك المهج ، وحتى ولو كان في الصين ، وبالفعل فقد برع المسلمون في جميع حقول العلم والمعرفة ، ومن جملتها الحقل الفلسفي ، فترجموا كتب اليونانيين والرومانيين والإيرانيين إلى اللغة ‏العربية ، وانهمك آخرون كالفارابي (1) في تبيان وشرح أفكار أفلاطون (2) وأرسطو (3) ، وتبعه على ذلك ابن سينا (4) حيثُ سلط
    __________________
    1. الفارابي : (أبو نصر محمد) (ت 950 م) فيلسوف لامع. ولد في فاراب «تركستان» ودرس في بغداد وحران وأقام في حلب في بلاط سيف الدولة الحمداني وتوفي في دمشق ، لقب بالمعلم الثاني ، من مؤلفاته كتاب «الموسيقى الكبير» ، «السياسة المدنية» ، «رسالة فصوص الحكم».
    2. أفلاطون «plato» ـ (347 ـ 428 ق. م) فيلسوف يوناني يُعَدّ من مشاهير فلاسفة العالم ، ولد في أثينا من أسرة عريقة في المجد ، بدأ أول دراسته بالرسم ، ثم نظم الشعر ، تتلمذ في سن العشرين على يد سقراط الذي كان له الدور الأكبر في نشأته الفلسفية.
    3. أرسطو «Aostotet» ـ (322 ـ 384 ق. م) مربي الإسكندر ومن كبار فلاسفة اليونان ، مؤسس فلسفة المشائين ، من مؤلفاته : «المقولات» ، «الجدل» ، «الخطابة» ، «السياسة» ، «كتاب ما بعد الطبيعة» ، أثر في الفكر العربي ومن أول من ترجم مؤلفاتهِ ، إسحاق ابن حنين.
    4. أبو علي بن سينا : «384 ـ 427 ه» ولد في أقشنة قرب بخارى وتوفي في همدان ، عُرِف بالشيخ الرئيس وكان عالماً لامعاً وعملاقاً كبيراً حيث ضرب في كل فن بسهم وتجلى فيه نبوغه ، ففي مضمار الفلسفة فيلسوف مبدع ، بلغت الفسلفة المشائية على يده القمة ، وفي مضمار الطب طبيب ماهر وحاذق ، ألّف كتاب «القانون» الذي لم يزل يُدَّرس في الجامعات العلمية عبر قرون ، كما وإنه عرف أستاذاً لامعاً في الرياضيات والهيئة.

    الضوء على فلسفة ومنطق أرسطو وبذلك ظهرت المدرسة المشائية في بلادنا الإسلامية.
    وفي أواسط القرن السادس الهجري ، شرح الشيخ شهاب‏ الدين السهروردي (1) أفكار أفلاطون بعد أن هواها ودافع عنها ، وبذلك أسس الفلسفة الإشراقية في بلادنا الإسلامية ونقد الفلسفة المشائيّة.
    وفي مطلع القرن الحادي عشر الهجري ، ظهر صدر المتألهين الشيرازي (2) بآراء وأفكار فلسفية جديدة على ضوء القرآن وكلمات الرسول (صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله) وأهل ‏البيت الطاهرين (عليهم‏ السلام) ، وأسماها بالحكمة المتعالية. (3)
    المدرسة المشائية والإشراقية والحكمة المتعالية :
    المدرسة المشائيّة تتمثل بفلسفة أرسطو طاليس حيث كان يعتمد في أبحاثه على الأسلوب الاستدلالي وسميّت فلسفته بهذا الاسم ، لأنه كان يسير من
    __________________
    1. شهاب ‏الدين السهروردي : «550 ـ 587 ه» صاحب مدرسة الإشراق في بلادنا الإسلامية وقد عرض آراءه بالنثر والشعر باللغتين العربية والفارسية ، وله مصنفات منها : التلويحات اللوحية والعرشية ، والألواح العمادية وهياكل النور.
    نشر أفكاره في حلب مما ألب الناس عليه واتهموه بالكفر مما دعى صلاح ‏الدين الأيوبي أن يأمر ابنه الملك الظاهر بقتله فاستُشْهِد على يده في قلعة حلب وفي شهر رجب.
    2. صدر المتألهين الشيرازي : «979 ـ 1050 ه» وهو محمد بن إبراهيم المعروف بصدر المتألهين ، ولد في مدينة شيراز ، وهو عالم شيعي كبير ، تعرف فلسفته بالحكمة المتعالية ، من أشهر كتبه «الأسفار الأربعة». وَعُرف أيضاً باسم الملاّ صدرا.
    3. يراجع من أجل الإلمام بتفاصيل هذا الدرس : كتاب المنهج الجديد لتعليم الفلسفة للأستاذ مصباح اليزدي ، وكتاب فلسفتنا للشهيد السعيد محمد باقر الصدر ، وكتاب تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم.

    المقدمات إلى النتيجة وكان من الأولى تسمية فلسفته بالفلسفة الاستدلالية في مقابل الفلسفة الإشراقية التي نادى بها أفلاطون ، الذي كان يرى بأنّ المعارف بالخصوص الإلهية منها ، لا تتأتى عن طريق الاستدلال العقلي فحسب ، بل لابد وأن يوجد إلى جانب ذلك سير وسلوك وتهذيب أخلاقي يبعث إشراقات وإفاضات للمعارف الإلهية على القلب. وقد تشعب الفلاسفة المسلمون على غرار ذلك إلى فلاسفة مشائين يتقدّمهم أبو علي ابن سينا ، وفلاسفة إشراقيين يتزعمهم شهاب ‏الدين السهروردي. وأما الحكمة المتعالية فهي اسم اختاره صدر المتألهين الشيرازي لفلسفته التي حاول من خلالها التقريب بين الفلسفة المشائية الاستدلالية وَبين المدرسة الإشراقية وبين ما جاء في الكتاب والسنة الشريفة من أحاديث وروايات.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ متى بدأ التفكير الإنساني؟ وبماذا يختلف الإنسان عن الحيوان في تغيير وتطوير محيطه الذي يعيش فيه؟
    2 ـ ما هو الباعث من وراء نشوء الفكر الفلسفي؟ ومن كان من بين الحكماء له قصب السبق في ذلك؟ ومتى؟
    3 ـ ما هي الظروف التي أنجبت تيارات الشك والسفسطة؟ ومن هم أربابها؟ ومتى تسنى لها الظهور؟
    4 ـ اذكر عمالقة الفكر الفلسفي الذين تصدوا لمواجهة اتجاه الشك وأحلوا اليقين محله؟ وكيف استمر اتجاه اليقين بعد مماتهم؟ وإلى أي مصير انتهى أمر أتباعهم؟
    5 ـ ما هي الظروف التي أودت بأوربا إلى فترة القرون الوسطى؟
    6 ـ ماذا جرى في شبه الجزيرة العربية إبان فترة القرون الوسطى؟
    7 ـ اشرح ما يلي :
    أ ـ المدرسة المشائية
    ب ـ المدرسة الإشراقية
    ج ـ مدرسة الحكمة المتعالية


    الدرس الثاني
    الفلسفة
    * تعريف الفلسفة
    * موضوع الفلسفة
    * أهمية وفائدة الفلسفة
    * أساليب التحقيق العلمي
    * فكِّر وأجب


    تعريف الفلسفة :
    جاءت كلمة الفلسفة من عبارة «فيلاسوفوس» أَي محبّ الحكمة ، وهو اسم اختاره سقراط (1) لنفسه؛ وقد نقل مورّخو الفلسفة أن السبب في اختيار هذا الاسم شيئان : أحدهما : تواضع سقراط حيث كان يعترف دائماً بجهله ، والثاني : تعريضه بالسوفسطائيين الذين كانوا يعدُّون أنفسهم حكماء (2) ؛ أي إنه باختيار هذا اللقب أراد أن يوحي لهم ، بأنكم لستم أهلاً لهذا الاسم «الحكيم» ؛ لأنكم تستخدمون التعليم والتعلم لأهداف مادية وسياسية ، وحتى أنا الذي استطعت ردَّ تخيلاتكم بأدلة محكمة ، لا أرى نفسي أهلاً لهذا اللقب ، وإنما أطلق على نفسي اِسم «محبّ الحكمة» (3).
    وفي العهد الإغريقي القديم ومنذ أن سَمّى سقراط نفسه بهذا الاسم ، صارت الفلسفة قديماً تستعمل في مقابل السفسطة المنكرة بأساليب مغالطاتها لحقائق الأشياء ، كما إنها صارت شاملة لجميع العلوم الحقيقية كالفيزياء ، والكيمياء ، والطب ، والهيئة ، والرياضيات والإلهيات؛ وأما العلوم الاعتبارية كالنحو و
    __________________
    1. سقراط : «399 ـ 470 ق. م» فيلسوف يوناني ، ولد في أثينا ، عُرِفَ بأنه كان أستاذاً ذائع الصيت بالفلسفة والحكمة وعرف بـ «سقراط الحكيم». وينقل أن هتافاً كان يراود سقراط يرشده إلى الطريق الصحيح. وقد بلغ من العلم مرتبه فريدة.
    2. حيث كان يطلق على كل منهم اسم «سوفيست» وهي كلمة يونانية تعني الحكيم.
    3. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة : 1 / 14 ـ 15 ، الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي.

    الصرف فهي خارجة عن حيز الفلسفة (1).
    وبناءً على ما تقدم فإن الفلسفة قديماً كانت اسماً عاماً وشاملاً لقسمين رئيسيين من العلوم ، النظرية والعملية ، وبذلك فإن الفلسفة تنقسم إلى فلسفة نظرية ، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يعلم من المعارف كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وإلى فلسفة عملية ، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يُعمل به من المعارف كالأخلاق وتدبير المنزل والسياسة.
    وإليك مخططاً بيانياً للفلسفة وأقسامها المتفرعة عنها :

    __________________
    1. تختلف العلوم الاعتبارية عن العلوم الحقيقية في أن العلوم الاعتبارية لا واقع لها سوى ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون ، كما لو اتفق النحاة في لغة العرب أن يكون الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً. فلا وجود لأمثال هذه الأحكام في الواقع غير ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون وعلى خلاف ذلك ، حال العلوم الحقيقية ، فإنها تكشف عن حقائق ثابتة سواء علم الإنسان بها أم لم يعلم؛ فالجاذبية كانت موجودة ولها واقع ثابت ولم يكن لنيوتن من دور ، سوى الكشف عنها.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:48 am

    بَيْدَ أن الفيلسوف لم يتمكن من مواكبة تطور العلوم واتساع رقعتها واستيعاب مسائلها وفروعها ، فبعث ذلك على انحسار دوره وتقلص نشاطه في حدود بحث الإلهيات بالمعنى الأعم والأخص وتسمى بالعلم الكلي والفلسفة الأولى (1) ؛ والأعم منها يبحث عن أحكام الموجودات بشكل عام ولا يختص بموجود دون آخر بينما تتناول الإلهيات بالمعنى الأخص إثبات وجود الله‏ الأقدس وصفاته جل وعلا.
    موضوع الفلسفة :
    وبذلك يتضح أن موضوع علم الفلسفة هو : «الموجود بما هو موجود» ، أي أنها تتناول دراسة الموجود بشكل عام ، لتحدد أحكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً : إن البحث عن العلّة والمعلول لا يختص بموجود دون غيره ، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء ودرجة انجماده وغليانه وبقية خواصه ، بحث عن الموجود بما هو ماء ، له وجوده الخاص. وأما الإلهيات بالمعنى الأخص فإنها تبحث عن وجود الله‏ تعالى وصفاته وتختص به ولا تبحث عما سواها.
    ودراسة الموجود بشكل عام التي تتناول الموجودات مجردها وماديها ، يُطلق عليها اسم «الميتافيزيقا» وقد تصور البعض خطأ ، أنها تختص بالموجودات المجردة غير المادية ، إلا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية والمجردة على
    __________________
    1. والوجه في تسميتها بهذا الاسم ، هو أنها تُعدّ في مقدمة كل العلوم؛ إذ أنها تبحث عن وجود الله‏ الأقدس وصفاته الحسنى ، كما أنها تقوم بإثبات موضوعات العلوم ، فما لم يثبت في الفلسفة الوجود المادي الخارج عن حدود الذهن لا يتسنى للفيزيائي أن يبحث عن خواص الأجسام ، ولا للكيمياوي أن يبحث عن طبيعة تفاعلات العناصر وهكذا. بل إن جميع العلوم مدينة إلى الفلسفة في مبادئها التصديقية ، كمبدأ عدم التناقض وأصل العلية وقاعدة الانسجام ، وهي من مباحث ومسائل الفلسفة ، ومن أجل ما تقدم يكون للفلسفة ، شرف التقدم على بقية العلوم ، ولا نبالغ إن قلنا أنها أم العلوم.

    حد سواء. فالبحث عن العلة والمعلول ، والوجوب والإمكان ، والحادث والقديم ، والقوة والفعل وما شابهها لا يختص بالموجودات المجردة غير المادية بل يشملهما معاً.
    ومن الجدير ذكره أن الميتافيزيقا مأخوذة من أصل يوناني هو متاتافوسيكا أي ما بعد الطبيعة وحوِّرت بالعربية إلى (ميتافيزيقا) وحسبما يعتقده مؤرخو الفلسفة ، فإن هذه الكلمة استعملت لأول مرة في قسم من فلسفة أرسطو المتناولة لأحكام الوجود بشكل عام ، وحيث أن هذا القسم من بحث الفلسفة قد كتبه أرسطو حسب ترتيبه بعد بحث الطبيعيات ، لذلك فقد أطلق عليه اسم ميتافيزيقا ، أي ما بعد الطبيعة.
    أهمية وفائدة الفلسفة :
    تراود الإنسان أحياناً وقد تلاحقه تساؤلات حول الوجود ومعناه؛ وهل هو متناه محدود أو مطلق لا محدود؟ وكيف وجد وهل هو في غنى عن علةٍ توجده أو مفتقر إليها؟ وهل لله‏ خالق أو هو في غنى عن كل خالق؟ ولماذا لا يُرى الله‏ جهرة؟!
    ومن جهة أخرى فإن الإنسان ، هذا الموجود العملاق الذى حَلَّق في آفاق السماء ونفذ إلى أعماق الأرض وقعر المحيطات وفلق الذرة وابتكر العجيب والغريب ، تراه حائراً يعيش الضياع والسأم؛ إذ لا هدفَ حقيقي يصبو إليه ولا رؤية كونية واضحة يمتلكها إزاء الوجود ولا شمولية ولا انسجاماً يلمسه بين مفردات الكون وفصوله ، ومن أجل ذلك فإنه لا يعرف لماذا وضع قدميه في هذا العالم؟ و

    لماذا يُفرض عليه الخروج منه مرة أخرى؟ ولماذا تكون الحياة جميلة إبان الطفولة والشباب ، ثم تغدو رذيلة منغصة عند الشيخوخة وأرذل العمر؟!
    ومن هنا فنحن بحاجة إلى ما يخفف قلقنا وينزع سأمنا ويبدل ضياعنا وضلالنا إلى هدى ونور ورَوْح وراحة ، والفلسفة تؤدي هذا الدور؛ لأنها تعطي لكل ما تقدم من تساؤلات ، إجابات مُبيَّنة وذلك بتحديد رؤية كونية واضحة عن الكون والوجود والحياة ، لتتحدد لنا معالم المبدأ والمنتهى والسبيل بينهما. وبعبارة أخرى : إن الفلسفة تميط اللثام عن التوحيد والمعاد ، والنبوة التي تُعد سَبيلاً للوصول إلى شاطئ المعاد بأمان بما تتضمنه من شرائع ومناهج وأحكام ، فلا يغدو وجود الإنسان عبثاً ولا يُمسي كريشةٍ في مَهب الريح ، بل يعرف نفسه ويعرف أنه من أين وفي أين وإلى أين.
    وإذا كان دور الفلسفة الكشف عن‏ المجاهيل ، وانتشال الإنسان من حالات الإبهام والضياع بحل شبهاته في ما يرتبط بأصل الوجود ومآله وحقيقته ، فلا نبالغ إن أطلقنا اسم العلم عليها؛ لأن العلم يقوم بتسليط أضوائهِ الكاشفة على ظلمات المجاهيل ليُسفر عن هويتها وحقيقتها ، وهذا بالضبط ماتؤديه الفلسفة لقرّائها ودارسيها.
    نعم ، إن أُريد من العلم حَصيلة الأفكار والنتائج التجريبية التي يتوصل إليها الإنسان في مختبره أو في مجال الطبيعة ، فلا يصح حينئذٍ إطلاق اسم العلم على الفلسفة بهذا المعنى ، بل وكذلك لا تصح تسمية كهذِهِ على التأريخ والجغرافيا ، والفقه وبقية العلوم الإنسانية غير التجريبية.

    أساليب التحقيق العلمي :
    تختلف أساليب التحقيق العلمي باختلاف ميادينها ومجالاتها ، وذلك لأنك على سبيل المثال تجد فرقا واضحا بين البحوث التالية :
    أ ـ البحث فى تاريخ نشوب الثورة ضد الإنجليز فى العراق.
    ب ـ البحث فى أنواع الألوان.
    ج ـ البحث في صياغة قانون عام فيما يرتبط بتمدّد الحديد بالحرارة.
    فالبحث الأول يتناوله الأسلوب النقلي التاريخي بالدرس والتحقيق ، ولا دور للأساليب العقلية والتجريبية في ذلك؛ إذ إن الإنسان الذي لم يعاصر حدث الثورة ضد الإنجليز في العراق مهما حاول بعقله وتجربته معرفة ذلك ، فسوف يعجز عنه ولا يتوصّل إلى ما يريد. وأما البحث الثاني فإنه من مختصات الأسلوب التجريبي الحسي ولا دور للعقل والنقل فيه ، فإذا حُرِم الإنسان باصرته فإنه لن ‏يحظى بمعرفة اللون الأحمر أو غيره من الألوان مهما وصفها الواصفون بنقلهم ومهما استدل أهل البرهان عليها بعقولهم؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى البحث الثالث فإنه وقْفٌ على الأسلوب العقلي ، ولا نصيب للأسلوب التجريبي والنقلي فيه مهما جرّب المجرّبون ونقل الناقلون ذلك ، إذ أن كل ما يجرّبونه وما ينقلونه لا يستوعب كل ما هو موجود أو مفترض من قطع الحديد المحكوم عليها بالتمدّد.
    ومباحث الفلسفة تعتمد على الأسلوب العقلي في تحقيقاتها ودراساتها لمسائلها الفلسفية ، إلا أنها قد تعتمد أحياناً على ظاهرة تجريبية لتجعلها منطلقاً لدراساتها العقلية والتأملية. (1)
    __________________
    1. ومن هذا القبيل النظر إلى بديع صنع الكون وعظمته ثم الانتقال بالتأمل والاستنتاج إلى وجود مبدع

    ثم إن عملية الكشف عن مجهول بواسطة معلوم آخر تتم عبر طرق ثلاثة من الاستدلال :
    1 ـ القياس :
    وهو قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت لزم عنه لذاته قولٌ آخر ، كما لو نقلت حكم الموت الثابت للإنسان إلى سقراط الذي هو فرد من أفراد الإنسان. فتقول :
    سقراط إنسان.
    وكل إنسان فان.
    فسقراط فان.
    ومثل هذه الحركة الفكرية يطلق عليها فى المنطق اسم «القياس» وهو مفيد لليقين في ظل شروط معينة وهي فيما إذا كانت مقدمات القياس يقينية ، وقد تم تنظيم القياس بشكل صحيح. وقد خصص المنطقيون جانباً مهمّاً من المنطق الكلاسيكي لبيان شروط مادة وصورة القياس اليقيني وهو (البرهان). (1)
    2 ـ الاستقراء :
    وهو الانتقال من حكم جزئيات إلى حكم كليّتها ، وهو على نحوين : استقراء تام واستقراء ناقص؛
    أما الاستقراء التام : فهو من قبيل الحكم بالجد والمثابرة على كل من هو موجود
    __________________
    ومنظّم ومهندس من ورائه وهو الله‏ الخالق المصوّر ، وهو ذات الأسلوب الذي اعتمده الأعرابي لإثبات وجود الله‏ جلّ اسمه حيث قال : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير؛ أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ، لا يدلان على اللطيف الخبير؟!
    1. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة؛ الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي ، دار التعارف للمطبوعات ـ 1418 ه ـ 1998 م : 1 / 100.

    في المدرسة بعد إجراء اختبار لجميع من كان فيها من الطلاب.
    وأما الاستقراء الناقص : فهو من قبيل الحكم على جميع أهل البلد بالاستقامة وحسن السيرة من خلال معاشرة عدد منهم.
    3 ـ التمثيل :
    وهو الانتقال من حكمِ جزئيٍ إلى حكمِ جزئيٍ آخر لاشتراكهما في معنى جامع بينهما ، بحسب الظن أو الوهم ، كما لو منع الوالد ولده عن معاشرة صديق من أصدقائه ، إلا أنَّ الولد لم ‏يُعرِض عن معاشرة هذا الصديق فحسب ، بل إنه أعرض عن صديق آخر له ظناً منه أن العلّة في المنع هي عنوان الصداقة ، فانتقل من حكم الأول إلى الثاني لمشابهتهما في عنوان الصداقة.
    وقد صرَّح أهل المعقول أن القياس البرهاني بكل أشكاله المنتجة يُفيدُ اليقين والقطع ، كما أن الاستقراء التام يفيد ذلك أيضاً ، وأما الاستقراء الناقص والتمثيل فلا يفيدان سوى الظن؛ ومن الواضح أن المفيد في الاستدلال هو اليقين لا الظن ، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو وجه تسمية الفلسفة بهذا الاسم؟
    2 ـ يقال : أنَّ الفلسفة شملت في العهد الإغريقي القديم جميع العلوم الحقيقية ، وضّح هذه العلوم بمخطط بياني.
    3 ـ لماذا لم يتمكن الفيلسوف في مقطع من الزمان استيعاب جميع العلوم؟ وفي أي حدود انحصر بعد ذلك دوره ونشاطه الفلسفي؟
    4 ـ ماذا يُقصد من الإلهيات بالمعنى الأعم والإلهيات بالمعنى الأخص؟
    5 ـ ما هو موضوع علم الفلسفة؟
    6 ـ ما هو وجه تسمية البحث عن الإلهيات بالميتافيزيقا؟ وما هو ردّك على توهّم البعض في أن البحث الفلسفي مختص بالموجودات المجردة دون الموجودات المادية ، بدعوى أنّها لا تمتُ إلى البحوث الميتافيزيقية بصلة؟
    7 ـ ماذا يُراود الإنسان أحيانا أو يلاحقه من تساؤلات حول مبدأه ووجوده ومصيره ...؟ ولماذا يشعر بالسأم والضياع في حياته؟
    8 ـ ما هو دور الفلسفة في إضفاء الروح والراحة والاطمئنان على حياة الإنسان؟
    9 ـ هل الفلسفة علم من العلوم؟ ولماذا؟ وما هي حجة من رفض إطلاق اسم العلم عليها؟
    10 ـ اذكر مع المثال أساليب وطرق التحقيق في المعرفة الإنسانية؛ وبيِّن الأسلوب المعتمد في تحقيق المسائل الفلسفية.
    11 ـ إن للاستدلال طرقا ثلاثة ، اذكرها مع أمثلتها ثم بيِّن المفيد منها للقطع.


    الدرس الثالث
    الوجود والماهية
    * بداهة مفهوم الوجود
    * مفهوم الماهية
    * أصالة الوجود واعتبارية الماهية
    * تشكك الوجود وتعدّد الماهية
    * فكِّر وأجب


    بداهة مفهوم الوجود
    تقدم في الدرس الثاني أن موضوع الفلسفة هو : الموجود بما هو موجود. والموجود هو الشيء الذي ثبت له الوجود ، سواء كان ذلك الشيء نفس الوجود أو شيئاً آخر متصفا به ، وأما الوجود فمفهومه بديهي مستغنٍ عن التعريف ، وما قد يُقال في تعريفه : «أنه الثابت العين» أو «الذي يمكن أن يُخبر عنه» فهي تعاريف لفظية ، (1) تُستخدم للتنبيه والإشارة إلى ما في الذهن من المفهوم البديهي وليست بتعاريف حقيقية ، إذ ليست بأعرف من الوجود بل لا شيء أجلى من الوجود.
    معنى الماهية
    وأما الماهية فقد قيل في تعريفها بأنها : الواقعة في جواب ما هي أو ما هو؛ فإذا قلت : ما هو زيدٌ؟ وجاءك الجواب بأنه إنسان ، أو قلت : ما هو الإنسان؟ وجاءك الجواب بأنه حيوان ناطق ، كان الجواب على هذا السؤال بذاته ماهية الإنسان. وبعبارة أخرى : أن الماهية بيان لحقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.
    __________________
    1. والتعريف اللفظي ليس تعريفاً حقيقياً؛ لأن المعنى الدال عليه اللفظ واضح ، ولم يؤدِ اللفظ المُعرِّف من دورٍ سوى دور الإيضاح للفظ آخر استعمل في ذلك المعنى ، كما لو قيل : الغضنفر ما هو؟ فيقال : أسد ، فمعنى الأسد لا يحتاج السامع إلى تعريفه ، بل يحتاج إلى معرفة لفظ الغضنفر الذي دل على معنى الأسد ، فالتعريف اللفظي تبديل لفظ مكان آخر.

    وأنت حينَ تواجه موجوداً ما كجبل أبي قبيس ، فتقول : «جبل أبي قبيس موجود» ، فقد أشرت بالموضوع «جبل أبي قبيس» إلى ماهيةِ الشيء الذي واجهته ، كما أنك أشرت بالمحمول «موجود» إلى وجوده. وهكذا بقية الأشياء التي تواجهنا ، فإن لها ماهية كما أن لها وجوداً.
    أصالة الوجود واعتبارية الماهية
    وبما تقدّم يظهر أنّ الماهية تختلف عن الوجود مفهوماً ، أي أنّ ما يفهم من معنى الوجود غير ما يفهم من معنى الماهية ، فكل منهما يختلف عن الآخر في الذهن وأما في الخارج ، أي خارج حدود الذهن فلا يوجد اختلاف ، فهما متحدان في شيءٍ خارجي واحد ، فنستطيع أن نشير إلى زيد الخارجي بالقول : هذا إنسان وموجود.
    ولنا أن نسأل عن الشيء المتحقق في الخارج والذي سميّناه زيداً ، هل هو مصداق لمفهوم الوجود أو إنه مصداق لمفهوم الماهية؟ وبعبارة أخرى : هل إن الوجود أصيل في الخارج أم الماهية؟ فلو كان لكل منهما مصداق ، لكان في الخارج مصداقان اثنان لا مصداق واحد ، وبما أن الواقع الخارجي لا يوجد فيه إلا مصداق واحد ، فلابدّ أن يكون هذا المصداق لأحدهما دون الآخر وإن انطبقا عليه ، إلا أن أحدهما واقعي أصيل والآخر اعتباري ، أي أن المصداق الخارجي المتمثل بزيد ، يكون لأحدهما بالذات ومصداقاً للآخر بالعرض ، وبعبارة أخرى : إنه مصداق للوجود دون الماهية ، وإليك مثالاً يوضح المراد :
    لو كان عندك ورقة بيضاء وشرعت بتلوين مساحة منها بلون أخضر ، فإن

    حاصل هذا التلوين سوف يكون شكلاً معيناً ولنفرضه شكلاً مربعاً ، فإنك وبعد النظر إلى ذلك سينعكس في ذهنك مفهومان : أحدهما اللون الأخضر والآخر عبارة عن الشكل المربع الذي يُعدّ حداً للّون الأخضر ، فمفهوم اللون الأخضر له مصداق حقيقي وهو اللون الذي ارتسم على اللوحة ، وأما مفهوم الشكل المربع فليس له مصداق حقيقي في الخارج. نعم اللون الأخضر حيث ينتهي عند حدود خاصة فلابد وأن يكون له شكل معين وقد اتخذ هنا شكلاً مربعاً ، وهو ليس إلا حداً فاصلاً يفصل وجود اللون الأخضر عن اللون الأبيض للّوحة ، وأما الشكل المربع فلا عينية له في الخارج؛ بمعنى إنه لا يوجد في الخارج إلا اللون الأخضر؛ لأن الحدّ نهاية الشيء التي تميّزه عن غيره ونهاية الشيء لا تمثل شيئاً ، وأما الشكل فلا مصداق له يمثله ، بل إنَّ الذهن قد اِنتزعه من الوجود الخارجي للّون الأخضر.
    وهكذا يتضح حال الوجود والماهية ، فإن الواقع الخارجي للأشياء ليس سوى مصاديق لمفهوم الوجود ، إلا أنّ ذهن الإنسان يرسم لهذا الوجود حدّاً يميّزه عن غيره من المصاديق العينية الخارجية التي تشترك معه في الوجود ، فالإنسان مثلاً من أجل تشخيصه عن غيره من المصاديق الخارجية التي تشترك معه في الحيوانية يوضع له مائز يميّزه عنها وذلك المائز هو كونه ناطقاً ، فيقال بأنه : «حيوان ناطق» أي أن هذا الإنسان يمتاز عن غيره من الحيوانات بأن له قدرة على التفكير وإدراك الكليات.
    حصيلة ما تقدم هي : إن العينية الخارجية ليس فيها سوى الوجود ولا سهم للماهية فيه سوى أنها تنطبق عليه ويُنسب إليها اعتباراً ، وهو ما يعبّر عنه بأصالة

    الوجود واعتبارية الماهية.
    وإلى ما تقدم أشار المرحوم الملاّ هادي السبزواري (1) في منظومته الفلسفية :
    إن الوجود عندنا أصيل
    دليل من خالفنا عليل

    وعلى خلاف هذا الرأي ، ذهب آخرون إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود وأُنشِدَ لهم :
    إن الأصيل عندنا ماهية
    دليل من خالفنا واهية

    ولا نجد لزاماً بعد توضيح الفرق بين الماهية والوجود ، لذكر الأدلّة على أصالةِ الوجود واعتبارية الماهية ، ومن هنا ذهب البعض إلى بداهة المسألة وعدم الحاجة إلى إقامةِ البرهان عليها. (2)
    وإذا اتضح ما تقدم ، يظهر بجلاء إن الذي له تحقق خارج حدود الذهن ليس إلا الوجود ، وأما الماهية فلا تحقق خارجي لها في ذلك. وبعبارة أخرى : إن منشأ الآثار للإنسانِ ـ مثلاً ـ هو الوجود لا الماهية ، فالإنسان حينما يأكل ويشرب ويتحرك ويفكر ... فإنما يقوم بكل ذلك بوجوده الخارجي لا بماهيتهِ.
    تجدر الإشارة إلى أن الفلاسفة المشّائين ذهبوا إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهية وفي طليعتهم «أبو علي ابن سينا» وقد تبلور رأيهم وتعزّزت أركانه بقوة في عهد الملاّ صدرا حيث أقام عليه حججه الساطعة وبراهينه القاطعة. وعلى
    __________________
    1. الملاّ هادي السبزواري «1212 ـ 1289 ه» وهو الشيخ هادي بن المهدي السبزواري ، حكيم وفيلسوف عارف ، وفقيه ورع ، شاعر بالعربية والفارسية ، له كتب كثيرة ، عدّها البعض (29) كتاباً ، منها كتابه المعروف بـ «المنظومة» الذي تناول فيه بيان الفلسفة وأدلتها وردودها بأسلوب شعري بارع وجميل.
    2. من أجل مزيد توضيح راجع الكتب المفصّلة كالبداية والنهاية للعلاّمة الطباطبائي حيث استعرض فيهما آراء الفريقين وأدلتهما وردودهما.

    خلافهم ذهب الإشراقيّون إلى القول بأصالةِ الماهية واعتبارية الوجود ، وكان في طليعة هؤلاء شيخ الإشراق «شهاب‏ الدين السهرَوَرْدي».
    تشكك الوجود وتعدد الماهية
    إنّ إحدى الفروق التي يمكن الوقوف عليها في مجال تمييز الماهية عن الوجود هو : أن الماهية تختلف وتتعدّد باختلاف الأشياء ، فماهية الإنسان تختلف عن ماهية الشجر ، وهما يختلفان عن ماهية الحجر ... ، بينما الوجود في كل الأشياء واحد مهما تكاثرت وتعدّدت ، إلا إنه قد يختلف شدّةً وضعفاً من موجود إلى آخر ، فنور الشمعة أضعف من نور المصباح ونور المصباح أضعف من نور الشمسِ وهكذا؛ فإن الوجود يبدأ بأضعف موجود وينتهي بأكمل موجود وهو الله‏ ـ جل اسمه وعلا مكانه ـ إلا أن الوجود واحد.
    وبما أسلفنا يظهر أن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها في الوجود ، فلولا الماهية لم يتحقق التحديد والتشخيص في الموجودات ولم تتضح حقائقها. ومن أجل معرفة الفارق بين الوجود والماهية تصوّرْ أن الوجود عجينة وضعناها في قوالب مختلفة ، فإنها تتشخص بحسب القوالب التي صُبّت فيها ، فتكون اسطوانية أو مكعبة أو مخروطية ... ، فالعجينة بمثابة الوجود المتحد في الجميع ، والقوالب بمثابة الماهيات المختلفة فيما بينها بحسب اختلاف مواردها ومشخصاتها.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو تعريف الوجود والموجود والماهية؟ مَثّل لكل من الماهيةِ والوجود بمثال؟ ثم بيّن لماذا اعترض البعض على تعريف الوجود والموجود؟
    2 ـ وضّح ما يلي : «إن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها فى الوجود» واشفع توضيحك بمثال مقرّب للمطلوب.
    3 ـ ما هو المقصود من أصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ عزّز جوابك بأمثلة بيانية؟
    4 ـ من هم القائلون بأصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ ومن هم القائلون بأصالة الماهية واعتبارية الوجود؟

    الدرس الرابع
    تقسيمات الوجود
    (1)
    * الوجود الذهني والخارجي
    * نظرية المعرفة
    * فكّر وأجب


    الوجود الذهني والخارجي :
    إنَّ للأشياء وجودين حقيقييّن : أحدهما ، الوجود الخارجي ، والآخر الوجود الذهني ، ويتمثّل الأوّل بوجود الأشياء خارج حدود الذهن ، كأفراد الإنسان والحجر والشجر ، بينما يتمثل الثاني بعلمنا المتعلق بصور تلك الأشياء.
    ولا شك في أن انطباع صور الأشياء في الذهن ليس على شاكلة ارتسام صور الأشياء على لوحة أو ورقة ، إذ أن الورقة لا تدرك ما يرتسم عليها من الصور ، بخلاف ارتسامها في الذهن ، لأنه مدرك لها ، عالم بها ، محيط بها.
    والمشكلة التي أثارت الفلاسفة والعلماء منذ أبعد الآماد ولحدّ الآن؛ هي مدى مطابقة الوجود الذهني للوجود الخارجي ، وقد عبّروا عن المطابقة بالصواب وعن عدمها بالخطأ.
    نظرية المعرفة :
    ومن هنا اهتمّ الفلاسفة بالمعرفة الإنسانية ومصدرها وقيمتها ، حيث جعلوها في طليعة المعارف الفلسفية وأهمها.
    ولسنا الآن في صدد البحث عن نظرية المعرفة بتفاصيلها وخطوطها ومسائلها ، إلا إنه يمكن وبصورة مجملة القول :

    إن الفلاسفة وبعد أن اختلفوا في تحديد مصادر أفكارنا التصورية والتصديقية في أنّها حسِّية أو عقلية أو كلاهما معاً ، أو شيء آخر ، اختلفوا في قيمتها ومطابقتها للواقع الخارجي ، ومن أجله ذهب جماعة منهم إلى إنكار الواقع الخارجي بكل تفاصيله منكرين أنفسهم ، ومن هؤلاء «غورغياس» السوفسطي ومن المنكرين «جورج باركلي» (1) الذي لم يؤمن بوجود شيء ما سوى الأنا المدْرِكة والصورة المدْرَكة ، ويُسمى باركلي وأنصاره بالمثاليين «ايده اليست Idealists» ، بينما ذهب «أرسطو» ومدرسته وتلامذته ومن سار على خطاه ، إلى الإيمان بالواقع مطلقاً العيني الخارجي منه وغيره ويُسمى هؤلاء بالواقعيين «رئاليست Realists».
    وجنح جَمع آخر إلى الإيمان بالواقع الخارجي إيماناً نسبياً ، فالصورة المدركة عندهم مزيجٌ من مادة الإدراك الخارجي والقوالب والمقولات الجاهزة في الذهن ، فلا تمثل الصورة المدركة الخارجَ بصورة مستقلة ولا الذهن بصورة مستقلة ، بل للخارج نسبة ونصيب من هذِهِ الصورة ، وللذهن نصيب ونسبة منها أيضاً وهو ما ذهب إليه «عمانوئيل كانت» (2) في نظريته النسبية.
    __________________
    1. «جورج باركلي George Barckley» «1685 ـ 1753 م» فيلسوف إنجليزي مثالي مبكر النضوج ، شاعر في طفولته ، التحق بمدرسة «كلكني» فدرس فيها الرياضيات ثم التحقق بكلية «الثالوث Tinity» فأبدى فيها من الحماسة والخيال ما جعل الآخرين يعتبرونه أكبر عبقري أو أكبر مخبول ، اشتغل مدرّساً للغة اليونانية عام 1712 م وكان قسيساً ، وقد تأثّر باركلي في دراسته بـ «ديكارت» و «لوك».
    2. «عمانوئيل كانت Emanuel Kant» «1724 ـ 1804 م» فيلسوف ألماني ولد في كينجسبرج ، كان والده سرّاجاً مجتهداً في عمله صدوقاً ، وكانت أمه متدينة ، حريصة على سماع مواعظ (فرانس شولتس مدير معهد «فريدريك») ومن هنا ألحقت الأم ابنها بهذا المعهد ليدرس فيه ، وبعدها التحق بجامعة كينجسبرج فدرس الرياضيات والفلسفة وأصول الدين. عُرف «كانت» بدقته الفائقة في تنظيم مواعيد عمله اليومي كالساعة في تحديد الوقت ، من أشهر كتبه «نقد العقل العملي» ، «نقد العقل النظري» ، «نقد الحكم العقلي».

    ومال آخرون إلى الشك بوجود واقع خارج حدود الذهن البشري ، فلم يحكموا بثبوته ولا بنفيه ومن هؤلاء «دافيد هيوم» (1) و «جون لوك» (2) وهكذا اختلفت آراء المفكرين في تقييم إدراكاتنا عن الواقع الخارجي باختلاف مذاهبهم ومشاربهم الفلسفية. (3)
    ولا يمنعنا سعة البحث من الإشارة السريعة إلى المذهب الصحيح والرأي الحق فى المسألة آنفة الذكر ، فنقول :
    __________________
    1. «دافيد هيوم David Hume» «1711 ـ 1779 م» فيلسوف ومؤرخ إنجليزي ولد في مدينة أدنبره الواقعة في اسكتلندا شمالي بريطانيا ، درس في ثانوية أدنبره والتي تحولت بعد ذلك إلى جامعة أدنبره ، فدرس فيها الفيزياء الطبيعية وكانت له رغبة ملحة في دراسة كتب الفلسفة والأدب. أخفق هيوم في التأليف بدو الأمر لِما كان يعتمده من أسلوب جاف في عرض أفكاره ، إلا إنه التفت إلى ذلك بَعدها فألف كتاباً تحت عنوان «مقالات أخلاقية وسياسية» لاقى فيه إعجاب الكثيرين مما أعاد له الثقة بنفسه ، وقد كتب هيوم في التاريخ كتاباً تحت عنوان «تاريخ إنجلترا». ومن أشهر كتبه كتاب «بحث في الطبيعة الإنسانية» عرض فيه أفكاره الحسية ، وأرجع مبدأ العلّية إلى عادة تداعي المعاني.
    2. «جون لوك John Locke» «1632 ـ 1704 م» فيلسوف إنجليزي ومن المؤمنين بأصالة التجربة ، درس في كلية «كنيسة السيد المسيح» في إكسفورد ، إلا إنه لم ينخرط في مسلك رجال ‏الدين ، مارس الطب التجريبي حتى عُرِف في تلك الفترة بالدكتور لوك ، إلا إنه حصل بعد ذلك على شهادة البكلوريوس في الطب. لوحظ في فلسفة لوك تناقض بين رأيه في المصدر الأساسي للمعرفة وبين رأيه في قيمة المعرفة ، ولذا فإن ما حازه لوك من شهرة كان أكبر من حجمه.
    3. من أراد التفصيل فعليه بمراجعة كتاب «فلسفتنا» للشهيد السعيد آية ‏الله‏ السيد محمد باقر الصدر. وكتاب «الإيدولوجية المقارنة» للأستاذ الشيخ مصباح اليزدي.

    إن الإيمان بوجود واقع خارجي قضية مسلّمة لا يختلف فيها اثنان ولو في حدود الأنا المُدْرِكة ، إذ لو لم تكن «الأنا» موجودة فكيف أنكر المنكر أو شكك المشكك بوجود الواقع الخارجي ، وحتى (باركلي) حينما أنكر الواقع الخارجي لم ينكر ذاته المدرِكة والصور المدْرَكه ، والسرُ هو أن ذلك معلوم عنده بالعلم الحضوري ، ومن أجله فقد ادّعى أنه ليس منكراً ولا شكاكاً بالواقع الموضوعي الخارجي ، إلا إنه يؤمن بواقع الأنا المدرِكة والصورة المُدْرَكَةِ وينكر الوجود المادي للأشياء ، فوضع لمذهبه قاعدة معروفة : «أن يُوجد هو أن يُدرِك أو أن يُدْرَك» ومن الواضح أن ما سوى الأنا المدرِكة والمَدرَكات المرتبطة بها غير معلوم لنا بالبداهة أو بالعلم الحُضوري ، بل هو بحاجة إلى برهان ودليل ، والعقل هو الحاكم بوجودها انطلاقاً من مبدأ العليّة العقلي الذي لا يشك فيه حتى المنكرون والشكاكون ، لأنهم حينما رفضوا الإيمان بوجود واقع موضوعي خارج حدود الذهن البشري ، فإنما استندوا إلى دليلٍ لإثبات مدّعاهم وهذا الدليل في واقعه علّة وسبب لإثبات منحاهم الفلسفي في إنكار الواقع أو الشك فيه.
    ومبدأ العلّية يقرّر أن لكل حادثة سبباً انبثقت منه ، فهناك كثير من الظواهر التي نتحسسها ونبحث عن سببها ، فلو كانت نابعة من صميم ذاتنا ، لكانت معلومة لنا بالعلم الحضوري ، وحيث إنّا لا نجد علّة تلك الحادثة في صميم وجودنا فلابد وأن يكون مصدرها شيئاً خارجَ حدود ذواتنا ، وليس ذلك إلا الشيء الخارجي ، كما لو أمسكت شوكاً بيدك وشعرت بألم الوخز الذي يصيبها حين إمساكك له ، فإنك ستبحث عن سببه وحينما تراجع نفسك لا تجد فيها سبباً وعلّة لذلك الألم ، إذ لو كان لبان لك بالعلم الحضوري وجودهُ في نفسك ، هذا من ناحية.

    ومن ناحية أخرى فإن بعض الظواهر يشعر بها الإنسان على خلاف رغبته كما في المثال المتقدم ، فكيف توُجِد النفسُ ما يبعث على انزعاجها وألمها؟! فلابد وأن يوجد سبب آخر خارج حدودها ، كان باعثاً على ذلك الألم.
    وفي الختام نقول :
    إن الإنسان لا يجد في نفسه مبرراً يدفعه للبحث في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية التجريبية وغيرها ما لم تكن معرفته ذات قيمة تكشف عن الواقع الذي انبثقت منه ، فلو كانت أفكارنا محض خيالٍ وصورٍ تتوالى في عالم الذهن ولم يكن لها علاقة من قريب أو بعيد بواقعها الخارجي ، كما ادعى المنكرون والشكاكون والسوفسطائيون! لما أصبح للبحث والتحقيق والجد والسعي والمثابرة والخوف والرجاء ... معنى ، إذ كل محاولة من هذا القبيل تغدو جزافاً وعبثاً.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو المقصود من الوجود الذهني والخارجي؟ وبماذا يمتاز الوجود الذهني عن وجود الصورة المنطبعة على اللوحة؟
    2 ـ اشرح ما يلي : «تُعَدُّ نظرية المعرفة حجر الزاوية ومنطلقا لكل بحث علمي مهما كان لونه».
    3 ـ وضّح بإجمال الآراء الفلسفية على صعيد قيمة المعرفة.
    4 ـ لماذا لم ينكر «باركلي» نفسه المُدْرِكة والصور المُدْرَكة؟
    5 ـ علّل ما يلي : «لا يمكن إنكار مبدأ العلية حتى للسوفسطي وغيره من المنكرين لواقع الأشياء ووجودها»؟

    الدرس الخامس
    تقسيمات الوجود
    (2)
    * الوجود المادّي والمجرّد
    * المدارس المادية والوجود المجرّد
    * الفرق بين المادي والمجرّد
    * فكِّر وأجب


    المادّي والمجرّد
    إن إحدى تقسيمات الوجود هي :
    الموجود المادي والموجود المجرد.
    والمقصود من الموجود المجرد ما يقابل الموجود المادي ومن هنا يُسمّى الموجود المجرد بـ «غير المادي».
    وتستعمل كلمة المادي في الفلسفة بمعنى الجسماني ، فيكون المجرد بمعنى غير الجسماني ، فلا يصدق عليه أنّه جسم ولا تُنسب إليه خصائص الأجسام ، كوجود الله‏ الأقدس؛ فإنه ليس بجسم ولا يخضع لخصائص الأجسام. وعلى هذا فالوجود شامل لنوعين من الموجودات : المادية والمجردة.
    المدارس المادّية والوجود المجرّد
    إلا إن بعض المدارس المادية كالمدرسة الوضعية وفي طليعتها «اوغست كونت» (1) والمدرسة الماركسية وفي مقدّمتها كارل ماركس (2) ، ذهبوا إلى إنكار
    __________________
    1. «اوغست كونت Ougust Conte» «1798 ـ 1857 م» عالم فرنسي مؤسس للمذهب الوضعي الفلسفي ، كما وإنه مؤسس لعلم الاجتماع الحديث ، كان يعاني من الفقر والضنك الاقتصادي ، ألّف كتاب «محاضرات في الفلسفة الوضعية».
    2. «كارل ماركس Cal Max» «1818 ـ 1883 م» مفكر اقتصادي وسياسي ألماني ، ولد في مدينة ترير من أسرة يهودية ، اعتنق وأسرته المسيحية على المذهب البروتستانتي ، اهتم بفلسفة (هيجل) ودرس التاريخ والفلسفة ، فنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة واختص بدراسته الاقتصاد. عمل محرراً لجريدة «الراين» وكتب كتاب «رأس المال». عانى في حياته من الفقر المدقع فشكل عقدة في حياته ، انعكست وبصورة مفرطة على آراءه وأفكاره وكتاباته.

    كل ما لا يمتّ إلى العالم المادي المحسوس بصلة ورفعوا شعار «أثبت لي شيئاً بالحس أقبله منك وإلا فلا» وتغافل هؤلاء عن أنَّ الموجودات منها ما هي مجردة غير مادية ، لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال العقل واستنتاجاته وتأملاته كوجود الله‏ تعالى ، لأن الحواس الخمس قاصرة عن إدراكها والتحسس بها ، ومنها ما هي مادية غير مجردة ، وهي بدورها قد تعجز حواس الإنسان الخمس عن إدراك بعض مفرداتها ومواردها ، لوجود مانع حال دون ذلك ، أو لقصور في وسائل التجربة ، فالإلكترون والأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية والجاذبية الأرضية وغيرها من المفردات أكّد عليها العلم وآمنا نحن ببعضها إيماناً قاطعاً على الرغم من أنها لم تخضع بصورة مباشرة لإحدى حواسنا الخمس ، بل توصّلنا إلى وجودها من خلال آثارها الدالّة عليها بحكم العقل القاطع بأن لكل أثر مؤثراً ولكل معلول علّة.
    فإذا أمكن إثبات الجاذبية من خلال سقوط الأجسام باتجاه الأرض بعد رميها إلى أعلى ، وإذا أمكن إثبات وجود التيار الكهربائي من خلال توهج المصباح أو حركة المروحة ، أمكن أيضاً إثبات وجود الله‏ من خلال آثار صنعه وبديع خلقه. فكما أثبتنا وجود الجاذبية والتيار الكهربائي وغيرها من الظواهر المادية بطريقة عقلية استدلالية مع أنها لم تخضع بصورة مباشرة لحواسنا ، كذلك الحال بالنسبة إلى

    الله‏ جَل جَلاله ، إذ يجوز لنا إثبات وجوده الأقدس بطريقة عقلية استدلالية على الرغم من إنه تعالى لم يخضع بصورة مباشرة لحواسنا.
    فإن رضوا لأنفسهم ذلك ولم يرضوه لنا ، كان كيلهم بمكيالين! وعلى طريقة «باؤهم تجر وباؤنا لا تجر»!
    الفرق بين المادي والمجرّد
    إن بإمكاننا التفريق بين الموجود المادي وبين الموجود المجرد في أن الأول يمكن الإشارة إلى جهة وجوده دون الثاني ، فلا جهة له حتى تصح الإشارة إليه.
    كما أن الموجود المادي فيه استعداد وقوة على التغيُّر والتبدل بالامتداد والحركة من حالة إلى حالة أخرى ، ولذا فإن الحركة ملازمة له ، فالحبة تتحول بفعل استعدادها للتغيُّر إلى نبتة ، والنبتة إلى شجرة ، والشجرة تحمل ثمراً وهكذا ، فإن الموجود المادي في حالة تغيُّر وحركة دائبين ، بينما لا تجد هذه الحالة في الموجود المجرد على ما ذهب إليه جمهور الحكماء.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ بيّن كلاًّ من الموجود المادي والمجرد؟
    2 ـ وضّح موقف المدارس المادية من الموجودات المجردة؟ وما هو الرد المناسب لها؟
    3 ـ اذكر الشواخص التي يميّز على أساسها الموجود المادي عن المجرد؟

    الدرس السادس
    الواجب والممكن والممتنع
    * الواجب والممكن والممتنع
    * الواجب والممتنع؛ بالذات وبالغير
    * الإمكان وأقسامه
    * فكِّر وأجب


    الواجب والممكن والممتنع :
    إن نسبة أيّ محمول إلى أيّ موضوع إما أن تكون ضرورية لا يصح فيها الانفكاك كنسبة الزوجية إلى الأربعة في قولنا : «الأربعة زوج» ؛ وإما أن لا تكون ضرورية كنسبة الاحتراق إلى الورقة ، في قولنا : «الورقة محترقة» ، أو أن تكون ضرورية السلب كما في قولنا : «الثلاثة زوجٌ». ففي المثال الأول يعبّر عن النسبة بالوجوب ، أي وجوب نسبة المحمول إلى الموضوع ، كما ويعبّر عن النسبة في المثال الثاني بالإمكان ، أي إمكان نسبة المحمول إلى الموضوع وإمكان عدمه ، وأما النسبة في المثال الثالث فيُعبّر عنها بالامتناع ، أي امتناع نسبة المحمول إلى الموضوع. والنسب الثلاث هذِهِ يُعبّر عنها في علم المنطق بمادة القضية. (1)
    وعلى غرار ما تقدّم من أنماط نسبة المحمول إلى الموضوع ، ذكر الفلاسفة أن الوجود حينما يحمل على موضوع من الموضوعات فإنّ نسبته إليه قد تكون واجبة كنسبة الوجود إلى الله‏ في قولنا : «الله‏ موجود». حيث ثبت في برهان الإمكان ، كما سيأتي الحديث عنه ، (2) أن الوجود بالنسبة لذات الحق تعالى واجب
    __________________
    1 ـ راجع بحث الموجهات ـ مادة القضية ـ في كتاب المنطق للعلامة محمد رضا المظفر ، ص 146 ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، 1980 م.
    2 ـ في الدرس العشرين.

    ويُسمى هذا الموضوع بواجب الوجود.
    وقد تكون نسبة الوجود إلى الموضوع ممتنعة فيسمى الموضوع بممتنع الوجود ، كما لو قيل بأن شريك الباري موجود ، فإن النسبة هنا ممتنعة إذ لا يمكن أن يُنسب الوجود إلى الشريك المفترض لله‏ جَلّ ‏وَعلا كما هو ثابت في أدلة التوحيد.
    وقد لا تكون نسبة الوجود إلى موضوع واجبة ولا ممتنعة ، فيسمّى بالممكن ، كالإنسان مثلاً ، حينما يُقال إنه موجود ، فإن الوجود بالنسبة إليه غير ضروري الإيجاب ولا ضروري السلب ، بل ممكن.
    الواجب والممتنع؛ بالذات وبالغير
    والواجب قد يكون واجباً بالذات كوجود الله‏ جَلّ‏ وَعلا فإنه واجب الوجود بالذات ، بخلاف المعلول الذي يجب وجوده لوجود علته ، فهو واجب بغيره ، إذ إن المعلول يجب وجوده حين وجود علته ، فالإنسان مثلاً إنما يجب وجوده بوجود علته ، ومن هنا قيل : «الشيء ما لم يجب لم يوجد». والممتنع أيضاً قد يكون ممتنعاً بذاته كشريك الباري ، وقد يكون ممتنعاً بغيره ، كالمعلول الذي يمتنع تحققه بسبب عدم وجود علته ، فالزجاج يمتنع انكساره بسبب عدم وجود علة لانكساره.
    الإمكان وأقسامه
    ذكر الفلاسفة أقساما للإمكان ، نجمل ذكر بعضها بما يلي :
    1 ـ الإمكان الخاص (الذاتي) :
    وهو سلب الضرورتين؛ ضرورة الوجود وضرورة العدم من موضوعٍ ما ،

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:50 am

    فحينما نقول : «الإنسان ممكن» ؛ نعني به سلب ضرورة الوجود وضرورة العدم منه ، وبعبارة أخرى أنه بحد ذاته مجرداً عن أي شيء ، فلا يقتضي الوجود ولا العدم ولا التقدم ولا التأخر ولا البياض ولا السواد ....
    وإنما سمِّيَ هذا الإمكان بالخاص؛ لأنه أخص من الإمكان العام الذي هو المعنى اللغوي للإمكان والدارج بين الناس.
    2 ـ الإمكان العام :
    وهو سلب الضرورة عن الطرف المقابل مع السكوت عن الطرف الموافق ، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا وقد لا يكون كذلك.
    بيان ذلك : إن الإمكان العام على نحوين : فقد يكون سلباً لضرورة السلب كما في قولنا : «الإنسان ممكن الوجود» ، و «الله‏ ممكن الوجود» ، ففي المثال الأول والثاني سلبت ضرورة العدم ، أي أن العدم غير ضروري بالنسبة للإنسان وبالنسبة لله‏ جلّ ‏وعلا. وأما الطرف الموافق وهو الوجود فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا ، كما في المثال الأول ، إذ إن الوجود بالنسبة للإنسان غير ضروري كما أن العدم بالنسبة إليه ليس ضروريا. وأما بالنسبة للطرف الموافق في المثال الثاني ، فإن ضرورة الوجود غير مسلوبة عنه ، إذ إن الوجود بالنسبة لله‏ تعالى ذاتى لا ينفك عنه.
    وقد يكون سلبا لضرورة الوجوب كما في قولنا : «الإنسان ممكن العدم» ، و «شريك الباري ممكن العدم» ، فإن ضرورة الإيجاب مسلوبة في المثالين ، بمعنى أن الوجود غير ضروري بالنسبة إلى الإنسان وشريك الباري ، وأما الطرف الموافق فمسكوت عنه ، فقد يكون مسلوب الضرورة أيضا كما في المثال الأول ،

    فإنه مسلوب لضرورة الوجود والعدم معاً؛ فلا الوجود ولا العدم ضروريان بالنسبة إليه. وقد لا يكون مسلوبا للطرف الموافق كما في المثال الثاني ، فإن ضرورة العدم غير مسلوبة عن شريك الباري ، بمعنى أن العدم ضروري بالنسبة إليه ، وهو مقتضى أدلّة التوحيد النافية لوجود آلهة غير الله‏ : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» (1)
    تجدر الإشارة إلى أن وجه تسمية هذا الإمكان بالإمكان العام يعود إلى أن هذا المعنى للإمكان هو المعنى الأعم له ، كما يُسمى عاميا لأن الإمكان بهذا المعنى هو الدارج حين الاستعمال عند عوام الناس.
    3 ـ الإمكان الوقوعي :
    ويعني إمكان وقوع وتحقق شيءٍ من الأشياء ، فلا يلزم من فرض وجوده محال ، كإمكان وجود إنسان له رأسان ، وكإمكان اصطدام القمر بالأرض. وإنما يمتنع وقوع الشيء إما لكونه محالاً في ذاته كاجتماع النقيضين وارتفاعهما في شيءٍ واحد ، أو لكونه محالاً لغيره ، كاستحالة وجود المعلول لعدم علته. فالمعلول في حد ذاته ممكن إلا أنه استحال تحققه لعدم تحقق علته المفيضة له ، إذ من الواضح أن المعلول عدم عند عدم علته.
    4 ـ الإمكان الاستعدادي :
    وهو قابلية مكنونة في شيءٍ تؤهّله لأن يكون شيئاً آخر كقابلية النطفة أن تكون إنسانا ، وهذا الاستعداد ينحصر وجوده في الموجودات المادية ، إذ إنها في حركة ونمو دائبين ، فالنطفة تتحول إلى علقة والعلقة تتحول إلى مضغة ، إلى أن تكون
    __________________
    1 ـ الأنبياء / 22.

    إنسانا ، والإنسان يتطور ويتغير من مرحلة إلى أخرى ... وهكذا.
    ويختلف الإمكان الاستعدادي عن الإمكان الوقوعي في أن الأول مختص بالماديات ولا يشمل المجردات؛ لأن المجردات توجد وهي كاملة فلا تغيّر ولا تطوّر فيها ، وأما الماديات فإنها في حالة تطور وتغيُّر ، بخلاف الإمكان الوقوعي ، فإنه شامل للماديات والمجردات على حد سواء.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ عرِّف ما يلي :
    أ ـ الواجب. ب ـ الممكن. ج ـ الممتنع.
    2 ـ اذكر مثالاً لكلٍ من الواجب بالذات وبالغير ، والممتنع بالذات وبالغير.
    3 ـ اشرح العبارة التالية :
    «الشيء ما لم ‏يجب لم ‏يوجد»
    4 ـ ما هو الإمكان الخاص؟ وضّح جوابك بمثال ، وما هو وجه التسمية فيه؟
    5 ـ ما هو الإمكان العام؟ وضّح جوابك بمثال ، وما هو وجه التسمية فيه؟
    6 ـ بيّن معنى الإمكان الوقوعي.
    7 ـ ما هو المقصود من الإمكان الاستعدادي؟ وما هو الفرق بينه وبين الإمكان الوقوعي من حيث الشمول أو عدمه للموجودات المادية والمجردة؟

    الدرس السابع
    الجوهر والعرض
    (1)
    * الجوهر والعرض
    * الجوهر وأقسامه
    * الجوهر العقلاني
    * الجوهر النفساني
    * الجوهر الجسماني
    * الجوهر المادي أو الهيولى
    * الجوهر الصوري
    * فكِّر وأجب


    الجوهر والعرض
    إنَّ عدَّك للأشياء الموجودة في مدرستك قد يَكون عدّاً فردياً بأن تحصي عدد الطلاب والكراسي والصفوف والأشجار والأقلام والدفاتر .... بكل أفرادها وجزئياتها ، وقد يكون عدَّك لها عدّاً نوعياً فلا يعنيك أعدادها الفردية بل المطلوب عندك معرفة عناوينها الكلية بأن تقول :
    إن مجاميع من الطلاب والكراسي والأشجار والأقلام والدفاتر .... توجد في مدرستنا.
    وعلى غرار الطريقة الثانية في عدِّ الأشياء ، قام الفلاسفة في عدِّ أنواع الموجودات وأجناسها العامة بعد استقرائها وتسمّى عندهم بالأجناس العالية أو المقولات. (1)
    وقد وقع الخلاف في تحديد عددها إلا أنَّ المعروف عنها أنها عشر مقولات على ما اختاره زعيم المشّائين «أرسطوطاليس» واحدٌ منها يُطلق عليه اسم «الجوهر» بأقسامه ، والتسع الباقية منها تسمّى بـ «الأعراض».
    وقد عَرَّف الفلاسفة الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع ، وبعبارة أخرى إنه ماهيةٌ إذا وُجِدتْ وجدت لا في موضوع ، كالجسم فإنه في وجوده لا يحتاج إلى
    __________________
    1 ـ جمع مقولة ، وهي ما يُقالُ في جواب ما هو ، فهي ماهيات الأشياء وحقائقها.

    موضوع كي يتقوّم ويتحقق به على خلاف العرض ، فقد عرَّفوه بأنه ماهية إِذا وجُدتْ وجُدتْ في موضوع ، كاللون مثلاً فإنه لا يوجد بصورة مستقلة عن غيره بل لابد له من موضوع كي يتقوّمَ به ، فاللون لا يتحقق إلا في جسم ، فيكون الجسم موضوعاً لتحقق اللون ووجوده.
    الجوهر وأقسامه
    والفلاسفة بعد استقرائهم للجوهر وأنواعه وجدوا أنه لا يتعدّى خمسة أقسام؛ فإليك بيانها بصورة مجملة مع ذكر تسمياتها :
    1 ـ الجوهر العقلاني :
    ويسمّى عندهم بالعقل ، وهو موجود مجرّد ، ولا تعلق له بالمادّة والمادّيات ، كالملائكة فإنّ وجودها مجرد ولا تحتاج إلى شيء مادي في نشاطها وفعلها.
    و «العقل» مشترك لفظي بين معنيين :
    الأول : بمعنى القوّة التي تُدرِك الكليّات وهذا المعنى هو الذي تنصرف إليه كلمة العقل في العرف العام حين استعمالها.
    الثاني : بمعنى المجرد التام كالملائكة وهو ما يقصده الفلاسفة من استعمال كلمة العقل حين إطلاقها.
    2 ـ الجوهر النفساني :
    وهو الموجود المجرد في ذاته ووجوده إلا إنه مرتبط بالمادة ، كروح الإنسان ، فإن وجودها مجرد إلا إنها متعلقة بالبدن في نشأتها وفعلها؛ حيث إنها تنشأ مع

    نشوء البدن ، كما أوضح ذلك صدر المتألهين استناداً إلى فكرة الحركة الجوهرية. (1) كما إنها تحتاج إلى البدن في فعلها ونشاطها ، فهي التي تدرك وترى وتسمع وتلمس ... كل ذلك بواسطة البدن ، وفي آخر الأمر يُتاح لها أن تستقل عن البدن بعد موته.
    3 ـ الجوهر الجسماني :
    وهو الموجود الذي له أبعاد ثلاثة وله زمان ومكان وقابل للأشكال المتعددة والألوان المختلفة ، ويتحقق لنا إثباته عن طريق العقل لا عن طريق الحس ، وذلك لأن ما ندركه من الأجسام ليس سوى أعراض تعرض على الأجسام ومن خلالها نستنتج أبعادها الثلاثة.
    والجوهر الجسماني مركب من جوهرين آخرين أحدهما الجوهر المادي والآخر الجوهر الصوّري ، وسيأتي توضيحهما بعد قليل.
    4 ـ الجوهر المادي أو الهيولى : (2)
    وهو مُبْهم لا تشخص فيه سوى قابليته واستعداده للتشخص ـ أي قبوله لصورة الأنواع المختلفة ـ وهو موجود في جميع الأجسام وَيكون متشخصاً بسبب الصور النوعية التي تظهر فيه ، ولكنه في الجميع واحد مشترك ، فالتراب حين يكون نباتاً والنبات حين يكون حيواناً ، والحيوان حين يكون معدناً ... فإن الجوهر المادي أو ما يسمّى بالهيولى فيها واحد لا يختلف ، وإنما الذي اختلف صور الأشياء التي توالتْ عليه ، فالصورة الترابية هي التي تغيّرت إلى صورة
    __________________
    1 ـ سوف يأتي في الدرس الرابع عشر بيان لفكرة الحركة الجوهرية.
    2 ـ الهيولى كلمة يونانية تعني الأصل ، وهي واحدة في جميع الأشياء في الجماد والنبات والحيوان .. وإنما تتباين الكائنات في الصور فقط.

    حيوانية ، والأخيرة بدورها تغيرت إلى صورة معدنية .... وهكذا ، فالجوهر المادي أشبه ما يكون بالطين الذي يتخذ أشكالاً مختلفة حين استخدامه في البناء ، فإنه واحد لم ‏يتغيّر وإنما صوره الطارئة عليه تتغير.
    5 ـ الجوهر الصوري :
    وهو منشأ آثار أنواع الموجودات المادية الجسمانية وله أنواع مختلفة ، فمن جملتها الصورة الجسمية التي تلازم الهيولى ولا تنفك عنها؛ لأن الهيولى ـ وكما تقدّم ـ لا فعليّة ولا تشخص فيها سوى استعدادها لتقبل الصور النوعية المختلفة ، فلابدّ من صورة تتلبس بها وتحقق عن طريقها فعليتها ، وهذِهِ الصورة هي الصورة الجسمية. وحيث إنه لا يوجد في دنيا الوجود صورة جسمية مطلقة تُظهِرُ الهيولى ، كان المظهر لها صور الأشياء المادية المختلفة ، كالصورة الترابية والنباتية والحيوانية والمعدنية.
    وهكذا فإن صور الأنواع المادية الأخرى تتوالى على الهيولى كالصورة الحديدية والخشبية والزئبقية ، والأوكسجينية مع بقاء الهيولى ثابتة على حالها بلا تغيير ، فالمتغير والمتبدِّل هنا الصور النوعية للمادة دون مادتها المشتركة المسماة بالهيولى.
    ولا يخفى أن كل صورة من الصور النوعية المتوالية على الهيولى تصلح أن تكون مادة لما بعدها ، فالحيوان مادة للصورة النوعية النباتية ، والنبات مادة للصورة النوعية الحيوانية والحيوان مادة للصورة النوعية الإنسانية ... ، وتسمى هذه المواد بالمادة الثانية تميزاً لها عن المادة الأولى والهيولى المتقدم ذكرها (1).
    __________________
    1 ـ ويظهر مما تقدم أن كل مادة ما خلا المادة الأولى تسمى بالمادة الثانية ، فلا توجد من بينها مادة ثالثة أَو رابعة أو خامسة ....

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هي طريقة الفلاسفة في عدِّهم للأشياء؟
    2 ـ ما هو تعريف كلٍ من الجوهر والعرض؟
    3 ـ ماذا تعني كلمة العقل؟ وما هو مقصود الفلاسفة منها؟
    4 ـ ماذا يقصد من الجوهر النفساني؟ وكيف تكون نشأة النفس ونشاطها وفعلها؟
    5 ـ ما هو الجوهر الجسماني؟ ومن أي شيء يتركب؟ وكيف يتم إدراك أبعاده الثلاثة؟
    6 ـ عرِّف كلاً من الجوهر المادي والجوهر الصوري. ثم وضح وجه الارتباط بين الجوهر الجسماني والمادي والصوري.
    7 ـ ماذا تعني المادة الأولى وماذا تعني المادة الثانية؟ أوضح جوابك بمثال لكلٍ منهما.


    الدرس الثامن
    الجوهر والعرض
    (2)
    * الأعراض
    * الكم
    * الكيف
    * الأين
    * المتى
    * الوضع
    * الملك
    * الفعل
    * الانفعال
    * الإضافة
    * فكِّر وأجب


    الأعراض :
    تقدم الكلام في الدرس الماضي عن الجوهر وأقسامه ، وبقي الحديث عن الأعراض ، والأعراض كما أشرنا قبل قليل تسعُ مقولات ، وإليك ذكرها مجملة مع ذكر مثال واحد لكل مقولة منها :
    1 ـ الكمّ :
    وهو إما كمٌّ متصل كالخط والسطح والحجم ، وإما كمّ منفصل كالعدد. كما إن المتصل إما أن يكون قارّاً ـ مستقراً ثابتا ـ كالخط والسطح والحجم. وإما أن يكون غير قار ـ غير مستقر وغير ثابت ـ كالزمان ، إذ لا قرار ولا ثبات في الزمان ، فكل مقطع منه ينتهي ليأتي مقطع آخر ، بدلاً عنه.
    2 ـ الكيف :
    وهو على أنحاء مختلفة :
    فقد يكون كيفاً نفسانياً كالعلم والإرادة والحب والبغض والألم ....
    وقد يكون كيفاً كمّيّاً كالزوجية والفردية للأعداد ، والاستقامة والانحناء للخطوط والسطوح ، والأشكال للسطوح والأحجام.
    وقد يكون كيفاً استعدادياً ، كاستعداد الطفل أن يكون رجلاً ، واستعداد البذرة أن تكون شجرة ، بينما لا يوجد في الحجر استعداد لذلك.

    وقد يكون كيفاً محسوساً كإدراك المرئيات من الألوان ، والمذوقات كالحلاوة والمرارة ، والمشمومات كالروائح الطيبة والكريهة ، والمسموعات كالأصوات الجميلة والمنكرة ، والملموسات كالخشن والناعم.
    3 ـ الأين :
    وهو نسبة شيء مادي إلى مكانه كقولك : جابر بن حيان الكوفي ، (1) الحسن البصري ، (2) روح ‏الله‏ الموسوي الخميني قدس ‏سره (3) ؛ فإنك نسبت الأول إلى مكان اسمه «الكوفة» ونسبت الثاني إلى مكان اسمه «البصرة» ، ونسبت الثالث إلى مكان اسمه «خمين».
    4 ـ المتى :
    وهو نسبة بين الشيء وبين زمانه ، كاليوم والأمس ، وهذا العام الماضي والعام القادم وهذا الأسبوع ... كما في قولك :
    «انبثق نور الثورة الإسلامية الإيرانية في اليوم الحادي عشر من شهر شباط في
    __________________
    1 ـ جابر بن حيان الكوفي (117 ـ 200 ه ق) من علماء الكيمياء العرب المشهورين ، عاش في الكوفة ، له مؤلفات كثيرة منها : «أسرار الكيمياء» ، «علم الهيئة» ، «أصول الكيمياء» و «الرحمة» ؛ ترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية.
    2 ـ الحسن البصري : «أبو سعيد» (21 ـ 110 ه ق) : تابعيٌّ ولد في المدينة ، وأقام في البصرة وفيها توفي. لقي عثمان بن عفان وعبد الله‏ بن العباس. كان شاخصاً في معرفة الأحكام الشرعية والتدريس وعنه اعتزل واصل بن عطاء الذي غدا رأس المعتزلة.
    3 ـ الخميني (1320 ـ 1410 ه ق) روح ‏الله‏ الموسوي الخميني. ولد في مدينة خمين التابعة لمحافظة آراك الإيرانية. يُعتبر فقيهاً وفيلسوفاً ومرجعاً من الطراز الأول ، وقد عُرِفَ بالزهد والورع والانقطاع إلى الله‏ ، وفي ذات الوقت امتاز بالشجاعة والصلابة مضافا إلى إحاطته ووعيه لكل ما يدور حوله من شؤون سياسية واجتماعية ... مما أهله أن يكون قائداً عظيما قل نظيره. نهض ضد حكومة الشاه محمد رضا منذ عام 1963 م وبعدها واصل نضاله في منفاه حتى عاد منتصراً بإقامة حكومة إسلامية ، وذلك في 11 شباط من عام 1979 م.

    عام 1979 م.»
    5 ـ الوضع :
    وهو نسبة أجزاء الشيء بعضها مع البعض الآخر والمجموع إلى الخارج ، كالقيام فإنه يحدد موضع الرأس إلى أعلى وموضع البطن في الوسط وموضع الرجلين إلى أسفل وبصورة عمودية ، على خلاف ما لو كان البدن مستلقياً فإنّ وضع أجزاء البدن سوف تكون في حالة أفقية.
    6 ـ الملك :
    وتسمى بالجِدة ، وهي نسبة شيءٍ إلى شيءٍ آخر يحيط به بلون من ألوان الإحاطة ، كالتعمّم ، والتقمّص ، فإن العمامة تحيط بالرأس والقميص يحيط بالصدر والبطن واليدين.
    7 ـ الفعل :
    وهو يحكي عن تأثير شيء مادي يُسمى بالفاعل ، في شيءٍ مادي آخر ويسمى بالمنفعل. كقوله تعالى : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (1) وكقولك : «علّمتُ الطالبَ».
    8 ـ الانفعال :
    وهو ما يحكي عن تأثّر شيءٍ ماديّ بشيءٍ مادي آخر ، كتأثر الزجاجة بالحجر المرمي عليها ، بانكسارها به ، وكسخونة الماء عند وضع النار تحته.
    9 ـ الإضافة :
    وهي نسبة شيءٍ إلى شيءٍ بالقياس إلى نسبةِ أخرى كالأبوة والبنوة ، فإذا
    __________________
    1 ـ الأنفال : 60.

    نسبت الابن للأب فقد نسبت أيضاً الأب للابن.
    «وقد نظَّم بعضهم بيتين من الشعر ، ذكر فيهما المقولات العشر ليسهل حفظها على الطالب ، فقال :
    زيد الطويل الأزرق ابن مالك
    فى بيتهِ بالأمس كان متكي

    في يدهِ سيف لواه فالتوى
    فهذه عشر مقولات سوا

    فزيد مثال للجوهر ، والطويل للكمّ والأزرق للكيف ، والابن للإضافة ، وفي بيتهِ للأين ، وبالأمس للمتى ، ومتكي للوضع ، وفي يده سيف للملك ، ولواه للفعل ، فالتوى للانفعال» (1).
    __________________
    1 ـ محمد جواد مغنيه ، معالم الفلسفة الإسلامية ، ص 64 ـ 65. مكتبة الهلال.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ عرِّف كلاً من الكمّ المتصل والمنفصل ، ذاكراً لكل منهما مثالاً.
    2 ـ اذكر أنحاء الكيف مستعيناً بمثال توضيحي لكل نحو منها.
    3 ـ اشرح المقولات التالية معززاً شرحك لكلٍ منها بمثال توضيحي :
    الأين ، المتى ، الوضع ، الملك ، الفعل ، الانفعال ، الإضافة.
    4 ـ اذكر ما ورد في الدرس من الشعر موضّحا موضع المقولات العشر منه.


    الدرس التاسع
    العليّة
    (العلة والمعلول)
    (1)
    * مفاد أصل العليّة
    * العلاقة بين العلة والمعلول
    * نظرية الوجود
    * نظرية الحدوث
    * نظرية الإمكان الوجودي
    * فكِّر وأجب


    مفاد أصل العليَّة :
    إن لكلّ ممكن ـ محتاج وفقير ـ علّة تفيض عليه الوجود والتحقق كحقيقة الإنسان مثلاً ، فإنها في حد ذاتها مفتقرة إلى علة توجدها ، فإن وجدت علتها وجدت هي معها وإلا فلا ، ولا يختلف حول هذهِ المسألة اثنان وهذا المعنى هو المستفاد من أصل العليَّة ، ومن هنا فإن كلَّ عاقلٍ سويّ يذعن بأنَّ لكلِّ مصنوع صانعا ولكلّ مخلوق خالقاً ولكل معلول علّة ، فما دام الموجود في ذاته مفتقراً في وجوده وتحققه فلابد وأنْ يكون مرتبطاً بسبب أفاض عليه الوجود والتحقق ، وهذا بخلاف ما لو كان الموجود في ذاته غنياً عن غيره في الوجود ، فلا معنى لاحتياجهِ إلى علة تفيض عليه الوجود ما دام غنياً عما سواه في ذلك؛ إذ الوجود بالنسبة إليه متحقق ، وهذا من قبيل عدم احتياج الملح إلى ملح حتى يكون مالحاً ، فما دام هو مالحاً لا معنى لاحتياجه إلى الملح ، إذ أن أمراً كهذا يكون لغواً؛ لأنه تحصيل للحاصل.
    ومن هنا ، فإنّ الإلهي الموحّد يرى بأن الله‏ غني عن كلِّ علّة مهما كان لونها ، بل إن كلَّ علّة مدينةٌ في وجودها وتحققها إليه تعالى ، فهو العلّةُ الأولى لكل ما سواه ، وما سواه معلول ومفتقر إليه جَلّ‏ وَعلا؛ وقد أثبت الفلاسفة والمتكلمون ذلك بما لا يُبقي مجالاً للشك والتردد كما سوف يتضح فيما يأتي من بحوث (1).
    __________________
    1 ـ راجع : الدرس العشرين.

    العلاقة بين العلة والمعلول
    لا شك في وجود علاقة بين المعلول وعلته المفيضة له بالوجود والتحقق ، وإنما المهم في هذا المجال معرفة نمط هذه العلاقة وسرّها ، وعلى هذا الصعيد ذُكرت نظريات مختلفة ، إليك بيانها :
    1 ـ نظرية الوجود :
    وقد ذهب إلى هذه النظرية جمع من الفلاسفة الماديين حيث أكدوا على أنَّ سرَّ العلاقة بين المعلول والعلّة يكمن في كونه موجوداً ، فكل موجود محكوم عليه بالارتباط بعلة وجوده ، ولأجله أكّدوا على أن لكل موْجودٍ موجداً ، وفات هؤلاء أن الموجود إذا كان في وجوده غنياً فلا معنى لارتباطه بعلة تفيض عليه الوجود وتمنحه الغنى ، وإنما يحتاج الشيء إلى علة الوجود إذا كان في ذاته مفتقرا إلى الوجود ، كما سنتحدّث عنه في نظرية الإمكان ، بعد قليل.
    ومن هنا ذهب الإلهيون إلى القول باستغناء الله‏ عن علة الوجود ، إذ إنه غني فلا معنى لفرض ارتباطه بعلة توجده وتمنحه الغنى إذ هو تحصيل للحاصل ، وتحصيل الحاصل باطل كما يقولون.
    2 ـ نظرية الحدوث :
    وهذه النظرية منسوبة إلى علماء الكلام ، ومفادها هو أن سرّ ارتباط المعلول بعلته حدوثه ، فكل حادث محتاج في حدوثه إلى علة الحدوث ، وهذه النظرية لا تخلو من نظر ، لأنّ لازمها استغناء الحادث بعد حدوثه عن علته المُحْدِثة له وهو باطل كما سيأتي بعد لحظات.

    3 ـ نظرية الإمكان الوجودي :
    وقد نسبت هذه النظرية إلى الفلاسفة الإسلاميين وفي طليعتهم صدر المتألهين الشيرازي ، ومفادها : أن سرّ ارتباط المعلول بعلته هو إمكانه وافتقاره الذاتي الوجودي. فالممكن في حد ذاته خلو من كل وجود ، وإذا ما وجد فإنّ وجوده فيض من غيره ، فسرّ ارتباط المعلول بعلته إمكانه وافتقاره إليها. (1)
    وإليك توضيح الفكرة بأمثلة بيانية : إن العلاقة القائمة بين العلة والمعلول علاقة ارتباطية لا استقلالية ، فإنك حين تقرأُ كتاباً أو تنظر إلى صورة جميلة أو تصافح صديقا لك ، فإنه سوف توجد بينك وبين كل ما تقدم علاقة ، وهذِهِ العلاقة تنتفي بمحض إعراضك عن تلك الأشياء ، إلا أن انتفاء علاقتك بها لا يوجب انتفاء وجودها أو وجودك بل يبقى وجودك ووجودها على ما هو عليه ، وهذا يعني أن وجود كلٍّ من الطرفين مستقل عن الآخر ، وهذا هو معنى العلاقة الاستقلالية القائمة بين الطرفين.
    بينما تجد العلاقة القائمة بين حركة اليد وحركة القلم علاقة تعلقية ، بمعنى أن حركة القلم تنتفي بمحض قطع علاقتها بحركة اليد ، وهذا يعني أن العلاقة الحاكمة بين حركة اليد وحركة القلم علاقة ارتباطية ، أي أن حركة القلم مرتبطة في وجودها بحركة اليد ، فلا وجود لحركة القلم من دون حركة اليد ، وهذِهِ العلاقة
    __________________
    1 ـ وقد وقع خلاف بين الفلاسفة في أن الإمكان المذكور هل هو إمكان ماهوي ، بناءً على نظرية أصالة الماهية ، أو أنه إمكان وجودي ، بناء على نظرية أصالة الوجود؟ والصحيح هو الثاني على ما اختاره صدر المتألهين ، وتفصيل الكلام وبيان الخلاف موكول إلى دراسات أعمق. وقد تقدمت الإشارة إليه فيما سبق عند البحث عن الماهية والوجود.

    قائمة بين كل علّة ومعلولها ، فالمعلول عدم عند عدم علّته ، وهكذا يمكن تصوير علاقة الكون بكل ما فيه ومن فيه بخالقهِ وبارئه الذي هو الله‏ سبحانه ، فالمخلوقات نفحة من نفحاته وفيض من فيوضاته القدسية ، فلا يستغني أيُّ موجود عنه تعالى ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله‏ العليّ العظيم.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:51 am

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو مفاد أصل العليّة؟
    2 ـ لماذا يدّعي الإلهيون استغناء الله‏ عن علة توجده؟
    3 ـ اشرح نظرية الحدوث؟ ثمّ بيِّن ما يمكن أن يرد عليها من إشكال.
    4 ـ ما هي نظرية الوجود؟ وما هي المؤاخذة عليها؟
    5 ـ ما هي نظرية الإمكان الوجودي؟
    6 ـ اشرح العبارة التالية مستعيناً بمثال توضيحي :
    «إن العلاقة القائمة بين العلة والمعلول ارتباطية لا استقلالية».


    الدرس العاشر
    العليّة
    (العلة والمعلول)
    (2)
    * التعاصر بين العلة والمعلول
    * العادة والقصد الضروري والجزاف والصدفة
    * فكِّر وأجب


    التعاصر بين العلة والمعلول
    وإذا كانت العلاقة بين العلة والمعلول تعلقية ربطية وبهذه الدرجة من القوة والربط ـ كما تقدم في الدرس الماضي ـ يتضح بجلاء ما أُثِرَ عن الفلاسفة من أن المعلول يقترن زماناً بعلته ، فإذا وجدت العلة وجد معها المعلول وإن انتفت انتفى معها معلولها. وبعبارة أخرى : إن المعلول يعاصر علته ، كما يقول الشهيد السعيد محمد باقر الصدر قدس ‏سره : (1)
    «لما كنا نعرف الآن وجود المعلول مرتبط ذاتياً بوجود العلة ، فنستطيع أن نفهم مدى ضرورة العلة للمعلول ، وأن المعلول يجب أن يكون معاصراً للعلة ليرتبط بها كيانه ووجوده ، فلا يمكن أن يوجد بعد زوال علته ، أو أن يبقى بعد ارتفاعها ، وهذا ما شئنا أن نعبّر عنه بقانون التعاصر بين العلة والمعلول». (2)
    وقد اشتبه الأمر على بعض ، فتصور أن العلاقة الارتباطية بين العلة والمعلول
    __________________
    1 ـ محمد باقر الصدر (1933 م ـ 1980 م) : ولد قدس ‏سره في مدينة الكاظمية ـ إحدى مدن العراق ـ في أسرة كريمة ، نبغ مبكرا فنال درجة الاجتهاد ومن ثم مقام المرجعية الرشيدة ، وصار ممن يشار إليه بالبنان ، ومن النوادر الذين تشرف التاريخ بتدوين أسمائهم على صفحاته بأحرف من نور ، وقد امتاز بالمثل الأخلاقية العليا ، وبشمولية نظرته وعمقه العلمي ، فكان له من المؤلفات : اقتصادنا ، فلسفتنا ، الأسس المنطقية للاستقراء ، البنك اللاربوي في الإسلام ... تصدى لمواجهة نظام صدام الدكتاتوري في العراق ، فحاز على درجة الشهادة الرفيعة.
    2 ـ فلسفتنا ص 279. ط مجمع الشهيد الصدر العلمي.

    بمعناها المتقدم والتي يُسْفِرُ عنها تعاصر واقتران زماني بينهما لا تصدق على كثير من الموارد ، فعلى سبيل المثال : أن البَنّاء الذي يكون علة في بناء البيت لا يؤَثِّر موتُه على البيت وبقائه ، فالبيت يبقى مدة مديدة من الزمان رغم انتفاء علته ، فبموت البَنّاء يظلّ صرح البَنَّاءِ باقياً ، مع العلم أن العلاقة القائمة بين البَنّاء والبيت من نمط العلاقة الارتباطية.
    وقد فات هؤلاء تشخيصهم الدقيق للمعلول المرتبط بعلته ، فإن المعلول المرتبط بالبنّاء في هذا المثال ليس سوى عملية نقل وانتقال المواد من مكان ووضعها في مكان آخر ، وهذا النقل ينتهي لا بعد موت البَنّاء فحسب بل حتى في حياته بعد سحب يده من عمله ، وهذا يعني أن العلّة هنا عبارة عن عمل البَنّاء الموجب لنقل وانتقال مواد البَنّاء من مكان إلى آخر وهي تنتفي بمحض ما يتوقف البنّاء عن العمل. وأما علة بقاء البيت قائماً حتى بعد توقف البَنّاء عن العمل أو بعد موته ، فيعود إلى أن لهيئة البيت وشكله علة أخرى وهي القوة التماسكية للمواد المستخدمة في البِناء وطبيعة تركيب الاَجُر؛ وهي موجودة مع البِناء ، فإذا زالت انهار البناء.
    فالعلاقة القائمة بين كل علة ومعلولها علاقة ارتباطية تعاصرية بلا ريب وهو ما يتضح بجلاء إذا ما أمعنا الدقة في تشخيص العلة ومعلولها في مواردها كما تبيّن في المثال آنف الذكر.
    العادة والقصد الضروري والجزاف والصدفة :
    قد تصور البعض خطأً انحصار الغايات في مورد الأفعال الناشئة عن الفكر والتأمل بنتائج الأفعال كذهاب العامل إلى معمله للكسب وتحصيل الرزق ، و

    ذهاب الطالب إلى مدرسته للاستنارة بنور العلم. فلا غاية للأفعال التي لا تنشأ عن منشأ تصديقي فكري ، كملاعب الصبيان وتسمّى بالجزاف ، وكالعبث باللحية والأصابع المسمى بالعادة ، وكحركات المريض الناشئة عن مزاج خاص فيه المُعَبّر عنها بالقصد الضروري.
    والصحيح هو أن لكل فعلٍ غاية ينتهي إليها الفعل ، فما كان فكريا كانت غايته فكرية ، وما لم يكن كذلك بأن كان جزافيا أو طبيعيا أو مزاجيا كانت الغاية ما ينتهي إليها الفعل من نتيجة ، لأنها مآل الفعل ومنتهاه.
    والأفعال مهما كان منشأها ، فكريا أو غيره قد يعرضها مانع يحول دون الوصول إلى غايتها وحينئذٍ يسمّى الفعل نسبة إلى ذلك المانع بالباطل. وهذا لا يعني بحال أن الفاعل لا هدف له من فعله ، لأن عدم الغاية شيء ووجود مانع حال دون تحقق الغاية شيء آخر.
    وإذا اتضح أن لكل فعل غاية يستهدف الفاعل تحققها يتضح أيضا استحالة الاتفاق ـ الصدفة ـ بين العلل والغايات التي تنتهي إليها تلك العلل ، إذ إن الصدفة لو كانت ممكنة لأمكن صدور المعلول من أية علة مهما كانت ، ولا شك في أنه واضح البطلان ، إذ كيف يصح فرض صدور الحرارة من الثلج والبرودة من النار بحجة القول بالصدفة؟!
    ومنه يتضح وهن ما استشهدوا به من أمثلة البخت السعيد والشقي ، حيث قالوا : قد يحفر إنسان بئراً ليصل إلى الماء فيعثر على كنز ، وقد يحفُر آخرُ بئراً ليصل إلى الماء فتلدغه أفعى فيموت على أثرها ، فلا ربط إذن بين الأفعال وغاياتها. إلا أنك ترى وبأدنى تأمل أن كلاً من الفعل الأول والثاني لم يتخليا عن الغاية المختصة

    بهما ، إذ إن الحفر بمفرده لم يوصل إلى الكنز ولا إلى الأفعى ، بل إن الحفر في خصوص نقطةٍ من الأرض تحتها كنز أو أفعى يوصل إليهما لا كل حفر كيف ما اتفق. والحصيلة هي أن كل فعل لابد وأن يؤدي إلى نتيجته وغايته المنتهي إليها ، فلا صدفة ولا انفصام بين الغايات للأفعال وبين عللها الفاعلية كما توهم البعض من أمثال ديمقريطس ، الذي أكد على أن الله‏ خلق أجساما صغاراً وأطلقها متحركة ، فتصادمت الأجسام صدفة بعضها ببعض فنشأت عنها صور الكون وأشكاله المختلفة ، مع إنها لم ‏تكن مقصودة من ‏الله‏ بل وجدت صدفة!

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو المقصود من قانون التعاصر بين العلة والمعلول؟
    2 ـ إذا كان المعلول مرتبطا ومحتاجا إلى علته دوماً فلماذا يستغني البِناءُ عن البَنّاء؟
    3 ـ ما هو المقصود من العادة والقصد الضروري والجزاف والصدفة؟
    4 ـ ما هو ردك على قول القائل بانحصار الغايات في مورد الأفعال الناشئة عن الفكر دون غيرها؟
    5 ـ ما هو الدليل على بطلان القول بالصدفة؟
    6 ـ ناقش ما يلي :
    (البخت السعيد أو البخت الشقي ينفيان الارتباط بين الأفعال وغاياتها).


    الدرس الحادي عشر
    العليّة
    (العلّة والمعلول)
    (3)
    * التناسب بين العلة والمعلول (السنخية)
    * قاعدة الواحد
    * فكِّر وأجب


    التناسب بين العلة والمعلول (السنخية) :
    ومفاد هذه القاعدة أن للعلل معاليل تناسبها وتسانخها ، كما أن للمعلولات عللاً تناسبها وتسانخها ، فلا تصلح كل علة لكل معلول ولا يصلح كل معلول لكل علة ، فالحرارة لا تصدر عن الثلج ، والبرودة لا تنبعث من الحرارة ، والجاهل لا يكون مصدراً للعلم كما أن العلم لا يصدر عن جاهل ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعطاء لا يصدر من لا شيء ، وبذلك يتضح بداهة قاعدة التناسب والسنخية بين العلة والمعلول.
    وبفضل هذه القاعدة يمكن تعميم القوانين العلمية في مختلف حقول المعرفة الإنسانية ، فكل حكم يستحيل تعميمه كقانون علمي شامل لجميع موارده المفترضة إلا بالاعتماد على قاعدة السنخية والتناسب بين العلة والمعلول ، (1) لأنّ مفادها : أن كل مجموعة من الأشياء إذا كانت متفقة في حقيقتها ، يلزم انسجامها في أسبابها ونتائجها وعللها ومعلولاتها.
    (فعلى ضوء قانون التناسب نستطيع ـ مثلاً ـ أن نعمم ظاهرة الإشعاع المنبثق عن ذرة الراديوم لجميع ذرات الراديوم ، فنقول؛ ما دامت جميع ذرات هذا العنصر متفقة في الحقيقة فيجب أن تتفق في أسبابها ونتائجها). (2)
    __________________
    1 ـ وهو قانون عقلي كما تقدمت الإشارة إليه في الدرس الثاني.
    2 ـ محمد باقر الصدر ، فلسفتنا ، ص 263 ، المجمع العلمي للشهيد الصدر قدس‏ سره ، محرم الحرام 1418 ه ق.

    قاعدة الواحد :
    وبناءً على قاعدة السنخية بين العلة والمعلول ، تتفرع قاعدة الواحد والتي تفيد أن «الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد» ، وأن «الواحد لا يصدر إلا عن واحد» ، ومن أجل التوضيح نقول : إذا كانت العلة ذات خاصية واحدة ، فلا يمكن أن يكون معلولها ذا خاصّتين أو أكثر ، كما أن المعلول إذا كان واحداً في خاصّته فإنه يستحيل صدوره عن عللٍ تامّةٍ كثيرةٍ ، إذ لو كان لكل علة من العلل المتعددة في خواصها أثر في معلولها لبان وظهر أثرها ، ولكان في المعلول آثارٌ وخواص متعدّدة بعدد العلل المؤثّرة فيه ، لا أثر واحد وخاصة واحدة ، والحال أن المعلول حسب الفرض لا يتضمن إلا أثراً وخاصة واحدة. فإن وجود أثر واحدٍ في المعلول يُنبئ عن وجود مؤثر واحد من مجموع المؤثرات لا جميعها ، فلم يكن لبقية العلل والمؤثرات دور وتأثير في إيجادِ آثارها في المعلول ، إذ لو كان لبان.
    وقد تقول : إن تعدد العلل وتواردها على معلول واحد مألوف في حياتنا اليومية ، كما لو شاهدنا مجموعة من الأفراد يدفعون حافلة وعلى أثر ذلك فإنها تتحرك باتجاه دفعهم لها ، وهو مما يؤكد اجتماع علل كثيرة على معلول واحد وهو حركة الحافلة ، والصحيح هو أن العلل التي اجتمعت لتحريك الحافلة لم تكن مستقلة وتامة في إيجاد المعلول ، بل إنها علل ناقصة يكون مجموعها بمثابة العلة التامة الواحدة وهذا هو ما تعنيه قاعدة الواحد بصيغتيها آنفتي الذكر.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ماذا تعني السنخية والتناسب بين العلة والمعلول؟ وضّح جوابك بمثال.
    2 ـ اشرح ما يلي :
    «وبفضل قاعدة التناسب بين العلة والمعلول يمكن تعميم القوانين العلمية في مختلف حقول المعرفة الإنسانية».
    3 ـ بيِّن قاعدة الواحد بكلا فرضيها. معززاً بيانك بمثال توضيحي.
    4 ـ ما هو ردّك على قول القائل؛ إن العلل وإن تعددت فإنها يمكن أن تترك أثراً واحداً والشاهد على ذلك ما نراه في حياتنا اليومية كدفع جماعة لحافلة ، فإن العلل كثيرة والأثر واحد.


    الدرس الثاني عشر
    العليّة
    (العلة والمعلول)
    (4)
    * أقسام العلة :
    * العلة الفاعلية والمادية والصورية والغائية
    * العلة التامة والناقصة
    * العلة المباشرة وغير المباشرة
    * العلة المنحصرة وغير المنحصرة
    * العلة الداخلية والخارجية
    * العلة البسيطة والمركبة
    * العلة الحقيقية والمُعِدّة
    * فكِّر وأجب


    أقسام العلّة
    تنقسم العلّة بحسب موردها إلى أقسام عديدة ، نجملها فيما يلي :
    1 ـ العلّة الفاعلية والمادية والصورية والغائية :
    إن صناعة سرير من خشب تتوقف على وجود نجّار يصنعه ، إذ لا يُمكن أن يوجد السرير صدفة وبلا علة ، فيعدّ النجّار ، علة فاعلية في صنع السرير ، كما أن السرير لا يوجد بلا خشب ، فالخشب علة مادية لوجود السرير ، كما أن السرير لم يكن ليوجد لولا صورته وهيئتُه التي كانت في ذهن النجار والتي أوجد السرير على غرارها ، وتسمّى الصورة والهيئة هنا بالعلّة الصورية ، مضافاً إلى ما تقدم ، فإن النجّار حين صنعه للسرير كان له غاية في صنعه وهي الرقاد والاستراحة عليه وهو ما يُسمّى بالعلة الغائية. (1)
    تجدر الإشارة إلى أن العلل الأربع آنفة الذكر إنما تكون عللا للأجسام ولا تشمل بقية الجواهر بل ولا حتى الأعراض ، كما أن المثال المذكور مبنيٌّ على المسامحة ، إذ إن النجار ليس علة فاعلية ، كما أن صورة الكرسي ليست علة حقيقية له.
    2 ـ العلة التامة والناقصة :
    ومن جهة أخرى تسمّى العلل الأربع المتقدم ذكرها في مثال السرير مجتمعة
    __________________
    1 ـ ويُعبّر عن العلة الفاعلية بما منه الوجود ، وعن العلة المادية بما فيه الوجود وعن العلة الصورية بما به الوجود وعن العلة الغائية بما له الوجود.

    بالعلة التامة ، إذ باجتماعها تتم صناعة السرير ، وأما لو نقص منها علة واحدة أو أكثر فسوف تكون العلة حينها علة ناقصة ولا يوجد المعلول ـ السرير في المثال ـ لنقص في علته التامة.
    3 ـ العلّة المباشرة وغير المباشرة :
    ومن ناحية ثالثة فإن العلّة إما أن تؤثر في معلولها من دون توسط شيء بينها وبينه فتسمى العلة بالعلة المباشرة ، وإما أن يكون تأثير العلة في معلولها بتوسط واسطة فتسمى العلة حينها بالعلة غير المباشرة ، فالنجّار يصنع السرير بأدواته كالمنشار مثلاً ، فالمنشار علّة مباشرة في صنع السرير والنجار علة غير مباشرة في صنعهِ له.
    4 ـ العلة المنحصرة وغير المنحصرة :
    ومن ناحية رابعة ، فإن المعلول إن لم يمكن وجوده إلا بعلة واحدة لا بديل لها ، كما لو تصور الطفل انطلاقاً من جهله أن أباه علة لا بديل لها في رعايته والعناية به ، فإن العلة في مثل هذِهِ الحالة تسمى بالعلة المنحصرة ، وأما لو أمكن وجود المعلول بعلل متعددة ، تستقل كل واحدة عن الأخرى في إيجاده كالنور الذي يمكن تحققُه بالشمس كما ويمكن تحققه بالشمعة المتقدة أو بالمصباح المتوهج أو بالنار المشتعلة ، فإنّها تسمى حينئذ بالعلة على البدل ، لأن كل علة من العلل المذكورة في مثال النور تصلح وبصورة مستقلة أن‏ تكون بديلة عن غيرها في إيجاد وتحقق النور.
    5 ـ العلة الداخلية والخارجية :
    ومن ناحية خامسة فإن العلة قد تكون داخلية وهي التي توجد في المعلول ولا تنفصل عنه كمادة الخشب التي هي علة للسرير ، فإنها في نفس الوقت الذي

    تكون فيه علة مادية ، هي داخلية أيضاً باعتبارها داخلة ضمن المعلول الذي هو السرير. بخلاف النجار فإنه علة خارجية بالنسبة للسرير باعتباره خارجاً عن وجوده وحدوده.
    6 ـ العلة البسيطة والمركبة :
    ومن ناحية سادسة فإن العلة إما أن تكون بسيطة كوجود الله‏ الأقدس الذي هو علة في مخلوقاته ، فإنه تعالى غير مركب من أجزاء فهو بسيط كما أثبتهُ العلماء في كتبهم الكلامية والفلسفية ، وإما أن تكون العلّة مركبة من أجزاء ، كوسائط النقل التي تنقل المسافرين من مكان إلى آخر ، فإنها مركبة من أجزاء وقطع تشكل بمجموعها علة واحدة في تحقق المعلول وهو نقل المسافرين.
    7 ـ العلة الحقيقية والمعِدّة :
    ومن ناحية سابعة فإن كل علة يكون المعلول متوقفا عليها بحيث يزول المعلول بزوالها تسمى بالعلة الحقيقية ، نظير ما تقوم به النفس من إبداع في عالم الذهن ، كنسجها لصور مدن كبيرة وعمارات عملاقة ، بعد رؤيتها لمدن وعمارات أصغر منها بكثير ، إلا إنها تشابهها وتسانخها من حيث المظهر والشكل.
    وكل علة لا يكون المعلول متوقفا عليها ، بل لها دخل في حصول الاستعداد لوجود المعلول تسمى بالعلة المُعِدّة؛ نظير ما يجمعه الإنسان من صورٍ ومعانٍ حسية عن طريق الحواس الخمس ثم نقلها إلى الدماغ وما يجري في هذا المجال من فعل وتفاعل ، كل هذا يُعَدُّ مقدمة لتحقق إدراك النفس لتلك الصور والمعاني الحسية ، فالنفس علّة حقيقية للإدراك وما سواها من علل تعتبر مُعِدّة لذلك ، ليس إلا.

    فكِّر وأجب :
    وضّح مستعيناً بمثال كلاً مما يلي :
    1 ـ العلة الفاعلية والمادية والصورية والغائية.
    2 ـ العلة التامة والناقصة.
    3 ـ العلة المنحصرة وغير المنحصرة.
    4 ـ العلة الداخلية والخارجية.
    5 ـ العلة البسيطة والمركبة.
    6 ـ العلة الحقيقية والمعدّة.

    الدرس الثالث عشر
    الدور والتسلسل
    *الدور
    *التسلسل
    *فكّر وأجب


    الدَوْر :
    «الدور» لغة : حركة شيء من نقطة حركة منحنية دائرية بحيث ينتهي إلى نفس النقطة التي انطلق منها.
    وأما في الاصطلاح ، فإن الدور يعني توقف الشيء على ما يتوقف عليه ، أي أن يكون الشيء علّة لعلة نفسه ، كما لو قيل : إن «أ» أوجد «ب» ، و «ب» أوجد «أ» ، فإن معناه أن «أ» أوجد «أ» وهذا يعني أن «أ» الذي لم يكن موجوداً صار علّة لوجود نفسه. وبعبارة أخرى ، أن «أ» معلولٌ وعلة لـ «ب» ، فيكون «أ» متأخراً عن «ب» لأنه معلول لـ «ب» كما إنه متقدم على «ب» لأنه علَّة له ، وهو واضح البطلان لأنه محال كما ترى.
    التوضيح بالمثال : لو فرض وجود شخص وهو بحاجة إلى توقيع أحد شخصين كانا يعملان موظفين في دائرة رسمية ، فامتنع الأول عن التوقيع وعلّق توقيعه على توقيع الثاني ، وحينما ذهب صاحب الوثيقة إلى الثاني ليوقع له وثيقته رفض التوقيع وعلّق توقيعه على الأول ، وهكذا كلما ذهب إلى أحدهما يحوِّله إلى الآخر ، والنتيجة هي أن هذا المسكين سوف يخرج بوثيقته من دون توقيع.

    «وقد أوضح أحدهم فكرة الدور في بيتين من الشعر بقوله :
    مسألة الدور جرت
    بيني وبين من أُحب

    لولا مشيبي ما جفا
    لولا جفاه لم أشب

    يقول : إن حبيبه جفاه لشيبه وإن الشيب حصل أولاً ثم أعقبه الجفاء ، ثم ناقض نفسه وقال : إن الشيب كان من جفاء الحبيب ، أي أن الجفاء حصل أولاً ثم أعقبه المشيب ، فيكون كلّ من الجفاء والشيب متقدماً ومتأخراً في آن واحد ، وبالتالي يكون الشيء متقدما على نفسه». (1)
    التسلسل :
    التسلسل فهو توقف موجود كـ (أ) في وجوده على موجود آخر كـ (ب) ، وتوقف (ب) في وجوده على (ج) ... إلى ما لا نهاية ، مع فرض أن سلسلة الموجودات المتوقف بعضها على البعض الآخر في الفرض المتقدم فقيرة بذاتها ولا تمتلك الغنى.
    وإليك بيان الفكرة بمثال توضيحي : ـ لو فُرِضَ وجود مجموعة لا متناهية من العدائين يريدون الاشتراك في مسابقة ، وحين أُطلقت إشارة البدء لم يركض أحدٌ منهم ، وحينما توجّه السؤال إلى أوّلهم أَجاب بأني لا أشرع بالعدو ما لم يشرع الثاني ، وحينما توجّهوا إلى الثاني بالسؤال ، أكد أنه لا يشرع بالعدو اِلا بشروع الثالث ، وهكذا كل واحد منهم يُعلّق تحركّه على تحرك الذي بعده ، والنتيجة المعروفة من هذا كله هي : أن المسابقة سوف لا تجري بين المتسابقين أصلاً ، لوجود حالة التعليق وعدم الحسم في الموقف ، لأن السلسلة غير متناهية وحالة
    __________________
    1 ـ محمد جواد مغنيه ، معالم الفلسفة الإسلامية ، ص 53 ـ 54 ، مكتبة الهلالي.

    تواكل أحدهم على الآخر مستمرة وغير متوقفة.
    وهذا التسلسل واضح البطلان ويدل على بطلانه أن الموجودات التي فرض وجودها في السلسة اللامتناهية فقيرة بذاتها؛ فإذا كانت كذلك فمن أين حصلت على غنى الوجود ، والمفروض أنها لا تمتلكه من ذاتها ، فلابد من فرض موجود آخر منحها الغنى والتحقق ، وهو بذاته واجب في وجوده وغنيّ عن كل علّة توجده حتى يمكن أن تحصل سلسلة الموجودات الفقيرة على الوجود والتحقق.
    وبهذا الدليل يمكن إبطال فكرة الدور أيضاً ، وذلك لأن الدور سواء كان مضمراً أو مصرّحاً (1) فإن الموجودات المفترضة فيه فقيرة ومحتاجة إلى جهةٍ تغنيها وتمنحها الوجود؛ إذ لا يمكن لكل موجود مفتقر إلى الوجود منح غيره أو نفسه الغنى في الوجود ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بحكم العقل. ويمكن تشبيه نسبة الموجودات الفقيرة في فرض الدور والتسلسل بمجموعة أصفار ، أو مجموعة جُهّال ، فكما أن إضافة صفر إلى صفر آخر لا يُوجِد عدداً ، وكما أن استعانة جاهل بجاهل لا يحقق العلم ، كذلك الحال بالنسبة إلى الموجودات الفقيرة فهي لا يمكن أن تمنح نفسها أو بعضها البعض الغنى والتحقق ، لأنها فقيرة بذاتها وفاقدة لكل غنى.
    __________________
    1 ـ أ ـ الدور المصرح مثل : تعريف الشمس بأنها كوكب يطلع في النهار والنهار لا يعرَّف إلا بالشمس ، إذ يقال في تعريفه : النهار ، زمان تطلع فيه الشمس. فينتهي الأمر في النهاية إلى أن تكون معرفة الشمس متوقفة على معرفة الشمس.
    ب ـ الدور المضمر : مثل تعريف الاثنين بأنها زوجٌ أول ، والزوج يُعرَّف بأنه منقسم بمتساويين ، والمتساويان يُعرفان بأنهما شيئان أحدهما يطابق الآخر والشيئان يُعرّفان بأنهما اثنان ، فرجع الأمر بالأخير إلى تعريف الاثنين بالاثنين. «محمد رضا المظفر ، المنطق ، ص 104 ـ 105 دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، لبنان 1980 م».

    فكِّر وأجب :
    1 ـ عرِّف كلاًّ من الدور والتسلسل مع ذكر مثال توضيحي لكل منهما.
    2 ـ ما هو محذور الدور؟
    3 ـ ما هو الدليل الذي يمكن اعتماده لبطلان كلٍ من الدور والتسلسل؟
    4 ـ بيِّن فكرة الدور على غرار ما بيّنه الشاعر ببيتين من الشعر.
    5 ـ ما الذي يمكن فرضه في مجال الظواهر الكونية ، وسلسلة عللها ومعلولاتها من أجل التخلص من مشكلة الدور والتسلسل؟

    الدرس الرابع عشر
    الثابت والمتغيِّر
    (1)
    * الثابت والمتغير
    * التغيّر والحركة
    * القوة والفعل
    * الحركة العرضية
    * الحركة الجوهرية
    * فكِّر وأجب

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:52 am

    الثابت والمتغيِّر
    ينقسم الموجود فيما ينقسم إلى ثابت ومتغير ، فيطلق الثابت على وجود الله‏ جَل جَلاله وسائر الموجودات المجردة التامة. بينما يطلق المتغيِّر على الموجودات المادية والنفوس المتعلقة بها.
    التغيُّر والحركة
    إن حالة التغيُّر الحاصلة في الأشياء إما أن تكون دفعية أو تدريجية ، والتغيُّر الدفعي قد يحصل في جواهر الأشياء ، وذلك بزوال صورة عن مادة وحدوث صورة أخرى محلها ، كما هو الحال للتغيُّر الحاصل في البيضة التي تتحول إلى فرخ ، فإن البيضة كانت على صورة وحقيقة ، وتبدّلت إلى صورة وحقيقة ثانية تبدلاً دفعيّاً ، ومن دون تدريج ، وسُميّ هذا التحول بـ (الكون والفساد) لأن الموجود ـ البيضة في المثال ـ كان على حقيقة معينة وبعد التحول الدفعي الحاصل فيه ، حدثت وتكوّنت حقيقة جديدة ، بعد أن انحلّت وفسدت الحقيقة السابقة. وأما التغيُّر التدريجي الذي يحدث في الأشياء ليوجد فيها تحولاً فيُسمى بالحركة ، كتحول الشمع حين اشتعال فتيلهِ من حالة جامدة إلى حالةٍ لينة ثم سائلة.

    وتقابل الحركة السكون تقابل الملكة وعدمها ، أي أن السكون لا يطلق على موجود ليس من شأنه الحركة ، فالله‏ ليس من شأنه الحركة ، ولهذا لا يُسمى ساكناً ، بل يُسمى ثابتاً.
    القوة والفعل
    القوة عبارة عن إمكان الشيء ، والفعل عبارة عن وجوده حقيقة ، فالموجود المتطور يتمثل بقوى وإمكانات ، وبالحركة تُسْتنفد تلك الإمكانات ويُستبدل في كل درجة من درجات الحركة الإمكان بالواقع والقوة بالفعلية ، فالكائن الحي يتطور في حركة تدريجية فهو بويضة ، فنطفة ، فجنين ، فطفل ، فمراهق ، فراشد. إن هذا الكائن في مرحلة محدودة من حركته نطفة بالفعل ، ولكنه في نفس الوقت شيءٌ آخر مقابل للنطفة ، وأرقى منها ، فهو جنين بالقوة ، ومعنى هذا : أن الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوة معاً.
    (فلو لم يكن في الكائن الحي قوة درجة جديدة وإمكاناتها لما وجدت حركة. ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل لكان عدماً محضاً ، فلا توجد حركة أيضاً ، فالتطور يأتلف دائماً من شيءٍ بالفعل وشيء بالقوة ، وهكذا تستمر الحركة ما دام الشيء يحتوي على الفعلية والقوة معاً على الوجود والإمكان معاً ، فإذا نفد الإمكان ولم يبق في الشيء طاقة على درجة جديدة انتهى عمر الحركة). (1)
    وجدير بالملاحظة أن الحركة والتبدل من شيء إلى شيء آخر لا تحدث جزافاً وإنما تكون في الموجود الذي له استعداد للتحول إلى موجود آخر ، فالحجر ليس
    __________________
    1 ـ فلسفتنا ، ص 201 ، مجمع الشهيد الصدر العلمي والثقافي.

    فيه استعداد للتحول إلى حيوان ، نعم إنه وبعد عدة وسائط يمكن أن يتحول إلى حيوان.
    الحركة العرضية
    قد يتحرك الشيء حول نفسه فتسمى حركته حركة موضعية كدوران المروحة حول نفسها ، وقد يتحرك الشيء من نقطة إلى أخرى ، فتسمى حركته حركة انتقالية ـ أيْنيَّة ـ وقد تكون الحركة والتغيير في مقولة الكيف ، كالتغير الحاصل في لون التفاحة من الأخضر إلى الأصفر أو إلى الأحمر ، وكالتغير الحاصل في النفس من زيادة الحب أو البغض .... وقد تكون الحركة والتغير في كمّ الأشياء كما في النمو الحاصل في النبات والحيوان على مرور الزمان. وتسمى تلك التغييرات بالحركات العرضية.
    الحركة الجوهرية
    ويوجد مضافاً إلى ما تقدم من تغيرات وحركات في أعراض الأشياء ، حركة وتغير في جواهرها أيضاً ، وتسمى بالحركة الجوهرية ، واستدل صدر المتأَلهين الشيرازي على وجود هذا النمط من الحركة بأدلة ، نقتصر على ذكر واحد منها :
    إن كل ما تقدم من حالات التغيير والحركة كانت في مقولة الكم والكيف والأين ، وهي مقولات عرضية ، فلابد لها من سبب انبثقت عنه ، وحيث أنها تابعة للجوهر الذي عرضت عليه ، فلابد وأن يكون الجوهر علة لها ، وعلة المتغير المتحرك متغيَّرة ومتحركة ، وعليه فلابد وأن يكون جوهَرُ الشيء متغيراً ومتحركاً أيضاً.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ لماذا لا يطلق وصف المتحرك أو الساكن على الله تعالى؟ وأي اسم يناسب إطلاقه على ذات الله‏ القدسية؟
    2 ـ اشرح معنى الكون والفساد والحركة. معززاً جوابك بمثال توضيحي.
    3 ـ وضّح العبارة التالية مع ذكر أمثلة لها :
    «القوة عبارة عن إمكان الشيء ، والفعل عبارة عن وجوده حقيقة»
    4 ـ ما هي الحركات الظاهرية والجوهرية؟
    5 ـ ما هو الدليل على وجود الحركة الجوهرية؟

    الدرس الخامس عشر
    الثابت والمتغيِّر
    (2)
    * آراء وأفكار
    * الحركة ولوازمها
    1 ـ المبدأ
    2 ـ المنتهى
    3 ـ المسافة
    4 ـ الموضوع
    5 ـ الفاعل المُحَرِك
    6 ـ الزمان
    * حقيقة الزمان
    * فكِّر وأجب


    آراء وأفكار
    تعددت الآراء والأفكار المتعلقة بالحركة الجوهرية ، فقد اختمرت الحركة الجوهرية في الفلسفة الإسلامية ، بعد أن بنى ركائزها وثبَّت قواعدها الملاّ صدرا ، وحلّ بفضلها العديد من المشكلات الفلسفية العويصة. (1) في الوقت الذي رفض فيه الفلاسفة الأقدمون ومن جملتهم ديموقريطيس (2) ـ من فلاسفة اليونان القديمة ـ وجود أي حركة في صَميم وجوهر الأشياء ، نعم كان هريقليطيس (3) مؤمنا بشمول التغيُّر والحركة لكل شيء ظاهري وجوهري ، فلا يوجد موجود واحد على حال واحد في لحظتين ، وقد أُثر عنه قوله : «لا يمكن أن تضع رجليك مرتين في نهر واحد» (4) ؛ فلا الشخص الذي وضع رجليه في المرة الأولى هو نفس الشخص الذي وضع رجليه في المرة الثانية ، ولا النهر في المرة الأولى هو ذات النهر في المرة الثانية. بحكم التغير الشامل للأعراض والجواهر في كل لحظة ووقت.
    __________________
    1 ـ كمشكلة علاقة النفس بالبدن ، وصلة القديم بالحادث ، ومشكلة الزمان.
    2 ـ ديموقريطيس Demokritos «القرن الخامس ق. م» ، فيلسوف يوناني ، قال : إن كل كائن مركب من ذرات لا تحصى وإن السعادة تقوم بضبط أهواء النفس. يعتبر مؤسساً للفلسفة المادية.
    3 ـ هريقليطيس Herakleitos «ـ 480 ـ 540 ق. م» ، فيلسوف يوناني ولد في افسس؛ قال : إن العالم واحد ومتعدد وإن مادته الأولى هي النار.
    4 ـ الشهيد مرتضى مطهري ، آشنائي با علوم إسلام ، منطق وفلسفة ، ص 180.

    ومن الغريب أن بعض فلاسفة اليونان الأقدمين من أمثال «پارمنيدس» ، (1) و «زينون الايلي» (2) لم يكتفوا بإنكار الحركة الجوهرية للأشياء فحسب ، بل تعدوا في إنكارهم إلى ما هو ظاهر من الحركات حتى الانتقالية منها ، وذهبوا إلى أن حركة شخصٍ من نقطةٍ إلى نقطة أخرى ليست إلا سكونات متعددة لأشخاص متعددين!
    الحركة ولوازمها
    ومما تقدم يظهر أن الحركة عبارة عن التغيُّر التدريجي وخروج الشيء من القوة إلى الفعل؛ فالإنسان حينما يخرج من منزله إلى محل عمله ، والنبتة حينما تكون شجرة ، والشجرة حينما تعطي ثمرة ، والثمرة حينما يكون لها لون في ظهورها ثم تتغير إلى لون آخر ، ثم تستقر على لون وحالة أخيرة ، والماء حينما ترتفع درجة حرارته بالنار من الصفر إلى درجة مائة مئوية ، ففي كل ما تقدم تظهر تغيرات وتحولات وحركات ، ويلازم تلك التغيرات والحركات عناصر ستة ، إليك ذكرها مجملة :
    1 ـ المبدأ : وهو نقطة الانطلاق في الحركة ، وهو ـ في المثال الأول ـ المنزل الذي بدأ الشخص حركته منه ، متجها صوب مقصده وهدفه.
    __________________
    1 ـ پارمنيدس Parmenides «ـ 450 ـ 540 ق. م» ، فيلسوف يوناني له قصيدة «في الطبيعة» قال فيها بالتوحيد المطلق وعدم التغير وأزلية كل شيء.
    2 ـ زينون الايلي «Zenon Aelee» «أواخر القرن الخامس ق. م» ، فيلسوف يوناني تعلم على پارمنيديس ، صاحب البراهين على عدم وجود الحركة.

    2 ـ المنتهى : وهو المقصد الذي استهدف الشخص الوصول إليه ، وهو محل العمل في المثال.
    3 ـ المسافة : وهي المقولة التي جرى فيها التغيّر ، وهي الأين في مثال الشخص المتحرك من منزله إلى محل عمله ، والكيف في مثال تغير درجة حرارة الماء ولون الثمرة ، والكم في مثال النبتة ونموها إلى شجرة.
    4 ـ الموضوع : والمراد من الموضوع هنا الشيء المتحرك ، فبدن الشخص الذي خرج من منزله ، والنبتة والشجرة والثمرة والماء على الترتيب في الأمثلة المتقدمة ، فإنها جميعا متحركة أي إنها موضوع للحركة.
    5 ـ الفاعل (المُحَرِّك) : وهو واهب الحركة ومانحها للموضوع المتحرك ، فواهب الحركة للنبتة والشجرة والثمرة هو الله‏ ، كما أن واهب الحركة لبدن الشخص المتحرك هو الله‏ أيضاً ، وإن كانت علة حركته المباشرة هي الروح إلا أن مآل كل ما في الكون من فاعلين إليه جل وعلا ، لأنه علة العلل ومنتهى كل سبب : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (1)
    6 ـ الزمان : وهو الوقت الذي يستغرقه الموجود في تغيره وحركته. كما هو الحال بالنسبة إلى الوقت الذي يستغرقه الشخص في خروجه من منزله حتى وصوله إلى محل عمله ، وكما بالنسبة إلى النبتة فيما تمضيه من وقت حتى تكون شجرة ....
    __________________
    1 ـ الصافات : 96.

    حقيقة الزمان
    ومما تقدم يُعلم أن الزمان إنما يمكن فرضه في الموجودات المادية دون المجردة ، وذلك لأن الموجودات المادية في حركة دائمة في عوارضها وجواهرها بحكم القوى والاستعدادات المودعة فيها ، بينما لا توجد هذه القوى والاستعدادات في الموجودات المجردة حتى يترتب على أثرها تغيُّر من القوة إلى الفعل ومن ثم حركة ، وبالتالي زمان ، لأن الزمان كما عرَّفناه توّاً هو الوقت الذي يستغرفه الموجود في تغيُّره وحركته بفعل مسيره من القوة إلى الفعل.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ اذكر مجمل الآراء الوارد ذكرها في هذا الدرس فيما يتعلق بالحركة الجوهرية.
    2 ـ اشرح العبارة التالية :
    وقال هريقليطيس : «لا يمكن أن تضع رجليك مرتين في نهر واحد».
    3 ـ عرِّف الحركة وعدد لوازمها.
    4 ـ اشرح لوازم الحركة بصورة مجملة مستيعناً بمثال توضيحي.
    5 ـ ما هي حقيقة الزمان؟ وأين يمكن فرضه؟ ولماذا؟


    الدرس السادس عشر
    السبق واللحوق
    (التقدم والتأخر)
    * الحادث والقديم
    * فكِّر وأجب


    السبق واللحوق (التقدم والتأخر)
    السبق واللحوق نسبة قائمة بين شيئين بسبب اختلاف نسبتهما إلى شيء ثالث زيادة في أحدهما ونقيصة في الآخر ، فيسمى الأول متقدما أو سابقا ، ويسمى الثاني متأخراً أو لاحقاً ، وتسمى النسبة بالسبق واللحوق ، أو التقدم والتأخر ، كما في الاثنين والثلاثة قياساً إلى الواحد ، فإنّ الاثنين تسمى متقدما أو سابقا ، لأنّها متقدمة على الثلاثة بالقياس إلى الواحد ، وتسمى الثلاثة متأخراً أو لاحقا ، لأنها متأخرة عن الاثنين قياساً إلى الواحد.
    وأما لو تساوت نسبة شيئين إلى شيء ثالث فتسمى النسبة حينها بالمعية أو السوية ويسمّى كل من الشيئين بالمعان ، كما لو وقعت حادثتان في زمن واحدٍ. (1)
    وما يهمّنا من بحث السبق واللحوق اعتباره مقدمة لدراسة القديم والحادث باعتبار أن أحدهما سابق والآخر لاحق ، فهلمّ نلقي نظرة سريعة إليهما.
    __________________
    1 ـ وقد قسَّم الفلاسفة السبق واللحوق أقساما عثروا عليها بالاستقراء نذكرها مجملة ، ونوكل تفصيلها إلى دراسات متقدمة من بحوث الفلسفة :
    1 ـ السبق واللحوق الزماني. 2 ـ السبق واللحوق بالطبع. 3 ـ السبق واللحوق بالعلية. 4 ـ السبق واللحوق بالماهية. 5 ـ السبق واللحوق بالحقيقة. 6 ـ السبق واللحوق الدهري. 7 ـ السبق واللحوق بالرتبة. 9 ـ السبق واللحوق بالشرف.

    الحادث والقديم :
    الحادث لغة يعني الجديد ويقابله القديم ، وهما مفهومان نسبيان إضافيان ، بمعنى أن كلاً منهما يصدق على شيءٍ بالقياس إلى غيره ، فكتاب «الأسفار» للملاّ صدرا قديم قياساً إلى كتاب «المنظومة» للملاّ هادي السبزواري ، لأن الكتاب الأول قد كتب قبل أربعة قرون بينما كُتب الثاني قبل قرنين من الزمان ، فالأول قديم بالقياس إلى الثاني ، والثاني حادث بالقياس إلى الأول ، بينما يعتبر الكتاب الثاني ـ كتاب المنظومة ـ قديما بالقياس إلى كتابي «البداية» و «النهاية» للعلامة الطباطبائي (1) حيث تمّ تأليفهما بعد قرنين من تأريخ تأليف كتاب المنظومة.
    وهذا المعنى للقدم والحدوث متداول عند العُرف العام للناس. وأما في الاصطلاح الفلسفي فإنَّ الحادث يعني؛ المسبوق في وجوده بعدم سواء كان السبق سبقا زمانيا أو غيره كالإنسان مثلاً في ذاته وماهيته خلو من كل وجود ، شأنه شأن بقية الماهيات التي يفاض عليها الوجود بعد ذلك ، فهي في ذاتها مفتقرة إلى الوجود ، وعلى خلافه القديم ، أي إنه في وجوده غير مسبوق بعدم كوجود الله‏ جَلّ وَعلا.
    وقد وقع خلاف شديد بين الفلاسفة والمتكلّمين فيما يتعلق بتحديد الحادث
    __________________
    1 ـ العلامة الطباطبائي «1321 ـ 1402 ه ق» هو محمد بن حسين بن محمد المعروف بالعلامة الطباطبائي ، ولد في مدينة تبريز إحدى مدن إيران وفي أسرة عريقة بالعلم والثقافة ، وقد تمتع بذهنية وقادة ومنفتحة على أكثر العلوم فارتشف من معينها ونبغ فيها؛ فهو في مجال التفسير مفسر بارع ، وفي مجال الفلسفة فيلسوف إسلامي كبير ، كما إنه بلغ مرتبة الاجتهاد. ومن أشهر كتبه تفسيره الكبير «الميزان» وكتابا «البداية» و «النهاية». انتقل العلامة الطباطبائي إلى ربّه بعد أن عاش ثمانين سنة وثمانية عشر يوماً ووري جثمانه الطاهر في حرم السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليهما السلام في قم المقدّسة.

    من الموجودات ، بعد تسليم الجميع بقدم الله‏ سبحانه ، فذهب المتكلمون إلى أن كلَّ ما سوى الله‏ حادث ، تجنباً من محذور تعدد القدماء المنافي لأدلة توحيد الله‏ تعالى. بينما خالفهم الفلاسفة في ذلك وذهبوا إلى القول بأن مقتضى كونه تعالى علة للكون منذ الأزل هو قدمية الكون وأزليته أيضاً ، باعتبار أنه تعالى فيّاض على الإطلاق ، وقديم الإحسان والكون نفحة من نفحات فيضه وإحسانه. والتعدد في القدماء إنما يكون محذوراً إذا كان كل قديم غنيّا بذاته ـ واجب الوجود ـ والحال إنه لا ملازمة بين القول بتعدد القدماء وبين واجبية وجودهم وغناهم ، بل إن صفة الفقر والإمكان يجب أن تكون ملازمة لوجود القدماء على الرغم من قدمهم وأزليتهم ، باعتبارهم معلولين لعلّة وهي الله‏ تبارك اسمه ، وقد اتضح في بحث العلّية أن المعلول يمثل عين الارتباط بعلّته ، فلا وجود استقلالي له من دون علته المفيضة عليه بالوجود والتحقق ، وعلى هذا فلا معنى لاعتبار المعلول غنياً وواجباً حتى ولو كان قديماً وأزلياً في وجوده. فالشعاع المنبثق عن الشمس يبقى بحاجة إلى الشمس حتى لو فرضنا جدلاً قدم الشمس وبالتبع قدم الشعاع المنبثق عنها واقترانهما معاً.
    إن استيعاب الكلام فيما يرتبط بهذا الموضوع مفصّل وإنما أردنا أن نطل عليه إطلالة محدودة عبر لمحة فلسفية خاطفة.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ماذا يعني السبق واللحوق؟ عزز جوابك بمثال.
    2 ـ عرِّف كلاً من الحادث والقديم لغة ، مبيّناً تعريفك بمثال توضيحي.
    3 ـ ماذا يُقصد من الحادث والقديم اصطلاحاً؟ اذكر مثالاً لكل منهما.
    4 ـ ما هو الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة فيما يرتبط بالموجودات الحادثة؟ ثمّ بيِّن ما استدل كلٌ منهما على مدّعاه.

    الدرس السابع عشر
    المعقولات الأولى والثانية
    * المعقولات الأولى والثانية
    * المعقولات‏ الأولى أو المفاهيم ‏الماهوية
    * المعقولات الثانية ‏الفلسفية
    * المعقولات الثانية ‏المنطقية
    * فكِّر وأجب


    المعقولات الأولى والثانية
    ثمّ إن المفاهيم الكلية على أنحاءٍ ثلاثة :
    1. المعقولات الأولى أو المفاهيم الماهوية
    وهي : «المفاهيم الكلية التي عروضها واتصافها معاً في الخارج».
    توضيح ذلك :
    إنّ أحدنا حينما ينظر إلى الخارج ويرى كتباً ، فإن بمقدوره استنتاج مفهوم كلي عام ، وهو مفهوم الكتاب ، وهذا المفهوم صالح للانطباق على جميع مصاديق الكتاب الموجودة في الخارج ، وهذا يعني أنّ مفهوم الكتاب موجود بوجود أفراده الخارجية ، ومأخوذ منها؛ وبالنتيجة فإن هذا المفهوم الكلي يُعَدُّ وصفاً لمصاديقه الخارجية.
    فعروض ـ أي وجود ـ أمثال هذِهِ المفاهيم في الخارج ، واتصافها ـ أيّ إنها صفة لمصاديقها الخارجية ـ في الخارج أيضاً.
    2. المعقولات الثانية الفلسفية
    وهي : «المفاهيم الكلّية التي عروضها في الذهن واتصافها في الخارج».

    التوضيح :
    إنك حينما تصف شخصا ما بوصف الجهل مثلاً ، لا تجد في الواقع الخارجي إلا شيئاً واحداً وهو مصداق ذلك الشخص الموصوف ، وأمّا صفة الجهل فإنها وإن كانت وصفا لشيء خارجي ، إلا أنها أمرٌ عدميٌّ حيث إنها عدم العلم فيمن من شأنه أن يكون عالماً ، فليس لها ما بإزاء خارجي.
    3. المعقولات الثانية المنطقية
    وهي : «المفاهيم الكلّية التي عروضها واتصافها ذهنيان».
    التوضيح :
    إن من أمثلة هذِهِ المفاهيم مفهوم الكلي ، فإنه من المفاهيم التي يستحيل تحققها في الخارج ، إذ إنَّ كل ما هو موجود في الخارج متشخص جزئي ، والكلي ليس كذلك ، وهل يمكن أن يكون هذا الكلي وصفاً لأشياء خارجية ، كما كان ذلك للمفاهيم الأولى الماهوية والثانية الفلسفية؟ والجواب هو النفي ، لأن كل ما هو موجود في الخارج جزئي لا يصلح في انطباقه الأعلى نفسه فكيف يمكن وصفه بأنه كلي ، فنقول : الإنسان كلي ، والمقصود من الإنسان هنا الإنسان الذهني ، لا الإنسان الخارجي ، وإلاّ لما صَحَّ وصفه بأنه كليّ كما تقدم توّاً ، وبذلك يتّضح تعريف هذِهِ المفاهيم بأنّ عروضها (وجودها) واتصافها (وصفها للأشياء) كلاهما ذهني.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ عَرِّف ما يلي :
    أ ـ المعقولات الأولى أو المفاهيم الماهوية.
    ب ـ المعقولات الثانية الفلسفية.
    ج ـ المعقولات الثانية المنطقية.
    2 ـ مثّل لكل ما تقدّم من المعقولات الثلاثة آنفة الذكر مثالاً ، موضّحا تعريفه الخاصّ به.
    3 ـ ما هو الفرق بين المعقولات الكلية المتقدمة ، بعضها مع البعض الآخر.


    الدرس الثامن عشر
    العلم الحضوري والحصولي
    * العلم الحضوري والحصولي
    * التصور والتصديق
    * الكلي والجزئي
    * المشكك والمتواطئ
    * المشترك اللفظي والمعنوي
    * فكّر وأجب


    العلم الحضوري والحصولي
    قد يعلم الإنسان بشيء علماً مباشراً من دون توسط شيء بينه وبين المعلوم ، الذي يكون حاكياً له ، فلا يحتاج العالم من أجل علمه بالمعلوم إلى حاكي وكاشف يحكي ويكشف عنه لكي يتحقق العلم به. ويُسمى هذا العلم بالعلم الحضوري أو «المعرفة الحضورية» ؛ كما لو علم الإنسان بنفسه أو بالحالات التي تطرأ عليها من حزن وفرح أو جوع وعطش أو حب وبغض ... وسبب تسميتها هكذا هو أن الإنسان يَعلم بالشيء من دون توسط صورة ذهنية بينه وبين الشيء المعلوم ، فالمعلوم حاضر بذاته لدى العالم.
    وقد لا يتحقق علم الإنسان بذات الشيء مباشرة بل بصورته الذهنية الحاكية له ويسمّى هذا العلم بالعلم الحصولي ، من قبيل علمنا بالأشياء الخارجية ، فإنها غير معلومة لنا بذاتها ، وإنما عِلمنا بها عبر صورتها الذهنية. وأما ذات الصورة فإنها معلومة لنا بالعلم الحضوري. وذلك لأنك حينما ترى ناراً مشتعلة في الخارج ، فقد حصل لك العلم بها «علماً حصولياً» ؛ لأن ذات النار لم تحضر عندك في ذهنك حتى يتحقق علمك بها علماً حضورياً ، وإلا لاحترق ذهنك بها وإنما حصل لك العلم بها بتوسط صورتها الموجودة في الذهن ، فصارت الصورة واسطة بينك أنت العالم بالنار وبين النار الموجودة في الخارج ، وأما صورة النار الموجودة في الذهن فمعلومة لك بالعلم الحضوري ، لأنها حاضرة عندك ولا تحتاج إلى توسط شيء

    بينك وبينها كي يتحقق علمك بها.
    فيكون الشيء المعلوم بالعلم الحضوري معلوماً بالذات؛ لأنه معلوم لك بذاته ، بينما المعلوم لك بالعلم الحصولي يكون معلوماً بالعرض؛ لأن العلم لم يتعلق به مباشرة بل تعلق بصورته الموجودة في الذهن وهي بدورها كشفت عنه.
    ومما تجدر الإشارة إليه ، أنّ ما تقدّم من بحث العلم الحضوري والحصولي يختلف عما يذكره علماءُ الكلام من قسمي العلم اللدنّي والكسبي؛ إذ إن مقصودهم من العلم اللدنّي هو ذلك العلم الذي يتوصّل إليه الإنسان أحياناً من دون توسط معلم يعلِّمه بل إنه يُلْهَمُ به إلهاماً ، على خلاف العلم الكسبي الذي لا يحصل عليه الإنسان إلا بتعليم معلّم.
    التصور والتصديق
    ومن جهة أخرى قد يحصل عند الإنسان علم بشيء أو بحكم من الأحكام من دون إذعان بتحققه ، ويسمّى هذا العلم علماً تصورياً ، كما لو شاهد شخص ما تفاحة على الشجرة ، أو طَرَقَ سمعه حكم بأن زيداً عالمٌ ، من دون أن يذعن بوجود التفاحة خارجاً ولا بتحقق نسبة العلم إلى زيد. وعلى خلافه يكون التصديق؛ والفرق بين التصور والتصديق يظهر في أن التصور ليس إلا صورة يستحضرها الإنسان في ذهنه من دون أن يحكم عليها بنفي أو إثبات ، بينما التصديق فعل من أفعال النفس يتمثّل بإذعان النفس بوجود شيء أو نسبة أو عدمهما.
    وبهذا يتّضح زيف ما ذهب إليه بعض الفلاسفة الحسيين كـ «جون‏ستوارت ميل» (1) من إنه لا فرق بين التصور والتصديق إلا في أن التصور عبارة عن العلم
    __________________
    1 ـ «جون‏ستوارت ميل 1806 ـ 1873 م Mill John Stewart» فيلسوف واقتصادي إنجليزي ، من أتباع المدرسة الاختبارية له كتاب في المنطق الاستدلالي والاستنتاجي.

    بصورة واحدة ، بينما التصديق يعني العلم بصور مُتلاحقة ومتعاقبة! محاولة منه لحصر مصدر المعرفة بالجانب الحسي من الإنسان وإقصاء دور العقل أو الفطرة من الميدان.
    الكلّي والجزئي
    إن مفاهيمنا التصورية منها ما هو جزئي ومنها ما هو كليّ؛ ففي جملة «عليٌ إمامٌ» يُلاحظ مفهومان : أحدهما جزئي وهو ما تدل عليه كلمة «عليٌ» والآخر كُلّي ، وهو ما تدل عليه كلمة «إمامٌ» والفارق بينهما يظهر في أن المفهوم الكلي يصح انطباقه على كثيرين ، فإن كلمة إمام تنطبق على كل من تتوفر فيه شرائط الإمامة ، بينما كلمة «علي» لا تنطبق إلا على مسمّاها الخاص بها.
    المشكِّك والمتواطئ
    والمفاهيم الكلية منها ما هو مشكِّك ومنها ما هو متواطئ. والأول وهو المتفاوت ، من قبيل مفهوم النور؛ فإنه يختلف في درجة انطباقه على أفراده شدّةً وضعفاً ، فنور المصباح يختلف عن نور الشمس ، لأنّ الأول ضعيف نسبة إلى الثاني. وأما المفهوم المتواطئ فهو المتساوي النسبة إلى أفراده كمفهوم الإنسان الذي ينطبق وبصورة متساوية على مصاديقه فلا يختلف زيد عن عمر وخالد ..... في انطباق مفهوم الإنسانية عليهم جميعاً بلا تفاوت.

    المشترك اللفظي والمعنوي
    وسواء كان الكلي مشكّكا أو متواطئاً فإنه مشترك بين أفراده ويطلق على هذا الاشتراك اسم الاشتراك المعنوي ، وإلى جانبه يوجد اشتراك آخر يطلقُ عليه اسم الاشتراك اللفظي وهو من قبيل لفظة «جون» ، الصادقة على الأبيض والأسود على حدٍ سواء.
    والفرق بين الاشتراك المعنوي واللفظي يظهرُ في أن الأول يُعَرَّفُ بأنه المفهوم الكلي الذي يصلح للانطباق على أكثر من مصداق واحد ، بينما يُعَرَّفُ الثاني بأنه اللفظ الذي وضع لأكثر من معنى ، فيوضع اللفظ لكل معنى على حِدَة بأوضاع متعددة.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ اشرح مع المثال ، العلم الحضوري والحصولي ، وما هو المقصود من المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض.
    2 ـ هل إن ما يقصده الفلاسفة من العلم الحضوري والحصولي هو نفس ما يقصده المتكلمون من العلم اللدنّي والكسبي؟ ولماذا؟
    3 ـ اشرح مع المثال الفرق بين التصور والتصديق؟ ثم بيّن رأي «جون‏ستوارت ميل» في التصديق.
    4 ـ ما هو الفرق بين المفاهيم الجزئية والكلية؟ والمفاهيم الكلية المشككة والمتواطئة؟ والمشترك اللفظي والمعنوي؟ بيِّن جوابك لكل مورد بمثال توضيحي؟


    الدرس التاسع عشر
    الإدراك
    * الإدراك
    * خلط ولبس
    * تجرّد المُدْرِك والمُدْرَك
    * فكِّر وأجب


    الإدراك
    ونريد في هذا الدرس أن نطلّ على بحث الإدراك ، ليتبيّن لنا ما إذا كان الإدراك ظاهرة مادية توجد في المادة حين بلوغها مرحلة خاصة من التطور والكمال أو أنها تعبّر عن لون من الوجود ، مجرد عن المادة وظواهرها وقوانينها.
    خلط ولبس :
    لقد أكدت بعض المدارس المادية ومنها الماركسية على المفهوم المادي للفكر ، وهو ما يظهر من آرائهم وتصريحاتهم المأثورة عنهم :
    قال ماركس :
    «لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة ، فإنّ هذِهِ المادة هي جوهر كل التغيرات». (1)
    وقال انجلز : (2)
    «إن شعورنا وفكرنا ـ مهما ظهرا لنا متعاليين ـ ليسا سوى نتاج عضوي مادي
    __________________
    1 ـ المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، ص 19.
    2 ـ «فريدريك ‏انجلز 1820 ـ 1895 م Engels» اشتراكي وفيلسوف ألماني ، اشترك مع ماركس في وضع «البيان الشيوعي» عام 1848 م.

    جسدي ، هو الدماغ». (1)
    ومما يوهم صواب الماركسية في فهمها للإدراك ما توصل إليه العلم من مكتشفات على مستوى الفيزيولوجيا حيث «استكشفت عدة أحداث وعمليات تقع في أعضاء الحس ، وفي الجهاز العصبي بما فيه الدماغ ، وهي وإن كانت ذات طبيعة فيزيائية كميائية ولكنها تمتاز بكونها أحداثاً تجري في جسم حي فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحية. وقد استطاعت الفيزيولوجيا بكشوفها تلك أن تحدّد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الإدراك. فالمخ مثلاً ينقسم بموجبها إلى أربعة فصوص هي : الفص الجبهي والفص الجداري والفص الصدغي والفص المؤخري؛ ولكل فص وظائفه الفيزيولوجية ، فالمراكز الحركية تقع في الفص الجبهي ، والمراكز الحسية التي تتلقى الرسائل من الجسم تقع في الفص الجداري ، وكذلك حواس اللمس والضغط. أما مراكز الذوق والشم والسمع الخاصة ، فتقوم في الفص الصدغي في حين تقوم المراكز البصرية في الفص المؤخري إلى غير ذلك من التفاصيل». (2)
    وواضح من كلمات أصحاب الاتجاه المادي وأمثالهم الخلط بين الإدراك وبين ما يعتمد عليه من مقدمات ومعدات تمهِّد له ، فالتبس عليهم الأمر فظنّوا أن المقدمة هي بنفسها ذو المقدمة. في حين يرى الفلاسفة الإلهيون أن الروح مركز لكل ألوان الإدراك ، إلا أن كل ما يصدر عنها من نشاط ومنه الإدراك والإحساس لا يتحقق إلا عبر البدن وأجهزته الإدراكية كالباصرة واللامسة والذائقة والشامّة و
    __________________
    1 ـ «لودفيج فيور باخ» ، ص 57.
    2 ـ السيد محمد باقر الصدر ، فلسفتنا ، ص 375 ، دار الكتاب الإسلامي ، إيران ـ قم.

    السامعة ، فالروح تدرك عبرها المبصرات والملموسات والمذوقات والمشمومات والمسموعات كما وإن الروح تدرك عبر المخِ بعض المفاهيم والاستنتاجات الكلية التي لا تمت إلى الحس الخارجي بصلة ، ويكون المخ قناة لوصول الروح إليها. فالإدراك مركزه الروح ، وليس البدن بما فيه من أجهزة حسيّة وعصبية مخيّة ، إلا وسيلة للوصول إليه ، وهذا لا يعني بحال إلغاء دور ما سوى الروح في عملية الإدراك ، بل إنّ له دوراً مهماً وأساسياً في عملية الإدراك ، إذ بدونه لا يتحقق إدراك عند موجود مدرك ، إلا أن دوره لا يتعدى دور المقدمة لتحقق ذلك ، وهو أشبه ما يكون بجهاز الهاتف الناقل للصوت بين متخابرين اثنين ، فلولاه لم يسمع أحدهما صوت الآخر ، إلا أن الذي يسمع الصوت ليس جهاز الهاتف بل الطرفان اللذان يقفان خلف الهاتف.
    وكذلك الحال فيما نحن فيه ، إذ يمكن القول ، أن مركز الإدراك جهة أخرى غير البدن وهي ما يُعَبِّرُ عنها الفلاسفة الإلهيون بالروح ، وهي موجود مجرد عن المادة ولا يخضع لقوانينها وضوابطها.
    تجرد المُدْرِك والمُدْرَك :
    وقد أقام الفلاسفة أدلة كثيرة على أن الإدراك يجري في جهة غير بدننا المادي ، يطلق عليها اسم الروح ، وهي مجردة عن المادة نكتفي بذكر السهل اليسير منها :
    1 ـ يذهل أحدنا بعض الأحيان عن بدنه وآلامه التي يعاني منها ، حينما يشغل نفسه بقضية مهمّة بالنسبة إليه كزيارة صديق عزيز عليه ، وهكذا حينما يسرح الإنسان في تأمّله برؤية منظر طبيعي ، فإن سمعه لا يدرك أحياناً الأصوات المرتفعة إلى جنب أذنيه ....

    والسبب واضح وهو : أن الإنسان لا يتمثّل وجوده ببدنه المادي الترابي فقط ، بل يوجد إلى جانبه موجود آخر لا مادي وهو الروح التي تعتبر مركز إحساسنا والمحل الذي يتحقق فيه إدراكنا.
    2 ـ الأحلام المتمثلة بالأحداث التي يَراها النائم في منامه والتي تجد مصداقيتها في عالم اليقظة بتفاصيلها وأرقامها وجزئياتها ، لا يمكن أن تجد لها تفسيراً مادياً ما لم نفترض وجود شيءٍ لا مادي إلى جانب البدن المادي ، له قدرة على العلم بالمستقبل ، وليس هو سوى الروح ، لأنّ البدن لا يتسنى له الاطلاع إلا على الموارد التي تخضع لحواسه الخمس ، والموجودة في الخارج بالفعل لا تلك التي توجد في المستقبل.
    3 ـ إن ذهننا وخلايانا المخية المحدودة لا يمكنها استيعاب ما هو أكبر منها حجماً وأوسع منها مساحة ، كإدراكنا في رؤيتنا لمنظر تتجاوز مساحته عشرات الكيلومترات ، بلا نقيصة في مساحتهِ ، فلابد وأن يكون مركز إدراكنا هذا في محل آخر كي يصلح أن يكون ظرفاً لمظروفها المُدرَك ، وليس هو إلا روحنا التي بين جنبينا.
    وهكذا اتضح أن المدْرِك لحقائق الأشياء ، إنما هو الروح وهي غير البدن المادي ، فهي مجردة عنه وعن قوانين المادة.
    ومما تقدم يتضح كذلك أنّ الصور المدْرَكة مجرّدة عن المادة أيضاً ، بحكم كونها نتاجا للروح وإدراكها.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ ما هو مورد الخلاف بين الماديين والإلهيين فيما يرتبط بالإدراك؟
    2 ـ ما هو دور المخ والأجهزة الحسية في عملية الإدراك؟ مَثّل لجوابك بمثال توضيحي.
    3 ـ ما هو الخلط واللبس الذي وقع فيه الماديون فيما يتعلّق بالإدراك؟
    4 ـ اذكر ما اعتمدناه من براهين على تجرّد المُدْرِك والمُدْرَك.


    الدرس العشرون
    خالق الكون
    على ضوء ما سبق
    * خالق الكون على ضوء ما سبق
    * دليل الإمكان والوجوب
    * خُرافة أزلية المادة وغناها
    * وهمٌ وردٌّ
    * فكِّر وأجب


    خالق الكون
    على ضوء ما سبق
    بعد تطواف سريع حول أُمهات مسائل الإلهيات بالمعنى الأعم المتناولة لأحكام الموجود بما هو موجود ، آن الأوان أن نقطف ثمارها في البحث عن الإلهيات بالمعنى الأخص ، المتناولة لوجود الله‏ وصفاته جل وعلا ، وهي في مسائلها مفصلة نقتصر على النزر اليسير منها تَوَخّيا للاختصار بما يناسب نافذتنا الفلسفية الصغيرة التي بين يديك ، ونوكل تفاصيل البحث فيها إلى دراسات مقبلة إن شاء الله‏ تعالى.
    دليل الإمكان والوجوب
    إنّ الأدلة على وجود الخالق الحق أكثر من أن تُحصى ، فهي بعدد أنفاس الخلائق وذرات الرمل وأوراق الشجر ...
    وفي كلّ شيءٍ له آية
    تدل على أنه واحد

    ونحن نذكر واحداً منها من باب لا يُترك الميسور بالمعسور ، وهو دليل الإمكان والوجوب وإليك بيانه :
    لا شك في أن لكل ممكن علّة ولكل مخلوق خالق ولكل مصنوع صانع و

    لا يختلف في ذلك اثنان ، ويعود السبب إلى أن ما فرض أنه معلول أو مخلوق أو مصنوع يُضمِر في ذاته حاجته وافتقاره إلى علةٍ أو سببٍ أو صانعٍ يمنحه الغنى؛ فلو فرضنا أن عالم الكون في ذاته محتاج وفقير إلى الوجود ، فهو بلا شك معلول ومصنوع ومخلوق يحتاج إلى جهة تغنيه وتمنحه التحقق والوجود ، ولا مناص من إرجاعه إلى علته التي تمنحه ذلك؛ لأن العلاقة القائمة بين المعلول وبين علته تمثّل عين الربط والتعلّق بعلته ، أي إن المعلول في وجوده مفاض من علته ، وبانقطاعه عنها ينقطع الفيض والغنى. وهذِهِ العلة إما أن تكون غنية بذاتها وهي التي يُعبّر عنها في علم الكلام بواجبة الوجود ، وهي التي لا تحتاج في ذاتها إلى أي سبب وعلة ، لفرض أنها غنية مطلقاً؛ في ذاتها وصفاتها. وهذه العلة من شأنها التكفّل بعالم الكون فتمنحه التحقق والوجود. أو أن تكون علة الكون الموجدة له غير غنية بذاتها ممكنة ومحتاجة إلى غيرها ، فلابد حينها من فرض انتهاء هذِهِ العلّة وكل علة مثلها إلى علّة هي في ذاتها غنية وواجبة وإلا سوف نضطر إلى فرضِ علة لهذه العلة هي مثلها في الاحتياج والافتقار ، وهذه العلة إما أن تكون نفس المعلول ـ وهو عالم الكون في المثال ـ الذي كنّا في صدد البحث عن علته ، وهذا هو الدور الواضح في بطلانه ، لأنه مستلزم لتوقف الشيء على نفسِه ، أو تقدم ما هو متأخر وتأخر ما هو متقدم ، فالكون الذي فرض أنه معلول «متأخر» سوف يكون في نهاية المطاف متقدماً ، والعلة للكون التي كانت متقدمة بحكم كونها علة للكون سوف تكون متأخرة ، لأنها سوف تكون في المآل معلولة للكون. فكيف يوجد الشيء نفسه بنفسهِ بعد أن كان عدماً؟! وكيف يكون المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً؟!

    وإما أن نفرض لعلةِ الكون علةً أخرى غير المعلول الأول والعلة الأخرى يفرض لها علة بعدها وهكذا يجري فرض سلسلة علل ومعلولات متصاعدة وبلا توقف ، وهو المعبّر عنه بالتسلسل ، وهو كالدور باطل ويرجع السر في بطلانه إلى أن كل حلقة من هذِهِ السلسلة فقيرة ومحتاجة ، فكيف يمنح بعضها البعض الآخر وجوداً وتحققاً مع فرض أن الجميع مفتقر إلى الوجود والتحقق ، وهل يعقل أن يمنح الفقير في الوجود نفسه أو غيره غنى الوجود؟! فإذا أمكن للصفر أن يمنح نفسه أو غيره عدداً من الأعداد أمكن ذلك أيضاً ، وهو محال كما ترى ، لحكم العقل القطعي بأن فاقد الشيء لا يعطيه.
    خرافة أزلية المادة وغناها
    وقد تقول : لماذا لا نفترض المادة أزلية حتى لا نقع في دوّامة البحث عن خالقها وبارئها ، ومن ثم لا نقع في مشكلة الدور والتسلسل.
    وقد رَدَّ المتكلمون والعلماء على الوهم المزبور بردود شتّى؛ نكتفي منها بما اختاره «فرانك آلن» (1) أستاذ الطبيعة البيولوجية حيث أكّد :
    أن أجزاء العالم تتجه إلى حالة تساوي درجات الحرارة بعد أن تفقد الأجزاء الأكثر حرارة حرارتها لتكون متساوية مع غيرها في درجة واحدة ، وقد استند في ذلك إلى الأصل الثاني من أصول الثرموديناميك ، والذي يعُبّر عنه باصطلاح «انتروبي» أو «الاستنزاف والبلى» فالمادة لو كانت أزلية لتساوت درجة الحرارة
    __________________
    1 ـ فرانك آلن : ماجستير ودكتوراه من جامعة كررلل ، أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا من سنة 1904 ـ 1944 ، أخصائي في إبصار الألوان والبصريات الفيسولوجية وإنتاج الهواء السائل وحائز على وسام ترري الذهبي للجمعية الملكية بكندا.

    الموجودة فيها منذ زمن سحيق ، وحيث أنها لم تكن كذلك بل تنتظر يوماً موعوداً ، فالمادة إذاً حادثة وليست قديمة. (1)
    إلاّ أنّ الأولى أن يُقال ، وكما ألمحنا فيما تقدم : (2)
    إن أزلية وقدم موجود ما لا تمنع من حاجته إلى علة توجده وتمنحه الغنى ، لأن السرَ في رجوع المعلول إلى علته إمكانه واحتياجه ، فإذا ثبت لموجود من الموجودات أنه ممكن ـ محتاج ـ ، فلا شك حينئذٍ في لزوم رجوعه إلى علة تمنحه الغنى والتحقق.
    وقد أثبت الفلاسفة من خلال بحوثهم أن المادة العلمية (3) لا يصح أن تكون منشأً لنفسها ولا حتى للظواهر المرتبطة بها لائتلافها من مادة وصورة ، ولا يمكن لكلٍ من المادة والصورة أن توجد مستقلة عن الأخرى ، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب ، تلك التي تحقق للموجودات المادية وجودها ، وذلك لأن المركب الجامع للمادة والصورة محتاج إليهما وكل جزء محتاج إلى الآخر ، (4) فلا يوجد من بينهم ما هو غني بذاته ووجوده ، فيبقى الافتقار حاكماً وقاضياً بوجود علة غنية تُعدُّ محطة تنتهي إليها قافلة الموجودات الإمكانية لتضخها بالوجود والتحقق. «ومثال ذلك : أن العلوم الطبيعية تبرهن على إمكان تحويل
    __________________
    1 ـ المؤلف ، أصول الدين بين السائل والمجيب. ص 28 ـ 29 ، ط أولى.
    2 ـ الدرس السادس عشر.
    3 ـ المقصود من المادة العلمية كل ما يخضع للحس والتجربة ، كما يوجد اصطلاح آخر للمادة ، وهو اصطلاح فلسفي ، والذي يعبّر عنه بالهيولا أو المادة الأولى. وقد تقدم الكلام عن الاصطلاح الفلسفي في الدرس السابع. فراجع.
    4 ـ وبهذا البيان يتضح أن الله‏ تعالى يستحيل أن يكون مركبا؛ للزوم احتياجه إلى أجزائه واحتياج كل جزءٍ إلى الجزء الآخر ، ومن هنا فإنه تعالى مجردٌ لا مادي.

    العناصر بعضها إلى بعض ، وهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادة لبحثها وتطبق عليها القانون العقلي القائل بأنَّ الوصف الذاتي لا يتخلف عن الشيء ، فنستنتج أن صورة العنصر البسيط كالصورة الذهبية ليست ذاتية لمادة الذهب ، وإلا لما زالت عنها وإنما هي صفة عارضة ، ثم تمضي الفلسفة أكثر من ذلك فتطبق القانون القائل إن لكل صفة عرضية علة خارجية ، فتصل إلى هذه النتيجة أن المادة لكي تكون ذهبا أو نحاساً أو شيئاً آخر ، بحاجة إلى سبب خارجي» ، (1) وذلك السبب هو الأول الذي لا أول قبله ، والآخر الذي لا آخر بعده ، وهو الذي أيَّن الأين إذ لا أين ، وكيّف الكيف إذ لا كيف ، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم‏ يلد ولم ‏يولد ولم ‏يكن له كفواً أحد. ولا غرابة في ذلك ما دام الله‏ غنياً بذاته ، مستغنياً عما سواه ، بل إن كلَّ ما سواه محتاج إليه. ومن كان هذا شأنه وهذِهِ منزلته فإن من العبث السؤال عن موجده وخالقه ، وهو قريب من قول القائل : إن الملح مع كونه ملحاً يحتاج إلى ملح كي يكون مالحاً ، وإن السكر مع كونه سكراً يحتاج إلى سكر حتى يكون حلواً!!
    وهمٌ وردٌ
    وقد تقول : ألا يعني هذا إلا الدور الواضح في بطلانه؛ لأن استغناء الله‏ عن علة توجده موجب للقول بأن الله‏ توقف في وجوده على نفسه ، أي أن الله‏ تعالى هو الذي أوجد نفسه بنفسه!
    «والجواب على ما قيل هو : إن هذا المعنى يصدق فيما لو كان الله‏ فقيراً في وجوده ، أو أن له بداية بدأ بها ، ولكنّا قلنا وأثبتنا بأنه تعالى غني بالذات ، بمعنى إنه لم يكن في زمن من الأزمان بمفتقرٍ إلى الوجود أو معدوماً حتى يحتاج إلى من
    __________________
    1 ـ فلسفتنا ، ص 92 ، محمد باقر الصدر ، المجمع العلمي والثقافي للشهيد الصدر.

    يغنيه أو يخرجه من العدم إلى حَيّز الوجود ، وعلى هذا وكما تقدم فإن الله‏ لا يصدق عليه أنه مخلوق ومعلول ومصنوع حتى نسأل عن خالقه وعلته وصانعه ، أو أن نقول بأنه خلق نفسه بنفسه». (1)
    ومن الغريب جنوح البعض إلى أزلية المادة وغناها وإرجاعه كل ما تحتضنه من أنماط الوجود وصوره البديعة إلى المادة الأولى مع إنها خرساء طرشاء وفاقدة لكل معلم من معالم الفكر والإدراك ، متغافلاً عن دور قوة عظيمة وحكيمة وعقل مدبر وكبير وهو الله‏ جل اسمه ، فلماذا يسمح هؤلاء لأنفسهم إعطاء صفة الأزلية والغنى الذاتي للمادة الأولى ، ولا يسمحوا للموحدين وصف ‏الله‏ بذلك ، بل إن البعض منهم يظهر اشمئزازه وسخطه من ذلك ، مع أن ذات الله‏ القدسية أولى بتلك الأوصاف مما سواها. وعلى أكبر الظن إن من أهمّ الأسباب التي دعت هؤلاء إلى ذلك ، رغبتهم بالتحلل وعدم الالتزام؛ ولا شك أن الإيمان بوجود الله‏ يعني الإيمان بأحكامه ووعده ووعيده ، فمن أجل أن يريح وجدانه من التفكير في يوم موعود ، يعاقب فيه المسيئون أشدَّ العقاب ويجازى فيه المحسنون بأحسن الثواب ، يجحدُ وجود الله‏ ووعده ووعيده.
    (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (2)
    ويحاول إنكاره بأدلة واهية إراحة لوجدانه ، وتبريراً لفجوره وفسوقه.
    (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (3).
    __________________
    1 ـ أصول الدين بين السائل والمجيب ، ص 27 ـ 28 ، ط أولى ، المؤسسة الإسلامية العامة للتبليغ ، المؤلف.
    2 ـ سورة النمل ، الآية 14.
    3 ـ سورة القيامة ، الآية 3 ـ 5.

    فكِّر وأجب :
    1 ـ وضّح دليل الإمكان والوجوب على وجود الله‏ الخالق الحق ، على ضوء ما تقدم من دروس.
    2 ـ اذكر الدليل الذي اختاره (فرانك آلن) للردِّ على القول بأزلية وغنى المادة. ثم اذكر مختار الفلاسفة للرد على دعوى غنى المادة عن العلة.
    3 ـ كيف استدل الفلاسفة على وجود سبب خارج عن حدود الموجود المادي من خلال اكتشاف العلم لتحول العناصر بعضها إلى البعض الآخر؟ بيِّن جوابك بمثال توضيحي.
    4 ـ ناقش العبارة التالية :
    «إذا كان الله‏ مستغنيا عن غيره في وجوده ، فهذا يعني أنه توقف في وجوده على نفسه ، وهو معنى الدور ، كما تقدم تعريفه».
    5 ـ لماذا يظهر المادي اشمئزازه وسخطه على من ينسب الأزلية والغنى إلى الله‏ ، بينما يرضى لنفسه نسبتها إلى المادة؟

    مصادر البحث
    1 ـ آشنائى با علوم اسلامى ـ منطق وفلسفة ـ بالفارسية مرتضى مطهري
    2 ـ أصول الدين بين السائل والمجيب صادق الساعدي
    3 ـ الإِلهيات جعفر سبحاني
    4 ـ الله‏ يتجلى في عصر العلم جون كلوفر مونسما
    5 ـ الأيدولوجية المقارنة محمد تقي مصباح اليزدي
    6 ـ بداية الحكمة محمد حسين الطباطبائي
    7 ـ تاريخ الفلسفة اليونانية يوسف كرم
    8 ـ تذكرة الأعيان جعفر سبحاني
    9 ـ درآمدى بر آموزش فلسفة «أستاذ محمد تقي مصباح» ـ بالفارسية ـ محسن غرويان
    10 ـ شرح مصطلحات فلسفي «بالفارسية» علي شيرواني
    11 ـ فلسفتنا محمد باقر الصدر
    12 ـ معالم الفلسفة الإسلامية محمد جواد مغنيه
    13 ـ المنجد في الأعلام لويس معلوف
    14 ـ المنطق محمد رضا المظفر
    15 ـ المنهج الجديد في تعليم الفسلفة محمد تقي مصباح اليزدي
    16 ـ الموسوعة الفلسفية عبد الرحمن بدوي


    الفهرس
    كلمة المكتب 5
    المقدمة 9
    الدرس الأول 11
    نبذة تاريخية فلسفية 11
    ولادة الفكر البشري 13
    ولادة الفكر الفلسفي 13
    تيارات الشك والسفسطة 14
    القرون الوسطى 15
    الفجر الجديد 16
    المدرسة المشائية والإشراقية والحكمة المتعالية 17
    فكِّر وأجب 19
    الدرس الثاني 21
    الفلسفة 21
    تعريف الفلسفة 23
    موضوع الفلسفة 25

    أهمية وفائدة الفلسفة 26
    أساليب التحقيق العلمي 28
    فكِّر وأجب 31
    الدرس الثالث 33
    الوجود والماهية 33
    بداهة مفهوم الوجود 35
    معنى الماهية 35
    أصالة الوجود واعتبارية الماهية 36
    تشكك الوجود وتعدد الماهية 39
    فكِّر وأجب 40
    الدرس الرابع 41
    تقسيمات الوجود (1) 41
    الوجود الذهني والخارجي 43
    فكِّر وأجب 48
    الدرس الخامس 49
    تقسيمات الوجود (2) 49
    المادّي والمجرّد 51
    المدارس المادّية والوجود المجرّد 51
    الفرق بين المادي والمجرّد 53
    فكِّر وأجب 54

    الدرس السادس 55
    الواجب والممكن والممتنع 57
    الواجب والممتنع؛ بالذات وبالغير 58
    الإمكان وأقسامه 58
    فكِّر وأجب 62
    الدرس السابع 63
    الجوهر والعرض 65
    الجوهر وأقسامه 66
    1 ـ الجوهر العقلاني 66
    2 ـ الجوهر النفساني 66
    3 ـ الجوهر الجسماني 67
    4 ـ الجوهر المادي أو الهيولى 67
    5 ـ الجوهر الصوري 68
    فكِّر وأجب 69
    الدرس الثامن 71
    الجوهر والعرض (2) 71
    الأعراض 73
    فكِّر وأجب 77
    الدرس التاسع 79
    العليّة 79
    (العلة والمعلول) (1) 79
    مفاد أصل العليَّة 81
    العلاقة بين العلة والمعلول 82

    نظرية الوجود 82
    ـ نظرية الإمكان الوجودي 83
    فكِّر وأجب 85
    الدرس العاشر 87
    العليّة (العلة والمعلول) (2) 87
    التعاصر بين العلة والمعلول 89
    العادة والقصد الضروري والجزاف والصدفة 90
    فكِّر وأجب 93
    الدرس الحادي عشر 95
    العليّة (العلّة والمعلول) (3) 95
    التناسب بين العلة والمعلول (السنخية) 97
    قاعدة الواحد 98
    فكِّر وأجب 99
    الدرس الثاني عشر 101
    العليّة (العلة والمعلول) (4) 101
    أقسام العلّة 103
    1 ـ العلّة الفاعلية والمادية والصورية والغائية 103
    2 ـ العلة التامة والناقصة 103
    3 ـ العلّة المباشرة وغير المباشرة 104
    4 ـ العلة المنحصرة وغير المنحصرة 104
    5 ـ العلة الداخلية والخارجية 104
    6 ـ العلة البسيطة والمركبة 105

    7 ـ العلة الحقيقية والمعِدّة 105
    فكِّر وأجب 106
    الدرس الثالث عشر 107
    الدور والتسلسل 107
    الدَوْر 109
    التسلسل 110
    فكِّر وأجب 112
    الدرس الرابع عشر 113
    الثابت والمتغيِّر (1) 115
    التغيُّر والحركة 115
    القوة والفعل 116
    الحركة العرضية 117
    الحركة الجوهرية 117
    فكِّر وأجب 118
    الدرس الخامس عشر 119
    آراء وأفكار 121
    الحركة ولوازمها 122
    حقيقة الزمان 124
    فكِّر وأجب 125
    الدرس السادس عشر 127

    السبق واللحوق 127
    (التقدم والتأخر) 127
    السبق واللحوق (التقدم والتأخر) 129
    الحادث والقديم 130
    فكِّر وأجب 132
    المعقولات الأولى والثانية 135
    1. المعقولات الأولى أو المفاهيم الماهوية 135
    2. المعقولات الثانية الفلسفية 135
    3. المعقولات الثانية المنطقية 136
    فكِّر وأجب 137
    الدرس الثامن عشر 139
    العلم الحضوري والحصولي 141
    التصور والتصديق 142
    الكلّي والجزئي 143
    المشكِّك والمتواطئ 143
    المشترك اللفظي والمعنوي 144
    فكِّر وأجب 145
    الدرس التاسع عشر 147
    الإدراك 149
    خلط ولبس 149
    الصوت ليس جهاز الهاتف بل الطرفان اللذان يقفان خلف الهاتف. 151
    فكِّر وأجب 153

    الدرس العشرون 155
    خالق الكون 157
    على ضوء ما سبق 157
    دليل الإمكان والوجوب 157
    وهمٌ وردٌ 161
    فكِّر وأجب 163
    مصادر البحث 164

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: كتاب محك النظر   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 8:58 am

    التقديم
    لا غرابة في أن يتميّز الإمام الغزالي ويلقّب بحجة الإسلام وفيصله. ولا سيما إذا ألقى الباحث نظرة فاحصة على بيئته وظروفه ، حيث سيعثر على جملة من الاضطراب الثقافي والاجتماعي ، بل ويمكن القول المعرفي ، إذ تقاطعت عنده وبه مجموعة التيارات المعرفية والفكرية التي سادت ساحة المشرق معبّرة عن ذاك الاختلاط المعرفي والثقافي الموروث والحادث معا.
    وإن السابر لكتب أبي حامد يعثر على شيء من التعارض والتباين بين قريب للفلسفة بأسها اليوناني وبين عالم في التوحيد ، بين ممجّد معظّم للفكر العقلي المنظّم وبين آخذ بضرورة الحدس الوجداني والإلهام الصوفي النوراني. ولعلّ هذا السابر يلقي نظرة على السطح ويقرأ قراءة أولية ، إذ القراءات المتتالية تكشف الغطاء عن ذاك التقاطع المعرفي الذي التقى عند الغزالي ، بينما هو في عمق كتاباته متبن للفكر العقلي الملتزم بحدود الإيمان فرضية ومسلمة أولى للانطلاق ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، كان الغزالي فيلسوفا آخذا بالمنحى العقلي في إطار المتناهي وبالاتجاه الحدسي الإلهامي في إطار اللامتناهي إذ العقل يعجز في ذاك الأفق عن التحديد واليقين والنظم الصارم.
    إن ميزة الإمام الحجة هنا ذاك السفر الذي بين أيدينا وفيه نعرج من المعاني اليونانية إلى المعاني الإسلامية ليس بتحوير إنما بغرس وتطبيع

    وانسكاب بقوالب العربية قلّ نظيره عند مماثليه.
    فلا عجب إن كان محك النظر نقطة تحوّل أعقبت معيار العلم فرسخت هذا الهضم الكامل للمنطق وحوّلته إلى معاني إسلامية ولسن عربي كامل.
    وقد جمعنا التقديم على ما يلي :
    ـ البيئة الثقافية والفكرية.
    ـ البيئة الاجتماعية والاقتصادية.
    ـ الظروف السياسية العامة.
    ـ حياة الغزالي وشخصيته.
    ـ طبيعة الكتاب وموضوعاته.

    البيئة الثقافية والفكرية
    تعتبر فترة القرن السادس الهجري من فترات التوتر والاضطراب الفكريين اللذين ترافقا مع الصراع السياسي والعقائدي والمذهبي السائد في المجتمع الإسلامي على امتداد إماراته والولايات.
    فلا عجب أن تطغى العلوم الدينية بحجاجها وأئمة مذاهبها وآرائهم على العلوم الأخرى ومنها الفلسفة والعلوم العقلية. لكن ذلك لم يحل دون ظهور حكماء وأطباء من الدرجة الثانية ، ولم يمنع التوجه العقلي عامة من متابعة سيره.
    ولقد تبنّى السلاجقة المذهب السني في العقائد وكرّس نظام الملك التيار الشافعي الذي ساد على التيارين الحنفي والحنبلي نسبيا. أما المذهب الشيعي فكان مذهب الدولة الفاطمية إلى جانب جماعات عدة انتشرت في العراق وممالك السلاجقة في كرمان وأصفهان وخراسان وسجستان وأذربيجان ، ولا سيما المجموعة الإسماعيلية.
    وقد دفعت تنظيمات الإسماعيلية وآرائهم علماء أهل السنة للتشدّد في موقفهم ، ولا سيما من قطن منهم خراسان ، فنادوا بتكفير هذه الفرق بأدلة من الأحاديث الشريفة.
    ولقد كثر فقهاء السنة في تلك الفترة وراجت شروحهم وتفسيراتهم

    ووقفت الأوقاف على طلبة العلوم الدينية. وقيل إن هناك ما يقارب ستة آلاف فقيه من كبار أئمة آل مازة عاشوا في بخارى في كنف برهان الدين.
    محمد المعروف بصدر جهان وجلّهم من الحنفية (1).
    ومثل الفقهاء مثل المتصوفة الذين كثروا وانتشروا وأثّروا في أدب الدولة السلجوقية حيث جعلوه مملوءا بالمعاني المجازية والاستعارات والكنايات الإشراقية. ويمتاز العصر السلجوقي في أنه غني بالنثر الفني الذي تجاوز فيه الكتّاب بالفارسية والعربية الأسلوب العتيق البالي وكتبوا روائع أدبية وفكرية وعرفانية. كما أن من ظواهر هذا العهد كثرة شعراء الصوفية إلى جانب نظمهم النثري. وفيه إذا تكرّس التأليف العرفاني الكشفي وانتشر حتى طغى على التأليف البرهاني العقلي. ولا عجب أن نجد الغزالي (المتوفي 505 ه‍) تجمع عنده طرق البرهان والعرفان والبيان في تقاطع عجيب وأسلوب متين. ومن أشهر كتب هذا العهد المشيّد للعرفان فلسفة صوفية وجامعا لعلوم المتفرّقة.
    * كشف المحجوب لأبي الحسن الغزنوي ـ جلابي الهجويري (2).
    * أسرار التوحيد في مقامات أبي الخير ألّفه حفيد الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير ، وفيه جمع أقوال جده وشرح كراماته ووصف تدرج أحواله.
    * تذكرة الأولياء لأبي بكر العطار ، وفيها تاريخ عريض لأولياء الصوفية (3).
    وإذا كنا أشرنا إلى اشتداد أوار الصراع المذهبي فإن هذا الصراع قد أغنى المكتبة الدينية العقائدية بحجاج طابعه مذهبي بين التيارات والمذاهب ونهجه اعتماد الجدل والحجج البيانية والبرهانية ، أمثال ذلك ممّا ظهر آنذاك :
    __________________
    (1) ذبيح اللّه صفا ، تاريخ أدبيات در ايران ، تهران ، 1339 ه‍ ، ج 2 ، ص 159.
    (2) تاريخ أدبيات إيران ، ص 246.
    (3) المرجع ذاته ، ص 247.

    * بعض فضائح الروافض ألّفه شهاب الدين التواريخي الشافعي (1).
    * النقض أو بعض مثالب النواصب ألّفه نصير الدين أبو الرشيد القزويني الرازي ، وفيه رد على السنة من وجهة نظر شيعية.
    * كشف الأسرار وعدة الأبرار لأبي الفضل رشيد الدين الميبدي وقد أشار إليه السيوطي (2). وما تجدر ملاحظته في تلك الفترة انتشار إنشاء المدارس وهي مزية من مزايا التمدن الإسلامي ، وقد ساعدت هذه المدارس والنظاميات على انتشار اللغة العربية ورواجها. إلا أن هذه المدارس ، فيما بعد ، حجبت طلابها عن تناول الفلسفة والهندسة وعلم النجوم فاتجهوا إلى الانكباب على العلوم الدينية المتصلة بالأدب واللغة العربية. لكن هذه المدارس اختصّ كل منها بطابع فرقة ما أو مذهب معين ، فكان للشيعة مدارسها مثلما كان للسنّة.
    أما المدارس النظامية وهي أشبه بالجامعات فعمّت المدن كما أشرنا إذ وجدت في بغداد ونيشابور والبصرة وأصفهان وبلخ ويزد والموصل وغيرها ... وعمد نظام الملك إلى خصّها بالشافعية مذهبا. وكانت تدار بإشراف الخلفاء والسلاطين والأمراء والحكام ، أما المدارس فمن الأوقاف. وكان لكل منها مدرسون ونظار ومتول ومتخصص كفؤ (3).
    فلا عجب إن كثرت المؤلفات وظهر الأعلام في العلوم الشرعية والأدبية والحكمية وشاهدنا على ذلك هذا الرهط اليسير ممّن سنذكره دلالة
    __________________
    (1) المرجع ذاته ، ج 2 ، ص 984.
    (2) السيوطي ، طبقات المفسرين ، ليدن ، 1839.
    (3) ابن القفطي ، حوادث الجامعة (626 ه‍). ورحلة ابن بطوطة ، مصر ، ص 141 ـ 142. وإلى جانب ذلك هناك : ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، مصر بولاق ، ج 1 ، ص 336. طبقات الشافعية ، ط مصر ، ج 3 ، ص 137. رحلة ابن جبير ، ط مصر ، ص 207. الطرطوشي ، سراج الملوك ، مصر ، المطبعة الخيرية ، 1306 ه‍ ، ص 128.

    على علو همة هذا العصر الثقافية وكثرة مؤلفاته وعطاءاته ، من ذلك.
    ـ الإمام أبو محمد الشاطبي (المتوفى 590 ه‍) العالم في القراءات ـ من أصل أندلسي ـ.
    ـ أبو الحسن علي بن محمد الكياهراسي الطبري (المتوفى 504 ه‍) العالم في التفسير.
    ـ أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (المتوفى 548 ه‍) العالم في التفسير.
    ـ الإمام أبو عبد اللّه فخر الدين الرازي (المتوفى 606 ه‍) العالم في التفسير.
    ـ الإمام أبو القاسم محمد الزمخشري الخوارزمي (المتوفى 538 ه‍) العالم في التفسير.
    ـ ابن الأثير أبو السعادات المبارك (المتوفى 606 ه‍) العالم بالحديث.
    ـ البغوي (المتوفى 516 ه‍) العالم بالحديث والفقه والتفسير.
    ـ ابن الصلاح تقي الدين عثمان الشهرزوري (المتوفى 643 ه‍) العالم بالحديث والتفسير.
    ـ ابن الحاجب المالكي ، جمال الدين أبو عمر عثمان (المتوفى 646 ه‍) العالم في الفقه والجدل والأصول.
    ـ أبو الحسن المرغيناني (المتوفى 593 ه‍) صاحب الفقه والعبادات.
    ـ حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي (المتوفى 505 ه‍) صاحب إحياء علوم الدين والمصنفات الكلامية والردود على الباطنية ، والمتميّز بالردود على بعض مسائل الفلاسفة وبإشادة المنطق على طابع عربي وإسلامي ، وهو صاحبنا في هذا السفر.
    ـ أبو الفرج بن الجوزي (المتوفى 597 ه‍) اشتهر في الكلام والحديث.
    ـ فخر الدين الرازي (المتوفى 606 ه‍) اشتهر أيضا في الكلام والفلسفة والمنطق والطب.

    ـ أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري (المتوفى 518 ه‍) من أشهر أصحاب اللسانين ولغوي إيراني كبير.
    ـ أبو عبد اللّه حسين الزوزني (المتوفى 486 ه‍) من مشاهير اللغة والنحو العربيين.
    ـ نجم الدين أبو حفص عمر النسفي (المتوفى 538 ه‍) صاحب التآليف الجمّة حتى بالغوا فقالوا الألف ، وشهرته في لغات الفقه وفقه اللغة.
    ـ عبد القاهر الجرجاني (المتوفى 474 ه‍) (1) من كبار المؤلفين في المعاني والبيان والبلاغة والإعجاز.
    ـ العلاّمة سراج الدين أبو يعقوب يوسف السكاكي الخوارزمي (المتوفى 626 ه‍). بحر العلوم في البلاغة.
    وقبل أن نكمل إيراد بقية بعض نماذج هذا الرهط من المؤلفين نشير إلى اضمحلال المؤلفات الحكمية أي تلك التي اعتنت بالاتجاهات العقلية الفلسفية ، ومرد ذلك سياسة السلاجقة ووزرائهم عامة ، وتصرف الخليفة العباسي المتوكل ، وخلافته (232 ـ 247 ه‍) خاصة قبل ذلك بمدة خلت (2).
    وفي عودة إلى المبرّزين في الحكمة نذكر :
    ـ أبو العباس فضل بن محمد اللوكري المروزي ، وقد تتلمذ على يديه عدد من علماء وفلاسفة خراسان في القرن السادس الهجري ، ولا سيما أنه يعتبر تلميذ بهمنيار تلميذ ابن سينا. وربما كان لذلك أثر في الساوي.
    ـ أوحد الزمان أبو البركات هبة اللّه بن علي بن ملكا البغدادي (المتوفى 547 ه‍) صاحب المعتبر في الفلسفة.
    __________________
    (1) ورد تاريخ الوفاة في تاريخ أدبيات در ايران أما رضا زاده شفق فيذكر في تاريخ أدبيات إيران أن الوفاة كانت 502 ه‍.
    (2) أمين ، أحمد ، ظهر الإسلام ، ص 43.

    ـ شهاب الدين أبو الفتوح يحيى بن حبش السهروردي (المقتول 587 ه‍) صاحب الفلسفة الإشراقية.
    ـ أبو الحسن علي بن زيد البيهقي المشهور بابن فندق (المتوفى 565 ه‍) المؤرخ للحكماء ولتاريخ بعض مدن السلاجقة والعالم في النجوم.
    هذا غيض من فيض أوردناه دلالة على تلك السعة في الأعلام والعلماء وكثرة التآليف ويبقى السؤال المحيّر لدارسي الحضارات كيف اتفق وقوع ذلك وظهور هذه الكثرة من العلماء مع التخبط السياسي الحاد في السلطنة وضعف الخلافة واشتداد الصراع المذهبي؟
    ولعلّ الإجابة عن هذا السؤال ترجع إلى علماء الحضارات ومفلسفي التاريخ إلا أنها ظاهرة ملفتة نعمت خلالها اللغة العربية والبيئة الثقافية بزاد وفير في علوم الشريعة وجمع كبير وتقعيد للغة وحجاج في العقائد وشروح كبرى موسّعة وميسّرة في الحكميات والفلسفة.

    البيئة الاجتماعية والاقتصادية
    اتسم العصر السلجوقي بسمة اجتماعية بارزة هي عدم الاستقرار وثبات الحال. ولعلّ النزاعات بين أصحاب المناصب القيادية في الدولة السلجوقية زادت الأمر تعقيدا فتدخّل غلمان السلاطين بمثل ما تدخلت النساء في شئون الدولة. وقد انعكس ذلك الأمر على العامة في سعيهم وإنتاجهم ومعيشتهم بمثل ما انعكس على الخاصة من أدباء وشعراء ومفكرين.
    لهذا وجد التصوف مرتعا خصبا بين الساخطين على تلك الحياة ، إذ كان سبيلا للاعتكاف والاعتزال ، وقد أثّر ذلك في المريدين والأتباع ، فنشأت جماعات كثيرة من الاتكاليين.
    كما نشأت عصبيات بين الأقوام : الترك والفرس وبينهما وبين العرب ، كما ظهر التجاذب بين العنصرين الأصفر والأبيض (1).
    اعتمدت الإقطاعية في نظام التملك في العهد السلجوقي علما أن الإقطاعات كلها التي تشكل المملكة هي ملك للسلطان يمتلكها ويقطع أراضيها لأقاربه وأنصاره وجنوده وعبيده. ولم يكن هذا ليتعارض مع ملكية الأرض الفردية لأنه كان يتعلق بخراج الأرض وليس الأرض.
    __________________
    (1) الراوندي ، راحة الصدور وآية السرور ، ترجمه إلى العربية الدكتور الشواربي والدكتور الصياد ، القاهرة ، 1379 ه‍ ، ص 140.

    وقد قلّ السكان في المدن لأن الأهالي عمدوا إلى الفرار نتيجة جور عمال السلاجقة وعسفهم وشدتهم ، إضافة إلى تفشي المجاعات وبعض الأمراض (1). وقد ساعد نقص عدد السكان هذا في الضرر الاقتصادي لنقصان اليد العاملة. وبالرغم من كل ذلك سيطر الفقهاء والمشرعون على عقول الشعب ، وساد الإيمان والاعتقاد الإسلاميين بعدم التفريق بين الناس ، ممّا أضعف الطبقية والتراتبية الإيرانية القديمة ، إذ التفاخر بالأنساب مكروه في الإسلام. إلا أن ذلك لم يمنع المجتمع السلجوقي المدني من التشكّل من فئات اجتماعية مثل : الفقهاء ، والجنود ، والصوفية ، والرقيق ، وأبناء القبائل الداخلة في التحضر وسواهم.
    لا بد من الإشارة إلى أن عناية السلاطين بالفقهاء والشعراء وأهل الفكر كانت قائمة على الرغم من انغماس بعض السلاطين والأمراء في الترف وحياة القصور ومجالس الطرب. ويعود ذلك لتأثير بعض الوزراء كنظام الملك وبعض الأسر الكبيرة أمثال آل مازة وآل خجند.
    وقد ازدهر الكثير من الصناعات التي استفادت الحضارة السلجوقية ، بتفننها فيها ، ممّا آلت إليه الخبرات السابقة على تلك الفترة.
    فبرزت صناعة الخط والتذهيب والتجليد ، والحفر على الخشب ، وحياكة السجاد والتطريز. ونمت صناعة الزجاج والخزف وغيرها.
    __________________
    (1) المرجع ذاته ، ص 392.

    الظروف السياسية العامة
    على أعقاب الإمارات الإسلامية في إيران من السامانية والغزنوية والخانية سيطر السلاجقة تباعا ابتداء من الربع الأول من القرن الخامس الهجري. والسلاجقة طائفة من الأتراك الغز استقروا قرب نهر سيحون لوفرة المراعي بادئ ذي بدء ، ثم أسّس سلجوق شوكتهم وعصبتهم. وفي عهد أولاده عبروا نهر جيحون وبدءوا الاستقرار في خراسان حيث تثبّت سلطانهم عام 429 ه‍ في نيسابور على يد طغرل بك (1).
    وما لبث الخليفة العباسي أن اعترف بسلطته عام 432 ه‍ وظهر ذلك عام 447 ه‍ في سك النقود (2). ثم ظهر من بين هؤلاء بعد صراع بين الأخوة والأبناء ألب أرسلان منذ عام 455 ه‍ حيث توسع سلطان السلاجقة في أذربيجان وبلاد الأرمن وفي بلاد الروم غربا. وأعقب ذلك صراع بين أفراد العائلة وأصهرتها وتعاظم خطر الإسماعيلية.
    لكن ملكشاه بن ألب أرسلان أعاد تثبيت الملك وتميّز حكمه بدهاء نظام الملك وزيره على صعيدي السياسة والبناء العلمي والحضاري. لكن ذلك لم يمنع الصراع داخل البيت الحاكم من أن يستمر بضراوة.
    __________________
    (1) القزويني ، يحيى ، لب التواريخ ، طهران ، 1314 ه‍ ، ص 105.
    (2) الأصفهاني ، عماد الدين محمد ، تاريخ دولة آل سلجوق ، اختصار الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني ، مصر ، 1318 ه‍ ، ص 10.

    وهذه الصورة تجعل العقول المثقفة يقظة وخائفة معا. ولعلّ خوفها يتجلّى في التقرب من السلاطين والوزراء والأمراء. ويقظتها تتبدّى من خلال الكثرة الوفيرة من الإنجاز التأليفي في الشرعيات واللغويات والعقليات ، ولا سيما أن الصراع بين التيارات والمذاهب أحمى وطيس الحجاج وشدّ من أزر الأدلة والدفاع ، فغزر العطاء وتشعّب في كل ميدان.
    وما لبث أن كدّر هذا السير المتنامي في التوسع السياسي والحضاري جمع من الإسماعيلية أتباع الحسن بن الصباح ، ولا سيما أنهم اعتمدوا أسلوب الاغتيال السياسي وإرهاب الحكام والعقول ، وقد ذهب ضحيتها نظام الملك نفسه عام 485 ه‍ (1). والذي شكل عقل السلطان والسلطنة.
    ثم نخر النزاع على الحكم عظام الأسرة السلجوقية ، وأصاب فيما أصاب عائلة الوزراء من أولاد نظام الملك ، وذلك بالوشايات تارة والاقتتال طورا ، كما حدث بين فخر الملك ومؤيّد الملك ابني نظام الملك. وفي العام 498 ه‍ تجزأت الدولة السلجوقية بين سنجر ومحمد ثم استتب الأمر لمحمد لكن ما لبث أن توفي عام 511 ه‍ فعاد الصراع بين سنجر وابن محمد السلطان محمود وتحاربا قرب ساوة. وهكذا استمر الصراع بين السلاطين يسيطر على ساحة المنطقة طوال تلك الفترة.
    __________________
    (1) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، حوادث 485 ه‍.

    حياة الغزالي وشخصيته
    (450 ـ 505 ه‍ / 1059 ـ 1111 م)
    ولد الإمام أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي (1) في طوس ، في خراسان. فهو فارسيّ الأصل والمولد. وكان لطوس في تلك الحقبة مكانة في نفوس الناس. ففيها قبر هارون الرشيد (170 ـ 193 ه‍ / 786 ـ 809 م) ، وقبر الإمام الرضا (توفي 202 ه‍ / 823 م). وكانت تصل المدينة رياح التيّارات الفكريّة المتعدّدة ، فنشطت بها حركات التصوّف وزوايا التعليم.
    كان والد الإمام قد حرص على تعليمه مع أخيه. ولمّا حضرته الوفاة عهد بهما إلى صديق له من المتصوّفة. فوفى بالعهد : أمانة توجيه الصبيّين وتعليمهما. وما لبث أن أرشدهما للالتحاق بالمدرسة النظاميّة ، التي أنشأها نظام الملك (توفي 485 ه‍ / 1092 م) بعد أن ضاقت الأحوال بهذا
    __________________
    (1) نذكر المصادر والمراجع هنا مقتضبة نظرا لكثرتها : طبقات الشافعيّة ج‍ 6 ص 191 ، شذرات الذهب ج‍ 4 ص 10 ، وفيات الأعيان ج‍ 3 ص 353 ، البداية والنهاية ج‍ 12 ص 173 ، الكامل لابن الأثير ج‍ 10 ص 173 ، تاريخ ابن الوردي ج‍ 2 ص 21 ، المختصر لأبي الفداء ج‍ 2 ص 237 ، النجوم الزاهرة ج‍ 9 ص 168 ، الوافي بالوفيّات ج‍ 1 ص 274 ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ص 275 ، كما يعتبر كتاب المنقذ من الضلال سجلاّ لحياة الإمام العلميّة. بيروت ، دار الأندلس ، 1967.

    المتصوّف والمربّي الوفيّ. فتابع الإمام تعليمه في النظاميّة ، وتوجّه بعدها إلى جرجان طلبا للاستزادة من العلم. ثمّ عاد بعدها إلى طوس يتمثّل ما تلقّاه ويفيد منه. وانتقل في عام (470 ه‍ / 1078 م) إلى نيسابور حيث التقى فيها إمام الحرمين (419 ـ 478 ه‍ / 1029 ـ 1086 م) وفي هذه الأثناء تلقّى الأصول.
    درس الإمام الحكمة والفلسفة والمنطق والجدل وفهم المسائل العلميّة المختلفة وقصد بعدها نظام الملك في معسكره ، فأعجب به وزير الدولة وقدّمه وولاّه التدريس في النظاميّة ببغداد عام 483 ه‍. وخرج بعدها عام 488 ه‍ قاصدا الحجّ في الحجاز ، بعد أن استناب أخاه للتدريس فيها.
    لم تكن غايته الحجّ فقط ، إنّما أراد في رحلته متنفّسا بعد أن عصفت به أزمته الشكّيّة ، وأدّت به إلى التنقّل والارتحال زهاء عشر سنوات. ويقول بروكلمان عن هذه المرحلة من عمر الغزالي : «تخبّط برهة في دياجير شكوكيّة حادّة ، ظهر استعداده لها منذ شبابه الأوّل. ـ يؤيّد هذا تأصّل الشكّ في نفسيّة الغزالي وصولا لليقين التامّ ـ وفيما هو يجوز هذه الأزمة الروحيّة ، تمّت له تجربة دينيّة حاسمة. فكما تحرّك النبيّ لأداء رسالته بدافع الخوف من الحساب المرتقب يوم الحشر ، هكذا عصفت بالغزالي أعاصير من الأسئلة حول الآخرة والبعث ، فلمّا كانت سنة 1095 م اعتزل منصبه الساميّ ببغداد وطفق يتنقل في البلاد ...» (1). فقصد دمشق أوّلا وأقام فيها ، وما لبث أن انتقل إلى بيت المقدس فالحجاز. ثمّ أخذ يرتحل ما بين دمشق وطوس ، إلى أن استقرّ في بغداد مجدّدا. فعقد فيها مجالس علميّة مختلفة متحدّثا عن كتابه : (إحياء علوم الدين). واستبدّت رغبة العودة إلى الأهل والديار ، فعاد إلى أسرته معتزلا الحياة الاجتماعيّة. لكنّ الوزير
    __________________
    (1) بروكلمان ، كارل ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ترجمة فارس والبعلبكيّ ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1968 ، ص 275.

    فخر الدين بن نظام الملك قصده يرغب إليه التدريس في نظاميّة نيسابور.
    وألحّ عليه بعد انتشار صيته وعلوّ مكانته. فاستجاب الغزالي إلى ذلك ، ولكن إلى حين. فقد آثر الرجوع إلى وطنه ، وهناك ابتنى مدرسة قرب بيته لطلبة العلم ، وخانقاه للصوفيّة ، ووافته المنيّة عام (505 ه‍ / 1111 م) وهو في تمام رجولته.
    وصفه أستاذه أبو المعالي الجويني بأنّه بحر مغدق لسعة معرفته. وقال عنه السبكيّ في الطبقات : «لا يعرف قدر الشخص في العلم إلاّ من ساواه في رتبته في نفسه. قال ، وإنّما يعرف قدره ، بمقدار ما أوتيه هو ...» (1).
    وقد شغل الغزالي أرباب الاستشراق فتحدّثوا عنه. ومنهم مكدونالد الأميركيّ ، وكارادفو الفرنسيّ ، وأوبرمان الألمانيّ ، وبلاسيوس الإسبانيّ ، وريشيرز الإنكليزيّ ، وكذلك اهتم به نيكلسون وغولدزيهر. قال مكدونالد مقوّما إيّاه : «لا يسعنا إلاّ أن نقول ، إنّ الغزالي كان فقيها عظيما ومتكلّما عظيما وسياسيّا عظيما ، وأظنّه رجلا واحدا في ثلاثة ، مثلما لعب دورا مهمّا في المنطق» (2).
    اتّسم عصر الغزالي بحياة سياسيّة واجتماعيّة مضطربة ، وبانحلال عسكريّ استولت فيه العناصر التركيّة على الحكم والجيش ، فأصبح الخليفة ألعوبة بأيدي السلاجقة ، ومن قبلهم بأيدي البويهيّين. وكان السلاجقة سنّة ، مما أثّر في تقرّب الغزالي من وزيرهم نظام الملك. وقابل هذا الحكم السلجوقيّ السنّيّ حكم الفاطميّين الإسماعيليّ في مصر ، وبه تحقّقت آمال
    __________________
    (1) السبكي ، تاج الدين ، عبد الوهاب ، طبقات الشافعيّة الكبرى ، القاهرة ، المطبعة الحسينيّة ، 1324 ه‍ ، ج‍ 6 ، ص 191.
    (2) Macdonald Developement of muslim theology jurisprudence and constitutional theory New York ، 1903 ، P.4.

    الإسماعيليّة بقيام مملكة (1). كما وانتشر الدروز ، وهم الأخوان الذين تفرّعوا عن الإسماعيليّة (2) ، في جبال لبنان وسورية (3).
    نعمت الخلافة في عهد نظام الملك بشيء من الرخاء ، وقد لاقى العلماء والفقهاء كلّ العطف من نظام الملك ، فنال الغزالي قسطا وفيرا منه. ونشأت آنذاك النظاميّات التي درّس فيها الغزالي. وقد أدّى مقتل نظام الملك بيد أحد أتباع الباطنيّة إلى أن يقف الغزالي من الباطنيّة موقف الردّ والتسفيه ودحض الآراء إلى جانب عوامل أخرى باعثة على موقفه منها. ـ اكتنفت زمن الغزالي مجموعة من التيّارات والمذاهب المختلفة والمتضاربة أحيانا ، فتأثّر بها جميعا : فمنها ما اعتنقها ومنها ما رفضها أو دفعها محاجّا.
    وتعتبر بعض كتبه سجلاّ في الردّ على الفرق وكشف زيفهم. وكانت قد استشرت الفرق الباطنيّة إبّان هذه الحقبة ، وأظهرت عنفا وتطرّفا كان من نتيجته التمزّق السياسيّ وانفصال مصر عن الخلافة السنيّة كما ذكرنا. واتّخذ غلاة الباطنيّة أسلوب الاغتيال السياسيّ ضد كلّ خصم للإمام المعصوم.
    وتوّج الباطنيّون تطرّفهم بظهور الحشّاشين فرقة من الفرق الإسماعيليّة ، تزعّمها الحسن بن الصباح ، ـ (زار مصر وتأثّر بالدعوة الفاطميّة وما لبث أن عاد إلى فارس (482 ه‍ / 1090 م) ينشر دعوته) ـ الذي تمركز في قلعة «الموت» قرب بحر قزوين اليوم 4. وقد جعل ابن الصباح أتباعه : «درجات منهم المقرّبون ومنهم ما دون ذلك ، وبينما كان أفراد الطبقة الأكثر اتّصالا يحيون حياة إباحيّة ، لا يحدّ منها أيّ من قيود الأخلاق أو الدين ،
    __________________
    (1) كوربان ، هنري ، تاريخ الفلسفة الإسلاميّة ، ترجمة نصير مروّة وحسن قبيسي ، ط 2 ، بيروت ، عويدات ، 1977 ، ص 135.
    (2) المرجع نفسه ، ص 136.
    (3) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص 254 ـ 256.
    (4) تقع ناحية روذبار على مسافة 500 كلم تقريبا إلى الشمال من قزوين.

    كان أتباعهم ينشئون على أشدّ التعصّب وأغلظه ...» (1).
    بينما اعتبر البعض فرقة قلعة الموت ظاهرة إصلاح في الحركة الإسماعيليّة ، ووجد كوربان في الحسن بن الصباح شخصيّة قويّة شوّهتها النصوص المختلفة. ورأى أنّ هذا الرجل لعب دورا عظيما في تنظيم الفرق الإسماعيليّة في إيران (2).
    انتقد الغزالي هذه الفرق وطرقها بشدّة ، حتّى صنّفه البعض بحجّة الإسلام المدافع عن السنّة ، وأحد دعاة الحكم السياسيّ السلجوقيّ ومفكّريه وأنصاره. وكانت السنّة قبل الخلافة الفاطميّة مذهب الحكّام السياسيّين تقريبا ، وانحاز إليها الأتراك لما تمثّل من معتقد واضح ورصين «يتلاءم وعقولهم البسيطة ، فأقبلوا عليها واعتنقوها» (3).
    أثّر في الغزالي أيضا تيّار الفلاسفة والمتكلّمين. فآراء ابن سينا كانت تموج في فارس وفي أرجاء الإمبراطوريّة الإسلاميّة قاطبة ، يتداولها المثقّفون والمفكّرون. ونجد أنّ الفرق بين وفاة ابن سينا ومولد الإمام لا يتجاوز عشرين عاما. وقد شكّل ابن سينا ، والفارابي قبله ، تيّارا فلسفيّا قويّا تبنّى الأرسطويّة الممزوجة بالأفلاطونيّة المحدثة ، وأطلق عليه تيّار المشّائيّة الإسلاميّة. واكتمل في عصر الغزالي التيّار الكلاميّ بعد أن ظهرت معظم آراء المعتزلة وشروحهم وحجاجهم الجدليّ. وللمعتزلة مذهب في الحريّة العقليّة وفي قدرة العبد على الفعل. وقد هيّأ الموقف الكلاميّ لتلقّي الآراء والأفكار الدخيلة على الإسلام ، بعد أن أقرّ باستقلاليّة العقل ، وسار خطوات في تخليص التفكير من التباسه الدغماطيّ ، وتسليمه الإيمانيّ المطلق. فخلق هذا روحا نقديّة ونظرا متجدّدا ، كان لهما الأثر القويّ في
    __________________
    (1) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص 282.
    (2) كوربان ، هنري ، تاريخ الفلسفة الإسلاميّة ، ص 158.
    (3) بروكلمان ، تاريخ الشعوب ، ص 272. وربّما قصد المترجم بالبسيطة مستقيمة الرأي وقويمة المذهب.

    دفع الفرد نحو الاختيار والانطلاق طلبا للرزق وسعيا في الإنتاج ، بدلا من التوكّل والخمول (1). ولا عجب في أن نرى عصر الغزالي يشهد نشاطا تجاريّا وعمرانيّا بالرغم من الصراع والتمزّق السياسيّين. ولم يعتنق الغزالي مذهب الاعتزال كليّا ، بل وقف وسطا بينه وبين الجبريّة السنيّة متبنّيا المذهب الأشعريّ الذي أنشأه : «أبو الحسن علي الأشعريّ ـ (توفي 302 ه‍ / 935 م) ـ عني بالتوفيق بين منهج المعتزلة الكلاميّ وبين تفكير السنّة ، نجد نظام الملك يشجّع هذه النزعة ... ويؤيّدها ...» (2). ولعب هذا التشجيع دورا مؤثّرا في تبنّي الغزالي الأشعريّة ، التي ألّف فيها واعتبر أحد أقطابها.
    نادى الأشاعرة بنظريّة الكسب الإنسانيّ ، ومؤدّاها رفض موقف السلف الذي يرى : أنّ اللّه يخلق كلّ أفعال العبد ، ورفض موقف المعتزلة القائل : إنّ العبد يخلق أفعاله. ومن ثمّ القول إنّ الفعل مخلوق للّه الحرّ ، وإنّ العبد يكتسبه مختارا بين مجموعة من الممكنات (3).
    __________________
    (1) تقابل روح الخمول روح التجارة والمغامرة وطلب السفر والعناء؛ وقد ظهرت بذورها قبل عصر الغزالي وفي أثنائه. ويمدّنا كتاب البخلاء بصورة عن طبقة ماليّة نشطة ومدّخرة. كما تصوّر حكايات السندباد البحريّ رموزا من المغامرات التجاريّة ، ولا سيّما بين البصرة والمدن الأخرى. وذكر ، عبد العزيز الدوري : في كتابه مقدّمة في التاريخ الاقتصادي العربيّ ، ط أولى ، بيروت ، دار الطليعة ، 1969 ، ص 37 وما بعد ، عن اضطرابات أصحاب صناعة النسيج ، ما يشير إلى ظهور الحرف والصناعات بشكل أوّليّ. وترافق ذلك مع الحريّة العقليّة والجدّ والاجتهاد. إذ لعب التفكير العقليّ الحرّ دورا منشّطا ، اعتمد به الفرد على ذاته. ونقارن ذلك بدور البروتستانتيّة وبما قاله ماكس فيبر عن أثرها وفعاليّتها في ظهور الرأسماليّة بأوروبة. وقد ارتكزت آراء الدوري السابقة على إجماع المؤرخين وذكرهم لظهور الحرف والتبضّع ، استنادا إلى المنتظم لابن قيّم الجوزيّ ، والكامل لابن الأثير ، وتاريخ الوزراء للصابي ، وتجارب الأمم لابن مسكويه ، مع إشارتها إلى الأنظمة الضرائبيّة الخاصّة بهذه الحرف.
    (2) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص 275.
    (3) الشهرستاني ، أبو الفتح محمد ، نهاية الإقدام في علم الكلام ، أوكسفورد ، يونيفرستي برس ، 1931 ، ص 67 ـ 78.

    فعلت المذاهب الفقهيّة والأصوليّة السنّيّة فعلها في آراء الغزالي ، وخصوصا مذهب الإمام الشافعيّ (150 ـ 204 ه‍ / 769 ـ 825 م). وقد تلقّى الكثير من الفقه والأصول على يد الجويني كما ذكرنا. لكنّ تفصيله وتجديده الأصوليّين تأثّرا بمطالعاته المنطقيّة ، إضافة إلى رغبته العارمة في القضاء على روح الانحراف ، والتي تفشّت في عصره على أيدي قضاة الشرع الذين نزعوا إلى استغلال مناصبهم (1). فدفع ذلك الغزالي إلى أن يتشدّد في قواعد الفقه ، ويقيّدها بطرق الاجتهاد الصارمة التي وضع لها الأسس والمناهج ، رافضا الاستحسان وكلّ استدلال يخرج على النسق المعياريّ المنطقيّ (2).
    انجذب الغزالي بالتيّار الصوفيّ الذي نضج واكتمل على أيدي المحاسبي (توفي 243 ه‍ / 858 م) والبسطامي (261 ه‍ / 874 م) والحلاج (309 ه‍ / 922 م) (3) وأبي طالب المكّي (386 ه‍ / 997 م).
    وانتشرت التكايا والفرق الصوفيّة في عصره بشكل كثيف ، فاختلط سلوكها بمعارف صوفيّة وآراء فلسفيّة وكلاميّة. بل سلك بعضها طريقا عمليّا يعتمد (الدروشة) ويستخدم الوسائط من صياح ورقص وإنشاد : «والحق أنّ تعاطي المنبّهات كان فاشيا في الحلقات الصوفيّة ...» (4). وقف الغزالي من كلّ هذه التيّارات موقفا وسطا ، باستثناء موقفه المعارض للباطنيّة. فقد توسّط السلف وعقليّي الإسلام. ووقف وسطا بين الشيعة والسنّة سياسيّا وضد غلاة الباطنيّة. وارتبط بموقف فكريّ وساطيّ بين الأدلّة الإيمانيّة المسلّمة تسليما مطلقا ، وبين مناهج البحث والنظر المنطقيّة العقليّة. وهو يقول في ذلك : «فالذي يقنع بتقليد الأثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر لا يستتبّ له
    __________________
    (1) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص 280.
    (2) سنفصّل ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني.
    (3) أفرد الغزالي كتاب مشكاة الأنوار للدفاع عن بعضهم.
    (4) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص 282.

    الرشاد. لأنّ برهان العقل هو الذي يعرف به صدق الشارع ، والذي يقتصر على محض العقل ولا يستضيء بنور الشرع ولا يهتدي إلى الصواب ، ومثل العقل البصر السليم عن الآفات والأذاء. فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن كالمعترض لنور الشمس مغمضا الأجفان» (1) ، وعلى الرغم من هذه الوساطيّة ، فإنّ الغزالي تأثّر بجملة التناقضات السياسيّة والفكريّة وخاض غمارها ، قناعات ومعاناة في أثناء رحلته العلميّة. ولعب هذا التعدّد والتمزّق دورا مؤزّما في نفسيّته ، إذ تواجهت الآراء السنيّة الملتزمة بالآراء الباطنيّة الرافضة والمعارضة. وتواجه الفقه المرتبط في النصوص بالمنهج العقليّ المجرّد وبالآراء الفلسفيّة العقليّة ، كما تقابلت الجبريّة بالحريّة المختارة اختيارا تاما ، والزهد المرتبط في الدين بالتصوّف المرتبط في التجربة الذوقيّة والمكاشفة الإلهيّة.
    وقد ترك الغزالي كتبا في شتّى هذه العلوم ، وحلّ الكثير من معضلات المواجهة بالموقف الوساطيّ الذي تحدّثنا عنه. والذي يعنينا هنا مؤلّفاته المنطقيّة ، وهي بحسب تسلسل تأليفها التاريخيّ ما يلي :
    أوّلا ـ مقاصد الفلاسفة : تناول فيه آراء الفلاسفة في المنطق والطبيعة والميتافيزيقا. ويعتبره بعضهم مقدّمة لكتاب تهافت الفلاسفة الذي ردّ فيه الإمام على دعاوى الفلاسفة من دون التعرّض لمسائلهم المنطقيّة.
    ثانيا ـ معيار العلم : عرضت فيه آراء منطقيّة مختلفة ، خالطها ميل إلى إيراد بعض المصطلحات والأمثلة الإسلاميّة.
    ثالثا ـ محكّ النظر : برزت فيه الآراء المنطقيّة أيضا ، لكنّ الغزالي طواها على آراء إسلاميّة ، قالبا المصطلحات والأمثلة إلى مصطلحات وأمثلة أصوليّة تماما.
    __________________
    (1) الغزالي ، الاقتصاد في الاعتقاد ، القاهرة ، المكتبة التجاريّة الكبرى ، 1936 ، ص 2.

    رابعا ـ القسطاس المستقيم : جعل الغزالي المنطق فيه مستمدّا من منهج القرآن ودليل آياته. فاستخرج القياس من القرآن ، واستعمل مصطلحات جديدة تفهيما للمسلم وصهرا للمنطق في بوتقة إسلاميّة.
    خامسا ـ المستصفى من علم الأصول : وفيه مقدّمة منطقيّة عرضت فيها قواعد المنطق وأبوابه ، بما يتشابه مع ما كان في المحكّ. وشكّل ذلك مدخلا لعلم الأصول الذي شرحه الإمام في بقيّة الكتاب ، متناولا الجوانب الأصوليّة كافة ، مركّزا على المعايير العقليّة ، وفيها تفصيل وتجديد وتأثّر بالمنطق العقليّ.
    خرجت كتب الغزالي تباعا خلال حقب حياته المختلفة. وتطوّرت من نقل للمنطق إلى تحوير له ، وجعله أداة إسلاميّة ، يستعان بها في الفقه والاجتهاد. وقد بدأ الغزالي ناقلا منطق أرسطو عبر ابن سينا ، وتدرّج إلى موفّق بين المنطق والعلوم الإسلاميّة ، حتّى بلغ شأوه ، فجعل المنطق علما إسلاميّا : منهجا ومصطلحا ، وطبعه بسمات العقليّة العربيّة والإسلاميّة.
    بحيث أطلقنا على هذه العمليّة اسم محاولة تطعيم المنطق بأصول الفقه.
    كتب الغزالي مقاصد الفلاسفة في أثناء تلقّيه العلم ، وفي طور التدريب في بغداد. وتهيّا للردّ على الفلاسفة نتيجة خطرهم على عقول الناس وإزاغتهم للعقيدة. لم يميّز في المقاصد بين الحقّ والباطل ، إنّما قصد فيه التفهيم (1) ، وعرض النظريّات تمهيدا لدحضها في كتاب آخر.
    وجد الإمام نفسه محتاجا إلى منهج عقليّ ومعيار فكريّ يدعم فيه الأصول الفقهيّة والتفكير الإيمانيّ ، بعد أن تفهّم المنطق وسرده سردا عامّا في مقاصد الفلاسفة. فكان له ما شاء ، إذ عزل المنطق عن الأبحاث الفلسفيّة وأقرّه علما معياريّا ممزوجا ببعض الخصوصيّات الإسلاميّة ، جامعا
    __________________
    (1) الغزالي ، مقاصد الفلاسفة ، مصر ، دار المعارف ، 1961 ، ص 31.

    كلّ ذلك في كتاب سمّاه ، معيار العلم. وتتابعت لديه عملية المزج فاكتملت بكتاب محكّ النظر ، وفيه إلباس المنطق حلّة إسلاميّة كاملة ، بحيث حدثت عمليّة التطعيم تماما. كان ذلك إبّان تدريسه في بغداد وقبل ارتحاله عنها عام (488 ه‍ / 1096 م) (2).
    رافقت أزمة الغزالي الشكّيّة النفسيّة ، أزمة معرفيّة حاول أن يحلّ فيها كلّ تناقض بين عقيدتين أو موقفين تلقّاهما. فأبطل ما يخالف الدين على المستوى الطبيعيّ والإلهيّ ، وهذّب ما استطاع من المنطق. ووجد أنّ اعتناقا مزدوجا للفلسفة العقليّة وللدين يؤدّي بالفرد إلى الاضطراب المعرفيّ والنفسانيّ. فخرج بعدها بكتاب إسلاميّ الشكل والمبنى والمعنى والاستعمال ، هو القسطاس المستقيم (3). وفيه تهذيب المنطق خلال الرد على الباطنيّة ودحض مقدّماتهم الجدليّة. وقد كتبه الإمام عام (497 ه‍ / 1104 م) عقب تعمّقه في المسألة المنطقيّة ، واعتصار فكره فيها ، موفّقا بينها وبين الدين الذي استخرج منه المنهج. كلّ ذلك إرضاء للقارىء المؤمن وتفهيما له. ويعتبر موقت ظهور القسطاس موقت هدوء واستقرار معرفيّ عند الشيخ. إذ كان قد وصل حينذاك إلى شيء من اليقين وثبات المعارف ، مجتازا المراحل الشكّيّة السابقة وتضارب الاتّجاهات في ذهنه.
    أفرد الإمام بعدها مصنّفه المشهور المستصفى من علم الأصول ، الذي ظهر عام (503 ه‍ / 1109 م) (1). وفيه أرسل أصول الفقه ناضجة ، بعد أن تحرّر من كلّ تأثير أصوليّ سابق. وعمل على مزج الاجتهاد بالمنطق ، فظهرت آراؤه عقليّة محضا ، تستند على نسق قياسيّ واستدلاليّ واضح.
    وقد جدّد وابتكر في الكثير من المسائل وكان أن مهّد لهذا الكتاب بمقدّمة
    __________________
    (1) يمكن مراجعة مقدّمة الأب فكتور شلحت اليسوعي لكتاب القسطاس المستقيم ، في الحاشية ص 15 ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكيّة ، 1959.
    (2) المصدر نفسه ، ص 15.
    (3) المصدر نفسه ، ص 15.

    منطقيّة وضعها قبل عرض الأصول وجعلها مدخلا له. بل جعلها مقدّمة للعلوم كلّها فقال :
    «وليست هذه المقدّمة من جملة علم الأصول ولا من مقدّماته الخاصّة به ، بل هي مقدّمة العلوم كلّها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا ...» (1). ويعتبر المستصفى نموذجا للمزجيّة ، يقول فيه : «إنّ أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع» (2).
    وتجدر الإشارة إلى أنّ الغزالي ألّف في الفقه قبل ذلك (المنخول وشفاء الغليل) ، لكنّ المنخول ليس سوى عرض لآراء فقهيّة وأصوليّة ، أخذ معظمها عن إمام الحرمين الجويني فقال : «هذا تمام القول في الكتاب ، وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد حذف الفصول وتحقيق كلّ مسألة بماهيّة العقول ، مع الإقلاع عن التطويل والتزام ما فيه شفاء الغليل.
    والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه اللّه في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل ...» (3).
    إذا اقتصر الفقه على النقل قبل المستصفى ، وقد صرّح بذلك الإمام قائلا : «والمختار إنّه لا يحتجّ به لأنّ العقل لا يحيل ذلك في المعقولات ، والشبهة مختلجة والقلوب مائلة إلى التقليد واتّباع الرجل المرموق فيه ، إذا قال قولا. هذا ممّا اختاره الإمام رحمه اللّه» (4).
    والقول المجمل : إنّ المسألة المنهجيّة اكتملت أكثر فأكثر بعد المرحلة الشكية ويتجلّى ذلك في المستصفى الذي جمع بين الرأي والسمع
    __________________
    (1) الغزالي ، المستصفى من علم الأصول ، ط أولى ، مصر ، المكتبة التجاريّة ، ج‍ 1 ، ص 7.
    (2) المصدر نفسه ، ص 3.
    (3) الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول ، تحقيق محمد هيتو ، دمشق ، 1970 ، ص 504.
    (4) المرجع نفسه ، ص 316.

    وبين المنطق والفقه. فظهر تأثر المنطق بالأصول والمعاني الإسلاميّة وتأثّر الأصول بالمنطق.
    وإذا كان لنا شاهد على هذا التحول فخير شاهد الجدول التالي الذي يميّز بين المصطلحات في كل كتاب :
    مقاصد الفلاسفة معيار العلم محكّ النظر
    المطابقة المطابقة المطابقة
    التضمّن التضمّن التضمّن
    الالتزام الالتزام الالتزام
    الجزئيّ الجزئيّ المعين
    الكلّيّ الكلّيّ المطلق
    المشتركة المشتركة المشتركة
    المترادفة المترادفة المترادفة
    المتواطئة المتواطئة المتواطئة
    المتزايلة أو المتباينة المتزايلة أو المتباينة المتزايلة أو المتباينة
    العامّ العامّ العامّ
    الخاصّ الخاصّ الخاصّ
    الذاتيّ الذاتيّ الذاتيّ
    العرضيّ العرضيّ العرضيّ
    اللازم اللازم اللازم
    الحدّ الحدّ الحدّ
    التصوّر التصوّر المعرفة
    التصديق التصديق العلم
    الجنس الجنس الجنس
    النوع النوع النوع
    الفصل الفصل الفصل والفصول
    الخاصّة الخاصّة الخاصّة والخواص
    الرسم الرسم الرسم


    مقاصد الفلاسفة معيار العلم محكّ النظر
    الماهيّة الماهيّة الماهيّة
    الموضوع الموضوع المحكوم عليه
    المحمول المحمول الحكم
    القضيّة الشخصيّة القضيّة الشخصيّة القضيّة المعيّنة
    القضيّة الكلّيّة القضيّة الكلّيّة القضيّة المطلقة العامة
    القضيّة الجزئيّة القضيّة الجزئيّة القضيّة المطلقة الخاصّة
    القضيّة المهملة القضيّة المهملة القضيّة المهملة
    إيجاب إيجاب وموجبة إثبات ومثبتة
    سلب سلب وسالبة نفي ونافية
    القياس القياس القياس
    الحدّ الأوسط الحدّ الأوسط العلّة
    الشرطيّ المتّصل الشرطيّ المتّصل التلازم
    الشرطيّ المنفصل الشرطيّ المنفصل التعاند
    الشكل الشكل النظم
    المادّة المادّة المادّة
    الصورة الصورة الصورة
    اليقين اليقين اليقين
    الظنّ الظنّ الظنّ
    البرهان البرهان البرهان
    المقدّمة المقدّمة الأصل
    النتيجة النتيجة الفرع
    الإحساس الإحساس الإحساس
    التجربة التجربة التجربة
    التواتر التواتر التواتر
    بديهة العقل بديهة العقل الأوّليّات
    التميّز التميّز ـ
    التعريف التعريف ـ
    الإمكان الإمكان الإمكان
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:01 am

    مقاصد الفلاسفة معيار العلم محكّ النظر
    الممتنع الممتنع الاستحالة
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب السبر
    الوجوب الوجوب التقسيم
    __________________
    (*) تشير الإشارة ـ إلى عدم وجود مصطلح يقابل المصطلح الوارد في الكتب الباقية أو إلى عدم استخدام هذا المصطلح في الكتاب.

    طبيعة الكتاب وموضوعاته
    تدور أبحاث المحك حول موضوعات المنطق التقليدية : الحد والقضية والقياس.
    وترتدي هذه الأبحاث ميزة مختلفة عن الكتب المنطقية التي سبقتها كمقاصد الفلاسفة ومعيار العلم. ففيه نحا الإمام منحى مغايرا لمصطلحات المنطق التقليدية وأمعن بالإيغال في المضامين الإسلاميّة والمصطلحات العربية والفقهية والكلامية إذ ينقسم مبحث الحد في المحك إلى موضوعين أساسيين يقعان ضمن قسمي الكتاب. فيحتل موضوع الألفاظ والمعاني جزءا من القسم الأول ، وموضوع الحد القسم الثاني كلّه. وبالشكل التالي من التبويب :
    ـ الفن الأول : قسم القياس ، وفيه يعالج الغزالي «النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني ...» (1).
    ـ الفن الثاني : قسم محك الحدّ ، وفيه يعالج الإمام فنّين : أولهما قوانين الحدّ ، وثانيهما امتحان الحدّ.
    ولعلّ تأجيل بحث الحدّ وتأخيره مردّه طبيعة هذا البحث الخارجية
    __________________
    (1) الغزالي ، محكّ النظر ، مصر ، المطبعة الأدبية ، د. ت ، ص 8.

    والغريبة عن الفكر الإسلامي وعقليته. فالمسلمون لم يعوا الحدّ إلاّ في دوره الاسمي المميّز بين الألفاظ.
    لقد اقتصر التوجّه بالمعيار نحو بعض الأمثلة الفقهية ، وكانت بمثابة التمهيد للمحكّ ، إذ يقول الغزالي : «رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته ، وتعمّ سائر الأصناف جدواه وفائدته. ولعل الناظر بالعين العوراء ، نظر الطعن والإزراء ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليّات القطعية بالأمثلة الفقهيّة الظنيّة.
    فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه ، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها. فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفيّ بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد ، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده ، فيستقر المجهول في نفسه ... (1).
    فاقتصر غرضه على إعطاء الأمثلة الفقهية ، لاستساغة الأمور العقلية لا أكثر ويعترف بأنه يقوم بصناعة فكرية للتفهيم. بينما الأمر في «المحك» يختلف تماما ، فثمة تجاف وتباعد عن غرض التقليد والاتّباع ، ـ قاصدا اتّباع ابن سينا ـ واقتراب إلى الإبداع وتأليف المنطق الإسلامي الذي يرشد إليه نور اللّه والاستبصار المعرفيّ. «وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع عن حضيض التقليد ، مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع والاستبصار ، مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا ، كان نظره كلّه هباء ، وإن لم يوفّقه للعمل بما علمه كان جهده كلّه عناء ...» (2).
    وبدل أن يسمّي مبحث الحدّ تصوّرا يسمّيه في المحك المعرفة. ويصرّح بأن المعرفة متأتّية من اللغة العربية. و «يقول النحاة أن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد ، إذ يقول عرفت زيدا ، والظنّ يتعدّى إلى مفعولين ، إذ تقول
    __________________
    (1) الغزالي ، المعيار ، ص 27.
    (2) الغزالي ، المحك ، ص 3 ـ 4.

    ظننت زيدا عالما. والعلم أيضا يتعدّى إلى مفعولين ...» (1).
    وعوضا أن يكون التصوّر ينال بالحدّ ، يصبح الأمر : «المطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحدّ ، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس ...» (2).
    إن المرجّح أنّ الغزالي قصد في استعمال مصطلح المعرفة ، إدراك الأسامي والمعاني المفردة. وكلمة معرفة من «عرف» و «معرّف» ، ويشرح الجرجاني المعرّف بأنه : «ما يستلزم تصوّره اكتساب تصوّر الشيء بكنهه أو بامتيازه عن كلّ ما عداه ، فيتناول التعريف بالحدّ ...» (3). وهكذا يجعل للمعرّف دورين : تصوّري وتمييزيّ. فيوصل الدور التصوري لماهيّة الشيء وحقيقته ، ويهدف الدور التمييزيّ تفريق اللفظ عمّا عداه. ولم يكن الأمر عند الغزالي في المحكّ غير هذا التوفيق بين الدورين الماهويّ واللغويّ.
    والحال نفسها في المعيار وفي كلّ الاتجاه المنطقي الذي سنستعرضه لاحقا.
    وتجدر الإشارة أن استخدام المصطلح بقي ضمن الأغراض المنطقيّة واللغويّة ، وربّما ارتبط تعبير المعرفة «ابستمولوجيّا» بنظريّة العرفان الصوفيّ ، التي بدأ يتأثر فيها الإمام إبّان تأليفه المحكّ وبعده. بينما يوحي استعمال لفظة التصوّر في المعيار ذاك الإدراك الاسميّ والعقليّ لماهيّة الشيء. ويقول فيه الجرجاني مثلا : التصوّر هو «حصول صورة الشيء بالعقل .. وهو إدراك الماهيّة من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات» (4).
    وقد اصطلح الغزالي في موضوع الألفاظ والمعاني مجموعة
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 5.
    (2) المصدر نفسه ، ص 6.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 150.
    (4) المرجع نفسه ، ص 40.

    مصطلحات وأمثلة مغايرة لما ورد في المعيار ، وسنذكرها كما يلي :
    ـ يطلق الغزالي ، تمشيا مع ابن سينا ، على الجزئي والكلّي تعبيري الخاصّ والعامّ. وقد أشير إلى ارتباط هذه الألفاظ بالتصوّر اللغويّ العربيّ.
    لكنّ الأمر في المحك يتبدّل ، فيستعمل الإمام المعيّن والمطلق (1). واللذان وردا في المعيار. إنما التعبيران هنا يحلاّن نهائيا محلّ الخاصّ والعامّ.
    وقصد الغزالي بلفظة معيّن ما يدلّ على عين واحدة. وهذا هو دور الاسم أو اللفظ في اللغة العربية. والبيّن أن الفقه وعلماء العربية يستخدمون اللفظة للتمييز بين الأسماء. فلكلّ معنى لفظ معيّن محدّد. ويلعب المعيّن استنادا إلى ذلك دور المحدّد ، الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد.
    ويقول الجرجاني : «التعيين ما به امتياز الشيء عن غيره ، بحيث لا يشاركه فيه غيره» (2). وكنّا قد ذكرنا معنى الجزئي ومدلوله وكيف لم يجرّد المسلمون التصوّر إلى كلّي وجزئيّ. بل انحصروا في الخاصّ والعامّ ، وكلّها مدلولات عربيّة. أمّا هنا فالمصطلح مطابق للغة العربية ولدورها المعبّر عن الأفراد وعن ذاك الواحد المشخّص (هذا الإنسان). فالمحكّ يذهب بالمنطق إلى حدود الاندماج بالعربيّة وإخراج المعرفة أو التصور بقالب إسلاميّ وعربيّ. ويظهر الأمر جليّا في مدى تعبير المصطلح عن البعد الماصدقيّ ، في الباب التالي. ومثلما المعيّن كذلك المطلق ، فقد استعمل الغزالي هذا المصطلح بالمحكّ بديلا للعامّ في المعيار والمقاصد.
    وتحدّث ابن سينا عن المطلق مقابل الضروريّ في استعراضه للممكنات (3). وقصد بالمطلق بيان غير الضرورة ، أمّا الضرورة فهي المشروطة بقانون وجوديّ طبيعيّ. وبقيت أحكام المطلق ضمن قوانين الطبيعة لديه ولدى الفارابي أيضا. أما الغزالي فاستخدم تعبير المنطق ليدلّ
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 10 ـ 11.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 51.
    (3) ابن سينا ، الإشارات ، ص 308 ـ 317 والشفاء ، القياس ، ص 22.

    على ما هو مغاير للمعيّن ، بل وعكسه. ويحمل المطلق بمعناه العمومية وقد عرّفه الجرجاني «أنه ما يدلّ على واحد غير معيّن» (1). ويقول عنه أبو البقاء : «المطلق هو الدّال على الماهية من غير دلالة على الوحدة والكثرة ، والنكرة دالة على الوحدة ولا فرق بينهما في اصطلاح الأصوليّين» (2). ويرتكز المطلق عند المسلمين على منحى لغوي ، يعتبر اللفظة معرفة وليست نكرة. واستعمل لفظ المطلق في الفقه ليشكّل نقيض المقيّد. إذ يجري الحكم في الأصول على إطلاقه ، إلا إذا وقع تقييد ، مثاله : «قوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) والمقيّد ما تعرض ذاتا موصوفة بصفة ، كقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)» (3).
    والأرجح اتّجاه الإمام إلى التأثر بالعربية والأصول في تداوله المطلق في المحك ، أكثر منه اتّباعا لابن سينا. ويزيد من ترجيحنا الاقتناع بأنّ مسائل البحث فقهيّة ، وغرض الكتاب ، كما صرّح ، تعليمي إسلاميّ.
    ولأن الغزالي بعيد هنا عن معالجة الأمور الطبيعية والوجوديّة. ويدلّ على ذلك أيضا تلك الأمثلة التي أدخل عليها (أل) التعريف فاستحالت مطلقة.
    فإذا كان «هذا السواد» معيّنا ، أصبح تعبير «السواد» مطلقا (4) وكل هذا يدل على أثر اللغة العربية أو بالحريّ علم الأصول.
    يستخدم الغزالي جملة أمثلة في دلالة الألفاظ على المعاني ، وجاء بعضها مغايرا للمعيار. وهي تبتعد عن التمثّل بمفهوم الماهيّة واندراج الجنس والنوع ، وتأخذ طابع مفردات اللغة العربية ومعاني الأمثلة الفقهيّة.
    فيقدّم الغزالي أمثلة على الترادف : الليث والأسد ، والخمر والعقار.
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149. الكفوي ، الكليات ، ص 341.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 342.
    (4) الغزالي ، المحكّ ، ص 11.

    وعلى المتواطئة : الرجل الذي يطلق على زيد وعمرو وبكر. وعلى المشتركة : اسم المشتري على قابل عقد البيع ، والكوكب إلخ ... (1).
    وإذا قارنا ما سبق مع ما ورد في المعيار ألفينا أمثلة الأخير تدور حول موضوعات تستند على الماهيّة وتسلسل الأجناس والأنواع. وهي أقرب إلى التأثر بابن سينا ، فمثله على المتواطئة : إطلاق الحيوان على الفرس والإنسان والطير. ومثال اللازم في المحكّ تلخص في : كون الأرض مخلوقة (2) ، فمخلوقة وصف لازم للأرض ، يتّضح فيه المعنى القرآنيّ. بينما مثال اللازم في المعيار صفة ذاتيّة غير مقوّمة : الولادة للطفل.
    ـ تناول الغزالي بالمحكّ علاقة الذاتيّ بالمعاني. فبدل أن يعتبره تجريدا ومقوّما كليّا للنوع والجنس اعتبره صفة بالمعنى اللغويّ. واستندنا على ذلك من خلال أمثلته التي تنحصر في اللونيّة والجسميّة ، ومن تصريحه بأن الذاتيّ يسمّى صفة النفس (3). وقد اختلفت الحال في المعيار ، كما بيّنا في حينه.
    ـ يتهرّب الإمام في المحكّ من كلّ مثال يتعلّق بالماهية الأرسطوية ، أو باندماج الأجناس والأنواع. وهو يذكر مجموعة أمثلة في المحكّ تتناول المساوي والأعمّ والأخصّ. وهي بحسب الترتيب : جسم متحيّز للمساوي. والوجود للجسم للأعمّ ، والحركة للجسم للأخص (4). بينما اختلفت الأمثلة في المعيار في هذه الموضوعات. فكان مثال المساوي : الحيوان للحسّاس. ومثال الأعمّ : الحيوان للإنسان. ومثال الأخصّ : الإنسان إلى الحيوان (5) وربما تخوّف في المحكّ من أن يجعل الإنسان ضمن
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 12 ـ 13.
    (2) المصدر نفسه ، ص 18.
    (3) المصدر نفسه ، ص 17.
    (4) المصدر نفسه ، ص 17.
    (5) الغزالي ، المعيار ، ص 57.

    الحيوان ، فلجأ إلى الأمثلة المحسوسة الطبيعية تحت فعل البعد الدينيّ.
    والملخّص من موضوع الألفاظ والمعاني في محكّ النظر ، هو تلك الاختلافات بينه وبين المعيار والتي عرضناها بإيجاز سابقا. ويؤكد كلّ ذلك الاتجاه اللغويّ الذي بدأه الغزالي في المعيار بتأثير من طبيعة اللغة. وقد تعمّق هنا في المحكّ وأخذ طابعا دينيّا فقهيّا. تجاوز حدود الالتزام بأبعاد المنطق أحيانا. ويمكن القول : إنّ الكلّي ، بوصفه عمليّة منطقيّة صوريّة تعمد إلى التجريد ، انعدم نسبيا في محكّ النظر واختفى. وربّ قائل : إنّ وروده في المقاصد والمعيار لم يكن سوى نقل. ومع جانب الصحّة في هذا لقول ، إلاّ أنّ المحك قد بلور المسألة الدينية بوضوح. وربّما اختزلت عمليّة التجريد المنطقية الشكليّة في المحكّ إلى عملية تجريد عقلية نفسيّة فقط. ويتجلّى هذا في تفسير الإمام لكيفيّة تصوّر اللونيّة والشكليّة ، فيقول : «اصطلحنا على تسميتها عقلا ، فيدرك ويقضي بقضايا ، ويدرك اللونيّة مجرّدة ، ويدرك الحيوانيّة ..» (1).
    يتطرق الغزالي في موضوع الحدّ إلى أبحاث الحدّ نفسها الواردة في المعيار ، مع شيء من الاختصار وبحلّة إسلامية. ويعتبر اكتمال معرفة الحدّ عن طريق التعريف باللفظ والرسم والحدّ. ويوضح الأمر في مجموعة الأسئلة التي يطرحها والتي تجيب على كنه الحدّ ، وتنحصر في أربعة مطالب : هل ، وما ، ولم ، وأيّ. ويعتبر مطلب «ما» أهمّها ، وفيه مثال الفقه المشهور : «الخمر». ويفيدنا مطلب «ما» بثلاثة أجوبة :
    ـ يعرّفنا بتمييز الاسم وشرحه ، أي بالتعرّف على حدّه اللفظيّ. فنقول : ما العقار؟ هو الخمر.
    ـ ويدلّنا على مميّزات الشيء العرضيّة ، ويسمّى حدّا رسميّا. فنقول
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 21.

    الخمر هي المائع الذي يقذف بالزبد ، ثم يستحيل إلى الحموضة. ويجمع من العوارض واللوازم ما يساوي حقيقة ذات الخمر.
    ـ ويجيبنا عن ماهيّة الشيء وحقيقته ، ويسمّى حدا حقيقيا ، الخمر شراب معتصر من العنب (1).
    وقد ركّز الإمام على التحديد الاسميّ الخاصّ باللغة العربية في المحكّ ، وحصر مكامن الغلط في الألفاظ. كما نبّه إلى ضرورة الاحتراز من «الألفاظ الغريبة والوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المتردّدة» (2).
    ومن ثم يجب استعمال الألفاظ المعروفة ذات النص الصريح ، وإن اعتاص الأمر فليذكر المستعار أو لترد قرينة المصرّح من المعاني. ولم ينتقل في المحكّ ، ولا في مقدّمة المستصفى ، كما سنرى ، إلى تبنّي مفهوم الحدّ اللفظيّ طريقا يفيد التعريف بالحدّ. مع العلم أن الفقهاء ونظّار المسلمين لم يعرفوا سوى الحدّ اللفظيّ ، ولم ينادوا إلاّ بالاتجاه الاسمي (3). ومردّ هذا رفضهم الكليّات والماهيّات الأرسطويّة ، معتبرين أنّ الحقائق والمعاني الإسلامية موضوعة ، ولا يجوز تناول معان مغايرة لها.
    ويمكن القول إنّ الغزالي استمرّ في كتبه المنطقيّة القريبة من الفقه وخصوصيّة اللغة العربية بعملية المزج. فقال مثلا : «اعلم أنّ من طلب المعاني من الألفاظ ، ضاع وهلك كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أوّلا في عقله بلا لفظ ، ثمّ أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى.
    فلنقرّر المعاني ، فنقول : الشيء له في الوجود أربع مراتب ، الأولى حقيقة في نفسه ، الثانية ثبوت مثال حقيقة في الذهن وهو الذي يعبّر عنه بالعلم ،
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 92.
    (2) المصدر نفسه ، ص 98.
    (3) ابن تيمية ، تقي الدين ، كتاب الرد على المنطقيّين ، بمبئي ، دائرة المعارف العثمانيّة ، 1949 ، ص 14 ـ 15.

    الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه ... الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسّة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة .. ـ إلى أن يقول ـ إنّ الأوّلين وجودان حقيقيّان لا يختلفان بالأعصار ، والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم .. (1).
    ونلاحظ أنّه في استمراره بهذه العملية الجامعة بين الاتجاهين المنطقي والأصوليّ الاسميّ أقرّ بأن تعريف الحدّ ينال بتصوّر الماهية وبالتمييز اللفظيّ والاسمي معا ، وتعتبر الفقرة السابقة على درجة من الأهمية ، كونها تشير إلى تصريح الغزالي بوجود الحقائق العقلية الكليّة ثابتة في الذهن ، وبوجودها قائمة بذاتها. وهذان الوجودان يشملان الشعوب كافة بدون تمييز. ونتساءل كيف وفّق الإمام بين هذه المعاني الأرسطويّة وبين المعاني الإسلامية القائمة في القرآن؟ وكيف صرح بذلك في كتاب المحكّ المتميّز بالطابع الإسلاميّ؟ نرجّح أنّ ذلك كان نتيجة التطعيم وتطويع المعاني المنطقيّة لإغناء الاستدلال الأصوليّ. وأخيرا نجد أنّ موضوعات «المحكّ» الأخرى في التصوّر متوافقة مع موضوعات المعيار والمقاصد فهما وتوجها.
    والحال نفسها في التصديق والقضيّة. ولم يستطع الغزالي ، ومن قبله ، الفصل بين المعنى والاسم أو بين المضمون والصورة فصلا تاما.
    ومن ثم تقع القضيّة في كتاب محكّ النظر بالفصل الثالث من فنّ السوابق ، وتضم أربعة تفصيلات على الشكل التالي :
    ـ التفصيل الأوّل : انقسام القضيّة إلى التخصيص والعموم والتعيين والإهمال.
    ـ التفصيل الثاني : انقسام القضيّة إلى ثلاثة : الإمكان والوجود والاستحالة.
    ـ التفصيل الثالث : بيان نقيض القضيّة وأحكامها.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 108 ـ 109.

    ـ التفصيل الرابع : بيان عكس القضيّة.
    يتبيّن اختلاف التركيب الشكلي والتبويب جزئيا عن المعيار والمقاصد. لكنّ الأبحاث المنطقيّة التي تناولت القضيّة في المحكّ بمضمونها وموضوعاتها لم تبتعد تماما عن أبحاث القضيّة في الكتابين السابقين. ويتباين المضمون هنا في جانب التركيب البنيويّ للمصطلحات والتعابير والغرض والتوجّه. فإذا كان الكتابان السابقان قد تأثرا بابن سينا تأثرا واضحا ، فإن المحكّ يميل نحو المعاني الإسلامية والفقهيّة ميلا محضا. وتنقلب تعابيره وأمثلته مشكّلة أغراضا جديدة كما سنرى ، من دون الخروج على أطر المنطق الأساسية. وأشار الغزالي في نهاية المحكّ إلى العودة للمعيار ولمن يرغب في التفصيل والشرح. قائلا : «هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولا عظيمة ، إن أمعنت في تفهّم الكتاب تشوقت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله ، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلم ...» (1) وتدل هذه الإشارة على وحدة المسألة المنطقيّة في خلفيّة الإمام من دون أن يعني ذلك عدم وجود التباين بين المحكّ والمعيار. ويعمل الغزالي بالرغم من هذا التباين على ربط المحكّ بالمعيار ، استمرارا في تطعيم المنطق بالتفكير الإسلاميّ ، وخصوصا في المحكّ ومقدّمة المستصفى.
    وقد جعل مبحث القضيّة في المحكّ قالبا إسلاميا من دون أن يتخلّى عن مضامينها المنطقيّة. إذ يبدأ الفصل على نمط ما جاء في الكتب سابقا ، فيستعمل عدّة مصطلحات للتعبير عن عناصر القضيّة ، قائلا : «أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرّق إليه التصديق والتكذيب ، كقولنا مثلا : العالم حادث والباري تعالى قديم. فإنّ هذا يرجع إلى تأليف القوّة المفكّرة بين معرفتين ، لذاتين مفردتين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 133.

    فإن قلت العالم ليس بقديم ، والباري ليس بحادث ، كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزءين. يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا. ويسمي المتكلمون أحدهما موضوعا والآخر صفة. ويسمّي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه. ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه والآخر محموله وهو الخبر. ونصطلح نحن على تسمية الفقهاء ، فنسميها حكما ومحكوما عليه. ولنسمّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضيّة ...» (1) ولم تكن الفقرة السابقة عرضا لمصطلحات تركيب القضيّة فحسب ، بل كانت طرحا جديدا وتبنّيا لعبارات بما تحمل من خلفيّة فقهيّة. فنرى الإمام ينتقل بالمحكّ إلى تداول الحكم والمحكوم عليه عوضا عن الخبر والمخبر عنه في المعيار ، أو بدلا عن الموضوع والمحمول. وقد استخدم الحكم والمحكوم عليه في مقدّمة المستصفى كما سنرى. والمحكوم اسم مفعول من حكم ، أطلق حكما مرادا منعه عن التبديل والتغيير والتخصيص (2). ويلعب المحكوم عليه دور الموضوع في القضيّة المنطقيّة. ويستعمل اللفظ في الشرعيات ، «وأثر الخطاب المترتّب على الأفعال الشرعيّة ... كلّ ذلك محكوم اللّه تعالى ثبت بحكمه وإيجاده وتكوينه ، وإنّما سمّي حكم اللّه على لسان الفقهاء ...» (3) ويعني الحكم أيضا القضيّة ككلّ. فنقول حكمنا أنّ كلّ خمر مسكرة. وقصد الغزالي بالحكم في المحكّ ومقدّمة المستصفى ما يحمل على المحكوم عليه.
    ويطلق تعبير الحكم في الشرعيّات ، لأنّه : «عبارة عن حكم اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين» (4) فأفعال المكلّفين هي المحكوم عليه. وكلمة حكم في اللغة هي : «الصرف والمنع للإصلاح ... ومن قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ أي منعت وحفظت عن الغلط والكذب والباطل والخطأ
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 23.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 139.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 157.
    (4) الجرجاني ، التعريفات ، ص 64.

    والتناقض ... وفي اصطلاح أصحاب الأصول خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتصاد أو التخيير ...» (1) فثمّة علاقة بين الحكم والحكمة في طبيعتها الدينيّة.
    ويتبادر من هذه التعريفات اتفاقها على دور الحكم : إنّه إسناد أمر إلى آخر. لكن يختلف الغرض والمضمون أصوليّا أو فقهيّا أو لغويّا. فعملية الحمل هي ربط حدّ بآخر أو مفهوم بمفهوم آخر. والحكم أيضا يسند معنى أو مفهوما إلى آخر ، بغرضيّة القطع والبت والتقويم والحفظ. ويأخذ معنى الحكم خلفيّة دينيّة ، فيدور حول طبيعة الأمر والمأمور ، ومفهوم الواجب والتكليف. وذكر الجرجاني أنّ الحكم هو إسناد المحمول إلى الموضوع (2) وسنوفي الحكم بمعناه الحديث شرحا لاحقا. إنّما تبقى جذور اللفظة لغويّا والعادة في استعمالها شرعيّا ، هي الأقوى والأعرف. وملخّص الرأي بأنّ لكل مصطلح تفسيرا ودورا إجرائيا وظرف استعمال يختلف عن الآخر. إلا أنّ الواضح هنا تبنّي الغزالي للاصطلاح بقصد مزج المنطق بعلوم المسلمين مزجا كليا ، وتفسير قواعده بعد تمثّلها بالعقليّة الإسلاميّة وانطباعه بنمط تفكيرها.
    يتناول الغزالي القضيّة فيقسّمها إلى قضيّة في عين ، وقضيّة مطلقة خاصّة ، وقضيّة مطلقة عامة ، وقضيّة مهملة (3). ويقابل القضيّة المعيّنة أو القضيّة في عين : القضيّة الشخصيّة في المعيار. ويماثل المطلقة الخاصّة : الجزئيّة. والمطلقة العامّة : الكليّة. ولم تختلف الشروح المنطقيّة في المحكّ عن المعيار. فالذي يحدد الخاصّ أو العامّ في القضيّة هو السور الذي يبيّن مقدار الكمّ 4. وذكرنا من قبل في مبحث الحدّ بالمحكّ تعريفا
    __________________
    (1) الكفوي ، الكليّات ، ص 157.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 24.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 24.
    (4) المصدر نفسه ، ص 24.

    للتعيين والمعيّن. فالقضيّة المعيّنة تلك التي يكون موضوعها واحدا ، لأنّ التعيين هو التحديد وامتياز الشيء من غيره. وإذا كانت القضيّة الشخصيّة اصطلاحا تأثّر به الغزالي بابن سينا وذكره في المقاصد والمعيار ، فإنّ القضيّة المعيّنة تفاعل بها الغزالي مع اللغة العربيّة وأصول الفقه. ولقد استخدمها في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وكنّا وضّحنا أيضا معنى المطلق ، وذكرنا أنّه يحمل بمعناه العموميّة ، ويدلّ على غير المعيّن وغير المقيّد في الفقه.
    ويستعمل الغزالي المطلقة العامّة في المحكّ ومقدّمة المستصفى ليشير إلى القضيّة الكليّة. والإطلاق العامّ هو يحمل معنى على معنى ليتشكّل حكم عامّ. وقد عرف الجرجاني المطلقة العامّة قائلا : «هي التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه» (1).
    فعمليّة الإطلاق العامّ تعني إطلاق مفهوم على عموم الموضوع ، وهذا يفيد في الأصول بإطلاق الأحكام العامّة تعميما أو تخصيصا. بينما تدل المطلقة الخاصّة على إطلاق الحكم أو حمل المفهوم على حال معيّنة مقيّدة ، وهذا يفيد في الفقهيّات التي تميّز بين الأحكام العامّة والحكم الخاصّ.
    ويوحي الاختلاف بتبنّي الخلفيّة الإسلامية تماما والخروج من المصطلحات المنطقية. وبهذا نرى التحوّل في كتابة الغزالي ، الذي انتقل من منطقيّ ناسخ في المقاصد ، إلى مستخدم للتعابير في المعيار (القضيّة العامة والقضيّة الخاصّة) ، حتى بلغ مداه عالما إسلاميا أصوليا في المحكّ.
    فسخّر القالب المنطقي للإطلاق العامّ والخاص الفقهيين. وقد حدّد غرضه في تنقيح النظريّات والاستفادة منها بالفقهيّات ، إذ قال : «إيّاك أن تسامح بهذا في النظريات ، فتغلط ومثاله من الفقه ..» (2) ويتناول الغزالي في
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149.
    (2) الغزالي ، المحكّ ، ص 25.

    المحكّ ، وفي معظم أمثلته على القضيّة ، أقوالا فقهيّة ، مبيّنا مثلا ضرورة الاحتراز من القضايا المهملة ، وعدم اعتبارها قضايا عامة أو كليّة. فيذكر :
    أن المطعوم (1) ربويّ ، قضيّة مهملة ، لا يصحّ اعتبارها عامة في قياس ، كما فعل الشافعي (2). وظهرت في المحكّ القضايا ذوات الجهة أيضا بشيء من الاختصار. وحلّ تعبير الاستحالة مكان الامتناع.
    لم يغضّ الغزالي الطرف عن تقابل القضايا ، فقد ذكرها ، وتحدّث عن القضيّتين المتنافيتين التي تصدق إحداها وتكذب الأخرى. ومثالهما : العالم حادث ، العالم ليس بحادث (3). كما وضع مجموعة شروط لتقابل القضايا ، تتطابق في جملتها مع ما جاء في المعيار. لكنّها تختلف بأمثلتها المستوحاة من الإسلام. فأورد مثلا قرآنيا ليؤكد على ضرورة وحدة الحكم ، أو المحمول ، في المتقابلتين ، قال : «العالم قديم ، العالم ليس بقديم. وأردت بأحد القديمين ما أراد اللّه تعالى بقوله : (كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ..) (4). وذكر مثالا فقهيا ليصرّ على وحدة الإضافة في المتقابلتين ، أيضا : إذ «المرأة مولى (5) عليها ، المرأة ليس بمولى عليها. وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة ...» (6). فلم تعد القضيّتان متقابلتين هنا ، لأنّ المرأة مولّى عليها بمعنى ، وليس مولّى عليها بمعنى آخر.
    __________________
    (1) المطعوم من طعم وطعام. ويستعمل الفقهاء التعبير للدلالة على الأطعمة من تمر وقمح ورز وشعير وسفرجل وغيرها. وغرض الغزالي ضرورة الحذر وتبيان كم القضيّة فيقال بعض المطعوم ربويّ مثلا.
    (2) المصدر نفسه ، ص 25.
    (3) المصدر نفسه ، ص 26 ـ 27.
    (4) المصدر نفسه ، ص 27.
    (5) أي عليها وليّ أمر وكيل ومسئول.
    (6) المصدر نفسه ، ص 27.

    وتطرّق الغزالي إلى عكس القضايا في تفصيله الرابع ، عقب التقابل ، جاعلا للعكس دورا في الاستدلال والبرهان والدليل الفقهيّ. فإذا لم تتطابق ، مثلا ، القضية المطلوبة مع الدليل النصّي والفقهيّ ، اعتمد العكس. وربما حصل المراد في حينها. «وهذا أيضا ـ أي العكس ـ يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على المطلوب نفسه ، ويصادف على عكسه فيمكن التوصّل منه إلى المطلوب ...» (1) وهكذا يدخل الغزالي المنطق ضمن علوم المسلمين ، جاعلا العكس أداة استدلال تدعم عمليّات الاجتهاد والأحكام. فيرى أنّنا بعكس القول أو الحكم ، نعمل على حلّ التنافي بينهما وبين النصّ. ويؤدي التوافق بين الحالين إلى حصول الاجتهاد. ولم يغب عن باله حالات العكس ، وشروطها ، لكنه تميّز من المعيار بذكر الأمثلة الفقهيّة واستخدام التعابير الأصولية ، فقال : «وأعني بالعكس أن تجعل محكوما عليه والمحكوم عليه حكما ، ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضيّة صادقة ..» (2) ، كما ذكر القضايا الأربع وعكسها ، لكنّه اصطلح على تسميتها الإسلامية : «نافية عامّة ، ونافية خاصّة ، ومثبتة عامة ، ومثبتة خاصّة». وسبق أن وضّحنا العامّ والخاصّ وتميّز المحكّ بهما. والنفي هنا بمعنى السلب : «وما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة» (3). أما الإثبات فبمعنى التأكيد ، ويسمى بالمنطق الإيجاب والموجب.
    أما بحث القياس فلم يستطع الغزالي في «محكّ النظر» مجاوزة عادته التي دأب عليها في بداية فقرة القياس من كلّ مصنّف. وربّما كرّر من دون شهوة ، واقتضاء ذلك وحدة المضمون القياسيّ ، وعدم اختلافه في عناصره وأسسه بين كتاب وآخر. وها هو يبدأ بحثه في هذه الفقرة بالقول : «إنّ القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة ألّفت تأليفا مخصوصا ونظّمت نظما
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 30.
    (2) المصدر نفسه ، ص 30.
    (3) المصدر نفسه ، ص 30.

    مخصوصا بشرط مخصوص ، يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر. والخلل يدخل تارة من الأقاويل التي هي مقدّمات القياس ، إذ تكون خالية عن شروطها ، وأخرى من كيفيّة الترتيب والنظم وإن كانت المقدمة صحيحة يقينيّة ، ومرة منهما جميعا ..» (1) فكل ما جاء في الفقرة شبيه بما تصدّر القياس في المعيار والمقاصد.
    ومن ثم يسير الغزالي على وتيرة توزيع القياس إلى صورة ومادّة ، جاعلا من صحة الاثنين طريقا لتكوين الصحيح من الفاسد. وكان البحث في المحكّ أشدّ اختصارا منه في المعيار. لكنه اختلف بنيويا ، وخصوصا في المصطلح والأبعاد والغرض. إذ نجد أن الغزالي انعتق من المحافظة على التعابير المنطقيّة والمعاني الفلسفيّة ، وأخذ بتطبيع المصطلحات بالمضامين الإسلامية تماما.
    وأحدث الغزالي في المحكّ موضوعات جديدة ، أبرزها حصر مدارك الأقيسة الفقهيّة وطريقا الإلحاق. وبرزت هذه الجدّة مترافقة مع الميل التامّ نحو معاينة المسائل الدينيّة والخصوصيّات اللغوية ، التي ستظهر جليّة خلال تحليلنا. وسنستنير في المقارنة بين القياس في المحكّ والمعيار ، فنميّز خطّ التحوّل ، كشفا لتوجّه الإمام ، وإبرازا للمصطلحات والمفردات بمعانيها وأغراضها.
    بدأ الغزالي تصفّحه أنواع الأقيسة ، فذكر النوع الأول منها هو الحمليّ ، الذي احتبسه على ثلاثة أشكال ، سمّي الشكل منه بالنظم.
    والنظم اصطلاح جديد بزغ في المحك واعتمد. وهو يشير في حقيقته إلى دلالات دينية ولغويّة. ف‍ «النظم ، هي العبارات التي تشتمل عليه المصاحف صيغة ولغة» (2). و «النظم في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك ، وفي
    __________________
    (1) الغزالي ، محكّ النظر ، ص 6 ـ 7.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 166.

    الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مترتّبة المعاني متناسبة الدّلالات على حسب ما يقتضيه العقل ...» (1). و «النظم الطبيعي هو الانتقال من موضوع المطلوب إلى الحدّ الأوسط ثمّ منه إلى محموله حتى يلزم منه النتيجة» (2).
    فاللفظة تحمل دلالات وجذورا دينيّة ولغوية. مما يؤكد بدء اتّسام معاني الغزالي المنطقيّة بالسّمات الإسلامية البحتة.
    أما النظم الأول من القياس الحمليّ فصورته بأن «تكون العلّة حكما في إحدى المقدّمتين محكوما عليه في الأخرى ..» (3). ونرى الغزالي يضع تعبيري الحكم والمحكوم عليه ، ويستحدثهما بدلا من الموضوع والمحمول ، مثلما صنع في مبحث القضيّة من هذا الكتاب. كما يدخل العلّة مكان الحدّ الأوسط ، إذ يقول : «فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدّمتين علّة .. فإنّه إذا قيل لك لم قلت إنّ النبيذ حرام فنقول لأنه مسكر ..» (4). ومن ثمّ درجت العلّة في المحكّ وفي مقدمة المستصفى ، كما سنرى. وتقوم العلّة بربط الحكم في الكبرى بالمحكوم عليه في الصغرى. بينما تقوم في الفقه بربط الأصل بالفرع. وقد أعطى أبو البقاء تعريفا لها اقترب من وجهة نظر الغزالي ، فقال : «العلة ما يتوقف عليه الشيء ... اللّه أوجب الحكم لأجل هذا المعنى ، والشارع على ذكره قد أثبت الحكم بسبب .. فيضاف الحكم إلى اللّه تعالى إيجابا وإلى العلّة تسبّبا.
    كما يضاف الشبع إلى اللّه تخليقا وإلى الطعام تسبيبا (5). هناك إذا علّة أوجبت معنى الحكم في الأصل ، وهي توجب الحكم بالفرع. كما أنّ هناك علّة تعاقبية سندها الحقيقي اللّه. وينحو الغزالي فلسفيّا هذا المنحى.
    __________________
    (1) المرجع نفسه ، ص 166.
    (2) المرجع نفسه ، ص 166.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 31.
    (4) المصدر نفسه ، ص 32.
    (5) الكفوي ، الكليّات ، ص 250.

    وكان أن وضّح الغزالي مثاله عن الخمرة ودور العلة ، قائلا : «إنّ في هذا القياس مقدّمتين إحداهما قولنا لكلّ نبيذ مسكر والأخرى قولنا كلّ مسكر حرام» (1). فالنتيجة : إنّ النبيذ حرام. وقياس التعليل هذا عند الأصوليين مرده إلى أنّ النبيذ محرّم قياسا على الخمر ، والعلّة الجامعة أو الحدّ المشترك هو الإسكار. ويظهر ذلك أيضا في جواب المطالب ، «لم» يكون النبيذ حراما؟ لأنّه مسكر.
    ولم تكن مسألة التماس العلّة واجتلابها مجرّد اصطلاح يدخل على الشروح توفيقا وتجميعا ، إنّما كان تطويعا للمنطق بالأصول ، وتمثّله على ضوء المعطيات والسمات الإسلامية. وتعني العلّة في الأصول في ما تعنيه : أنّ هناك الأصل وهناك الفرع ، وما يجمع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلّة. وكان هذا رأي الجويني في البرهان (2). ـ علما أنّ الجويني ، أستاذ الغزالي ، كان قد نقد بعض آراء المنطق الأرسطويّ وتبنّى آراء أخرى (3) ـ فسار التلميذ على المنوال نفسه ، موسّعا دائرة تبنّي القالب الأرسطويّ ، وكيّفه في خدمة العلوم الإسلاميّة ، كما يظهر تدريجيّا خلال استعراض القياس في كتبه. وما يمكن قوله إنّ استغناء الغزالي عن استعمال الحدّ الأوسط واستعاضته عنه بالعلّة يعتبر تحوّلا تامّا في النظرة ، وتحويلا للمنطق نحو المفاهيم الأصوليّة. فلقد تعدّت العمليّة مجرّد إعطاء الأمثلة الفقهيّة وتطعيم الألفاظ ، مثلما كان الأمر في المعيار. وبلغ المزج طورا أحدث بنية تركيبيّة جديدة على صعيد المضمون والمصطلح والأبعاد. إذ العلة للجمع بين الأصل والفرع ، أمّا الأوسط فللتداخل بين الأصغر والأكبر ـ ولا ينفي هذا عدم استعمال ابن سينا العلّة حدّا أوسط. لكن ذلك كان في حكم النقل عن أرسطو ـ ولكلّ منها أبعاد منطقيّة.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 31.
    (2) أنظر النشار ، مناهج البحث ، ص 130 ، نقلا عن مخطوط البرهان للجويني.
    (3) المرجع نفسه ، ص 77 ، استنادا إلى مخطوط البرهان.

    وأصبح القياس في تحاليله إسلاميّا من دون أن يغفل بعض الأمثلة الطبيعيّة والفلسفيّة (1) من التي وردت في المعيار والمقاصد. وبهذا انقلبت الأدوار ، فقد طعّم المعيار بأمثلة فقهيّة ولغويّة. بينما طعّم المحكّ بأمثلة منطقيّة وفلسفيّة. وتميّز الغزالي في عرضه الأشكال الثلاثة بربطه شروط الشكل بشروط اليقين ومادّة المقدّمات ، وخصوصا في المجالات الفقهيّة.
    «فإن نازعك الخصم في قولك كلّ مسكر حرام فإثباته بالنقل ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : «كلّ مسكر حرام» فإن لم تتمكّن من تحقيق تلك المقدمة بحسّ ولا غيره ، ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره ، لم ينفعك القياس ...» (2).
    ولم يوفّر الإمام التعابير البديلة بالموضوع والمحمول ، فتارة استخدم المحكوم عليه والحكم وأخرى استعمل الموصوف والصفة (3) ، وطورا الخبر والمبتدأ (4). ونال الإثبات والنفي حظّا من ذلك واستبدلهما بالإيجاب والسلب. وكانا قد وردا في معرض ذكره شروط النظم الأوّل والثاني. أمّا الإيجاب والإثبات فيدلاّن على حكم مؤكد ثابت بالاقتصاد لا يحتمل النفي ، ويأخذ دلالة الحدّ بالحدّ الآخر. ف‍ «الإيجاب أقوى من الاقتضاء ، لأنّه إنّما يستعمل في ما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدّلالة» (5). أمّا «الإثبات فهو الحكم بثبوت شيء لآخر ـ وله معنى الإيجاب نفسه ـ ...
    ويطلق على العلم إثبات المعلوم على ما هو به (6). وطغى الإيجاب والقضيّة الموجبة على المعيار والمقاصد. بينما ظهر الإثبات في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وعلى الرغم من كون الإيجاب والإثبات يشكلان معنى
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 31 ، ص 32.
    (2) المصدر نفسه ، ص 33.
    (3) المصدر نفسه ، ص 33.
    (4) المصدر والصفحة نفسهما ، والمعيار ص 71.
    (5) الجرجاني ، التعريفات ، ص 28.
    (6) الكفوي ، الكليّات ، ص 13.

    واحدا ، إلاّ أنّ استخدام كلّ منهما له أبعاده المعيّنة. ونرجّح من جهتنا أن للإيجاب بعدا منطقيّا رياضيّا يعبّر عن الكمّ. أمّا الإثبات فيدلّ على الحكم ويرمز إلى البعد الكيفيّ الذي يخدم في المسائل الفقهيّة والأحكام. إذ يحمل شيئا على شيء من دون دلالة كميّة أو رياضيّة. وربّما وعى الغزالي ما رجّحناه ، فأحسن استخدام الاصطلاح تبعا لغرض كلّ كتاب واتّجاهه المنطقيّ أو الفقهيّ. وربما كان تداوله للمصطلح لا واعيا. وفي الحالين يكون الإمام قد أصاب هدفه. فكان اختيار اللفظ تعبيرا عن توجّه المضمون وشكل المعالجة. والحال نفسها في استخدام الغزالي لمصطلحي السلب والنفي. وهما يدلاّن على المعنى نفسه. ويؤدّيان إلى نزع الشيء عن الشيء الآخر. وجاء تعبير السلب في المقاصد والمعيار ، بينما كان النفي في المحكّ والمستصفى بشكل أظهر. ويأتي النفي بمعنى سلب الصفات ، أو انتزاع حكم عن الموضوع ، وهو يفيد في الأحكام.
    ويعطي أبو البقاء مثالا دينيّا على ذلك فيقول : «قوله تعالى (وَمٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ) إنّما جيء به في مقابلة العبيد (1) ، أي جيء بالحكم لنزعه عن العبيد. فيدلّ النفي إذا على نزع الحكم أو نزع الصفة عن الموضوع. وهذه وقائع الشرعيّات. بينما يفيد السلب في الدلالات الرياضيّة التي لها أبعاد كميّة. ويعمل منطقيّا على انتزاع أو استبعاد التداخل بين الحدود.
    وعلاوة على كلّ هذا التوجّه لم ينبذ الغزالي القواعد الأساسية لأنواع الأقيسة وأشكالها (2). إذ قال في النظم الثاني : «من نظم القياس أن تكون العلّة ، أعني المعنى المتكرّر في المقدّمتين ، حكما ... أعني أن يكون خبرا فيهما ولا يكون مبتدأ ...» (3). فالعلّة والمبتدأ والخبر مفاهيم دينيّة
    __________________
    (1) الكفوي ، الكليّات ، ص 355.
    (2) الغزالي ، المحكّ ، ص 32 ـ 44.
    (3) المصدر نفسه ، ص 35.

    ولغويّة ، لكنّ شروط التركيب تنطلق من قاعدة القياس السلجستي. ولم تكن الشروح مغايرة كثيرا عن المنطلقات. إذ استمرت عمليّة عكس إحدى مقدّمات النظم الثاني والثالث ، فاستحال القياس إلى النظم الأوّل. وذكر الغزالي القواعد نفسها الواردة في المعيار ، إلاّ أنّ أمثلته كانت دينية وفقهيّة ، ولا سيّما تعابيره في الحدود والقضايا. ونادى بنافية عامّة ومثبتة خاصة .. ومن أمثلته الفقهيّة أنّ : «الربويّ والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد هو البرّ فيلزم بالضرورة بينهما التقاء ، وأقلّ درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصّا» (1). وهذا يجدّد رأينا بأن بنية الشرح والتحليل والأمثلة متكاملة وذات منحى واحد. إنما حلّ في المحكّ الحكم والمحكوم عليه والخاصّ والعامّ والنافي والمثبت والمبتدأ والخبر والعلّة. وطرحت جزئيا التعابير المنطقيّة المقابلة كالتي وردت في المعيار والمقاصد. فالمنحى المنطقيّ الصوريّ واحد ، أمّا الأبعاد والخلفيّات فلكلّ طابع سماته ورموزه.
    وكانت الحال كذلك في الأقيسة الشرطيّة. فالمتصل أصبح في المحكّ بحسب قول الغزالي : «ولنسمّ هذا النمط نمط التلازم (2). وقد أخذ بالتلازم في المحكّ والقسطاس ومقدّمة المستصفى. وتطلق الملازمة والتلازم على معنى اللزوم. ولازم الشيء ما يتبعه ويردفه (3). واللّزوم هو عدم المفارقة ، وهناك لزوم شيء عن شيء ، بمعنى كون الأول ناتجا عن الثاني. واللزوم فقهيّا ما حكم فيه بصدق قضيّة على تقدير قضيّة أخرى لعلاقة بينهما. ولم تكن المسألة مجرّد اختلاف بين لفظين وشرحين ـ (الشرطي والتلازم) ـ ، بالرغم من أنّ مضمونهما واحد ، بل يخفي اختلاف التعبير اختلافا في التحليل. فالتلازم يشير إلى الأحكام المهيّأة
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 37.
    (2) المصدر نفسه ، ص 39.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 318.

    الجاهزة. كما تشير المقدّمة المتلازمة إلى المقدّمة التوكيديّة (الدوغماطيّة). وتتأتّى توكيديّتها من ورودها بالتواتر أو بالنصّ الشرعيّ ، الذي يجعلها تأخذ هذا الشكل المترابط. بينما يحمل الشرطي المتصل في معناه إمكانية الاحتمال. فهو علاقة منطقية أكثر منه علاقة نصيّة قائمة ومترابطة. «والشرطيّ هو الذي يتوقف عليه الشيء ، ولم يدخل في ماهيّة الشيء ، ولم يؤثر فيه» (1). لذلك تعبّر القضايا الشرطية عن العلاقة الصوريّة أكثر ممّا تعبّر عن تداخل الحدود وتصوّر خلفيّات منطقيّة محدّدة. والشرط في العربيّة «إلزام الشيء في البيع ونحوه كالشرطيّة (2). واستعمل تعبير الشرطيّ المتّصل في المقاصد والمعيار. والاتصال بمعنى الترابط والتتابع بين حالين ، ويعرّفه الجرجاني فيقول : «هي ـ المتصلة ـ التي يحكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها على تقدير أخرى (3). والاتصال عكس الانفصال يؤدّي إلى ترابط حكمين أو قضيّتين تسبقان بأداة شرط. وربما توحي القضايا الشرطيّة بنوع من مفهوم الاحتمال العقلي. أمّا تعبير التلازم فيوحي بالارتباط الحتميّ ، كونه يستند على التلازم مع المعنى النصّي. مثل الوضوء للصلاة. وأمّا القول : إذا كانت الشمس طالعة فالنهار قائم ، فيستند على الاحتمال بين الاصطلاحين ودور كلّ منهما في البحث لا أكثر دون اليقين. لأن التلازم والاتصال في النهاية يصبّان في معنى واحد ، لكنّنا نميّزهما في دورهما المنطقيّ. وكانت أمثلة الغزالي على نمط التلازم في المحكّ (4) مشابهة لأمثلة الشرطي المتصل في المعيار.
    ووضع التعاند في المحكّ أيضا بديلا عن الشرطيّ المنفصل ،
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 86.
    (2) الكفوي ، الكليّات ، ص 214.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 134.
    (4) الغزالي ، المحكّ ، ص 39 ـ 41.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:03 am

    مقاصد الفلاسفة معيار العلم محكّ النظر
    الممتنع الممتنع الاستحالة
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب الوجوب
    الوجوب الوجوب السبر
    الوجوب الوجوب التقسيم
    __________________
    (*) تشير الإشارة ـ إلى عدم وجود مصطلح يقابل المصطلح الوارد في الكتب الباقية أو إلى عدم استخدام هذا المصطلح في الكتاب.

    طبيعة الكتاب وموضوعاته
    تدور أبحاث المحك حول موضوعات المنطق التقليدية : الحد والقضية والقياس.
    وترتدي هذه الأبحاث ميزة مختلفة عن الكتب المنطقية التي سبقتها كمقاصد الفلاسفة ومعيار العلم. ففيه نحا الإمام منحى مغايرا لمصطلحات المنطق التقليدية وأمعن بالإيغال في المضامين الإسلاميّة والمصطلحات العربية والفقهية والكلامية إذ ينقسم مبحث الحد في المحك إلى موضوعين أساسيين يقعان ضمن قسمي الكتاب. فيحتل موضوع الألفاظ والمعاني جزءا من القسم الأول ، وموضوع الحد القسم الثاني كلّه. وبالشكل التالي من التبويب :
    ـ الفن الأول : قسم القياس ، وفيه يعالج الغزالي «النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني ...» (1).
    ـ الفن الثاني : قسم محك الحدّ ، وفيه يعالج الإمام فنّين : أولهما قوانين الحدّ ، وثانيهما امتحان الحدّ.
    ولعلّ تأجيل بحث الحدّ وتأخيره مردّه طبيعة هذا البحث الخارجية
    __________________
    (1) الغزالي ، محكّ النظر ، مصر ، المطبعة الأدبية ، د. ت ، ص 8.

    والغريبة عن الفكر الإسلامي وعقليته. فالمسلمون لم يعوا الحدّ إلاّ في دوره الاسمي المميّز بين الألفاظ.
    لقد اقتصر التوجّه بالمعيار نحو بعض الأمثلة الفقهية ، وكانت بمثابة التمهيد للمحكّ ، إذ يقول الغزالي : «رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته ، وتعمّ سائر الأصناف جدواه وفائدته. ولعل الناظر بالعين العوراء ، نظر الطعن والإزراء ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليّات القطعية بالأمثلة الفقهيّة الظنيّة.
    فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه ، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها. فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفيّ بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد ، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده ، فيستقر المجهول في نفسه ... (1).
    فاقتصر غرضه على إعطاء الأمثلة الفقهية ، لاستساغة الأمور العقلية لا أكثر ويعترف بأنه يقوم بصناعة فكرية للتفهيم. بينما الأمر في «المحك» يختلف تماما ، فثمة تجاف وتباعد عن غرض التقليد والاتّباع ، ـ قاصدا اتّباع ابن سينا ـ واقتراب إلى الإبداع وتأليف المنطق الإسلامي الذي يرشد إليه نور اللّه والاستبصار المعرفيّ. «وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع عن حضيض التقليد ، مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع والاستبصار ، مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا ، كان نظره كلّه هباء ، وإن لم يوفّقه للعمل بما علمه كان جهده كلّه عناء ...» (2).
    وبدل أن يسمّي مبحث الحدّ تصوّرا يسمّيه في المحك المعرفة. ويصرّح بأن المعرفة متأتّية من اللغة العربية. و «يقول النحاة أن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد ، إذ يقول عرفت زيدا ، والظنّ يتعدّى إلى مفعولين ، إذ تقول
    __________________
    (1) الغزالي ، المعيار ، ص 27.
    (2) الغزالي ، المحك ، ص 3 ـ 4.

    ظننت زيدا عالما. والعلم أيضا يتعدّى إلى مفعولين ...» (1).
    وعوضا أن يكون التصوّر ينال بالحدّ ، يصبح الأمر : «المطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحدّ ، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس ...» (2).
    إن المرجّح أنّ الغزالي قصد في استعمال مصطلح المعرفة ، إدراك الأسامي والمعاني المفردة. وكلمة معرفة من «عرف» و «معرّف» ، ويشرح الجرجاني المعرّف بأنه : «ما يستلزم تصوّره اكتساب تصوّر الشيء بكنهه أو بامتيازه عن كلّ ما عداه ، فيتناول التعريف بالحدّ ...» (3). وهكذا يجعل للمعرّف دورين : تصوّري وتمييزيّ. فيوصل الدور التصوري لماهيّة الشيء وحقيقته ، ويهدف الدور التمييزيّ تفريق اللفظ عمّا عداه. ولم يكن الأمر عند الغزالي في المحكّ غير هذا التوفيق بين الدورين الماهويّ واللغويّ.
    والحال نفسها في المعيار وفي كلّ الاتجاه المنطقي الذي سنستعرضه لاحقا.
    وتجدر الإشارة أن استخدام المصطلح بقي ضمن الأغراض المنطقيّة واللغويّة ، وربّما ارتبط تعبير المعرفة «ابستمولوجيّا» بنظريّة العرفان الصوفيّ ، التي بدأ يتأثر فيها الإمام إبّان تأليفه المحكّ وبعده. بينما يوحي استعمال لفظة التصوّر في المعيار ذاك الإدراك الاسميّ والعقليّ لماهيّة الشيء. ويقول فيه الجرجاني مثلا : التصوّر هو «حصول صورة الشيء بالعقل .. وهو إدراك الماهيّة من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات» (4).
    وقد اصطلح الغزالي في موضوع الألفاظ والمعاني مجموعة
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 5.
    (2) المصدر نفسه ، ص 6.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 150.
    (4) المرجع نفسه ، ص 40.

    مصطلحات وأمثلة مغايرة لما ورد في المعيار ، وسنذكرها كما يلي :
    ـ يطلق الغزالي ، تمشيا مع ابن سينا ، على الجزئي والكلّي تعبيري الخاصّ والعامّ. وقد أشير إلى ارتباط هذه الألفاظ بالتصوّر اللغويّ العربيّ.
    لكنّ الأمر في المحك يتبدّل ، فيستعمل الإمام المعيّن والمطلق (1). واللذان وردا في المعيار. إنما التعبيران هنا يحلاّن نهائيا محلّ الخاصّ والعامّ.
    وقصد الغزالي بلفظة معيّن ما يدلّ على عين واحدة. وهذا هو دور الاسم أو اللفظ في اللغة العربية. والبيّن أن الفقه وعلماء العربية يستخدمون اللفظة للتمييز بين الأسماء. فلكلّ معنى لفظ معيّن محدّد. ويلعب المعيّن استنادا إلى ذلك دور المحدّد ، الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد.
    ويقول الجرجاني : «التعيين ما به امتياز الشيء عن غيره ، بحيث لا يشاركه فيه غيره» (2). وكنّا قد ذكرنا معنى الجزئي ومدلوله وكيف لم يجرّد المسلمون التصوّر إلى كلّي وجزئيّ. بل انحصروا في الخاصّ والعامّ ، وكلّها مدلولات عربيّة. أمّا هنا فالمصطلح مطابق للغة العربية ولدورها المعبّر عن الأفراد وعن ذاك الواحد المشخّص (هذا الإنسان). فالمحكّ يذهب بالمنطق إلى حدود الاندماج بالعربيّة وإخراج المعرفة أو التصور بقالب إسلاميّ وعربيّ. ويظهر الأمر جليّا في مدى تعبير المصطلح عن البعد الماصدقيّ ، في الباب التالي. ومثلما المعيّن كذلك المطلق ، فقد استعمل الغزالي هذا المصطلح بالمحكّ بديلا للعامّ في المعيار والمقاصد.
    وتحدّث ابن سينا عن المطلق مقابل الضروريّ في استعراضه للممكنات (3). وقصد بالمطلق بيان غير الضرورة ، أمّا الضرورة فهي المشروطة بقانون وجوديّ طبيعيّ. وبقيت أحكام المطلق ضمن قوانين الطبيعة لديه ولدى الفارابي أيضا. أما الغزالي فاستخدم تعبير المنطق ليدلّ
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 10 ـ 11.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 51.
    (3) ابن سينا ، الإشارات ، ص 308 ـ 317 والشفاء ، القياس ، ص 22.

    على ما هو مغاير للمعيّن ، بل وعكسه. ويحمل المطلق بمعناه العمومية وقد عرّفه الجرجاني «أنه ما يدلّ على واحد غير معيّن» (1). ويقول عنه أبو البقاء : «المطلق هو الدّال على الماهية من غير دلالة على الوحدة والكثرة ، والنكرة دالة على الوحدة ولا فرق بينهما في اصطلاح الأصوليّين» (2). ويرتكز المطلق عند المسلمين على منحى لغوي ، يعتبر اللفظة معرفة وليست نكرة. واستعمل لفظ المطلق في الفقه ليشكّل نقيض المقيّد. إذ يجري الحكم في الأصول على إطلاقه ، إلا إذا وقع تقييد ، مثاله : «قوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) والمقيّد ما تعرض ذاتا موصوفة بصفة ، كقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)» (3).
    والأرجح اتّجاه الإمام إلى التأثر بالعربية والأصول في تداوله المطلق في المحك ، أكثر منه اتّباعا لابن سينا. ويزيد من ترجيحنا الاقتناع بأنّ مسائل البحث فقهيّة ، وغرض الكتاب ، كما صرّح ، تعليمي إسلاميّ.
    ولأن الغزالي بعيد هنا عن معالجة الأمور الطبيعية والوجوديّة. ويدلّ على ذلك أيضا تلك الأمثلة التي أدخل عليها (أل) التعريف فاستحالت مطلقة.
    فإذا كان «هذا السواد» معيّنا ، أصبح تعبير «السواد» مطلقا (4) وكل هذا يدل على أثر اللغة العربية أو بالحريّ علم الأصول.
    يستخدم الغزالي جملة أمثلة في دلالة الألفاظ على المعاني ، وجاء بعضها مغايرا للمعيار. وهي تبتعد عن التمثّل بمفهوم الماهيّة واندراج الجنس والنوع ، وتأخذ طابع مفردات اللغة العربية ومعاني الأمثلة الفقهيّة.
    فيقدّم الغزالي أمثلة على الترادف : الليث والأسد ، والخمر والعقار.
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149. الكفوي ، الكليات ، ص 341.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 342.
    (4) الغزالي ، المحكّ ، ص 11.

    وعلى المتواطئة : الرجل الذي يطلق على زيد وعمرو وبكر. وعلى المشتركة : اسم المشتري على قابل عقد البيع ، والكوكب إلخ ... (1).
    وإذا قارنا ما سبق مع ما ورد في المعيار ألفينا أمثلة الأخير تدور حول موضوعات تستند على الماهيّة وتسلسل الأجناس والأنواع. وهي أقرب إلى التأثر بابن سينا ، فمثله على المتواطئة : إطلاق الحيوان على الفرس والإنسان والطير. ومثال اللازم في المحكّ تلخص في : كون الأرض مخلوقة (2) ، فمخلوقة وصف لازم للأرض ، يتّضح فيه المعنى القرآنيّ. بينما مثال اللازم في المعيار صفة ذاتيّة غير مقوّمة : الولادة للطفل.
    ـ تناول الغزالي بالمحكّ علاقة الذاتيّ بالمعاني. فبدل أن يعتبره تجريدا ومقوّما كليّا للنوع والجنس اعتبره صفة بالمعنى اللغويّ. واستندنا على ذلك من خلال أمثلته التي تنحصر في اللونيّة والجسميّة ، ومن تصريحه بأن الذاتيّ يسمّى صفة النفس (3). وقد اختلفت الحال في المعيار ، كما بيّنا في حينه.
    ـ يتهرّب الإمام في المحكّ من كلّ مثال يتعلّق بالماهية الأرسطوية ، أو باندماج الأجناس والأنواع. وهو يذكر مجموعة أمثلة في المحكّ تتناول المساوي والأعمّ والأخصّ. وهي بحسب الترتيب : جسم متحيّز للمساوي. والوجود للجسم للأعمّ ، والحركة للجسم للأخص (4). بينما اختلفت الأمثلة في المعيار في هذه الموضوعات. فكان مثال المساوي : الحيوان للحسّاس. ومثال الأعمّ : الحيوان للإنسان. ومثال الأخصّ : الإنسان إلى الحيوان (5) وربما تخوّف في المحكّ من أن يجعل الإنسان ضمن
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 12 ـ 13.
    (2) المصدر نفسه ، ص 18.
    (3) المصدر نفسه ، ص 17.
    (4) المصدر نفسه ، ص 17.
    (5) الغزالي ، المعيار ، ص 57.

    الحيوان ، فلجأ إلى الأمثلة المحسوسة الطبيعية تحت فعل البعد الدينيّ.
    والملخّص من موضوع الألفاظ والمعاني في محكّ النظر ، هو تلك الاختلافات بينه وبين المعيار والتي عرضناها بإيجاز سابقا. ويؤكد كلّ ذلك الاتجاه اللغويّ الذي بدأه الغزالي في المعيار بتأثير من طبيعة اللغة. وقد تعمّق هنا في المحكّ وأخذ طابعا دينيّا فقهيّا. تجاوز حدود الالتزام بأبعاد المنطق أحيانا. ويمكن القول : إنّ الكلّي ، بوصفه عمليّة منطقيّة صوريّة تعمد إلى التجريد ، انعدم نسبيا في محكّ النظر واختفى. وربّ قائل : إنّ وروده في المقاصد والمعيار لم يكن سوى نقل. ومع جانب الصحّة في هذا لقول ، إلاّ أنّ المحك قد بلور المسألة الدينية بوضوح. وربّما اختزلت عمليّة التجريد المنطقية الشكليّة في المحكّ إلى عملية تجريد عقلية نفسيّة فقط. ويتجلّى هذا في تفسير الإمام لكيفيّة تصوّر اللونيّة والشكليّة ، فيقول : «اصطلحنا على تسميتها عقلا ، فيدرك ويقضي بقضايا ، ويدرك اللونيّة مجرّدة ، ويدرك الحيوانيّة ..» (1).
    يتطرق الغزالي في موضوع الحدّ إلى أبحاث الحدّ نفسها الواردة في المعيار ، مع شيء من الاختصار وبحلّة إسلامية. ويعتبر اكتمال معرفة الحدّ عن طريق التعريف باللفظ والرسم والحدّ. ويوضح الأمر في مجموعة الأسئلة التي يطرحها والتي تجيب على كنه الحدّ ، وتنحصر في أربعة مطالب : هل ، وما ، ولم ، وأيّ. ويعتبر مطلب «ما» أهمّها ، وفيه مثال الفقه المشهور : «الخمر». ويفيدنا مطلب «ما» بثلاثة أجوبة :
    ـ يعرّفنا بتمييز الاسم وشرحه ، أي بالتعرّف على حدّه اللفظيّ. فنقول : ما العقار؟ هو الخمر.
    ـ ويدلّنا على مميّزات الشيء العرضيّة ، ويسمّى حدّا رسميّا. فنقول
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 21.

    الخمر هي المائع الذي يقذف بالزبد ، ثم يستحيل إلى الحموضة. ويجمع من العوارض واللوازم ما يساوي حقيقة ذات الخمر.
    ـ ويجيبنا عن ماهيّة الشيء وحقيقته ، ويسمّى حدا حقيقيا ، الخمر شراب معتصر من العنب (1).
    وقد ركّز الإمام على التحديد الاسميّ الخاصّ باللغة العربية في المحكّ ، وحصر مكامن الغلط في الألفاظ. كما نبّه إلى ضرورة الاحتراز من «الألفاظ الغريبة والوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المتردّدة» (2).
    ومن ثم يجب استعمال الألفاظ المعروفة ذات النص الصريح ، وإن اعتاص الأمر فليذكر المستعار أو لترد قرينة المصرّح من المعاني. ولم ينتقل في المحكّ ، ولا في مقدّمة المستصفى ، كما سنرى ، إلى تبنّي مفهوم الحدّ اللفظيّ طريقا يفيد التعريف بالحدّ. مع العلم أن الفقهاء ونظّار المسلمين لم يعرفوا سوى الحدّ اللفظيّ ، ولم ينادوا إلاّ بالاتجاه الاسمي (3). ومردّ هذا رفضهم الكليّات والماهيّات الأرسطويّة ، معتبرين أنّ الحقائق والمعاني الإسلامية موضوعة ، ولا يجوز تناول معان مغايرة لها.
    ويمكن القول إنّ الغزالي استمرّ في كتبه المنطقيّة القريبة من الفقه وخصوصيّة اللغة العربية بعملية المزج. فقال مثلا : «اعلم أنّ من طلب المعاني من الألفاظ ، ضاع وهلك كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أوّلا في عقله بلا لفظ ، ثمّ أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى.
    فلنقرّر المعاني ، فنقول : الشيء له في الوجود أربع مراتب ، الأولى حقيقة في نفسه ، الثانية ثبوت مثال حقيقة في الذهن وهو الذي يعبّر عنه بالعلم ،
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 92.
    (2) المصدر نفسه ، ص 98.
    (3) ابن تيمية ، تقي الدين ، كتاب الرد على المنطقيّين ، بمبئي ، دائرة المعارف العثمانيّة ، 1949 ، ص 14 ـ 15.

    الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه ... الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسّة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة .. ـ إلى أن يقول ـ إنّ الأوّلين وجودان حقيقيّان لا يختلفان بالأعصار ، والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم .. (1).
    ونلاحظ أنّه في استمراره بهذه العملية الجامعة بين الاتجاهين المنطقي والأصوليّ الاسميّ أقرّ بأن تعريف الحدّ ينال بتصوّر الماهية وبالتمييز اللفظيّ والاسمي معا ، وتعتبر الفقرة السابقة على درجة من الأهمية ، كونها تشير إلى تصريح الغزالي بوجود الحقائق العقلية الكليّة ثابتة في الذهن ، وبوجودها قائمة بذاتها. وهذان الوجودان يشملان الشعوب كافة بدون تمييز. ونتساءل كيف وفّق الإمام بين هذه المعاني الأرسطويّة وبين المعاني الإسلامية القائمة في القرآن؟ وكيف صرح بذلك في كتاب المحكّ المتميّز بالطابع الإسلاميّ؟ نرجّح أنّ ذلك كان نتيجة التطعيم وتطويع المعاني المنطقيّة لإغناء الاستدلال الأصوليّ. وأخيرا نجد أنّ موضوعات «المحكّ» الأخرى في التصوّر متوافقة مع موضوعات المعيار والمقاصد فهما وتوجها.
    والحال نفسها في التصديق والقضيّة. ولم يستطع الغزالي ، ومن قبله ، الفصل بين المعنى والاسم أو بين المضمون والصورة فصلا تاما.
    ومن ثم تقع القضيّة في كتاب محكّ النظر بالفصل الثالث من فنّ السوابق ، وتضم أربعة تفصيلات على الشكل التالي :
    ـ التفصيل الأوّل : انقسام القضيّة إلى التخصيص والعموم والتعيين والإهمال.
    ـ التفصيل الثاني : انقسام القضيّة إلى ثلاثة : الإمكان والوجود والاستحالة.
    ـ التفصيل الثالث : بيان نقيض القضيّة وأحكامها.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 108 ـ 109.

    ـ التفصيل الرابع : بيان عكس القضيّة.
    يتبيّن اختلاف التركيب الشكلي والتبويب جزئيا عن المعيار والمقاصد. لكنّ الأبحاث المنطقيّة التي تناولت القضيّة في المحكّ بمضمونها وموضوعاتها لم تبتعد تماما عن أبحاث القضيّة في الكتابين السابقين. ويتباين المضمون هنا في جانب التركيب البنيويّ للمصطلحات والتعابير والغرض والتوجّه. فإذا كان الكتابان السابقان قد تأثرا بابن سينا تأثرا واضحا ، فإن المحكّ يميل نحو المعاني الإسلامية والفقهيّة ميلا محضا. وتنقلب تعابيره وأمثلته مشكّلة أغراضا جديدة كما سنرى ، من دون الخروج على أطر المنطق الأساسية. وأشار الغزالي في نهاية المحكّ إلى العودة للمعيار ولمن يرغب في التفصيل والشرح. قائلا : «هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولا عظيمة ، إن أمعنت في تفهّم الكتاب تشوقت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله ، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلم ...» (1) وتدل هذه الإشارة على وحدة المسألة المنطقيّة في خلفيّة الإمام من دون أن يعني ذلك عدم وجود التباين بين المحكّ والمعيار. ويعمل الغزالي بالرغم من هذا التباين على ربط المحكّ بالمعيار ، استمرارا في تطعيم المنطق بالتفكير الإسلاميّ ، وخصوصا في المحكّ ومقدّمة المستصفى.
    وقد جعل مبحث القضيّة في المحكّ قالبا إسلاميا من دون أن يتخلّى عن مضامينها المنطقيّة. إذ يبدأ الفصل على نمط ما جاء في الكتب سابقا ، فيستعمل عدّة مصطلحات للتعبير عن عناصر القضيّة ، قائلا : «أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرّق إليه التصديق والتكذيب ، كقولنا مثلا : العالم حادث والباري تعالى قديم. فإنّ هذا يرجع إلى تأليف القوّة المفكّرة بين معرفتين ، لذاتين مفردتين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 133.

    فإن قلت العالم ليس بقديم ، والباري ليس بحادث ، كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزءين. يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا. ويسمي المتكلمون أحدهما موضوعا والآخر صفة. ويسمّي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه. ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه والآخر محموله وهو الخبر. ونصطلح نحن على تسمية الفقهاء ، فنسميها حكما ومحكوما عليه. ولنسمّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضيّة ...» (1) ولم تكن الفقرة السابقة عرضا لمصطلحات تركيب القضيّة فحسب ، بل كانت طرحا جديدا وتبنّيا لعبارات بما تحمل من خلفيّة فقهيّة. فنرى الإمام ينتقل بالمحكّ إلى تداول الحكم والمحكوم عليه عوضا عن الخبر والمخبر عنه في المعيار ، أو بدلا عن الموضوع والمحمول. وقد استخدم الحكم والمحكوم عليه في مقدّمة المستصفى كما سنرى. والمحكوم اسم مفعول من حكم ، أطلق حكما مرادا منعه عن التبديل والتغيير والتخصيص (2). ويلعب المحكوم عليه دور الموضوع في القضيّة المنطقيّة. ويستعمل اللفظ في الشرعيات ، «وأثر الخطاب المترتّب على الأفعال الشرعيّة ... كلّ ذلك محكوم اللّه تعالى ثبت بحكمه وإيجاده وتكوينه ، وإنّما سمّي حكم اللّه على لسان الفقهاء ...» (3) ويعني الحكم أيضا القضيّة ككلّ. فنقول حكمنا أنّ كلّ خمر مسكرة. وقصد الغزالي بالحكم في المحكّ ومقدّمة المستصفى ما يحمل على المحكوم عليه.
    ويطلق تعبير الحكم في الشرعيّات ، لأنّه : «عبارة عن حكم اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين» (4) فأفعال المكلّفين هي المحكوم عليه. وكلمة حكم في اللغة هي : «الصرف والمنع للإصلاح ... ومن قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ أي منعت وحفظت عن الغلط والكذب والباطل والخطأ
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 23.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 139.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 157.
    (4) الجرجاني ، التعريفات ، ص 64.

    والتناقض ... وفي اصطلاح أصحاب الأصول خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتصاد أو التخيير ...» (1) فثمّة علاقة بين الحكم والحكمة في طبيعتها الدينيّة.
    ويتبادر من هذه التعريفات اتفاقها على دور الحكم : إنّه إسناد أمر إلى آخر. لكن يختلف الغرض والمضمون أصوليّا أو فقهيّا أو لغويّا. فعملية الحمل هي ربط حدّ بآخر أو مفهوم بمفهوم آخر. والحكم أيضا يسند معنى أو مفهوما إلى آخر ، بغرضيّة القطع والبت والتقويم والحفظ. ويأخذ معنى الحكم خلفيّة دينيّة ، فيدور حول طبيعة الأمر والمأمور ، ومفهوم الواجب والتكليف. وذكر الجرجاني أنّ الحكم هو إسناد المحمول إلى الموضوع (2) وسنوفي الحكم بمعناه الحديث شرحا لاحقا. إنّما تبقى جذور اللفظة لغويّا والعادة في استعمالها شرعيّا ، هي الأقوى والأعرف. وملخّص الرأي بأنّ لكل مصطلح تفسيرا ودورا إجرائيا وظرف استعمال يختلف عن الآخر. إلا أنّ الواضح هنا تبنّي الغزالي للاصطلاح بقصد مزج المنطق بعلوم المسلمين مزجا كليا ، وتفسير قواعده بعد تمثّلها بالعقليّة الإسلاميّة وانطباعه بنمط تفكيرها.
    يتناول الغزالي القضيّة فيقسّمها إلى قضيّة في عين ، وقضيّة مطلقة خاصّة ، وقضيّة مطلقة عامة ، وقضيّة مهملة (3). ويقابل القضيّة المعيّنة أو القضيّة في عين : القضيّة الشخصيّة في المعيار. ويماثل المطلقة الخاصّة : الجزئيّة. والمطلقة العامّة : الكليّة. ولم تختلف الشروح المنطقيّة في المحكّ عن المعيار. فالذي يحدد الخاصّ أو العامّ في القضيّة هو السور الذي يبيّن مقدار الكمّ 4. وذكرنا من قبل في مبحث الحدّ بالمحكّ تعريفا
    __________________
    (1) الكفوي ، الكليّات ، ص 157.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 24.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 24.
    (4) المصدر نفسه ، ص 24.

    للتعيين والمعيّن. فالقضيّة المعيّنة تلك التي يكون موضوعها واحدا ، لأنّ التعيين هو التحديد وامتياز الشيء من غيره. وإذا كانت القضيّة الشخصيّة اصطلاحا تأثّر به الغزالي بابن سينا وذكره في المقاصد والمعيار ، فإنّ القضيّة المعيّنة تفاعل بها الغزالي مع اللغة العربيّة وأصول الفقه. ولقد استخدمها في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وكنّا وضّحنا أيضا معنى المطلق ، وذكرنا أنّه يحمل بمعناه العموميّة ، ويدلّ على غير المعيّن وغير المقيّد في الفقه.
    ويستعمل الغزالي المطلقة العامّة في المحكّ ومقدّمة المستصفى ليشير إلى القضيّة الكليّة. والإطلاق العامّ هو يحمل معنى على معنى ليتشكّل حكم عامّ. وقد عرف الجرجاني المطلقة العامّة قائلا : «هي التي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه» (1).
    فعمليّة الإطلاق العامّ تعني إطلاق مفهوم على عموم الموضوع ، وهذا يفيد في الأصول بإطلاق الأحكام العامّة تعميما أو تخصيصا. بينما تدل المطلقة الخاصّة على إطلاق الحكم أو حمل المفهوم على حال معيّنة مقيّدة ، وهذا يفيد في الفقهيّات التي تميّز بين الأحكام العامّة والحكم الخاصّ.
    ويوحي الاختلاف بتبنّي الخلفيّة الإسلامية تماما والخروج من المصطلحات المنطقية. وبهذا نرى التحوّل في كتابة الغزالي ، الذي انتقل من منطقيّ ناسخ في المقاصد ، إلى مستخدم للتعابير في المعيار (القضيّة العامة والقضيّة الخاصّة) ، حتى بلغ مداه عالما إسلاميا أصوليا في المحكّ.
    فسخّر القالب المنطقي للإطلاق العامّ والخاص الفقهيين. وقد حدّد غرضه في تنقيح النظريّات والاستفادة منها بالفقهيّات ، إذ قال : «إيّاك أن تسامح بهذا في النظريات ، فتغلط ومثاله من الفقه ..» (2) ويتناول الغزالي في
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 149.
    (2) الغزالي ، المحكّ ، ص 25.

    المحكّ ، وفي معظم أمثلته على القضيّة ، أقوالا فقهيّة ، مبيّنا مثلا ضرورة الاحتراز من القضايا المهملة ، وعدم اعتبارها قضايا عامة أو كليّة. فيذكر :
    أن المطعوم (1) ربويّ ، قضيّة مهملة ، لا يصحّ اعتبارها عامة في قياس ، كما فعل الشافعي (2). وظهرت في المحكّ القضايا ذوات الجهة أيضا بشيء من الاختصار. وحلّ تعبير الاستحالة مكان الامتناع.
    لم يغضّ الغزالي الطرف عن تقابل القضايا ، فقد ذكرها ، وتحدّث عن القضيّتين المتنافيتين التي تصدق إحداها وتكذب الأخرى. ومثالهما : العالم حادث ، العالم ليس بحادث (3). كما وضع مجموعة شروط لتقابل القضايا ، تتطابق في جملتها مع ما جاء في المعيار. لكنّها تختلف بأمثلتها المستوحاة من الإسلام. فأورد مثلا قرآنيا ليؤكد على ضرورة وحدة الحكم ، أو المحمول ، في المتقابلتين ، قال : «العالم قديم ، العالم ليس بقديم. وأردت بأحد القديمين ما أراد اللّه تعالى بقوله : (كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ..) (4). وذكر مثالا فقهيا ليصرّ على وحدة الإضافة في المتقابلتين ، أيضا : إذ «المرأة مولى (5) عليها ، المرأة ليس بمولى عليها. وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة ...» (6). فلم تعد القضيّتان متقابلتين هنا ، لأنّ المرأة مولّى عليها بمعنى ، وليس مولّى عليها بمعنى آخر.
    __________________
    (1) المطعوم من طعم وطعام. ويستعمل الفقهاء التعبير للدلالة على الأطعمة من تمر وقمح ورز وشعير وسفرجل وغيرها. وغرض الغزالي ضرورة الحذر وتبيان كم القضيّة فيقال بعض المطعوم ربويّ مثلا.
    (2) المصدر نفسه ، ص 25.
    (3) المصدر نفسه ، ص 26 ـ 27.
    (4) المصدر نفسه ، ص 27.
    (5) أي عليها وليّ أمر وكيل ومسئول.
    (6) المصدر نفسه ، ص 27.

    وتطرّق الغزالي إلى عكس القضايا في تفصيله الرابع ، عقب التقابل ، جاعلا للعكس دورا في الاستدلال والبرهان والدليل الفقهيّ. فإذا لم تتطابق ، مثلا ، القضية المطلوبة مع الدليل النصّي والفقهيّ ، اعتمد العكس. وربما حصل المراد في حينها. «وهذا أيضا ـ أي العكس ـ يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على المطلوب نفسه ، ويصادف على عكسه فيمكن التوصّل منه إلى المطلوب ...» (1) وهكذا يدخل الغزالي المنطق ضمن علوم المسلمين ، جاعلا العكس أداة استدلال تدعم عمليّات الاجتهاد والأحكام. فيرى أنّنا بعكس القول أو الحكم ، نعمل على حلّ التنافي بينهما وبين النصّ. ويؤدي التوافق بين الحالين إلى حصول الاجتهاد. ولم يغب عن باله حالات العكس ، وشروطها ، لكنه تميّز من المعيار بذكر الأمثلة الفقهيّة واستخدام التعابير الأصولية ، فقال : «وأعني بالعكس أن تجعل محكوما عليه والمحكوم عليه حكما ، ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضيّة صادقة ..» (2) ، كما ذكر القضايا الأربع وعكسها ، لكنّه اصطلح على تسميتها الإسلامية : «نافية عامّة ، ونافية خاصّة ، ومثبتة عامة ، ومثبتة خاصّة». وسبق أن وضّحنا العامّ والخاصّ وتميّز المحكّ بهما. والنفي هنا بمعنى السلب : «وما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة» (3). أما الإثبات فبمعنى التأكيد ، ويسمى بالمنطق الإيجاب والموجب.
    أما بحث القياس فلم يستطع الغزالي في «محكّ النظر» مجاوزة عادته التي دأب عليها في بداية فقرة القياس من كلّ مصنّف. وربّما كرّر من دون شهوة ، واقتضاء ذلك وحدة المضمون القياسيّ ، وعدم اختلافه في عناصره وأسسه بين كتاب وآخر. وها هو يبدأ بحثه في هذه الفقرة بالقول : «إنّ القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة ألّفت تأليفا مخصوصا ونظّمت نظما
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 30.
    (2) المصدر نفسه ، ص 30.
    (3) المصدر نفسه ، ص 30.

    مخصوصا بشرط مخصوص ، يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر. والخلل يدخل تارة من الأقاويل التي هي مقدّمات القياس ، إذ تكون خالية عن شروطها ، وأخرى من كيفيّة الترتيب والنظم وإن كانت المقدمة صحيحة يقينيّة ، ومرة منهما جميعا ..» (1) فكل ما جاء في الفقرة شبيه بما تصدّر القياس في المعيار والمقاصد.
    ومن ثم يسير الغزالي على وتيرة توزيع القياس إلى صورة ومادّة ، جاعلا من صحة الاثنين طريقا لتكوين الصحيح من الفاسد. وكان البحث في المحكّ أشدّ اختصارا منه في المعيار. لكنه اختلف بنيويا ، وخصوصا في المصطلح والأبعاد والغرض. إذ نجد أن الغزالي انعتق من المحافظة على التعابير المنطقيّة والمعاني الفلسفيّة ، وأخذ بتطبيع المصطلحات بالمضامين الإسلامية تماما.
    وأحدث الغزالي في المحكّ موضوعات جديدة ، أبرزها حصر مدارك الأقيسة الفقهيّة وطريقا الإلحاق. وبرزت هذه الجدّة مترافقة مع الميل التامّ نحو معاينة المسائل الدينيّة والخصوصيّات اللغوية ، التي ستظهر جليّة خلال تحليلنا. وسنستنير في المقارنة بين القياس في المحكّ والمعيار ، فنميّز خطّ التحوّل ، كشفا لتوجّه الإمام ، وإبرازا للمصطلحات والمفردات بمعانيها وأغراضها.
    بدأ الغزالي تصفّحه أنواع الأقيسة ، فذكر النوع الأول منها هو الحمليّ ، الذي احتبسه على ثلاثة أشكال ، سمّي الشكل منه بالنظم.
    والنظم اصطلاح جديد بزغ في المحك واعتمد. وهو يشير في حقيقته إلى دلالات دينية ولغويّة. ف‍ «النظم ، هي العبارات التي تشتمل عليه المصاحف صيغة ولغة» (2). و «النظم في اللغة جمع اللؤلؤ في السلك ، وفي
    __________________
    (1) الغزالي ، محكّ النظر ، ص 6 ـ 7.
    (2) الجرجاني ، التعريفات ، ص 166.

    الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مترتّبة المعاني متناسبة الدّلالات على حسب ما يقتضيه العقل ...» (1). و «النظم الطبيعي هو الانتقال من موضوع المطلوب إلى الحدّ الأوسط ثمّ منه إلى محموله حتى يلزم منه النتيجة» (2).
    فاللفظة تحمل دلالات وجذورا دينيّة ولغوية. مما يؤكد بدء اتّسام معاني الغزالي المنطقيّة بالسّمات الإسلامية البحتة.
    أما النظم الأول من القياس الحمليّ فصورته بأن «تكون العلّة حكما في إحدى المقدّمتين محكوما عليه في الأخرى ..» (3). ونرى الغزالي يضع تعبيري الحكم والمحكوم عليه ، ويستحدثهما بدلا من الموضوع والمحمول ، مثلما صنع في مبحث القضيّة من هذا الكتاب. كما يدخل العلّة مكان الحدّ الأوسط ، إذ يقول : «فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدّمتين علّة .. فإنّه إذا قيل لك لم قلت إنّ النبيذ حرام فنقول لأنه مسكر ..» (4). ومن ثمّ درجت العلّة في المحكّ وفي مقدمة المستصفى ، كما سنرى. وتقوم العلّة بربط الحكم في الكبرى بالمحكوم عليه في الصغرى. بينما تقوم في الفقه بربط الأصل بالفرع. وقد أعطى أبو البقاء تعريفا لها اقترب من وجهة نظر الغزالي ، فقال : «العلة ما يتوقف عليه الشيء ... اللّه أوجب الحكم لأجل هذا المعنى ، والشارع على ذكره قد أثبت الحكم بسبب .. فيضاف الحكم إلى اللّه تعالى إيجابا وإلى العلّة تسبّبا.
    كما يضاف الشبع إلى اللّه تخليقا وإلى الطعام تسبيبا (5). هناك إذا علّة أوجبت معنى الحكم في الأصل ، وهي توجب الحكم بالفرع. كما أنّ هناك علّة تعاقبية سندها الحقيقي اللّه. وينحو الغزالي فلسفيّا هذا المنحى.
    __________________
    (1) المرجع نفسه ، ص 166.
    (2) المرجع نفسه ، ص 166.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 31.
    (4) المصدر نفسه ، ص 32.
    (5) الكفوي ، الكليّات ، ص 250.

    وكان أن وضّح الغزالي مثاله عن الخمرة ودور العلة ، قائلا : «إنّ في هذا القياس مقدّمتين إحداهما قولنا لكلّ نبيذ مسكر والأخرى قولنا كلّ مسكر حرام» (1). فالنتيجة : إنّ النبيذ حرام. وقياس التعليل هذا عند الأصوليين مرده إلى أنّ النبيذ محرّم قياسا على الخمر ، والعلّة الجامعة أو الحدّ المشترك هو الإسكار. ويظهر ذلك أيضا في جواب المطالب ، «لم» يكون النبيذ حراما؟ لأنّه مسكر.
    ولم تكن مسألة التماس العلّة واجتلابها مجرّد اصطلاح يدخل على الشروح توفيقا وتجميعا ، إنّما كان تطويعا للمنطق بالأصول ، وتمثّله على ضوء المعطيات والسمات الإسلامية. وتعني العلّة في الأصول في ما تعنيه : أنّ هناك الأصل وهناك الفرع ، وما يجمع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلّة. وكان هذا رأي الجويني في البرهان (2). ـ علما أنّ الجويني ، أستاذ الغزالي ، كان قد نقد بعض آراء المنطق الأرسطويّ وتبنّى آراء أخرى (3) ـ فسار التلميذ على المنوال نفسه ، موسّعا دائرة تبنّي القالب الأرسطويّ ، وكيّفه في خدمة العلوم الإسلاميّة ، كما يظهر تدريجيّا خلال استعراض القياس في كتبه. وما يمكن قوله إنّ استغناء الغزالي عن استعمال الحدّ الأوسط واستعاضته عنه بالعلّة يعتبر تحوّلا تامّا في النظرة ، وتحويلا للمنطق نحو المفاهيم الأصوليّة. فلقد تعدّت العمليّة مجرّد إعطاء الأمثلة الفقهيّة وتطعيم الألفاظ ، مثلما كان الأمر في المعيار. وبلغ المزج طورا أحدث بنية تركيبيّة جديدة على صعيد المضمون والمصطلح والأبعاد. إذ العلة للجمع بين الأصل والفرع ، أمّا الأوسط فللتداخل بين الأصغر والأكبر ـ ولا ينفي هذا عدم استعمال ابن سينا العلّة حدّا أوسط. لكن ذلك كان في حكم النقل عن أرسطو ـ ولكلّ منها أبعاد منطقيّة.
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 31.
    (2) أنظر النشار ، مناهج البحث ، ص 130 ، نقلا عن مخطوط البرهان للجويني.
    (3) المرجع نفسه ، ص 77 ، استنادا إلى مخطوط البرهان.

    وأصبح القياس في تحاليله إسلاميّا من دون أن يغفل بعض الأمثلة الطبيعيّة والفلسفيّة (1) من التي وردت في المعيار والمقاصد. وبهذا انقلبت الأدوار ، فقد طعّم المعيار بأمثلة فقهيّة ولغويّة. بينما طعّم المحكّ بأمثلة منطقيّة وفلسفيّة. وتميّز الغزالي في عرضه الأشكال الثلاثة بربطه شروط الشكل بشروط اليقين ومادّة المقدّمات ، وخصوصا في المجالات الفقهيّة.
    «فإن نازعك الخصم في قولك كلّ مسكر حرام فإثباته بالنقل ، وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : «كلّ مسكر حرام» فإن لم تتمكّن من تحقيق تلك المقدمة بحسّ ولا غيره ، ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره ، لم ينفعك القياس ...» (2).
    ولم يوفّر الإمام التعابير البديلة بالموضوع والمحمول ، فتارة استخدم المحكوم عليه والحكم وأخرى استعمل الموصوف والصفة (3) ، وطورا الخبر والمبتدأ (4). ونال الإثبات والنفي حظّا من ذلك واستبدلهما بالإيجاب والسلب. وكانا قد وردا في معرض ذكره شروط النظم الأوّل والثاني. أمّا الإيجاب والإثبات فيدلاّن على حكم مؤكد ثابت بالاقتصاد لا يحتمل النفي ، ويأخذ دلالة الحدّ بالحدّ الآخر. ف‍ «الإيجاب أقوى من الاقتضاء ، لأنّه إنّما يستعمل في ما إذا كان الحكم ثابتا بالعبارة أو الإشارة أو الدّلالة» (5). أمّا «الإثبات فهو الحكم بثبوت شيء لآخر ـ وله معنى الإيجاب نفسه ـ ...
    ويطلق على العلم إثبات المعلوم على ما هو به (6). وطغى الإيجاب والقضيّة الموجبة على المعيار والمقاصد. بينما ظهر الإثبات في المحكّ ومقدّمة المستصفى. وعلى الرغم من كون الإيجاب والإثبات يشكلان معنى
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 31 ، ص 32.
    (2) المصدر نفسه ، ص 33.
    (3) المصدر نفسه ، ص 33.
    (4) المصدر والصفحة نفسهما ، والمعيار ص 71.
    (5) الجرجاني ، التعريفات ، ص 28.
    (6) الكفوي ، الكليّات ، ص 13.

    واحدا ، إلاّ أنّ استخدام كلّ منهما له أبعاده المعيّنة. ونرجّح من جهتنا أن للإيجاب بعدا منطقيّا رياضيّا يعبّر عن الكمّ. أمّا الإثبات فيدلّ على الحكم ويرمز إلى البعد الكيفيّ الذي يخدم في المسائل الفقهيّة والأحكام. إذ يحمل شيئا على شيء من دون دلالة كميّة أو رياضيّة. وربّما وعى الغزالي ما رجّحناه ، فأحسن استخدام الاصطلاح تبعا لغرض كلّ كتاب واتّجاهه المنطقيّ أو الفقهيّ. وربما كان تداوله للمصطلح لا واعيا. وفي الحالين يكون الإمام قد أصاب هدفه. فكان اختيار اللفظ تعبيرا عن توجّه المضمون وشكل المعالجة. والحال نفسها في استخدام الغزالي لمصطلحي السلب والنفي. وهما يدلاّن على المعنى نفسه. ويؤدّيان إلى نزع الشيء عن الشيء الآخر. وجاء تعبير السلب في المقاصد والمعيار ، بينما كان النفي في المحكّ والمستصفى بشكل أظهر. ويأتي النفي بمعنى سلب الصفات ، أو انتزاع حكم عن الموضوع ، وهو يفيد في الأحكام.
    ويعطي أبو البقاء مثالا دينيّا على ذلك فيقول : «قوله تعالى (وَمٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ) إنّما جيء به في مقابلة العبيد (1) ، أي جيء بالحكم لنزعه عن العبيد. فيدلّ النفي إذا على نزع الحكم أو نزع الصفة عن الموضوع. وهذه وقائع الشرعيّات. بينما يفيد السلب في الدلالات الرياضيّة التي لها أبعاد كميّة. ويعمل منطقيّا على انتزاع أو استبعاد التداخل بين الحدود.
    وعلاوة على كلّ هذا التوجّه لم ينبذ الغزالي القواعد الأساسية لأنواع الأقيسة وأشكالها (2). إذ قال في النظم الثاني : «من نظم القياس أن تكون العلّة ، أعني المعنى المتكرّر في المقدّمتين ، حكما ... أعني أن يكون خبرا فيهما ولا يكون مبتدأ ...» (3). فالعلّة والمبتدأ والخبر مفاهيم دينيّة
    __________________
    (1) الكفوي ، الكليّات ، ص 355.
    (2) الغزالي ، المحكّ ، ص 32 ـ 44.
    (3) المصدر نفسه ، ص 35.

    ولغويّة ، لكنّ شروط التركيب تنطلق من قاعدة القياس السلجستي. ولم تكن الشروح مغايرة كثيرا عن المنطلقات. إذ استمرت عمليّة عكس إحدى مقدّمات النظم الثاني والثالث ، فاستحال القياس إلى النظم الأوّل. وذكر الغزالي القواعد نفسها الواردة في المعيار ، إلاّ أنّ أمثلته كانت دينية وفقهيّة ، ولا سيّما تعابيره في الحدود والقضايا. ونادى بنافية عامّة ومثبتة خاصة .. ومن أمثلته الفقهيّة أنّ : «الربويّ والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد هو البرّ فيلزم بالضرورة بينهما التقاء ، وأقلّ درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصّا» (1). وهذا يجدّد رأينا بأن بنية الشرح والتحليل والأمثلة متكاملة وذات منحى واحد. إنما حلّ في المحكّ الحكم والمحكوم عليه والخاصّ والعامّ والنافي والمثبت والمبتدأ والخبر والعلّة. وطرحت جزئيا التعابير المنطقيّة المقابلة كالتي وردت في المعيار والمقاصد. فالمنحى المنطقيّ الصوريّ واحد ، أمّا الأبعاد والخلفيّات فلكلّ طابع سماته ورموزه.
    وكانت الحال كذلك في الأقيسة الشرطيّة. فالمتصل أصبح في المحكّ بحسب قول الغزالي : «ولنسمّ هذا النمط نمط التلازم (2). وقد أخذ بالتلازم في المحكّ والقسطاس ومقدّمة المستصفى. وتطلق الملازمة والتلازم على معنى اللزوم. ولازم الشيء ما يتبعه ويردفه (3). واللّزوم هو عدم المفارقة ، وهناك لزوم شيء عن شيء ، بمعنى كون الأول ناتجا عن الثاني. واللزوم فقهيّا ما حكم فيه بصدق قضيّة على تقدير قضيّة أخرى لعلاقة بينهما. ولم تكن المسألة مجرّد اختلاف بين لفظين وشرحين ـ (الشرطي والتلازم) ـ ، بالرغم من أنّ مضمونهما واحد ، بل يخفي اختلاف التعبير اختلافا في التحليل. فالتلازم يشير إلى الأحكام المهيّأة
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 37.
    (2) المصدر نفسه ، ص 39.
    (3) الكفوي ، الكليّات ، ص 318.

    الجاهزة. كما تشير المقدّمة المتلازمة إلى المقدّمة التوكيديّة (الدوغماطيّة). وتتأتّى توكيديّتها من ورودها بالتواتر أو بالنصّ الشرعيّ ، الذي يجعلها تأخذ هذا الشكل المترابط. بينما يحمل الشرطي المتصل في معناه إمكانية الاحتمال. فهو علاقة منطقية أكثر منه علاقة نصيّة قائمة ومترابطة. «والشرطيّ هو الذي يتوقف عليه الشيء ، ولم يدخل في ماهيّة الشيء ، ولم يؤثر فيه» (1). لذلك تعبّر القضايا الشرطية عن العلاقة الصوريّة أكثر ممّا تعبّر عن تداخل الحدود وتصوّر خلفيّات منطقيّة محدّدة. والشرط في العربيّة «إلزام الشيء في البيع ونحوه كالشرطيّة (2). واستعمل تعبير الشرطيّ المتّصل في المقاصد والمعيار. والاتصال بمعنى الترابط والتتابع بين حالين ، ويعرّفه الجرجاني فيقول : «هي ـ المتصلة ـ التي يحكم فيها بصدق قضية أو لا صدقها على تقدير أخرى (3). والاتصال عكس الانفصال يؤدّي إلى ترابط حكمين أو قضيّتين تسبقان بأداة شرط. وربما توحي القضايا الشرطيّة بنوع من مفهوم الاحتمال العقلي. أمّا تعبير التلازم فيوحي بالارتباط الحتميّ ، كونه يستند على التلازم مع المعنى النصّي. مثل الوضوء للصلاة. وأمّا القول : إذا كانت الشمس طالعة فالنهار قائم ، فيستند على الاحتمال بين الاصطلاحين ودور كلّ منهما في البحث لا أكثر دون اليقين. لأن التلازم والاتصال في النهاية يصبّان في معنى واحد ، لكنّنا نميّزهما في دورهما المنطقيّ. وكانت أمثلة الغزالي على نمط التلازم في المحكّ (4) مشابهة لأمثلة الشرطي المتصل في المعيار.
    ووضع التعاند في المحكّ أيضا بديلا عن الشرطيّ المنفصل ،
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 86.
    (2) الكفوي ، الكليّات ، ص 214.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 134.
    (4) الغزالي ، المحكّ ، ص 39 ـ 41.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:05 am

    و «النمط الثالث نمط التعاند وهو على ضد نمط التلازم ، والمتكلمون يسمّونه السبر والتقسيم ، والمنطقيون يسمّونه الشرطي المنفصل ونحن سمّيناه التعاند ...» (1) وكان الغزالي قد أورد تسميات للسبر والتقسيم والتعاند في المعيار (2) ، من دون أن يعتمدها مصطلحا ، مسوّغا في ذلك المفاهيم المنطقيّة ضمن المعاني الإسلاميّة. ويقابل التعاند الشرطي المنفصل ، كما يعني التنافي والتضاد بين القضيتين. والاستدلال التعاندي يشبه السبر والتقسيم ، إذ يسقط أحد المتعاندين. وعرّف الجرجاني التعاند والعنادية قائلا : «هي القضية التي يكون الحكم فيها بالتنافي ... كما بيّن الفرد والزوج» (3).
    وورد استعمال الشرطي المنفصل في المعيار والمقاصد ، وقد شرحنا الاشتراط ، أمّا الانفصال فيعني وجود النقيضين إثباتا للآخر ، فهنا عدم اجتماع ، ويعبّر الاشتراط المنفصل عن قضيّة احتمالية اقترنت بأداة الشرط آخذة شكل التنافي ، (إمّا هذا وإمّا ذاك ..). ويمكن لها أن تكون واقعيّة تجريبيّة أو شكليّة رمزيّة. بينما يوحي التعاند بمدلول الحكمين المتنافيين ، أو الحكم المجزّأ إلى جزءين متباينين ، ليفيد استدلاليّا الأخذ بأحدهما. فهو عمليّة تنقيب بين مجموعة أشياء ، صفتها التعاند لنزع غير المطلوب وإبقاء الحكم الصحيح. وهذه هي الطريقة التقسيميّة الفرزيّة ، التي ربّما ميّزت لنا الفرق بين الاحتمال المنطقيّ الرياضيّ والتقسيم والفرز. فالاحتمال يدفع الذهن إلى البحث والتقصّي والاكتشاف واضعا الشكوك. بينما التقسيم يمدّنا بأحكام قائمة ثابتة واقعة ، وما على الباحث سوى التفتيش بينها لأخذ المطلوب وفرزه عن غيره. على أنّنا نرجو أن نوفّي الأمر بحثا وتحليلا في فصل العلاقات المنطقيّة بالباب الثاني ، توضيحا للفرق والأبعاد ، وزيادة
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 42.
    (2) الغزالي ، المعيار ، ص 100.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 106.

    على ما ذكرنا. وقد كانت أمثلة التعاند في المحكّ (1) شبيهة بأمثلة الشرطيّ المنفصل في المعيار. وليس ضروريّا أن تتألف مقدّمة التعاند من قسمين وقضيّتين ، فربّما تكوّنت من ثلاث. ف‍ «إنّا نقول هذا الشيء إمّا مساو وإمّا أقلّ وإمّا أكثر فهذه ثلاثة ، ولكنّها حاصرة. فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين ، وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث ...» (2) وبهذا الشرح يقترب الغزالي من السبر والتقسيم.
    ما إن يختم فصل أشكال القياس في المحكّ حتى تتيسّر مادّته وتتخيّر دربا سرى عليه الغزالي في كتبه السابقة ، من دون استحداث طرق ومنازل ، اللهمّ سوى المعاني الإسلامية والأغراض الأصولية. وقيل مادّة القياس تمييزا من الصورة ، إذ ورد التعبير عند كلّ المناطقة من دون استثناء.
    والمادّة : «هي التي يحصل الشيء معها» (3). وهذا التعريف يستند على نظرة أرسطو الفلسفية ، التي ترى أنّ المادة شيء ما بالقوة ، يكتمل حين تحقّقه الصورة. وقد اصطلح الغزالي والمشائية الإسلامية عليها ليشيروا إلى مضمون المقدمات القياسيّة ، يقينيّة كانت أو ظنيّة.
    أما «صورة الشيء فما به يحصل الشيء بالفعل» (4). وأصابت منطقيّا في دلالتها على النظم وصورته ومعاييره ، من دون تناول يقينيّة قضاياه.
    ويقول أبو البقاء عنها : «تطلق الصورة على ترتيب الأشكال ووضع بعضها من بعض واختلاف تركيبها ... وقد تطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة ، فإنّ للمعاني ترتيبا أيضا وتركيبا وتناسبا ...» (5). وكان أن ورد تعبيرا المادّة والصورة في المقاصد والمعيار ، بينما استعيض عنهما في
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 42 ـ 44.
    (2) المصدر نفسه ، ص 43.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 131.
    (4) المرجع نفسه ، ص 92.
    (5) الكفوي ، الكليّات ، ص 226.

    المحكّ والمستصفى باليقين والنظم. وتكلّم الغزالي عن يقينيّة المقدّمات وظنيّتها لينصاغ القياس المنتج (1). ولم يخرج عن صوريّة القياس في شروحه ، ولا سيّما إنه لم يعزل الصورة تماما عن المعاني الأرسطوية والإسلامية. ويمثّل على المادة قائلا : إنّها بمثابة الخشب للسرير أو القماش للقميص (2).
    وأمّا اليقين فاصطلاح إسلامي يستخدم في مواضع عدة : «فاليقين في اللغة ، العلم الذي لا شكّ معه ، وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلاّ كذا مطابقا للواقع» (3). ويستعمل أيضا في المعرفة الإيمانية مقابل اصطلاح الاعتقاد في المعرفة العقلية. إذ قال الجرجاني : اليقين «عند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوّة الإيمان لا بالحجّة والبرهان.
    وقيل مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار ... (4). وقد نزع الغزالي ومعظم فلاسفة المسلمين نزعات صوفيّة مختلفة. وليس مستغربا أو مستهجنا اختلاط معارفهم بالمفاهيم والمصطلحات الصوفيّة ، التي فعلت فعلها في رؤيتهم وتحاليلهم. وأشرق اليقين لفظا مكان الاعتقاد عند الغزالي ، وحلّت المكاشفة اليقينية محلّ الاعتقاد العقليّ. كما يشير اليقين إلى المقدمات التي لا تقبل الشكّ» ، فالظن أحد طرفي الشكّ بصفة الرجحان (5). ويستعمل لفظ الظنّ «عند الفقهاء من قبيل الشكّ ، لأنهم يريدون به التردّد بين وجود الشيء وعدمه ، سواء استويا أو ترجّح أحدهما ..» (6).
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 45.
    (2) المصدر نفسه ، ص 44.
    (3) الجرجاني ، التعريفات ، ص 178.
    (4) المرجع نفسه ، ص 178.
    (5) المرجع نفسه ، ص 196.
    (6) الكفوي ، الكليّات ، ص 239.

    لذلك يقول الغزالي : «القياس المنتج لا ينصاغ إلاّ من مقدمات يقينيّة ، إن كان المطلوب يقينيّا أو ظنيّا ، إن كان المطلوب فقهيّا» (1).
    واليقيني في المحكّ هو الذي لا يقبل الاحتمال أو الإمكان ، ويكون بمثابة البديهيّات العقليّة والاعتقادات الدينية. فالعلوم الدينية قضاياها جازمة ، كما يقول الغزالي. ف‍ «لنسمّ هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم ومذاهبهم ...» (2). وسبق أن تكلمنا عن رفض الغزالي لموادّ قضايا أرسطو وأقيسته ، واعتماده المادّة الإسلامية مضمونا. وها نحن نجده يعتمد هذه المعاني بما تحمله المصطلحات والتعابير والرموز اللغوية ، فحوى ومعنى ، مثلما شرحنا.
    ونستطرد بأنّ الظنّ له دلالات فقهيّة إلى جانب دلالاته العقلية ، كما لليقين دلالات لغويّة وصوفيّة وأصوليّة دينية. وقد ترسّخت هذه المفاهيم متميّزة من غيرها منذ المحكّ. وبهذا انتقلت مادّة القياس فيه إلى مضامين دينية ، بعد أن كانت خليطا ، في المقاصد والمعيار ، من التأثر بابن سينا والتصنيف العقليّ المنطقيّ ، زيادة على بعض المعاني والمرادفات الإسلامية. ومن مواد المقدمات اليقينية التواتر الذي يحصّله الغزالي بقوله : « ... زاد الظنّ ، وهكذا لا يزال يترقّى قليلا قليلا في القوّة إلى أن ينقلب الظنّ على التدريج يقينا إذا انتهى الخبر إلى حدّ التواتر ...» (3). وتتعلق هذه الشروح بالحديث الشريف وبتواتر المعلومات الإسلامية بشكل محصور ومحدّد.
    وقد صنّفت أنواع المقدّمات متشابهة مع المعيار ، وقال الغزالي فيها : «اعلم أنّ مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافّة ، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظنّ بها اليقين. ومجامعها في ما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام ...» (4). ولم يلبث أن ذكرها بالتفصيل كالآتي : (الأوليّات ، والمشاهدات الباطنة ، والمحسوسات الظاهرة ، والتجريبيّات ، والتواتر ، والوهميّات ، والمشهورات). وكان
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 45.
    (2) المصدر نفسه ، ص 46.
    (3) المصدر نفسه ، ص 47.
    (4) المصدر نفسه ، ص 47.

    شرحه لها في المحك مماثلا لشرحه في المقاصد والمعيار. ووردت الأمثلة نفسها تقريبا ، مع تفصيل في المحكّ بين الإحساس وقسمته إلى باطن وظاهر. ومن عمليات الطرح والإبدال بين المعيار والمحكّ ما طرأ على الأوليّات التي سيطرت على المحك والمستصفى ، وخفت ضوء ما يقابلها من اصطلاح عقليّ ، يدّعي بديهة العقل.
    وكان أن استخدم الغزالي بديهة العقل في المعيار والمقاصد بشكل ظاهر على الأوّليّ. والبديهي من المهمّ في مصادر اليقين. وقد عرّفه الجرجاني قائلا : «هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب سواء احتاج إلى شيء آخر من حدس أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج (1). أمّا الأولي ف‍ «هو الذي بعد توجّه العقل إليه ، لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة ، أو نحو ذلك ، كقولنا الواحد نصف الاثنين ..» (2). ونرى أنّ الأوليّ والبديهيّ لهما المعنى نفسه ، لكنهما يختلفان في دلالات كلّ لفظة لغويّا ، وفي ما توحيان به. فالأوليّ نظرة عددية ، أوّل وثان ، بمعنى غير المتكرر والمتكثّر ، والذي لا يحتاج إلى استدلال وترابط وتضايف. ويوحي من خلال بعده بتصنيف معيّن في مادة القضايا ، لأنّ الأوليّ منها هو النصّ والشرع وكلام الخالق ، فهو الأول والواحد والأصل. بينما البديهيّ معنى عقليّ نفسيّ بمفهوم الإدراك المباشر. وقد طغى التعبير بحسب أغراض ومعطيات كلّ كتاب ، عقليّة منطقيّة كانت أو دينيّة أصوليّة. وملخّص مادة القياس ويقينيّته في المحكّ خليط من الإحساس والتجربة والتواتر والعقل.
    وتدلّ كلّ لفظة على اتّجاه معيّن في المعرفة. إلا أنّها جميعها تشير إلى تعدّد مصادر اليقين ، وتثبت تعدديّة الخلفيّة المعرفيّة عند الإمام. وقد شكّ بها الغزالي وصولا للحقيقة ، وما لبث أن أصرّ مجدّدا ، في كتبه الأخيرة ، على كونها مصادر اليقين (3).
    __________________
    (1) الجرجاني ، التعريفات ، ص 29.
    (2) المرجع نفسه ، ص 26.
    (3) الغزالي ، مقدمة المستصفى ، ص 29.

    جرى الفنّ المخصّص للواحق القياس مجرى نظيره في المعيار.
    وانتخب الغزالي بعضا من الأمثلة الدينيّة والفقهيّة المحض. ففي معرض حديثه عن عدم جواز إهمال شروط تركيب الاستدلال انتقى المثال : «هذا يجب عليه الرجم وهذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن ، فإذا يجب عليه الرجم ، ولكن ترك مقدّمة الحكم وذكر مقدّمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهورا» (1).
    واستوى الاستقراء والتمثيل ، بالشرح والتحليل ، مع ما جاء في مضمونهما بالمقاصد والمعيار. وسرت شروحهما فقهيّة الطابع. ومن الأمثلة التي ردّدها الغزالي : «قولنا في الفقه الوتر ليس بفرض (2) لأنه يؤدّى على الراحلة ، فيقال ولم قلتم إنّ الفرض لا يؤدّى على الراحلة ، فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء ، فإنّا رأينا القضاء (3) والأداء (4) والمنذور (5) وسائر
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 59.
    (2) الفرض ، فرضت الشيء أفرضه فرضا وفرضته للتكثير أوجبته. والفرض السنّة ، فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أوجب وجوبا لازما ، والفرض التوقيت وكلّ واجب مؤقت ... والفرض والواجب سيّان عند الشافعي. ابن منظور ، لسان العرب ، ج‍ 7 ، ص 202 ـ 203. وفرض الصلاة وغيرها إنما هو لازم للعبد كلزوم الحزّ للقدح. المرجع نفسه ص 205.
    (3) القضاء ، الحكم ... القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكم لها. والقضاء أيضا مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. وكلّ ما أحكم أو أتم أو ختم. المرجع نفسه ، ج‍ 15 ، ص 186.
    (4) الأداء ، تأدى القوم تأديا إذا أخذوا العدّة التي تقوّيهم على الدهر .. أدّى للصلاة أي تهيّأ .. أدّيته على أفعلته .. أدّى الشيء أوصله ، والاسم الأداء وهو أدى للأمانة منه .. تأدّيت إلى فلان من حقه إذا أدّيته وقضيته. المرجع نفسه ، ج‍ 14 ، ص 24 ـ 26.
    (5) المنذور ، النذر النحب ، وهو ما ينذره الإنسان فيجعله على نفسه نحبا واجبا. المرجع نفسه ، ج‍ 5 ، ص 200.

    أصناف الفرائض لا تؤدّى على الراحلة ..» (1). وأبت أقيسة الدلالة والعلّة وأبحاث الخلل في القياس أن تخالف قاعدة المعيار في القالب والإطار. ولكنها تسلّحت في المثال وأصالة المعاني (2). وقد أضاف الغزالي جملة من الموضوعات ، فحصر فيها مدارك الأقيسة الفقهيّة ، وتحدّث عنها شارحا. فقال : «الحكم الشرعي تارة يكون مدركه أصل العلم وتارة يكون مدركه ملحق بأصل العلم .. ويكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات اللّه عليه ... وأما الملحق بالأصل فله أقسام ، وتشترك في أمر واحد وهو أنّ ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل ... حتى يتّسع الحكم ، فإنّ اتّساع الحكم ... يزيد في الموصوف ، أي في عمومه ...» (3).
    وقبل المقارنة بين هذه المسائل والمدارك الأصوب التعرّف على دلالات اصطلاحين فقهيّين ، يتداولان ويستعملان كثيرا ، وهما : الأصل والفرع.
    يقول الجرجاني عن الأصل : «هو ما يبتنى عليه غيره ...» (4). واصطفى الغزالي الأصل في كتبه المنطقية ليعرب ، في ما يعرب فيه ، عن نوع من المقدّمات. ومن ثمّ فالأصل مقطوع بصحّته وهو أعلى أنواع اليقين. ومصدر يقينيّته متأتّ من الشرع الدينيّ والأحاديث الشريفة. والأصل جمعه أصول ، و «هو في اللغة عبارة عمّا يفتقر إليه ولا يفتقر إلى غيره ...» (5). ويتداول الاصطلاح في الفقه وينزل بمقدّمات القياس أو بإحداها. إذ تنتظم هذه المقدّمات على شيء من الترتيب القياسيّ استنتاجا
    __________________
    (1) الغزالي ، المحكّ ، ص 62.
    (2) المصدر نفسه ، ص 73 ـ 83.
    (3) المصدر نفسه ، ص 84 ـ 85.
    (4) الجرجاني ، التعريفات ، ص 18.
    (5) الجرجاني ، التعريفات ، ص 18.

    لمقدّمة ما. ويوضّح الجرجاني الاستدلال من الأصول بقوله : الأصل «في الشرع عبارة عمّا يبنى عليه غيره ، ولا يبنى هو على غيره. والأصل ما يثبت حكمه بنفسه ويبنى عليه غيره» (1). أما الفرع : ف‍ «هو اسم لشيء يبنى على غيره» (2). وقد استخدم الغزالي التعبير دلالة على النتائج المرتبطة بالأصول. فجعل على عادة الفقهاء والأصوليّين الحكم يرتكز على الأصل والفرع تجمعهما العلّة ، أو (الجامع). وتحدّث عن الأقيسة الفقهيّة في المحكّ ومقدّمة المستصفى بشكل موسّع. وتمسك بالأصول والفروع وبكيفيّة الحكم وعمليّة الحذف وإبقاء الجامع. فقال : «اعلم أنّ للإلحاق طريقين أحدهما ألاّ يتعرّض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به ، فأما العلّة فلا يتعرّض لها البتة ...» (3). وهذا وجه من أوجه الأقيسة الفقهيّة. أما الوجه الثاني : «فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلّة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة المعاني ...» (4). والوجهان السابقان يتمّان بعدم التعرّض للملحق. وهناك طريق آخر مؤدّاه : «أن يتعرّض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق ...» (5). وإذا أعدنا النظر في شروحات الغزالي للأقيسة الفقهيّة نراه يتناولها بالفهم الأصولي الذي سنفصّله في الفصل الثالث من الباب الثاني. لكن ما يعنينا هنا أنّ هذه الشروح تقابل تفسيراته في اللواحق بالمعيار. فقد بيّن هنا أنّ النتيجة تستند على الأصل مباشرة ، وربّما اختفت علّة الأصل. وكان أن سمّي هذا في المعيار بقياس العلّة الشرعية. أمّا القياس الذي يعتمد على مدرك ملحق بأصل العلم ، فيرتكز على عمليتين ضمنيّتين : أولاهما تقابل قياس التمثيل ، إذ يردّ الغائب إلى الشاهد ، أي نجد مقدّمة ليست من الأصول إنما
    __________________
    (1) المرجع نفسه ، ص 18.
    (2) المرجع نفسه ، ص 110.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 85.
    (4) المصدر نفسه ، ص 89.
    (5) المصدر نفسه ، ص 90.

    ملحقة بالأصول فنقيس عليها. وبذلك ننتقل من حكم جزئي إلى حكم جزئي. لكنّ لهذا الردّ شروط : أهمّها أن تكون هذه المقدمة الملحقة بالأصل تتمتّع بارتباط فيه ، وحتّى نحدّد هذا الارتباط نقوم بالعملية الثانية ، وهي حذف بعض الأوصاف غير المشتركة مع الأصل. أي نجري السبر والتقسيم وهو قريب من قياس الشرطي المنفصل. وعند ما يتكلم الإمام على أوجه مصاعب الأقيسة الفقهية يذكر تلك التي لا يرد فيها أحد أطراف القياس السلجستي. فلا يرد الأصل ، أي المقدّمة الكبرى ، أو لا ترد العلّة مصرّحة ، أي يختفي الحدّ الأوسط ، إذ ينقص عدد المقدّمات أو الحدود. وربّما تعرّضنا للمعنى مباشرة ، أي للنتيجة فنستدلّ بالنتيجة على المنتج. ولبيان الرأي والشرح سنقارن عمليّة الإلحاق بالعمليّات الاستدلاليّة المنطقية ، ومن نماذجها ما تحدّث الغزالي فيه عن الإلحاق ، خلال مثاله : إذا قلنا قارب الأعرابي في رمضان ، لزمته الكفارة (1). فمن زنى كان أولى بأن تلزمه الكفارة ، لأنّ مقارفة (2) الأهل حلال ، خلافا لمباشرة الأجنبي. وهكذا يردّ مباشرة الأهل إلى الزنى ، فيقيس حالة جزئية على حال أخرى ، ثم يحذف أوجه الاختلاف بين الحالين. فالذي يحذف مقاربة الأهل وتبقى الكفارة لازمة. ويرى الإمام أنّ مقارفة الأهل أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة. ويبقى في حال القياس السابق الردّ إلى العلّة المشتركة بوجوب التكفير لارتكاب المحرميّة في رمضان. وبهذا يبقي الغزالي العلّة المشتركة ، مثلما ثبت في شروحه السابقة الأصل ، من دون حذف أي جزء منه (3). ومن أمثلته على الجهل بالعلّة وضرورة إدراكها وذكرها تأمينا
    __________________
    (1) الكفارة ، الكفّار ، الزرّاع ، تقول العرب للزرّاع كافرا لأنه يكفر البذر المبذور بتراب الأرض .. ما كفّر به من صدقة أو صوم أو نحو ذلك ، كأنه غطّى عليه بالكفارة. وتكفير اليمين فعل ما ، يجب بالحنث فيها. والاسم الكفارة .. وسمّيت الكفّارات لأنها تكفّر الذنوب ، أي تسترها مثل كفّارة الإيمان .. ابن منظور ، لسان العرب ، ج‍ 5 ، ص 146 ـ 148.
    (2) مقارفة بمعنى المقاربة والجماع.
    (3) الغزالي ، المحكّ ، ص 88.

    لشروط القياس واكتمال حدوده ما وفّره من شرح في الربويّ. وكيف يكون الزبيب بمعنى التمر ...
    قبل أن تتّضح العلّة وهي الكيل والطعم ، والتي تستشفّ من المعنى وتساعد على الإلحاق يلفت الغزالي النظر بقوله : أما إذا ذكر نصّ من صاحب الشرع يمنع الإلحاق ، كما يرى ، فلا بدّ من وقف القياس ، أي لا يمكن قياس جزء على جزء. فإذا أصاب بول الصبيّ ثوبا ما ، يكفي رشّه بالماء. وبالوقت نفسه لا يمكن إلحاق الصبيّة به ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر أن الصبيّة بخلاف الصبي فحسم الأمر (1) ، ومنع قياس الحالة على الحال فسقط الإلحاق. وذكر الغزالي أيضا مثالا فقهيّا لكيفيّة التعرّض للمعنى بعينه من دون الفوارق وحذفها ، فقال :
    «قولنا الوضوء طهارة حكميّة فتفتقر إلى النيّة كالتيمّم ، فإنّا لا نحصر لفوارق ولا نتعرض لحذفها ، بل تعرّضنا لمعنى جامع ، والفوارق كثيرة ، وليس الجامع مناسبا ولا مؤثّرا ...» (2). وملخص القول : إنّ الغزالي سخّر لخدمة المعاني الفقهية القياس المنطقيّ العقليّ بجوانبه المختلفة ، كالسلجستي والتمثيل والتعليل والشرطيّ المنفصل. وجعل منها جميعا ضوابط وأطر للقياس الفقهيّ ، مرتكزها المعايير العقلية من حدّ مشترك وحدّ أكبر وغيرهما. وكان أفضل النماذج تعبيرا عن ذلك ، ردّه بعض الأقيسة إلى التمثيل لافتقاده الحدّ الأوسط فيها. وبهذا يتمحور استدلاله حول الحد الأوسط عماد السلجستي. فإن فقد فالجامع أو شبه الجامع يكون بين قضيّتين فرعيّتين وجزئيّتين.
    وأخيرا يمكن القول إن بنية كتاب المحك قد تبدّلت عن الكتب المنطقية التي سبقتها ، فغدت إسلامية الروح عربية الطابع اللغوي ، بعدا وتصورا.
    __________________
    (1) المصدر نفسه ، ص 90.
    (2) المصدر نفسه ، ص 91.

    وقد تجذّرت الكثير من المصطلحات في المحك على الرؤى الإيمانية واختلفت عن المفردات بدلالاتها ورمزها للتحليل العقلي والبرهان المنطقي.
    اعتمدنا في نص المحك على الطبعة الوحيدة الصادرة في القاهرة بالمطبعة الأدبية بسوق الخضار القديم والتي صححها : محمد بدر الدين النعساني الحلبي ومصطفى القباني الدمشقي.
    ثم وضعنا بعض الملاحظات في الهامش للتوضيح وثبت الآيات والأعلام كما نقّحنا بعض المفردات وصوّبناها.
    وقد أرفق الكتاب بفهرس للمصطلحات المنطقية.
    ربيع الثاني 1414 ه‍.
    أيلول 1993 م.
    رفيق العجم


    كتاب
    محك النظر
    الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي
    450 ـ 505 ه‍


    بسم اللّه الرحمن الرحيم
    قال الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة اللّه عليه. أحمد اللّه حمدا كثيرا متواترا وإن كان مع كثرته لا يقضي حق جلاله ، وأشكره شكرا مديدا متظاهرا ، وإن كان مع امتداده لا يوازي سحائب أفضاله ، وأتّكل على فضله إنه لا يكلّف عبده من الحمد والشكر إلا قدر استطاعته واستقلاله. وصلى اللّه على محمد عبده ورسوله خير خلقه وعلى آله.
    أما بعد : فإن صدق اقتضائك أيها الأخ في الدين حشرنا اللّه وإيّاك في جملة المتحابين وفيّة تحرير محك النظر والافتكار ليعصمك عن مكامن الغلط في إتمام مضايق الاعتبار. قدمني غبّ الانقباض وبعث في نفسي داعية الانتهاض وحوّلني إلى فن اطّرحته بحكم السئامة والضجر. فعدت إليه معاودة من التفت إلى ما هجر. وظل الالتفات إلى ما هجر ثقيل. ولكن نفاسة الثمن بنفاسة المثمن كفيل. ولا ثمن إلا ما أرجوه من بركة دعائك.
    عند صدق رجائك. وذلك في خلواتك. عند أعقاب صلواتك. فإني لم أتّبع فيما اقترحته هواك. إلا متقرّبا إلى رضاء اللّه تعالى برضاك. فأنا مقسم عليك بما تشاء من إخوة الدين أن لا تنساني في الدعاء. وإن تستشرك فيه من يعرفك من صلحاء الأصدقاء. فلم يبق إلا دعوات أهل الصلاح ، فقد أنبأ الصادق المصدوق صلوات اللّه عليه أن الدعاء للمؤمن عدة وسلاح. فإن

    لم يكن الدعاء هو المعوّل. فعلى ما ذا نتكل فالأمر أدّ ، والخطب حدّ. والسفر طويل والزاد قليل ، والشأن خطير ، والعمر قصير ، وفي العمل تقصير. والبضاعة مزجاة ، والحاضر من النقد زيف ، والناقد بصير. ولكن الجود غزير ، والرب قدير ، وفضل اللّه بالشمول جدير. فإن أقال عثراتنا بدعاء مسلم واحد فما ذلك على اللّه بعسير. وها أنا مقترح عليك أن تقول في دعائك : اللهم أره الحق حقا وارزقه اتّباعه. وأره الباطل باطلا وارزقه اجتنابه. وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع. عن حضيض التقليد مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع ، والاستبصار مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا كان نظره كله هباء ، وإن لم يوفقه للعمل بما علمه كان جهده كله عناء ، وكان علمه للجهل إناء وطاعته مع العصيان سواء. فنعوذ باللّه من سقطة ما منها بعثة ومن مهواة ما لها مرقاة. واعلم أن ما سمت إليه همتك ، وطمحت نحوه عينك إن استوفيته لك فبحر عميق وعمقه بعيد فاقنع في الحال بما تيسر وارض في الوقت بما حضر ، وإن كانت غرفة من بحر وصبابة من تيار ، وخذها عجالة من مستوفز ولمعة من بارق وقبسا من مجتاز ونبذة من طارق ، واكتف بما سمحت به القريحة على ارتجالها ، وعنت التشاغل به النفس مع ارتحالها ، وتحقّق أني جامع لك مع الإيجاز من النكت النفيسة زبدة محضها وصفوة محضها ، ومشير إلى جمل إذا أخذ التوفيق ضبعك وأحال إلى استدرار فرائده واستخراج ودائعه وبدائعه فهمك وطبعك احتويت به على ما انتخيت واستوليت على ما ابتغيت ، واللّه تعالى يعصم أقوالنا عمّا يراه بكمال علمه خطأ وخلفا ويوفقنا بقربنا إليه زلفى بمنّه وفضله.

    مقدمة تحصر مقصود الكتاب وترتيبه وأقسامه
    اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين ، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ، ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي ، فتقول ليس العالم قديما وتنسب الحادث إليه بالإثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق ، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب ، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف ، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى فلنسم الأول معرفة ولنسم الثاني علما ، متأسين فيه بقول النحاة : إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدا ، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدا عالما. والعلم أيضا يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيدا

    عدلا ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة. هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلا عن الآخر. فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم. وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان ، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب ، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث. والمعرفة قسمان : أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس ، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله. وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها. فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد.

    القول في شروط القياس
    اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة ألّفت تأليفا مخصوصا ونظمت نظما مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر ، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ، ومرة منهما جميعا. ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض ، فيكون فاسدا من حيث الصورة ، وإن كانت الأحجاز والجزوع وسائر الآلات صحيحة. وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات. فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف.
    وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعدّ الآلات المفردة أولا ، كالجذوع واللبن والطين ، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولا بالأجزاء المفردة فيركّبها ثم يركّب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل ، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب

    والنظم فيه ، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنه والأخرى خبرا أو وصفا. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين ، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى ، وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها ، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألّفنا معنيين وجعلناهما مقدمة ، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياسا ، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال ، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات ، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة ، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف اللّه تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد ، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف ، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا.
    فالقياس على ثلاثة فنون :
    الفن الأول : في السوابق وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علما تصديقيا يصلح أن يجعل مقدمة.
    الفن الثاني : النظر في كيفية تأليف المقدمات لينصاغ منها صحيح النظم وهو في المقاصد ، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص.
    الفن الثالث : في لواحق ينعطف عليها بالكشف عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها.

    الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:06 am

    الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول
    فصل في الألفاظ.
    فصل في المعاني.
    فصل في تأليف المعاني.
    حتى تصير علما يتطرق إليه التصديق والتكذيب.


    الفصل الأول
    في دلالة الألفاظ على المعاني
    اعلم وفّقك اللّه أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنّك مستقلا بإدراكه من نفسك ، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة.
    القسم الأول : إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه : وهي المطابقة والتضمن والالتزام. فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطرق المطابقة ، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم ، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّنا وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة.
    وأما طريق الالتزام : فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط ، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط حتى يكون مطابقا له ، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت ، وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت ، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه ، فدلالته على نمط آخر. فلنخترع له لفظا آخر وهو الالتزام والاستتباع. وإيّاك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكّن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة

    أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية.
    القسم الثاني : إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسمّيه معينا وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسمّيه مطلقا ، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة ، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن ، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه ، كقولك السواد والحركة والإنسان ، وبالجملة الاسم المفرد في لغة العرب إذا أدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسمّى لفظا عاما ، ويقال الألف واللام للعموم ، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام ، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.
    فاعلم أن هذا الوهم غلط فإن امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة ، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إله ثان ، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ بل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملا للكل فتأمّل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري.
    القسم الثالث : إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ، فلنخترع لها أربعة ألفاظ : وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة.

    أما المترادفة : فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمّى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب ، وبالجملة كل اسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان.
    وأما المتباينة : فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي ، وهي الأكثر.
    وأما المتواطئة : فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له ، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعيّن كما سبق فإنه يطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطؤ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطؤ ، فإنها متّفقة في المعنى الذي سمّي به اللون لونا وليس بطريق الاشتراك البتة.
    وأما المشتركة : فهي الأسامي التي تطلق على مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة ، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء ، وهي العين الفوّارة ، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات ، حتى ظنّ جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الاسم ، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة الباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطا. ونقول الاسم المشترك قد يدلّ على المختلفين كما ذكرنا وقد يدلّ على المتضادين ولا شركة بينهما البتّة ، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض ، وأيضا المشترك قد يكون مشكّكا قريب الشبه من المتواطي ويعسر الفرق على

    الذهن وإن كان في غاية الصفاء ، ولنسمّ ذلك متشابها ، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما ، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتّة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان ، فإنه بالاشتراك المحض ، إذ يراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإرادة وإطلاقه على الباري جلّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وسأشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس.
    (مغلطة أخرى) قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظنّ أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم ، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند ، يخالف إذا مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارم يدلّ على السيف مع صفة الحدّة والقطع ، لا كالليث والأسد فإن ثبت أن الليث يدلّ على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة ، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل اعتباراته ، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فإن لم يكن في مقابلته خصم سمّيناه قضية لأنه قضى على شيء بشيء ، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سمّيناه نتيجة ، فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سمّيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير.
    (مغلطة أخرى) المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسمّيين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولا منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والآخر منقولا إليه أو مستعارا منه

    بأولى من نقيضه كلفظ المشتري ، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولا ثم حدث الثاني بعده ، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختيارا فهو مختار وذلك مختار ، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر ، وليس كذلك لفظ الأم ل‍ (حوّاء) فإنها أم البشر ، والأرض فإنها تسمّى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين ، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان ، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب ، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب ، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره فإن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة. أما سمعت الشافعي رضي اللّه عنه في مسألة لمكره يقول يلزم القصاص لأنه مكره مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاء يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حلّه وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك ، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفا للفظ القادر ومساويا له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة ، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك ، وهذا يصدق على المكره.
    وقد يعبّر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج ، وهذا يكذب على المكره ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه ، فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت بسببها عقول الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الحال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ وإن كان فيها مباحث سواه.

    الفصل الثاني
    في النظر في المعاني المفردة
    ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية :
    التقسيم الأول : إن المعاني التي يدلّ عليها بالألفاظ إذا نسب بعضها إلى بعض وجد إما مساويا لها وإما أعم منها وإما أخصّ منها ، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيّز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص ، إذ كل جسم متحيّز وكل متحيّز جسم ، هذا على رأي من يقول إن كل متحيّز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيّز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه ، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه ، فربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة.
    التقسيم الثاني : المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتيا له ويسمّى صفة النفس وإما لازما ويسمّى وصفا لازما وإما عارضا له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعا.
    أما الذاتي : فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه ، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل على

    وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى.
    ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة.
    وأما الالتزام : فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه ، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبّر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له ، وأعني به أن فهم كنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك ، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه ، ولم يخطر بباله ذلك ، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها ، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان. فإنا نعلم أولا حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقا ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم.
    وأما العارض : فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب ، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي ، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة.
    التقسيم الثالث : إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميّز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به ، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار ، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها

    وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغك وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلا وينفي الحالة المسمّاة إبصارا ، ولما كنت تحسّ في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفة بها تهيأ للتخيّل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشئه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل.
    ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به ، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء ، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه ، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه ، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانيا كرؤيته له أولا ، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمّى عقلا ، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيّلات مباين لإدراك التخيّل مباينة أشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر ، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطا لبقاء الإبصار ولم يكن شرطا لبقاء التخيّل ، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البعد وذلك الشكل والوضع ، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تسمّى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان ، وربما ركّب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس ، وربما صوّر إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدّه وصورة الطيران وحدّه ، وهذه

    القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال ، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياء لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيّل للإبصار ، إذ ليس للتخيّل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها ، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل ، فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا ، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة ، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل ، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين ، وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية وغيرهما ، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما ، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب ، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزها عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود ، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام ، ويعبّر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، وقد دارت فيه رءوسهم وتاهت عقولهم ، والعجب أنه أول منزل ينفصل به

    المعقول عن المحسوس. إذ من هاهنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة ، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي ، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكا في مجرد الاسم كاشتراك العاقد والكوكب في اسم المشتري ، وإن هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل ، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصة فإن كشف غطائها يقرع أبوابا مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفّل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار.

    الفصل الثالث
    من فن السوابق في أحكام السوابق
    المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب
    كقولنا مثلا العالم حادث والبارئ تعالى قديم ، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات ، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزءين يسمّي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا ، ويسمّي المتكلمون أحدهما موصوفا والآخر صفة ، ويسمّي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه ، ويسمّي المنطقيون أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه والآخر محمولا وهو الخبر ، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكما ومحكوما عليه ولنسمّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمة ، فإذا استفدناهما من قياس نتيجة. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوبا إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضا لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتّبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتّضح الغرض بتفصيلات أربعة :

    التفصيل الأول
    إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة :
    الأولى : قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض.
    الثانية : قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن.
    الثالثة : قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض.
    الرابعة : قضية مهملة كقولنا الإنسان في خسر ، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا. فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما ، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة ، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة.
    فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقد يقال الإنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإيّاك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط ، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحا أن يقول الشافعي مثلا معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربويا. فإذا قيل فلم قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البر (1) والشعير والتمر والرز
    __________________
    (1) البر : الحبوب بمعنى اليوم وهي بضم الباء.

    مطعومات وهي ربوية ، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويّ أردت به كل المطعومات أو بعضها ، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجة. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي ، ويكون هذا خللا في نظر القياس مخرجا له عن كونه منتجا كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البر والشعير والتمر والرز ما لم تبيّن أن كل المطعومات ربويّة ، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحا فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها.
    التفصيل الثاني
    إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام : وهي الإمكان والوجود والاستحالة. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإنسان كاتب الإنسان ليس بكاتب ، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون ، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفردا وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقا وبعضه كاذبا وليس الغرض ذلك.
    التفصيل الثالث في بيان نقيض القضية
    وهذا ممّا يحتاج إليه ، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلّق من إبطاله إلى إثبات نقيضه ، فلا بد

    من معرفته. وربما يظنّ أن نقيض القضية جلي لا يحتاج إلى البيان ، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى ، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة ، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث ، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى ، وإنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط.
    الأول : أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ ، فإن اتّحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا ، كقولك النور مدرك بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر ، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل ، وكذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار في مسئلة المكره ، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متّحد والمعنى مختلف.
    الثاني : أن يكون الحكم واحدا والإثم متناقضا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم ، وأردت بأحد القديمين ما أراد اللّه تعالى بقوله (كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ) (1) وكذلك أيضا لم يتناقض قول الخصمين المكره مختار والمكره ليس بمختار ، إذ ذكرنا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين.
    الثالث : أن تتّحد الإضافة في الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض ، إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد ، وكذلك تقول زيد أب ، زيد ابن ، فيكون أبا لشخص وابنا لآخر ، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين.
    __________________
    (1) سورة يس ، الآية 39.

    وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع وإلى العصبة والأجنبي.
    الرابع : أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مرو بالقوة وليس بمرو بالفعل وهما صادقتان ، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان ، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن اللّه تعالى في الأزل خالق وأن اللّه تعالى في الأزل ليس بخالق.
    الخامس : التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيّل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته ، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه ، وإن كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيدا في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه ، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيدا عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه.
    السادس : التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث وهما صادقان ، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق ، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتعديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطا وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلا ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته ، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها ، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل.
    ويحصل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي

    بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين ، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وإلا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضروريا ، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان ، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان ، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب ، فتأمّل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة.
    التفصيل الرابع في بيان عكس القضية
    وهذا أيضا يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه ، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب ، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكوما عليه والمحكوم عليه حكما ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة ، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة ، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع :
    الأولى : نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة ، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيّز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد ، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة.
    الثانية : النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتّة ، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن أن تقول وبعض السواد ليس بلون ولا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون.
    الثالثة : المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فإنك مهما قلت بعض الألوان سواد صدق قولك بعض السواد لون ، فإن كون كل سواد لون لا

    يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتضى وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا وإن كان صحيحا في موضعه.
    الرابعة : المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب.

    الفن الثاني من محك القياس في المقاصد وهو طرفان
    أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم إني أعني بالقياس قضايا ألّفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها.
    أما النمط الأول : فنظمه من ثلاثة أوجه :
    النظم الأول : أن تكون العلة حكما في إحدى المقدمتين محكوما عليه في الأخرى ، مثل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث ، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حراما قياسا على الخمر ، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع المطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردّها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين.
    إحداهما : قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزءين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة ،

    لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض.
    في المقدمة الثانية : لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكرّرا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة ، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يقرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لم قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة ، ولنسمّ ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه وما يجري مجرى الحرام حكما ، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة ، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلّة داخلة فيهما جميعا فنشتقه من الجزءين الآخرين ، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسمّيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسمّيها الثانية اشتقاقا من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولا والحرام ثانيا. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم ، وهي مقدمة ، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه ، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقينا إن كان المطلوب عقليا أو ظنا إن كان المطلوب فقهيا. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله صلّى اللّه عليه وسلم «كل مسكر حرام» فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس ، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتّة ، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد

    جعلت المسكر وصفا فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف ، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف ، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع أنه مسلّم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام ، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسمّيات ، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجا ، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة ، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه ، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل ، إذ وقعت المباينة بين الخل والمسكر فحكمك على المسكر بالنفي أو الإثبات لا يتعدّى إلى الخل البتة.
    الشرط الثاني : أن تكون المقدمة الثانية عامة حتى يدخل بسبب عمومها المحكوم عليه فيه ، فإنك لو قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربويا ، إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل بل ربما كان الربوي بعضا آخر ، نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم حكم الربا في السفرجل ، ولكن يحتاج إلى إثبات المقدمة بعموم قوله صلّى اللّه عليه وسلم «لا تبيعوا الطعام بالطعام» أو بمدرك آخر ، وسنذكر مدارك المقدمات في الطرف الثاني من هذا الفن ، فإن قلت بما ذا فارق هذا النظم النظمين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع بحيث تكون حكما في المقدمتين أو محكوما عليه في المقدمتين أو توضع بحيث تكون حكما في إحدى المقدمتين محكوما عليه في الأخرى وهذا الآخر هو النظم الأول ، وهو الأوضح ، فإن الثاني والثالث لا يتّضح غاية الاتضاح بالبرهان المحقق إلا بالرد إليه فلذلك قدّمته وسمّيته النظم الأول الأوضح.
    النظم الثاني : من نظم القياس أن تكون العلة ، أعني المعنى المتكرر في المقدمتين حكما في المقدمتين ، أعني أن يكون خبرا فيهما ولا يكون مبتدأ في أحدهما خبرا في الآخر ، ولا مبتدأ فيهما جميعا ، مثاله قولنا إن

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:08 am

    الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري ليس بمؤلف وكل جسم مؤلف فالباري ليس بجسم ، فها هنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمتكرر في المقدمتين هو المؤلف فهو العلّة وتراه خبرا في المقدمتين غير مبتدأ به بخلاف المسكر في النظم الأول ، إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الأخرى ووجه لزومه النتيجة يمكن تفهيمه مجملا ومفصلا ومحقّقا. أما المجمل فهو أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر ولا يكون بينهما التقاء واتصال لا يجوز أن يخبر بأحدهما عن الآخر ، فالتأليف ثابت للجسم ومنفي عن الباري ، فلا يكون بين معنى الجسم والباري التقاء ، فلا يقال الباري جسم ولا يقال الجسم باري. وأما بالتحقيق والتفصيل فينبغي أن يرد إلى النظم الأول بعكس المقدمة النافية. ولنعدل إلى مثال آخر تصاونا عن ترديد لفظ الباري. فإن قول القائل إنه ليس بجسم كأنه سوء أدب كما أن قوله هو جسم كفر ، فإن من قال للملك أنه ليس بحجام ولا بحائك فقد أساء الأدب إذا وهم إمكان ما صرح بنفيه ، إذ لا يتعرض إلا لنفي ما له إمكان في المادة والجسمية أشد استحالة في ذاته تعالى عن قول الزائغين من الحياكة والحجامة في الملك ، فنقول مثلا الأجسام ليست أزلية ، إذ كل جسم مؤلّف ولا أزلي واحد مؤلف فيلزم منه لا جسم واحد أزلي ، إذ صار المؤلف ثابتا للجسم مسلوبا عن الأزلي ولا يبقى بين الأزلي والجسم ارتباط الخبر والمخبر. وتفصيله بأن تنعكس المقدمة النافية فإنها نافية عامة ، وقد قدّمنا أن النافية العامة تنعكس مثل نفسها فإذا صدق قولنا ولا أزلي واحد مؤلف صدق قولنا ولا مؤلف واحد أزلي وهو عكسه ، فنضيف إليه قولنا وكل جسم مؤلف فيعود إلى النظم الأول ، فيكون وجه دلالته ولزوم نتيجته ما سبق. وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا القضية النافية ، أما الإثبات فلا. وأما النظم الأول فهو أكمل لأنه ينتج القضايا الأربعة ، أعني المثبتة العامة والمثبتة الخاصة والنافية العامة والنافية الخاصة. ولم نفرد تفصيل هذه الآحاد استثقال التطويل فإن قلت فلم لا ينتج هذا النظم الإثبات فاعلم أن هذا لا ينتج إلا النفي ، ومن شرطه أن تختلف المقدمتان أيضا في النفي

    والإثبات ، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر ، فإنا نحكم على السواد والبياض جميعا باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد ، ونظم القياس فيه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فكل سواد بياض أو كل بياض سواد واللون هو المتكرّر وقد جعل خبرا في المقدمتين ، ولم ينتج بين المعنيين لا اتصالا ولا انفصالا ، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي ، وبرهانه عكس المقدمة النافية ليعود إلى النظم الأول.
    النظم الثالث : أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين جميعا. فهذا إذا جمع شروطه كان منتجا ، ولكن نتيجة خاصة لا عامة ، مثاله كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون ، وكذلك إذا قلت كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه بالضرورة أن بعض المطعوم ربوي. وبيان وجه دلالته ولزوم النتيجة منه بالإجمال أن الربوي والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد وهو البر فيلزم بالضرورة بينهما التقاء ، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي حكما خاصا ، وإن لم يكن عاما وبعض الربوي مطعوم ، وإن لم يمكن أن يقال بمجرد هذا كل واحد مطعوم ربوي أو كل ربوي مطعوم. وأما تفصيل تفهيمه فهو بأن تعكس المقدمة التي ذكرناها أولا وهو قولنا كل بر مطعوم ، وقد ذكرنا أن المثبتة العامة تنعكس مثبتة خاصة ، فإن صدق قولنا كل بر مطعوم صدق قولنا بعض المطعوم بر فتبقى المقدمة الثانية ، وهو أن كل بر ربوي ويرجع إلى النظم الأول ، إذ يصير المطعوم الذي هو المتكرر مبتدأ في إحدى المقدمتين خبرا في الأخرى ، وشرط الإنتاج في هذا النظم أن تكون المقدمة الأولى التي فيها المحكوم عليه مثبتة ولا تكون نافية كما شرطنا ذلك في النظم الأول ، فإن كانت نافية لم تلزم

    النتيجة ولا يضر أن تكون خاصة ، والذي يشترك فيه كل نظم أمران أحدهما أنه لا بد أن يكون في جملة المقدمتين قضية عامة فلا تلزم نتيجة من خاصتين البتّة. والثاني أن يكون فيهما مثبتة فلا تلزم نتيجة من نافيتين قط ، ولهذا شرح لكن لا أظنك تهتدي إلى ذلك بنفسك مهما ساعدك الجد في التأمل والمثابرة على الممارسة. فإن عليك وظيفتين إحداهما تأمل هذه الأمور الدقيقة ، والأخرى الأنس بهذه الألفاظ الغريبة. فإني اخترعت أكثرها من تلقاء نفسي لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين ، ولا أؤثر أن أتّبع واحدا منهم فيقصر فهمك عليه ، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين ، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالمتداول بين جميعهم واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها؛ حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن تردّه إليها وتطلع على مرادهم منها.
    النمط الثاني :
    من القياس ألاّ يكون فيه علة وحكم ومحكوم عليه كما سبق بل تكون فيه مقدمتان والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر واحد من تينك القضيتين أو نقيضها. ولنسمّ هذا النمط نمط التلازم ، ومثاله قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث ومعلوم أنه محدث فتلزم منه نتيجة وهو أن له محدثا بالضرورة. فالمقدمة الأولى قولنا إن كان العالم حادثا وهما قضيتان إن حذف قولنا إن كان أحدهما قولنا العالم حادث ولنسمّه المقدّم ، والثاني قولنا فله محدث ولنسمّه اللازم أو التابع ، والمقدمة الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سمّيناها مقدما وهو قولنا معلوم أن العالم حادث فتلزم منه نتيجة وهو أن العالم محدث؛ وهو عين اللازم. ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوتر يؤدّى على الراحلة بكل حال فهو نفل ، ومعلوم أنه يؤدّى على الراحلة بكل حال فثبت أنه نفل. وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات ينتج منها اثنتان ولا ينتج اثنتان. أما المنتج

    فتسليم عين القضية التي سمّيناها مقدما فإنه ينتج عين اللازم ، مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم منه المصلي متطهر. ومثاله من الحس قولنا إن كان هذا سوادا فهو لون ومعلوم أنه سواد فهو إذا لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدّم ، ومثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة ليست صحيحة ، فانظر كيف أنتج تسليم نقيض اللازم نقيض المقدّم ، ومثاله أيضا قولنا إن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم أن هذا اللازم باطل فإنه ليس يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه نقيض المقدّم ، وهو أن البيع غير صحيح. ومثاله أيضا قولنا إن كان الباري تعالى على العرش فهو مقدّر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر ، ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدّرا فيكون المقدّم محالا. ووجه دلالة هذا أن المؤدّي إلى المحال محال وقول الخصم أنه على العرش مؤدّي إلى المحال فهو محال ، وقوله إن بيع الغائب صحيح مؤد إلى المحال ، وهو أن يلزم بصريح الإلزام على خلاف الإجماع والمؤدى إلى المحال محال. فأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم. فإنا إذا قلنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فيلزم أن الصلاة صحيحة ، وهو غير صحيح ، إذ ربما تكون الصلاة باطلة بعلة أخرى سوى الطهارة. وكذلك تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. فإنك لو قلت ومعلوم أن الصلاة ليست بصحيحة فلا يلزم من هذا أن المصلي متطهر ولا أنه غير متطهر.
    والفرق بين هذا النمط والنمط الأول أن الأول ترتيبه خبر عن شيء تمّ حكم على الخبر بشيء فلزم منه نتيجة وهو الالتقاء بين المبتدأ الأول والخبر الأخير ، وكل واحد من الاجزاء الثلاثة يصلح أن يجعل وصفا وخبرا وحكما للآخر في نظم هذا الكلام. وأما هذا فإنه إظهار تلازم بين قضيتين غير متداخلتين. فإن قولنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر بيان أن

    كون المصلي متطهرا لازم لكون الصلاة صحيحة ، فلا يمكن أن يجعل كون المصلي متطهرا لا وصفا للصلاة ولا وصفا للصحة. والفرق من حيث الترتيب والنظم ظاهر. وأما وجه الدلالة فهو أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم ، بل إما أخص وإما مساويا. ومهما كان أخص فبثبوت الأخص يلزم بالضرورة ثبوت الأعم. إذ يلزم من ثبوت السواد وجوده ووجود اللون ، وهو الذي عنيناه بتسليم عين المقدّم. وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص ، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم. فأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص ، فإن ثبوت اللون لا يدل على ثبوت السواد ، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج لا نفي اللازم ولا ثبوته ، وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته ، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. وأما جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ ، كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد وإن كان اللازم مساويا للمتقدم أنتج منه أربع تسليمات : كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب ومعلوم أنه موجود فإذن الرجم واجب ، أو معلوم أنه غير موجود فإذا الرجم غير واجب ، أو معلوم أن الرجم واجب فإذا زنا المحصن موجود ، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذا الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع ، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود ، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة ، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة.
    النمط الثالث نمط التعاند :
    وهو على ضد نمط التلازم والمتكلمون يسمّونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل ، ونحن سميناه التعاند ، ومثاله العالم

    إما قديم وإما حادث فهذه مقدمة وهما قضيتان ، يحذف إما الأولى قولنا العالم قديم أو الثانية قولنا العالم حادث ، فتسليم إحدى القضيتين أو نقيضها يلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات : فإنا نقول ومعلوم أنه حادث فيلزم منه نقيض المقدمة الأخرى وهو أنه ليس بقديم. أو نقول ومعلوم أنه ليس بحادث فيلزم منه عين المقدمة الأخرى. أو نقول ومعلوم أنه قديم فيلزم منه نقيض الأخرى وهو أنه ليس بحادث. أو نقول ومعلوم أنه ليس بقديم فيلزم منه عين الأخرى. فبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر ، ولا يشترط أن تنحصر المقدمة في قسمين بل شرطه أن تستوفى أقسامه وإن كان ثلاثا. فإنا نقول هذا الشيء إما مساو وإما أقل وإما أكثر فهذه ثلاثة ولكنها حاصرة ، فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإبطال واحد ينتج انحصار الحق في الآخرين أحدهما لا بعينه ، والذي لا ينتج فهو أن لا يكون محصورا ، كقولك زيد إما بالعراق وإما بالحجاز وهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر ، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وهذا وغيره. وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع ثالث ويكاد يكون كلام من يستدل على إثبات رؤية الباري بإحالة تصحيح الرؤية على الوجود غير محصور ، إلا أن نتكلف لحصره وجها بأن نقول تصحيح الرؤية لا يخلو إما أن يكون بكونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة. فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود فهو المصحّح ، إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك لم يعثر عليه الباحث سوى الموجود ، مثل كونه بجهة من الرائي مثلا. فإن أبطل هذا أيضا فلعلّ ثمّ معنى آخر ، إلا أن نتكلف حصر المعاني ونتكلف نفي جميعا ونبيّن أن طلب مصحح لا بد منه فعند ذلك تحصل النتيجة ، فهذه ضروب الأقيسة.
    فكل استدلال لا يمكن ردّه إلى هذه الضروب فهو غير منتج وسنزيده شرحا في حق اللواحق.

    الفن الثالث من المقاصد
    [في بيان المقدمات الجارية من القياس مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير ، فإن ما ذكرناه جرى مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من الخشب ، وكما لا يمكن أن يتّخذ من كل جسم سيف وسرير وقميص ، إذ لا يتأتّى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتّخذ من كل مقدمة وقضية قياس منتج ، بل القياس المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنيا إن كان المطلوب فقهيا ، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها نقتنص اليقين. وهذا وإن كان القول يطول فيه ولكنا نحرص على الإيجاز بقدر الإمكان. أما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال :
    أحدها : أن تتيقن وتقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس ، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه ، ويكون فيه آمنا مطمئنا قاطعا بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه ولا أن يطّلع على دليل غاب عنه فيغيّر اعتقاده ، ولو حكى نقيض اعتقاده عن أفضل الناس فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه ، بل لو حكى له أن نبيا مع

    معجزة قد ادّعى أن ما يتيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته فلا يكون له تأثير بهذا السماع إلا أن يضحك منه ، ومن المحكي عنه. فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون اللّه قد أطلع نبيه على سر انكشف له نقيض اعتقاده ، فليس اعتقاده يقينا. ومثال هذا العلم قولنا إن الثلاثة أقل من الستة ، وإن شخصا واحدا لا يكون في مكانين ، وإن شخصين لا يجتمعان في موضع ونظائر ذلك.
    الحالة الثانية : أن يصدّق به تصديقا جزما لا يتمارى فيه ولا يشعر بنقيضه البتة ولو أشعر بنقيضه عسر عليه إذعان نفسه للإصغاء إليه ولكنه لو ثبت وأصغى وحكى له نقيض معتقده عمّن هو أعلم الناس وأعدلهم عنده ، وقد نقله مثلا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أورث ذلك في يقينه توقفا ما ولنسمّ هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم ، بل أكثر اعتقاد المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة ، فإنهم قبلوا المذاهب والأدلة جميعا بحسن الظن والتصديق من أرباب مذاهبهم الذين حسن فيهم اعتقادهم بكثرة سماعهم الثناء عليهم وتقبيح مخالفتهم ونشؤهم على سماع ذلك منذ الصبا ، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مثيله في أول نظره إلى الكفر والإسلام وسائر المذاهب عزيز.
    الحالة الثالثة : أن يكون له سكون نفس إلى شيء والتصديق به وهو يشعر بنقيضه أو لا يشعر ولكنه إن أشعر به لم ينفر طبعه عن قبوله ، وهذا يسمّى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى ، فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه ، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وقوي الظن ، فإن انضاف إليه ثالث زادت القوة ، فإن انضافت إليه تجربة بصدقهم على الخصوص زادت القوة ، فإن انضافت إليه قرينة حال كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وهم على صورة مذعورين صفر الوجوه مضطربي الأحوال زاد الظن ، وهكذا لا يزال يترقى قليلا قليلا في القوة إلى أن ينقلب الظن على التدريج يقينا إذا انتهى الخبر إلى حد التواتر. والمحدثون يسمّون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح

    يوجب العلم العمل بها على كافة الخلق إلا آحاد المحققين ، فإنهم يسمّون الحالة الثانية يقينا ولا يميّزون بين الحالة الثانية والأولى ، والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظان الغلط. فمهما ألّفت القياس من مقدمات يقينية حقيقية في صورة تأليف الشروط التي قدمناها كانت النتيجة الحاصلة يقينية ضرورية بحسب ذوق المقدمات.

    الفصل الثاني
    في مدارك اليقين والاعتقاد
    لعلّك تقول قد استقصيت في شروط اليقين استقصاء مؤنسا عن نيله والظفر به فمن أين يقتنص مثل هذا اليقين وما آلته ومدركه. فاعلم أن مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافة ، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظنّ بها اليقين ومجامعها فيما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام ، ولنخترع لكل واحد منها اسما مشتقا من سببه :
    الأول أوليات : وأعني بها العقليات المحضة التي اقتضى ذات العقل بمجرد حصولها من غير استعانة بحس التصديق بها مثل علم الإنسان بوجود ذاته ، وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا ، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر ، وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتبة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما به ، ولا يدري متى حصل ولا يقف حصوله على وجود أمر سوى العقل ، إذ يرتسم فيه الوجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض ، مثل أن تحضر أن القديم حادث ويكذب العقل به أو أن القديم ليس بحادث ويصدق العقل به ، ولا نحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب.
    الثاني المشاهدات الباطنة : وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه

    وخوفه وفرحه وسروره وجميع أحواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس. وهذه ليست مدركة بالحواس الخمس ومجرد العقل لا يكفي في إدراكها بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل والأوليات لا تكون للبهائم والصبيان. فإذا يحصل من هذا المدرك يقينيات كثيرة وقضايا قطعية مثل قطعه بأنه جائع ومسرور وخائف ، ومن عرف نفسه وعرف السرور وعرف حلول السرور فيه ينظم من هذه المعارف قضية يحكم على نفسه بأنها مسرورة ، فكانت القضية المنظومة منه عند العقل قضية حقيقة.
    الثالث المحسوسات الظاهرة : كقولك الملح أبيض والقمر مستدير والشمس مستديرة وهذا الفن واضح ، ولكن يتطرق الغلط إلى الإبصار بعوارض فتغلط لأجلها مثل بعد مفرط أو قرب مفرط أو ضعف في العين.
    وأسباب الغلط في الإبصار الذي على الاستقامة ثمانية ، والإبصار الذي بالانعكاس كما في المرآة. والذي بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج تتضاعف فيه أسباب الغلط ومداخل الغلط في هذه الحالة على الخصوص لا يمكن استقصاؤه في مجلدات. ولا يمكن أن يجعل علاوة على هذه العجالة وإن أردت أنموذجا من أغاليط البصر فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي والنبات في أول النشو وهي في النمو في كل لحظة تتزايد على التدريج ويراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر.
    الرابع التجربيات : ويعبّر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو إلى جهة الأرض والنار متحركة إلى جهة فوق والخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها ، فإن معرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الخبز مشبع ، فإنه انفرد بالتجربة وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه. وهذا غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض. فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية

    في عين فليس للحس إلا قضية في عين ، وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر ، فإن الحس لم يدرك إلا شربا وسكرا عقيبه وذلك في شراب معيّن مشار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبّ عليه مائعا فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله أن زواله كان بالاتفاق ، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإخلاص مثلا على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطّرد في الأكثر ، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز ، إذ لو كان بالخبز لكان دائما مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات ، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج ، ولذلك نرى أقواما يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة ، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني ، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها ، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا

    بشبكة البصر وسائر الحواس ، ولذلك قرن اللّه السمع والبصر بالفؤاد في القرآن.
    الخامس المعلومات بالتواتر : كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس ، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس ، إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتا ، المخبر بوجود مكة ، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة ، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقينا. فإن ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة ، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم ، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك.
    السادس الوهميات : وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته ، وأن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا ولا خارجا ولا داخلا محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال ، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألفها ، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وإنكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان ، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة ، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملا غير ممكن فإنك إن أثبت خلاء فما أراك تجعله قديما. فإن الخلاء ينعدم بالملإ والقديم لا ينعدم ، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى اللّه وصفاته وإذا جعلته محدثا لزمك أن يكون متناهيا فينقطع ، وإذا جاوزت المنقطع كنت معترفا بأنه ليس بعده

    لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية ، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين ، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فإن قلت فبما ذا أميّز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيدا لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن ، وقالوا بتكافؤ الأدلة وادّعوا النفس ، وليس يحصل لنا الأمان وقال لبعضهم لسنا نتيقن أيضا تكافؤ الأدلة بل هذا أيضا لا ندريه ، وكشف الغطاء عن هذا صعب ويستدعي تطويلا ولكن أفيدك الآن طريقين تثق بهما في كذب الوهم.
    الأول جملي : وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات وليس هذا من النظريات ، ولو عرضت الوهم على نفس الوهم لأنكره. فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده إياه ، ولو كلفت الوهم أن يقابل ذات القدرة والعلم والإرادة لتصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا ، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد وجسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض كأنه ستر مرسل على وجهه ، ولم يقدر على تقدير إدخال البعض في البعض الآخر بأسره ، فإنه إنما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي على كل شيئين بأنه متميّز في الوضع عن الآخر.
    الطريق الثاني : وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن تعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين ، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس ، وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوس

    بالمحسوس ، إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات. فحيلة العقل في أن يثق بكذبه وبقضاياه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية يساعد الوهم عليها وينظمها بنظم المقايسين التي ذكرناها. فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق من الأمثلة وكما في سائر الهندسيات فيتخذ ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه. فإذا رأى الوهم قد كاع عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمه وساعد على أن مثل هذا النظم منتج بالضرورة وأن تلك المقدمات صحيحة بالضرورة ثم أخذ يمتنع عن قبول النتيجة علم أن ذلك من نفور في طباعها عن إدراك هذا الشيء الخارج عن المحسوسات. فاكتف بهذا القدر فإن تمام الإيضاح لا يحصل إلا بالامتحان في أمثلة كثيرة ، وذلك مما يطول فيه الكلام.
    السابع المشهورات : وهي آراء مجموعة أوجب التصديق بها ، إما شهادة الكل والأكثر أو شهادة الجماهير أو الأفضل ، كقولك الكذب قبيح والإنعام حسن وشكر المنعم حسن وكفران النعمة قبيح وهذه قد تكون صادقة وتكون كاذبة ، فلا يجوز أن يعوّل عليها في مقدمات القياس. فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية ، فإن الفطرة الأولى لا يقضي بها بل ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبي ، وذلك بتكرير ذلك على الصبي وتكليفه اعتقاده وتحسين ذلك عنده ، وربما يضطر إليها حب التسالم وطيب المعاشرة ، وربما نشأ من الحياء ورقة الطبع ، فنرى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون من أكل لحومها وما يجري هذا المجرى ، فالنفرة من المجبولة على الجبن والرقة أطوع لقبولها ، وربما حمل على التصديق بها الاستقراء الكثير ، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيترسّخ في نفسك كمن يقول مثلا التواتر لا يورث العلم لأن قول الواحد لا يورث ، وكذلك الثاني ، فقد انضم ما لا يوجب إلى ما لا يوجب والمجموع لا يزيد على الآحاد ، لأن قوله الواحد لا يوجب العلم ، إذ يجوز عليه

    الغلط ، وهذه قضية يظن أنها صادقة بالإطلاق وليس كذلك ، بل الصادق أن قول الواحد المنفرد بقوله يحتمل الغلط والجمع يخرجه عن الانفراد ، وكل واحد لا يوجب قوله العلم بشرط أن لا يكون معه الآخرون ، فإذا اجتمعوا بطل هذا الشرط. وهذه من المثارات العظيمة الغلط وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة يطول إحصاؤها ولا ينبغي أن تتّخذ مقدمات القياس اليقيني منها البتّة ، وأكثر أقيسة الجدليين من المتكلمين والفقهاء في مجادلاتهم وتصانيفهم مؤلّفة من مقدمات مشهورة فيما بينهم ، سلّموها لمجرد الشهرة وذهلوا عن سببها. ولذلك نرى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيّرون فيها وتتخبط عقولهم في تنقيحها. فإن قلت فيما أدرك الفرق بين المشهور والصادق فاعرض قول القائل الصدق جميل والكذب قبيح على العقل الأولي الفطري الموجب للأوليات ، وقد رانك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تؤدّب باصطلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ وأب ومرشد وكلّف نفسك أن تشكك فيه ، فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا ، وإنما الذي يعسر عليك هذه التقريرات. فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال. ولكن إذا تحدّقت فيه أمكنك التشكّك ، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلا وهو كاذب وهمي ، ولكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر تقتضيه فطرة العقل. فأما كون الكذب قبيحا فلا تقضي به لا فطرة الوهم ولا فطرة العقل بل ما ألفه الإنسان من العادات والأخلاق والاصطلاحات ، وهذه أيضا مغاصة مظلمة يجب التحرز عنها. وقلّ من لا يتغير بهذه المقدمات ولا تلتبس عليه باليقينيات ، لا سيما في تضاعيف الأقيسة مهما كثرت المراتب والمقدمات. وهذا القدر كاف في المقدمات التي هي جاملة للنظم والترتيب والتأليف. والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية ولا تصلح لغيرها ولنختم هذا في المقاصد.

    الفن الثالث من القياس في اللواحق وفيه فصول
    الفصل الأول
    في بيان كل ما تنطق به الألسنة في العادات والمحاورات والفقهيات والعقليات ممّا يذكر في معرض الدليل والتعليل ويمكن أن يقرن به لأنّ ، ويذكر في جواب لم ، فذلك بالضرورة يرجع إلى ضروب النظم التي ذكرناها. ولا بد منها البتة ، وأن ما ترى تأليفه وإطلاقه على غير ذلك النظم فله أربعة أسباب : وذلك إما قصور علم الناظر بتمام نظم القياس ، وإما إهماله بعض المقدمات لكونها واضحة ، وإما إهماله لكونها مشتملة على موضع التلبيس فيحذر من أن يصرّح به فيطّلع على تلبيسه ، وإما تركيب الضروب التي ذكرناها وجمع جملة من آحادها في سياق كلام واحد. فإنا لم نذكر إلا المفردات من النظم ، فإن تلك المفردات إذا تداخلت حصل منها تأليفات كثيرة أعرضنا عن تفصيلها للإيجاز. ولنورد لكل واحد منها مثالا : الأول فيما ترك إحدى مقدمتيه لوضوحه وهو أكثر الأدلة العقلية والفقهية ، إذ يحترز عن التطويل ، وكذا في المحاورات كما يقول القائل هذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن فإذا يجب عليه الرجم. ولكن ترك مقدمة الحكم وذكر مقدمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهورا ، وكذلك يقال العالم. لوجوده سبب فيقال لم فنقول لأنه حادث فإذا له سبب. وكما يقال نكاح الشغار فاسد فيقال لم فنقول لأنه منهيّ عنه. وتمامه أن نقول كل منهي عنه فهو فاسد ونكاح الشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ولكن ترك ذلك للشهرة والتلبيس أيضا حتى لا يقول الخصم أسلّم أنه منهي عنه ولكن لا أسلّم أن كل

    منهي عنه فاسد فيترك المقدمة الممنوعة. وأما مثال ما يترك لأجل التلبيس فأن تقول فلان خائن في حقك فيقال لم فيقول لأنه يناجي عدوك ، وتمامه أن يقول كل من يناجي العدو فهو خائن وهذا يناجي العدو فهو خائن ، ولكن ترك مقدمة الحكم فإنه لو صرح به ربما يذكر أنه ربما يناجي العدو ليخدعه أو يستميله أو ينصحه ، ولا يسلّم أن كل من يناجي العدو فهو خائن فيترك ذلك حتى لا يتذكر محل الكذب ، وربما يترك مقدمة المحكوم عليه فيقول لا تخالط فلانا فيقال لم فيقول لأن الحسّاد لا تؤمن مخالطتهم. وتمامه أن نقول الحسّاد لا يخالطون وهذا حاسد فينبغي أن لا يخالط ، فتركت مقدمة المحكوم عليه وهو قولك هذا حاسد وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه إهمال إحدى المقدمتين إيهاما بأنه واضح وربما يكون الكذب فيه أو استغفالا للخصم واستجهالا له ، فإنه ربما يتنبّه للحاجة إلى المقدمة الثانية. وهذا كله أمثلة النظم الأول ، وقد يقع في غيره أيضا. كمن يقول مثلا كل شجاع ظالم فيقال لم فيقول لأن الحجّاج (1) كان شجاعا وظالما ، فهذا تمامه أن يقول الحجّاج شجاع والحجّاج ظالم. فكل شجاع ظالم وهو غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث ، وقد ثبت أن النظم الثالث لا ينتج إلا قضية خاصة ، وإنما كان من النظم الثالث لأن العلة هي الحجّاج ، فإنه متكرر في المقدمتين ولا يلزم منه إلا أن بعض الشجعان ظلمة ، أما الكل فغير لازم. وكذلك يقول العامي المتفقهة سيئة الآداب والمتصوفة كلهم فسقة ، فيقال لم فيقول لأني رأيت متصوفة الرباط الفلاني ومتفقهة المدرسة الفلانية يفعلون كيت وكيت وهو خطأ لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وهو محال ، وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم إلا نتيجة جزئية ، وهو معنى
    __________________
    (1) الحجّاج بن يوسف الثقفي عامل الأمويين على العراق والمشهور ببطشه النصف الثاني من القرن الأول الهجري.

    النظم الثالث ، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساويا للحكم كان من النظم الأول وأمكن أن تستنتج منه القضايا الأربعة ، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي ، أما الإثبات فلا. ومثاله من العادات أن تقول هذه المرأة حبلى فيقال لم فتقول لأنها عظيمة البطن فهذا دليل فاسد وقد حذف إحدى مقدمتيه. وتمامه أن يقول هذه المرأة عظيمة البطن وكل عظيمة البطن فهي حبلى فهذه المرأة إذا حبلى ، والعلة عظيمة البطن وقد جعل خبرا في المقدمتين ، وهو أعم من المحكوم عليه فإنه المرأة المعيّنة وعظيمة البطن ، إذ قد يعظم بطن غيرها ، وأعم أيضا من الحكم فإن الحكم هو الحبل وعظم البطن أعم منه إذ قد يكون بالاستسقاء والسمن والانتفاخ.
    والغلط من هذا الوجه في الفقهيات والكلاميات أكثر من أن يحصى. وأما مثال المختلطات المركبة من كل نمط فكقولك الباري تعالى إن كان على العرش فهو إما مثل أو أكبر أو أصغر أو مساو ، وكل مساو أو أكبر أو أصغر مقدّر وكل مقدر إما أن يكون جسما أو لا يكون جسما ، وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات ، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط ، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدّق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند ، وإذا اتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه.

    الفصل الثاني
    في بيان أن ما يسمّى استقراء
    وتمثيلا يرجع بالضرورة إلى ما ذكرناه
    أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفّح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشتمل تلك الجزئيات ، كقولنا في الفقه الوتر ليس بفرض لأنه يؤدّى على الراحلة ، فيقال ولم قلتم إن الفرض لا يؤدّى على الراحلة؟ فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء ، فإنا رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدّى على الراحلة ، فعلمنا أن كل فرض لا يؤدّى على الراحلة. ووجه دلالة هذا لا تتم إلا بالرد إلى النظم الأول وهو أن نقول كل فرض إما قضاء أو أداء أو نذر ، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدّى على الراحلة فإذا كل فرض لا يؤدّى على الراحلة ، وهذا مخيّل يصلح للظنيات دون القطعيات. والكذب تحت قوله إما أداء فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدّى على الراحلة لا يسلّمه الخصم. فإن الوتر أيضا أداء كالعصر والصبح ، وإنما سلّم الخصم الصلاة الخمس ، أما السادس فما سلّمه. فنقول وهل استقريت حكم الوتر في تصفّحك وكيف وجدته؟ فإن قلت وجدته لا يؤدّى على الراحلة فالخصم لا يسلّم وإن لم تتصفّحه فلم يتبيّن لك إلا بعض الأداء ، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة ، وكان الواجب أن تقول بعض الفرض لا يؤدّى على الراحلة ، وذلك لا ينتج فإنّا بيّنا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة ، فإن كانت خاصة لم تنتج. وهذا غلط من قال إن صانع العلم تعالى عن قوله

    جسم ، إذ يقال له لم فيقول لأن كل فاعل جسم ، فيقال له فبما عرفت هذا فيقول بالاستقراء ، إذ تصفّحت الفاعلين من خياط وبنّاء وإسكاف وحجّام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما ، فيقال وهل تصفّحت صانع العالم ، فإن قلت نعم فوجدته جسما فهو محل النزاع ، فكيف أدخلته بالمقدمة؟ وإن قلت لا فقد ظهر لك بعض الفاعلين لا كلّهم ، فظهر بذلك أن الاستقراء إذا لم يكن تاما مستوعبا لم يفد وإن استوعب دخلت فيه النتيجة المطلوبة ، ولا يصحّ ذلك إلا في الظنيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط واحد غلب على الظن أن الآخر كذلك.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:10 am

    الفصل الثالث
    من وجه لزوم النتيجة من المقدمات
    وهو الذي يعبّر عنه بوجه الدليل ، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء ولا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غير. فيقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أمرين إما أن يصدّق به أو يمتنع عن تصديقه ، فإن صدّق به فهو الأولى المعلوم بغير واسطة ، ويقال إنه معلوم بغير دليل وبغير علة وبغير حيلة وبغير نظر وتأمل. وهذه العبارات تؤدّي معنى واحدا في هذا المقام ، وإن امتنع عن المبادرة إلى التصديق ولا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة ، وتلك الواسطة هي التي تنسب الحكم إلى المحكوم عليه فيجعل خبرا عنه فيصدق به وينسب إلى الحكم فيجعل الحكم خبرا عنه فيصدق به فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه ، وبيانه أنا إذا قلنا للعقل هل النبيذ حرام؟ قال لا أدري ولم يصدق به ، فعلمنا أنه ليس في الذهن طرف هذه القضية وهو الحرام والنبيذ ، فلا بد وأن يطلب واسطة ، ربما يصدق العقل بوجوده في النبيذ ويصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. فيقول وهل النبيذ مسكر فيقول نعم ، إذا كان قد حصل له ذلك بالتجربة ، فيقول وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا حصل له ذلك بالسماع ، فيقول وهل المدرك بالسمع (يعمل بحكمه) قلنا نعم. فإن صدّقت بهاتين القضيتين لزمك

    التصديق بالثالث وهو أن النبيذ حرام بالضرورة ، فيلزمه ذلك ويذعن للتصديق به. فإن قلت هذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما ، فاعلم أن ما توهمته حق من وجه وغلط من وجه. أما وجه الغلط فهو أن هذه القضية ثالثة بدليل أنك تقول النبيذ حرام وتقول النبيذ مسكر وتقول المسكر حرام ، فليس قولك النبيذ حرام تكرار في المقدمتين بعدهما بل هذه ثلاث مقدمات متباينة اللفظ والمعنى ، فعرفت أن النتيجة اللازمة غير المقدمات الملزم بها ، وأن الملزمة اثنتان والنتيجة ثالثة سواهما. وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شامل لعموم النبيذ الذي هو أحد المسكرات ، فقولك النبيذ حرام منطو فيه ولكن بالقوة لا بالفعل ، إذ قد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص ، فمن قال الجسم متحيّز لا يخطر بباله ذكر القطب فضلا عن أن يخطر بباله مع ذلك حكمه بأنه متحيّز ، فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلومة بالفعل ، والموجودة بالقوة القريبة ربما يظن أنها موجودة بالفعل توهما ، فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمة بالقوة ، وإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل ، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ولو قيل له هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم ، فإن قيل له فهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم ، فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب هو من توهّم نفسه مع علمه بالمقدمتين ، أي علمه أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر والعاقر هي التي لا تحمل ، فإذا هي لا تحمل.
    وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل فإذا انتفاخها من سبب آخر ، ولما كان السبب الخاص القريب لحصول النتيجة في الذهن التفطّن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء ، فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره. والحق أن المدلول هو المطلوب المنتج وأنه عين التفطّن لوجوده في المقدمة بالقوة ، لكن هذا التفطّن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد الذهن بحضور هذه المقدمات مع

    هذا التفطّن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعّال عند الفلاسفة ، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالف للتولد الذي ذكره المعتزلة ، وعلى سبيل حصوله بقدرة اللّه تعالى عقيب حصول المقدمتين في الذهن ، والتفطّن لوجه تضمنه له بطريق إجراء اللّه العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا ، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق بها قدرة العبد ، وإنما قدرته على استحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمة للنتيجة على معنى وجودها فيها بالقوة فقط. فأما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق به القدرة ، وعند بعضهم تتعلق به القدرة الحادثة فيكون العلم النظري كسب العبد ، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو ، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح ، وإن خالف المعتاد.
    مغالطة من منكري النظر : وهو أن يقول ما تطلبه بالنظر هو معلوم لك أم لا ، فإن علمته فكيف تطلبه وأنت واحد وإن جهلته فإذا وجدته ، فبم تعرف أنه مطلوبك ، وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه ، وحلّها أن تقول أخطأت في نظم دليلك ، فإن تقسيمك ليس بحاصر ، إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو إني أعرفه من وجه وأجهله من وجه ، وأعني الآن بالمعرفة غير العلم. فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل ، ولو كنت أعلمه بالفعل لما طلبته ولو لم أعلمه بالقوة لما طمعت في أن أعلمه ، إذ ما ليس في قوة عليه يستحيل حصوله كالعلم باجتماع الضدين ، ولو لا أني أدركه بالمعرفة والتصور لأجزائه المفردة لما كنت أعلم بالظفر بمطلوبي إذا وجدته ، وهو كالعبد الآبق فإني

    أعرف ذاته بالتصور ، وإنما أنا طالب مكانه وأنه في البيت الفلاني أم لا ، وكونه في البيت أعلمه بالمعرفة والتصور أي لفهم البيت مفردا وأفهم الكون مفردا وأعلمه بالقوة ، أي في قوة أن أصدّق بكونه في البيت ولكن لست مصدّقا بالفعل ، وإنما أطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر ، وإذا رأيته في البيت بالمشي إليه صدّقت بكونه في البيت بالفعل ، فلولا معرفتي البيت والكون والعبد بطريق التصور للمفردات لما عرفت وجه المطلوب عند رؤية العبد ، ولو لا أنه في قوة التصديق لما صار بالفعل ، فكذلك أطلب أن العالم حادث فأفهم العالم مفردا بالمعرفة والتصور وأعلم الحادث بالمعرفة وفي قوة التصديق بأن العالم حادث فإذا صار بالفعل علمت أنه مطلوبي ولو كان بالفعل لما طلبته.
    مغالطة أخرى : قال بعض منكري العلم ، أتعلم كل اثنين زوج فقيل نعم ، فقال فما في يدي زوج أم لا ، فإن قلت نعم فبم أعرفه والكف مجموع ، وإن قلت لا فقد ناقضت قولك ، إذ قلت عرفت أن كل اثنين زوج وما في يدي اثنان فكيف لم تعلم أنه زوج ، فأجيب عن هذا بأنا عنينا بما ذكرنا أن كل اثنين عرفنا أنهما اثنان فهما زوج ، وما في يدك لم أعرف أنه اثنان ، ولو عرفت أنه اثنان لقلت أنه زوج. وهذا الجواب مع وضوحه خطأ فإنا إذا قلنا كل اثنين زوج إن أردنا به أن كل الاثنين زوج سواء عرفنا أن ما في يده اثنان أو لم نعرف كان خطأ بل كل ما هو اثنان في نفسه وفي علم اللّه تعالى فهو بالضرورة زوج ، لكن الجواب الحق أن ما بيدك زوج إن كان اثنين ، وقولي لا أعرف أنه اثنان لا يناقض قولي كل اثنين زوج بل نقيض قولي كل اثنين زوج قولي كل اثنين فليس بزوج أو بعض ما هو اثنان ليس بزوج.
    هاتان المغالطتان وإن كانتا من الجليات فإنما أوردتهما ليقع الأنس بتحرير الكلام في حل الإشكالات ، فإن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات والتسامح فيها ، ولو أخذت الجليات وحررت ثم تطرق

    منها إلى ما بعدها تدريجا حتى لا يخفى قليلا قليلا فيتّضح الشيء بما قبله على القرب لطاحت المغالطات ، ولكن عادة النظّار الهجوم على غمرة الأشكال وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجليّة بعد أن تخلّلت بينه وبين الأوائل درجات كثيرة فلا تمتد شهادة الجلي ولا يقوى الذهن على الترقّي في المراقي الكثيرة دفعة فتزلّ الأقدام وتعتاص المطالب وتنحطّ العقول ، ولذلك ضلّ أكثر النظّار وأضلوا إلا عصابة الحق الذين هداهم اللّه تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه.

    الفصل الرابع
    في انقسام القياس إلى قياس دلالة وقياس علة
    أما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرّر في المقدمتين معلولا ومسبّبا ، فإن العلة والمعلول يتلازمان وإن شئت قلت السبب والمسبب وإن شئت قلت الموجب والموجب. فإن استدللت بالعلة على المعلول فقياسك قياس علة وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو قياس دلالة ، وكذلك إن استدللت بأحد المعلولين على الآخر مثال قياس العلة من المحسوس بأن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله ، فتقول كل من أكل كثيرا فهو بالحال شبعان وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان. ونعني بالعلة هاهنا السبب الاعتباري ، إذ الغرض التمثيل ، ولا تطلب الحقائق من الأمثلة المسوقة لتفهيمات مقاصد بعيدة عن الأمثلة ، وإن استدللت بالشبع على الأكل كان قياسك قياس دلالة فإنك إذا عرفت أن زيدا شبعان حكمت عليه بأنه أكل ، فكان نظم قياسك أن كل شبعان فقد أكل من قبل وزيد شبعان فإذا قد أكل ، وكذا ترى امرأة ذات لبن فتقول كل امرأة ذات لبن فهي قد ولدت وهذه ذات لبن فهي إذا ولدت. ومثاله من الكلام أن تقول كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم محكم ففاعله عالم والأحكام مسبب العلم لا سببه فهو دلالة ، ولذلك يجوز أن يتأخر الدليل عن المدلول حتى يستدلون بالتيمّم على حكم الوضوء ، ولا تتأخر العلة عن المعلول. ومثال قياس العلة في الفقه الاستدلال بالسكر على التحريم كما مضى ، ومثال الاستدلال بإحدى

    النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا في الزنا إنه لا يوجب حرمة المصاهرة لأنه وطئ لا يوجب المحرمية وما لا يوجب المحرمية لا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فإذا لا يوجب الحرمة ، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة ولا الحرمة علة لها ، بل هما نتيجتا علة واحدة. وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى بواسطة العلة ، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة. فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحا لأن يكون مثالا لغرضنا. وأما مثاله في العادات فجميع الأدلة في علم الفراسة ، فإنه يستدل بالخلقة والمزاج على الخلق لا لأن أحدهما علة الآخر ولكن كلاهما بحكم جريان العادة نتيجة علة واحدة ، حتى يقال في علم الفراسة الإنسان إذا انضم عظم أعالي يديه وصدره ووجهه إلى عظم عرضه واتساعه كان شجاعا قياسا على الأسد ، والشجاعة واتساع الصدر ليس أحدهما علة للآخر ولكن عرف باستقراء الحيوانات تلازمهما فعلم أن علتهما واحدة وأن أحدهما يدل على الآخر عند شروط أخر مضمومة إليه كما يستقصى في ذلك العلم. وقد كان الشافعي رضي اللّه عنه ماهرا فيه وصادق الحدس في التفرس ، وهذا العلم يتداعى إلى عجائب عظيمة حتى أن الناظر في كتف الشاة يستدل بما فيها من الخطوط الحمر على جريان سفك الدماء في السنة وما فيها من النقط على كثرة الأمطار والنبات ويصيب فيها ويعلم قطعا أن حمرة خطوط كتف الشاة لا تكون علة تقاتل السلاطين ولا النقط فيها علة كثرة النبات والأمطار ولا معلولا لها ، ولكن لا يبعد من عجائب صنع اللّه تعالى أن يكون في الأسباب السماوية سبب واحد يتفق في تلك السنة فيكون علة بحكم إجراء العادة لحياة في أعضاء الحيوانات وتشكلاتها وفي أسباب كثرة الغيوم وفي أسباب تواحش القلوب التي هي أسباب التقاتل التي هي أسباب سفك الدماء ، وإنما يستنكر هذه العلوم الجهّال الذين لا خبرة لهم بعجائب صنع اللّه تعالى واتساع قدرته.

    الفصل الخامس
    في حصر مدارك الغلط في القياس
    اعلم أن الشيطان مسلّط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته ومصرّ على الوفاء بقوله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (1) والتحذّر منه شديد ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال (إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ) (2) جعلنا اللّه وإيّاك منهم فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك.
    فإن قلت كيف لي به مع ما أنا عليه من الضعف ومع ما هو عليه من التسلط والتمكن حتى أنه ليجري من ابن آدم مجرى الدم ، فاعلم أن العقل حزب من أحزاب اللّه تعالى ذكره وجنّد من جنوده ما أنعم به عليك إلا لتستعين به على أعدائه ووجه الاستعانة أن تتفقّد بنور العقل وسراجه الزاهر مداخل الشيطان في النظر ، وتعلم أن حصن النظر والدليل ما لم ينثلم ركن من أركانه لم يجد الشيطان مدخلا فإنه لا يدخل إلا من الثلم ، فإذا أبصرت الثلم بنور العقل وسددتها وأحكمت معاقلها انصرف الشيطان خائبا خاسرا واهتديت إلى الحق ونلت بمعرفة الحق درجة القرب من رب العالمين. وجميع الثلم التي هي مداخل الغلط ترجع في القياس إلى سبع جمل وإن كان لكل واحد تفصيل طويل ونحن نومي إلى الجمل ، وذلك ، أنك بالضرورة
    __________________
    (1) سورة ص ، الآية 82.
    (2) سورة ص ، الآية 83.

    تعلم أن المقدمات القياسية إذا كانت صادقة يقينية وكانت مفردات معارفها وهي الأجزاء الأول محصّلة في العقل بحقائق معانيها دون ألفاظها وكانت المقدمات التي هي الأجزاء الثواني أيضا متمايزة مفصلة وكانت غير النتيجة وكانت أعرف من النتيجة وكان تأليفها داخلا في نمط من جملة ما ذكرناه وكان بعد وقوعه في نمط واحد جامعا للشروط التي شرطناها في ذلك النمط ، كان الحكم الذي يلزم منه حقّا وصدقا لا محالة ، فإن لم يكن حقا فهو لخلل وقع في هذه الأمور ، فلنفصّلها.
    المدخل الأول : أن لا تكون المقدمات صادقة بل تكون مقبولة بحسن الظن أو وهمية أو مأخوذة من الحس في مظان غلطه ، وذلك عند بعد مفرط أو قرب مفرط أو اختلال شرط من الشروط الثمانية التي فيها ، وأكثر أغاليط النظّار من التصديق بالمألوفات والمسموعات في الصبي من الأب والأستاذ وأهل البلد والمشهورين بالفضل ، وقد انتهى هذا الداء بطائفة إلى أن صدّقوا بأن الحروف التي ينطقون بها في الحال قديمة ولو سوّلوا عن ألسنتهم لقالوا هي حادثة ، ولو قيل له كيف كان كلامك أكان قبل لسانك أو بعده لقال بعده ، فإذا قيل فما هو بعد لسانك كيف يكون قديما وكيف يكون قديم متأخرا عن حادث لم ينفع هذا معهم. واعلم أن من الأذهان ما فطر فطرة تسارع إلى قبول كل مسموع ثم ينصبغ به انصباغا لا يمكن البتة انجلاؤه عنه ويكون مثاله كالكاغد الرخو الذي يغوص الحبر في عمقه ، فإن أردت محوه لزمك إفساد الكاغد وخرقه ، وما دام الكاغد موجودا كان السواد فيه موجودا. فهؤلاء أيضا ما دامت أدمغتهم موجودة كانت هذه الضلالات فيها موجودة لا يقدر البشر على إزالتها. وأما الذين كذبوا بوجود موجود لا يشار إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهم أظهر عذرا وأقرب أمرا من هؤلاء ولكنهم أيضا عادلون عن الحق بالإذعان لمقتضى. الوهم والعجز عن التمييز بين حكمه وحكم العقل. ومهما قصد رسوخ مثل هذا الاعتقاد في النفوس أعني قدم الحروف ينبغي أن يكرّر ذلك على السمع في الصبا ويختم الوجه عند ذكر منكره ويستعاذ باللّه تعالى ويطلق اللسان في ذمه ويقال إن

    ذلك قول بعض الكفرة ، أعني الذين يفعل بهم في النار كيت وكيت ويخترع على ذلك حكايات ، مثل أن يقال إن فلانا كان ممن يعتقده فأصبح وقد مسخه اللّه كلبا وإن فلانا يسمع من قبره صياح الكلاب لقوله بكذا وكذا فلا يزال يترسخ في نفس الصبي ذلك على التدريج من حيث لا يشعر كما يرسّخ النقش في الحجر ويتعذّر على كل العلماء دواه بعد الكبر مثل العلة المستحكمة التي تجاوز معالجتها قدرة الطبيب ، ولا فرق بين مرض القلوب ومرض الأبدان نعوذ باللّه منهما. وأما أنت وإن لم ينته تقليدك إلى هذا الحد فاحذر أن تكون من جملة من يعتقد شيئا خفيا استحسنته وصدّقت به من غير دليل واستبشعت خلافه فأبيت التصديق بضده لكونه شنيعا قبيحا. واعلم أن الحق غير الحسن والشنيع غير الباطل ، إذ رب شنيع حق ورب محمود باطل. فإن إنكار كون اللّه على العرش وكون الحروف قديمة شنيع عند أهله وتجويز ذبح الحيوانات شنيع عند طائفة كما أن إيلام البريء من غير غرض شنيع عند الجماهير ، فاحترز من هذه المغاصة تسلم من إحدى مكايد الشيطان واعرض ما صدّقت به على نفسك. فإن كان امتناع التشكّك فيه مثل امتناع التشكّك في أن الاثنين أكثر من الواحد فاعلم أنه وجه حق.
    المدخل الثاني : أن يكون الخلل في الصورة وهو أن لا يكون وضعه داخلا في نمط من الجملة المذكورة ، وذلك بأن تكون النتيجة مطلوبة من مقدمة واحدة بالحقيقة ، وأعني بها ما ليست من مقدمتين أصلا أو تكون من مقدمتين بالقوة ولكن ليس فيهما واسطة مكرّرة يقع بها الازدواج والاشتراك. وعدم الاشتراك إن كان في اللفظ والمعنى يسهل دركه ، إذ يعلم أنه لا تحصل نتيجة إن قلنا السماء فوقنا والشمس أصغر فإنهما مقدمتان لا يتداخلان. وإذا كان الاشتراك باللفظ لا بالمعنى فلا يكون ذلك إلا بسبب استعمال لفظ مشترك كلفظ المختار وسائر أقسامه التي ذكرناها وإن أهملنا بعضها وننبّه الآن على أمور خفية مما أهملناه ليستدل بها على ذلك وهي أربعة :

    الأول : أن يكون الاشتراك في أداة من الأدوات أو ما يستعمل رابطة في نظم الكلام ، كقوله كل ما يعلمه اللّه فهو كما يعلمه واللّه يعلم الجوهر فهو إذا كالجوهر ، ووجه الغلط أن هو مشترك الدلالة بين أن يرجع إلى كل ما تبيّن أنه يرجع إلى العالم وبين أن يرجع إلى اللّه سبحانه وتعالى. وهذا وإن كان هاهنا واضحا فإنه تخفى أمثاله في مواضع.
    الثاني : بأن تكون المقدمة بحيث تصدق مجتمعة فيظن أنها تصدق مفترقة بسبب حروف النسق بأن يصدق أن يقال الخمسة زوج وفرد ، أي فيه اثنان وثلاثة فيظن أنه يصدق أن يقال هو زوج أيضا ، لأن الواو قد تطلق ويراد بها جميع الأجزاء ، كما يقال الإنسان حيوان وجسم وقد تطلق ويراد بها بعض الأجزاء ، كالمثال السابق. وكما يقال العالم جواهر وأعراض أي بعضه جواهر وبعضه أعراض.
    الثالث : ما يصدق مفترقا ، فيظن أنه يصدق مجتمعا ، كما يصح أن يقال زيد بصير أي في الخياطة وزيد جاهل أي في الطب ، فقد صدق كل واحد مفردا ، ولو قلت زيد بصير جاهل كان متناقضا.
    الرابع : ألفاظ تواطأ المتواطئة من وجه وهو الذي تتناوله الأشياء المتعددة التي تختلف في الحقائق وتتفق في عوارض لازمة إما قريبة أو بعيدة ، كقولك أن فعل العبد مقدور عليه للعبد وللّه تعالى أي للعبد كسبا وللّه اختراعا ، فكل واحد يشترك في أنه يسمّى مقدورا عليه أعني مقدورا للعبد ومقدورا للّه سبحانه وتعالى ، ولكن تعلّق قدرة اللّه تعالى مخالفة لتعلّق قدرة العبد وقدرة اللّه تعالى مخالفة لقدرة العبد ، فإن شبّهت هذا بالمشترك المحض فقد أخطأت ، إذ لا شركة بين المسميين كالمشترى ولفظ العين إلا في اللفظ ، إذ عبرنا بالمشترك عن المختلفات في الحد والحقيقة المتساوية في التلقيب فقط ، وهاهنا لا بد من اعتقاد مشاركة ما. وإن شبّهت بالمتواطئة فقد ظلمت ، فإن المتواطئة هي المتساوية في الحد ، فإن السماء والإنسان والشجر مشترك في الجسمية اشتراكا واحدا من غير تفاوت البتة إلا

    في أمر مختلف خارج الجسمية وحدها. وأما هاهنا فوجه تعلق القدرة بالمقدور مختلف فقد عرفت أن الاسم الواحد يعبّر به عن شيئين إما بالتواطؤ وإما بالاشتراك ، وأما هذا القسم الثالث فبينهما فلنخترع له اسم المردّد ليكون بإزاء الأقسام الثلاثة المعقولة ألفاظ ثلاثة معقولة. فهذا وأمثاله إذا وقعت الغفلة عنه خرج القياس عن النمط الذي ذكرناه فلم يكن منتجا ، إذ بطل به ازدواج المقدمتين حيث جعل الحد المشترك ما هو مشترك باللفظ لا بالحقيقة.
    المدخل الثالث : أن لا يكون نظمه جامعا للشروط التي ذكرنا بعد وقوع الاشتراك بين المقدمتين بأن ألّف من مقدمتين نافيتين أو جزئيتين ، أو كان من النظم الأول ومقدمة المحكوم عليه نافية أو مقدمة الحكم غير عامة ، أو كان من النظم الثاني وقد طلب منه نتيجة مثبتة ، أو من النظم الثالث وقد طلب منه نتيجة عامة. وقد ذكرنا أمثلة هذا.
    المدخل الرابع : أن لا تكون مفردات المعارف ، أعني الأجزاء الأول متمايزة منفصلة بالحقيقة بل ملتفة مختلطة متضمنة لأمور متعددة ، كأن تقول مثلا في مسألة ضمان المنافع بالإتلاف أنها تضمن لأن كل من أتلف مالا ضمنه وغاصب الدار قد أتلف مالا فيضمنه ، فقوله الغاصب أتلف مالا ذكر فيه مفردين المال والإتلاف وطوى تحتهما أمورا كثيرة تلبيسا ، إذ لا تصدق هذه المقدمة ما لم يبيّن أن المنافع أولا موجودة وقد أنكر وجودها بعض الناس ولا يتلف إلا موجود ، وثانيا أن يبيّن أنها باقية إذ الإتلاف يستدعي البقاء وإلا فما يفني بنفسه كيف يتلف. وثالثا أنها أموال وأن كل ما يتلف يضمن ، فإن من فوت منافع بضائع الأمة كمن غصب بضاعة تاجر وحبسها سنة فقد فوت الربح ولا يضمن. ورابعا أن يبيّن أنه مال فإن ذلك لا يسلّم وذلك بأن يذكر حد المال. وخامسا أن يبيّن أن كل مال مضمون ، فإن الحبة الواحدة مال ولا تضمن. وسادسا أن يبيّن أن ضمانه ممكن فما لا يمكن ضمانه لا يمكن الحكم به والضمان مثل والمنافع أعراض فلا يمكن

    مقابلتها بها ، ولقوله قد أتلف مالا مفردان تضمّنا هذه الأمور الكثيرة فلا يدري لعلّ التلبيس تطرق إلى واحد من هذه المراتب ، ومثاله من الكلام من يثبت حدوث الأعراض مثلا ، فإنا نقول كلما رأيناه الآن في محل ورأينا من قبله ضده فهو حادث ، وبياض الشعر مثلا رأيناه الآن ونرى قبله ضده فهو أيضا حادث ، فهذا غير كاف ما لم يبيّن أولا أن ما يدرك بحاسة البصر فهو كما يدرك ، وذلك بأن يعرف جميع شروط صحة الإبصار بالبحث عن الأسباب واستقراء المشاهدات. وثانيا أن يبيّن أن العرض لم يكن كامنا مستورا فظهر للبصر الآن فظهوره هو الحادث دون نفسه. وثالثا أن يبيّن أنه لم يكن في موضع آخر ولا كان قد انتقل فرأى الآن لأنه انتقل الآن فيبطل انتقال العرض وكمونه حتى يتم النظر.
    المدخل الخامس : أن لا تكون النتيجة غير المقدمة بل عينها ولكن استعمل فيها للتلبيس لفظين مترادفين ، كقولك كل بشر إنسان كأنك قلت كل إنسان إنسان ، فإنهما مترادفان فيصير قولك كل إنسان مكلّف وهو مقدمة عين قولك فكل بشر مكلّف وهو النتيجة ، ومثاله في الفقه أن يقول الحنفي في تبييت النية في زمان رمضان أنه صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع ، ونظمه أن كل ما هو صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت وهذا صوم عين فلا يفتقر إليه. وقوله صوم عين في الأصل مقدمة طويت فيها بعض أجزاء النتيجة. وبيانه أن يقال ما ذا أردت بقولك صوم التطوع صوم عين ، فإنه لا يسلم فيقول الدليل عليه أن من أصبح غير ناو بالليل صلح يومه للتطوع ولم يصلح لغيره وما يصلح للشيء لا لغيره فهو عين في حقه فكان هذا صوم عين. فيقال : أما قولك لا يصلح لغيره فلا يوجب التعيين فإن الليل لا يصلح للصوم ولا يقال إنه عين ولكن نضيف إليه أنه يصلح للتطوع وليس له معنى إلا أنه لا يفتقر إلى التبييت ، أي تصح نيته من النهار ، وهذا عين الحكم وقد احتجت إلى طلب علته وينبغي أن لا تكون العلة عين الحكم لأن الحكم نتيجة والعلة منتجة والمنتج ينبغي أن يكون غير النتيجة. وقولك

    تصح نيته من النهار جزء من تفسير قولك أنه صوم عين فصار الحكم جزء من نفس العلة.
    المدخل السادس : أن تكون المقدمات وهي الأجزاء الثواني متمايزة مفصلة وينطوي تحت هذا أمران : الأول أن لا تكون أجزاء المحكوم به والمحكوم متمايزة بأن يوجد هناك شيء من الموضوع يتوهم أنه من المحمول أو بالعكس ، كقولك الجسم بما هو جسم إما أن يكون متحركا أو ساكنا ، فقولك بما هو جسم لا يدري أهو من المحكوم عليه أو من المحكوم. والثاني أن تكون أجزاء المحكوم عليه والمحكوم متمايزة لا يشتبه منها شيء ، إلا أنها غير متمايزة في الاتساق ، وذلك كما مثلنا به آنفا من قولنا كل ما علمه الإله فهو كما علمه والإله يعلم الجوهر فهو إذا جوهر. وقد قدّمنا لك كيف دخل الخلل في اتساقه.
    المدخل السابع : أن لا تكون المقدمات أعرف من النتيجة بأن تكون مساوية لها بالمعرفة كالنسب الإضافية إذا أخذ بعضها دليلا على بعض ، وذلك كأن تقول زيد أب لعمرو لأن عمرا ابنه. فإن كون عمرو ابنا لزيد وهو المقدّمة مساو في المعرفة لكون زيد أبا له وهو النتيجة. أو أخفى منها سواء كانت مبيّنة في النتيجة أو لا. أما الثاني فكما يقال في الاستدلال على ثبوت واجب الوجود من حدوث العالم وعدم صحة استناد التأثير إلى الحوادث ، وغير ذلك مما ثبوت واجب الوجود أظهر منه. وأما الأول فكأن تقول كل جسم متحيّز وكل متحيّز يقبل التحوّل فالجسم يقبل التحوّل. فإذا قيل لك ولما قلت أن كل متحيّز يقبل التحوّل قلت لأن الأجسام تقبل التحوّل وهي متحيّزة فحكمت بأن كل متحيّز يقبل التحول ، فقد جعلت النتيجة دليلا على الكبرى وقد كانت النتيجة مدلولا عليها. وهذا هو البيان الدوري وحاصله يرجع إلى بيان الشيء بنفسه وهو محال.
    فهذه مجامع مداخل الغلط من غير تطويل بالتفصيل وإن كان لا يدرك كنهه إلا بالتفصيل ، ولكن الإيجاز أليق بالحال. فإن قلت فهذا مع الإيجاز

    أشعر بمثارات عظيمة للغلط فكيف الأمان منها مع تراكمها ، فاعلم أن الحق عزيز والطريق إليه وعر وأكثر الأبصار مظلمة ، والعوائق الصارفة كثيرة والمشوشات للنظر متظاهرة ، ولهذا ترى الخلق يتلاطمون تلاطم العميان ، وقد انقسموا إلى فرقتين فرقة سابقة بأذهانها إلى المعتقدات على سرعة فيعتقدها يقينا ويظن كل شبهة ودليل برهانا ويحسب كل سوداء ثمرة ، فهؤلاء يعتقدون أنهم يعلمون الحقائق كلها وإنما العميان خصومهم. وطائفة تنبّهوا لذوق اليقين وعلموا أن ما في الناس فيه في الأكثر عمى ثم قصرت قوتهم من سلوك سبيل الحق ومعرفة شروط القياس إما لبلادة في الفهم وإما لفقد أستاذ مرشد بصير بالحقائق غير منخدع بلامع السراب يطّلع على جميع شروط البرهان. فهؤلاء يعتقدون أن الناس كلهم عميان يتلاطمون وأنه لا يمكن أن يكون في القوة البشرية الاطلاع على الحق وسلوك طريقه ، فلا ذاك الأول حق ولا هذا الثاني صدق. وإنما الحق أن الأشياء لها حقيقة وإلى دركها طريق وفي قوام البشر سلوك ذلك الطريق لو صادف مرشدا بصيرا ، ولكن الطريق طويل والمهالك فيها كثيرة والمرشد عزيز فلأجلها صار الطريق عند الأكثر مهجورا ، إذ صار مجهولا. وهكذا يكون مثل هذا الأمر ، فإنه مهما عظم المطلوب قلّ المساعد ومهما كثرت المخاوف راع الجبان الخائف ، وكيف لا وأكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات اللّه تعالى وأفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلّها تزيد على ألف وألفين ، فأين من يقوى ذهنه للاحتواء على جميعها أو حفظ الترتيب فيها ، فعليك أيها الأخ بالجد والتشمير. فإن ما أوردته يهديك إلى أوائل الطريق إن شاء اللّه تعالى.

    الفصل السادس من القياس
    في حصر مدارك الأقيسة الفقهية والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية. فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مدركه أصل العلم وتارة يكون مدركه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان ، ويكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات اللّه عليه ، وليس ذلك تفصيله من غرضنا ، وإما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم ، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف ، أي في عمومه ، فإن غير البر لا يلحق بالبر ما لم يسقط اعتبار كونه برا في حكم الربوي ، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوما ، والثوب على مذهب ابن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّرا ، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين : أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به ، فأما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة ، ومع ذلك فيصحّ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامع الأعرابي أهله فلزمته الكفارة ، فمن يزني أولى بأن تلزمه ، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالا وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب

    الكفارة في الاعتبار. والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم «من أعتق شركا من عبد قوم عليه الباقي» فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبيّن في المثال السابق علة وجوب الكفارة. ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة وأن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير ، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساو له. وإذا سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعا أنه لا يؤثّر في جبر النقصان. ولقد زلّ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة. ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالإجماع لكنّا نقول العبد في معناه. ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكا واحدا كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكا واحدا. ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتّضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح ، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار.
    (الرتبة الثانية) أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنونا لا مقطوعا به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معيّن من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معيّن كسرايته عند الإضافة إلى الجزء الشائع ، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّنا وشائعا. ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعا غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوما كحذف وصف الأنوثة ، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعيّن في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف في غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتق من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنونا

    بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتّبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك. إذ كونه جماعا يضاهي كونه خبزا ولحما ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف. ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع ممّا يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي ، ولكن يعارضه أن الخبز أيضا يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكّن مراعاتها ، إذ يلحق جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سورا فاصلا. فهذا ممّا يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وإن لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وإن لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط. فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه. ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيل. فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليط لا في التخفيف. فلو لا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لمّا علق تحريم أمر الموطوءة وابنتها بوطي المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطي في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:11 am

    نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف ، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة ، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخّص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين : أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته ، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سها فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في معناها ، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئا من الأبعاض عمدا ينبغي أن يسجد ، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر.
    وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني ، كما أن في الربوي ربما نبيّن أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت ، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيبا. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعا ، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال ، حتى يمكن الإلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات اللّه عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه ، فلو لا أنه ذكر أن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه ، ولكن لما ذكر الصبية وأنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. أما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب ، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بأن الشرع بيّن فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلا في النجاسات ، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا

    على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرّض الملحق إلا للحذف. أما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام :
    الأول أن يكون المعنى مناسبا كوصف الإسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثرا كقول أبي حنيفة رضي اللّه عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر ، وذلك لا يجري في العقار ، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات.
    وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء الغليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسبا ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر ، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه ، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم.
    فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع ، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسبا ولا مؤثرا ولا يغرنّك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة ، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن ، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها ، فربما يخص باسم الشبه ، وإن كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الحكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على إيجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهية تعبه.

    القسم الثاني من الكتاب في محك الحد
    قد ذكرنا أن أحد قسمي الإدراك هو المعرفة ، أعني العلم بالمفردات ، وأن ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه (فنين) : أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين.
    القانون الأول :
    إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه ، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع :
    المطلب الأول : مطلب هل ، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود ، كقول القائل هل اللّه موجود ، أو يطلب الموجود بحال وصفة ، كقوله هل اللّه خالق البشر وهل اللّه حي.
    المطلب الثاني : مطلب ما ، ويطلق على ثلاثة أوجه : الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا يدري العقار ما العقار ، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظا مميّزا يتميّز به المسئول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته ، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر ، فيقال هو المائع

    الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن ، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته ، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب ، فيكون ذلك كاشفا عن كنه حقيقته الذاتية ، ويتبعه أيضا أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كنه الشيء وحقيقته ، ثم التميز يتبعه لا محالة.
    واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسما ولنسمّ الأول حدا لفظيا ، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ ، ولنسمّ الثاني حدا رسميا وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء. ولنسمّ الثالث جدا حقيقيا إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملا على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافيا في الجمع والمنع ، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضا.
    وأما المطلب الثالث : فمطلب لم ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق.
    وأما الرابع : فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به ، كما إذا قيل ما الشجر فقلت إنه جسم ، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب هل المطلوب به صفة الموجود.
    القانون الثاني : إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب ، أعني به طالب الحد الحقيقي. أما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة ، وأما الرسمي

    فمئونته قليلة والأمر فيه سهل ، فإن طالبه قانع بالجمع والمنع بأي لفظ كان ، وإنما العويص العزيز الحد الذي سمّيناه حقيقيا ، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قوام ماهية الشيء ، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وإن هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي ، والذاتي ينقسم إلى عام ويسمّى جنسا وإلى أخص ويسمّى فصلا ، وإلى خاص ويسمّى نوعا. فإن كان الذاتي العام لا أعمّ منه يسمّى جنس الأجناس وإن كان الذاتي الخاص لا أخصّ منه يسمّى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضير فيه. فإنه كالمستعمل أيضا في علومنا ، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام ، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان ، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس ، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع ، إذ لا أخص تحته ، والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه.
    قلنا لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء ، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما للعقل ، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية ، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع ، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة أضلاع ، فهم السائل حد المسبع ولو لم يعلم أن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع ، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوما عنده ، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه ، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل

    حقيقته وزوال الآخر غير مبطل ، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية؛ فإنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية ، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتيا فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتيا لأنه سلب محض فيصحّ اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا وقصيرا وكاتبا ومحترقا وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية ، إذ لا يتغيّر بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيرا فكبر وطال وأحمر وأصفر ، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وقيل ما هو قلنا نطفة ، فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة ، ولو استحال بخارا بالنار تغيّر الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذا ، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل.
    القانون الثالث : إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدّا حقيقيّا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها ، فإن تركتها سمّيناه رسميا أو لفظيّا وخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا كنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل ذلك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم ، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو ، فهذا الاحتراز يسمّى فصلا ، إذ فصلت به المحدود عن غيره ، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته وإن كان ألفا ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص ، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو

    تركته تشوّش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو أن تقتصر على الجسم.
    والثالث أنك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكررا كما تقول مائع شراب ، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعدا كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم ، وهو أيضا ضعيف.
    بل ينبغي أن تقول شراب مسكر ، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخصّ منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل ، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة ، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ، وهو كذلك في أكثر الحدود ، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؛ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتميّز بالبخر عن الكلب ، فإن البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفيّة ، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية ، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسير ، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع ، فتجتمع أنواع من العسر ، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الأقرب ، وأتمّ بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المتردّدة ، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك ، فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة ، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات ، فإنه

    المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. وإنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع ، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردّدة بين العلم والأمانة ، وهذا المعترض مهوّس ، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيّن فيه جهة الفهم ، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس ، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإجمال وحصل التفهم الذي هو مطلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها.
    القانون الرابع : في طريق اقتناص الحد : اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالا أن تطلب صحته بالبرهان ، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وإن لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة ، فبما ذا نعرف صحتها؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وإن وقف في موضع بغير وسط فبما ذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتّخذ ذلك طريقا في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لم ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلا وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد ولم قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى ، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة.
    وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به ، فإن منع اطّراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه ، وقابلنا أحد

    الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة ، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا ، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلّم أن الولد مغصوب ، فنقول الدليل على أنه مغصوب أن حد الغصب قد وجد فيه ، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد ، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتا بل يقول هو ثبوت ، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلّم أن هذا حد الغصب ، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطّرد منعكس فما الحد عندك ، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة ، فنقول قد زدت وصفا وهو الإزالة.
    فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف ، فإن قدرنا عليه كأن يقول الزيادة محذوفة ، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك ، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال ، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع ، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد.
    القانون الخامس : في حصر مداخل الخلل في الحدود : وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. أما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة ، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة ، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس ، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه ، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به ، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا ، فالآلة جنس

    والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان والآن ليس بموجود ، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة ، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة ، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد ، بل هو الذي يترك ، وإلا فالفاسق أيضا يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض ، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره. وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلا عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له ، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن ، ولا شك ولا جهل ، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان ، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة ، كقول القائل حد الأب من له ابن ، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفة حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك ، ولا يحيله على الابن ، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بأن تدخل العلة في حدّه ، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهارا فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحا في الامتحانات.
    القانون السادس : أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا

    بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا ، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك أن تقول هو الشيء أو الثابت ، فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العقار فيقول هو الخمر وما القسورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال ، ثم لا يكون إلا شرحا للفظ ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه ، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئا من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسميا غير معرب عن الذات ، فلا يكون حقيقيا. فإذا الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. وإنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد ، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي ، أعني الدار محصورة متسوّرة بها ، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف ، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا ، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لونا. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص ، بأن نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض ، وربما طلب أن لا يتعرض أيضا للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركبا من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة ، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن

    حدود الدار كان محالا ، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف ، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا ، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية وإن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد ، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد ، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا تخطر له الزرقة مثلا ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن ، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة ، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه ، وإذا زاد شيئا للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره ، فإن كان عينه فهو تكرر فاطّرحه وإن كان غيره فقد اعترفت بأمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه ، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو إذا باطل بالعرض.
    وإن قولك موجود لا يدفع النقض ، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضا ، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع ، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي ، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات فتقول جسم نام ، فيقال وما حدّ الجسم

    فتقول جواهر مؤتلفة ، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردين فلا تظنّ أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات ، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة.
    فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل ، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على أن الاثنين أكثر من الواحد ، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.

    الفن الثاني من محك الحد في الامتحانات
    الامتحان الأول : اختلف الناس في حدّ الحد فمن قائل يقول حدّ الشيء هو حقيقته ونفسه وذاته ، ومن قائل يقول حدّ الشيء هو اللفظ المفسّر لمعناه على وجه يجمع ويمنع ، ومن قائل ثالث يقدر هذه مسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر وانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد ، وهذان قد تباينا وتباعدا وما تواردا وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك الذي ذكرناه. فإن من يحدّ المختار بأنه القادر على ترك الشيء وفعله ليس مخالفا لمن يحدّه بأنه الذي خلى ورأيه ، كما أن من حدّ العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من يحدّ العين بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود ، بل حدّ هذا أمرا متباينا بحقيقة الأمر الآخر ، وإنما اشتركا في اسم العين والمختار فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع. فإن قلت فما الصحيح عندك في حدّ الحد فاعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولا في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقرّر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب : الأولى حقيقة في نفسه ، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن ، وهو الذي يعبّر عنه بالعلم. الثالثة تأليف مثاله بحروف تدلّ عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. والرابعة

    تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ ، وهي الكتابة ، والكتابة تبع اللفظ ، إذ تدل عليه ، واللفظ تبع العلم ، إذ يدل عليه ، والعلم تبع المعلوم ، إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم لأنها موضوعة بالاختيار. ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها موضوعة قصد بها مطابقة الحقيقة. ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع ، وإنما استعير لهذه المعاني للمشاركة في معنى المنع ، فانظر أين تجده في هذه الأربعة. فإن ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به ، إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره. فإذا الحقيقة جامعة مانعة. فإن نظرت إلى مثال الحقيقة فى الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك ، لأنه مطابق للحقيقة المانعة. والمطابقة توجب المشاركة في المنع. وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة ، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق. وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة ، فهي أيضا مطابقة ، وقد وجد المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثانية ، بل هو مشترك بين حقيقتين. فلا بد وأن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين ، والمختار ونظائر هما. فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدّ الحداثة حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدّ الحد إنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي. فحدّ الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقوله الموجود هو الشيء والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة هو تبديل اللفظ لما هو واقع عند السائل على شرط يجمع ويمنع. وأما حدّ الحد عند من يقنع بالرسميات أنه اللفظ الشارح للفظ بتعديد صفاته الذاتية واللازمة على وجه يميّزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حدّه عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي أنه القول

    الدال على تمام ماهية الشيء. ولا يحتاج في هذا أن يذكر الطرد والعكس لأن ذلك يتبع الماهية بالضرورة ولا يتعرض للازم والعرضي ، فإنه لا يدل على الماهية إلا الذاتيات. فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية. وهذه أربعة أمور مختلفة كما دلّ لفظ العين على أمور مختلفة فيعلم صياغة الحد. فإذا ذكر لك اسم وطلب حدّه فانظر ، فإن كان مشتركا فاطلب عنده المعاني التي فيها الاشتراك ، فإن كانت ثلاثة فاطلب ثلاثة حدود ، لأن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود. فإذا قيل ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد ، فإن الإنسان مشترك بين أمور ، إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسمّى يدا وذكرا لا بالمعنى الذي كان يسمّى به ، إذ كان يسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع ، وبعد القطع يسمّى به من حيث أن شكله له اسم ولو صنع شكله من خشب أو حجر.
    أعطي اسمه ، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم الضرورية ، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة ، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمّى عاقلا ، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء ، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء ، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا ويقال للحجّاج إنه عاقل بل داهية ، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلا في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل ، بل إما داهية وإما فاضل وإما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات ، وهكذا بقية الاعتبارات.

    فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف في الحد أفترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء.
    فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين : أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب اللّه أو سنّة رسوله أو قول إمام من الائمة ، ويكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به ، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد ، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون ، إذ لا توارد ، ولو كان لفظ الحد من كتاب اللّه تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمرا بائنا ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء ، ونحن نخالفه في ذكر الشيء ، فإن المعدوم عندنا ليس بشيء ، فالخلاف في مسألة أخرى تتعدّى إلى الحد ، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا ، ويخالف من يقول في حدّه إنه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره ، بل يقول ليس في الإنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية ، فلا يتميّز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن اللّه قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافا في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين.
    الامتحان الثاني : اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود ، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير ، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو

    كذلك ، فهو كقول القائل حدّ الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود ، فإن هذا التطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا ولست أمنع من أن تسمّى مسمى هذا حدا. فلفظ الحد لفظ في اللغة المنع وهو مباح فيستعيره من يريده لما فيه نوع من المنع. فلو سمّى قلنسوة حدا من حيث أنه يمنع البرد لم يمنع من هذا أن كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع ، فإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة. وقيل أيضا إنه الذي يعلم به وإنه الذي تكون الذات به عالمة ، وهذا الحد أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية. ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر ، فشرح الأخفى بالأشهر. أما العالم ويعلم فهو مشتق من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتّضح لديه المشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه ، وهو كقول القائل في حد الفضة إنه الذي تصاغ منه الأواني الفضية. وقيل إنه الوصف الذي يتأتّى للمتّصف به إتقان العلم وإحكامه. وهذا ذكر لازم من لوازم العلم فيكون رسميا وهذا أبعدهما قبلة من حيث أنه أخص من العلم ، فإنه يتناول بعض العلوم ولكن أقرب بوجه آخر مما قبله وهو أنه ذكر لازم قريب من الذات بعيد شرحا وبيانا بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة. فإن قلت فما طريق تحديد العلم عندك فاعلم أن العلم اسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس ، وله حد بحسبه ، ويطلق على التخيّل ، وله حد آخر بحسبه ويطلق على الظن ، وله حد آخر بحسبه ويطلق على علم اللّه على وجه آخر أعلى وأشرف. ولست أعني أنه أشرف لمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة. ويطلق على إدراك العقل وحدّه على الخصوص كما ينقدح في الحال أنه سكون الذهن جزما عن بصيرة إلى الأمر بأنه كذا أو ليس كذا والأمر كذلك. ولا يبعد أن يحتاج هذا الجدال إلى مزيد تحرير وتنقيح ليس يتّسع القلب الآن لتضييع الوقت به فعليك بإتمامه ، وغرضي ذكر الطريق للحد. تقول يعترضون على هذا الحد بأنك استعملت لفظ السكون

    وهو مشترك ولفظ الذهن وهو غريب ولفظ البصيرة ، وكأنه يشير إلى الاتصال ولا يلتفت إلى المشغوفين بالعبارات المصدوفين بغير الحق عن الحقائق. فاعلم أن السكون إذا قرن بالذهن زال منه الإجمال ، وأن الذهن ذكرته لأني أظنه مفهوما عندك ولا أمنع من إبداله في حق من لا يعرفه ، فقصد الحد الحقيقي تصور كنه الماهية في نفس المستفيد الطالب بأي لفظ كان ، فإن قلت فهل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلت : أما الحد اللفظي فيتصور أن يكون له ألف ، وذلك يختلف بكثرة الأسامي في بعض اللغات وقلتها في البعض ويختلف باختلاف الأمم. وأما الحد الرسمي أيضا فيجوز أن يتعدّد لأن لوازم الأشياء ليست محصورة. وأما الحد الحقيقي فلا يتصور إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة ، فإن لم يذكرها لم يكن حقيقيا وإن ذكر بعضها فالحد ناقص وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو ، فإذا لا يتعدّد هذا الحد.
    الامتحان الثالث : قيل في حد العرض ما لا يبقى أو ما يستحيل بقاؤه أو لا يقوم بنفسه ، وهذا مختل لأنه ذكر لازم ليس يتعرض للذات ، ثم هو لازم سلبي والإثبات أقرب إلى التفهيم. وقيل إنه الذي يعرض في الجوهر ، وقولك يعرض كأنه مأخوذ منه العرض وفيه إدخال الجوهر في حدّه وهو أيضا ممّا يطلب حدّه ، فيمكن إحالته على العرض بأن يقال الذي يقوم به العرض. فليس هذا الفن مرضيا بل نقول طالب هذا الحد كأنه يطلب أن يتفهم ما نريده في اصطلاحنا بهذا الاسم ، وإلا فالعرض ما ثبتت حقيقته في النفس ثبوتا أوليا لا يحتاج إلى طلبه بصناعة الحد ، إذ بيّنا أن من المعارف ما يستغنى في تفهمها عن الحد وإلا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية. فنقول له اعلم إن العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما يستدعى محلا يقوم به وإلى ما لا يستدعيه ، ثم أدرك انقسام القائم بالعين إلى ما يطرأ بعد أن لم يكن وإلى ما لا يكون طارئا كصفات اللّه تعالى. فالعرض عبارة عن الذي يطرأ بعد أن لم يكن ويستدعي في تحديده في الوقت أنه حادث يستدعي وجوده محلا يقوم به. والمعتزلة إذ نفوا صفات الباري كان اصطلاحهم لا

    يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3302
    نقاط : 4991
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    نافذه على الفلسفه Empty
    مُساهمةموضوع: رد: نافذه على الفلسفه   نافذه على الفلسفه Emptyالأربعاء أكتوبر 23, 2024 9:13 am

    يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به عن كل موجود يقوم بغيره.
    الامتحان الرابع : قيل في حد الحادث إنه الذي ليس بقديم فهو هوس ، كقول القائل القديم الذي هو ليس بحادث فهو حد الضد بالضد ، ويدور الأمر فيه. وقيل إنه الذي تتعلق به القدرة القديمة وهو ذكر لازم غامض لم يدرك إلا بالأدلة. وأما الحادث فمفهوم جليّ بغير نظر واستدلال ، ومن الضلال البعيد بيان الجليّ بالغامض. ولعمري من يطلق اسم الحد على كل لفظ جامع مانع فهذا عنده لا محالة حد. وكذا قوله الحادث ما ليس بقديم. ولكنّا نقول العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما له أول بمعنى أنه لم يكن موجودا ثم وجدوا لي ما لا أول له ، فالقديم عبارة عن أحد القسمين والحادث الآخر. فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود أو المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم. وهذه ليست حدودا بل الكل حد واحد والعبارات متكرّرة دون المعنى. لا كقول القائل إنه متعلق القدرة الحادثة لأنه حد آخر مفهومه الأول غير مفهوم هذه الحدود يلزم ذلك المفهوم ، إذ يلزم متعلق القدرة أن يكون حادثا وفرق بين المتلازمين وبين الشيء الواحد الذي عنه عبارتان. وقول القائل الموجود عن عدم ليس بصحيح لأنه يقال السرير من الخشب ، بمعنى أنه جعل الخشب سريرا والعدم لا يجعل وجودا. فهذا أمر الاعتراضات النادرة. فإنّا لا ننكر بأن لفظ عن مشترك ، ولكن بيّنا أن المشترك إذا فهم بالقرينة التحق بالنص وهو معلوم هاهنا ، ولست أمنع من الاجتهاد في الاحتراز عن المشترك فذلك أحسن ، وإنما أمنع من استعظام هذا الصنيع الذي لا يعظم عند المحصل. فلا هذا مذموم كل ذلك الذم بعد حصول الفهم ، ولا ذلك محمود كل ذلك الحمد؛ لا سيما إذا لم يفد الشرح. بل الأمر أهون ، فما الظنون بل قول القائل موجود عن عدم أحبّ إلي من قوله هو متعلق القدرة.
    الامتحان الخامس : اختلف في حد المتضادين وليس من غرضي غير

    الحدود ، ولكن الغرض أن أفيدك طريق التحديد بعد أن عيّنت في التماسك ذلك ، فليكن نظرك في الحدود كما أقوله ، وهو أن المتضادين دالان على شيئين لا محالة وكل شيئين فينقسمان إلى ما لهما محل وإلى ما لا محل لهما ، وكل ما لهما محل فينقسمان إلى ما يجتمعان كالسواد والحركة وإلى ما لا يجتمعان. فينقسم إلى ما يختلف بالحد والحقيقة كالسواد والبياض وإلى ما لا يختلف. والذي لا يختلف أيضا ينقسم إلى ما لا يجوز أن يكون لواحد عارض أو لازم ليس للآخر بل يسد أحدهما مسد الآخر في كل حال ، كالبياضين والسوادين ، وبالجملة كالمثلين. وإلى ما يتّحد في الحدود والحقيقة ولا تختلف طباعهما ، ولكن لا يسد أحدهما مسد الآخر ، كالكونين في مكانين وليس كالكونين في مكان واحد ، إذ لا يجتمع في الجوهر في حالة واحدة لا كونان في مكان واحد ، ولا كون في مكانين. والذي بينهما اختلاف ينقسم إلى ما بينهما غاية الخلاف الذي لا يمكن أن يكون وراءه خلاف كالسواد والبياض والحركة الصاعدة والحركة الهابطة وإلى ما ليس في الغاية ، كمخالفة الماء الحار الفاتر ، فإنه أقل من مخالفته للبارد والشديد البرودة ، وكمخالفة الحركة يمينا الصاعدة ، فإنها أقل من مخالفتها للحركة يسارا ، أعني المقابل. فإذا تمهدت في عقلك هذه الأقسام فانظر إلى لفظ المتضادين وأنه كيف وضع الاصطلاح فيه. وأقل الدرجات في المتضادين هما المعنيان اللذان يتعاقبان على محل واحد لا يجتمعان سواء كانا مختلفين أو متماثلين. وقد اصطلح فريق على إطلاق الاسم على هذا ، فيوضع هذا الاسم. سمّوا المثلين متضادين ، وفريق آخر شرطوا زيادة لإطلاق هذا الاسم وهو أن لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم يطلقوه على الكونين في حيّز واحد وأطلقوه على الكونين في حيّزين. وفريق ثالث شرطوا زيادة أمر وهو أن يكون بينهما اختلاف في الحد والحقيقة ، أي لا يدخل أحدهما في حد الآخر ، فإنا إذا حدّينا الكون بأنه اختصاص بالحيّز دخل فيه جميع الأكوان ، فليس بين الاحياز اختلاف بالطبع ولا بين الأكوان بل هي متشابهة. فهؤلاء لم يسمّوا الأكوان متضادة لكن المختلفات

    كالحرارة والبرودة. وفريق رابع شرطوا زيادة ، وهو أن يكون بينهما غاية الخلاف الممكن في ذلك النوع من التضاد ، بحيث لا يكون وراءه خلاف ، وهؤلاء هم الفلاسفة ، وهذا اصطلاحهم ، فزعموا أن البياض لا يضاد العودي بل السواد والحار لا يضاد الفاتر بل البارد ، فهذا هو الشرح. ونرى جماعة من العميان يتعاورون في هذه الحدود ظانين أن فيها نزاعا ولا يدركون أن النظر نظران أحدهما في الحقائق المجردة دون الألفاظ وهؤلاء الانقسامات التي ذكرناها أو لا وليس في العقلاء من ينكر شيئا منها ، والثاني في إطلاق الألفاظ والاصطلاحات ، وذلك يتعلق بالشبيه. فإن الألفاظ طافحة مباحة لم يثبت من جهة الشرع وقفها على معنى معيّن حتى يمنع من استعمالها على وجه آخر. ولعمري لو قيل إن واضع اللغة وضعه لشيء في الأصل فهو وقف عليه بالحقيقة ولغيره استعارته هذا لا أمنع منه ، ولكن الخوض فيه لا يليق بالمحصل الناظر في المعقولات بل بالأدباء الناظرين في اللغات. وقد ترى الواحد يغتاظ ويقول كيف يستجيز العاقل أن يقول الكونان لا يتضادان ومعلوم أنهما لا يجتمعان وإنما ذلك لما في نفسه من القياس الخطأ الذي لا يشعر به ، ونظم ذلك القياس أن قولنا يتضادان وقولنا يجتمعان واحد فكيف يقال يجتمعان ولا يجتمعان ، إذ يظهر أن كل ما لا يجتمعان فواجب تسميتهما متضادين ، ومعلوم أن الكونين لا يجتمعان فوجب تسميتهما متضادين ، ومن يدري أن وجوب تسمية ما لا يجتمعان متضادين غير ثابت بل التسمية إلى أهل الاصطلاح.
    الامتحان السادس : قيل في حد الحياة إنها المعنى الذي يستحق من قام به أن يشتق له منه اسم الحي ، وهذا من طوائف الحدود فإنه تعريف المعنى بلفظ يطلق على المعنى ، ومن قنع بمثل هذا في فهم الحياة فقد رضي من العلوم بقشورها. وقيل ما أوجب كون الحي حيا أو ما كان المحل به حيا. وقد عرفت ما في هذا الجنس. وقيل ما يصح بوجودها العلم أو ما تصح بوجودها القدرة أو الإرادة ، وهذا تعريف للشيء بذكر بعض توابعه.

    فإن قلت فما اختيارك فيه فاعلم أن ذكر ذلك لا يحتمله هذا الكتاب فإن هاهنا نظر في الألفاظ وهي ثلاثة : الحياة والروح والنفس ، ونظر في المعاني والحقائق. فإن في الناس من يقول ليس في الإنسان إلا حياة وهو عرض قائم بجسمه ، واسم النفس والروح يرجع إليه. ومنهم من يقول إنه لا بد سوى هذا العرض من شيء هو الروح وهو جسم لطيف في داخل القلب والدماغ يجري إلى سائر البدن في العروق الضوارب ، وأما النفس فليس لها مسمى ثالث. ومنهم من قال هاهنا أمر ثالث وهو موجود قائم بنفسه غير متحيّز ، والروح الذي هو الجسم اللطيف ومنبعه القلب مدير لسائر أعضاء البدن بواسطته ، وانظر كيف اختلف الطريق بهم وكيف يشاهد الاختلاف ، فإني أنبهك على أوائله وإن لم يحتمل الكتاب الخوض في غوائله ، فاعلم أن الناظر لمّا نظر إلى النطفة وهي جماد لا يحس ولا يتحرك ثم استحال في أطوار الخلق حتى صار يحس ويتحرك علم أنه حدث فيه ما لم يكن من الإحساس والحركة الإرادية ، فظنّ أنه ليس في هذا الوجود إلا الجسم كان جمادا فخلق اللّه فيه الإحساس وقدرة الحركة فلم تتحدد إذا إلا القدرة والحس ، وعند ذلك يسمّى حيا ، ويتجدد له هذا الاسم. فكانت الحياة عبارة عن الإحساس والقدرة فقط. ولما نظر إلى اللغات فرأى هذا الجنين وهذا الإنسان في حال السكتة يسمّى حيا ويصدق عليه الاسم وخمّن في نفسه بالوهم الظاهر قبل التحقيق بالبرهان أن هذا الإنسان في سكتته ليس معه إحساس البتة ولا قدرة ، وطلب له مسمّى فظنّ أنه ليس هاهنا إلا إمكان خلق الإحساس فيه وخلق القدرة ، فهو من حيث أنه مستعد لقبوله سمّي حيا والحياة عبارة عن استعداد فقط ، ولكن كان قد استقر في اعتقاده أن اللّه يقدر أن يخلق الحياة في كل جسم ، ولا يوصف اللّه تعالى بالقدرة على خلق الحس والحركة في الجماد ، فسنح له أن لا بد من صفة يفارق بها صاحب السكتة الجماد حتى تصور خلق الحس والقدرة فيه بسببه دون الجماد ، فقال الحياة عبارة عن تلك الصفة وأثبت له صفة هي الحياة. فمنهم من قنع بهذا

    النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة ، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب ، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضج ذلك البخار وتلطّفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن ، وأن القوة الحسّاسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب ، فكان هذا البخار حمّالا لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح ، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العرض الذي يسمّى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع ، من حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرواح الشهداء في حواصل طيور معلّقة تحت العرش. ولقوله تعالى : (وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (1). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا ، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في دعائه عند النوم «إن أمسكتها فاغفر لها وإن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين» فقالوا : ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عرض لا يمكن إرسالها.
    والتفتوا أيضا إلى قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (2) فلم لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا
    __________________
    (1) سورة آل عمران ، الآية 169.
    (2) سورة الإسراء ، الآية 85.

    جسم وعرض. وثار عند هذا فريق ثالث وتغلغلوا زيادة تغلغل ، وقالوا هذا صحيح ولكن هذه الروح في بدنه ، وهناك موجود آخر يعبّر عنه بالنفس من صفته أنه قائم بنفسه لا متحيّز نسبته إلى البدن نسبة اللّه تعالى إلى العالم ، لا هو داخل في العالم ولا هو خارج عنه. والتفتوا إلى أن الروح جسم منقسم وأجزاؤه متشابهة. فلو كان هو المدبر المدرك من الإنسان لكان لكل شخص أرواح كثيرة ، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء ، فيكون عالما بالشيء جاهلا به. فلا بد من شيء هو نافذ لا ينقسم ، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم ، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتا لا حيا. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه ، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أو لا ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أمورا أخر لا يمكن إحصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم وإنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله. والأولون أحالوا هذا ، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسئول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم ، فلا يمكن البيان ، وإما أن يكون عالما فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر اللّه تعالى كما أن القدم سر اللّه ولم يرخّص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراة 1أنه لا يجيب عن كذا وكذا ، أي لا يشرح عن أسرارها ، ومن جملته الروح. ولا يظن أن اللّه تعالى لم يطلعه عليها ، فإنه عرف أمورا أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف
    __________________
    (1) لعلها التوراة.

    يظن أنه عرف اللّه وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين ، وما عرف نفسه ، ولكنه كان عبدا فأمر بأمر فاتّبع الأمر ، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك ، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا : أما عند من لا يثبت إلا العرض فأقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضا عرضا فيوافقون في الحد ، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس ، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى ، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإنسان متنعلا لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل ، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالما عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملا مسوقا على علامة باقية من أثر خفه.
    الامتحان السابع : قد استدعيت كلاما في حد الحركة والخائضون فيه ضبطهم كثير ، فقيل إنه الذي لمحله به اسم المتحرك ، وقيل إنه الذي تكون الذات به متحركة ، وقيل إنه الخروج عن المكان وقد فهمت ما في هذا النمط من فائدة أو غائلة ، فإن أردت الحقيقة فعليك بالمنهج الذي ذلّلته لك فلم أكرّره بالامتحان مرة بعد أخرى إلا لتألف هذا المسلك البعيد وهو أن تحصل الألفاظ المشهورة وتضعها في جانب من ذهنك ، وهاهنا ثلاثة : الكون والحركة والسكون ، وتنظر في المعاني المعقولة التي تدل هذه العبارات عليها من غير التفات إلى الألفاظ ، فتقول هذا المنظور فيه من فن الأعراض ، ونحن نعلم أن العرض ينقسم إلى ما يعبّر عنه بأنه اختصاص

    جوهر بحيّزه وإلى ما لا يعبّر عنه به. واختصاص الجوهر بحيّزه ينقسم بالضرورة إلى ما يكون في حالة واحدة وإلى ما يكون في أكثر. والذي يكون أكثر ينقسم إلى ما يزيد على حالتين وإلى ما لا يزيد. والذي يكون في حالتين ينقسم إلى ما يكون في حيّز واحد وإلى ما يكون في حيّزين ، وكذا ما يكون في ثلاثة أحوال فصاعدا ينقسم إلى ما يكون في حيّز واحد وإلى ما يكون في ثلاثة أحياز. فقد حصل هاهنا للعقل خمسة أقسام كون في حالة وكون في حالتين في حيّز واحد وكون في حالتين في حيّزين وكون في ثلاثة أحوال في حيّز واحد وكون في ثلاثة أحوال في ثلاثة أحياز. وكانت الألفاظ ثلاثة والأقسام خمسة فاختلف الناس في إطلاق تلك الألفاظ على هذه الأقسام. فقال فريق وهو الأقرب إلى الحق ، وأعني بالحق هاهنا تقريب التعريف والاصطلاح ، وإلا فليس في هذا النظم رسم معنوي وإنما هو بحث عن اللفظ الفاشي يعبّر بالسكون عن الاختصاص بحيّز في حالتين متواصلتين فصاعدا ، وبالحركة عن الاختصاص بحيّزين في حالتين متواصلتين فصاعدا ، وهؤلاء لم يسمّوا الجوهر في أول حدوثه لا ساكنا ولا متحركا فثار عليهم من يأخذ الأمور من بعد. فقال هذا يؤدّي إلى أن يكون جوهر غير ساكن ولا متحرك وهذا محال ، والمؤدّي إلى المحال محال فسلم الكلام المشهور بين المتكلمين أن الحركة والسكون يتقابلان لا ينفك الجوهر عنهما. ولم يعرف أن الذين قالوا ذلك أرادوا به الذي يبقى مدة يدركه الحس ، فالثاني لا يخلو عن حركة وسكون فإنهم فهموا من السكون أشياء ، فكيف سمّوا الاختصاص في الحياة الأولى سكونا ، فإن كان يسمّى به باعتبار أنه ليس بمتحرك فليكن متحركا باعتبار أنه ليس بساكن ، أي ليس بلا لبث ، وهذا خوض في فصول بلا طائل بعد معرفة المعنى ، وثار من بعد خيال آخر وهو أن الحركة إن كانت عبارة عن الكون في المكانين فلا تكون الحركة قط موجودة في حال من الأحوال. لأن الكون في مكانين يكون في آنين ، فإن نظرت إلى الآن الأول فالكون الثاني غير موجود وإن نظرت إلى الثاني فلا يكون إلا بعد عدم الأول. وهذا كما أن تبدّل السواد والبياض لا يكون

    موجودا ، أعني نفس التبدّل لأنه ما دام السواد موجودا فلا تبدّل. وإذا وجد البياض بعد عدم السواد فلا تبدّل. فيكون التبدّل عبارة أطلقت على أمر معقول يستدعي ثبوته زيادة على آن واحد. فقالوا الحركة لا وجود لها بالفعل في آن البتة وإنما وجودها في زمان ممتد ، والزمان لا يوجد منه جزء ما لم يفن الذي قبله ، فلا يصادف وجودا إلا في الوهم أما في الخارج فلا. وهؤلاء هم الفلاسفة. وقال أهل الحق لسنا نطلق اسم الحركة عليه من حيث أنه كونان في مكانين بل من حيث أنه كون في مكان لم يكن قبله وبعده فيه ، فألزموا أن الجرم الذي وجد في حالة واحدة لم يكن قبله ولا بعده فيه فزادوا مع وجود الجوهر للاحتراز. وهذا الإطلاق يستدعي صدقه ثلاثة أحوال ، فمن يكتفي بحالتين وتكون الحركة عنده عبارة عن كون الجوهر في حيّز لم يكن قبله فيه مع وجوده ، وأعني به الفصل القريب. فهو مسمّى حركة من حيث أنه شغل بحيّز حصل به مع فراغ الآخر. وأما السكون فهو كون في مكان كان قبله فيه. ومن أراد أن يغيّر هذه العبارات فلا حجر عليه بعد أن يقرّر في عقله الأقسام الخمسة الأول ، فإنه بعد ذلك سنّة اللغوي الناظر في الألفاظ لا المتكلم الباحث عن المعاني. ولنختم الامتحانات بذكر حد واحد من حدود الفقهاء والأصوليين.
    الامتحان الثامن : اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلّق به الإيجاب ، وقيل ما لا بد من فعله ، وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه ، وقيل ما يجب بتركه العقاب ، وقيل ما لا يجوز الإقدام على تركه ، وقيل ما يصير المكلّف بتركه عاصيا ، وقيل ما يلام تاركه شرعا. ولو تتبّعت هذه الحدود طال الأمر ففيما قدّمته ما يعرفك وجه الخلل في المختل منها ، لكن أهديك إلى الحق الواضح بتمهيد سبيل السلوك ، وهو أن تستنهج ما نهجته لك فتعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح. فدع الألفاظ جانبا وجز بالنظر إلى المعنى أولا ، وأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك ، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة

    الممتنع ، ويقول وجود اللّه واجب ، واللغوي على السقوط يقول وجبت جنوبها ويقول وجبت الشمس ، فله بكل اعتبار حد آخر. والمطلب الآن مراد الفقهاء ، وهذه الألفاظ لا نشك أنها لا تطلق على الجواهر بل على الأعراض ، ومن الأعراض على الأفعال فقط ، ومن الأفعال على أفعال المكلّفين لا أفعال البهائم. فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا أو حادثا أو معلوما أو مكتسبا أو مخترعا ، وله بحسب كل نسبة انقسامات ، إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا ننظر فيها ، ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع يعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق بها خطاب الشرع كأفعال البهائم والمجانين وإلى ما يتعلق به ، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما تعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه والإحجام عنه ، ويسمّى مباحا ، وإلى ما رجّح فعله على تركه ، وإلى ما رجّح تركه على فعله. والذي رجّح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمّى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه في الدار الآخرة ويسمّى واجبا. وربما اصطلح فريق على تخصيص الواجب بما علم ترجيحه على هذا الوجه قطعا كالصلوات الخمس المكتوبة دون ما هو مخيّر فيه ، وخصّصوا ذاك باسم الفرض ولا حرج في هذا الاصطلاح ، فإننا لا ننكر انقسام المرجّح بالعقاب إلى المعلوم والمظنون والاصطلاح مباح فلا مشاحة فيه. وأما المرجّح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمّى مكروها ، وقد تكرّر ما أشعر عليه بعقاب في الدنيا ، كما قال عليه السلام أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل اللّه رأسه رأس حمار. وقوله من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه.
    وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمّى محذورا أو حراما أو معصية ، فإن قلت ما معنى قولك أشعر ، فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة. فالإشعار يعم

    جميع المدارك ، فإن قلت ما معنى قولك عليه عقاب فمعناه أن إجرائه سبب للعقاب في الآخرة ، فإن قلت ما المراد بكونه سببا فالمراد ما يفهم من قولنا الأكل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم ، فإن قلت فلو كان سببا لكان لا يرجى العفو بل كان يجب أن يعاقب لا محالة. فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص معيّن مشار إليه ، بل يجوز أن يفرض في المحل أمور تدفع المسبب ، ولا يدل ذلك على بطلان السببية ، فربّ دواء لا ينفع وربّ ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بأمر هام ، كمن يجرح في حال قتال وهو لا يحس في الحال به ، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند اللّه مرضية يوجب ذلك العفو عن جريمته ولا يوجب خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب.

    خاتمة الكتاب
    ثم ألحق به أن قال اعلم أن القدر الذي حرّرته في هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولا عظيمة إن أمعنت في تفهم الكتاب تشوّفت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله ، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلوم. إلا أنني لم أفش تلك النسخة ولم تتداولها إلا يدي بعد ، لأنها كانت مفتقرة إلى مزيد تهذيب وتنقيح بحذف وزيادة وتحريف ، وقد دفعت الأقدار دون تهذيبها فإن استأخر الأجل واندفعت العوائق وانصرفت إليه الهمة وانقطعت على عمارته بتهذيب ما يجب أن يهذب صادفت فيه ما أعوزك في هذا الكتاب. وأنا الآن مجدد وصيتك بالمواظبة على الدعاء سائلا من اللّه تعالى أن يصلح نيتي فيما أتعاطاه من تصنيف كتاب وإفادة علم لأقصد به خالص وجه اللّه غير ممزوج بحظ من حظوظ الدنيا ، وما أخس حال من مهد للخلق سبيل الآخرة وهو إلى الدنيا ملتفت ، أو دعا الخلق إلى اللّه وهو عنه معرض. فنعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونسأل اللّه تعالى إصلاح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا ، فهو ولي الإجابة بفضله وسعة جوده والحمد للّه رب العالمين.

    الفهارس
    فهرس المصطلحات
    فهرس المحتويات


    فهرس المصطلحات
    ـ أ ـ
    الإثبات : 43 / 46 / 52 / 67 / 82 / 85 / 88 / 91 / 92 / 94 / 98 / 105 / 111.
    الاحتمال : 54.
    الإحساس : 27.
    الاستحالة : 27 / 42 / 85.
    الاستدلال : 51 / 55 / 56 / 119 / 151.
    الاستقراء : 56 / 112 / 113 / 120 / 126.
    الأصل : 27 / 45 / 46 / 57 / 58 / 59 / 69 / 129 / 133.
    الإضافة : 86.
    الالتزام : 26 / 35 / 73 / 74 / 79.
    الامتناع : 42 / 85.
    الإمكان : 27 / 37 / 54 / 85 / 93.
    الأوليات : 27 / 55 / 103.
    ـ ب ـ
    بديهة العقل : 27 / 55.

    البرهان : 27 / 31 / 46 / 68 / 92 / 139 / 140 / 144.
    ـ ت ـ
    التجربة : 27.
    التصديق : 31 / 37 / 38 / 67 / 68 / 70 / 77 / 82 / 91 / 100 / 102 / 107 / 108 / 111 / 114 / 115 / 117 / 122 / 123 / 136.
    التصور : 30 / 31 / 32 / 37 / 50 / 79 / 88 / 106 / 116 / 117 / 148.
    التضمن : 26 / 73 / 74.
    التعاند : 27 / 51 / 52 / 97 / 111.
    التعريف : 27.
    التقابل : 42 / 43.
    التقسيم : 28 / 51 / 59 / 97.
    التلازم : 27 / 49 / 50 / 51 / 95 / 97 / 104 / 111 / 120.
    التمثيل : 30 / 56 / 60 / 112 / 119.
    التمييز : 27.
    التناقض : 98.
    ـ ج ـ
    الجامع : 58 / 60 / 133.
    الجزء : 87.
    الجزئي : 26 / 32.

    الجنس : 33 / 136 / 137 / 138 / 140 / 141.
    ـ ح ـ
    الحد : 26 / 29 / 30 / 31 / 35 / 36 / 37 / 40 / 47 / 68 / 69 / 78 / 125 / 131 / 134 / 135 / 136 / 137 / 139 / 141 / 142 / 143 / 144 / 145 / 146 / 148 / 149 / 150 / 151 / 159.
    الحد الأوسط : 27 / 45 / 46 / 59 / 60.
    الحكم : 27 / 39 / 45 / 47 / 48 / 49 / 56 / 57 / 59 / 83 / 85 / 86 / 90 / 91 / 92 / 94 / 95 / 104 / 110 / 111 / 114 / 125 / 126 / 127 / 129 / 130 / 131 / 139 / 148.
    ـ خ ـ
    الخاص : 26 / 32 / 36 / 40 / 49 / 94 / 136.
    الخاصة : 26 / 89 / 95 / 112.
    ـ د ـ
    الدلالة : 73 / 74 / 77 / 91 / 119 / 124.
    الدليل : 43 / 85 / 107 / 109 / 114 / 115 / 126.
    ـ ذ ـ
    الذاتي : 26 / 34 / 135 / 136 / 142.

    ـ ر ـ
    الرسم : 26 / 142.
    ـ س ـ
    السبر : 28 / 51 / 52 / 59 / 97.
    السلب : 27.
    السور : 84.
    ـ ش ـ
    الشرطي المتصل : 27 / 50.
    الشرطي المنفصل : 27 / 51 / 52 / 59 / 60 / 97.
    الشكل : 27 / 80 / 81.
    ـ ص ـ
    الصورة : 27 / 44 / 52 / 80 / 123.
    ـ ض ـ
    الضرورة : 43 / 85 / 90 / 91 / 92 / 95 / 107 / 109 / 147.
    ـ ظ ـ
    الظن : 27 / 54 / 99 / 100 / 113.
    ـ ع ـ
    العام : 26 / 32 / 40 / 49 / 94 / 136.

    العرض ـ العرضي : 26 / 150 / 157.
    العكس : 38 / 88 / 137.
    العلة : 27 / 45 / 46 / 48 / 49 / 58 / 60 / 90 / 91 / 92 / 93 / 94 / 95 / 110 / 111 / 119 / 120 / 123 / 126 / 127 / 129 / 132 / 135 / 141 / 157 / 161.
    العلم : 26 / 67 / 106 / 116 / 117 / 120 / 129 / 134 / 135 / 146 / 148 / 149.
    ـ ف ـ
    الفرع : 27 / 45 / 46 / 58 / 133.
    الفصل : 136 / 137 / 141.
    ـ ق ـ
    القضية : 37 / 38 / 39 / 43 / 45 / 47 / 81 / 83 / 84 / 85 / 86 / 88 / 90 / 95 / 96 / 103 / 104 / 107 / 108 / 115.
    القضية الجزئية : 27.
    القضية الشخصية : 27 / 40 / 41.
    القضية الكلية : 27.
    القضية المطلقة الخاصة : 27 / 40 / 41 / 84.
    القضية المطلقة العامة : 27 / 40 / 84 / 92.
    القضية المعينة : 27 / 40 / 41.

    القضية المهملة : 27 / 40 / 42 / 84.
    القضية النافية : 87.
    القياس : 27 / 31 / 42 / 43 / 44 / 45 / 46 / 47 / 48 / 49 / 52 / 53 / 54 / 55 / 56 / 57 / 59 / 60 / 68 / 69 / 70 / 76 / 78 / 83 / 90 / 91 / 94 / 95 / 99 / 101 / 104 / 107 / 108 / 109 / 111 / 119 / 121 / 125 / 128 / 129 / 133 / 153.
    قياس الدلالة : 119.
    قياس العلة : 119.
    ـ ك ـ
    الكل ـ الكلي : 26 / 32 / 35 / 36 / 87.
    ـ ل ـ
    اللازم ـ اللزوم : 26 / 34 / 49 / 78 / 79 / 81 / 94 / 96 / 97 / 114 / 116 / 134 / 138 / 141 / 142 / 143 / 147 / 150 / 151.
    ـ م ـ
    المادة : 27 / 44 / 52.
    الماصدق : 32.
    الماهية : 27 / 31 / 33 / 34 / 36 / 37 / 50 / 78 / 79 / 136 / 137 / 147 / 149.
    المباح : 159 / 160.

    المتباينة : 26 / 74 / 75 / 76.
    المترادفة : 26 / 74 / 75 / 76.
    المتزايلة : 26.
    المتواطئة : 26 / 33 / 75 / 124.
    المثبتة : 27 / 84 / 88 / 92 / 94 / 95.
    المحظور : 159 / 160.
    المحك : 29 / 30 / 31 / 32 / 33 / 34 / 35 / 37 / 38 / 40 / 44 / 45 / 49 / 51 / 52 / 54 / 55 / 60 / 61 / 90 / 144.
    المحكوم عليه : 27 / 39 / 41 / 43 / 45 / 56 / 83 / 84 / 85 / 86 / 88 / 90 / 91 / 92 / 94 / 95 / 109 / 114 / 127 / 139.
    المحمول : 27 / 39 / 41 / 45 / 47 / 77 / 83 / 127.
    المشتركة : 26 / 74 / 124 / 138 / 151.
    المطابقة : 26 / 73.
    المطلق : 32.
    المعرفة : 26 / 31 / 32 / 35 / 67 / 68 / 116 / 117 / 134 / 141 / 148 / 149.
    المعيار : 27 / 29 / 30 / 31 / 33 / 35 / 36 / 38 / 39 / 41 / 42 / 47 / 48 / 50 / 51 / 52 / 53 / 54 / 55 / 56 / 58 / 106 / 162.
    المعين : 32.
    المقدّم : 96 / 97.
    المقدمة : 27 / 47 / 50 / 53 / 54 / 58 / 59 /

    70 / 76 / 90 / 91 / 92 / 93 / 94 / 95 / 98 / 99 / 101 / 106 / 107 / 109 / 110 / 111 / 112 / 114 / 115 / 121 / 123 / 125 / 126 / 127 / 128.
    المكروه : 159 / 160.
    المناسب : 60 / 133.
    المندوب : 159 / 160.
    المؤثر : 60 / 133.
    الموجبة : 27.
    الموضوع : 27 / 39 / 45 / 47 / 48 / 83 / 127.
    ـ ن ـ
    النتيجة : 27 / 59 / 83 / 91 / 93 / 94 / 95 / 98 / 110 / 114 / 115 / 116 / 121 / 126 / 127.
    النظم : 27 / 44 / 48 / 49 / 52 / 69 / 70 / 90 / 92 / 93 / 94 / 97 / 107 / 109 / 110 / 111 / 112 / 116 / 119 / 125.
    النفي : 27 / 43 / 47 / 48 / 67 / 83 / 85 / 87 / 93 / 94 / 95.
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    نافذه على الفلسفه
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » نافذه على الفلسفه صادق الساعدي

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 36-منتدى الكتب الدينيه المنوعه-
    انتقل الى: