كلمة المكتب
الحمد لله والصلاة والسلام على أنبياء الله ، لا سيما رسوله الخاتم وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
أما بعد ، لا شك أن إصلاح المناهج الدراسية المتداولة في الحوزات العلمية والمعاهد الدراسية في العصر الحاضر ـ الذي عُرف بعصر ثورة المعلومات ـ بات حاجة ملحّة يقتضيها تطور العلوم وتكاملها عبر الزمان ، وظهور مناهج تعليمية وتربوية حديثة ، تتوافق مع الطموحات والحاجات الإنسانية المتجددة.
وهذه الحقيقة لم تعد خافية على القائمين على هذه المراكز ، فوضعوا نصب أعينهم إصلاح النظام التعليمي في قائمة الأولويات بعد أن باتت فاعليته رهن إجراء تغييرات جذرية على هيكلية هذا النظام.
ويبدو من خلال هذه الرؤية أن إصلاح النظام الحوزوي ليس أمراً بعيد المنال ، إلا أنه من دون إحداث تغيير في المناهج الحوزوية ستبوء كافة الدعوات الإصلاحية بالفشل الذريع وستموت في مهدها.
والمركز العالمي للدّراسات الإسلامية ـ الذي يتولّى مهمّة إعداد المئات من الطلاب الوافدين من مختلف بقاع الأرض للاغتراف من نمير علوم أهل البيت ـ عليهم السلام ـ شرع في الخطوات اللازمة لإجراء تغييرات جذرية على
المناهج الدراسية المتبعة وفق الأساليب العلمية الحديثة بهدف عرض المواد التعليمية بنحو أفضل ، الأمر الذي لا تلبّيه الكتب الحوزوية السائدة؛ ذلك أنها لم تؤلف لهدف التدريس ، وإنما ألفت لتعبر عن أفكار مؤلفيها حيال موضوعات مرّ عليها حقبة طويلة من الزمن وأصبحت جزءاً من الماضي.
وفضلا عن ذلك فإنها تفتقد مزايا الكتب الدراسية التي يراعى فيها مستوى الطالب ومؤهلاته الفكرية والعلمية ، وتسلسل الأفكار المودعة فيها وأداؤها ، واستعراض الآراء والنظريات الحديثة التي تعبر عن المدى الذي وصلت إليه من عمق بلغة عصرية يتوخى فيها السهولة والتيسير وتذليل صعب المسائل مع احتفاظها بدقة العبارات وعمق الأفكار بعيداً عن التعقيد الذي يقتل الطالب فيه وقته الثمين دون جدوى.
وانطلاقا من توجيهات كبار العلماء والمصلحين وعلى رأسهم سماحة الإمام الراحل ـ قدس سره ـ ، وتلبية لنداء قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى الخامنئي ـ مد ظله الوارف ـ قام هذا المركز بتخويل «مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية» مهمة تجديد الكتب الدراسية السائدة في الحوزات العلمية ، أن يضع له خطة عمل لإعداد كتب دراسية تتوفر فيها المزايا السالفة الذكر.
وقد بدت أمام المكتب المذكور ـ ولأول وهلة ـ عدة خيارات :
1 ـ اختصار الكتب الدراسية المتداولة من خلال انتقاء الموضوعات التي لها مساس بالواقع العملي.
2 ـ إيجازها وشحنها بآراء ونظريات حديثة.
3 ـ تحديثها من رأس بلغة عصرية وإيداعها أفكار جديدة إلا أن العقبة الكأداء التي ظلت تواجه هذا الخيار وقوع القطيعة التامة بين الماضي والحاضر ، بحيث تبدو الأفكار المطروحة في الكتب الحديثة وكأنها تعيش في غربة عن التراث و
للحيلولة دون ذلك ، لمعت فكرة جمع الخيارات المذكورة في قالب واحد تمثّل في المحافظة على الكتب الدراسية القديمة كمتون وشرحها بأسلوب عصري يجمع بين القديم الغابر والجديد المحدث.
وبناء على ذلك راح المكتب يشمّر عن ساعد الجدّ ويستعين بمجموعة من الأساتذة المتخصصين لوضع كتب وكراسات في المواد الدراسية المختلفة ، من فقه وأصول وتفسير وكلام وفلسفة ورجال وحديث وأدب وغيرها.
وتطلع المكتب في حقل الفلسفة إلى تبسيط المباحث المطروحة فيها قدر المستطاع وعرضها للمبتدئين بأسلوب خال من التعقيد والإطناب ، فوجد بغيته في كتاب «نافذة على الفلسفة» للأستاذ صادق الساعدي الذي ألفه نزولا عند رغبة المكتب.
فجاء الكتاب بمستوى الطموحات ـ خاصةً وإنه أعد للطالب تمارين تساعده على فهم كثير مما جاء في المتن ـ بعد أن طوى مراحل مختلفة من النقد والتمحيص على يد مجموعة من أساتذة الفلسفة ممن لهم باع طويل في هذا الحقل وفي طليعتهم سماحة الأستاذ الألمعي الكبير حجة الإسلام والمسلمين الشيخ الفياضي ـ دامت إفاضاته ـ حيث أبدوا فيه آراءهم السديدة ونظراتهم الثاقبة.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بخالص الشكر إلى الأستاذ صادق الساعدي على ما تحمله من جهد وعناء في تأليف هذا الكتاب وإلى جميع من أسدوا خدمة في سبيل إنجازه.
المركز العالمي للدراسات الإسلامية
مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية
المقدمة
تُعدّ الفلسفة ركيزة مهمة ومنطلقاً أساسياً لصياغة فهم ورؤية كونية واضحة عن الكون والحياة ، وهي بذلك تضع لكل شيء حدَّهُ وتحدّد موقعه وترسم له الخطى ما بين مبدئه ومنتهاه.
ولا شك في عمق الفلسفة ودقة بحوثها بما تتضمنه من مسائل جُعل العقل أداة وحيدة لحلها وبيان مداخلها ومخارجها ، مما يتطلب همّة عالية وجهداً وافراً لاستيعاب مطالبها وحل غوامضها وألغازها ، الأمر الذي بعث على استيحاش روّاد الحقيقة من الخوض في غمارها والدخول في تفاصيلها.
ومما زاد في الطين بلّةً أن علماء الفلسفة لم يطرحوا أفكارهم بلغة سهلة سلسة يسهل على الغير قراءتها والتجوال في حقولها ، فبعث على أن تكون الفلسفة طلاسم لا يفكر أكثرُ الناس في الاقتراب منها لأنها مجموعة رموز وأسرار لا يتمكن من معرفتها إلا ذوو الاختصاص ممن قضى عمره في خوض لججها وبذل مهجته للوصول إلى عمقها وقعرها!
وقد حاولنا من خلال نافذتنا الفلسفية الصغيرة التي بين يديك أن نوقفك على ألف باء الفلسفة وذلك بطرح أهم ما ورد فيها من مسائل ، بأسلوب مدرسي مبسّط يميط اللثام ويرفع عنها الإبهام ، ليكون ما طرحناه مقدمة للدخول إلى مباحث الفلسفة وتفاصيلها في كتبها المطوّلة ، آملين أن نوفّق في المستقبل لتسليط الضوء عليها بلغة عصرية واضحة تجعلها في متناول روّادها ، فمنه تعالى نستمد العون والتوفيق لأداء ما يجب علينا بدفع عجلة العلم والمعرفة إلى أمام ، إنه خير ناصر ومعين.
صادق الساعدي
الدرس الأول
نبذة تاريخية فلسفية
* ولادة الفكر البشري
* ولادة الفكر الفلسفي
* تيارات الشك والسفسطة
* القرون الوسطى
* الفجر الجديد
* المدرسة المشائية والإشراقيّة والحكمة المتعالية
* فكِّر وأجب
ولادة الفكر البشري :
لازم التفكير وجود الإنسان منذ نعومة أظفاره إلى يومنا هذا ، وترك آثاراً مهمّة في حياته حيث خلق انعطافات وتحولات مهمّة في مسار حركته ، وطوَّر أسلوب تعامله مع محيطه على مختلف الميادين والصُعد.
وبهذا اختلفت حياة الإنسان المتطورة عن حياة الحيوان بقوالبها الجاهزة والجامدة ، فكم تجد الفارق واضحا بين بيوت الإنسان التي كانت في حدود الكهوف والمغارات والتي تطورت إلى عمارات ناطحات للسحاب ، وبين بيوت النحل السداسية ذات الأشكال الجامدة التي لم يكتب لها تغيير منذ أن وجد هذا الحيوان ولحد الآن.
ولادة الفكر الفلسفي :
والفكر الفلسفي الذي أثارته وأفرزته تساؤلات الإنسان عن الكون والحياة ، والمبدأ والمعاد ، كان أحد المحاور الفكرية التي استقطب اهتمام البشر من لدن آدم ولحدِّ الآن ، ودفعه صوب التأمل والنظر ، ومن ثم نحو الإبداع والابتكار في هذا المجال ، وقد كان لحكماء الفرس واليونان قصب السبق في ذلك على بقية الأمم وكان ذلك قبل الميلاد بعدة قرون حيث طفحت على سطح مناظراتهم و
تأملاتهم الفلسفية العديد من الآراء والنظريات ، التي كان يسودها الاتزان تارة والتهافت والتضارب تارة أخرى ، وفي ذات الوقت النمو والثراء بفعل التلاقح الفكري الحر الذي وفّرَ أجواء خصبة لذلك.
تيارات الشك والسفسطة :
وفي ظل هذه الظروف برزت تيارات الشك والسفسطة واحتلّت مساحة واسعة من التفكير الفلسفي ، بعد أن احتل أربابها وهم السوفسطائيون ، منابر التعليم والخطابة والمحاماة ، وأنكروا حقائق الأشياء ووجودها الخارجي ، فانعكس ذلك على أذهان الناس وخلق عندهم بلبلة ذهنية وشكاً بكل حقيقة مهما كان طابعها ، وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد.
ولم يستمر الوضع على هذا الحال حيث تصدى سقراط لعلاج الموقف بقوة ، وتبعه على ذلك أفلاطون ، وتلاهما أرسطو طاليس الذي أسّس قواعد الاستدلال والتفكير الصحيح في علم المنطق ، حيث كشف عن زيف السفسطة ومغالطتها ومنزلقاتها التي أودت بالتفكير الإنساني إلى الهاوية. وبذلك تربع اليقين على عرشه ، وعادت مياه الحقيقة إلى مجاريها وتلاشت تيارات الشك والإنكار ، وعلى هذا المنوال استمر الحال حتى بعد رحيل العمالقة الثلاثة؛ سقراط وأفلاطون وأرسطو ، حيث استمر تلامذتهم في ترويج أفكارهم ، فدفعوا عجلة اليقين إلى أمام.
إلا أن مكانة هؤلاء أخذت بالتهاوي بين الناس بمرور الزمان ، فتقلص دورهم وقلّت أهميتهم ، فشدّوا رحالهم إلى الإسكندرية ، لتكون محطة جديدة لنشر
أفكارهم وتداول معارفهم واستمروا على هذا المنوال حتى القرن الرابع بعد الميلاد.
القرون الوسطى :
وفي هذه الفترة اعتنق إمبراطورُ الروم المسيحيةَ ، وتبنّى أفكارها باعتبارها آراء الدولة الرسمية ، إلا أنه في ذات الوقت فتح أمام العلماء أبواب النقد لطرح آراءهم ووجهات نظرهم ، وعلى أثر ذلك تدهورت الأوضاع وتفاقمت الأمور بفعل التعارض والتضارب في وجهات النظر بين الكنيسة والعلماء مما دفع الإمبراطور (جستنيان) إلى إصدار أوامره بغلق المراكز العلمية والجامعات والمعاهد الفكرية ، وتعطيل المدارس في أثينا والإسكندرية ، ففر العلماء خوفا من البطش والتصفية الجسدية ، وحينها انطفأ مشعل العلم وانتكست راية المعرفة ، ومنها دخلت أوربا في عصورها المظلمة ، والتي تسمى أيضا بالقرون الوسطى ، حيث استغرقت ألف عام من الزمان ، وعلى نحو التحديد من أوائل القرن السادس بعد الميلاد وانتهاءً بالقرن الخامس عشر بعد الميلاد وامتازت هذه الفترة باستيلاء الكنيسة على المراكز العلمية استيلاءً تاماً؛ فكانت المباحث العلمية والفلسفية تفرضها الكنيسة على أنها تعاليم دينية لا تقبل النقاش.
الفجر الجديد :
وفي هذه الفترة بالذات ازدهرت الحركة العلمية في شبه الجزيرة العربية بفضل نور الإسلام ، الذي ولد هناك في تلك الفترة وقد أضاء كل شيء ، وبدت حينها حركة علمية تنشط وتتفاعل وتتلاقح وتنمو بفضل ما حث عليه الدين الإسلامي من طلب العلم من المهد إلى اللحد ، حتى ولو كلف ذلك خوض اللجج وسفك المهج ، وحتى ولو كان في الصين ، وبالفعل فقد برع المسلمون في جميع حقول العلم والمعرفة ، ومن جملتها الحقل الفلسفي ، فترجموا كتب اليونانيين والرومانيين والإيرانيين إلى اللغة العربية ، وانهمك آخرون كالفارابي (1) في تبيان وشرح أفكار أفلاطون (2) وأرسطو (3) ، وتبعه على ذلك ابن سينا (4) حيثُ سلط
__________________
1. الفارابي : (أبو نصر محمد) (ت 950 م) فيلسوف لامع. ولد في فاراب «تركستان» ودرس في بغداد وحران وأقام في حلب في بلاط سيف الدولة الحمداني وتوفي في دمشق ، لقب بالمعلم الثاني ، من مؤلفاته كتاب «الموسيقى الكبير» ، «السياسة المدنية» ، «رسالة فصوص الحكم».
2. أفلاطون «plato» ـ (347 ـ 428 ق. م) فيلسوف يوناني يُعَدّ من مشاهير فلاسفة العالم ، ولد في أثينا من أسرة عريقة في المجد ، بدأ أول دراسته بالرسم ، ثم نظم الشعر ، تتلمذ في سن العشرين على يد سقراط الذي كان له الدور الأكبر في نشأته الفلسفية.
3. أرسطو «Aostotet» ـ (322 ـ 384 ق. م) مربي الإسكندر ومن كبار فلاسفة اليونان ، مؤسس فلسفة المشائين ، من مؤلفاته : «المقولات» ، «الجدل» ، «الخطابة» ، «السياسة» ، «كتاب ما بعد الطبيعة» ، أثر في الفكر العربي ومن أول من ترجم مؤلفاتهِ ، إسحاق ابن حنين.
4. أبو علي بن سينا : «384 ـ 427 ه» ولد في أقشنة قرب بخارى وتوفي في همدان ، عُرِف بالشيخ الرئيس وكان عالماً لامعاً وعملاقاً كبيراً حيث ضرب في كل فن بسهم وتجلى فيه نبوغه ، ففي مضمار الفلسفة فيلسوف مبدع ، بلغت الفسلفة المشائية على يده القمة ، وفي مضمار الطب طبيب ماهر وحاذق ، ألّف كتاب «القانون» الذي لم يزل يُدَّرس في الجامعات العلمية عبر قرون ، كما وإنه عرف أستاذاً لامعاً في الرياضيات والهيئة.
الضوء على فلسفة ومنطق أرسطو وبذلك ظهرت المدرسة المشائية في بلادنا الإسلامية.
وفي أواسط القرن السادس الهجري ، شرح الشيخ شهاب الدين السهروردي (1) أفكار أفلاطون بعد أن هواها ودافع عنها ، وبذلك أسس الفلسفة الإشراقية في بلادنا الإسلامية ونقد الفلسفة المشائيّة.
وفي مطلع القرن الحادي عشر الهجري ، ظهر صدر المتألهين الشيرازي (2) بآراء وأفكار فلسفية جديدة على ضوء القرآن وكلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) ، وأسماها بالحكمة المتعالية. (3)
المدرسة المشائية والإشراقية والحكمة المتعالية :
المدرسة المشائيّة تتمثل بفلسفة أرسطو طاليس حيث كان يعتمد في أبحاثه على الأسلوب الاستدلالي وسميّت فلسفته بهذا الاسم ، لأنه كان يسير من
__________________
1. شهاب الدين السهروردي : «550 ـ 587 ه» صاحب مدرسة الإشراق في بلادنا الإسلامية وقد عرض آراءه بالنثر والشعر باللغتين العربية والفارسية ، وله مصنفات منها : التلويحات اللوحية والعرشية ، والألواح العمادية وهياكل النور.
نشر أفكاره في حلب مما ألب الناس عليه واتهموه بالكفر مما دعى صلاح الدين الأيوبي أن يأمر ابنه الملك الظاهر بقتله فاستُشْهِد على يده في قلعة حلب وفي شهر رجب.
2. صدر المتألهين الشيرازي : «979 ـ 1050 ه» وهو محمد بن إبراهيم المعروف بصدر المتألهين ، ولد في مدينة شيراز ، وهو عالم شيعي كبير ، تعرف فلسفته بالحكمة المتعالية ، من أشهر كتبه «الأسفار الأربعة». وَعُرف أيضاً باسم الملاّ صدرا.
3. يراجع من أجل الإلمام بتفاصيل هذا الدرس : كتاب المنهج الجديد لتعليم الفلسفة للأستاذ مصباح اليزدي ، وكتاب فلسفتنا للشهيد السعيد محمد باقر الصدر ، وكتاب تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم.
المقدمات إلى النتيجة وكان من الأولى تسمية فلسفته بالفلسفة الاستدلالية في مقابل الفلسفة الإشراقية التي نادى بها أفلاطون ، الذي كان يرى بأنّ المعارف بالخصوص الإلهية منها ، لا تتأتى عن طريق الاستدلال العقلي فحسب ، بل لابد وأن يوجد إلى جانب ذلك سير وسلوك وتهذيب أخلاقي يبعث إشراقات وإفاضات للمعارف الإلهية على القلب. وقد تشعب الفلاسفة المسلمون على غرار ذلك إلى فلاسفة مشائين يتقدّمهم أبو علي ابن سينا ، وفلاسفة إشراقيين يتزعمهم شهاب الدين السهروردي. وأما الحكمة المتعالية فهي اسم اختاره صدر المتألهين الشيرازي لفلسفته التي حاول من خلالها التقريب بين الفلسفة المشائية الاستدلالية وَبين المدرسة الإشراقية وبين ما جاء في الكتاب والسنة الشريفة من أحاديث وروايات.
فكِّر وأجب :
1 ـ متى بدأ التفكير الإنساني؟ وبماذا يختلف الإنسان عن الحيوان في تغيير وتطوير محيطه الذي يعيش فيه؟
2 ـ ما هو الباعث من وراء نشوء الفكر الفلسفي؟ ومن كان من بين الحكماء له قصب السبق في ذلك؟ ومتى؟
3 ـ ما هي الظروف التي أنجبت تيارات الشك والسفسطة؟ ومن هم أربابها؟ ومتى تسنى لها الظهور؟
4 ـ اذكر عمالقة الفكر الفلسفي الذين تصدوا لمواجهة اتجاه الشك وأحلوا اليقين محله؟ وكيف استمر اتجاه اليقين بعد مماتهم؟ وإلى أي مصير انتهى أمر أتباعهم؟
5 ـ ما هي الظروف التي أودت بأوربا إلى فترة القرون الوسطى؟
6 ـ ماذا جرى في شبه الجزيرة العربية إبان فترة القرون الوسطى؟
7 ـ اشرح ما يلي :
أ ـ المدرسة المشائية
ب ـ المدرسة الإشراقية
ج ـ مدرسة الحكمة المتعالية
الدرس الثاني
الفلسفة
* تعريف الفلسفة
* موضوع الفلسفة
* أهمية وفائدة الفلسفة
* أساليب التحقيق العلمي
* فكِّر وأجب
تعريف الفلسفة :
جاءت كلمة الفلسفة من عبارة «فيلاسوفوس» أَي محبّ الحكمة ، وهو اسم اختاره سقراط (1) لنفسه؛ وقد نقل مورّخو الفلسفة أن السبب في اختيار هذا الاسم شيئان : أحدهما : تواضع سقراط حيث كان يعترف دائماً بجهله ، والثاني : تعريضه بالسوفسطائيين الذين كانوا يعدُّون أنفسهم حكماء (2) ؛ أي إنه باختيار هذا اللقب أراد أن يوحي لهم ، بأنكم لستم أهلاً لهذا الاسم «الحكيم» ؛ لأنكم تستخدمون التعليم والتعلم لأهداف مادية وسياسية ، وحتى أنا الذي استطعت ردَّ تخيلاتكم بأدلة محكمة ، لا أرى نفسي أهلاً لهذا اللقب ، وإنما أطلق على نفسي اِسم «محبّ الحكمة» (3).
وفي العهد الإغريقي القديم ومنذ أن سَمّى سقراط نفسه بهذا الاسم ، صارت الفلسفة قديماً تستعمل في مقابل السفسطة المنكرة بأساليب مغالطاتها لحقائق الأشياء ، كما إنها صارت شاملة لجميع العلوم الحقيقية كالفيزياء ، والكيمياء ، والطب ، والهيئة ، والرياضيات والإلهيات؛ وأما العلوم الاعتبارية كالنحو و
__________________
1. سقراط : «399 ـ 470 ق. م» فيلسوف يوناني ، ولد في أثينا ، عُرِفَ بأنه كان أستاذاً ذائع الصيت بالفلسفة والحكمة وعرف بـ «سقراط الحكيم». وينقل أن هتافاً كان يراود سقراط يرشده إلى الطريق الصحيح. وقد بلغ من العلم مرتبه فريدة.
2. حيث كان يطلق على كل منهم اسم «سوفيست» وهي كلمة يونانية تعني الحكيم.
3. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة : 1 / 14 ـ 15 ، الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي.
الصرف فهي خارجة عن حيز الفلسفة (1).
وبناءً على ما تقدم فإن الفلسفة قديماً كانت اسماً عاماً وشاملاً لقسمين رئيسيين من العلوم ، النظرية والعملية ، وبذلك فإن الفلسفة تنقسم إلى فلسفة نظرية ، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يعلم من المعارف كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات. وإلى فلسفة عملية ، وتشمل تحت عنوانها ما ينبغي أن يُعمل به من المعارف كالأخلاق وتدبير المنزل والسياسة.
وإليك مخططاً بيانياً للفلسفة وأقسامها المتفرعة عنها :
__________________
1. تختلف العلوم الاعتبارية عن العلوم الحقيقية في أن العلوم الاعتبارية لا واقع لها سوى ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون ، كما لو اتفق النحاة في لغة العرب أن يكون الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً. فلا وجود لأمثال هذه الأحكام في الواقع غير ما اتفق عليه المتفقون واعتبره المعتبرون وعلى خلاف ذلك ، حال العلوم الحقيقية ، فإنها تكشف عن حقائق ثابتة سواء علم الإنسان بها أم لم يعلم؛ فالجاذبية كانت موجودة ولها واقع ثابت ولم يكن لنيوتن من دور ، سوى الكشف عنها.
بَيْدَ أن الفيلسوف لم يتمكن من مواكبة تطور العلوم واتساع رقعتها واستيعاب مسائلها وفروعها ، فبعث ذلك على انحسار دوره وتقلص نشاطه في حدود بحث الإلهيات بالمعنى الأعم والأخص وتسمى بالعلم الكلي والفلسفة الأولى (1) ؛ والأعم منها يبحث عن أحكام الموجودات بشكل عام ولا يختص بموجود دون آخر بينما تتناول الإلهيات بالمعنى الأخص إثبات وجود الله الأقدس وصفاته جل وعلا.
موضوع الفلسفة :
وبذلك يتضح أن موضوع علم الفلسفة هو : «الموجود بما هو موجود» ، أي أنها تتناول دراسة الموجود بشكل عام ، لتحدد أحكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً : إن البحث عن العلّة والمعلول لا يختص بموجود دون غيره ، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء ودرجة انجماده وغليانه وبقية خواصه ، بحث عن الموجود بما هو ماء ، له وجوده الخاص. وأما الإلهيات بالمعنى الأخص فإنها تبحث عن وجود الله تعالى وصفاته وتختص به ولا تبحث عما سواها.
ودراسة الموجود بشكل عام التي تتناول الموجودات مجردها وماديها ، يُطلق عليها اسم «الميتافيزيقا» وقد تصور البعض خطأ ، أنها تختص بالموجودات المجردة غير المادية ، إلا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية والمجردة على
__________________
1. والوجه في تسميتها بهذا الاسم ، هو أنها تُعدّ في مقدمة كل العلوم؛ إذ أنها تبحث عن وجود الله الأقدس وصفاته الحسنى ، كما أنها تقوم بإثبات موضوعات العلوم ، فما لم يثبت في الفلسفة الوجود المادي الخارج عن حدود الذهن لا يتسنى للفيزيائي أن يبحث عن خواص الأجسام ، ولا للكيمياوي أن يبحث عن طبيعة تفاعلات العناصر وهكذا. بل إن جميع العلوم مدينة إلى الفلسفة في مبادئها التصديقية ، كمبدأ عدم التناقض وأصل العلية وقاعدة الانسجام ، وهي من مباحث ومسائل الفلسفة ، ومن أجل ما تقدم يكون للفلسفة ، شرف التقدم على بقية العلوم ، ولا نبالغ إن قلنا أنها أم العلوم.
حد سواء. فالبحث عن العلة والمعلول ، والوجوب والإمكان ، والحادث والقديم ، والقوة والفعل وما شابهها لا يختص بالموجودات المجردة غير المادية بل يشملهما معاً.
ومن الجدير ذكره أن الميتافيزيقا مأخوذة من أصل يوناني هو متاتافوسيكا أي ما بعد الطبيعة وحوِّرت بالعربية إلى (ميتافيزيقا) وحسبما يعتقده مؤرخو الفلسفة ، فإن هذه الكلمة استعملت لأول مرة في قسم من فلسفة أرسطو المتناولة لأحكام الوجود بشكل عام ، وحيث أن هذا القسم من بحث الفلسفة قد كتبه أرسطو حسب ترتيبه بعد بحث الطبيعيات ، لذلك فقد أطلق عليه اسم ميتافيزيقا ، أي ما بعد الطبيعة.
أهمية وفائدة الفلسفة :
تراود الإنسان أحياناً وقد تلاحقه تساؤلات حول الوجود ومعناه؛ وهل هو متناه محدود أو مطلق لا محدود؟ وكيف وجد وهل هو في غنى عن علةٍ توجده أو مفتقر إليها؟ وهل لله خالق أو هو في غنى عن كل خالق؟ ولماذا لا يُرى الله جهرة؟!
ومن جهة أخرى فإن الإنسان ، هذا الموجود العملاق الذى حَلَّق في آفاق السماء ونفذ إلى أعماق الأرض وقعر المحيطات وفلق الذرة وابتكر العجيب والغريب ، تراه حائراً يعيش الضياع والسأم؛ إذ لا هدفَ حقيقي يصبو إليه ولا رؤية كونية واضحة يمتلكها إزاء الوجود ولا شمولية ولا انسجاماً يلمسه بين مفردات الكون وفصوله ، ومن أجل ذلك فإنه لا يعرف لماذا وضع قدميه في هذا العالم؟ و
لماذا يُفرض عليه الخروج منه مرة أخرى؟ ولماذا تكون الحياة جميلة إبان الطفولة والشباب ، ثم تغدو رذيلة منغصة عند الشيخوخة وأرذل العمر؟!
ومن هنا فنحن بحاجة إلى ما يخفف قلقنا وينزع سأمنا ويبدل ضياعنا وضلالنا إلى هدى ونور ورَوْح وراحة ، والفلسفة تؤدي هذا الدور؛ لأنها تعطي لكل ما تقدم من تساؤلات ، إجابات مُبيَّنة وذلك بتحديد رؤية كونية واضحة عن الكون والوجود والحياة ، لتتحدد لنا معالم المبدأ والمنتهى والسبيل بينهما. وبعبارة أخرى : إن الفلسفة تميط اللثام عن التوحيد والمعاد ، والنبوة التي تُعد سَبيلاً للوصول إلى شاطئ المعاد بأمان بما تتضمنه من شرائع ومناهج وأحكام ، فلا يغدو وجود الإنسان عبثاً ولا يُمسي كريشةٍ في مَهب الريح ، بل يعرف نفسه ويعرف أنه من أين وفي أين وإلى أين.
وإذا كان دور الفلسفة الكشف عن المجاهيل ، وانتشال الإنسان من حالات الإبهام والضياع بحل شبهاته في ما يرتبط بأصل الوجود ومآله وحقيقته ، فلا نبالغ إن أطلقنا اسم العلم عليها؛ لأن العلم يقوم بتسليط أضوائهِ الكاشفة على ظلمات المجاهيل ليُسفر عن هويتها وحقيقتها ، وهذا بالضبط ماتؤديه الفلسفة لقرّائها ودارسيها.
نعم ، إن أُريد من العلم حَصيلة الأفكار والنتائج التجريبية التي يتوصل إليها الإنسان في مختبره أو في مجال الطبيعة ، فلا يصح حينئذٍ إطلاق اسم العلم على الفلسفة بهذا المعنى ، بل وكذلك لا تصح تسمية كهذِهِ على التأريخ والجغرافيا ، والفقه وبقية العلوم الإنسانية غير التجريبية.
أساليب التحقيق العلمي :
تختلف أساليب التحقيق العلمي باختلاف ميادينها ومجالاتها ، وذلك لأنك على سبيل المثال تجد فرقا واضحا بين البحوث التالية :
أ ـ البحث فى تاريخ نشوب الثورة ضد الإنجليز فى العراق.
ب ـ البحث فى أنواع الألوان.
ج ـ البحث في صياغة قانون عام فيما يرتبط بتمدّد الحديد بالحرارة.
فالبحث الأول يتناوله الأسلوب النقلي التاريخي بالدرس والتحقيق ، ولا دور للأساليب العقلية والتجريبية في ذلك؛ إذ إن الإنسان الذي لم يعاصر حدث الثورة ضد الإنجليز في العراق مهما حاول بعقله وتجربته معرفة ذلك ، فسوف يعجز عنه ولا يتوصّل إلى ما يريد. وأما البحث الثاني فإنه من مختصات الأسلوب التجريبي الحسي ولا دور للعقل والنقل فيه ، فإذا حُرِم الإنسان باصرته فإنه لن يحظى بمعرفة اللون الأحمر أو غيره من الألوان مهما وصفها الواصفون بنقلهم ومهما استدل أهل البرهان عليها بعقولهم؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى البحث الثالث فإنه وقْفٌ على الأسلوب العقلي ، ولا نصيب للأسلوب التجريبي والنقلي فيه مهما جرّب المجرّبون ونقل الناقلون ذلك ، إذ أن كل ما يجرّبونه وما ينقلونه لا يستوعب كل ما هو موجود أو مفترض من قطع الحديد المحكوم عليها بالتمدّد.
ومباحث الفلسفة تعتمد على الأسلوب العقلي في تحقيقاتها ودراساتها لمسائلها الفلسفية ، إلا أنها قد تعتمد أحياناً على ظاهرة تجريبية لتجعلها منطلقاً لدراساتها العقلية والتأملية. (1)
__________________
1. ومن هذا القبيل النظر إلى بديع صنع الكون وعظمته ثم الانتقال بالتأمل والاستنتاج إلى وجود مبدع
ثم إن عملية الكشف عن مجهول بواسطة معلوم آخر تتم عبر طرق ثلاثة من الاستدلال :
1 ـ القياس :
وهو قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت لزم عنه لذاته قولٌ آخر ، كما لو نقلت حكم الموت الثابت للإنسان إلى سقراط الذي هو فرد من أفراد الإنسان. فتقول :
سقراط إنسان.
وكل إنسان فان.
فسقراط فان.
ومثل هذه الحركة الفكرية يطلق عليها فى المنطق اسم «القياس» وهو مفيد لليقين في ظل شروط معينة وهي فيما إذا كانت مقدمات القياس يقينية ، وقد تم تنظيم القياس بشكل صحيح. وقد خصص المنطقيون جانباً مهمّاً من المنطق الكلاسيكي لبيان شروط مادة وصورة القياس اليقيني وهو (البرهان). (1)
2 ـ الاستقراء :
وهو الانتقال من حكم جزئيات إلى حكم كليّتها ، وهو على نحوين : استقراء تام واستقراء ناقص؛
أما الاستقراء التام : فهو من قبيل الحكم بالجد والمثابرة على كل من هو موجود
__________________
ومنظّم ومهندس من ورائه وهو الله الخالق المصوّر ، وهو ذات الأسلوب الذي اعتمده الأعرابي لإثبات وجود الله جلّ اسمه حيث قال : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير؛ أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ، لا يدلان على اللطيف الخبير؟!
1. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة؛ الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي ، دار التعارف للمطبوعات ـ 1418 ه ـ 1998 م : 1 / 100.
في المدرسة بعد إجراء اختبار لجميع من كان فيها من الطلاب.
وأما الاستقراء الناقص : فهو من قبيل الحكم على جميع أهل البلد بالاستقامة وحسن السيرة من خلال معاشرة عدد منهم.
3 ـ التمثيل :
وهو الانتقال من حكمِ جزئيٍ إلى حكمِ جزئيٍ آخر لاشتراكهما في معنى جامع بينهما ، بحسب الظن أو الوهم ، كما لو منع الوالد ولده عن معاشرة صديق من أصدقائه ، إلا أنَّ الولد لم يُعرِض عن معاشرة هذا الصديق فحسب ، بل إنه أعرض عن صديق آخر له ظناً منه أن العلّة في المنع هي عنوان الصداقة ، فانتقل من حكم الأول إلى الثاني لمشابهتهما في عنوان الصداقة.
وقد صرَّح أهل المعقول أن القياس البرهاني بكل أشكاله المنتجة يُفيدُ اليقين والقطع ، كما أن الاستقراء التام يفيد ذلك أيضاً ، وأما الاستقراء الناقص والتمثيل فلا يفيدان سوى الظن؛ ومن الواضح أن المفيد في الاستدلال هو اليقين لا الظن ، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.