الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
من علم النفس القرأني Emptyاليوم في 10:46 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
من علم النفس القرأني Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
من علم النفس القرأني Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
من علم النفس القرأني Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
من علم النفس القرأني Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
من علم النفس القرأني Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
من علم النفس القرأني Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
من علم النفس القرأني Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
من علم النفس القرأني Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     من علم النفس القرأني

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:47 am

    بسم الله الرّحمن الرّحيم
    الاهداء
    يا إلهي :
    لقد كنت أرى ولا أبصر ، وأعلم ولا أعقل بعضا من آياتك التي لا تحصى في الكون وفي نفسي ، فقذفت في قلبي نور الإيمان وأنرت لي سبل الهداية ، وكشفت عن بصري وبصيرتي غشاوة الجهل والضلال.
    يا رب :
    لقد كنت ضالا فأرسلت من يهديني ، وتعيسا بالبعد عنك ، فأسعدني التقرب منك ، هل لعبدك التائب أن تتقبل منه هذه المحاولة المتواضعة للشكر والحمد وأنت أرحم الراحمين ، وخير الغافرين؟ وسبحانك على حلمك بعد علمك ...
    عبدك التائب
    عدنان الشريف

    (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)

    الإسلام إذا فهم ودرس وطبق بصورة منهجية علمية في البيت والمدرسة والمجتمع ، كان وحده القادر ، كنظام سماوي متكامل لا ثغرات فيه ، على أن يخلّص الإنسان من كل عقده النفسية ، بل قد يتسامى بها ، فيحول عقد الموت إلى فضيلة الجهاد ، وطلب الشهادة. وعقد الحرمان والنقص والتعالي إلى فضائل المحبة الصادقة والثقة بالنفس والتواضع والصبر. وعقد الحرص والشّح إلى فضيلة الإحسان والإيثار. وعقد الجنس إلى فضيلة العفة والترفع عن كل شهوة جنسية آثمة.
    الدكتور عدنان الشريف

    توطئة
    هدفنا من نشر هذا الكتيب أولا وقبل كل شيء ، الالتزام بأوامر الباري عز وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة : 159). «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». (رواه مسلم والترمذي).
    ثانيا : بالرغم من وفرة الكتب والمنشورات التي جهدت في تفسير الكثير من آيات القرآن الكريم وتأويلها ، والتي تطرقت لمختلف فروع العلوم الطبية والنفسية والفلكية والفيزيائية والتاريخية والجغرافية ، وعلوم الحيوان والنبات ، فإن هذه المحاولات ، وهي في أكثرها مشكورة ، ظلت متفرقة ، فأردنا في هذه المحاولة المتواضعة ، أن نجمعها قدر الإمكان في سلسلة كتب سننشرها تباعا وعلّنا نضع أمام القارئ ، بعضا من المعجزات والحقائق العلمية التي ذكرها القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا والتي لم يكتشفها العلم إلا منذ بضعة قرون أو بضع سنين فقط ، علّ هذه الإعجازات العلمية القرآنية المجهولة ، وقد أصبحت اليوم حقائق كشفها العلم ، تساعد المؤمنين من القراء وغيرهم ، كما ساعدتنا ، على الانتقال من إيمان الفطرة بالله إلى

    الإيمان العلمي به. وهو برأينا الإيمان الثابت والسبيل الوحيد للوصول إلى فهم معنى الحياة من كل جوانبها ، وبالتالي الوصول إلى السعادة الحقيقة هدف وغاية كل مخلوق حي.
    فالسعادة هي في معرفة الحقيقة ، ولا يكون ذلك إلا من خلال معرفة الإنسان لذاته : ماهيتها ، رغباتها ، ومصيرها ، ولا سبيل لمعرفة الذات معرفة صحيحة إلا من خلال هدي القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية الشريفة. وما يعتقده أكثر الناس من أن السعادة تتأتى من المأكل والمشرب والتمتع بمتاع الدنيا من شهوات جنسية وبنين ومال وجاه ، إن هي في الحقيقة إلا لذّات آنية ، مصحوبة غالبا بالألم ، تعطي القليل القليل مما نسميه بالسعادة المزيفة. فالسعادة الحقيقية هي إحساس داخلي شبه دائم بالرضا والطمأنينة ، لا يمنحها إلا الباري لمن اتبع هداه فقط ، إنها إحساس شخصي ذاتي داخلي بالسكينة ، لا يعرفه إلا من ذاقه أو كما يقول بعض العارفين بنعمة الإيمان : من ذاق عرف ، ولو ذاق الملوك نعمة السعادة الحقيقية التي يمنحها الإيمان بالله لقاتلونا عليها.
    القواعد القرآنية التي نلتزمها في تفسير الآيات الكريمة
    يسّر المولى عزّ وعلا فهم معاني آياته الكريمة وحضّ على تدبّرها ، وبيّن الذين باستطاعتهم القيام بذلك ، والشروط الواجب توفرها عند من يريد أن يتحمل هذه المسئولية ، الجليلة والخطيرة ، بنصوص قرآنية ، هي القواعد التي اعتمدناها في محاولة تفسيرنا للآيات العلمية الكريمة ، لذلك نرى لزاما علينا شرحها وتبسيطها ، وهي ما ندعوه بالقواعد القرآنية للتفسير.
    القاعدة الأولى الأساسية : المولى يعلم قرآنه للعالم التقي : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ ... وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ). وللتقوى شروط قرآنية فصلها الكتاب الكريم من خلال آيات التقوى الكثيرة نختصرها

    بالآية الكريمة التالية الجامعة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة : 177).
    وكل باحث في آيات الله يجب أن يجمع إلى جانب تقوى الله : العلم ، ونعني بذلك : العلوم القرآنية ، إلى جانب حقل من العلوم الوضعية ، كي لا يقع في ما حذرت منه الآية التالية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَلا هُدىً ، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). فالمولى عزّ وعلا لا يقبل شهادة على وحدانيته وقسطه إلا من نفسه أولا والملائكة ثانيا وأولي العلم ثالثا (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران : 18).
    القاعدة القرآنية الثانية : قاعدة المثاني : كتاب المولى الكريم يفسر بعضه بعضا ، استنادا إلى قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (القرآن الكريم) (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الزمر : 23).
    فلكل آية من آيات الله ، آية أو آيات أخرى هي «مثانيها» تفسرها وتكمل معانيها بعضها بعضا ، من الواجب التفتيش عنها ووضعها جنبا إلى جنب إذا كنا نريد أن نفهم شيئا من معاني الآيات والكلمات في القرآن الكريم. ذلك أن للكلمة في كتاب الله معاني عدة ، يجب التفتيش عنها من خلال آيات المثاني ، فالقرآن الكريم هو أولا وأخيرا الذي يعطي المفردات معانيها المختلفة وليست معاجم اللغة فقط ، وهو الذي يغني اللغة العربية بمعاني

    المفردات ، وسياق الجملة في الآيات من المثاني هو الذي يعطي للكلمات معانيها وليس العكس ، فمن الأمثلة على ذلك معنى كلمة «مكر» فهي تعني عمل عملا سيئا في موضع ، و «عاقب» في معنى آخر ، استنادا إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ويشرح هذه الآية الكريمة قوله تعالى في آية أخرى وهي من مثاني الأولى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (النحل : 45 ـ 47).
    حبذا لو وضع علماء اللغة عندنا ، من المتقين ، الذين يريدون تفسير معاني المفردات في كتاب الله الكريم معجما جامعا لمعاني هذه المفردات استنادا إلى قاعدة المثاني القرآنية.
    القاعدة القرآنية الثالثة : الثابت من الحديث الشريف هو المعتمد في تفسير البعض من آيات الله : (... وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 44). (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل : 64).
    فالرسول الكريم لم يفسر لنا إلا آيات العقيدة والأحكام وبعضا من الآيات العلمية في حقل العلوم المادية ربما ، والله أعلم ، التزاما منه بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). (ص : 87 ـ 88).
    ومن الأحاديث الشريفة ، نحن لا نعتمد إلا المذكور في الكتب الصحاح للأحاديث التي اتفق عليها علماء الأحاديث ، شرط أن لا يتعارض أي حديث مهما كانت صحته مع كتاب الله الكريم استنادا لقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ

    مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة : 44 ـ 47) واستنادا أيضا إلى الحديث الشريف التالي : «إنكم ستختلفون من بعدي ، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فعني ، وما خالفه فليس عني». (رواه ابن عباس ـ مسند الإمام الربيع) علما أن بعضهم قد شك في صحة هذا الحديث وقال عنه إنه موضوع مكذوب.
    القاعدة الأخيرة : عدم الربط بين آية علمية أو حديث شريف تطرق إلى حقل من حقول العلوم المادية إلا مع ما أثبته العلم بالبرهان والصورة وأصبح قاعدة لا جدال فيها.


    مدخل من إيمان الفطرة إلى يقين البرهان
    (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).
    (النساء : 174)
    ـ «إن الإيمان ليخلق (يضعف ويبلى) في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فسلوا الله أن يجدّد الإيمان في قلوبكم».
    (حديث شريف ـ رواه الطبراني)
    ـ «إن الإيمان هو أقوى وأنبل نتائج البحوث العلمية ، إن الإيمان بلا علم ليمشي مشية الأعرج ، وإن العلم بلا إيمان ليتلمّس تلمّس الأعمى».
    (أينشتاين)

    (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
    (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)

    صورة رائعة لاحدى المجرات Galaxie من بين مليارات المجرات الكونية :
    تتألف من مليارات النجوم ، وبعضها يصل حجمه آلاف المرات حجم الشمس وتبعد عنا ملايين السنين الضوئية (السنة الضوئية تساوي 9416 مليار كلم أي عشرة آلاف سنة تقريبا)

    (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)
    (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أول آية مباركة في التنزيل ، هي أمر من المولى عز وعلا لكل إنسان عاقل بأن يتعلم ، والاستزادة من العلم أمر إلهي آخر (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ، والذي بلّغ الدعوة عليه أزكى الصلوات ، وصف نفسه قائلا : «إنما بعثت معلما» ؛ لذلك لا ينتقل العبد المكلف من خانة المسلم بالهوية ، وهي مع الأسف حالة أكثر المسلمين اليوم ، إلى خانة المسلم المؤمن حقا ، وهي حالة القلة ، إلا إذا انتقل بإيمانه نقلة نوعية ، من إيمان الفطرة إلى إيمان البرهان أي الحجة والدليل ، ولا يكون ذلك إلا بواسطة العلم ، فالإيمان الصحيح ، هو عملية منطقية ، فكرية ، علمية ، قبل أن يصبح مسألة وجدانية شعورية ، ولا يخشع قلب الإنسان وتلتزم جوارحه بالطاعة لتعاليم السماء ، إلا إذا تكونت لديه الحجة والبرهان ، أي الدليل العقلي المنطقي والعلمي الذي من خلاله لا مناص لكل خلية من خلايا دماغه المفكر بالتملص منه ، وعندئذ فقط يخشع قلبه وتلتزم جوارحه ، وتصبح لديه المناعة ضد كل أصوات التشكيك المنبعثة من النفوس المريضة ، الأمارة بالسوء ، الظانة بالله (ظَنَّ السَّوْءِ) وما أكثرها وأعتاها في داخلنا ومن حولنا!
    ومن يتقصى أسباب نشأة المدارس الفكرية والأنظمة الوضعية

    الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها ، والتي تحارب الدين أو تفصله عن تسيير شئون الإنسان ، يجد أنها كانت نتيجة مباشرة لفقدان البرهان المنطقي العلمي في بعض الرسالات السماوية ، نتيجة تحريفها على يد الإنسان ، أو كنتيجة أيضا لإساءة فهم ونشر وتطبيق النصوص السماوية التي لم تحرف ، من قبل القائمين على تبليغ الدعوة ونشرها.
    ولو تقصينا أيضا أسباب الصحوة الإيمانية الجديدة اليوم ، واعتناق عشرات الألوف من الغربيين الإسلام ، والتشبث المستميت من الأقلية المسلمة بعقيدتها في بعض البلدان ، بالرغم من تألب قوى التبشير والإلحاد ضدها ، لوجدنا أن من الأسباب الرئيسية لذلك ، هو أن الإسلام يقدم للإنسان العاقل المفكر ، البرهان الذي لا يتعارض مع معطيات المنطق والعلم الصحيح ، بل يعززها ويرسخ في نفسه بذور إيمان الفطرة التي وضعها فيه خالقه. وكل دعوة دينية ، لا تلتزم طريق العقل والمنطق والعلم ، لا تنتج في رأينا إلا إيمانا تقليديا ، سريع العطب ، حتى ولو كانت النصوص السماوية صادقة لم تطلها يد التحريف ، إذ لا يقوى أمام قوى الباطل المنظم والذي يغلب الحق غير المنظم ، إلا دعوة دينية قائمة على منهجية علمية منظمة ومستندة إلى الحجة والبرهان والدليل ، وكلها موجودة في النصوص السماوية التي لا تكون كذلك إلا إذا لم تتعارض مع كل منطق سليم وعلم ثابت صحيح.
    1 ـ إيمان الفطرة
    (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (الروم : 30).
    الإنسان بطبيعته مفطور على الإيمان ، بما أودعه فيه المولى من عقل

    مفكر ، يهديه إلى البرهان الذي يتلاءم مع مستوى علمه ومنطقه على أن له ربا وجبت طاعته وعبادته من بين ملايين الأدلة والبراهين في هذا الكون ، وما حواه من مخلوقات من أصغر جسيم في الذرة إلى أكبر مجرة ، مرورا بعالم النبات والحيوان ، وكلها تشهد بوحدانية الخالق وعظمته. هذا ما نفهمه من معاني الآية الكريمة أعلاه والآيات التالية :
    (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف : 172).
    (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف : 9).
    إن كل إنسان ملحد ، لا يستطيع في الحقيقة أن يسكت في ذاته صوت الإيمان الفطري ، فعند ما يخلو بنفسه أو من خلال زلات لسانه ، يعترف ضمنيا بأن له خالقا فطر السماوات والأرض ، إلا أن المكابرة وحب المجادلة وخوف الالتزام بتعاليم الدين التي تتعارض مع أصوات الطاغوت والنفس الأمّارة بالسوء تجعله يتجاهل ويسكت صوت إيمان الفطرة فيه ، فرحمة من المولى ، وإقامة للحجة عليه أنزلت الكتب والرسالات السماوية التي تساعد الإنسان على الانتقال به من إيمان الفطرة إلى إيمان البرهان ، هذا إذا أراد ، فهو المخير مع الجن دون سائر المخلوقات.
    وليس الإنسان فقط ، مفطورا على الإيمان بخالقه بل الجماد والنبات والحيوان كذلك. ولقد بدأ العلم منذ سنوات ، وبالوسائل السمعية والبصرية ، يكتشف شيئا من لغات الحيوان وطرق تخاطبه ، كما تبين أن للنبات شعورا وإحساسا وربما لغة خاصة به كالحيوان. وسيكشف العلم ذلك لا حقا أيضا في كل شيء ، مصداقا لقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ

    وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء : 44).
    2 ـ إيمان البرهان
    1 ـ تعريف موجز بالإيمان اليقيني
    حدّد المولى في كتابه الكريم تعريف المؤمن الحق الصادق بآيات لا تتطلب الشرح ، يكفي التذكير ببعضها :
    (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). (الأنفال : 2 ـ 4).
    (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). (الحجرات : 15).
    (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (السجدة : 15 ، 16).
    (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). (المجادلة : 22).
    فالإيمان الصادق ، هو فعل خيار لعقل ومنطق سليم ، وإرادة قوية تجاهد أهواء النفس الأمّارة بالسوء ، وهو فهم بالعمق ، ومن ثم التزام بما

    جاءت به الكتب السماوية الحقة ، أي التي لا تتعارض تعاليمها مع المنطق السليم والعلم الثابت الصحيح ، وهي تعاليم الإسلام.
    والإيمان هو بنظرنا ضرورة حياتية ، كالطعام والشراب ، إذ لا سعادة للأفراد والمجتمعات بدونه ، وما التعاسة والفقر والخوف والقلق والضياع ، وكلها تلفّ الإنسانية من أدناها إلى أقصاها ، خاصة في يومنا الحاضر ، إلا نتيجة مباشرة لبعد أكثر الأفراد والشعوب عن سلوك طريق الإيمان الصادق.
    2 ـ سبل المعرفة الإيمانية
    للوصول إلى المعرفة الإيمانية اليقينية سبيلان :
    أ ـ سبيل خاص هو سبيل المعرفة «اللدنية» وهي ما يعلمه الإنسان مباشرة من ربه بالوحي أو بالإلهام والحدس ، وبعد رياضة النفس ومجاهدتها بالتقوى ، وهو سبيل الأنبياء والرسل والقلة القلة ، كبعض الأولياء ممن اختصهم المولى وهيأهم لسلوك هذا السبيل من المعرفة الإيمانية المباشرة التي تسمى بالمعرفة «اللدنية» :
    (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (الشورى : 51).
    (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً). (الكهف : 65).
    وهذا السبيل الخاص بالمعرفة الإيمانية والذي سلكه المتصوفون ومنهم الصادق ، وهم القلة ، والكثرة الغالبة هم في الحقيقة مرضى الهلوسة العقلية أو الشعوذة ، لا ننصح بسلوكه للعامة فلقد لاحظنا من خلال ممارستنا المهنية العلاجية للأمراض العقلية ، أن كثيرا من الذين يريدون الوصول إلى شيء من اليقين الإيماني وخاصة بالغيبيات ، يحاولون سلوك هذا الطريق الخاص بالمعرفة الإيمانية وبدلا من الوصول إلى الإيمان ، يصلون إلى أقرب

    عيادة أو مستشفى للأمراض العقلية وهم في حالة يرثى لها من الهذيان الديني والهلوسة من ادعاء الإيحاء إليهم من الله أو رؤية الملائكة والجان وغير ذلك.
    ب ـ سبيل عام هو سبيل العلم والمعرفة عن طريق الحواس والعقل والمنطق وهو طريق البرهان والدليل الذي أمرنا المولى بسلوكه لكي نؤمن به ونلتزم بتعاليمه من خلال مئات الآيات الكريمة التي حضت المكلف على أن يجد لنفسه البرهان الإيماني من خلال كتابه المسطور : القرآن الكريم ، وكتابه المنظور : الكون وما حواه ، شرط أن يقرأ ويتعلم ويتفكر ، فالقرآن الكريم لا يتوجه بالنداء الإيماني إلا لقوم يعلمون ويفقهون ويعقلون ويتفكرون : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت : 3).
    (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (العنكبوت : 43).
    (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة : 164).
    3 ـ أنواع البرهان
    (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية : 20).
    ولو كان إيمان الفطرة يكفي الإنسان ، لما أنزلت الكتب السماوية وأرسلت الرسل والأنبياء. إذ لا بد من دليل إيماني لا يرقى إليه الشك فعبارة «اركع على ركبتيك وأغمض عينيك وآمن بقلبك» كما قال «باسكال» لا تكفي عند الإنسان ، وهو الأكثر جدلا بتعريف خالقه (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ

    جَدَلاً) ، لذلك أيد المولى أنبياءه ورسله ، إضافة إلى المعجزات بعلم لدني هو بالنسبة لهم ، قبل غيرهم ، البرهان والدليل الذي يثبتهم في إيمانهم الفطري ويساعدهم على تبليغ وتحمل أعباء الرسالة ، فسيدنا يوسف كادت نفسه الأمارة بالسوء أن تدفعه للاستجابة لنداء الإثم المتكرر من امرأة العزيز (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) المتمثل في خلق السماوات والأرض : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف : 101).
    وسيدنا إبراهيم أعطاه الله برهانه اليقيني ، فأراه بالبصيرة ملكوت السماوات والأرض : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام : 75).
    ولو لا هذا البرهان اليقيني الذي هداه المولى لإبراهيم لكان من القوم الضالين : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام : 77).
    والرسول الأعظم ، عليه‌السلام ، ثبت فؤاده بما علمه من علم الكتاب والحكمة وما لم يكن يعلم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (النساء : 113).
    ولقد اختتمت الرسالات السماوية ، بالبرهان اليقيني والمعجزة الوحيدة الباقية إلى يوم الدين ، القرآن الكريم الذي لا يستطيع أن يشكك به أي عاقل : ومنه يستقي كل إنسان برهانه الإيماني على وجود الله وصدق التنزيل. ومن الضروري أن يكون لكل مسلم برهانه الإيماني الذي ينقله من إيمان الفطرة

    إلى إيمان الدليل. فكل إنسان مهما بلغ إيمانه بالله عزوجل ، يمر بلحظات قد يتزعزع فيها إيمانه فيشك بالمعجزات التي أتى بها الرسل ، وخاصة اليوم ، ولكي يبقى بعيدا عن عوامل الشك هذه ، لا بد له من دليل ثابت يراه ماثلا أمام عقله ومنطقه في كل ثانية على وجود الله ، وهذا الدليل يجده كل من أراد وحسب درجته العقلية والعلمية في كتاب الله المقروء القرآن الكريم وكتاب الله المخلوق الكون وما حواه.
    أما أن نترك الإيمان للشعور والوجدان فقط فهذا لا يكفي وخاصة في القرن العشرين ، عصر العلم والبرهان.
    ولو تساءل كل مسلم بينه وبين نفسه ، وهذا بنظرنا هو بداية طريق الإيمان الصحيح ، ما هو برهانه الإيماني الذي لا يستطيع من خلاله إلا أن يقر بوجود الخالق وصدق التنزيل ، لوصل برأينا إلى درجة الإيمان الصادق والذي سبق تعريفه. ولقد سئل أحد كبار المؤمنين عن برهانه الإيماني ، فأجاب بكل بساطة : حياة النملة وطريقة عيشها. ولا عجب في جوابه فلقد سميت سورة من كتاب الله باسم «النمل» ، أما «أينشتاين» فلقد كان دليله الإيماني هذا النظام البديع الموجود في كل خلق من مخلوقات الله ، فالله كما يقول «أينشتاين» لا يلعب النرد مع الكون (1).
    ولو اطلع أينشتاين على الآية الكريمة التالية من كتاب الله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِ) (أي النظام المحكم الضروري) (عَلَى الْباطِلِ) (أي الفوضى والصدقة والجهل) (فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء : 16 ـ 18) ، ربما كان من كبار المسلمين الموقنين بالقرآن الكريم ورسالة الرسول العظيم إلى جانب إيمانه العميق بالله. وكذلك هي الحال بالنسبة لبقية العلماء من المؤمنين الذين رأوا أن كل
    __________________
    (1) Dieu ne joue pas aux des avec le monde. EINSTEIN : Sa vie et son epoque ـ Edition Stock, Ronald ـ Clark. p. 73

    مخلوق درسوه بالعمق هو موقّع بيد الخالق البارئ المصوّر ناطق بقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
    ولقد بدأت أولى مسيرتي الإيمانية اليقينية بفضل المولى ، بمقال علمي قرأته عن توسع الكون الدائم ، أتبعته قبل أن أستسلم للنوم ، بشيء من قراءة الذكر الحكيم وكانت من الطفولة قراءة تقليدية للتبرك والاستعاذة كما علمني الأهل ، استوقفتني خلالها الآية الكريمة التالية : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). (الذاريات : 47) هذه الآية الكريمة أحدثت في كل خلية من خلايا دماغي المفكرة ، رجة إيمانية ، فكونت عندي أول الأدلة البرهانية العلمية والعقلية والمنطقية ، على وجود الله ، وأن القرآن الكريم هو كلامه فالآية الكريمة (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) هي بالنسبة لمنطقي وعقلي ، وكذلك يجب أن تكون بالنسبة لكل من عرف شيئا من علم الفلك ، السد المنيع والبرهان الدائم ضد كل شك أو تشكيك بالله وكتابه ومن أي جهة أتى ، ما دام العلم قد أثبت منذ النصف الأخير من القرن العشرين أن الكون في توسع دائم وقد سبقه القرآن الكريم إلى ذلك منذ خمسة عشر قرنا ولا تكون هذه الآية عند كل ذي منطق وعقل سليمين إلا دليلا يقينيّا على وجود الله ، وعلى أن القرآن الكريم هو كلامه ، ومن أولى بديهيات المنطق السليم الالتزام الكلي بكل ما أمر به المولى في كتابه ونهى عنه ، واليقين بكل ما أنبأ به من أنباء ، وقص فيه من قصص ، وضرب فيه من أمثال. ومنذ ذلك الوقت آليت على نفسي أن أدرس كتاب الله الكريم وأحاول فهمه والعمل بمضامينه كما درست كتب الطب وعملت بمضامينها وأنا منذ ذلك الوقت من السعداء.
    لقد اتبعت حتى الأربعين من عمري سبل الإيمان التي أدعوها بالتقليدية ، وهو ما تعلمته واكتسبته في بيتي ومدرستي ومجتمعي ، ولقد وجدت بحكم خبرتي الشخصية والمهنية أن الإيمان التقليدي ، وهو ما يتبعه أكثر الناس ، عرضة للتصدع والتراجع وخاصة عند المتعلمين الذين لم يطلعوا على الجوانب العلمية الصرفة في الدين الإسلامي ، وأمام أي موجة إلحادية سواء

    كانت ظاهرة ، أو مستترة وراء أقنعة التقدم والرقي الحضاري الغربي ومجاراة العصر.
    ولا يقوى على قوى الباطل المنظمة والمخطط لها سلفا من أعداء الدين والإسلام ، ومنذ قرون ، إلا إيمان قائم على أسس علمية منهجية منطقية منظمة ، يجدها كل من أراد الوصول إلى الإيمان العلمي من خلال العلم ودراسة القرآن الكريم والأحاديث والسنة الشريفة ، دراسة منهجية مستندة إلى قواعد العلم والمنطق ، وهذا الإيمان العلمي هو ما تجب الدعوة إليه ، وهو ما عنته في ما تعنيه الآية الكريمة التالية : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). فالحكمة هي الجمع بين العلم الصحيح المفيد والعمل بمضامينه ، والموعظة الحسنة هي الدعوة المنظمة على أسس منهجية منطقية سليمة ، وهكذا دعوة إيمانية برهانية يجب أن تتوافر لها أربعة شروط :
    1 ـ عقل ومنطق سليم.
    2 ـ إرادة صادقة ومجاهدة دائمة للنفس الأمارة بالسوء.
    3 ـ مسلكية علمية تتبع دراسة منهجية علمية للقرآن والسنة والحديث الشريف.
    4 ـ مؤسسات رسمية مسئولة وقادرة ماليّا ، تؤمن نشر وتعليم الدين بوسائل العلم الحديث كما تؤمن تعليم اللغة العربية ونشرها في كل البلاد الإسلامية إذ من الصعب على المسلم أن يعقل إسلامه إذا لم يكن يحسن العربية ، مصداقا لقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء : 198 ـ 199).
    نحن اليوم بحاجة إلى جانب الدعاة عندنا من علماء الفقه والتفسير والأحكام في الشريعة ، وكلهم ممن نجلّ ونحترم ، لعلماء متخصصين في مختلف العلوم المادية ، من المؤمنين ، ليشرحوا لنا كلّ في حقل اختصاصه ما

    يقرب من الألف آية كريمة من كتاب الله ، سبقت العلوم المادية بقرون ، ولا يستطيع شرحها ، إلا كل متخصص في علم معين لذلك.
    3 ـ نحن بحاجة
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الأجنة والوراثة ووظيفة الأعضاء ليشرحوا لنا معنى الآية الكريمة (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ). وكذلك عشرات الآيات الكريمة في علم الأجنة والوراثة.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم التغذية والطب الوقائي ليشرحوا لنا لما ذا حرم الله الخمر والدم ولحم الخنزير واللواط والعلاقات الجنسية الآثمة. وما حرم الله شيئا أو أحله إلا وأتى العلم الصحيح ولو متأخرا بقرون ، مطأطئ الرأس قائلا آمين : (... وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : 7).
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفلك ليشرحوا لنا ما معنى «مواقع النجوم» وليبينوا عظمة القسم (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة : 75) ، ولما ذا (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة : 76) وأكثرنا لا يعلم شيئا في علم الفلك ، وكذلك المعنى الإعجازي العلمي في ما يقرب من مائة آية كريمة تطرقت إلى علم الفلك.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم طبقات الأرض والمحيطات لنفهم بالعمق الأبعاد العلمية الإعجازية في قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ). (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). وغيرها من عشرات الآيات علّ بعض المسلمين يجد في ذلك دليله الإيماني.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفيزياء والأحوال الجوية لنفهم

    عظمة ومعجزة وإعجاز القرآن في الآيتين الكريمتين : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) وغيرهما من عشرات الآيات الكريمة.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في دراسة السلالات البشرية لنفهم عمق وبعد المرمى في الآيات الكريمة : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في التاريخ ، ليبينوا بالأرقام والتواريخ صدق النص القرآني ومصدره الإلهي من خلال التحدي الغيبي بأن الروم سيغلبون الفرس بعد بضع سنين من خسارتهم في معاركهم مع الفرس (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم : 2) ، وغيرها من التحديات التاريخية كقصة أهل الكهف وسفينة نوح وغيرها.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم التاريخ وفي علم الآثار وعلم المومياء المصرية بالذات ، ليبينوا لنا كيف أن (فرعون الخروج) الذي لحق بموسى سلام الله عليه ، وأغرقه المولى ، كيف أنجاه الله ، ببدنه وحفظه حتى يومنا هذا في المتحف الوطني في القاهرة ، ليكون آية لمن يجيء بعده. وقد غفل أكثر المفسرين عن هذه الحقيقة حتى قيض الله للإسلام في القرن العشرين رجلا مؤمنا هو الدكتور «موريس بوكاي» هو طبيب جراح فرنسي ، تساءل عقلانيا وفتش منطقيا وحقق علميّا في صدق الآية الكريمة : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (يونس : 92) ، ووجدها صحيحة مائة بالمائة ، حتى أبدان الفراعنة الذين اختلفوا فيهم تاريخيا من أن أحدهم هو الفرعون الذي لحق بموسى لا زالت

    محفوظة حتى اليوم في قاعة المومياء في متحف مصر؟!!! (1).
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الحيوان ، ليشرحوا لنا علميّا طريقة عيش وتخاطب كل دابة وطائر وكيف أنهم كما أثبت علم دراسة الحيوان : أمم أمثالنا (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (الأنعام : 38) تتفاهم وتتخاطب بينها وتسبّح خالقها ولكن لا نفقه تسبيحهم.
    نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم القانون الدولي ، والمدني والجزائي والأحوال الشخصية ليستخلصوا من التشريع الإلهي القرآني ومن الحديث الشريف والسيرة ، عظمة الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام منذ خمسة عشر قرنا ، ويقارنوها بما استطاع أنصار العلمانية أن يأتوا به حتى هذه الساعة بالذات ، بل إن أكثر المتشرعين اليوم يرجعون إلى التشريع الإسلامي القرآني وهدي السنة والسيرة.
    نريد أن تتضافر جهود المؤمنين من علماء الاجتماع ، والنفس والإحصاء ليبينوا للكل كيف أن أتعس الأمم والأفراد هي التي بعدت عن تطبيق تعاليم الله الحقّ كما بيّنها في كتابه الكريم.
    أما أن نقصر ونختص بالدعوة لله كل من ألمّ باللغة العربية وشعرها ومفرداتها وقواعدها ، والحديث والسيرة والفقه ، فهذا تقصير في حق الدعوة وفي تفقه وشرح الإسلام. فالقرآن الكريم خاطب كل العلماء وفي جميع حقول الاختصاص العلمية وحضهم على تدبر وتفهم آياته الكريمة. فالعلماء المؤمنون في الطب ، والفلك والفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والنفس والاجتماع والقانون ، والحضارات والنبات والحيوان وكل فروع العلم ، هم ممن عناهم القرآن الكريم «بأهل الذكر» أي أهل الاختصاص ولهم الحق كل الحق إذا كانوا على إلمام باللغة العربية ومعانيها واطلاع على
    __________________
    (1) La Bible, L'Evangil Le Coran et la science. Dr Maurice Bucaille ـ p. 422 ـ Edition SEGHERS.

    الحديث والسيرة ودراسة جدّية عميقة لآيات القرآن الكريم وأسباب التنزيل (وهذا الشيء ليس بالصعب أبدا على أي عالم بل يتطلب فقط الإيمان وبعض الوقت) ، إن أهل الذكر هؤلاء أي أهل الاختصاص من العلماء ، لهم الحق بتفسير وتأويل آيات القرآن الكريم كل في حقل اختصاصه فالرسول الكريم لم يفسر لنا إلا آيات العقيدة والأحكام وبعضا من الآيات العلمية في حقل العلوم المادية ربما ، والله أعلم ، التزاما منه بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). وفي كل عصر وحتى يوم الدين سيجد المسلم وكل من أراد الإيمان اليقيني بالقرآن الكريم ، البرهان القاطع والدليل الثابت ، الذي يتناسب مع مستوى علمه وثقافته ، وآخر ما كشفه العلم في زمنه مصداقا لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).
    نرجو بكلمتنا هذه أن نكون قد خففنا شيئا من حدة المناقشات التي نقرأها بين وقت وآخر في الكتب والنشرات التي تعنى بالإسلام ، وتدور حول موضوع أخطئ في صياغة طرحه أصلا : هل القرآن الكريم كتاب علم أو دين ومن يحق له تفسير معاني آياته رجال العلم أم رجال الدين؟
    فالقرآن الكريم لا يمكن تعريفه إلا بأنه كتاب الله وكلامه ، والكلام صفة المتكلم. والمولى عز وعلا عرّف ذاته بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). كذلك كتابه الكريم ليس كمثله كتاب. ومن أراد تعريفه بأنه كتاب هدى ودين وإرشاد ، أو كتاب علم ، فقد عرف ميزة واحدة من ميزات كتاب الله الكثيرة والتي لا يحيط بها إلا قائله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (عند ما يعلمون شيئا من تأويله) (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : 7). فالقرآن الكريم هو في الحقيقة شرح لأسماء الله الحسنى : ومنها «الهادي» و «العليم» وليست هاتان الصفتان هما كل أسماء الله الحسنى. وكل رجال العلم ، سواء كانوا من علماء العلوم

    المادية أو الإنسانية إذا توفرت فيهم شروط تفسير الآيات الكريمة من إيمان وتقوى وعلم ، لهم الحق بتفسير آيات المولى ، كل في حقل اختصاصه ، علما أنهم ومهما بلغوا من تقوى فلن يلموا إلا ببعض الوجوه من معاني الآية ولن يحيطوا بها تماما ، والقرآن الكريم سيأتي قائله المولى عز وعلا يوم القيامة وكأنه لم يفضّ كما روي عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:49 am

    صورة حقيقية لوجه من أوجه المجرة اللبنية التي يتبع لها نظامنا الشمسي. تحتوي المجرة اللبنية على ما يقرب من مائتي مليار نجم. وقدروا أنه يوجد مليار مجرة في الكون ، وأن الكون يحوي مليون مليار كوكب ونجم فقط ، والرقم قابل للزيادة كل سنة! وكل نجم أو مجرة يسير في فلك خاص به وبسرعة قد تصل إلى 65 ألف كيلومتر في الثانية. وأي اصطدام بين نجمين قد ينتج عنه كارثة كونية. ومع ذلك فلم ولن يحصل هذا ، ذلك (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).
    ومن وراء كل ذلك؟ الصدفة أم الطبيعة أم التطور؟ لا ، بل خالق مبدع عليم قادر

    (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)

    قلب الإنسان : أعجب وأتقن المضخات ، يعمل بدون توقف منذ الأسبوع الرابع لحياة الإنسان وحتى موته ، وزنه لا يتجاوز 250 غراما وينبض بمعدل 70 ضربة في الدقيقة أي مائة ألف مرة يوميا ، ويضخ 5 ليترات دم في الدقيقة ، أي ما معدله مليون ونصف غالون في السنة ، وهذه المضخة المعجزة توصل الدم إلى شبكة من الشرايين والأوردة والأوعية الشّعرية التي إذا وضعت جنبا إلى جنب في خط مستقيم فإن طولها يتجاوز ستين ألف ميل تقريبا!!!

    (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

    الطائر الذبابة (Colibri) : من إحدى أعاجيب الخالق في عالم الطير.
    وزنه لا يتجاوز خمسة غرامات وطوله 3 سنتيمترات ، ومع ذلك فهو يستطيع أن يطير إلى الأمام أو الخلف أو يرتفع عموديا أو يبقى في مكانه في الجو ويستطيع الارتفاع إلى خمسة آلاف متر في الجو ، وسرعته قد تصل إلى معدل مائة كيلومتر في الساعة ، ومائة رفة جناح في الثانية الواحدة!!!

    الفصل الأول
    النفس
    (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
    (يوسف : 53)
    «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم».
    «اعرف نفسك».
    (سقراط)


    علم النفس ، خلافا لبقية العلوم المادية ، وكأكثر العلوم الإنسانية ، ليس علما بالمعنى المتعارف عليه ، أي مجموعة قوانين وثوابت أثبت الوقت والتجربة صحتها كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها من علوم مادية ، لذلك يختلط في أذهان الناس ، وكثير من المهتمين بالعلوم النفسية التفريق بين الجسد والنفس والروح ، وخاصة بين النفس والروح فيجعلونهما في معنى واحد. ولقد ساهم في هذا الغموض كثرة النظريات والمدارس النفسية والفلسفية التي عالجت ماهية النفس ، والظواهر النفسية ومنشأها عند الإنسان والحيوان. والباحث المؤمن يجد في كتاب الله الكريم ، وهو كتاب الهداية والصيانة للنفوس ، كلمة الفصل في التفريق بين الجسد والنفس والروح ، والثابت الذي نعتمده للتعريف بالظواهر النفسية ومسبباتها وسبل الوقاية منها ، فهو الفصل وفيه تبيان كل شيء :
    (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل : 89).
    1 ـ النفس في التعريف القرآني
    الكل يتكلم ويكتب في النفس ، والقلة تستطيع تحديدها وتعريفها

    بكلمات بسيطة. فهل من تعريف لهذه الأمّارة بالسوء ، كما جاء وصفها القرآني على لسان سيدنا يوسف (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف : 53) ما كنه هذه النفس التي وصف مجاهدتها الرسول عليه الصلاة والسلام بالجهاد الأكبر فيما روي عنه «جئتم من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر» ، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال : «جهاد النفس».
    وردت كلمة النفس في القرآن الكريم في مائتين وخمس وتسعين آية كريمة ، تبين لنا من دراستها أن لكلمة النفس قرآنيا معاني عدة كأكثر الكلمات في كتاب الله.
    أولا : وردت كلمة النفس في بضع آيات فقط ، تعني كلمة النفس فيها ، ذات الله تعالى أو صفاته. ففي قوله عزّ من قائل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة : 116) ، (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). النفس في الآيات الكريمة السابقة تعني ، كما ذكرنا ، ذات الله تعالى.
    ولا نسمح لأنفسنا ، ولا ننصح أحدا بأن يبحث في ذات الله ، وإلا أصيب بالضياع أو الدوران في حلقة مفرغة تتعب العقل والمنطق دون جدوى ، ذلك ما فعله بعض الفلاسفة ، فالمولى عرّف ذاته بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). والقاعدة النبوية الشريفة تقول : «تفكروا في خلق الله ، ولا تتفكروا في الله ، فإنكم لن تقدروا قدره» رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله».
    أما في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : 28) (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (آل عمران :

    30). فالنفس هنا تعني صفة من صفات الله. ولله أسماء صفات هي سبعة وتسعون اسما هي من أسماء الله الحسنى أما «الله» و «الرحمن» فهما اسما ذات ، ومن الواجب التفكر في صفات الله ودعوته بها : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ومن أسماء صفاته : الجبار ، والمنتقم ، والمولى يحذرنا من بطشه وانتقامه في هاتين الآيتين : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : 28) (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (آل عمران : 30).
    ثانيا : من معاني النفس قرآنيا : الروح ، والله أعلم ، إذا قرنت كلمة النفس بصفة المطمئنة. ولقد ورد هذا المعنى للنفس في آية واحدة من كتاب الله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (أي في جسد عبادي) (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر : 27 ـ 29). أما الروح فمن العبث البحث في ماهيتها أي : كنهها وتركيبها لقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، لذلك لا نسمح لأنفسنا أن نبحث في ماهية الروح ، فالروح هي سر الخالق في الخلق ومن أمره ، وقد أغلق المولى معرفة سرها في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس : 36) ، أي أن المولى خلق مختلف أنواع الأحياء من الأرض ومن أنفسهم ومن الروح.
    ثالثا : أما بقية الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة النفس ، فإننا نستطيع أن نستخلص من خلالها القول بأن النفس هي مخلوق له كيانه الخاص وصفاته ومميزاته. فالنفس تموت وتفنى كبقية المخلوقات : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ). والإنسان قد يظلم نفسه : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف : 23) ، والنفس قد تكون أمارة بالسوء

    (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) لذلك وجبت تزكية هذه النفس بذكر الله بالغدو والآصال لكي لا نكون من الغافلين (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (الأعراف : 205).
    فللنفس إذن معنى ثالث في القرآن الكريم ، فهي مخلوق له كيان مميز خاص به ، وكل مخلوق من مخلوقات الله من أصغر جسيم في الذرة إلى أكبر مجرة ، مؤلف من مادة وروح إلا الروح فلها كيان روحي فقط.
    هناك قاعدة نعتمدها في التفسير فعند ما لا نستطيع استخلاص معنى الكلمة من كتاب الله نلجأ إلى الحديث الشريف التزاما بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : 44). وإن لم نجد ، ونادرا ما يحصل ذلك ، نلجأ إلى معاجم اللغة.
    فلقد روي عن الرسول الكريم قوله : «ما ليس له نفس سائلة ، فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه ... كل شيء له نفس سائلة فمات في الإناء ينجسه». والواضح أنه عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات قد عنى بالنفس السائلة : الدم (عن لسان العرب رواه النخعي).
    وفي معاجم اللغة وجدنا أن من معاني كلمة النفس الدم ، يقال امرأة نفساء أي ولدت حديثا ، وكذلك في قول الشاعر :
    تسيل على حد الظّبات (السيوف) نفوسنا (دماؤنا)
    وليس على غير الظّبات تسيل

    استنادا إلى ما سبق ، نحن نعرّف النفس ، (معنى ثالث غير ذات الله وصفاته ـ والروح) بأنها الدم. فالدم هو المخلوق الوحيد في الجسم الذي نستطيع أن نقول بأنه مصدر جميع الظواهر العضوية والنفسية التي ننسّبها إلى

    النفس. وكما بدأ علم الكيمياء العضوية وعلم معالجة الأمراض النفسية بالمواد الكيميائية يثبت ذلك.
    ومنذ منتصف القرن العشرين بدأ علماء الكيمياء العضوية يكتشفون تباعا أن كل القوى العقلية والانفعالات والتصرفات التي ندرسها اليوم تحت اسم الظواهر والأمراض النفسية والعقلية ما هي إلا نتيجة لتداخلات ومؤثرات مادية بواسطة مواد بيوكيميائية تفرزها مجموعات من الخلايا ، وتصب كلها في الدم أو السوائل الناشئة منه والذي ينقلها بدوره إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح الانفعالات والتصرفات التي ندعوها بالنفسية ، سواء كانت سليمة أو مرضية من حبور وسرور وانشراح أو غضب وخوف وقلق وهلوسة وضياع.
    ولقد اكتشف العلم منذ بدء الستينات مئات المواد الكيميائية في داخل الجسم وخارجه وكلها تتحكم في الظواهر والأمراض النفسية ، وتنتقل أو توجد أو تصب في الدم الذي ينقلها إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح العوارض النفسية ، وهكذا تتضح الصورة تدريجيا. فإذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، فهذا التعريف الموجز الجامع البسيط يتوافق مع ما بدأ علم كيمياء العوارض النفسية بإثباته. وهذا علم جديد لا يتجاوز عمره عشرين سنة ، فكل العوارض النفسية من حبور وغضب وهلوسة وهدوء تتحكم فيها بالحقيقة مواد كيميائية ينقلها الدم إلى مختلف أعضاء الجسم التي هي مسرح الانفعالات.
    مثلا : الخوف : هو عارض نفسي له ظواهر نفسية وعضوية ، وتسببه مواد كيميائية ، كذلك القلق والإحباط النفسي. ومنعا لكل تساؤل من أننا إذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، يصبح معنى ذلك أننا نستطيع تغيير نفسية الإنسان بتغيير دمه ، نقول :
    المسألة ليست بهذه السهولة ، فالمواد الكيميائية التي تسبب الظواهر

    النفسية تفرزها الغدد الصم ومختلف المراكز العصبية التي تصب هذه المواد في الدم.
    فالدم هو مستقر ومستودع لمئات المواد الكيميائية التي تتأتى من مختلف أجزاء الجسم : كالجهاز الهضمي والغدد الصم ، والخلايا العصبية المنتشرة في مختلف أعضاء الجسم والدماغ ، لذلك فإن القول بأننا نستطيع تغيير نفسية الإنسان بتغيير دمه هو قول سطحي ومرفوض.
    2 ـ علاقة النفس بالجسم والعقل والروح
    البعض يجعل من النفس والروح شيئا واحدا والبعض الآخر يجعل من النفس والجسد أو العقل شيئا واحدا أيضا ، والحقيقة أن النفس والجسم والروح هي أشياء مختلفة.
    النفس ليست الجسد ، فالجسد أو الجسم أو البدن هو وعاء النفس ، وقد عرّفناها بالدم ، ومسرح تأثيراتها وعوارضها وتصرفاتها ، والدماغ المفكر العاقل ، هو آلة العقل ، وهو الذي يجب أن يكون السيد والمسيطر على النفس ومسيّرها وإلا أصبح تبعا لها. أما الروح ونعرّفها بأنها أمر من المولى ومخلوق له كيان روحي فقط ، وسر من أسرار المولى ، فهي علة الحياة في كل خلق. وإذا سيطر العقل على النفس وفقا لتعاليم الخالق ، ارتاح الجسد والروح ووصل الإنسان إلى السعادة الحقيقية أي الطمأنينة والسكينة ، فالنفس والبدن والروح ، هي مخلوقات رئيسية ثلاثة في الإنسان ، تتفاعل تفاعلا وثيقا مع بعضها البعض ، ولكي يسعد الإنسان يجب أن يسيطر العقل المفكر وفق تعاليم الخالق على النفس وأهوائها ونزواتها ، أما إذا انعكست الآية فأصبح العقل المفكر تبعا للنفس الأمارة بالسوء فذلك متعب للروح وهي الجوهر ، وهي لا تسعد إلا إذا اتبع الإنسان تعاليم الخالق. والذين لا يعتقدون بالروح لن يستطيعوا أن يفهموا في العمق أسرار العوارض النفسية وأسرار السعادة

    والسكينة عند المؤمنين ، ومن هنا كان وصفهم الخاطئ للدين بأنه أفيون الشعوب ، والحقيقة أنه سعادة الشعوب. أما الإلحاد ، فهو سبب الشقاء والقلق والتعاسة التي تلف الأفراد والمجتمعات ، غير المؤمنة اليوم ، مهما بلغت من رقي مادي.
    بعض الأدلة القرآنية :
    أولا : فرّق القرآن الكريم بين النفس والبدن ففي قوله تعالى مخاطبا فرعون الخروج الذي لحق بسيدنا موسى وأغرقه المولى في البحر نجد أن نفس الفرعون قد ماتت مصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). أما بدن الفرعون فقد قضت حكمة المولى أن تبقيه منذ ثلاثة آلاف سنة ونيف إلى يومنا هذا ، ليكون بدن الفرعون آية وبرهانا ماديا محسوسا قاطعا للذين يأتون بعد الفرعون ، على صدق التنزيل ، فبدن ، أي مومياء الفرعون الذي لحق بموسى موجود حتى اليوم في متحف القاهرة بمصر.
    نقرأ في سورة يونس : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (يونس : 90 ـ 92). وسبحان الذي لا تبديل لكلماته. فلقد غفل أكثر الباحثين في القرآن الكريم عن معاني هذه الآية في العمق إلى أن أتى الدكتور «موريس بوكاي» كما أشرنا سابقا ، في أواخر القرن العشرين ، ليحقق علميا وتاريخيا في كل كلمة من هذه الآيات ويؤكد صدقها. وقد نشر ذلك في كتابه القيم : «التوراة ، الإنجيل ، القرآن والعلم» ، فليرجع إليه من يريد الزيادة. بالإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن التحنيط أي حفظ الأبدان لا يصح ويثبت إلا باستخراج وطرح الدم والسوائل التي تكونه أو تنشأ عنه ، وفي ذلك دليل علمي آخر على أن النفس غير البدن ، علما أن الأبدان

    وكل شيء سيفنى ويموت مع مرور الزمن ، إذ ثبت اليوم علميّا أن كل الأشياء تفنى وتندثر مصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).
    ثانيا : والنفس ليست الروح كما اعتقد وكتب الكثيرون : وإلا فما الذي يصعد إلى البرزخ عند الموت إذا كانت النفس هي الروح (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ومن يطلب من المولى الرجوع إلى الحياة بعد الموت إذا كانت النفس هي الروح (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون : 99 ـ 100).
    وإذا كانت النفس هي الروح فما هو الذي يعرض على النار من آل فرعون بعد موتهم في قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر : 46) ، وبما ذا تزوج النفس يوم البعث إذا كانت هي البدن أو الروح في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)؟
    فالروح هي الجوهر المسبب والمحرك الأول لكل حياة ، والعقل المفكر وآلته الدماغ الإنساني هو الذي أعطاه المولى السيادة والذي يجب أن يسيطر على الدماغ الحيواني فينا والذي بواسطته تحقق النفس نزواتها وأهواءها. (في دماغ الإنسان مراكز تسمى بالدماغ الجديد أو الدماغ المفكر ، ومراكز تسمى بالدماغ الحيواني مصدر الانفعالات والظواهر النفسية والعضوية من غضب وحبور ولذة وتعاسة وقلق وطمأنينة وغيرها).
    نحن نعتقد من زاوية إيمانية قرآنية أن الروح مركزها الرئيسي في الصدر والقلب ، ومن القلب تتوزع الروح بواسطة النفس أي الدم إلى كل خلية من

    خلايا البدن فتبعث فيها الحياة ، ومن هذه الزاوية نستطيع أن نفهم شيئا من أسرار الآيات الكثيرة التي وردت فيها كلمة القلب والصدر ، فالله يبتلي ما في صدورنا ويمحص ما في قلوبنا (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) (آل عمران : 154) ، وينزل سكينته في قلوبنا (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ). ونحن نفقه بواسطة قلوبنا ويطبع ويختم على قلوبنا : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها). (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ). (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، ولو لم يودع المولى في هذا العضو الكثير من أسراره كالروح والإيمان وغيرهما لما كرمه هذا التكريم.
    بكلمة مختصرة قريبة من الأذهان : إن القلب الذي تسكنه الروح وأسرار إلهية أخرى هو محطة البث والإرسال الرئيسية في الجسم والنفس أي الدم ، هي موجات الأثير التي ينتقل عليها ما يبثه القلب إلى الدماغ المفكر الذي يشكل شاشة الاستقبال والتوزيع إلى مختلف بقية أعضاء الجسم. وإذا اختلت محطة الإرسال والبث اختلت وظيفة بقية أعضاء الجسم ومن هنا أهمية القلب ليس من الناحية العضوية ، ولكن من الناحية الروحية أيضا ولقد وردت كلمة القلب في القرآن الكريم في مائة واثنتين وثلاثين آية كريمة تدليلا على أهميته عند الإنسان.
    ولا نستطيع أن نفهم العوارض والانفعالات والأمراض النفسية ومسبباتها وانعكاساتها العضوية في الجسد وتأثير الروح والعقل سلبا أو ايجابا في كل هذه المظاهر النفسية ـ العضوية إلا إذا سلمنا ، وحسب الهدي القرآني ، أن في الإنسان نفسا وعقلا وروحا ، وأن الروح هي العلة الأولى ، وسبب الحياة ، هي الجوهر ، وهي تتفاعل تفاعلا وثيقا حميما مع العقل والنفس ، التي هي مصدر جميع الانفعالات والظواهر النفسية وما يتبعها من انعكاسات عضوية بالجسم ، وبقدر ما نسمو بالجوهر ونبتعد به عما نهى عنه

    الله بواسطة العقل المفكر ، تصفو الروح وترتاح النفس وتكون عواطفنا وانفعالاتنا النفسية وانعكاساتها العضوية سليمة وصافية وبعيدة عن المظاهر المرضية.
    وكل المدارس والنظريات المادية التي لا تعترف بالروح ، لم تستطع أن تفهم أو تشرح في العمق الظواهر النفسية ، ولذلك لم تجد حتى الآن الدواء الشافي لها لأنها أهملت حلقة رئيسية في ترابط النفس والجسد أي الروح ، والثلاثة أي الروح والنفس والجسد هي ، تسلسلا ، علة ومصدر ومسرح الظواهر النفسية ويتأثر بعضها ببعض سلبا أو ايجابا.
    3 ـ تعريف النفس في علم النفس الوضعي
    لم نجد للنفس في كتب العلوم النفسية التعريف الذي يرضي ، وإنما حاول كل صاحب مدرسة نفسية أن يعرفها حسب نظرته الفلسفية الشخصية إلى الأشياء ، ولقد بقي المهتمون بعلم النفس وحتى منتصف القرن العشرين ينظر أكثرهم إلى النفس والعلوم النفسية على أنها أشياء غير مادية إلى أن تبين لعلماء الكيمياء العضوية أن كل القوى العقلية والانفعالات والتصرفات التي ندرسها اليوم تحت اسم الظواهر والأمراض النفسية والعقلية ما هي إلا نتيجة لتداخلات ومؤثرات مادية بواسطة مواد بيوكيميائية تفرزها مجموعات من الخلايا وتصب كلها في الدم أو السوائل الناشئة منه والذي ينقلها بدوره إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح الانفعالات والتصرفات التي ندعوها بالنفسية ، سواء كانت هذه الظواهر سليمة أو مرضية من حبور وسرور وانشراح أو غضب وخوف وقلق وهلوسة وضياع.
    ولقد اكتشف العلم منذ بدء الستينات مئات المواد الكيميائية في داخل الجسم وخارجه وكلها تتحكم في الظواهر والأمراض النفسية ، وتنتقل أو توجد أو تصب في الدم الذي ينقلها إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون

    مسرح العوارض النفسية ، وهكذا تتضح الصورة تدريجيا ، فإذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، فهذا التعريف الموجز الجامع البسيط هو ما بدأ العلم بإثباته ، وهو ما فهمناه من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي ذكرت فيها كلمة النفس ، والله أعلم.
    4 ـ وقفة علمية مع آية كريمة في النفس
    (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (الشمس : 7).
    إنها آية قسم ، ولقد درسنا آيات القسم في القرآن الكريم ، فوجدنا أن المولى عز وعلا ، أقسم بكل مخلوقاته (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) تنبيها للقارئ العاقل ليفكر في عظمة صنعة البارئ ، لأن كل مخلوق من مخلوقات الله من الذرة إلى المجرة هو إعجازي متقن الصنع (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). ولقد خصّ المولى بعض مخلوقاته ومنها النفس ، بالقسم ، وفي هذه الآية قسمان وليس قسما واحدا ، فالمولى يقسم بالنفس ككل أولا ثم بما تتألف منه من مكونات «سوية» ثانيا ، وسبحانه لم يخلق شيئا إلا كان سويّا أي في غاية التمام والكمال والإبداع (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى).
    ومن الحق علينا ، أن نشرح للقارئ وبمنتهى التبسيط والاختصار المعاني العلمية التي تكمن في هذه الآية الكريمة فلا شيء يثبّت المؤمن في إيمانه ، ويجعله يتعلق بكتاب الله الكريم ويلتزم بتعاليمه ، كتدبر آياته وفهمها فهما علميا في العمق (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).
    1 ـ النفس بمعنى الدم ككل :
    يحوي جسم الإنسان بين خمسة وستة ليترات من الدم تجري في شبكة توزيع مؤلفة من الشرايين والأوردة والأوعية الشعرية هي من الامتداد والتشعب بحيث توصل الدم وما يرشح منه من مكونات إلى كل خلية من

    خلايا الجسم الإنساني وعددها ما يقرب من مائة ألف أو مليون خلية ولقد قدروا أن هذه الشبكة التي يجري فيها الدم يبلغ طولها تقريبا إذا وضعت في خط مستقيم ما يقرب من مائة ألف ميل!
    الدم هو موسوعة ، بل مجموعة موسوعات ، من المواد الكيميائية ، التي يتطلب درسها والكتابة عنها عشرات الموسوعات الطبية في علم الكيمياء العضوية ، وعلم الوراثة وعلوم الأمراض وغيرها ، ويكفي أن نذكر بأن دم الإنسان يحتوي تقريبا على خمسة وعشرين بليون كرة حمراء يهلك منها في كل ثانية مليونان ونصف من الكريات يجددها تلقائيا مخ العظام ، كما أنه يحتوي على ثلاثين مليون خلية بيضاء ، هي جنود الجسم وعدته في المناعة والدفاع ، وهناك أيضا ما يقرب من مليار صفيحة لها الدور الرئيسي في تخثر الدم.
    أما مكونات الدم الكيميائية فاللائحة لها تطول كل يوم إذ تتعدى المئات بل الآلاف من المواد الكيميائية المعقدة ، وبمقدور المختبرات اليوم أن تفحص وتزن القليل منها وتجعلها فحوصات روتينية في متناول الجمهور.
    كشف علم الوراثة منذ سنوات فقط ، أن بصمات الأصابع ليست وحدها التي لا تتشابه عند مختلف الناس ، بل إن الدم أيضا يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يوجد دم عند شخص مشابه لدم إنسان آخر من الوجهة الوراثية إلا عند التوائم الصحيحة ، علما أن إعطاء أي مريض دما من فصيلة دمه لا يعني قطعا أنه يتشابه معه تماما. ومن هنا نفهم العمق العلمي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء : 1) فمن نفس واحدة ، هي نفس سيدنا آدم خلق المولى عشرات المليارات من الأنفس التي تختلف عن بعضها البعض وعن النفس الأم المصدر. وقد تبين ذلك لعلماء الوراثة حديثا ، فاحتمال

    تشابه شخصين من الوجهة الوراثية البحتة هو احتمال جزء من الرقم عشرة مسبوقا بأربعين صفرا (40* 10 / 1) من هنا نفهم في العمق معنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار : 6 ـ Cool ولقد قضت حكمته تبيانا لقدرته في الخلق أن لا يتشابه أي مخلوق من مخلوقاته مع آخر ومنذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة وهذا ما كشفه علم الوراثة في النصف الأخير من القرن العشرين.
    2 ـ بعض التفاصيل العلمية لمكونات الدم :
    أي الشرح العلمي لقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها).
    أ ـ كريّة الدم الحمراء :
    قطرها يبلغ سبعة ميكرونات (الميكرون يساوي جزءا من الألف من المليمتر) ، ولها من الخاصية بحيث أنها تتكيف لتصل إلى أوعية شعرية هي أصغر منها قطرا ، حاملة إلى كل خلية من خلايا الجسم الأوكسجين ، كما تخلصه من فضلات الاحتراق أي ثاني أوكسيد الكربون ، في رحلة تقطع فيها في خلال حياتها التي تدوم مائة وعشرين يوما مسافة 1150 كيلومترا تقريبا وبمعدل دورة دموية يوميا تقريبا ، أما ما تتألف منه كريّة الدم الحمراء فنذكر فقط بأن الخضاب (hemoglobine) الذي يؤلف المادة الكيميائية الرئيسية فيها والمولجة بنقل الأوكسجين واستخراج غاز ثاني أوكسيد الكربون يتألف من أربعمائة وخمسين حامضا أمينيا ، أمضى آلاف العلماء من المختصين بالكيمياء البيولوجية وعلوم الدم الوراثية معظم سني حياتهم في دراسته وما يزالون كل يوم يكتشفون في هذه الكريّة العجيبة وفي خضابها خصائص وأمراضا جديدة.
    أ ليست هذه الكريّة الحمراء هي التي أقسم بها المولى ، من بين ما أقسم له بقوله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أو بقوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي

    الأشياء المختفية عن العين المجردة ، (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي التي تجري في الجسم وتكنس خلاياه من فضلات الاحتراق الذي يحصل داخل الخلايا. فهناك أشياء «خنس وكنس» داخل الجسم كما رآها الأطباء ، وخنس وكنس كما رآها العلماء في الكون. ولنا وقفة علمية مطولة عند التعليق على قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) في كتيب لا حق إن شاء الله تعالى.
    ب ـ خلية الدم البيضاء :
    إنها من أعاجيب مخلوقات الله هذه الخلية البيضاء والتي لا يتجاوز قطرها خمسة عشر جزءا من الألف من المليمتر ، مع ذلك فقد جهز المولى هذه الخلية البيضاء وخاصّة ما يسمى بالخلايا البيضاء القاتلة ، وخلايا «ب» بخاصية ميزة الاستكشاف والإنذار والمهاجمة والقتل والتحصين ضد كل عدو خارجي يهاجم الإنسان وكذلك بالنسبة لبقية الأحياء. ويقدر العلماء أن «الرادار» الذي تتمتع به الخلية البيضاء القاتلة يستطيع أن يكتشف مئات الملايين وحتى بضعة مليارات من الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم خلال دقائق أو ساعات ، ثم ينذر الخلية البيضاء «ب» فيأمرها بفرز أجسام المناعة الخاصة ضد كل دخيل في نفس الوقت الذي تتجه فيه لملاقاته ومقاتلته ، أليست خلايا الدم البيضاء التي تكشف كل دخيل على الجسم وتتعقبه وتهاجمه وتقتله كي تحفظ الجسم هي من بين ما رمزت إليه الآية الكريمة : (لَهُ) (أي للإنسان) (مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) (أي معقبات نراها كخلايا الدم وغيرها مما يحفظ الإنسان) (وَمِنْ خَلْفِهِ) (أي معقبات لا نراها كالملائكة المولجة بحفظ الإنسان) (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (الرعد 11) والله أعلم.
    مرة أخرى نردد على مسمع المنكرين لوجود الخالق : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) عشرات الآيات تتحداهم علميّا منذ التنزيل : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (الطور : 35) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما

    تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الأحقاف : 4).
    وفي الدم أيضا نوع آخر من الخلايا البيضاء وظيفتها رفع القمامة وتنظيف الجسم من بقايا الجثث التي تتركها معارك الخلايا البيضاء مع المكروبات والأجسام الغريبة عن الجسم ، أو ليست هذه الأنواع من الخلايا البيضاء وهي التي تقوم بدور عامل التنظيف في الجسم ، بالتي أقسم عليها المولى من بين ما أقسم به بقوله (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ما دامت تجري ليل نهار لتكنس كل جزء من أجزاء الجسم من جثث الخلايا الميتة من مكروبات وغيرها؟ الله أعلم.
    3 ـ «وكل شيء فصلناه تفصيلا» :
    هذه بعض التفاصيل المبسطة لما تتألف منه خلية الدم البيضاء ، علنا نتفهم في العمق معا بعد المعنى العلمي في قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها).
    يغلف الخلية غشاء خلوي سمكه لا يتجاوز 120 ـ 140 أنغستروم (الأنغستروم هو جزء من مليون من الميلمتر الواحد) وهو شبه «منخل» ذكي إذ ترشح منه المواد الكيميائية إلى داخل الخلية وخارجها بصورة منظمة وفقا لحاجات الخلية ، والتي تتغير كل ثانية وفقا لحاجات الجسم ومتطلباته.
    ما بين الغشاء الخلوي ونواة الخلية توجد الهيولى الخلوية وهذه تحوي في ما تحوي خمسمائة ألف جسم ريبي (نوع من المواد الكيميائية العضوية) و 500 مليون ذرة أنزيمية.
    النواة الخلوية هي مركز الرئاسة وتنظيم الأمور في الخلية ، تحتوي في ما تحتوي على ثروة وراثية مختصة بكل إنسان ، وهي لا تتشابه تماما مع أي مخلوق آخر إلا عند التوائم الصحيحة المتكونة من بيضة ملقحة واحدة.
    هذه الثروة الوراثية تتألف عند الإنسان من ست وأربعين صبغية

    (Chromosome) وكل صبغية تحمل ما بين 10 ـ 15 ألف مورثة (gene) وكل مورثة هي مادة كيميائية تتألف من مائة مليار ذرة مختلفة التركيب ، وفي أبسط ذرة من هذه الذرات ذرة الهيدروجين عشرات الجسيمات ، وكل جسيم هو علم قائم بذاته كالإلكترون والبروتون والنيوترون والكوراك وغيرها من جسيمات لم يكتشفها العلم حتى الآن.
    والجسم الإنساني يتألف من مائة ألف مليار خلية حية. ففي حساب بسيط : إن قسما فقط من خلايا جسم الإنسان مجتمعة يحتوي من الذرات ما عدده التقريبي طبعا (15* 10) * 000 ، 500* (11* 10) أي الرقم خمسة وعشرون مسبوقا بواحد وثلاثين صفرا ، علما أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الإنسان بمعنى التعقيد وبديع الصنعة (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فلا نملك أمام هذه المعطيات البسيطة التي اكتشفها العلم وأوجزناها بأبسط التعابير إلا أن نردد بخشوع كلي (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
    الحمد لله الذي صدقنا وعده (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ، ومع هذا نقرأ ونسمع من يجادل في الله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ).
    هذه النفس الدم التي خلقها الله سوية في أحسن تقويم ، ككل شيء خلقه ، ما كان لينتقل بواسطتها ما ينتقل من أمراض وراثية (ثلاثة آلاف مرض وراثي حتى الآن) أو غير وراثية ، وما كان لينتج عنها ما ينتج من أهواء وانفعالات مؤذية وأمراض نفسية ، لو زكاها الإنسان بعد أن عرّفه الله ما يصلح لها وما يفسدها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) والعلم اليوم يبين أن أكثر الأمراض النفسية والعقلية والتشوهات الخلقية والعضوية هي نتيجة لما قدمت يد الإنسان من آثام وأخطاء وكلها تترك آثارها السلبية في نفسه (أي دمه)

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:50 am

    وتنتقل إلى ذريته القريبة والبعيدة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين : 4 ـ 6).
    كلمة أخيرة :
    أقسم المولى بأحد عشر قسما في سورة الشمس (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها. وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ...) (الشمس : 1 ـ 10) على أن الإنسان مخير بين التقوى والفجور في معتقده ، مع ذلك فهناك من لا يزال يناقش في موضوع الاختيارية والجبرية في الإسلام مع أنه محسوم منذ التنزيل بحرية الاختيار بين الفجور والتقوى من قبل العبد بما خص المعتقد ؛ وتحضرنا هنا كلمة جميلة للحسن بن علي رضي الله عنهما في هذا الموضوع إذ يقول : «من حمل ذنبه على ربه فقد فجر. إن الله تعالى لا يطاع استكراها ولا يعصى بغلبة فإن عمل الناس بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم ، ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزا في القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة عليهم وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم».
    5 ـ المستقر والمستودع
    (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام : 98).
    الدم يمد أنسجة الجسم بالكريات الحمر والبيض ، فهو إذن مستودع بالنسبة لهذه الأنسجة ، والدم هو أيضا مستقر لكثير من المواد الكيميائية التي

    تظل نسبتها مستقرة فيه كالسكر والبروتينات والبولة الدموية والأملاح البولية وغيرها ، فنسبة السكر في الدم هي مستقرة أيضا بمعدل غرام واحد في كل ليتر دم ، وكلما زادت هذه النسبة أو نقصت بحكم عمل الجسم واستهلاكه للسكر ، تدخّل الكبد والعضلات لإمداد الدم بكمية السكر الناقصة لتبقى نسبته مستقرة في الدم ، وبالعكس فإن زادت كمية السكر في الدم بحكم تناول الكثير من السكاكر وعدم حرقه ، تتدخل الهرمونات الموكلة بذلك ، فتودع النسبة الزائدة في الكبد والعضلات.
    والدم هو المستودع الذي يمد كل خلايا الجسم وأعضائه بما يلزمه من مواد غذائية ومنشطات وهرمونات ومواد كيمائية ، لذلك فإن هذه الآية الكريمة لا يمكن أن نتبين شيئا من أبعادها العلمية إلا إذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، وأن الجسد وعاؤها ومسرح انفعالاتها ، وقد يسر المولى تفصيل بعض معانيها للذين يفقهون ، أي للعلماء. والواجب يقضي علينا بأن نحاول أن نختصر ما أمكننا فهمه ونبسطه بصورة قريبة من أذهان القارئ العادي.
    1 ـ أنشأ الخالق العظيم كل النفوس الإنسانية ، من نفس سيدنا آدم ، فجعل فيها المستقر والمستودع وجاءت علوم الخلايا والأنسجة والكيمياء العضوية ووظيفة الأعضاء لتبين اليوم أن في النفس الإنسانية وقد عرّفناها بالدم ، يوجد مستقر ومستودع لآلاف المواد الكيميائية ، كما أن علم دراسة الخلايا يبين أن في كل خلية حية موادّ مستقرة ، وأخرى مستودعة بشكل احتياط وظيفتها تأمين الاستقرار والنّسب شبه الثابتة للمواد الأولى كلما تغيرت هذه وفق متطلبات عمل الخلية ، (والدم الذي عرّفناه بالنفس من مركباته كريات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح).
    وفي الدم خلايا متخصصة مستقرة هي الكريات الحمراء والبيضاء ، وبالرغم من أن الجسم يفقد في كل ثانية مليونين ونصف من الكريات الحمراء فإن نقي العظام (لب العظام) يعوضها تلقائيا حتى تبقى نسبة الكريات الحمراء

    والبيضاء مستقرة في الدم ، وفي هذه الحالة الدم هو مستقر (1) الكريات الحمراء والبيضاء ونقي العظام هو مستودعها ، (لب العظام يدخل في تركيب النفس لأنه مصدر الكريات البيضاء والحمراء).
    __________________
    (1) لغويا : المستقر هو المكان الذي تستقر الأشياء فيه بنسبة محددة مثلا : الدم هو مستقر سكر الغلوكوز (glucose) الذي هو بنسبة غرام واحد في الليتر من الدم.
    أما المستودع ، فهو المكان التي تستودع فيه الأشياء. أما نسبها وكمياتها فتتغير حسب العرض والطلب والحاجة وعدمها ، كنسبة الهرمونات في الدم التي تتغير حسب الحاجة وساعات الليل والنهار.

    (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ)

    صورة حقيقية لكريات الدم الحمراء والبيضاء وهي تجري ليل نهار حاملة الأوكسجين لكل خلية من خلايا الجسم في الوقت الذي تكنس أي تأخذ منها غاز ثاني أوكسيد الكربون الضار

    (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

    إن «رادار» هذه الخلية الموجود في غشائها الخارجي وسمكه لا يتجاوز 120 ـ 140 من مليار من المليمتر يستطيع كشف مئات الملايين بل المليارات من الأجسام الغريبة عن الجسم وفي جزء من نواتها يوجد خمسون مليون مليار ذرة مختلفة

    (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)

    إصابة قاتلة لخلية الدم البيضاء في خلية سرطانية (خلية الدم البيضاء لا تزال سليمة في وسط الصورة أما خلية السرطان فأصبحت ميتة وأشبه بالشبكة)

    (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)

    خلية سرطانية (في أعلى الصورة) وقد اتجهت لمقاتلتها خلايا الدم البيضاء القاتلة


    الفصل الثاني
    القلق والخوف الطبيعي والمرضي
    (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ).
    (المعارج : 19 ـ 22)
    «اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك».
    من دعاء الرسول عليه‌السلام
    «القرآن الكريم رسم للناس جميعا سبيلا يصلون فيه إلى هدف عظيم ألا يكونوا في مهب الريح».
    ميخائيل نعيمة


    1 ـ تمهيد
    القلق والخوف يلفان الإنسانية أفرادا وجماعات منذ أن كانت الإنسانية العاقلة ، إلا من رحم الله ومنّ عليه بنعمة الإيمان ، والقلق النفسي هو بنسبة متصاعدة كلما تقدمت الحضارة المادية وابتعدت الإنسانية عن فهم تعاليم الله والالتزام بها. والإحصائيات اليوم تؤكد ذلك ، فلقد استهلكت فرنسا في عام 1982 أكثر من مائة مليون علبة دواء من المنومات والمهدئات. وفي الولايات المتحدة الأميركية ، هناك وصفة واحدة لدواء مهدّئ للأعصاب من كل أربع وصفات طبية عادية. أما الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية والمآسي الأخلاقية والانتحار ، فهي الأعلى نسبة في البلدان المتقدمة على صعيد الحضارة المادية والأبعد عن تعاليم السماء ، بالرغم من أن هذه البلاد المتحضرة ، كما يصفونها ، قد أمنت لأفرادها سبل الرفاهية المادية والضمان الاجتماعي منذ الولادة وحتى الممات ، فما سبب وتعليل ذلك؟ الجواب نجده في كتاب الله الكريم ، فالإنسان كان ولا يزال وسيظل كما وصفه أعلم العالمين به (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ). (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً). (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً).

    هناك ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح نفسها في كل ثانية ، على تفكير كل امرئ عاقل ، سواء كان ذلك بصورة شعورية أو شبه شعورية ، وأغلب الأوقات بصورة لا شعورية ، فكل فرد عاقل يتساءل بينه وبين نفسه ، لما ذا جئت إلى هذا الوجود؟ وما هو دوري ومعنى حياتي في هذه الدنيا؟ وكيف سيكون مصيري بعد الموت؟ وإذا لم يجد كل ذي عقل ومنطق حلّا منطقيّا لهذه التساؤلات الثلاثة المتكررة في تفكيره ، منذ ولادته وحتى مماته فهو حتما مريض نفسيّا بصورة ظاهرة أو مستترة.
    وفي القرآن الكريم الجواب على هذه التساؤلات الثلاثة والحل العلمي والمنطقي الذي يقنع كل ذي عقل ومنطق سليم : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى).
    فوجود الإنسان في هذه الحياة هو نعمة وهبة من الخالق. والوجود خير من العدم ، والحياة هنا امتحان وابتلاء ، والحياة الحقيقية الخالدة السعيدة هي في ما بعد الموت وحين البعث (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت : 64).
    (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...) (الاسراء 9)
    اعرف نفسك «ومن عرف نفسه عرف ربه» هنا يكمن سر السعادة ، وهي ما ينشده كل مخلوق حي ، وكل المدارس النفسية والاجتماعية والفلسفية ، التي تحاول الإجابة عن تساؤلات الإنسان في معنى الحياة والموت ، دون الأخذ بتعاليم السماء الحقة أخفقت وستخفق في تشخيص العلة ووصف الدواء ، وهذا ما نلمسه اليوم.
    أما في القرآن الكريم والسيرة والحديث الشريف فنجد التشخيص الحقيقي للأسباب التي تشقي الأفراد والمجتمعات ، والدواء المنطقي الناجع

    لها (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ).
    وفي الحديث القدسي : «عبدي أطعني في ما أمرتك ، ولا تعلمني بما يصلحك ، أنا أكرم من أكرمني ، وأهين من هان عليه أمري ، ولست ناظرا في حق عبد حتى ينظر العبد في حقي».
    2 ـ ظاهرة الخوف والقلق النفسي
    1) الخوف والقلق النفسي الطبيعي :
    يجدر بنا أولا أن نفرق بين الخوف والقلق المرضي والقلق والخوف الطبيعي أي الفيزيولوجي. وهذا الأخير هو إحساس نفسي بالضيق مصحوب في أغلب الأحيان بتغيرات فيزيولوجية في أداء وظيفة معظم أعضاء الجسم. والقلق الطبيعي قد يسبق أو يصاحب أو يتبع لبعض الوقت المواقف التي يتعرض لها الإنسان في ذاته لخطر حقيقي ، وهو ضرورة فيزيولوجية يتمكن بواسطتها الإنسان من مواجهة الأخطار أو تفاديها كل حسب استعداده النفسي وتركيبه الفيزيولوجي. والقلق الطبيعي ليس مقصورا على الإنسان بل الحيوان وحتى النبات ويدخل في ما يسمى بغريزة حفظ الذات.
    وقد وصف القرآن الكريم مختلف درجات القلق والخوف الطبيعي مع ما يصاحبها من أعراض عضوية في الجسم ، ما لم تزد عليه كتب النفس اليوم شيئا ، إلا في التفاصيل وهذه الدرجات هي تصاعديا :
    الضيق النفسي : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
    (الحجر : 97 ـ 99).
    الخوف : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ

    أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (الأحزاب : 19).
    الجزع : (قلة الصبر) : (إذا مسّه الشّرّ جزوعا) (المعارج : 20).
    الهلع : قلة الصبر مع شدة الحرص في كل شيء (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين) (المعارج : 19 ـ 22).
    الرعب : أعلى درجة من الهلع (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب) (الأنفال : 12) (وقذف في قلوبهم الرّعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا) (الأحزاب : 26).
    الفزع : (الذعر) : أعلى درجة من الهلع (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الّذي كنتم توعدون) (الأنبياء : 103).
    الذهول : حالة ضياع عقلية خفيفة ، نتيجة الخوف الشديد : (يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم ، إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها) (الحج : 1 ـ 2).
    سكارى : (أي ضائعين) حالة ضياع عميقة نتيجة الخوف الشديد (... وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد) (الحج : 2).
    هذا الخوف الطبيعي أمام كل شيء مجهول ، أو مخيف ، يهدد الإنسان في ذاته ووجوده ، ليس مقصورا فقط على العامة من الناس ، بل اعترى بعض الأنبياء عليهم سلام الله أجمعين ، فإبراهيم وموسى وداود ويونس اعتراهم في بعض المواقف شيء من هذا الخوف الطبيعي ، كما جاء في قصص القرآن الكريم : (فأوجس منهم خيفة ، قالوا لا تخف ، وبشّروه بغلام عليم) (الذاريات : 28) (وأن ألق عصاك فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ولم

    يعقّب ، يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين). (القصص : 31). (إذ دخلوا على داود ففزع منهم ، قالوا لا تخف) (ص : 22).
    ولم نجد في القرآن الكريم وكتب الأحاديث والسيرة أي إشارة إلى هذا النوع من الخوف الطبيعي ، عند الرسول محمد عليه أفضل الصلوات ، ما عدا بعض الضيق من إيذاء المشركين وإعراضهم عن رسالته. (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون). لا بل إن المتتبع للسيرة ، يجد أنه كان أشجع الفرسان قاطبة إذ وقف يواجه الموت المحدق به من كل جانب في إحدى المواقع ، مع ثلاثة عشر نفرا من الصحابة والأنصار ، وهو مطمئن لقدر الله قائلا : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب».
    الآليات والمسببات البيولوجية للخوف
    والتصرف السلوكي عند المخلوقات الحية
    منذ عشرات السنين فقط بدأ العلماء المهتمون بوظيفة الجهاز العصبي يكتشفون أن الأفكار والعواطف والسلوك ، هي نشاطات حياتية تسيرها عمليات فيزيولوجية عصبية وكيميائية ، وأن في المخلوقات المزودة بجهاز عصبي مراكز تتحكم في الألم والخوف واللذة والغضب والحركة وغيرها من انفعالات وتصرفات ، وتسمى هذه المراكز العصبية مجتمعة بالدماغ الحيواني أو النباتي. كما أنه يوجد في بعض المخلوقات الحية مراكز عصبية متطورة ، تؤثر وتتأثر بالدماغ الحيواني وهي من الأهمية والتطور تبعا لنسبة رقي المخلوقات في سلم الذكاء. هذه المراكز هي الأكثر تطورا عند الإنسان وتسمى بالدماغ الجديد أو «الدماغ المفكر».
    على ضوء هذا الشرح المبسط لآليات الشعور والتصرف نستطيع أن نفهم الوجه العلمي في العمق للآيات الكريمة التالية التي تشرح مسببات الخوف واللذة والألم والسلوك (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ

    جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا إلّا المصلّين). (خلق الإنسان من عجل). (وخلق الإنسان ضعيفا).
    فالمولى عز وعلا خلق الإنسان هلوعا وعجولا بحكم تكوين جهازه العصبي ، أي مفرط الحساسية شعورا وتصرفا تجاه كل ما يحيط به من عوامل داخلية وخارجية قد تعرض ذاته وحياته للخطر ، وذلك رأفة به ومحافظة على حياته. وكذلك وضع المولى نفس النظام ، نظام الدفاع عن الذات في بقية المخلوقات الحية ، ذلك أن في كل المخلوقات مراكز عضوية تتحكم في الخوف والغضب وسرعة الانفعال والهرب فتجعلها جزعة خائفة نفورة إذا مستها عوامل الأذى والشر. وفي الإنسان وبقية المخلوقات أيضا مراكز للذة والجوع والشبع ، تجعلها ساكنة لا تهتم بما يجري حولها عند ما تتأمن مقومات اللذة والشبع ، إلا أن الفرق بين الإنسان والحيوان ، هو أن الأخير مسير من خالقه ، لذلك فإن الخوف والهلع واللذة والسكون عند الحيوان هي ميزات طبيعية لا تؤذي ذاته. أما عند الإنسان وهو المخير مع الجن دون سائر المخلوقات ، فمراكز الهلع والغضب واللذة والهدوء الموجودة في الدماغ الحيواني وإن لم يسيرها الدماغ المفكر العاقل الذي جعله المولى سيد النفس الإنسانية وفق تعاليم الخالق ، أصبح الإنسان عبدا لهواه وشهواته وغرائزه الموجودة في دماغه الحيواني ، فيصبح عندئذ كالأنعام بل أضل (أرأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا) (الفرقان : 43 ـ 44).
    2) القلق والخوف المرضي :
    أ ـ تعريفه
    لا نريد أن نتوسع كي لا ندخل في متاهات التفريق الأكاديمي بين القلق المرضي ، وهو حالة شعورية من الضيق ؛ والخوف المرضي ، وهو حالة

    شعورية بالضيق مصحوبة بانعكاس عضوي على وظيفة أغلب أجهزة الجسم من تسارع في ضربات القلب ، وضيق في التنفس ، واضطراب في عمل جهاز الهضم والأعصاب والعضلات ، وعملية إفراز الغدد وغيرها ، فالخوف والقلق النفسي المرضي في جذورهما ومنشئهما واحد وهو الخوف من المجهول ، وبدون أي سبب ظاهري منطقي معقول بالنسبة للمريض (وهذا ما يزعجه أشد الإزعاج) ولعل أبلغ وأوجز تحديد وتعريف حسي للراحة النفسية والخوف النفسي هو ما أشارت إليه الآية الكريمة التالية : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السّماء) (الأنعام : 125).
    والقلق هو أكثر المظاهر شيوعا وإزعاجا ويشكل القاسم المشترك لكل الأمراض النفسية العصابية ، وأغلب الأمراض العقلية الذهانية ، واضطرابات الشخصية و 70 خ من الأمراض العضوية يكون مصحوبا بالخوف أو القلق الظاهر أو المستتر.
    ب ـ أسبابه
    هي في أكثر الحالات مجهولة بالنسبة للمريض ، ومدفونة في أعماق نفسه ، أي في اللاشعور ، أي العقل الباطن. وعلماء النفس يرجعون الأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية [والقلق والخوف من أهم مظاهرها] إلى تعارض وتصادم بين عقد النفس الدفينة اللاشعورية ومعطيات الواقع التي يواجهها المريض ، وإذا لم نساعد المريض على تفهم عقده ومحاولة حلها أو تسهيل حلها ، فكل علاج للقلق والأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية السلوكية هو وقتي أو لا يجدي. وسنفرد بحثا خاصا بعقد النفس الإنسانية لنبين كيف أن في الإيمان الصادق المرتكز إلى معطيات الكتاب الكريم الحل الجذري لها ، دون بقية الحلول التي تطرحها مختلف المدارس التي تهتم بعلم النفس وأمراضها ، والتي لم تقدم حتى الآن إلا

    حلولا مؤقتة غير شافية كما يعرف الكل من خلال إحصائيات هذه المدارس ونتائج معالجتها.
    (وخلق الإنسان ضعيفا)
    أثبت العلم أن دماغ الإنسان وبقية أعضائه هي ضعيفة أمام متطلبات الهوى الموجودة في الدماغ الحيواني ، وإن لم يسيّر الإنسان الدماغ الحيواني مركز ومبعث الغرائز والشهوات والانفعالات وفق تعاليم الخالق ، وهو أدرى بما يصلحه ، بواسطة الدماغ المفكر الذي زوّد به ، أصبح هلوعا جزوعا عجولا منوعا كصفات شعورية وسلوكية مرضية.
    يكفينا مثل بسيط لتقريب الصورة من ذهن القارئ على هذا الضعف الموجود في خلقنا ، فحقنة أو جرعة أو شمة من المخدرات ، تعطي اللذة المؤقتة لمراكز اللذة الموجودة في دماغنا الحيواني ، تكفي لأن يصبح الإنسان عبدا أمام متطلبات جسمه التي تصاب بما نسميه «بعوارض الحاجة المادية عند المدمنين كالتعب والعرق والاصفرار والقلق والخمول والتقيؤ وغيرها ...» وكذلك بالنسبة لبقية الشهوات والغرائز التي حدد لنا المولى كيفية عدم الاستسلام لها ، فليفهم الإنسان إرادة الله ، وقد دله على مكامن ضعفه الكامنة في خلقه وبيّن له سبل الهداية والإرشاد كي لا يهوي في سبل الضلالة والمرض : (يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الّذين يتّبعون الشّهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). (النساء : 26 ـ 28). وهذه السبل الواقية من الضلالة هي في الصلاة ، وللصلاة كوقاية شروط يجب الالتزام بها. وقد فصلت هذه الشروط في سورة المعارج (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين. الّذين هم على صلاتهم دائمون. والّذين في أموالهم حقّ معلوم. للسّائل والمحروم. والّذين يصدّقون بيوم

    الدّين. والّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون. إنّ عذاب ربّهم غير مأمون. والّذين هم لفروجهم حافظون. إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والّذين هم بشهاداتهم قائمون. والّذين هم على صلاتهم يحافظون) (المعارج : 19 ـ 34).
    فليلتزم الإنسان إذا أراد الشفاء من قلقه بهذه الوصفة الإلهية بعد أن يفهم شروطها وليتممها ويثابر على العمل بها ، وسيجد نفسه بعد حين أنه من أسعد المخلوقات. وهذا هو واقع المؤمنين الحقيقيين ، والذي خبرناه ووجدناه خلال ممارستنا للمعالجة النفسية!!
    لذلك نحن نعتقد ، من زاوية إيمانية ، وبحكم التجربة الشخصية المهنية ، ومن خلال إخفاق تجربة المدارس النفسية التي حاولت أن تعالج الهلع والخوف والذعر واضطرابات السلوك من زاوية بيولوجية أو تحليلية وضعية ودون الأخذ بتعاليم السماء ، أن لا شفاء بصورة نهائية من الهلع والجزع والخوف والأنانية واضطرابات السلوك بصورة جذرية إذا لم يلتزم كل مريض عصابي بشيئين : وصفة طبية دنيوية موقوتة المفعول من أهل الاختصاص في الأمراض النفسية ، ووصفة روحية إيمانية من خالقه هي الالتزام بتعاليم المولى وهي وصفة جذرية الشفاء مصداقا لقوله تعالى : (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة : 38).


    الهلع والجزع والفزع والرعب الطبيعي تختصره هذه الصورة المعبرة بما لا
    تستطيع كتب علم النفس أن تقوله بالكلمات

    الفصل الثالث
    الموت وعقده
    (وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).
    (ق : 19)
    «وما ترددت في شيء أنا فاعله ، ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن. يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».
    (حديث قدسي رواه الطبراني والبيهقي)
    «لا تستقر هذه المدنية إلا إذا رجعت إلى تعاليم محمد».
    «برنارد شو»

    (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)

    صورة جانبية للدماغ المفكر حيث مراكز السمع والبصر والفكر وغيرها وقد جعله المولى سيدا على الدماغ الحيواني وإلا أصبح عبدا له.

    (إنّه لقول فصل. وما هو بالهزل)
    خلافا للعلوم المادية التي لا جدال في قواعدها بين العلماء ، كالفيزياء والكيمياء والفلك والطب وغيرها ، فإن علم النفس من العلوم الإنسانية ، التي يختلف في تحليل ظواهرها ومسبباتها علماء النفس ، وإن كانت آلياتها قد بدأت تدخل في حقل العلوم المادية (الكيمياء العضوية). وعند ما تختلف الآراء وتتشعب الطروحات ، ما على الباحث العاقل إلا اللجوء إلى كلمة الفصل في صحة كل العلوم ، سواء كانت مادية أو إنسانية : القرآن الكريم ، ففيه يجد أعمق وأبلغ وأوجز وأصح تحليل للنفس الإنسانية في تركيبها الطبيعي وما فطرت عليه ، والأسباب التي تشقيها ، والظواهر الطبيعية والمرضية التي تنتابها والسبل الموصلة لما تنشده من سعادة ، وأخيرا الدواء الشافي لما تعانيه من أمراض.
    1 ـ تعريف بالعقد النفسية
    منذ أواسط القرن العشرين كشف العلم ولا يزال أن في الدماغ مراكز تتحكم بمختلف انفعالات وتصرفات الإنسان الشعورية والسلوكية ، كمراكز الخوف والذعر والغضب والطمأنينة واللذة وغيرها ، وكلها تحكم آليات ما يسمى بغرائز حفظ الذات ، كالخوف من الموت ومسبباته والهرب من الألم والسعي وراء اللذة

    والراحة الجسدية والمحافظة على النوع من خلال الحاجة الجنسية ، وحب التملك وغيرها من حاجات حياتية رئيسية.
    هذه المراكز الدماغية التي تحكم التصرف الإنساني البيولوجي وتؤمن بقاءه والمحافظة على نوعه ، هي ضرورة وضعها المولى في كل مخلوق حي ، إلا أنها في الإنسان ، وهو المخيّر دون سائر المخلوقات ، قد تجمح به إلى أن يصبح عبدا لها وأسيرا لمتطلباتها فتصبح عقدا نفسية بالمعنى المرضي ، إذا لم يسيّرها الدماغ المفكر في الإنسان ، ويسيطر عليها حسب أوامر من هو أعلم العالمين به الخالق عزّ وعلا مصداقا لقوله تعالى : (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين) (المعارج : 19 ـ 22).
    وهكذا يتضح لنا أن ما يسمونه بالعقد النفسية ، ما هو إلا نتيجة «جنوح» غرائز حفظ الذات الطبيعية بالإنسان جنوحا مرضيا إذا تخلى عن فهم تعاليم السماء التي تنظمها وتجعلها سوية ، كما نظمتها وجعلتها سوية عند الحيوان فتتحول حينئذ غريزة المحافظة على الحياة إلى عقد الموت وعقدة حب الخلود ، وما يتقنع وراءها ؛ ويتحول التفتيش عن اللذة والهروب من الألم إلى عقد الحرص والعقد الجنسية ؛ ويتحول شعور الإنسان الطبيعي بضعفه إلى عقد النقص والحرمان والتعالي والكبرياء وعقدة العجل والتسرع.
    ونحب أن نسمي هذه العقد النفسية التي تنغص على الإنسان حياته وتمنعه من تحقيق سعادته ب «العقبات النفسية». وقد أشارت إليها بصورة جامعة الآيات الكريمة التالية : (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكّ رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة. ثمّ كان من الّذين آمنوا وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة) (البلد : 11 ـ 18).

    فإذا أراد الإنسان أن يكون من أصحاب «الميمنة» فعليه «اقتحام» عقبات نفسه ، وجهاد النفس وهو من أكبر وأصعب أنواع الجهاد ، وهذا الاقتحام لعقبات النفس وعقدها يكون بمجاهدة واقتحام عقد التملك والحرص والبخل بأن يفك الرّقاب المعوزة ، واقتحام عقد الموت ، وحب الخلود يكون بالإيمان بالبعث واليوم الآخر. واقتحام عقد اللهفة والحرقة في الطلب يكون بالصبر. ومحو عقد النقص والحرمان يكون بالرحمة والتواصي بها.
    وقفة تحليلية نفسية مع سورة الضحى
    أ لم يجنب المولى رسوله الكريم عقدة الموت بقوله تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى). وجنبه عقدة الحرمان العاطفي الناشئ عن اليتم بأن آواه فقيض له جده ثم عمه أبا طالب الذي أعطاه الأمان والسند العاطفي والمادي ضد أذى المشركين (ألم يجدك يتيما فآوى). إلى أن قضت الحكمة الإلهية بإغنائه عن هذا العون الأرضي في قوله تعالى (والله يعصمك من النّاس).
    أ لم يجنب المولى رسوله الكريم عقدة النقص المتأتية من الجهل ، فعلمه الحكمة ، وأنزل عليه القرآن الكريم (ووجدك ضالّا فهدى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما). ثم ألم يجنبه أيضا عقد النقص والشح المتأتية من الفقر بأن أغناه ومنع عنه العوز المادي فزوجه بأم المؤمنين السيدة خديجة عليها‌السلام وقد كانت غنية محبة : (ووجدك عائلا فأغنى).
    وكذلك يجب أن نفعل مع أنفسنا وأولادنا والغير ، إن أردنا أن نجنب النفس الإنسانية عقد النقص والحرمان المادي والعاطفي وما ينتج عنها من عقد النقص أو التعويض كعقد إيذاء الذات والغير ، وعقد التعالي والكبرياء ،

    وعقد الشح والبخل (فأمّا اليتيم فلا تقهر. وأمّا السّائل فلا تنهر. وأمّا بنعمة ربّك فحدّث).
    وسنفصّل كل عقدة من هذه العقد ومظاهرها وسبل شفائها حسب أهميتها تباعا.
    2 ـ عقد الموت
    (وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).
    إن فكرة الموت هي في ضمير وشعور وتفكير وتصرف كل منا سواء كان ذلك بصورة واعية ، أو غير واعية. هي كذلك منذ الولادة وحتى إسلام الروح. ولقد أشارت الآية الكريمة التالية إلى عقدة الموت عند الإنسان (وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).
    فكل مخلوق حي ، بفعل آليات تكوينه ، أو ما يسمونه بغرائز حفظ الذات والدفاع عن الحياة ، يحيد من الموت ويكرهه بل ويفر منه (قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم) (الجمعة : Cool.
    وما لم يجد الإنسان حلّا منطقيّا عقلانيا لفكرة الموت ، فإنها ستتحول وتتجذر في أعماق شعوره إلى عقدة مرضية ، هي من أهم وأصعب العقد النفسية المسيطرة على انفعالاته وتصرفاته ، والمصدر الأول لأكثر العوارض النفسية العصابية والذهانية واضطرابات الشخصية وفي طليعتها القلق والخوف المرضى.
    ولقد حاولت جميع المدارس الفكرية ، من فلسفية واجتماعية ونفسية تحليلية أن تفتش عن حل لعقد الإنسان : سبب مرضه وتعاسته ، وتجاهلت ، ربما عن قصد ، عقدة الموت الكامنة في أعماق كل منا ، لأنه ليس لديها

    بالتأكيد أي حل منطقي لها. وسنبين من خلال دراستنا القرآنية لعقد الموت كيف أعطى الإسلام حلا منطقيّا عقلانيّا لها ، وكذلك لبقية العقد النفسية.
    3 ـ العقد المتفرعة من عقدة الموت
    أ ـ عقدة قصر العمر : (ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر). (البقرة : 96).
    إن أصعب وأهم عقدة من العقد التي تتفرع عن عقدة الموت الأم هي عقدة قصر العمر ، ولا يشفي هذه العقدة إلا الاعتقاد الإيماني بأن العمر هو من قدر الله ، هو واحد ، لا تبديل فيه ، خلافا لبقية ما قدر المولى من أمور غيبية قد تطرأ على الإنسان وقد يبدل الله فيها ويغير حسب ما يشاء وتبعا لإيمان المكلف وعمله : (وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله كتابا مؤجّلا). (آل عمران : 145) أي كتابا مؤقتا فالعمر في هذه الدنيا هو مدة زمنية محددة بتوقيت معين مكتوب هو الأجل ولا تبديل فيها. وكنتيجة لعقدة الخوف من قصر العمر نرى تهافت أكثر الناس على متاع الحياة الدنيا ومحاولة الغنى من أقصر طريق ، والارتماء في أحضان الموبقات ، وكل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى. ومن خلال عقدة قصر العمر يعتقد أكثر المرضى وبعض الأطباء أن الطب يستطيع أن يطيل أجل الإنسان. وكم أسمعها يوميّا وتكرارا من بعض الأطباء أن هذا المريض أنقذناه من موت محتم وأعطيناه عمرا جديدا ، وهذا مريض سيموت حتما في خلال ساعات أو أشهر ؛ ومن الأفضل لراحة الإنسان أن يؤمن كل فرد ينشد الطمأنينة والسكينة بأن الله وحده هو الذي (يحيي ويميت) ، وأنه (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّا في كتاب ، إنّ ذلك على الله يسير) (فاطر : 11) ، وأنه (وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله كتابا مؤجّلا) ولا يصل الإنسان إلى إيمان ويقين كهذا إلا بعد دراسة كل آية من آيات الله

    دراسة علمية منهجية من خلال تربية إسلامية تبدأ في البيت وفي المدرسة وطيلة سني حياته.
    والواقع يثبت كل يوم صدق ذلك ، فكم من مريض حكم بعض الأطباء بقرب موته بل وحددوا توقيته ، وجاء الواقع يكذبهم ويدعوهم إلى التواضع والإيمان بالله الذي اختص بنفسه فقط معرفة طول أو قصر الآجال ومدة انقضائها ولحظة وقوعها : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل : 61) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان : 34).
    ولعل أكثر الاحصاءات الطبية تناقضا تلك التي نقرأها في المنشورات الطبية من أن هذا الدواء أو هذه الطريقة العلاجية تطيل عمر الإنسان.
    يجب أن يوقن الأطباء والمرضى أن الطب لا يشفي الإنسان من الموت ، ولا يبدل في الأجل المحتوم. فالطب هو لتحسين نوعية الحياة ، وتخفيف الآلام ، وشفاء العلل حتى انقضاء العمر ومجيء الأجل المحتوم الذي هو بعلم علام الغيوب فقط : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الواقعة : 83 ـ 87) لن يرجع الطب الروح إلى الجسد ، والله فقط يطيل العمر وينقصه ، ولقد كتب المولى طول العمر وقصره منذ تخلق الجنين في رحم أمه ، ثم لا يبدل فيه بعد ذلك.
    يجب أن يعرف ويوقن الكل أن الموت مخلوق في قدر الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).
    ولو فهم أكثر الناس والتزموا بما أمر به المولى وعقلوا معنى الحياة

    والموت وأيقنوا بالحياة بعد الموت لتخلصوا من أكثر مظاهر وأعراض أمراضهم النفسية والعضوية ولدخل شيء من السكينة في قلوبهم أمام كل خطر داهم يهدد حياتهم ووجودهم.
    ب ـ عقدة عذاب الموت : خلال محاوراتنا النفسية بحكم المهنة وجدنا أن كثيرا من الناس يصرحون لنا بأنهم لا يخافون الموت بحد ذاته ، ولكن ما يرعبهم وينغص عليهم طمأنينة بالهم هو العذاب الذي يسبقه ويصاحبه قبل وحين حصوله ، وهذا الخوف والرعب الذي لمسناه عند المرضى والأصحاء على حد سواء لا سبيل إلى تخفيفه والقضاء عليه إلا باليقين الإيماني بعدالة ورحمة وغفران الباري لمن يشاء من خلقه. نعم هناك عذاب يصاحب الموت ويسبقه ولكن للظالمين والمجرمين من الناس : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام : 93) ، أما المؤمنون من عباده ، فلقد وعدهم بأن موتهم سواء أكان موت الجسد أم الروح فإنه مختلف تماما عن موت الظالمين إذ لا عذاب بموتة الجسد أو الروح : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (الجاثية : 21) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : 88 ـ 91).
    إن المؤمن الموقن بالله والذي يجب أن يعرف ويدرس بل ويحفظ هذه الآيات لا مجال لأن تتحكم به عقدة عذاب الموت التي لا تخفيف لها ولا شفاء منها إلا بالإيمان.
    ج ـ عقدة ما بعد الموت أو خوف القبر وما يمثله : إن عصاب الخوف من الأماكن المقفلة التي لا يستطيع المريض السيطرة عليها والهروب منها

    كركوب الطائرة والمصاعد والقطارات والغرف المقفلة ودخول الدهاليز والأقبية المظلمة ، هو في جذوره خوف من الموت ومن القبر بالذات ، هذا المكان الضيق الذي لا سبيل للخروج منه ، وهذه الفكرة من أن كلا منا سيدفن في يوم من الأيام في مكان ضيق مظلم لا سبيل للخروج منه ، هي فكرة موجودة في شعور كل إنسان عاقل ، منذ أن وعى معنى الموت ، ويصاحبها شعوريا أو لا شعوريا كثير من التخيلات المزعجة خاصة فكرة عودة الحياة إلى الميت في القبر. ويحاول كل منا أن يمحو هذه التخيلات والأفكار المزعجة بنسيانها ودفنها في أعماق اللاشعور ، إلا أنها عند البعض وتحت تأثير أحداث متصلة بالموت تعود إلى الظهور وتشكل أعراضا عصابية كظاهرة الخوف بدون سبب معقول إلى أن يتبلور ويتستر هذا الخوف تحت عصاب الخوف من الأماكن المقفلة ، والذي هو في الحقيقة محاولة يحاول فيها الإنسان التخلص من عقدة الموت وعقدة الخوف من القبر بالذات.
    ليخضعوا المريض العصابي بمرض الخوف من الأماكن المقفلة للتحليل النفسي على طريقة «فرويد» أو غيره ، (وفرويد كان مصابا بهذا العصاب ولا ندري لما ذا لم يشف نفسه منه لا سيما وأنه واضع أسس التحليل النفسي؟!! وليعطوه ما شاءوا من المسكنات وما أكثرها ، وليهللوا ما شاءوا للنتائج الايجابية الشفائية! حسب آخر إحصاءاتهم لآخر طريقة نفسية علاجية طلعوا بها وهي معالجة عصاب الخوف من الأشياء بمواجهة المريض تدريجيا بما يخيفه ، فكل هذه الوسائل العلاجية هي وقتية ، إذ لا يشفي من عقدة خوف الموت وخوف القبر إلا الإيمان اليقيني بوجود حياة أفضل للمؤمن وأن الله هو ولي المؤمنين في حياتهم ومماتهم وما بعد مماتهم. وهو كما وعد لا يخلف وعده ، وكيف يمكن لقلب مؤمن أن يخاف من الموت وعقده وقد عقل معنى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المتعلقة بمعاني الموت وما ذا يحصل عند الموت وبعده (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:52 am

    تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). (فصلت : 30) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : 88 ـ 90) «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» (حديث شريف رواه الترمذي).
    إن المؤمن يبشّر بالجنة عند موته بل ومنذ احتضاره ، فإذا هو مطمئن البال ، قرير العين ، يواجه أصعب الأمراض وقت موته بقلب مطمئن ووجه وابتسامة مشرقة ، فلقد بدأت الحجب تسقط أمام عينيه ، وملائكة الرحمة وغيب ربه أصبح حقيقة يقينية أمام بصره وقت الاحتضار ، وأصحاب اليمين من معارفه وأقربائه والملائكة يطمئنونه بحسن المآب.
    د ـ عقدة خوف المرض ، الوسواس المرضي : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
    هي من أكثر العقد شيوعا فهي تمثل الظاهرة المقنّعة لعقدة خوف الموت من خلال المرض ، ولقد لمست طيلة ممارستي المهنية ، كثرة عدد المرضى المصابين بهذه العقدة وهي الأصعب والأزعج بالنسبة للمريض والطبيب على حد سواء ، فما أكثر المرضى الذين يطرقون عيادات الأطباء مرارا وتكرارا ، ويصرون على دخول المستشفيات ، لعوارض بسيطة برأي أكثر الأطباء ، ولا أجدها كذلك ، فهي أعراض ظاهرية طبية بسيطة في مظهرها بالنسبة للطبيب غير المختص ، أما في جذورها فترجع في أغلب الحالات إلى خوف المرض والموت المتستر وراءه. وما إن يطمئن المريض إلى أن ما يشكو منه ليس له علاقة بمرض خطير (هو بنظر العامة السرطان أو الأمراض القلبية والشلل) حتى يشفى ولو بدون دواء أو بأي دواء ذي فائدة وهمية بنظرنا نحن الأطباء ، فأكثر المرضى وخاصة العصابيين عند ما يطرق أحدهم باب عيادة الطبيب يريد أولا ، شعوريا أو لا شعوريا ، أن يطمئن على ذاته من خطر الموت قبل أن

    يسأل عن العلاج ، وكلنا يعلم كم من المرضى العصابيين وتحت ظواهر نفسية مختلفة ، يدخلون المستشفى وهم في أشد الحالات المرضية النفسية العصابية ، وبعد بضع دقائق أو ساعات وقليل من المصل أو حقنة مهدئة ، وفحوصات مخبرية وشعاعية مطمئنة ، يشفون ، ولكن لبعض الوقت. إنه الخوف من الموت ، والطبيب والمستشفى هما الشفاء من الموت باعتقادهم والحقيقة أن الطب يخفف الألم ويشفي من بعض العلل ، ولكن لم ولن يمنع الموت.
    عشرات المرضى من هذه النوعية ، ندعوهم بالموسوسين. يطرقون أبواب الأطباء والمشعوذين الروحيين ، متأبطين أكداسا من الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية ، عارضين العشرات من الأدوية والوصفات الطبية والتقارير الاستشفائية معذّبين ومعذّبين لأهلهم ومحيطهم الأسري ، كلما اختفت أعراض مرضية وظيفية من عضو في جسدهم ، ظهرت أعراض في موضع آخر. هؤلاء الموسوسون هم في الحقيقة يهربون من عقد خوف الموت المتأججة عندهم ، ولا شفاء لهم برأيي إلا من خلال معالجة نفسية تحليلية مرتكزة ومستندة إلى معطيات الإيمان الصحيح. إنهم أصعب المرضى معالجة بل هم «كابوس الأطباء» ومصدر ابتزاز من قبل بعض الأطباء ممن لا يلزمه ضمير مهني أو وازع إيماني!!
    ه ـ عقدة عدم الاعتقاد بالموت أو عقدة حب الخلود أو عقدة الخطيئة الأولى : إن عقدة حب الخلود (وهي الوجه المقابل لنفس العقدة : عقدة خوف الموت) هي من الطرق التي يحاول الإنسان غير المؤمن أن يسلكها للهروب من الموت ، محاولا بذلك شعوريا أو لا شعوريا تجنب وطمس كل شيء يذكره بالموت ، فينعكس ذلك مرضيّا على تصرفاته ، فنراه يجمع الثروات ويكدس الأموال ويقترف المظالم ويتشبث يائسا بالدنيا وكأنه سيبقى فيها أبدا.

    وعقدة حب الخلود هي النافذة التي من خلالها نفذ الشيطان إلى نفسية سيدنا آدم وزوجته ، فأغراهما بالمعصية وأطاعاه ، رغم أن المولى أعطى آدم كل أسباب السعادة في الجنة الأرضية التي كان فيها إلا الخلود (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (طه : 118 ـ 121).
    إن التخلص من عقدة حب الخلود ، ونحب تسميتها بعقدة «الخطيئة الأولى» لا يكون بالهروب اللاهث من الموت كمن يهرب من ظله بل بالاعتقاد اليقيني بقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فالموت بالنسبة للمؤمن هو نومة كبرى وانتقال من حياة دنيا ، هي حياة تكليف واختبار وبلاء ، إلى حياة فضلى خالدة. وما الدعاء الشائع اليوم : أطال الله عمرك ، إلا انعكاس دفاعي نفسي لتخفيف وقع الموت في نفس الإنسان. أما المسلمون الأوائل الذين عقلوا معنى الموت فكانت سبّة بالنسبة لبعضهم أن تنعت أحدهم بطويل الأمل في الحياة.
    ولا يستطيع الإنسان أن يمحو هذه التصورات المتجذرة في أعماق شعوره عن الموت وعقده إلا من خلال التسليم اليقيني بالآيات الكريمة المتعلقة بمعاني الموت وما يمثله ، ولا يمكن للإنسان أن يسلم عقليا بهذه الآيات إلا إذا اقتنع عقله علميّا بأن كل ما جاء في القرآن الكريم هو كلام الخالق ، ولا شيء يستطيع أن يقنع عقل الإنسان بكلام الله وخاصة إنسان اليوم ، إلا العلم ، وفي القرآن الكريم مئات الآيات العلمية التي سبقت العلم بقرون والتي جاء العلم يطأطىء الرأس أمامها ويسلم بأنها حقا من عند الله.
    من وجهة نظرنا نحن نرى أن لا شيء يجعل الإنسان يؤمن إيمانا ثابتا إلا بما يقنع به عقله ، ومتى اقتنع عقله ، خشع قلبه والتزمت جوارحه وتخلصت

    نفسه من عقدها ، وكل ما نحاوله من خلال كتاباتنا في مواضيع «بين القرآن الكريم والعلم» هو أن نقدم لعقل الإنسان المفكر البرهان الذي لا جدال فيه بأن القرآن الكريم هو من وجهة علمية وعقلانية ومنطقية بحتة كلام الله الذي لا ريب فيه ، لذلك يجب أن يقتنع ويلتزم بكل ما جاء فيه ، وليس ببعضه ، إذ لا يعقل أن يقول الإنسان صدق الله العظيم وهو يرى اليوم كيف يؤيد العلم مضامين ما أنبأت به مئات الآيات الكريمة في العلوم المادية ويطرح بقية الآيات التي ذكرناها أعلاه ولا يعتقد بها ، ومن يفعل ذلك فهو مصاب بازدواجية المنطق والتفكير ، والحوار مع من هو مصاب بازدواجية المنطق والتفكير ، أي منفصم الشخصية ، مضيعة للوقت.
    لقد أعطى الإسلام بصورة علمية وواقعية عملية من خلال القرآن الكريم والحديث والسيرة الشريفة الحل العقلي المنطقي ، لكل العقد النفسية وفي طليعتها عقدة الموت كما أثبت الواقع التاريخي ذلك ، إذ لو لا شفاء الإنسان المسلم المؤمن من عقدة الموت وبقية عقده ، لما استطاع المسلمون في خلال عشرات السنين أن يقوّضوا أركان الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية ويصلوا بفتوحاتهم إلى السند شرقا وفرنسا غربا. وهي فتوحات قامت على أساس التعاليم السماوية التي جاء بها الإسلام ، وليس السيف كما يدعي المغرضون ، فالتاريخ لم يعرف فاتحا أرحم من المسلمين كما قال المنصفون من المؤرخين الغربيين.
    ولن تقوم قائمة لهذه الأمة المسلمة ، أمة المليار فرد من حملة الهوية الإسلامية وهي اليوم في عداد الأمم المتأخرة ، وقد تداعت عليها الأمم «تداعي الأكلة إلى قصعتها» إلا عند ما ننشئ الإنسان المسلم من جديد ، تنشئة إسلامية منهجية علمية صحيحة ، فنمحو بذلك عقدة الموت ، وبقية العقد منه ونسمو به إلى عقيدة حب الجهاد ، وهي النقيض لعقدة الموت ، ولا يصل إلى هذه المرتبة إلا كل موقن بقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

    سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران : 169) (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (محمد : 4 ـ 6).

    (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ)

    رسم توضيحي للدماغ الحيواني (باللون الأصفر) مركز ومصدر الانفعالات الشعورية والتصرفات السلوكية : الغضب ، الانفعال ، التصرف ، اللذة ، الحبور والسكينة ... (مقطع جانبي : منظر داخلي)

    الفصل الرابع العقد النفسية :
    عقد الحرمان ، الحرص ، النقص والتعالي ،
    العقد الجنسية
    (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).
    (آل عمران : 14)
    «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع ...».
    (من دعاء الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام)
    «من أراد خير الآخرة وحكم الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها ، فليقتد بمحمد رسول الله ويستعمل أخلاقه وسيرته ما أمكن».
    (ابن حزم)

    (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ...)

    كل كتب علم النفس وأبلغ الأقلام لا تستطيع أن تقول بالكلمة ما تعبر عنه هذه الصورة من مشاعر الإنسان الطبيعية وهو يواجه الموت وجها لوجه

    1 ـ العقد النفسية
    عقباتها ، شهواتها ، أهواؤها ، الطاغوت النفسي ، الأرباب
    تعريف مبسط جدا بالعقد النفسية
    1 ـ منشؤها : لكل مخلوق حي حاجات رئيسية هي ضرورة حياتية لتأمين وجوده وتوفير سعادته ، وتمكين استمرارية نوعه نسميها مع التحفظ بالغرائز وهي أربع :
    غريزة حب الحياة والمحافظة عليها ، وحاجة أو غريزة حب التملك ، والحاجة أو الغريزة الجنسية ، وحاجة الحنان والعطف المتأتية من إحساس فطري بالضعف.
    والعقد النفسية الأساسية تنشأ من انحراف حاجات أو غرائز النفس الإنسانية الأساسية هذه نحو الفقدان أو المغالاة بفعل التربية البيتية والمدرسية الخاطئة أو العوامل الاجتماعية الظالمة.
    فمن غريزة الدفاع عن الذات أو حب الحياة والبقاء ، وبفعل الظروف الاجتماعية القاهرة أو التربية البيتية والمدرسية الخاطئة ، تنشأ عقد خوف الموت وما يتفرع عنها من عقد : كعقدة قصر العمر وعقدة عذاب القبر وعقدة الخلود ، وعقد خوف الأمراض ، وعقدة التعلق المرضي بالولد.

    ومن غريزة حب التملك ، وبفعل التربية البيتية والمدرسية الخاطئة أو الظروف الاجتماعية الظالمة تنشأ عقدة الشح ، وعقدة همّ المستقبل ، وخوف المستقبل ، وعقد النقص ، وعقد إيذاء الغير ، وعقد السلطة وحب السلطان ، وبعض العقد الجنسية. وقد تتحول هذه العقد إلى نقيضها كعقدة الإسراف والتبذير.
    ومن الإحساس الفطري بضعف الذات وحاجة كل نفس للحنان والعطف ، وبفعل التربية البيتية والمدرسية والظروف الاجتماعية تنشأ عقد النقص وخوف الغير وعقد إيذاء الذات والغير وبعض العقد الجنسية.
    ومن الحاجة أو الغريزة الجنسية وبفعل التربية البيتية والمدرسية والمفاهيم الاجتماعية الخاطئة تنشأ العقد والانحرافات الجنسية.
    بالإضافة إلى هذه الحاجات الضرورية هناك الكثير من الرغبات النفسية الفزيولوجية التي قد تتحول إلى عقد نفسية فرعية عند ما تجنح النفس الإنسانية بصاحبها إلى التعلق والمغالاة في طلبها.
    والعقد النفسية لا وجود لها إلا عند الإنسان وهو المخير دون سائر المخلوقات التي يسيّرها خالقها ، لذلك هي سوية في تصرفاتها السلوكية وسعيدة بتصرفاتها وأحاسيسها شرط أن لا تتدخل يد الإنسان المفسد في نمط سلوكها ومعيشتها.
    ولقد درجت العادة أن يسمي علماء النفس مصادر ومسببات الانفعالات الشعورية والتصرفات السلوكية المرضية بالعقد النفسية ، ولقد رمزت آيات الكتاب الكريم إلى هذه العقد النفسية بالعقبات والطاغوت ، والشهوات ، والأهواء ، والأرباب ، وفقا لما تيسر لنا فهمه من خلال محاولتنا المتواضعة لاستنباط ما أمكننا استنباطه ، وهو النزر اليسير جدا لمبادئ علم النفس من خلال كتاب الله الكريم : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما

    أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد : 11 ـ 17) والعقبة هنا تعني العقدة النفسية. والإشارة واضحة إلى عقبة الشح أي البخل.
    (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران : 14).
    هنا الشهوات تعني العقد النفسية أيضا ، وذلك عند ما تجنح الشهوة بالإنسان نحو المغالاة. والإشارة واضحة إلى العقد الجنسية وعقد الشح والسلطة وحب التملك.
    (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية : 23) والإشارة إجمالية إلى كل العقد.
    (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص : 26).
    (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات : 40) والواضح هنا أن كلمة هوى تعني أيضا عقدا نفسية.
    (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة : 31) والأرباب تعني عقدا نفسية.
    (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (النساء : 60).
    (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ...) (النساء : 76).

    (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (البقرة : 256).
    (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء : 60 ـ 61) ونعرف الطاغوت بأنه كل شيء يجعل من النفس سيدا على العقل. والعقد النفسية ما هي إلا طغيان الأهواء والمخاوف النفسية على العقل وسيطرتها عليه. ونحن نرى أن كثيرا من العقبات النفسية هي شعورية أي معروفة من أصحابها ، وليس كما يدعي بعض المحللين النفسيين من أتباع مدرسة فرويد أنها لا شعورية ، أي مجهولة ومدفونة في أعماق النفس الإنسانية ؛ ولكن حب المكابرة والتعامي عن الحقيقة يمنعان أكثر الناس من الرؤية الصافية في أعماق أنفسهم ليفهموا مسببات تعاستهم وأمراضهم وكلها وليدة ما كسبت أيديهم.
    2 ـ مسبباتها :
    إن فقدان أو انحراف أو عدم المعرفة بأسس التربية البيتية والمدرسية السليمة المبنية على مبادئ أخلاقية صحيحة مستمدة من تعاليم السماء الحقة ، السبب الرئيسي لنشوء وتجذر العقد النفسية عند الناشئة. وفي الإسلام نجد الأسس السليمة الواجب أن يعتمدها الآباء والمربون إذا أرادوا أن يتخلصوا هم أولا من عقدهم النفسية ، ويجنبوا أولادهم والناشئة أخطار الانزلاق في مهاوي العقد النفسية ، كما سنفصّله تباعا مع دراستنا لكل عقدة من العقد النفسية على حدة.
    وبرأينا أن الأنظمة الوضعية قد عجزت عن إيجاد الحل الشافي لهذه الحاجات الرئيسية الأربع دون طغيان أو كبت إلا النظام السماوي الذي جاء به الإسلام. ونحن نتحدى أي مناقشة علمية هادئة تستطيع أن تؤكد أن الأنظمة التربوية والاجتماعية التي تعمل بها الأمم جميعها والتي لا تستمد تعاليمها من

    الإسلام قد أمنت لأفرادها السعادة الحقيقية.
    3 ـ آلياتها ومظاهرها :
    هناك آليات تحاول النفس أن تتخلص بواسطتها من عقباتها ، وقد تنجح النفس في ذلك فيسمى ذلك بالتسامي ، وقد تفشل في ذلك فتتقنع العقبات النفسية تحت ظواهر وعوارض مرضية لا تخفي على مختص إذ تتحول العقدة إلى نقيضها من خلال ما نسميه بعملية التعويض ، كتحول عقد الحرمان المادي إلى عقدة الجشع والطمع والبخل ، وعقدة الضعف إلى عقدة الكبرياء والتعالي ، وعقدة الحرمان العاطفي إلى عقدة حب الإيذاء والشراسة والتعالي. وفي أكثر الأحيان تتداخل العقد النفسية مع بعضها فتتجذّر العقدة ونقيضها في النفس الواحدة ، وهذا ما نسميه بازدواجية الشعور والتصرف وما أكثرها عند أغلب الناس المرضى والأصحاء ، إلا أن الفرق بين المريض والصحيح هو في درجة الشدة والمغالاة والازعاج الذي تسببه هذه العوارض عند الأول منهم.
    وبرأينا أن الناس كل الناس هم مرضى نفسيون وإن اختلفت درجة المرض عندهم ، إن لم يتبعوا قولا وعملا التعاليم السماوية الحقة التي أنزلت على الأنبياء والرسل. فمقياس الصحة النفسية المتعارف عليه عالميا بين علماء النفس هو درجة سعادة الفرد وطمأنينته وسكينته. والإنسانية كانت ولا تزال قلقة وتعيسة حسب كل الإحصاءات ، ولا يستثنى من ذلك واستنادا إلى الواقع والإحصاءات إلا القلة ممن فهم والتزم بتعاليم السماء الحقة ، وبقدر ما يلتزم الفرد بتعاليم السماء الحقة (أي التي لا تتعارض مع كل منطق وعقل وعلم صحيح هي تعاليم الإسلام) يطمئن ويسعد. وبقدر ما يبتعد عنها يقلق ويشقى مصداقا لقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).
    ولقد حذر الرسول الكريم الناس من عقبات أنفسهم وعقدها في ما

    روي عنه قوله :
    «بئس العبد عبد تخيّل واختال ونسي الكبير المتعال».
    «بئس العبد عبد تجبّر واعتدى ونسي الجبّار الأعلى».
    «بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى».
    «بئس العبد عبد عتا ونسي المبتدا والمنتهى».
    «بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدّين».
    «بئس العبد عبد طمع يقوده ، بئس العبد عبد هوى يضلّه».
    «بئس العبد عبد رغب يزلّه». (رواه الطبراني والترمذي)
    2 ـ عقد الحرمان ، والحرص ، والنقص والتعالي
    1 ـ عقدة الحرمان العاطفي :
    (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
    (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) هذا ما أمرنا به المولى كي لا تتأصل عقد الحرمان في النفوس.
    فكل مخلوق حي هو بحاجة لدفقة من حنان وحب ورعاية ، من الضروري والمفروض أن يؤمنها له والداه أولا وأقرباؤه ثانيا وإخوانه من المؤمنين في الدين ثالثا ، فالمحبة والعطف والكلمة الطيبة هي من الضرورات الأساسية لحسن نمو واتزان الشخصية ، ليس على الصعيد الشعوري والسلوكي فقط ، بل والجسدي في أكثر الأحيان. لذلك نرى أن الإسلام من خلال القرآن والحديث وسيرة الرسول الكريم قد شدد على ضرورة المحبة والعاطفة الصادقة والأخلاق السمحة في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، وأعطى الرسول الكريم المثل الأعلى على ذلك من خلال حياته الشخصية ، فسيرته كلها تتصف بالمحبة والعطف والرفق بكل مخلوق من مخلوقات الله.


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:54 am


    والحيوان والنبات بحاجة للحنان والرعاية المادية والنفسية ، وليس الإنسان وحده ، وهذا شيء يعرفه أكثر المطلعين على حياة الحيوان والنبات. وفقدان المحبة عند الإنسان خاصة منذ ولادته وحتى انتهاء المراهقة ، غالبا ما يتحول إلى عقدة ، أو عقبة الحرمان العاطفي التي تنعكس سلبا على مشاعر الإنسان وتصرفاته حيال نفسه والآخرين. ومن مظاهرها الانطواء والخجل والتردد والقلق والكآبة النفسية والشراسة والميل إلى إيذاء الغير والذات. من هنا نفهم كثرة الآيات والأحاديث الشريفة التي تأمر بالمحبة والعطف والحنان قولا وعملا كي تجنب النفوس ، خاصة التي فقدت أحد مصادر الحنان الرئيسية : الوالدين ، خطر الانزلاق في عقد الحرمان العاطفي وسلبياتها المضرة فردا وجماعات :
    (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ). (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) (إبراهيم : 24 ـ 25).
    لا بل إن الإسلام شرّع بأنه ليس من الدين على شيء ، كل إنسان قادر لا يساعد غيره من أن يتردى في مهاوي عقد الحرمان العاطفي أو المادي :
    (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون : 1 ـ 3) .. والأحاديث في الحض على المحبة كثيرة جدّا نكتفي ببعضها :
    «والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا» (رواه مسلم).
    «من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله» (متفق عليه).
    «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (أبو داود).
    «من يحرم الرّفق يحرم الخير كله» (رواه مسلم).

    2 ـ عقدة الحرمان المادي :
    وقد أشارت إليها الآيات الكريمة التالية (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا).
    هذه العقد هي في بعض الأحيان متلازمة مع عقدة الحرمان العاطفي ، ومظاهرها في أكثرها «تعويضية» كالإسراف في المأكل والمشرب والتعلق المرضي بالأشياء الزائلة ومنها تتولد عقدة البخل ، وعقدة خوف الفقر وهي من أهم العقد ، وتشكل مع عقدة الموت أكثر العقد انتشارا في النفوس الإنسانية.
    ومن واقع المعرفة العميقة بالنفس الإنسانية والسلبيات القاتلة التي تتلازم مع عقبة الحرمان المادي وعقبة الحرص التي تنشأ عنها والتي هي الوجه المقنع لعقبة الحرمان المادي والعاطفي أيضا ، نرى الإسلام قد سن فريضة الزكاة ومعناها تزكية النفوس والدراهم ، وجعلها ركنا من أركان الإسلام ، بل وجعل مانع الزكاة من المشركين :
    (... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). (فصلت : 5 ـ 6) وحبّب الإسلام الإحسان إلى النفوس ، وكرّه الشح بعشرات الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المعروفة من كل الناس والتي يتجاهلها وينساها أكثرهم مع الأسف (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ). كما حدد التنزيل أن المعالم السوية للشخصية الإسلامية أن تكون وسطا في الإنفاق.
    (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).
    (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).
    (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
    والحمد لله أن هناك (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) على

    رأسهم الرسول الكريم والصحابة والصالحون من الأقدمين والمحدثين استطاعوا أن يتفادوا عقد الحرمان والحرص ، بل ويتساموا بغريزة حب التملك إلى فضيلة حب البذل والسخاء والعطاء حتى الإيثار على أنفسهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ولو التزم الناس بتعاليم الإسلام ما بقي بينهم فقير أو جائع.
    3 ـ عقد النقص أو الشعور بالانسحاق والخوف من الغير :
    وقد رمزت إليها الآية الكريمة التالية : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) إن الشعور بالنقص والضعف هو إحساس طبيعي عند كل مخلوق حي. وعلى الإنسان أن يتخلص تدريجيّا من هذا الإحساس مع اكتمال قواه الجسدية والعقلية والشعورية في نهاية المراهقة والدخول في مرحلة الرجولة والإنتاج ، شرط أن تيسّر له تربية بيتية صالحة ، ومجتمع عادل لا مكان للظلم فيه. فعقد النقص تتلازم في أكثر الحالات مع عقد الحرمان المادي والعاطفي أو العاهات والتشوهات الخلقية والمكتسبة ، أو التربية البيتية والاجتماعية الخاطئة ، أو هذه الأسباب مجتمعة ، ومن مظاهر عقد النقص الانعزالية والهرب والخوف من الغير ، والقلق الشديد أمام كل شيء جديد والشراسة وحب الإيذاء للذات والغير.
    ولقد لاحظنا أن التربية البيتية المرتكزة إلى قواعد الإيمان الصحيح المستمد من كتاب الله والحديث الشريف وسنة الرسول الكريم ، هي الأساس في تكوين الشخصية المتزنة للأطفال والأولاد. فاستئصال بذور الشعور بالنقص أمام الفوارق الاجتماعية والجسدية لا يكون إلا إذا اعتقد الإنسان بتعاليم السماء الحقة وهناك عشرات الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تساعد الإنسان على التخلص من عقد النقص شرط أن يعقل تعاليم الله ويلتزم بها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ). (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ

    الْغُرُورِ). (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وروي عن الرسول الكريم قوله : «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم). «كلكم لآدم وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» من خطبة حجة الوداع. «ربّ أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره» (رواه مسلم).
    فالإسلام في تعاليمه وقاية للنفس الإنسانية من خطر الوقوع في متاهات العقد النفسية والسبيل الأمثل للشفاء من هذه العقد في حال وجودها.
    وتجربتنا المهنية ، وكذلك تجربة بعض المدارس النفسية في علاجها للعقد النفسية ، أثبتت أن كل محاولة علاجية للعقد النفسية لا ترتكز إلى معطيات ومسلمات الإيمان الصحيح ، فاشلة ؛ وعلى الآباء والمربين أن يفهموا الجيل الطالع ضرورة الفروقات الاجتماعية لانتظام المجتمع استنادا لقوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). (الزخرف : 32).
    فكل عمل يقوم به الإنسان بضمير وإخلاص هو عمل مشرف ، ولا شعور بالنقص لدى القيام بأي مهنة فيها عمارة المجتمع ما دام المولى قد أمر بالعمل ويسّر كل إنسان لما يمكن أن يعمله.
    4 ـ عقدة التعالي والتكبر والغرور أو عقدة إبليس أو عقدة المعصية الأولى :
    وقد رمزت إليها الآيات الكريمة التالية : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ). (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان : 18 ـ 19).
    التعالي والتكبر والغرور من العقبات التي لا يحبها الله وهي مهلكة للنفس وللغير إذ غالبا ما تتلازم مع صفة الظلم والمولى حرم الظلم على نفسه وعلى عباده :

    «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» حديث قدسي.
    والإنسان منذ تكوّن شخصيته وحتى نضوجها يحاول التغلب على الشعور الطبيعي عنده بالضعف ، إلا أنه قد ينتقل ومن خلال عملية المقاومة النفسية التي ندعوها بالتعويض إلى حب الشعور بالقوة والسيطرة والتعالي المرضي ؛ وإذا لم يوازن الأهل والمربون في تربيتهم للأبناء بين شعور فطري بالضعف ونزعة شعورية بالتغلب على هذا الضعف من خلال حب وطلب القوة والسيطرة ، فقد تجنح أهواء الأبناء ورغباتهم إلى الاستقرار في عقد التعالي والتكبر والغرور ، وهي الوجه المقابل لعقد النقص والحرمان والحرص ومتلازمة في أكثر الحالات معها.
    ولا شيء كالتربية الدينية الصحيحة يستطيع أن يسلك بالنفس الإنسانية إلى مرتبة وسط بين عقد النقص والانسحاق وعقد التعالي والغرور. ومن أنشئ تنشئة دينية سليمة قلّما يقع في مهاوي عقد النقص والتعالي ما دام يعي ويلتزم بما قاله المولى عزّ وعلا : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) .. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ). (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً). (الإسراء : 37). وفي الحديث القدسي : «العز إزاري ، والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته» (رواه مسلم).
    3 ـ العقد الجنسية
    ولقد رمزت إليها الآية الكريمة التالية : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) (آل عمران) وفي الحديث الشريف : «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء» (رواه الترمذي).
    أرجع «فرويد» (طبيب نمساوي عاش في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) كل أحاسيس وتصرفات النفس الإنسانية

    الطبيعية والمرضية إلى الجنس والرغبة الجنسية والعقد الناتجة عنها ، وبنى مدرسة تحليلية نفسية قائمة على نظرياته هذه ، والتي لم يوافقه عليها ويتبعها إلا القلة من المهتمين بعلم النفس وأمراضها. ولقد أثبت الوقت والتجربة والنتائج في المعالجة النفسية حسب نظريات فرويد عدم صحة أكثرية نظرياته ، بل وخطورة تطبيقها وخاصة أنها معقدة وقد فهمت بصورة ملتوية من أكثر المتعلمين من الناشئة.
    وما كنا لنتطرق هنا ل «فرويد» ونظرياته لو لا الأثر السيئ المدمر الذي تركته في تصرفات الناشئة ، إذ فهموها دعوة إلى الإباحية الجنسية ، والتحلل من القيم الأخلاقية الحقة التي تدعو إليها الأديان السماوية ، والتي اعتبرها «فرويد» أوهاما وتعقيدا للناشئة إذ كتب يقول : «الدين هذا الوهم» ولقد حصدت بعض المجتمعات الغربية النتائج التي يعلمها الجميع في نفوس الناشئة التي حاول «فرويد» أن يحللها من عقدها النفسية ، فقادتها بعض نظرياته وربما الفهم الخاطئ لأكثرها ، وكذلك نظريات أكثر المدارس النفسية الوجودية والمادية الإلحادية ، إلى ما هي عليه اليوم من التردي في القيم الأخلاقية والأمراض الجسدية النفسية المعروفة من الجميع. ولا نرى «لفرويد» من أثر خيّر في علم النفس إلا أنه بلور بعدا جديدا في النفس الإنسانية هو اللاشعور وتأثيره المرضي المجهول في بعض التصرفات والانفعالات الإنسانية.
    إن الغريزة الجنسية هي حاجة أساسية كبقية حاجات النفس التي عددناها في بداية هذا الفصل ، ولكنها ليست كل الحاجات ، وجموح الغريزة الجنسية دون أي وازع ديني صحيح ، أو كبتها وطمسها ومنع التحدث عنها بفعل مفهوم أخلاقي أو ديني أو اجتماعي خاطئ هو الذي يقود إلى العقد النفسية الجنسية وينعكس سلبا على شعور الإنسان وتصرفاته.
    ولقد نظم الإسلام من خلال القرآن الكريم والحديث الشريف

    والسيرة ، الأسس الصحيحة للتربية الجنسية ، التي تكفل للفرد حياة جنسية سليمة بعيدة عن العقد ، وسنفصل ذلك لاحقا في كتاب «التنشئة الإسلامية وعلم النفس» إن شاء الله.
    أما القول بأن جميع أمراض النفس العصابية واضطرابات الشخصية وحتى الأمراض الذهانية نابعة من عقد جنسية تبدأ مع ولادة الإنسان وتمتد حتى سن المراهقة كما يدعي فرويد ، وحسب تجذر وبقاء هذه العقدة الجنسية أو تلك ، خلال المراحل التي يمر بها الطفل والولد والمراهق ، تنشأ الأمراض النفسية العصابية المختلفة ، فلقد أثبت الواقع ونتائج المعالجة النفسية التحليلية حسب مبادئ فرويد ، وبعد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن على اتباعها من بعض الأطباء النفسيين أن في مبادئ فرويد بعدا كبيرا عن معرفة ماهية النفس الإنسانية وتفهم أسباب العقد النفسية التي تتحكم في تصرفاتها.
    ولو سلمنا جدلا مع فرويد وأتباع مدرسته بإرجاع أغلب مظاهر الأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية إلى عقد جنسية متأصلة ومتجذرة فينا منذ الولادة وحتى البلوغ ، واستطعنا أن نقنع المريض بقبول المعالجة النفسية التحليلية على طريقته [وهذه تتطلب على الأقل وباعترافهم أنفسهم مدة ثلاث سنوات من المعالجة المستمرة وبمعدل ثلاث جلسات في الأسبوع مع نتيجة غير مضمونة طبعا ، ومبلغا باهظا من الأتعاب الطبية يجب أن يدفعه المريض ، إذ حسب مبادئ فرويد في التحليل النفسي ، يجب أن تصدم المريض النفسي وتدفّعه غاليا ليشفى ، كيف لا وهو اليهودي في تربيته ومعتقده؟].
    وبعد ثلاث سنوات من المعالجة المستمرة والنزف المالي الدائم ، يصل المريض النفسي إلى أن يكتشف بنفسه إحدى العقد الجنسية الدفينة التي ترجع

    إلى إحدى مراحل طفولته ، وبذلك حسب زعمهم يشفى! هنا نسألهم ونتساءل : ما ذا يفعلون بعقد الموت وكيف يحلونها وهي برأي الجميع من أهم وأعقد العقد النفسية الظاهرة ، أو الدفينة في النفس الإنسانية والتي لا سبيل لحلها برأينا إلا عن طريق الإيمان بوجود حياة أخرى غير حياتنا الدنيا هذه.
    أ ـ الإباحية الجنسية وبدعة التربية الجنسية المدرسية
    ولقد كان من نتيجة نظريات فرويد ، في الجنس والعقد الجنسية ، ردّة إباحية في أكثر المجتمعات الأوروبية والغربية انعكست سلبا على متبعيها من الأفراد والجماعات ، فكل العاملين في الحقول الاجتماعية والمؤسسات التربوية والمعالجات النفسية ، يعرفون اليوم أن أكثر الإباحيين من الذين ينظرون إلى الجنس وممارسة العلاقات الجنسية من زاوية العرض والطلب كتدخين سيجارة ، أو شربة ماء ، أو اتباع لغريزة ، هم في أكثرهم مرضى نفسيون من المصابين بالهوس الجنسي. وفي الحقيقة هم مرضى العجز الجنسي في أكثر الأحيان ، وما تصرفهم الإباحي إلا تصرف تعويضي لإخفاء أو محاولة شفاء من عجز جنسي يحاولون عن طريق الإباحية التخلص منه ، ولم ولن يتخلصوا من عجزهم الجنسي عن طريق كهذه.
    ذلك أن أغلب الأمراض النفسية من عصابية وذهانية واضطرابات في الشخصية يصاحبها في أكثر الأحيان اضطرابات في العملية الجنسية. أما قول البعض من الإباحيين في العلاقات الجنسية ، بأن الإنسان يصبح مريضا نفسيا لأنه لا يمارس الجنس فهو مردود في أكثر الحالات ، إذ ليس الجنس وممارسته هو المتنفس الوحيد للراحة النفسية كما يزعم هؤلاء بل إن الراحة النفسية الحقيقية هي فهم النفس لذاتها والاطمئنان لحاضرها ومستقبلها والتفهم لمعنى وجودها ، ومعطيات كهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال السلوك بالأفراد والجماعات في طريق الإيمان الصحيح الذي يعطي

    كل إنسان الجواب المطمئن لمعنى وجوده في هذه الحياة الدنيا وما ذا ينتظره بعد موته.
    برأينا ، إن الناس ، كل الناس ، غير المؤمنين قولا واعتقادا وعملا بالله واليوم الآخر وتعاليمه ، هم من المرضى العصابيين أو من مضطربي الشخصية سواء ظهرت أعراضهم للعيان أو تسترت تحت كثير من التصرفات التعويضية التسترية التي لا تخفى على لبيب ، فالمقياس الذاتي للصحة النفسية ، هو السعادة ، أي هذا الشعور الداخلي شبه الدائم بالطمأنينة ، وشعور كهذا لا يوجد إلا عند المؤمنين حقّا ، وهذه حقيقة لا جدال فيها يعرفها جيدا من ذاق طعم السعادة الحقيقية ، بل ومن أصدق من الله قيلا في تحديد مقاييس السعادة والصحة النفسية :
    (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس : 62 ـ 64).
    ب ـ بدعة التربية الجنسية المدرسية
    ولقد كان آخر ما وصل إليه أنصار الإباحية الجنسية أنهم أدخلوا ما سموه ب «التربية الجنسية» إلى المدارس الابتدائية والتكميلية والثانوية منذ سنوات ، ووصلت بضاعة كهذه من حضارة الغرب إلى بعض مدارسنا الخاصة ، وبدأ الأهل والأطباء النفسيون وأطباء الأمراض النسائية والتوليد يعانون من آثارها المدمرة.
    تحت شعار عدم تعقيد الناشئين ، عقّدوهم جنسيا بتربيتهم الجنسية ، وتحت شعار محاربة الجهل ، والظلام ، فتحوا عيون أولادنا وفلذات أكبادنا من المراهقين والمراهقات على حقائق لا فائدة منها أن تعرف إلا في حينها ، أي عند الزواج واكتمال النضج النفسي قبل الجسدي ، بل من الحقائق ما هو السم في الدسم.

    ما ذا ينفع أولاد التاسعة والعاشرة ، أن يشرحوا لهم في حصص التربية الجنسية في المدارس ، شكل وعمل وتركيب الأعضاء الجنسية والحيوان المنوي والبيضة وعملية التلاقح ، وفي هذه السن المبكرة من العمر؟
    أما حصص التربية الجنسية في الصفوف الثانوية ، فقد تحولت في بعض المعاهد في أوروبا إلى دروس عملية تطبيقية أمام الجميع وأحيانا بواسطة الوسائل السمعية البصرية!!!
    وما ذا كانت النتيجة؟ ألوف الحالات من الاجهاض السفاحي أسبوعيا في أغلب البلدان الأوروبية وأكثرها عند المراهقين. مئات الولادات من الأطفال الذين لا يعرفون آباءهم ، وأمراض نفسية وجنسية في نسبة تصاعدية مذهلة عند المراهقين والمراهقات ، واستهلاك لمئات الأطنان من حبوب منع الحمل من قبل المراهقات ابتداء من حياتهم الجنسية التعيسة هذه.
    نحن نعتقد أن العملية الجنسية ، هي في الحقيقة عملية فيزيولوجية في أسسها ومرتكزاتها أي غريزية لا تتطلب تربية جنسية مدرسية ، فهي كعملية الطعام أو التنفس ، وفي التربية الدينية البيتية والمدرسية النيرة المنفتحة ، وليست المتزمتة ، جميع الأجوبة والحلول العقلية المقنعة لجميع التساؤلات التي قد يطرحها أولادنا علينا في البيت أو في المدرسة حول ما يتعلق بالجنس وعلاقة المرأة بالرجل.
    ولقد وجدنا أن أبعد الأفراد من الأولاد والمراهقين والبالغين عن المشاكل والمعاناة من العوارض المرضية النفسية ، ليسوا بالضرورة هم المنفتحين والعارفين بحقائق الحياة الجنسية وممارستها قبل الزواج بل العكس من ذلك تماما.

    4 ـ طغيان الإنسان
    (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (العلق : 6).
    هذا هو الإنسان ، إنه يطغى في كل شيء ، عند ما يجد في نفسه القدرة على ذلك ، فيضيع في متاهات العقد النفسية ، فيصبح تبعا لأهوائه وشهواته وطاغوته النفسي.
    كان وما يزال كما وصفه أعلم العالمين به : هلوعا ـ جزوعا ـ منوعا ـ ظلوما ـ جهولا ـ فخورا ـ مغرورا ـ قتورا ـ كفارا ـ مفسدا ـ سفاكا للدماء ـ لا عزم له ، إلا من أسلم قيادته لله. والإسلام هو التزام وعمل بتعاليم السماء الحقة ، وتعاليم السماء الحقة لا تتعارض مع العلم ، بل هي العلم الحق ، وكل علم ثابت يؤكد أن كل ما جاء في القرآن الكريم هو الثابت والحقيقي في كل مجالات العلوم.
    والإسلام إذا فهم ودرّس وطبق بصورة منهجية علمية في البيت والمدرسة والمجتمع ، هو وحده القادر كنظام سماوي متكامل لا ثغرة فيه على أن يخلص الإنسان من كل عقده النفسية ، بل يتسامى بها فيحول عقد الموت وحب الحياة إلى فضيلة الجهاد وطلب الشهادة ... وعقد الحرمان والنقص والتعالي ، إلى فضائل المحبة الصادقة والثقة بالنفس والتواضع والصبر ، وعقد الحرص والشح إلى فضيلة الإحسان والإيثار ، وعقد الجنس إلى فضيلة العفة والترفع عن كل شهوة جنسية آثمة.
    وتاريخ الإنسان العاقل فردا وجماعة ، منذ أن وجدت الإنسانية وحتى يومنا الحاضر هو خير تصديق لما أشرنا إليه أعلاه مصداقا لقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

    (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ)

    مرارة عقد الحرمان المادي والعاطفي وظلم الإنسان وطغيانه نحو الغير نقرأها على وجه هذه المرأة

    الفصل الخامس
    الأمراض النفسية والعقلية
    (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
    (المنافقون : 4)
    «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان». وفي رواية أخرى : «وإذا خاصم فجر».
    (حديث شريف ـ رواه الترمذي)
    «يهدم الإسلام بثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضللون».
    (عمر بن الخطاب)


    العلم علمان : علم مادي يخضع للتجربة ويقع تحت سلطان الحواس ، وعلم إنساني عقلي وشعوري. والباحث في آيات الله الكريمة يجد أنها تطرقت إلى مختلف فروع العلم التي عرفها أو سيعرفها الإنسان : فهناك آيات كريمة رسمت الخطوط الرئيسية للعلوم المادية كعلم الأجنة ، والوراثة والفلك ، والجيولوجيا ، والنبات ، والحيوان ، وغيرها ، هي وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم لم يفصلها التنزيل ؛ لكن المولى سبحانه وتعالى أمر الإنسان وأهّله بما أودعه فيه من عقل مفكر لاكتشاف تفاصيلها : (خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ). (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).
    أما في حقل العلوم الإنسانية ، كعلم النفس والقانون والاجتماع والعقيدة والأخلاق وغيرها ، فالباحث يجد في القرآن الكريم ، والسنة والحديث الشريف تفصيل كل شيء. وما على الباحث في هذا الحقل إلا شرح واستنباط وبرمجة النصوص ، وذلك ، تقديرا من المولى ، وهو الأعلم بمن خلق ، من أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة في حقل العلوم

    الإنسانية بواسطة عقله فقط ، وما أنزلت الكتب السماوية ، وهي في الحقيقة كتب الصيانة للأفراد والمجتمعات ، إلا لإصلاح النفوس وإرشادها إلى السبل التي تسعدها ، والابتعاد عن السبل التي تشقيها. فمن الطبيعي إذن أن نجد في القرآن الكريم ، الوصف الأوجز والأبسط والأعمق والأصح للعلل النفسية وأسبابها وطرق علاجها.
    ولقد استخلصنا في الفصول السابقة ، أسباب العلل النفسية وسبل علاجها إيمانيّا ، ونحاول في هذا الفصل أن نستخلص قدر ما يسره المولى لنا ، بعض النماذج للأمراض النفسية كما دل عليها كتاب الله الكريم.
    1 ـ أمراض الشخصية
    1 ـ تعريفها :
    الشخصية هي مجموعة الميزات السلوكية والتصرفات والأحاسيس الشعورية واللاشعورية والأفكار والتصورات العقلية ، هي الفكرة الكلية ، غير الثابتة ، أو المستقرة ، التي يكوّنها كل إنسان عن ذاته وذات الآخرين. ومن أصعب وأجمل الأشياء ، أن يعرف الإنسان حقيقة ذاته والآخرين ، وفي القرآن الكريم نجد الوصف الحقيقي للذات الإنسانية بكل مقوماتها ومسببات شقائها وسعادتها.
    2 ـ معالم الشخصية السوية :
    مئات المجلدات كتبت وستكتب حول تحديد معالم الشخصية السليمة ، وعلماء النفس لم يتفقوا في ما بينهم على نموذج معين من الشخصيات السليمة ، بل ذهب البعض منهم إلى القول بأنه لا توجد شخصية سليمة بالمعنى الحرفي للكلمة. ففي كل نفس جوانب مريضة لا تخفى على لبيب ، ونرى أن أحسن تعريف جامع للشخصية السليمة بأنها الشخصية

    السعيدة بذاتها والتي تسعد الآخرين ولا تؤذيهم ، وهي في مثلها الأعلى تمثلت بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وصفه التنزيل بالقول (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) كذلك شخصية بقية الأنبياء والرسل وشخصيات الصديقين والأولياء الصالحين من المؤمنين.
    بكلمة مختصرة نعرّف الشخصية السليمة بأنها الشخصية المؤمنة حقا أي قولا وفعلا والتزاما وما عدا ذلك فنحن نوافق علماء النفس بأنه لا توجد شخصية سليمة بالمعنى الحرفي للكلمة.
    ولقد حدد القرآن الكريم معالم الشخصية السليمة بعشرات الآيات متفرقة ومجتمعة نكتفي بهذه الآيات من سورة الفرقان ، إذ يجد فيها كل دارس في علم النفس موضوع أطروحة «في معالم الشخصية السليمة» :
    فالشخصية السوية هي شخصية عباد الرحمن الذين لا يتكبرون ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).
    الشخصية السوية هي الشخصية المؤمنة وهذه بعض صفاتها (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).
    والشخصية السوية هي الوسط بين الإسراف والاقتار في الإنفاق (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).
    والشخصية السوية هي القانتة التي لا تعبد إلها إلا الله وما أكثر الآلهة التي يعبدها الناس ، فالنساء والبنون والمال والشهوات والطاغوت ، هي آلهة أكثر الناس قديما وحديثا وليست أصنام الجاهلية فقط : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَزْنُونَ).
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:55 am

    والشخصية السوية هي الأوابة التي لا تتشبث بأخطائها وذنوبها إذا ضعفت أمام إلحاح النفس الأمارة بالسوء ، بل ترجع إلى الله وتستغفره : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران : 134 ـ 135).
    والشخصية السوية هي الصادقة التي لا تكذب ولا ترتكب المعاصي التي حرمها المولى (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً). (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
    والشخصية السوية هي العاقلة العالمة تتدبر آيات الله وأحكامه فتفهمها فهما سويّا نيرا علميا بالعمق ، وليست تلك الشخصية المتشنجة ، المتعصبة التي تفهم وتطبق أحكام الله من خلال عقدها وجهلها وتعصبها الأعمى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).
    وروي عن الرسول الكريم قوله : «ليس منا من دعا إلى عصبية ، ومن قاتل على عصبية ، ومن مات على عصبية».
    والشخصية السوية هي الرحيمة التي تشفق على أفراد عائلتها من الضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى فتعمل على أن تؤمن السكينة للزوجة والزوج والأولاد ، فالعائلة هي نواة المجتمع ، وبصلاحها تصلح المجتمعات (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (الطور : 26 ـ 27) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

    والشخصية السوية هي الملتزمة التي استطاعت أن تلتزم بوصايا الله التي نجدها مجموعة في ثلاث آيات كريمة من سورة الأنعام ، فليحفظها وليعمل بمضمونها كل من يريد أن يكون سويّ الشخصية : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (الأنعام : 151 ـ 153).
    وبقدر ما تقرب النفس الإنسانية من هذه الصفات وتعمل من خلال مضمونها ، تتقرب من صفة الشخصية السليمة السوية أي المؤمنة ، وبقدر ما تبتعد عن هذه الصفات قولا وعملا ، تصبح شخصية مريضة. وتختصر صفات الشخصية السوية الآية الكريمة الجامعة (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب : 35).
    3 ـ الشخصية المريضة :
    للشخصية المريضة أسماء كثيرة في كتب علم النفس ، إذ تدرس تحت أسماء : عصاب الشخصية ، والشخصية غير المتزنة ، والشخصية اللاأخلاقية ، ونحب أن ندعوها نحن ب «الشخصية المنافقة». وقد وصفها القرآن الكريم أشمل وأوجز وأدق وصف ، وكشف خبايا ميزاتها في العشرات

    من الآيات الكريمة ، مفصلا كل سمة من سماتها المرضية.
    ولو درس كل مهتم بالأمراض النفسية كل ما كتب عن الشخصية المريضة ، وما أكثر ما كتب عنها ، لما استطاع أن يكوّن عنها الفكرة الصحيحة العميقة الموجزة كتلك التي يجدها في كتاب الله الكريم.
    أ ـ الشخصية المريضة بصورة إجمالية
    للشخصية المريضة ، نماذج عدة ، تبعا لسيطرة إحدى السّمات المرضية فيها على بقية السّمات إلا أنه يجمعها قاسم مشترك هو فقدان الإيمان الصحيح.
    والشخصية المريضة مسئولة عن أعمالها في الدنيا والآخرة : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأحقاف : 26).
    والشخصية المريضة ، هي حالة حدود بين المرض والصحة بالمعنى المتعارف عليه في علم النفس ، إذ نادرا ما تشعر أو تعلم أو تعترف هذه الشخصيات بعدم اتزانها ما دامت تجد متنفسا لتنفيذ غاياتها وأهوائها ونزواتها اللاأخلاقية من خلال الأفراد الذين تتعايش معهم ، أما إذا جابهها الغير ورفض الانصياع لرغباتها ونزواتها وأهوائها المريضة ، فقد تصل هذه الشخصيات غير المتزنة إلى عيادة الطب النفسي ، ولكن بعد الكثير من المآسي الاجتماعية ، فهي حينئذ «محطّمة محطّمة» «معذّبة معذّبة» ، لكنها بعد فترة لا تلبث أن تعاود سيرتها الأولى من إيذاء الغير ودون أي شعور بالذنب ، بل على العكس فإنها تعتبر نفسها ضحية أخطاء وذنوب الغير ، إنها من أصعب النفوس علاجا وأشدها إيذاء للمجتمع. وتنبيها لنا من المولى عزّ وعلا إلى خطورة هذه الشخصيات اللاأخلاقية على المجتمع نجد في كتابه الحكيم

    عشرات الآيات التي رسمت صفات هذه الشخصيات ، لا بل إن المولى سمى بعض السور الكريمة بأسماء بعض النماذج منها تحذيرا من خطورتها ، كسورة «المنافقون» و «المطففين» و «الكافرون».
    ب ـ الشخصية المريضة بصورة تفصيلية
    هي الشخصية المنافقة ذات الوجهين : كاذبة ، تتستر وراء الدين والتقى لتصل إلى مآربها الخسيسة : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
    وقد ينخدع بعض الناس بجميل مظهرها الخارجي وحلاوة أقوالها ، ظاهرها جميل وباطنها فارغ أجوف عفن : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). «وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (حديث شريف).
    وهي الشخصية الجبانة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
    وهي الشخصية المكابرة ، المغرورة ، المتعالية التي يئست من رحمة الله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون : 5).
    وهي الشخصية المفسدة ، التي تعيث في الأرض فسادا ، وبالرغم من ذلك لا تشعر بإفسادها ، بل تعتبر نفسها مصلحة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).
    وهي الشخصية المشككة المرتابة بكل شيء ، بالله والناس : (فِي

    قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (شك) (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً). (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً). (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ).
    ولقد وردت جملة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اثنتي عشرة مرة في القرآن الكريم وفي أكثر معانيها تعني النفوس المشككة ، سيئة الظن بالمولى ورسوله والناس.
    وهي شخصية كل (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، وكل (حَلَّافٍ مَهِينٍ) وكل سفيه في القول والتصرف ، وهي لا تعرف ذلك بل تسفه الإيمان الفطري السليم عند الغير : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة : 13).
    وهي الشخصية المطففة ، شخصية قوم شعيب من المطففين ، وما أكثر المطففين في يومنا الحاضر.
    (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين : 2 ـ 3).
    وهي الشخصية القتورة ، البخيلة وإن تظاهرت بالعكس العكس : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) (المنافقون : 7).
    وهي الشخصية المتذبذبة بين الإيمان وعدمه إذ تتبع ما يتناسب مع أهوائها ورغباتها في مسألة الأوامر والنواهي الإيمانية ، وتترك ما يتعارض ونزواتها الشخصية ، إذ تصلي وتزني ، وتنفق على الغير علنا رئاء الناس وتسرق في الخفاء وتأكل الربا :
    (يَكادُ الْبَرْقُ) (هنا بمعنى تعاليم القرآن الكريم) (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ، كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) (البقرة : 20).

    أما إذا اجتمعت كل هذه الصفات المرضية بصورة بارزة ومسيطرة في شخصية واحدة ، فهذه هي شخصية أكثر الطغاة وأعداء المجتمعات على مر التاريخ وحتى يومنا الحاضر فهم : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). أما مصيرهم في الدنيا والآخرة فهو المذلة والمهانة والعقاب : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ). (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).
    هذا غيض من فيض من أوصاف الشخصيات المريضة علما أنّ في أعماق كل نفس غير مؤمنة حقا شيئا من صفات هذه الشخصية المريضة التي رسمنا خطوطها العريضة ولا سبيل للتخلص من هذه الصفات قبل استفحالها إلا باتباع سبل الهداية الموجودة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وكل علاج نفسي لا يعتمد على ذلك هو وقتي غير مجد ، والتجربة والواقع يصدّقان ذلك.
    2 ـ الأمراض النفسية العصابية
    المريض النفسي العصابي ، يختلف عن مريض الشخصية ، بأنه يعرف ويشعر ويعترف بأنه مريض في أحاسيسه وأفكاره وتصرفاته ، ونادرا ما يهدم الغير ويؤذيه ، بل يبقى على اتصال وتعامل مع محيطه ضمن القوانين السائدة فيه ، وهو يطلب المساعدة والعلاج.
    لن نتوقف أمام مختلف الأمراض النفسية العصابية ، من عصاب القلق إلى عصاب الخوف والهلع إلى عصاب الهستيريا وغيرها ، إذ يجمعها قاسم مشترك وهو القلق والخوف من المجهول ، ولقد فصلنا في الفصول السابقة نشأة وجذور وعلاج هذا الخوف من الأشياء المجهولة والمعلومة ، فكل الأمراض العصابية ترجع في جذورها إلى عقد النفس الأساسية ، كعقد الموت ، وعقد الحرمان المادي والعاطفي وعقد النقص والتعالي والعقد الجنسية وغيرها ...

    عصاب الوسواس
    نتوقف قليلا عند عصاب الوسواس أو ما يسمى بعصاب السلوك والتفكير الجبري ، وهو من أشد الأمراض العصابية إزعاجا وأصعبها علاجا كما هو معروف في علم النفس.
    فعصاب الوسواس متجذر في أعماق النفس الإنسانية ، ويرجع في منشئه إلى عقد الموت بصورة رئيسية ، وعقد النقص والخوف من الغير وحب الظهور وعقد الحرص والحرمان بصورة ثانوية. وقد يكون للعامل الوراثي بعض التأثير ، إلا أن التربية البيتية من قبل أهل هم أيضا «موسوسين» هو العامل الرئيسي في تنشئة وتجذر وصعوبة علاج الوسواس ، كما وأن التحليل النفسي على طريقة «فرويد» أو غيره والمعالجة الكيميائية بالعقاقير ، أو المعالجة السلوكية بمواجهة المريض تدريجيا بما يخفيه ويتوسوس منه ، أثبتت كلها بعد عشرات السنين من اتباعها ، عدم جدواها أو فاعليتها المؤقتة ، ولو لم يكن الوسواس بهذه الدرجة من الإزعاج وعدم الاستجابة للمعالجات الوضعية لما أمر المولى الناس عامة والموسوسين منهم خاصة بالالتجاء إليه وإلى تعاليم كتابه في سورة مخصصة «بالوسواس» هي إحدى المعوذتين :
    (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
    وقد وجدنا من خلال تجربتنا العلاجية في حقل الأمراض العصابية ، وخاصة عصاب الوسواس ، أنه لا شيء يجدي بصورة دائمة إلا المعالجة النفسية التحليلية المستندة إلى ما ندعوه مبادئ التحليل النفسي المستخلصة بصورة علمية ومنهجية من كتاب الله والحديث والسنة ، وكل محاولة تحليلية نفسية تتعارض مع هذه المبادئ الإيمانية هي مضيعة للوقت والمال. وإحصائيات المهتمين بالتحليل النفسي تؤكد ما أشرنا إليه أعلاه.

    3 ـ الأمراض العقلية الذهانية والتخلف
    العقلي وفقدان القوى العقلية
    إن الأمراض العقلية كالذّهان الدوري والهلوسة الحادة والمزمنة وانفصام الشخصية ، والتخلف العقلي الخلقي والاكتسابي ، هي أمراض عضوية ناتجة عن خلل في وظيفة الخلايا الدماغية وإن كانت عوارضها فكرية شعورية أو سلوكية ، لذلك يجب أن نفصلها عن الأمراض النفسية كما فصلناها سابقا ، ولقد سمح المولى باكتشاف بعض سبل معالجتها بالمواد الكيميائية منذ عشرات السنين فقط. وعلاجها كغيرها من بقية الأمراض العضوية يكون بسؤال أهل العلم والاختصاص التزاما بقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
    أما فقدان القوى العقلية في سن الشيخوخة الناتج عن تدمير في الخلايا العصبية وضمور في الدماغ فلم يكشف العلم حتى الآن وربما لن يكتشف أبدا أي دواء فعال له ، مصداقا لقوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يس : 68). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج : 5).
    4 ـ أمراض المس الروحي
    إن ما يسمونه دجلا بالطب الروحي ، هو تجارة رابحة تمارس بصورة علنية على أيدي المنافقين والجهلة والمشعوذين في لبنان والعالم ، أما العارفون بحقيقة الطب الروحي فهم القلة النادرة جدا يعرفهم النزر القليل من الناس ، ولا يعلنون عن أنفسهم وعن قدراتهم الروحية ، ولا يتقاضون أجرا إلا ممن وهبهم هذه القوة الروحية الشافية المولى سبحانه وتعالى فهو وحده جلت قدرته (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ).
    كل يوم يطرق باب عيادتنا العديد من المرضى النفسيين الذين تنقلوا بين

    عيادات الطب الروحي المنتشرة في بيروت ولبنان أو العالم ، ولم يلتجئوا إلى الطبيب النفسي المختص إلا بعد أن استنفدت ، بصورة احتيالية ، أموالهم وساءت حالتهم المرضية ، وما كنا لنتطرق لموضوع «المس الروحي» لو لا كثرة الأفكار المغلوطة عنه عند أكثر الناس حتى المؤمنين منهم.
    فمن الوجهة القرآنية : إن المس الروحي لا يستطيع أن ينكرها المؤمن ما دمنا نجد في كتاب الله الكريم ما يؤيدها نصّا :
    (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (البقرة : 275).
    (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ... فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (البقرة : 102).
    فالمس الروحي يكون بفعل إبليس وجنوده من الجن غير المؤمن ؛ وإن حصل ، ونادرا ما يحصل فلا تأثير له إلا في النفوس غير المؤمنة. والنصوص القرآنية واضحة في هذا المعنى (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الاسراء : 64 ـ 65) (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل : 98 ـ 100).
    ومنعا لكل جدال ، وبكل بساطة نقول لكل مؤمن ضعيف الإيمان ، أو مدعي الإيمان ، أو غير مؤمن : إذا كنت تعتقد بالمس الروحي فما عليك إلا الالتزام بتعاليم المولى والاطلاع والتعمق في فهم الآيات التي ذكرناها أعلاه وسوف تشفى.

    أما ما نقرأه في بعض كتب التفاسير من أن الرسول الكريم قد سحر وخالطه لبعض الوقت شيء من المس الروحي فهذا من الروايات الملفقة نقلها بعض المفسرين ، سامحهم الله ، في كتبهم. فالرسول الكريم هو كما وصفه التنزيل : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ).
    وأما معنى الآية الكريمة التالية : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) التي اعتمدوها لمقولتهم هذه ، فنحن نفهمها بأن المولى يطلب إلى المؤمنين الالتجاء إليه من شر النفوس التي تريد أن تفصم عرى عقد المحبة والألفة بين الناس.
    وبما أن لكل عموم خصوصا ، ولكل قاعدة استثناء ، فلقد سمح المولى لإبليس أن يمس نبيه أيوب بلاء منه ، ودرسا في الصبر لكل مؤمن : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).
    وأما بقية المس الروحي كأذى العين الحاسدة ، فهو حقيقة لا ننكرها ما دام هناك نص قرآني صحيح في هذا المعنى (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) وفي الحديث الشريف : «العين حق». وما على الإنسان إذا تخوف من المس الروحي إلا اللجوء الصادق إلى المولى من خلال الالتزام بتعاليمه. والمعوذتان من آيات الشفاء للمؤمنين من المس الروحي إذا تسربت لأنفسهم هذه الأفكار الوسواسية وغالبا ما تتسرب ، علما أن المس الروحي الصحيح هو حالات نادرة جدا إذ لم نستطع أن نقع خلال عشر سنوات على أي حالة حقيقية ، كما أن أكثر الذين يمارسون تجارة الطب الروحي في لبنان هم حسب خبرتنا من المشعوذين والمرضى النفسيين ، والله أعلم بهم ولله الحمد.


    الفصل السادس
    مفهوم المصيبة على ضوء الهدي القرآني
    (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا).
    (قرآن كريم)
    «لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما بعفو الله عن أكثر»
    (حديث شريف ـ رواه الترمذي)
    «كل مصيبة تصيبني في مدرسة الدهر ولم تقتلني فهي قوة جديدة لي».


    أن يفهم الإنسان معنى وهوية المصيبة التي قد يتعرض لها في حياته الدنيا هذه ، وهي حياة بلاء واختبار وتكليف ، هو برأينا في طليعة الأسباب التي تؤمن له الراحة النفسية والسعادة ، ولم نجد من خلال دراستنا النظرية لمختلف المدارس الفلسفية والنفسية والاجتماعية ، وتجربتنا المهنية ، منهجية عقلانية متكاملة تستطيع أن تعطي المعنى العقلاني المقنع ، لتقبل المصيبة مهما كان وقعها ، كالمنهجية التي نستطيع استخلاصها من خلال القرآن الكريم والحديث والسنة الشريفة.
    ولقد حاول بعض المستشرقين ، وأعداء الإسلام ، النفاذ إلى الدين الإسلامي من زاوية استسلام المؤمن إلى مشيئة الله وقدره ، وهم لو فهموا أو عقلوا معنى مشيئة الله وقضائه وقدره ، لوجدوا أن أحد الأسباب الأساسية للطمأنينة النفسية عند المؤمن الحق هو في فهمه الصحيح لمعاني مشيئة الله وقضائه وقدره ، وهي تعني السعي والعمل وتحصيل العلم والأخذ بالأسباب ، والفهم النيّر العميق للنصوص الإلهية والعمل والالتزام بمضامينها.
    وسنعرض في هذا الفصل لمعاني المصيبة وهويتها ، وهي ذات صلة

    وثيقة بنفسية الإنسان وتصرفاته. وقد خاض فيها كثيرون من الباحثين ، فضاع بعضهم في متاهاتها وأوضاع القراء ، وشوهها بعضهم وأساء إلى الدين الإسلامي من حيث لا يدري ، واستغلها البعض للّمز من الإسلام.
    إن البحث في هذا الموضوع ، وعلى ضوء الهدي القرآني والأحاديث ، هو من أجمل الموضوعات وأمتعها ، وتبسيط المصيبة وتقريبها من ذهنية المؤمن هو برأينا من الواجبات الدينية التي تفتح للمسلم آفاقا واسعة تساعده في الوصول إلى الراحة النفسية والسعادة.
    من خلال تجربتنا المهنية مع المرضى سواء كانوا نفسيين أم عضويين وغالبا ما تتداخل العوامل النفسية والعضوية في تأثيرها المرضي عند الإنسان ، ومن خلال الحديث مع أهلهم ومن يعنى بهم ، (وعناية الأهل بالمريض وخاصة النفسي وإحاطته بالاهتمام والرعاية شرط أساسي وضروري لشفائه) وجدنا أن شرح معنى المصيبة سواء كانت مرضا خطيرا قاتلا أم مزمنا غير قابل للشفاء ، ومن زاوية إيمانية ، هو من أهم الضرورات العلاجية النفسية ، التي تساعد المريض ، والأهل على تقبل المصيبة المرضية التي حلت بهم بل والرضا بها.
    وللمصيبة ثمانية معان : هي بلاء أو غفران أو جزاء أو دواء. هي من نفس الإنسان أو من جهله أو من غيره أو لخيره.
    1 ـ المصيبة كبلاء
    هي أولا بلاء أي اختبار وامتحان لإيمان الإنسان وصبره. من خلالها يميّز المؤمن الصادق من المزيف المخادع : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (أي يختبرون ويمتحنون). (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَ) (بمعنى فليشهدن) (اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ). (العنكبوت : 2 ـ 3) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا)

    يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : 142) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (الحج : 11) ، والمولى ، علام الغيوب ، يعلم منذ الأزل الإيمان المزيف من الإيمان الصادق ، إنما تأبى عدالته إلا أن يشهد الإنسان على صدق أو كذب إيمانه من خلال المصيبة الاختبار حتى لا يكون له أية حجة يوم الدين.
    2 ـ المصيبة كغفران
    وقد يتساءل المرء في نفسه : ولما ذا يبتلى المؤمن الصادق في إيمانه ما دام المولى يعلم صدق إيمانه؟ ربما ، والله أعلم ، لأن المؤمن الصادق يبتلى بلاء تكفير عن ذنوب وأخطاء سابقة : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ، كما وأن المؤمن الصادق يبتلى بلاء تدليل وشهادة وتبيان ، للغير على صبره وصلابة وصدق إيمانه ، فالرسل والأنبياء والصالحون هم في طليعة المبتلين بالمصائب ليكونوا المثل الأعلى للناس في الشهادة على صدق الإيمان والصبر والتزامهم بما جاء في القرآن الكريم : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة : 155 ـ 157). (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (آل عمران : 186).
    ولقد وجدنا ، حسب خبرتنا المهنية المتواضعة ، أن المؤمنين الحقيقيين ، وهم القلة النادرة ، ليسوا فقط صابرين على ما أصابهم من بلايا ،

    بل في منتهى الراحة النفسية ونكاد نقول السعادة ، ف (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يبتلي المؤمن الحق على قدر احتماله وطاقته النفسية ، ويغفر له ويجزيه عن كل ما ابتلي به في هذه الدنيا أجمل الجزاء يوم الحساب. وروي عن الرسول الكريم قوله : «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (الترمذي). وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه».
    3 ـ المصيبة كجزاء
    (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت : 40). وروي عن الرسول الكريم قوله : «إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). والمعنى الثالث للمصيبة أنها قد تكون جزاء عن أعمال غير صالحة قام بها الإنسان أو الجماعات. فالمولى يمهل ولا يمهل ، والظالم لا بد أن يلقى جزاء أعماله في الدنيا والآخرة (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ). وكل مسيء وظالم في هذه الدنيا يقرّ علنا أو ضمنا في قرارة نفسه بأن ما أصابه من مصائب في هذه الدنيا إن هو إلا الجزاء العادل بل الرحيم لما اقترفت يداه ، وإن أنكر هذه الحقيقة في العلن وبين الناس.

    4 ـ المصيبة كدواء
    والمعنى الرابع للمصيبة أنها قد تكون دواء للفرد بإعادته إلى طريق الخير وسبل الإيمان : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). وكثير من الناس استشفّوا من خلال ما حل بهم من مصائب معنى ساميا قادهم إلى الإيمان الصادق. أما المكابرون ، ممن جعلوا آلهتهم أهواءهم وأضلهم الله على علم مسبق عنده بما في نفوسهم حاضرا ومستقبلا فلا فائدة ولا دواء لهم مما يصيبهم من بلايا في هذه الدنيا : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون : 75 ـ 76).
    5 ـ المصيبة كنتيجة لأوامر النفس الأمارة بالسوء
    (المصيبة من نفسك)
    (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى : 30).
    يعرف أكثر الناس أن الزنى والخمر هما السبب لما يقرب من سبعين مرضا ومصيبة قد تحل بهم ، ورغم ذلك يشربون الخمر ، ويزنون عن سابق علم ومعرفة ، كما يعرف أكثرهم أن زواج الأقارب من أهم الأسباب في انتقال الأمراض الوراثية ، ومع ذلك يتزوجون من أقاربهم. وإن الإفراط في المأكل والمشرب هو من أهم الأسباب في ارتفاع الضغط الشرياني وتصلب الشرايين القلبية والدماغية ومرض السكري وتراهم مع ذلك متخمين في المأكل والمشرب. ولو اتبعوا تعاليم الهدي القرآني لما أصابهم ما كسبت أيديهم من أمراض : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (طه : 81) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (الإسراء : 32).
    (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ

    عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة : 90) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس : 44) بل إن أغلب البلايا والمصائب التي تحل بالفرد والمجتمع هي نتيجة لما كسبت أيدي النّاس : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .. (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم : 41).
    6 ـ المصيبة كنتيجة لجهل الإنسان
    (المصيبة من جهلك) لذلك أمر المولى بالعلم وكرّم العلماء وحض الناس ممن لم يأخذوا حظا من العلم على سؤال أهل الاختصاص في كل باب من العلم ، وبالإعراض عن الجاهلين كي لا يقع الإنسان في المصائب نتيجة جهله أو جهل الآخرين وعدم أخذه أو أخذهم بالأسباب : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) .. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).
    وفي الحديث الشريف : «أغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك».
    7 ـ المصيبة قد تأتي من الغير
    (المصيبة من غيرك) (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف : 42).
    يجد المتفكر الباحث في خصائص المخلوقات ، أن في كل ما خلق

    المولى من مخلوقات ميزات خيرة
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:57 am

    المولى من مخلوقات ميزات خيرة وميزات مؤذية ، سبحان حكمته في خلقه التي لم يدرك كنهها إلا القلة القلة من «العارفين» ولقد أمرنا المولى أن نلتجئ إليه ، من خلال تعاليمه في كتابه الكريم لاتقاء البلايا والمصائب التي قد تأتي من الغير : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (الفلق) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس).
    8 ـ المصيبة قد تكون لخير الإنسان
    (المصيبة لخيرك)
    والمعنى الثامن للمصيبة أنها قد تكون لخير الإنسان ولكن عدم معرفة الإنسان بالغيب ، وبما سيكون عليه المستقبل يجعله يثور ويعترض على الواقع ، ويعجز عن فهم معنى البلية. ولو أيقن بما روي عن الرسول الكريم لاطمأنت نفسه : «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع». ولو فهم بعد المعنى وعمق المقصد في حوار موسى مع العبد الصالح في سورة «الكهف» والتي تتكرر أحداثها بصور مختلفة كل يوم لشكر الله وحمده على بلائه.
    لقد عجز منطق موسى عليه‌السلام ، وهو كليم الله ونبي من أولي العزم ، أن يفهم الحكمة من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، وكذلك أصحاب السفينة ووالدي الغلام ، أما عند ما تتكشف الحجب عن الحقيقة ويعلم أصحاب السفينة أنهم كانوا سيفقدون مصدر رزقهم لو لم يعبها العبد الصالح ، لأنه (كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فسيقولون الحمد لله على هذا الضرر الذي كان لخيرنا. وكذلك بالنسبة إلى موت الفتى ، إذ كان موته رحمة به فقد دخل الجنة ، إذ قتله العبد الصالح قبل أن يبلغ سن الحساب ، ورحمة بوالديه المؤمنين والذي كان (يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً).

    كم من الآباء من الذين علقوا كل آمالهم في الحياة على ولد فخيب آمالهم وكان عدوّا لهم ، يتمنون لو أن قصة سيدنا موسى والعبد الصالح والغلام حصلت معهم ، أو لو كان على الأقل ابنهم العاق هذا مريضا من المعاقين والمتأخرين عقليّا كما نسمع عن لسانهم.
    وهكذا إذا استعرض المؤمن بعين البصيرة مصيبة حلت به أو بغيره وتفهمها على ضوء هذه المقاييس القرآنية الثمانية لهوية المصيبة اطمأنت نفسه إلى مصيره حاضرا ومستقبلا وأبعد عنها القلق والخوف ، والثورة ضد الذات والغير والقدر ، فقدر الإنسان بيد الله الذي يغير فيه بحسب أعمال الإنسان إلا الأجل فلا تغيير فيه. فليتوكل الإنسان المؤمن ، توكلا صادقا ليس كيفيّا اعتباطيّا على العزيز الرحيم وسيرى أنه سيكون من المطمئنين السعداء ...
    كم من مرضانا وأهليهم وبعد أن شرحنا لهم تدريجيّا ومن زاوية إيمانية معنى المصيبة في قوله تعالى (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (الحديد : 22 ـ 23) تقبلوا مصائبهم عن طيب خاطر بل رضى ودون استسلام يائس أو ثائر ضد ما يسمونه القدر ، فالمولى سبحانه وتعالى من صفاته أنه الحكم العدل الرحيم (لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .. وإن لم يفهم المؤمن معنى المصيبة التي حلت به فهو سيعلم لاحقا معناها : فليصبر : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : 216).

    الفصل السابع
    المرتكزات والأسس للمعالجة النفسية
    بواسطة الايمان أو طريقة السلوك الايماني العلاجي
    1 ـ إنها تجربتي الشخصية
    إنها تجربتي الشخصية مع الإيمان ، لقد درست الطب العام وتخصصت في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية ، ودرست ومارست وتناولت مختلف الوسائل العلاجية من استرخاء وتنويم ذاتي ، وعقاقير مهدئة للأعصاب عليّ أجد في ذلك شفاء لقلقي النفسي من عقد الموت فلم أجد إلا فائدة وقتية. حاولت أن أغرق قلقي النفسي من عقد الموت فلم أجد إلا فائدة وقتية. حاولت أن أغرق قلقي النفسي وخوفي على مصيري بقصر الحياة هذه (لأنني لم أكن أوقن بحياة أخرى فاضلة) بالتعرف إلى شتى أنواع النشاطات التي يدعونها بالاجتماعية وهي في أكثرها أقرب إلى اللغو ومضيعة الوقت دون طائل ، فما ذا كانت النتيجة؟ ركض لاهث وراء ما كنت أعتقده السعادة ، وتبين لي أن كل ذلك لذّات آنية مصحوبة في أكثرها بالألم ، ومحاولات متكررة للهروب والتستر من عقدي النفسية وأهمها عقدة الموت ، من دون جدوى أو لبعض الوقت فقط ، إلى أن تبين لي أن سلوك الإيمان الصحيح هو الذي يعطي السعادة الحقيقية الدائمة والأمل المشرق والمطمئن بحياة أخرى أفضل من هذه الحياة الزائلة. فالإيمان العلمي المنهجي اليقيني بالله والتزام تعاليم كتابه وسنة رسوله هو الذي حللني من عقدي النفسية الدفينة وأولها عقد الموت

    والخوف منه ، وعقد النقص والتعالي وحب الجاه والمركز ، وعقد همّ الرزق وخوف المستقبل وعقدة حب المال وعبادته!!!
    أنام منذ عرفت الإيمان قرير العين لا خوف من موت بالسكتة القلبية أو بنزيف دماغي صاعق ، ولا خوف من تورم سرطاني في الدماغ أو شلل شقي ، أو إصابة برصاصة طائشة قاتلة أو بصاروخ مدمر ، ما دام الموت هو بيقيني منذ تمرست بسلوك الإيمان ، انتقال من حياة دنيا زائلة إلى حياة فضلى خالدة ، وإلى أن قضائي وقدري هو بيد المولى الذي جعلته وليي وهو أرحم الراحمين. وقد طمأنني في كتابه الكريم بأنه (يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وأنه (كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وأنه هو يحيي ويميت وأن (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) وأن (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) وأنه (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وكل إنسان ، مهما كانت مهنته وعمره معرض في كل لحظة وخاصة عند ما يخلو لنفسه لأفكار تخويفية لا يجد حلّا جذريا لها إلا بالإيمان أو حلّا وقتيّا بأخذ المسكنات والمنومات والتردد إلى عيادات الأطباء.
    لم يعد أولادي الثلاثة يشعرون بالخوف ، منذ أن عوّدتهم وهم صغار على الصلاة ، وشرحت لهم معناها ومعنى كلمة «الله أكبر» وبأنه أكبر وأقوى من أي شيء يخوفهم سواء أكان حقيقة أو وهما في أذهانهم ، لم يعودوا عرضة للنوم المتقطع ، أو الأحلام المزعجة أو الكوابيس ، أو القيام وسط الليل والاندساس في فراشي أو فراش والدتهم ، أو عدم القدرة على النوم إلا في فراش والدتهم وهي بقربهم حتى يناموا ، كما يفعل الأولاد ممن أعالج يوميّا ، ومنهم من يبقى على عدم القدرة على النوم إلا في فراش والدته حتى المراهقة ، وكلها أعراض تدخل في حقل اضطراب النوم عند الأطفال والأولاد وما أكثرها ، ولا شفاء لها إلا بوجود جو عائلي إيماني صحيح.
    وولدي الأوسط ، عمره عمر الحرب الأهلية في لبنان تجاوز بنجاح

    وشفاء تام ، الخوف الطبيعي من أصوات الرصاص والمتفجرات الذي فرضته ظروف قاهرة ظالمة ، بعد أن شرحت له من واقع ديني إيماني معنى الموت ، ومصيره بعد الموت ، وكيف أن طاعة الله والصلاة تنجيه وتحميه من كل ما يخيف ، فأصبح لدى سماع أية انفجارات وما أكثر ما سمعها ، يصرخ «الله أكبر» .. (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وكأن هذه الكلمات هي السحر العجيب لكل ما كان يعانيه من آثار الخوف من اضطراب ورجفة واصفرار في الوجه وتسارع في ضربات القلب وضياع حتى فقدان الوعي ، على حين أن الكبار ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، تراهم يتسارعون إلى الملاجئ خوفا ورعبا ، وهو يضحك بعفوية وطيبة صائحا بهم : «صلوا ما بتعودوا تخافوا»!!!
    أجل لقد تخلصت وبفضل الإيمان وأنا على أعتاب الخمسينات من العمر ، مما هو برأيي منغّص في كل دقيقة أو ثانية لحياة الفرد العادي ، عنيت بذلك حرقة الطلب في طلب الحصول على «الأشياء» أو التعلق بها. فلا المال ولا اللذات ولا الجاه ولا المركز ولا الأولاد يسعدوني أو أسعدوني ، كل ذلك متاع زائل ، ولكن التسليم لله والإيمان به وبكل ما قضى وشرّع ، جعلني سعيدا راضيا في دنياي الحاضرة ، قرير البال بالنسبة لغدي ومماتي وما بعده!!
    لقد أوصلني إلى الطمأنينة ـ (أي السعادة) ، سلوكي لطريق الإسلام الصحيح ودراستي علميّا لتعاليمه وتطبيقها ، فوجدت بعد الممارسة أني في الطريق الذي يسعد ، فبدأت منذ سنوات بإرشاد أصدقائي ومرضاي المتعبين نفسيّا وجسديّا إليه ، إلى طريق الإيمان الصحيح ، طريق السعادة. وآمل في هذا الكتاب أن أعمم التجربة لمن أراد أن يؤمن : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
    2 ـ إنها تجربتي المهنية مع الإيمان
    قبل أن أرتمي في أحضان الإيمان وأجد السعادة ، مارست الطب العام

    والطب العصبي والنفسي خلال خمس عشرة سنة ، وذهلت خلال ممارستي هذه من العدد الكبير للمرضى الذين يطرقون عيادتي أو يدخلون المستشفيات ، لعوارض تافهة برأي أكثر الأطباء ، ولم أعد أجدها تافهة في ما ترمز إليه من خلال أحاديثي المطولة مع هؤلاء المرضى ، فهي أعراض طبية بسيطة في مظهرها ، لكن جذورها ترجع في أكثرها إلى الخوف من الموت ، وما إن يطمئن المريض إلى أن ما يشكو منه ليس له علاقة بمرض عضال خطر هو بنظر العامة السرطان أو الأمراض القلبية أو الشلل ، حتى يشفى ولو دون دواء أو أي دواء ذي فائدة وهمية. فأكثر المرضى عند ما يطرق أحدهم باب عيادة الطبيب يريد أولا شعوريّا أولا شعوريّا أن يطمئن على ذاته من خطر الموت (وكأن باستطاعة أحد في العالم أن يمنع الموت عند حلول الأجل المحتوم) قبل أن يسأل عن العلاج ، وكلنا يعلم كم من المرضى العصابيين يدخلون المستشفيات بصورة طارئة ، وبعد دقائق أو ساعات قليلة من المصل وحقنة مهدئة وفحوصات مخبرية وشعاعية مطمئنة يشفون بقدرة قادر. إنه الخوف من الموت ، فالطبيب والمستشفى هما «الرقية» باعتقادهم من الموت! إنه اعتقاد خاطئ وعشرات المرضى من هذه النوعية ندعوهم بالموسوسين يطرقون أبواب الأطباء ، والمشعوذين من مدعي علم الطب الروحي ، متأبطين أكداسا من الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية ، عارضين العشرات من الأدوية والوصفات الطبية والتقارير الاستشفائية لدخولهم المستشفيات المتعددة ، معذّبين ، ومعذّبين لأهلهم ومحيطهم الأسري ، كلما اختفت أعراض مرضية وظيفية من عضو في جسدهم ، ظهرت أعراض في موضع آخر ، يتنقلون من عيادة إلى أخرى ومن مستشفى إلى آخر طلبا للعلاج ، وهؤلاء هم في الحقيقة يفرون من عقدة خوف الموت المتأججة عندهم ، ولا شفاء لهم برأيي إلا من خلال معالجة نفسية تحليلية مرتكزة ومستندة إلى معطيات الإيمان الصحيح. إنهم أصعب المرضى معالجة ، هم كابوس الأطباء ، وهم

    بضاعة وتجارة مربحة لبعض الأطباء من الذين لا يربطهم ضمير مهني أو وازع إيماني.
    3 ـ مرتكزات طريقة الإيمان العلاجي
    كل طبيب نفسي ، شرط أن يكون مؤمنا قولا وممارسة (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) وعلى حفظ واطلاع واسع وفهم عميق للكتب السماوية المنزلة ، يستطيع أن يمارس طريقة الإيمان العلاجي بالعمق أو السطحية حسب درجة عصاب مرضاه واستعدادهم لتقبل الإيمان ودرجة ثقافتهم ومستواهم العقلي واتزان شعورهم ونوعية عقدهم التي تتحكم بظواهر أعراضهم المرضية النفسية. ويجب أن نشدد هنا على ناحية مهمة جدّا ، إذ قبل أن نحاول السير بالمريض النفسي بطريقة العلاج الإيماني ، يجب أن يقبل هو بطريقة علاجية كهذه ، ومتى قبل تحليل ظواهر وخفايا عقده النفسية على ضوء التعاليم الإيمانية ، وجب إقناعه علميّا ومنطقيّا وجدليّا بثوابت لا بد منها هي الإيمان بالله والقرآن الكريم والحديث الشريف ، إذ لا إيمان بالإكراه أو بدون إقناع ، ولا شفاء من مرض نفسي بدون التزام وعن قناعة تامة بتعاليم الله التي هي تعاليم العلم والمنطق عينه. والعلم والمنطق هما سبيلا الدخول إيمانيّا إلى قلب الإنسان ، ومن خشع قلبه بعد أن أيقن عقله ، خشعت وانقادت جوارحه للتطبيق «لو خشع قلبه لالتزمت جوارحه». فطريقة العلاج التي ندعوها بالتحليل النفسي الإيماني يجب أن ترتكز إلى معطيات العلم والمنطق الموجودة في القرآن الكريم والحديث ولا شيء يقنع العقل بالإيمان كالعلم والمنطق!
    4 ـ كيف نبدأ
    نعرض على كل مريض عصابي جاء يطلب حقّا علاجا شافيا وليس مؤقتا للأمراض المزعجة التي تنغص عليه حياته ، بعد أن تحقق خلال سنوات ، وبعد مروره بأكثر عيادات الطب النفسي من أن لا شفاء بصورة دائمة

    لأعراضه النفسية ، أن يبدأ ممارسة طريقة العلاج الإيماني. ونحاول من خلال حوارنا مع المريض ، وعلى ضوء العقد النفسية التي تتحكم في الأعراض التي يشكو منها ، والفائدة التي يحصل عليها أن نرى مقدار استعداده ، للتخلي لا شعوريّا عن أعراضه الظاهرة التي يريد الشفاء منها ، إذ في بعض الحالات كعصاب الهستيريا وغيره لا يريد المريض ذلك كما أنّ كثيرا من الأعراض النفسية هي بالنسبة لبعضهم مصدر ابتزاز للغير أو تلبية لرغبات ونوازع دفينة أو ظاهرة لا يريد المريض حقيقة أن يتخلى عنها. وعلاج مرضى كهؤلاء يتطلب الكثير من الوقت بل إن كثيرا منهم يرفض المعالجة بهذه الطريقة لا بل يسخر منها أو يقطعها بعد عدة جلسات.
    5 ـ استطباباتها
    أكثر حالات العصاب كعصاب القلق وعصاب الخوف وعصاب الوسوسة أو داء السلوك الجبري وعصاب الشخصية ، والقلق النفسي بمظاهره النفسية والعضوية ، هي من استطبابات العلاج النفسي الإيماني.
    ونحن من خلال معالجتنا التحليلية الإيمانية للمريض نحاول أن نتدرج به علميّا إلى أن يؤمن ويوقن بأن القرآن الكريم هو كتاب الله وتشريعه ، وهذه الحقيقة لا نفرضها على المريض فرضا بل عن طريق العلم والمنطق. فالإنسان لا يطبق تطبيقا سليما وصادقا تعاليم الله ، وينصاع لما أمر به إلا إذا أقنعناه علميّا ومنطقيّا ولم نفرض عليه فرضا دينه كمسلّمات.
    الهداية والضلال هما عرض وتقديم وليسا فرضا في كتاب الله الكريم
    لم يؤمن بعض الأصدقاء ممن سلكنا بهم طريق الإيمان ، وينتقلوا من خانة المسلم بالهوية واللسان إلى خانة المؤمن الممارس الآخذ بالأركان ، إلا بعد أن اقتنعوا علميّا بأن القرآن الكريم هو منطقيّا كلام الله ، فمن قال منذ خمسة عشر قرنا (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ثم جاء العلم في

    القرن العشرين يقول إنه ثبت علميّا وبصورة قاطعة جازمة أن الكون هو في توسع دائم ، هو القائل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). وكيف يمكن لعقل سليم أن يأخذ بالآية العلمية الأولى وهي يقين علمي اليوم ، ولا يوقن بالآية الثانية وهي غيب ، والمصدر واحد؟ لا يفعل ذلك إلا المغرضون أو المهتزون في طريقة التفكير السليم ممن ندعوهم بالانفصاميين من مزدوجي العقل والمنطق وهؤلاء لا ينفع معهم أي منطق أو حجة.
    كيف يعقل أن نقول صدق الله أصدق القائلين ونحن نقرأ (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) وعلم طبقات الأرض وأعماق المحيطات يبين لنا اليوم في القرن العشرين فقط ، بالصورة والمنظر الحي كيف أن الأرض وأعماق المحيطات متصدعة وتتصدع قشرتها كل ثانية ، ولا نصدق ونؤمن ونوقن بأن (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) تنبت في أعماق الجحيم وأن (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) وأنها (طَعامُ الْأَثِيمِ) ، أليس مصدر الاثنين واحدا؟ وكيف يكون المصدر صادقا في الأولى ، عفوك يا رب ، ولا يكون صادقا في الثانية؟ كيف نأخذ بالأولى ونتناسى الثانية؟ بل إن بعض ضعاف الإيمان من المسلمين يقولون بأن الغيبيات من جنة ونار وأوصافها هي صور معنوية ، كلا يا سادة بل حسية ، فلقد كانت بنظر البعض (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) صورة معنوية حتى أثبت العلم أنها حسية!
    إنها دائما طريقة علمية منطقية. نضع أمام المريض حقيقة علمية قرآنية سبقت العلم بسنين أو قرون ، وبحسب مستوى المريض العلمي والثقافي ، ثم نضع مقابلها الآيات غير العلمية من تشريعية وتثقيفية وغيبية والتي يجب أن يؤمن بها المريض ليتخلص من عقده ونتركه يقابل بين الآيات ، ومتى اقتنع الإنسان أو المريض علميّا ومنطقيّا بأن القرآن الكريم ، هو كلام الله وجاهد نفسه وأهواءها ، فهو في بداية طريق الإيمان ، طريق الشفاء والسعادة الحقيقية.


    الفصل الثامن
    النوم في المنظار العلمي والمفهوم القرآني
    (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).
    (الروم : 23)
    «لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة».
    (حديث شريف ـ رواه البخاري)


    1 ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ...)
    النوم ضرورة حياتية لجميع الأحياء ، فكل مخلوق حي يفقد النوم أو نمنعه منه ، لا يلبث عاجلا أن يموت. ولقد بدأ العلم منذ مطلع القرن العشرين (1937) يكتشف تباعا الأبعاد العلمية والدقائق التشريحية والوظيفية والكيميائية التي تتحكم بعملية النوم. إلا أن العلم وحتى كتابة هذه السطور لم يتوصل بعد إلى معرفة المسبب الأول الذي يجعل أجسام المخلوقات الحية تفرز موادّ كيميائية تؤثر على مراكز النوم الموجودة في الجهاز العصبي المركزي وتجعل من هذه المخلوقات تنام وتصحو ، فالعلماء لن يدركوا الكثير من الحقائق التي يدرسونها ، ومنها النوم إلا إذا سلموا بوجود الروح ، سر الخالق وأمره في المخلوقات وعلة الحياة فيها.
    واضطراب النوم ، وجه من وجوه القلق النفسي المتعددة ، هو مع القلق ، القاسم المشترك لأكثر الأمراض النفسية والعقلية واضطرابات الشخصية : (فلقد جاء في الإحصاءات أن اللبنانيين قد استهلكوا في سنة 1984 ما يقرب من مليون علبة دواء منوم ومهدئ للأعصاب ، أي بمعدل علبة لكل ثلاثة أفراد ، وهذا الاستهلاك له ما يبرره في الحرب اللبنانية ، واستهلكت فرنسا سنة 1982 ستة وخمسين مليون علبة دواء من المنومات ، و 70 مليون علبة من المهدئات ، وهناك فرد من خمسة في الولايات المتحدة

    يعاني من اضطراب في النوم ، ويصرف الأميركيون سنويا 340 مليون دولار تقريبا ثمنا للأدوية المنومة والمسكنة فدواء الفاليوم ـ مهدئ الأعصاب المعروف ـ هو أحد خمسة أدوية من الأكثر مبيعا في العالم). تكفي هذه الأرقام ، لتبين أن القلق النفسي ، ومن مظاهره اضطراب النوم ، يلف الإنسانية من أقصاها إلى أدناها ؛ فالطمأنينة ، وأعلى درجاتها السكينة ومن مظاهرها النوم الهادئ العميق المريح ، وفيه أمنة أي راحة الجسد والنفس والروح ، لا يمنحها البارئ عز وعلا ، إلا لمن اتبع تعاليمه والتزم بها من المؤمنين مصداقا لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح : 4).
    2 ـ مراحل النوم كما كشفها العلم
    منذ سنة 1955 ، وبعد دراسة عشرات الآلاف من حالات النوم في مختبرات النوم العلمية حيث يسجل مخطط الدماغ الكهربائي للنائم مع حركة تنفسه وعينيه وغفلاته ، قسم العلماء النوم إلى عدة مراحل :
    المرحلة الأولى : مرحلة الدخول التدريجي في النوم ، وتؤلف 2 ـ 4 خ من مدة النوم الكامل.
    المرحلة الثانية : مرحلة النوم الخفيف غير العميق الذي يؤلف 50 خ من مدة النوم الكامل.
    المرحلتان الثالثة والرابعة : مرحلة النوم البطيء العميق العادي الهادئ ، وهي مرحلة النوم المريح أي نوم الأمنة والطمأنينة وتشكل 20 خ من مدة النوم الكامل.
    المرحلة الخامسة : مرحلة النوم العميق المصحوب بالأحلام والحركة

    أو النوم العجيب ، لأن النائم خلال مرحلة نوم الأحلام يكون تخطيط الدماغ الكهربائي وحركة التنفس والدورة الدموية وحركات العين كما لو كان في حالة اليقظة رغم أنه في نوم عميق جدا. وربما كان هكذا نوم أهل الكهف والله أعلم (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ...) ومدة هذا النوم العميق العجيب نوم الأحلام تشكل 25 خ من مدة النوم الكامل.
    ولقد ثبت أن أكثر الناس لا يدخلون في مرحلة النعاس أي النوم العميق سواء كان النوم العميق العادي أو النوم العميق العجيب نوم الأحلام ، إلا بعد المرور بمرحلة النوم التدريجي. كما ثبت أن مراحل النوم العميق وهي تشكل 45 خ من مدة النوم الكامل هي مراحل النوم المريح لجميع وظائف أجهزة الجسم والقوى العقلية من ذاكرة وقوة استيعاب وقدرة على التفكير. ويختصر كل ذلك قوله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً) أي إذ يغطيكم ويغلفكم في النوم العميق الذي يعطي الأمان والطمأنينة. (لغويا : النعاس هو النوم العميق ، وقد وصف المولى النعاس بأنه أمنة أي راحة جسدية ونفسية وعقلية : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) (آل عمران : 154). وجاء العلم اليوم يثبت أن النعاس أي النوم العميق ويشكل نصف مدة النوم ، هو النوع المريح من النوم للنائم ...).
    3 ـ الموتة الكبرى والموتة الصغرى
    (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر : 42).
    لكلمة الوفاة قرآنيا معنيان :
    أ ـ الوفاة الكبرى أي مفارقة الروح كليّا للنفس والجسد إلى يوم البعث حيث تزوج الروح بالنفس والجسد من جديد (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)

    فالقرآن الكريم فرّق تفريقا واضحا بين النفس والروح والجسد كما أشرنا إلى ذلك في بحث سابق.
    ب ـ الوفاة الصغرى : وهي النوم وفيه تفارق الروح النفس والجسد جزئيّا وليس كليّا ، وهذا المعنى لا يعرفه إلا القلة مع أنه واضح من خلال قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ). ومن دعاء الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ما روي عنه قبل استسلامه للنوم : «اللهم بك أحيا وبك أموت وإليك النشور». وعند يقظته : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» (الترمذي ـ البخاري).
    ولقد بين العلم اليوم أن جميع أعضاء الجسم تعمل بصورة بطيئة خلال النوم ؛ كما أن أكثر الثوابت في الدم من هرمونات ومواد كيميائية أخرى تتغير خلال النوم ، وليس من تعليل علمي حتى الآن لهذه التغيرات ، وقد لا يجد العلم تعليلا لكثير من ظواهر النوم ، ومنها الأحلام ، إذا لم يسلم جدلا بوجود الروح. ونحن نعتقد من زاوية إيمانية أن الروح ، خلال النوم ، تترك الجسد والنفس جزئيّا وليس كليّا وتنتقل إلى بارئها. فالنوم هو وفاة صغرى للجسد والنفس فقط وبرجوع الروح جزئيا إلى خالقها خلال النوم ترتاح النفس وكذلك مختلف أعضاء الجسم وتستعيد نشاطها خلال النوم ، ذلك أن الروح وهي العلة الأولى أي المسير الأول للنفس والجسد ، ومن خلال تواجدها فيهما تتعبهما ، وبالنوم ترتاح دوريا أجسام المخلوقات من هذا السر الإلهي الهائل القوة ، علة الحياة في المخلوقات. ودليلنا القرآني على ثقل وقع الروح على الجسم والنفس هو الآتي :
    1 ـ كان عليه الصلاة والسلام كلما أتاه ملاك الوحي بالتنزيل ، يتفصد عرقا ، أو يسمع عند أذنيه طنين كطنين النحل ، ويبقى مجهدا لبعض الوقت حتى يسري عنه. [سأل الحارث بن هشام رضي الله عنه ، رسول الله فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله : أحيانا يأتيني مثل

    صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ...» (البخاري).
    روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ...»].
    2 ـ للقرآن الكريم صفات كثيرة ، منها صفة الروح وقد وصفه المولى أيضا بأنه (قَوْلاً ثَقِيلاً) أي يثقل حمله على من يتنزل عليه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل : 1 ـ 5). (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل : 2).
    إذن فالقرآن الكريم هو روح ، بل أعلى درجات الروح ، وقد كان يثقل حمله على من تنزل عليه ، الرسول الحبيب عليه‌السلام. وأرواحنا التي هي أمر المولى ، أي قوله الذي به تحول الطين إلى إنسان يثقل حملها بصورة دائمة في أجسامنا وأنفسنا ، وفي النوم يرتاح الجسم والنفس وقتيا من ثقلها!
    ومن دون الأخذ بالناحية الروحية ، في فهم أسرار النوم ، لن يستطيع علماء النفس أن يفهموا في العمق أسرار النوم واضطراباته ومسبباته : فبعض المرضى الذين يشكون من فقدان النوم أو اضطرابه لا يرتاحون نفسيا بتناول الأدوية المنومة أو إرغامهم على النوم بواسطة المواد الكيميائية لمدة أسبوع أو عشرة أيام ، وعند ما يرفع عنهم تأثير الأدوية المنومة يصرحون بأنهم لم يرتاحوا من نومهم الاصطناعي هذا بل ازدادوا تعبا ومرضا! لما ذا؟ ذلك بأنهم لم يفهموا بعد بأن النوم هو «أمنة» من الله أي نعمة ورحمة ، وأن فقدان النوم عند بعض الناس قد يكون جزاء لما اقترفته أيديهم من سوء ، فليأخذوا ما طاب لهم من المهدئات والمنومات فلن يجعل الله في نوم اصطناعي كهذا هو

    من صنع يد الإنسان راحة وأمانا ما داموا لم يلتجئوا بقلوب تائبة مؤمنة إلى الذي بيده مفاتيح الرحمة والنوم رحمة من الله.
    وعبثا حاولنا من خلال تجربتنا العلاجية لهؤلاء المرضى من مضطربي النوم وفاقديه ، أن نداويهم بالعقاقير المنومة ، فلقد ظلوا يشكون من نوعية النوم ونوعية اليقظة ، إلى أن يسّر الله لنا أن نفهم ونفهم الغير ، أن الإيمان بالله هو أحسن الطرق وأسلمها للوصول إلى النوم الآمن الذي فقدوه.
    والتنويم المغنطيسي (التسمية غير موفقة ونحب تسميته بالتسيير الإيحائي ، لأنه ليس نوما من الوجهة العلمية) رغم وفرة استعماله في شتى حقول الجراحة والمعالجات النفسية لم ولن نفهم آلياته إلا إذا آمنا بوجود الروح ، فالتنويم المغنطيسي هو في الحقيقة تسلط روح المنوّم على المنوّم ؛ لذلك كانت صحوة المنوّم من نومة التنويم المغنطيسي متعبة جدا ، ومن هنا خطورة التنويم المغنطيسي إذا بقي بين يدي أكثر الناس ، إذ يجب حصر استعماله في العلماء ممن هم على درجة عالية من الثقافة الروحية والالتزام الإيماني والأخلاقي.
    4 ـ الروح مفتاح الشعور والإحساس بالألم
    ومن هذه الزاوية بالذات نفهم بعض الخوارق التي تتأتى على يد الصوفيين الحقيقيين أي الروحيين الذين يستطيعون أن يدفنوا أنفسهم بدون طعام أو شراب مع قليل من الهواء في توابيت زجاجية محكمة لمدة أسابيع ، ثم يعودون من نومهم الطويل هذا أو موتتهم الصغرى إلى الحياة. إنها مسألة إيمان بالله والروح ، وممارسة يومية للطرح الروحي خارج الجسد. ولا ننصح العامة بسلوك هذه الرياضة الخطرة ، إنها مسألة إيمان أولا وتيسير من المولى الذي وهبهم هذه القدرة الخارقة. وسبحان الذي يزيد في الخلق ما يشاء ، ليبين لبقية الخلق من عباده بعضا من أسراره وقدراته!!

    واليوم وقد تبين لعلماء التشريح وعلماء وظائف الأعضاء أكثر العوامل الفيزيائية والكيميائية التي تتحكم في الألم وتسببه ، تبقى حلقة ضائعة لم ولن يتوصلوا إلى فهمها إلا من زاوية إيمانية روحية بحتة ؛ فاختلاف الإحساس والشعور بالألم بين إنسان وآخر ، بالرغم من أن العوامل المسببة للألم قد تكون واحدة ، يرجع سببه إلى الروح ، فهي التي تتحكم في مقدار الإحساس والشعور بالألم. وبقدر ما يسمو الإنسان بروحه ويهذبها ويخلصها من التعلق بشوائب الجسد ومتطلبات النفس ، يخف إحساسه بالألم وتكثر سعادته وطمأنينته. ومن اطلع على حياة المرضى من المتألمين وأذهله الفرق الهائل في الإحساس والشعور بالألم بين مريض وآخر مع أن المرض واحد ، يعي البعد الروحي الإيماني المؤثر بالإحساس لكل ما يؤلمنا ، مصداقا لقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).
    ولقد روي عن أحد الصالحين أنه أصيب يوما بالتهاب في أحد أطرافه السفلى أوجب بتره ، ولما طلب الأطباء منه شرب الخمر حتى الغيبوبة لكي لا يتألم ، (لم يكن التخدير قد عرف بعد) ، رفض ذلك ، واكتفى بأن أدخل جسده في غيبوبة روحية هي عبارة عن طرح للروح خارج الجسد ، فبتروا ساقه دون أي إحساس بالألم. ولما رجع إلى وعيه أنبئوه أن ابنه الأكبر قد قتل وهو في الجهاد فكان رده المأثور : «الحمد لله الذي أخذ ولدا وسلّم أولادا وأخذ عضوا وسلّم أعضاء» .. اللهم أسبغ علينا شيئا من إيمان هذا العبد الصالح.
    5 ـ وقفة موجزة مع الأحلام
    وكما أن العلم لن يفهم في العمق أسرار النوم ما دام لم يسلم بوجود الروح ، كذلك بالنسبة للأحلام. فمن الوجهة الإيمانية هناك نوعان من الأحلام :
    1 ـ الأحلام الغيبية الصادقة وهي إشارات من المولى إلى النائم ومنها

    أمر سماوي واضح لا يتطلب التأويل كرؤيا سيدنا إبراهيم الذي أمره المولى في المنام بذبح ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ...) (الصافات : 102).
    ـ وكذلك رؤيا الرسول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ...) (الأنفال : 43).
    ـ ومنها أحلام غيبية صادقة غير واضحة تتطلب التأويل : كرؤيا سيدنا يوسف عليه‌السلام ورؤيا «صاحبي السجن» مع يوسف ورؤيا ملك مصر أيام كان يوسف مسجونا (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف : 36) وتأويل هذا النوع من الرؤيا هو عطاء من الله لا يعلمه إلا القليل : (... وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...) (يوسف : 21).
    (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (يوسف : 41).
    والعلم لا يستطيع إلا أن يقر بوجود هذا النوع من الأحلام الغيبية الصادقة التي تحصل كل يوم ، فالواقع والإحصاءات والتحقيقات الرزينة تؤكد صدق وحصول ما أنبأت به لاحقا ، إلا أن العلم يبقى عاجزا عن تعليل ذلك ، ما دام لم يقر ويعترف بوجود الله والروح! أما تعليلها بنظرية الصدفة فهذا منطق الإفلاس العلمي والجدلي العاجز ، لذلك كان النوم والأحلام يشكل 25 خ منه ، ومن آيات الله أي من البراهين الدالة على وجوده (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (الروم : 23).

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 7:59 am

    ـ والعلم بالرغم أنه درس الأحلام ، وعرف شيئا عن مراكزها العصبية في الدماغ وجذع الدماغ خاصة ، يبقى عاجزا عن فهم آلياتها ومسبباتها ولما ذا ينسى النائم لأكثرها عند اليقظة ما دام النائم يحلم ربع مدة نومه تقريبا.
    ـ أما إذا أسلمنا بأن الروح خلال النوم تترك الجسد جزئيا وتصعد إلى خالقها فترتاح بلقائه فترى ما يسمح المولى برؤيته وتذكره وكما يرتاح الجسد وقتيا من ثقلها ووقعها عليه ، ربما فهمنا شيئا من أسرار النوم والأحلام بالعمق ، وربما فهمنا خاصة معنى الأحلام الغيبية التي لا يستطيع الواقع والعلم إلا أن يقر بوجودها!!!
    وكثير من المشاكل المستعصية والاكتشافات والأفكار والنظريات العلمية وجدت حلا خلال النوم ، ربما لأن الروح بتخلصها المؤقت خلال النوم من شوائب الجسد وأهواء النفس ، ساعدت العقل على حل ما استعصى عليه خلال اليقظة!! فالروح هي علة فهم الأشياء التي يصعب حلها في الأحياء ، ومنها مسألة النوم والأحلام ... ومن هنا نشأ علم جديد هو «البارسيكولوجيا» الذي يدرس في الجامعات الغربية مع علم النفس منذ عشرات السنين فقط.
    ـ والعلم من وجهة مادية بحتة لا يستطيع أن يشرح بالعمق الآليات والمسببات للعوارض الفيزيولوجية التي تحصل في الأحلام كالتغيرات في المخطط الكهربائي الدماغي خلال النوم والأحلام ، كذلك التغيرات في الثوابت الفيزيولوجية ، كنبضات القلب والضغط الشرياني ونسب المواد الكيميائية الموجودة في الدم وعمل سائر أعضاء الجسم ، أما إذا سلمنا بوجود الروح وبأنها المحرك الأول الأساسي في كل حي ، فربما استطعنا فهم الكثير عن النوم والأحلام ، لذلك كان النوم من آيات الله ، وما لم نسلم بوجود الروح وخالق الروح فلن نفهم في العمق شيئا يذكر عن النوم والأحلام!

    2 ـ والنوع الثاني من الأحلام هو ما نسميه بالأحلام النفسية التي تنشأ عن المشاكل النفسية المستعصية سواء كانت معروفة واعية أو مدفونة في أعماق اللاوعي منذ السنوات الأولى من الطفولة. وهذا النوع من الأحلام يدرسه علماء التحليل النفسي لسبر أغوار المشاكل النفسية عند الناس والمرضى النفسيين ، فالحلم حسب تعريف «فرويد» هو الطريق الملكية التي تقود إلى اللاوعي ؛ إلا أن مشكلة المحللين النفسيين كفرويد وغيره ، أنهم يدرسون الأحلام انطلاقا من نظريات مسبقة عندهم ويستعملون الأحلام تأييدا لنظرياتهم هذه ، من هنا تضارب الآراء بشأن الأحلام وقيمتها ككاشف للنوازع النفسية الدفينة عند المهتمين بهذا النوع من العلوم ؛ وعند ما تتضارب النظريات نحن نتلمس الحقيقة دائما في كتاب الله العظيم وأحاديث رسوله الكريم لذلك سنكتفي بهذا القدر من الأحاديث الجامعة التي رواها البخاري ففيها كل صحيح بشأن الأحلام.
    ـ «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
    ـ «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها ، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره».
    ـ «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة».
    ـ «من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني».
    ـ «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».
    ـ «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب».

    (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ)

    صورة توضيحية لمراكز النوم في الدماغ

    (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)

    نموذج لمخطط الدماغ الكهربائي خلال النوم

    الفصل التاسع
    الموت في المنظار العلمي والمفهوم القرآني
    (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
    (البقرة : 28)
    «كفى بالموت واعظا وباليقين غنى».
    (حديث شريف رواه الطبراني)
    ما رأيت يقينا أقرب إلى الشك من الموت.
    حكيم

    (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

    عوامل الموت والحياة البيولوجية هي مخلوقة أي مكتوبة سلفا في الثروة الوارثية عند الأحياء (هنا صورة حقيقية للثروة الوراثية في خلية الانسان المؤلفة من 23 زوجا من الصبغيات ، كل صبغية تحمل من 10 إلى 15 ألف ناسلة أو مورثة وكل مورثة تتألف من مائة مليار ذرة وفي جسم الانسان ما تعداده التقريبي مائة ألف مليار خلية ...)

    إن فكرة الحياة والموت هي في ضمير وشعور وتصرف كل مخلوق حي ؛ هو يفتش عن أسباب الحياة التي تؤمن وجوده واستمراريته ويهرب من الموت ومسبباته. هذا التصرف هو بيولوجي غريزي مكتوب في الثروة الوراثية عند كل حي ، كما كشف العلم ذلك منذ عشرات السنين فقط مصداقا لقوله تعالى :
    (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : 2).
    ولئن لم تحدث فكرة الموت والحياة أي مشكلة سلوكية ، أو نفسية ، أو فلسفية بالنسبة للمخلوقات المسيرة من خالقها ، فللحياة والموت معان عدة بالنسبة للإنسان العاقل ، وهو المخير دون سائر المخلوقات. فمن غريزة حب الحياة والبقاء والمحافظة عليها ، نشأت عقدة الموت عند الإنسان العاقل ، وهي أهم وأصعب العقد الرئيسية عنده ، وكل المدارس الفلسفية أو النفسية أو المادية التي تعرضت لمعنى الحياة وحاولت إيجاد الحل الشافي لعقدة الموت ، وما يمثله ، فشلت في إيجاد الحل المقنع لها ، إلا الإسلام الذي أعطى الحل المنطقي الشافي لها من خلال دستوره : القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، والسنة العطرة.

    وكل ما سننشره لاحقا بإذن الله في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما هو إلا محاولة متواضعة لإعطاء الدليل المنطقي العلمي على أن القرآن الكريم هو كلام الله ويجب الاعتقاد به ككل ، فهناك مئات الآيات العلمية في حقول العلوم المادية التي سبقت بمضمونها العلم بقرون لا يعقل أن تكون منطقيا إلا من لدن الله ، أما فكرة البعث بعد الموت ، فيجب اليقين بها من باب المنطق والقياس لأنها لا تقع تحت سلطان التجربة ، والحواس وهي غيب ، ولا يوجد إيمان صحيح إلا مع يقين بالآخرة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
    والمنطق السليم يفرض اليقين بكل ما جاء في القرآن الكريم ، ومنه الآيات الغيبية التي لا تقع مضامينها تحت سلطان العلم والحواس كالجنة والنار والملائكة والعرش ما دام في القرآن الكريم مئات البراهين العلمية المادية التي تخضع مضامينها لسلطان الحواس والتجربة ، وقد جاء العلم الصحيح يطأطىء الرأس أمام إعجازها ، ولا يستطيع كل ذي عقل ومنطق إلا أن يقرّ بأنها من لدن الله ، أما أن نوقن بهذه الآيات لأن العلم بيّنها بالصورة ورأيناها بالعين ، وننكر الآيات الغيبية لأن العلم والحواس لا يستطيعان تبيانها ، فهذا هو عين المنطق الازدواجي المرضي وهو منطق الملحدين الماديين.
    1 ـ الموت في المفهوم القرآني
    (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (النجم : 44)
    أ ـ لا شفاء من الموت
    يعتقد أكثر الناس في أعماق شعورهم ولا شعورهم وإن أنكروا ذلك بألسنتهم أن العلم سيجد يوما ما علاجا شافيا من الموت ، وهناك قلة من العلماء المهووسين يفتشون ويصرحون علنا بأنهم سيجدون يوما ما العلاج الشافي من الموت ، وما بدعة حفظ الأموات في الثلاجات بحرارة 280 درجة

    تحت الصفر حتى إذا وجد العلم يوما سر الحياة حقنوها بهذه المادة التي يفكرون باكتشافها ، إلا تفتيش عن سراب ، وسينتظرون كثيرا وكثيرا جدا فلقد انتظرت مومياء الفراعنة عودة الحياة إليها منذ خمسة آلاف سنة ولا تزال تنتظر وستظل تنتظر إلى يوم البعث! العلم لم ولن يصل يوما ما إلى إعادة الروح والحياة إلى الأموات : هذا أول تحدّ قرآني ، ونحن نقول ذلك بكل ثقة ويقين استنادا إلى عشرات الآيات الكريمة والتي نسميها بالتحديات القرآنية. فالله وحده جلت قدرته هو يحيي ويميت (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
    العلم لم ولن يخلق شيئا من العدم ف (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) (الأحقاف : 4) ، وهذا ثاني تحدّ قرآني.
    العلم وكل علماء الدنيا مجتمعين لم و (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وهذا تحدّ قرآني ثالث قائم إلى يوم الدين.
    والعقلاء من علماء الأحياء يقرون اليوم بأن العلم عاجز عن خلق خلية حية واحدة ، فكيف بذبابة مؤلفة من آلاف الخلايا المختلفة؟
    العلم وجميع القوانين الوضعية التي تتعارض مع القوانين السماوية الحقة لم ولن تؤمن السعادة للأفراد والمجتمعات ، وهذا تحدّ قرآني رابع قائم حتى يوم الدين : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ؛ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (طه : 123 ـ 124).
    وما دام العلم ، في مختلف فروعه ، عاجزا ، كما تبين للجميع ، عن الوقوف أمام هذه التحديات والمسلّمات القرآنية ، فهو لم يستطع شفاء الموت ، ولم ولن يرجع الحياة إلى الميت ، فلما ذا لا يأخذ الناس من باب

    المنطق بالمعاني القرآنية للموت ، وفيها سبيل الشفاء من القلق النفسي الذي يلف كل المجتمعات والأفراد من غير المؤمنين إيمانا صحيحا ، إذ لا إيمان من دون اليقين بعقيدة البعث والحياة بعد الموت.
    ليقف الذين ينكرون وجود الله ووجود الروح أمام الموت وليمنعوا عنا الموت ، ثم ليقولوا بعد ذلك بعدم وجود الحياة الآخرة والبعث والحساب والعقاب!!
    ليرجع الذين ينكرون وجود الله والروح الحياة إلى الأجساد التي فارقتها الحياة ثم لينكروا بعد ذلك وجود الخالق! نحن نتحداهم في ذلك بكل ثقة ويقين واستنادا إلى آيات الله الكريمة.
    فالمولى سبحانه وتعالى الذي قال باستحالة وقوف الإنسان أمام الموت ، أو إعادة الحياة إلى الأموات ، وتبين للعلم حقيقة ذلك ، قال بوجود حياة روحية بعد الموت وقبل البعث ، وبنشأة أخرى يوم البعث ، ومن باب المنطق والقياس أن نأخذ بما قاله المولى عز من قائل ، وقوله كما تبين للعلم هو دائما الحق.
    الإسلام يعطي للحياة معنى جميلا مشعا بالأمل بحياة أفضل من خلال فكرة البعث والحساب والعقاب ، ويمحو من شعور الإنسان الصورة المرعبة للموت. أما في منظار العلم المادي فللحياة معنى تعيس متعس بائس فهي تنتهي عاجلا أو آجلا إلى الفناء والعدم ، هي لا تستحق أن نعيشها كما قال أكثر الذين كتبوا في معنى الحياة ورأوا أن في الموت خلاصا من أعباء آلامهم وتعاستهم ، لأنهم لا يعتقدون بحياة النشأة الأخرى ، لذلك نجد أن أكثر الذين لا يعتقدون بالبعث يقضون آخر سني حياتهم مرضى الإحباط النفسي. ومن هنا نفهم نسبة الانتحار العالية خلال العقد الثالث من العمر عند هؤلاء لأن لا معنى للحياة عندهم خاصة في مرحلة الشيخوخة.

    ذلك أن للموت في المفهوم الإسلامي معنى مشرقا ، مفعما بالأمل والرجاء ، معنى حياة أفضل واستمرارية خالدة سعيدة ، في حين أن للموت في المنظار العلمي المادي معنى تعيسا مظلما معنى الفناء والعدم ، وكل حي يكره الفناء ويخافه ويهرب منه.
    ب ـ الموتة الصغرى والنومة الكبرى
    (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الزمر : 42).
    سبق لنا التعليق العلمي على هذه الآية الكريمة عند ما تناولنا موضوع النوم ، في الفصل السابق. فالموت في المفهوم القرآني هو إما موتة صغرى (نومنا العادي اليومي) أو نومة كبرى (الموت المتعارف عليه عند الناس) تنتقل خلالها الروح إلى حياة روحية فقط ، هي حياة البرزخ بدون الجسد والنفس.
    هذا المفهوم القرآني لأحد معاني الموت نحن نشدد عليه جدّا ، فبه نمحو الصورة المرعبة عن الموت في أذهان أكثر الناس ، ما دام الموت في هذه الدنيا هو في المفهوم القرآني انتقال الروح من حياة النشأة الأولى إلى حياة جديدة هي حياة البرزخ ، وحياة البرزخ قلما توقف عندها من تناول معاني الموت والحياة من الوجهة القرآنية.
    فما هي حياة البرزخ؟
    خلال النومة الكبرى (أي الموت بمعناه العادي) تموت النفس ووعاؤها الجسد ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أما الروح علة الحياة في النفس والجسد فيجعل المولى بينها وبين الجسد برزخا أي حاجزا غير منظور (حَتَّى إِذا جاءَ

    أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون 99 ـ 100) إن روح الكافر هي التي تقول في هذه الآية الكريمة (رَبِّ ارْجِعُونِ) فلقد أصبح يقينا بعد الموت بالنسبة للكافر كل غيب كان ينكره ، والمولى سبحانه وتعالى يقول : كلا ، معللا السبب بقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وهناك آيات كثيرة وأحاديث شريفة تؤيد وجود الحياة الروحية بعد موتة الحياة الدنيا وقبل الحياة الأخرى الخالدة : نكتفي منها بالتالي :
    (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ) (يخاطب هنا أرواح قومه الذين أخذتهم الصيحة) (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف 77 ـ 79).
    وكذلك بالنسبة للنبي شعيب الذي خاطب قومه بعد موتهم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ، وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (الأعراف : 93).
    وروي عن الرسول الكريم ما يؤيد حياة البرزخ الروحية :
    كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة (الأرض الواسعة) ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث ، أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركيّ (أي البئر التي دفن فيها قتلى المشركين من بدر) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان ابن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا. فقال عمر يا رسول الله : ما تكلم من أجساد لا

    أرواح لها؟ فقال رسول الله : والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. (رواه البخاري).
    ولقد صدر منذ سنوات ، كتاب عنوانه الحياة بعد الموت ، للدكتور مودي ، يتكلم عن مائة وعشرين حالة وفاة طبية وقتية ، توقف خلالها قلب المريض ، أقل من ثلاث دقائق ، وعاد بعدها للخفقان. وتحدث أصحاب هذه الحالات ، الذين مروا بموت طبي مؤقت (أي توقف القلب لمدة تقل عن ثلاث دقائق ثم عودته إلى الخفقان) عن تجربة روحية قريبة من حياة البرزخ ، وهو كتاب نجد فيه بعضا من الحقائق التي تؤيد حياة البرزخ.
    ج ـ (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)
    (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (غافر : 11).
    المولى سبحانه وتعالى أحيانا اثنتين : حياة النشأة الأولى ، أي الحياة الدنيا الفانية ، حياة الجسم والنفس والروح ، ثم الحياة البرزخية الروحية بعد موت النفس في الحياة الدنيا وقبل النفخة الأولى في الصور. والحياة الثانية هي حياة النشأة الأخرى ، الحياة الخالدة ، حين البعث وهي حياة بالجسم والنفس والروح أيضا. وهناك خطأ كبير يجب أن لا يقع فيه كل مؤمن ، إذ يعتقد بعض الناس أن حياة النشأة الأخرى هي حياة روحية فقط ، وعشرات الآيات الكريمة تؤكد بأنها حياة روح وجسد ونفس : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ. وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (الواقعة : 15 ـ 23). هل هذه صورة مادية أم لا؟ وهل الروح تأكل وتشرب وتتزوج إذا كانت حياة النشأة الأخرى هي حياة بالروح فقط ، كما يفهم البعض؟

    والمولى أماتنا اثنتين : الموتة الأولى : وهي موتة النفس والجسد ، أي موتتنا في الحياة الدنيا ، عند انقضاء الأجل المحتوم (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وموتة أخرى أي موتة الروح بعد انقضاء حياتنا الروحية البرزخية.
    وعند النفخة الأولى في الصور (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر : 68) ، ويختصر كل ذلك قوله تعالى في الآية الكريمة التالية : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (أي عدما) (فَأَحْياكُمْ) (الحياة الأولى الفانية) (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) (موتة الجسد والنفس ثم الروح) (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الحياة الأخرى الخالدة) (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة : 28) وهي من مثاني قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).
    2 ـ المفهوم القرآني للموت من الوجهة النفسية
    إن عقدة خوف الموت المتأتية من غريزة حب الحياة والمحافظة عليها هي من أولى وأهم العقد النفسية الأساسية عند الإنسان ، وتتحكم في أغلب التصرفات والأحاسيس الشعورية العصابية ، وكل المدارس الفلسفية والنفسية والاجتماعية ليس لها ما تقدمه من حل جذري لهذه العقدة النفسية المرعبة إلا من مدرسة السماء التي خففت الكثير من وطأة هذه العقدة ، من خلال عقيدة البعث والحساب ، لا بل إن الإسلام من خلال عقيدة البعث والجهاد لم يقدم فقط حلا منطقيا شافيا لعقدة الموت بل تسامى بها إلى فضيلة حب الاستشهاد في سبيل الله.
    ولقد سبق لنا وأوضحنا في الفصل الثالث معاني الموت من الوجهة النفسية.
    3 ـ معاني الموت البيولوجية في القرآن الكريم
    (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

    وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : 1 ـ 2).
    في المفهوم القرآني الموت والحياة خلق ؛ فالموت قد يكون مخلوقا بأسباب خارجية تدخل في علم علام الغيوب كالقتل والحوادث الطارئة والكوارث الطبيعية ومسببات الأمراض القاتلة كالميكروبات والفيروسات وغيرها ، أو بأسباب داخلية بيولوجية قدرها المولى في داخل كل حي.
    ومنذ أواسط القرن العشرين وحتى كتابة هذه السطور يكتشف علم الوراثة أن في كل الأحياء ، عوامل منشطة هي المسيطرة عند ما يكون الحي ضعيفا ، أي منذ بدء تخلقه وحتى سن النضج كهرمون النمو وغيره ، ومع تقدم الأحياء في العمر بعد بلوغ سن النضج تتراجع تدريجا العوامل البيولوجية الحياتية المنشطة فيه أمام عوامل الهرم والشيخوخة والتهديم البيولوجية ، وكل هذه العوامل البيولوجية تحكمها المورثات أي الناسلات الموجودة في الثروة الوراثية عند كل حي : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).
    هذه المورثات أي الناسلات [وهي مواد كيميائية جزء من حامض أميني نووي] D.N.A. تحكم مختلف العوامل البيولوجية التي تحول الجنين من ضعف إلى قوة بفعل مورثات التخلّق والنمو والنضج ، ثم من قوة إلى ضعف بفعل المورثات التي تتحكم بأمراض الشيخوخة والهرم. وقد كشف علم الوراثة منذ سنوات فقط مورثات تصلب الشرايين وبعض الأمراض السرطانية ، وتصلب الشرايين والأمراض السرطانية يتسببان بثلثي الوفيات عند الإنسان.
    من هنا نفهم قوله تعالى في العمق (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (أي من خلية لا يتجاوز قطرها خمس المليمتر ووزنها واحد من مليار من الغرام) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) (إذ تحولت النطفة الأمشاج إلى مولود ثم إلى

    رجل ناضج بفعل مورثات التخلق والتسوية والنمو) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (بفعل عوامل الهرم والشيخوخة التي تحكمها مورثات تصلب الشرايين والسرطان والمناعة وغيرها) (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم : 54).
    فالموت من الوجهة البيولوجية ، كما بدأ العلم يبين ذلك هو مقدر في الثروة الوراثية للإنسان ومنذ بدء تخلق الجنين ، مصداقا لقوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (الواقعة : 60 ـ 61) وعوامل الموت والحياة البيولوجية هي مكتوبة بلغة كيميائية في داخل الإنسان وفي ثروته الوراثية بالذات مصداقا لقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (فاطر : 11) أولا تعني كلمة كتاب هنا من بين ما تعنيه من معان ، الشيفرة الكيميائية المكتوبة في خلايا كل مخلوق حي عنينا بها الثروة الوراثية؟ الله أعلم بتأويل كلماته.
    4 ـ الموت الطبي ، موت الدماغ
    حتى منتصف القرن العشرين ، اقتصر تعريف الموت من الوجهة الطبية على التأكد من توقف القلب عن الخفقان بصورة دائمة ؛ ومع تقدم علم التخدير والإنعاش أمكن في بعض الحالات الطبية التي يتوقف خلالها القلب إعادته إلى الخفقان بواسطة التدليك القلبي والصدمات الكهربائية القلبية والأدوية ، كما أمكن بواسطة آلة التنفس الاصطناعي الاستغناء عن عمل الرئتين لبعض الوقت ، وبذلك تبين للأطباء أن المريض الذي يتوقف قلبه عن الخفقان لمدة تزيد عن ثلاث دقائق ، ثم يعود للخفقان بواسطة الإنعاش والتنفس الاصطناعي قد يبقى لبعض الوقت ، مدة قد تطول وقد تقصر إلا أنه يبقى فاقد الوعي وفي غيبوبة من الدرجة الرابعة ، إلى أن يتوقف القلب تلقائيا رغم كل وسائل الانعاش ، ومن هنا نشأ مفهوم الموت الطبي أو الموت


    صورة جانبية داخلية لنصف الدماغ وجذعه. (يطلق اسم الموت الطبي على بعض الحالات المرضية الخاصة التي يموت فيها الدماغ بالرغم من بقاء خفقان القلب ـ في هذه الحالات النادرة يسمح فيها بنقل أعضاء المريض إلى من هم بحاجة إلى ذلك بعد أن تؤكد ذلك لجنة طبية مختصة)

    الدماغي وتعريفه الآتي : الموت الطبي هو كل حالة يتأكد خلالها الأطباء ، بواسطة الفحص السريري ومخطط الدماغ الكهربائي ، وتلوين الشرايين الدماغية ، وتصوير الدماغ بالكمبيوتر أن الدماغ قد توقف عن العمل لأن «خلاياه النبيلة» قد ماتت ، بالرغم من عمل القلب وخفقانه.
    هذه الحالات المتعارف عليها اليوم بالموت الطبي أو موت الدماغ ، يسمح فيها بعد التأكد منها بواسطة لجنة طبية مختصة ، بنقل أعضاء المريض الذي يكون في حالة كهذه إلى غيره من المرضى الذين هم بحاجة لقلب أو عين أو كلية ومن هنا نشأت فكرة زرع القلوب ونقل الأعضاء.
    5 ـ ما رأي الإسلام في الموت الطبي؟
    عظمة وإعجاز القرآن الكريم ، أن الباحث في معانيه ، يجد دائما في آياته الكريمة الحل الذي يطرحه كل علم صادق وصحيح ، والموت الطبي كما عرفناه ، نجد تعريفه في القرآن الكريم في نصوص واضحة لا تتطلب إلا بعض التعليق.
    في المفهوم القرآني : الروح هي علة الحياة في الجسد والنفس ومركزها في الصدر ، وعند ما ينتهي أجل الإنسان في هذه الدنيا تترك الروح الجسد وتنتقل إلى حياة روحية جديدة هي حياة البرزخ. أما الجسد فيفنى ويموت ، إلا أنه في بعض الحالات الخاصة كحالات الموت الطبي الذي نحن بصدده ، وتبيانا من المولى عز وعلا على وجود الروح لمن ينكر وجودها تنتقل الروح من المصدر إلى الحلقوم وهو في مستوى الترقوتين أي القسم الأعلى من جهاز التنفس ، وفي هذا إشارة قرآنية إلى أن لا عودة للروح إلى الصدر وأن أجل الإنسان قد انتهى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) (الروح) (الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (أي خاضعين لقهر وسلطان الخالق). (تَرْجِعُونَها) (أي الروح ـ وهنا تحدّ

    قرآني قائم إلى يوم الدين لكل من يدعي أن باستطاعته إعادة الروح إلى الجسد ، أي إعادة الحياة إلى الأموات كما يفكر بعض السذج من علماء الأحياء) (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الواقعة : 83 ـ 87).
    ولقد حددت الآيات الكريمة التالية شروط الموت الطبي التي نستطيع من خلالها أن نؤكد شرعيّا بأن المريض قد مات طبيّا بالمعنى المتعارف عليه اليوم بالرغم من خفقات قلبه ويمكن بالتالي نقل أعضائه إلى المحتاجين من المرضى.
    (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (القيامة : 26) : أي حتى إذا بلغت الروح مستوى الترقوتين (وهما عظمتان في المستوى الأعلى للقفص الصدري ومستوى الحلقوم) في هذه الحالة يتوقف عمل الرئتين ويضطر الأطباء لاستعمال آلة التنفس الاصطناعي.
    (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (القيامة : 27) : أي وقال أهله من يستطيع أن يأتي لهذا المريض ب «رقية» أي بأعجوبة تنجيه من الموت.
    (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) (القيامة : 28) من وجوه معاني هذه الآية نرى تأويلها الآتي والله أعلم : أكد أهل الاختصاص أن هذا المريض قد فارق الحياة لأن الشدة المرضية تتوالى عليه : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (القيامة : 29).
    في هذه الحالة وبعد أن تصل الروح إلى مستوى التراقي والبلعوم يسأل الأهل الفريق الطبي المعالج هل من أعجوبة طبية تنقذ المريض؟ فيؤكد الفريق الطبي أن هذا المريض هو في حال «فراق» لأن الشدائد والمضاعفات الطبية توالت وتتوالى عليه ، ولا رجاء منه ، وأنه في حالة الموت الدماغي ، وهو بين يدي الرحمن الذي قال : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ). وهكذا نجد أن القرآن الكريم وصف وحدد علامات الموت الطبي أو موت الدماغ من

    دون أن يفصلها (كما هي الحال في حقل كل الآيات العلمية التي تطرقت إلى حقول العلوم المادية) لذلك ربط تأكيد فراق المريض لهذه الدنيا بمن هو أهل لذلك من قوله تعالى : (وَظَنَ) (أي أيقن أهل العلم والاختصاص) (أَنَّهُ الْفِراقُ).
    لذلك لا نجد من الوجهة الشرعية أي مانع في نقل أعضاء أي مريض هو في حالة غيبوبة عميقة أكّد فريق طبي مؤهل أنه في حالة «فراق» أي في حالة موت طبي. والله أعلم.
    6 ـ علامة العين التي تدور
    (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ...) (الأحزاب : 19).
    إن حالة الارتجاف في العين ، تشاهد عند بعض الناس في حالة الخوف الشديد ولكن ما يستوقفنا هنا ، هو الإعجاز العلمي الكامن في قوله تعالى : (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ذلك أن حركة الارتجاف في العين ، وهي من العلامات الرئيسية التي تصاحب الإصابات المرضية في جذع الدماغ لم يعرفها أطباء الجهاز العصبي إلا سنة 1959 فقط ، مع الدكتور «فيشر» Fisher الذي وصف علامة العين التي تدور ، بما يسمونه بعلامة «عين الدمية المخلوعة» (Signe de I'oeil detele d'une poupee)) Bobbing occular movement () Doll's signe) فكل إصابة في جذع الدماغ ، مصحوبة بعلامة العين التي تدور هي إصابة مميتة يكون المريض خلالها في حالة غيبوبة عميقة ، تنتهي به سريعا إلى موت أكيد ، ولم يعرف الأطباء أي حالة غيبوبة مصحوبة بعلامة العين التي تدور إلا وانتهت إلى الموت ؛ إذ يكفي ظهور هذه العلامة وحدها فقط ، عند أي مريض في حالة غيبوبة ، لتعني بالنسبة إلى أطباء الأعصاب ، قرب انتهاء أجل المريض ، بصورة شبه أكيدة. ولقد يسّر لنا

    المولى من خلال عملنا الطبي أن نطّلع على بعض حالات غيبوبة عميقة ، مع علامة العين التي تدور. (تدور العين إلى الأسفل وترجع تلقائيا إلى وضعها الوسطي العادي ، تماما كعين الدمية) وكلها انتهت بالموت وصدق أصدق القائلين (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).


    الفصل العاشر
    الاحباط النفسي في المنظار العلمي والمفهوم القرآني
    (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
    (البقرة : 277)
    «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدل مكانه فرحا».
    (الطبراني)


    1 ـ الإحباط النفسي : منشؤه ومسبباته
    لكل مخلوق حي حاجات حياتية رئيسية أربع (besoins vitaux) مراكزها عند الحيوان في الدماغ الحيواني أو النباتي (cerveau vegetatif ,ou ancien cerveau) الذي هو مبعث الأهواء والنزعات الشعورية واللاشعورية والتصرفات السلوكية التي ندعوها بالغرائز.
    هذه الحاجات الأساسية تؤثر وتتأثر عند الإنسان بالدماغ العاقل المفكر (neo cerveau) الذي جعله المولى سيّدا على الدماغ الحيواني ، وهي : غريزة حب الحياة والمحافظة عليها ، غريزة حب التملك ، غريزة طلب الحنان والرعاية ، وغريزة طلب الجنس والمحافظة على النوع.
    وبانحراف هذه الغرائز الحياتية عن مسارها السوي نحو المغالاة أو الكبت (بفعل مؤثرات خارجية عديدة : تربوية واجتماعية خاطئة أو ظروف قاهرة أو مؤثرات داخلية مرضية) تنشأ ما نسميه بالعقد النفسية الأساسية : كعقد الموت والشح والإسراف والنقص والحرمان والتكبر والعقد الجنسية ، ولقد فصلناها بصورة مبسطة ومختصرة في الفصول السابقة.
    وإذا لم تجد هذه العقد النفسية حلا جذريا شافيا لها (وغالبا لا تجد إلا حلولا وقتية مقنّعة غير شافية) تتحول أحيانا إلى نقيضها فتنقلب غريزة حب

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    من علم النفس القرأني Empty
    مُساهمةموضوع: رد: من علم النفس القرأني   من علم النفس القرأني Emptyالجمعة نوفمبر 01, 2024 8:00 am

    الحياة وعقدة خوف الموت الناشئة عنها إلى كره الحياة واليأس منها والتفتيش عن الموت. وتنقلب غريزة حب التملك وعقد الشح وما يتبعها من الركض اللاهث وراء الزينة والأموال إلى إحساس دائم بالسأم والزهد الخاطئ بكل زينة ومتاع في الدنيا ، وتنقلب غريزة طلب الحنان والعطف وعقد النقص والشراسة والتعالي الناشئة منها إلى كره الذات والغير ورفض تقبل أو إعطاء المساعدة والعطف للذات والغير ، كما تنقلب غريزة الجنس والعقد الناشئة عنها إلى اللامبالاة والعجز الجنسي ، كما يرافق كل هذه العوارض النفسية عارض الشراسة الذي يشكل قاسمها المشترك.
    ـ أما عند الأحياء المسيرة من الخالق سبحانه وتعالى ، فلا عقد ولا احباط نفسي عندها ، شرط أن لا يفسد الانسان طريقة عيشها الطبيعي لأن الحيوان يهديه المولى وتسيره الغرائز التي وضعها فيه ، لذلك هو سعيد لا يعرف القلق ولا الاحباط النفسي.
    ـ وبصورة مبسطة إن تعلق الإنسان المرضي بالأشياء وصعوبة المحافظة عليها أو فقدانه لها هو من أهم مسببات الاحباط النفسي والكآبة والحزن وفي طليعة الأشياء التي يتعلق بها الإنسان : الحياة والولد والجنس والمال وبقية زينة الحياة الزائلة ... وتعريف الاحباط النفسي بأنه «فقدان الشيء المحبوب» يندرج تحت الزاوية المبسطة التي عرفنا بها منشأ العقد والإحباط النفسي.
    2 ـ بعض الإحصاءات
    القلق والإحباط النفسي هما بنسبة تصاعدية كلما تقدمت الانسانية في مضمار الرقي المادي وبعدت عن تعاليم السماء الحقة ، هذا ما بينته الإحصاءات ، ويكفي التذكير ببعض الأرقام :
    ـ كل شخص من عشرة أشخاص مصاب بعارض أو أكثر من عوارض الإحباط النفسي!!

    الانتحار واليأس من الحياة بمحاولة قتل النفس ، هو من أهم عوارض الإحباط النفسي فهو في مظاهره في 40 خ من الحالات ، والانتحار هو بنسبة تصاعدية في المجتمعات الغربية حيث جرت الإحصاءات التالية : فقد جاء في مجلة طبية فرنسية :(La revue du praticien No 12 Novembre 2891).
    أن الانتحار يشكل عشرة في المائة (10 خ) من أسباب الوفيات بين سن العشرين والرابعة والعشرين وانه المسبب الثاني للوفيات بعد حوادث السير!
    أن محاولة التخلص من الحياة بالانتحار هي بنسبة 3 إلى 5 أشخاص في الألف بين سن الخامسة عشرة والرابعة والعشرين ، وهي بنسبة 5 ، 1 ـ 3 في الألف بين سن الخامسة والعشرين والرابعة والأربعين.
    في احصاءات فرنسية لعام 1986 هناك سبعة عشر ألف حادثة انتحار ناجحة بين المراهقين فقط.
    أدرجت منظمة الصحة العالمية دواء الفاليوم ، مهدئ القلق المعروف ، في لائحة الأدوية الأساسية وهو في طليعتها استعمالا ، كما أن أربعة عشر بالمائة (14 خ) من المرضى بصورة عامة هم مرضى أمراض نفسية عصابية.
    ـ تعليق : لو وجدت عندنا احصاءات رصينة ، وهي مع الأسف غير موجودة ، واعتمدت من جملة مؤشراتها وجود الإيمان الصادق لوجدت أن نسبة الأمراض العصابية ومنها الاحباط النفسي العصابي ، (وهي الأمراض المتأتية من عوامل اجتماعية وخارجية) ، هي الأقل بين الأفراد والجماعات المؤمنة إيمانا صادقا!!! ربما كانت هذه الفكرة الاحصائية موضوعا لأطروحة في علم النفس عند طلابنا الجامعيين المؤمنين!



    3 ـ أعراض الإحباط النفسي
    للإحباط النفسي ثلاثة أوجه هي بصورة مختصرة جدا ومبسطة كالآتي :
    1 ـ من الوجهة النفسية الشعورية :
    ـ شعور دائم أو متقطع ، بالكآبة وأقصى درجاتها الحزن (أعراض موجودة في 95 خ من حالات الإحباط النفسي).
    ـ شعور بالذنب واليأس والثورة وعدم ثقة بالذات والغير (أعراض موجودة في 85 خ من حالات الإحباط النفسي).
    ـ شعور بالقلق النفسي والخوف والاضطراب والذعر بدون أي مبرر أو لمجرد وجود مبرر طفيف (أعراض موجودة في 70 خ من حالات الإحباط النفسي).
    ـ بكاء بدون أي مسبب (أعراض موجودة في 70 خ من حالات الإحباط النفسي).
    ـ نوبات حادة من القلق النفسي والخوف غير المبرر من الأمراض العضوية أو العقلية مع خوف من الموت (أعراض موجودة في 60 خ من حالات الإحباط النفسي).
    ـ تفكر دائم في أخطاء الماضي والحاضر وتضخيمها مع يأس وخوف من المستقبل (أعراض موجودة في 50 خ من حالات الإحباط النفسي).
    2 ـ من الوجهة العقلية :
    ـ ضعف في الانتباه والتركيز (أعراض موجودة في 90 خ من الحالات).
    ـ فقدان الاهتمام بالأشياء والطموح (أعراض موجودة في 80 خ من الحالات).

    ـ نقص في الذاكرة حفظا وتذكرا (أعراض موجودة في 60 خ من الحالات).
    ـ أفكار انتحارية وتمني الموت (أعراض موجودة في 40 خ من الحالات).
    3 ـ من الوجهة العضوية :
    أ ـ اضطراب في عملية النوم (أعراض موجودة في 98 خ من الحالات).
    ب ـ اضطراب في التنفس ، كثرة في التبول ، احساس عام بالتعب ، فقدان الشهية ، نقص في الوزن ، إحساس كاذب بالدوخة ، اضطرابات وظيفية في الجهاز الهضمي (أعراض موجودة في 70 خ من الحالات).
    ج ـ نقص في القوى والرغبة الجنسية أو فقدانها ، اضطرابات في القلب والأوعية الدموية (أعراض موجودة في 60 خ من الحالات).
    د ـ آلام في الرأس ، إحساس بالتقيؤ ، اضطرابات في الدورة الشهرية عند المرأة ، أحاسيس غير طبيعية في مختلف أعضاء الجسم (40 ـ 55 خ من الحالات).
    المرجع :
    (Les depressions et leur drognostic frank. J. AYD. J. Presse Universitaire de France)
    تنبيه : يطلق غير المختصين تعبير «تشخيص الاحباط النفسي» على كثير من الحالات التي ليست بذلك استنادا إلى ما يقرءونه أو يسمعونه من وسائل الإعلام السمعية والبصرية ، نحن لا ننصح باعتماد هذه الوسائل ، فتشخيص الإحباط النفسي أصعب مما يظنون ، والأفضل سؤال المختصين بهذا العلم التزاما بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

    4 ـ أشكال الانهيار النفسي
    أ ـ الإحباط النفسي الطبيعي :
    يشعر كل انسان لدى فقدانه لشيء عزيز عليه بنوع من الإحباط ، ننعته بالطبيعي وليس المرضي وهو عملية مقاومة نفسية يستطيع من خلالها الإنسان تخطي صعوبات عرضية ، والمسلم الذي فهم دينه وعقل معنى هوية المصيبة من الزاوية الإسلامية كما فصلناها في الفصل السادس من هذا الكتاب ، لا يعرف من الإحباط النفسي إلا الإحباط الطبيعي الذي تبقى عوارضه لبضعة أيام أو أسابيع على الأكثر ، علما أن هذه العوارض طفيفة وليست مزعجة كعوارض الإحباط النفسي المرضي ، فالرسول عليه الصلاة والسلام حزن حزنا طبيعيا عند موت زوجته خديجة عليها الصلاة والسلام وعمه أبي طالب وابنه إبراهيم ؛ روى البخاري ومسلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله؟ فقال «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال «إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون».
    كذلك كان حزن سيدنا يعقوب حزنا طبيعيا على فراق ولده يوسف عليه‌السلام ، وإن كان هذا الحزن قد طالت مدته لدرجة أن الحزن أفقده بصره (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ، قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ، قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (يوسف : 84 ـ 86).
    ومن أعراض الحزن الطبيعي أنه لا يحبط بالعمق مختلف قوى الإنسان الشعورية والعضوية والعقلية كالحزن المرضي ، فلا يمنع الإنسان من العمل والتفكير والشعور بصورة طبيعية ، والأهم أن ظاهرة تمني الموت

    والانتحار لا وجود لها في كل حزن طبيعي ، فالإنسان العاقل ، وهي صفة كل مؤمن ، لا يقنط من رحمة الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (يوسف : 87).
    فاليأس من الحياة وأقصى درجاته ، محاولة الانتحار ، لا وجود له عند كل مؤمن عقل هوية المصيبة في القرآن الكريم ...
    ب ـ الإحباط النفسي الذهاني أو الداخلي :
    وهي حالة مرضية قد تصاحب أكثر الأمراض العقلية الذهانية وهي أمراض ، منها وراثي ، يتأتى أكثرها من مسببات عضوية كشف العلم بعضها ؛ كاضطراب في عمل الخلايا العصبية الدماغية نتيجة زيادة أو فقدان بعض المواد الكيميائية التي تحكم عملها ، وهذا النوع من الاحباط النفسي هو مرض عضوي علاجه كبقية الأمراض العضوية بالأدوية ، وهو بلاء من الله عند المؤمن ، مصداقا لقوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران : 186). (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة : 155).
    وقد وجدنا أعراض هذا النوع من الانهيار النفسي خفيفة عند المؤمن الصادق ، فلا وجود لظاهرة الانتحار عنده (علما أنها أكثر الأعراض وجودا وإزعاجا في هذا الشكل من الإحباط النفسي) ، فالمؤمن لا يخشى بخسا ولا رهقا من كل المصائب والبلايا التي تحل به في هذه الدنيا شرط أن يعقل معنى المصيبة في المفهوم القرآني مصداقا لقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).
    ج ـ الإحباط النفسي العصابي :
    وهو حالة مرضية قد تصاحب مختلف أنواع الأمراض العصابية ،

    كعصاب القلق النفسي وعصاب الهستيريا وعصاب الخوف وعصاب الوسواس القهري ، وأمراض الشخصية العصابية وكلها أمراض متأتية من عقد نفسية دفينة لم تجد حلا إلا من خلال المظاهر النفسية التي يشكو منها المريض وقد فصلنا بعضها في الفصول السابقة.
    د ـ الإحباط النفسي الارتكاسي
    وهو نتيجة انهيار مقاومة الإنسان النفسية والجسمية بفعل مسببات خارجية عديدة لا حصر لها ، أجهدت الجسم والعقل والنفس واستنفدت كل مقاومته ، أو بفعل مفهوم خاطئ لمعنى الحياة والعمل ، فالعمل الدائم والركض اللاهث وراء متاع الدنيا دون أن نعطي العقل والنفس والجسد حقهم من الراحة الضرورية اليومية هما من مسببات الانهيار النفسي الانهاكي كما نحب تسميته وهو الشكل الأكثر شيوعا اليوم وخاصة في المجتمعات المادية.
    5 ـ علاج الإحباط النفسي
    أعطى الإسلام الحل الصحيح الشافي لجميع مشاكل الإنسان ، ومنها أمراضه النفسية العصابية [أي المتأتية من مؤثرات وعوامل خارجية ظالمة ومفاهيم تربوية واجتماعية خاطئة] إنما المشكلة اليوم هي في التنظير والبرمجة والتطبيق لهذه المفاهيم الاسلامية التربوية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والدينية في البيت والمدرسة والمجتمع ، منذ نشأة الانسان وحتى مماته ، وقد فصلنا شيئا من هذه المفاهيم الاسلامية النفسية في فصول سابقة من هذا الكتاب ، وكما سبق قوله : كل انسان غير مؤمن إيمانا صادقا ، هو في نظرنا مريض عصابي ، بصورة خفية أو ظاهرة مهما حاول إخفاء عوارض عصابه : فالإسلام إذا فهم ودرس وطبق بصورة منهجية علمية في البيت والمدرسة والمجتمع ، هو وحده القادر كنظام كامل لا ثغرة فيه على شفاء الإنسان من عقده النفسية التي تسبب أمراضه العصابية ، ومنها الإحباط النفسي ، لا بل إن

    الإسلام لم يقدم فقط حلا شافيا لعقد الإنسان بل تسامى بها عند المؤمنين الصادقين إلى كبرى الفضائل : فتسامى بعقد الموت إلى فضيلة الجهاد وطلب الشهادة ، وتسامى بعقد النقص والتعالي إلى المحبة والثقة بالنفس والتواضع والصبر ، وتسامى بعقد الشح إلى فضيلة الإحسان حتى الايثار ، وتسامى بعقد الجنس إلى فضيلة العفة والترفع عن كل شهوة جنسية آثمة.
    لذلك نحن نعتقد من زاوية إيمانية أولا ، وبحكم التجربة الشخصية المهنية ومن خلال فشل تجربة المدارس النفسية التي حاولت أن تعالج الأمراض العصابية والاضطرابات السلوكية من وجهة كيميائية ، أو تحليلية نفسية دون الأخذ بتعاليم السماء ، أن لا شفاء من القلق والخوف والإحباط النفسي وبقية الأمراض العصابية والاضطرابات السلوكية بصورة جذرية إذا لم يلتزم كل مريض بشيئين : وصفة طبية دنيوية موقوتة المفعول من أهل الاختصاص في الأمراض النفسية ووصفة روحية إيمانية هي الالتزام بتعاليم المولى وهي وصفة جذرية الشفاء من قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة : 38).

    الفصل الحادي عاشر
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)
    (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
    (طه : 115)
    «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا.
    يا عبادي : كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
    يا عبادي : كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
    يا عبادي : كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
    يا عبادي : إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.
    يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.

    يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئا.
    يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.
    يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّا مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر.
    يا عبادي : إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
    (حديث قدسي)
    ـ رواه مسلم ـ

    قال تبارك اسمه وتعالى ذكره : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب : 72).
    هذا الإنسان ، هذا الخصيم المبين هل تغير منذ أن أوجد الله الإنسان الذي يدعونه بالعاقل؟ كلا : والقصة تبدأ مع سيدنا آدم وزوجته وولديهما قابيل الذي قتل أخاه هابيل. وحتى كتابة هذه السطور ، وهل مرّت على الإنسانية لحظة بدون ظلم للنفس وللغير أو قتل أو تدمير على يد هذا الظلوم الجهول الذي كرمه المولى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (الاسراء : 70).
    هذا الذي جعله المولى خليفة في الأرض أي صاحب سلطان أعظم فنسي ولم يلتزم بتعاليم الله هل تغير؟ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه : 115).
    هذا الإنسان ، هذا الأكثر جدلا ، الذي قبل وحمل «الأمانة» أي السيادة على جميع مخلوقات الله التي سخرها له : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) شرط ألا يفسد في الأرض ولا يطغى في ميزان الخلق

    ولا يتعسف في استعمال هذه «الأمانة السيادة» ، هل كان بمستوى هذه المسئولية الخطيرة ، مسئولية الأمانة على بقية مخلوقات الله؟ كلا!!.
    هذا الإنسان : الخصيم المبين ، الظلوم الجهول الهلوع الجزوع المنوع القتور اليئوس الفخور المغرور الكفار المتكبر العاتي المفسد في الأرض سفاك الدماء ؛ إلا القلة ممن هدى واهتدى ، ما وصل إلى هذه الحالة النفسية والاجتماعية والأخلاقية التعيسة التي تلف أكثر المجتمعات اليوم إلا لأنه ترك كتاب الوقاية والصيانة والشفاء للأفراد والمجتمعات : القرآن الكريم ، واتبع دساتيره وقوانينه الوضعية الأرضية ، ونسي أبسط البديهيات : فكل صانع هو أعلم بصنعته : ما يصلحها ويضرها ، والخالق هو الأعلم بمن خلق (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) لنفسه ولأخيه الإنسان ، فهو يبتزه ويسرق موارده وخيراته الأولية ويستعمره في جسده ونفسيته وأرضه بأي وسيلة تتوفر له منذ أن كان الإنسان العاقل وحتى كتابة هذه السطور : يصرف مليون دولار تقريبا في الدقيقة لإنتاج وسائل الفتك والدمار ، ويترك عشرات الملايين من إخوانه يموتون سنويا من الجوع ، ومئات الملايين يعانون من سوء التغذية ، ومليار نسمة في دياجير الجهل والمرض والفقر ، بينما هو يصنع القنابل الجرثومية ويخطط لحرب النجوم ، كدس فوق رأس كل فرد من أفراد البشرية بضعة أطنان من المواد الشديدة الانفجار ، وفي ترساناته الحربية ما يكفي بكبسة زر أو أزرار لمحو كل أثر للحياة على وجه الأرض خمسا وعشرين مرة ، اعتقادا منه أنه يستطيع أن يتحكم تماما بمصانع الدمار الجهنمية هذه.
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) نسي أو تناسى محدودية علمه وقدرته ، وتناسى ما يتعرض له كل سنة من كوارث بسبب مصانع الدمار المدمرة لبيئته وما عليها لأنه نسي أو تناسى القانون الإلهي الذي ما وضع إلا للمحافظة عليه

    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)

    الفقر والمرض والجهل والقلق في العالم هي نتيجة أنانية الانسان وظلمه ونتيجة القوانين الوضعية التي اتبعها ، ولو اتبعت الانسانية النظام الاسلامي لما بقي مريض وجاهل وفقير ...

    وعلى بيئته : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (الرحمن : 7 ـ 9).
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) لنفسه ولغيره لأنه تناسى وتجاهل القانون القرآني الحق (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ... ونسي أيضا الحديث القدسي : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) لأنه وضع لنفسه وفرض على غيره قانون الباطل المتمثل في تصرف أكثر الدول : القوة هي الحق والحق هو القوة ونسي القانون الإلهي : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ... ونسي قول المصطفى عليه‌السلام «بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال ، بئس العبد عبد تجبر ونسي الجبار الأعلى ، بئس العبد سها ولها ونسي المقابر والبلى».
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) هو يتجاهل الموت وهو يعلم أن لا مفر منه ، تناسى وتجاهل قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة : Cool (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) يتجاهل وجود الخالق وهو يعلم ضمنا بل لا يستطيع إلا أن يقر بينه وبين نفسه بوجود الخالق (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ).
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) لأنّه لا يريد أن يعترف بأن قانون الله هو

    الصحيح رغم كل الإحصائيات والوقائع والتجارب التي أثبتت له خلل قوانينه الوضعية. نسي أو تناسى وتجاهل قول رب العزة : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) : لأنه لا يريد أن يعترف بقلة ومحدودية علمه مهما أوتي من علم (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
    (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) : درس الإنسان كل شيء في هذا الكون فوجده قائما على نظام صحيح محكم ومتقن الصنع ، ورغم ذلك تجاهل من وراء هذا النظام المحكم المتقن في كل شيء من الذرة إلى المجرة وأرجع ذلك إلى فرضيات واهية كأزلية المادة والصدفة والتطور والطبيعة وهل من شيء منظّم إلا ويكون وراءه منظّم (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
    بعض الإحصاءات
    أثبت الطب أن تناول الخمر وإدمانها يتسببان بما يقرب من خمسين مرضا وعارضا صحيا ، وتقول إحصاءات منظمة الصحة العالمية : أن 86 خ من حالات القتل و 50 خ من حالات العنف والاغتصاب وحوادث السير هي نتيجة شرب الكحول.
    وتقول إحصاءات الولايات المتحدة الأميركية أنها تخسر سنويا 30 مليار دولار ثمن ساعات توقف عن العمل وطبابة بسبب إدمان الخمر ؛ وان فيها عشرة ملايين مدمن خمر.
    وتقول الإحصاءات في فرنسا : إنها تخسر سنويّا مائة مليار فرنك ثمن ساعات توقف عن العمل وطبابة من جراء إدمان الخمر ، وأن فيها أربعة ملايين مدمن للخمرة ، على حين أنها تربح 20 مليار فرنك سنويّا من بيع الخمور.
    تقول الإحصاءات في إنكلترا أنها تخسر 1800 مليون دولار سنويّا

    بسبب مليون مدمن خمرة فيها.
    وتقول إحصاءات الاتحاد السوفياتي الرسمية : أن 37 خ من اليد العاملة فيه هي مدمنة كحول و 67 خ من حوادث الطلاق والمآسي الاجتماعية هي نتيجة إدمان الكحول و 91 خ من حوادث القتل والسرقة والاعتداء هي نتيجة إدمان الكحول.
    وتقول الإحصاءات بصورة عامة : أن 25 خ من الأسرّة في مستشفيات الولايات المتحدة و 20 خ من الأسرّة في انكلترا و 30 خ في أوستراليا يحتلها مرضى الإدمان الكحولي. وبالرغم من كل هذه الإحصاءات والحقائق ، وهي إحصاءاتهم ومعلوماتهم يقول مغرضوهم إن تعاليم الإسلام التي تحرم الخمرة منذ خمسة عشر قرنا تتعارض مع العلم ، أليس هذا الإنسان بظلوم جهول؟!!
    أثبتت آخر المراجع الطبية أن العلاقات الجنسية الآثمة أي غير الشرعية كالزنا واللواط تسبب بما يقرب من سبعين مرضا وعارضا صحيا أكثرها خطر ومزعج وبعضها قاتل ، كمرض فقدان المناعة المكتسبة المسمى ب «السيدا» أو «الإيدز» والذي يصيب في أكثر حالاته اللواطيين بنسبة 70 خ في المائة.
    ويقول أشهر عالم في أمراض السرطان البروفسور «جورج ماتي» إن الإباحية الجنسية تكلف الفرنسيين غاليا ، فلقد أثبتت له الإحصائيات وخبرته الطويلة أن سرطان عنق الرحم هو بنسبة متزايدة جدا عند اللواتي يمارسن الحب بدون رقيب ، وكشربة ماء ومع رفقاء عدة ، ومع ذلك فقد ثارت الصحافة ضد تصريح هذا العالم لأنه يريد أن يسيء بهذه المعلومات الطبية للحرية الفردية! ويحد من نشاطها!
    أ ليس هذا الإنسان ظلوما لنفسه ، جهولا لكل علم صادق ومفيد وصحيح (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ، ومع ذلك فالمغرضون من المستشرقين واللاهثين وراء كل شيء أتى من الغرب يقولون بأن الإسلام وتعاليمه تتعارض مع العلم!!

    أخيرا وليس آخرا أثبت علم الطفيليات والتغذية والتغذية والإحصاءات أن لحم الخنزير يتسبب بأخطر الأمراض ومع ذلك يتصدر لحم الخنزير موائدهم ، ولا يزال بعض اللامزين يفتري الأقاويل على هذا الدين الحنيف الذي حرم أكل لحمه منذ خمسة عشر قرنا! أليس هذا الإنسان بظلوم جهول؟! كلفت الحرب العالمية الثانية الإنسانية ما يزيد عن أربعين مليون قتيل ومشوه ومن الأموال ما لو أنفق لتحسين عيش أفرادها لأعطى كل فرد من أفرادها بيتا مستقلا ومستقبلا آمنا حتى أواخر عمره ، والإنسانية تنفق على التسلح (إحصائيات الأمم المتحدة لعام 1984) في كل ساعة ستين مليون دولار ، في حين يموت كل يوم خمسون ألف طفل دون السنة الواحدة من العمر من الجوع ، ويعاني 750 مليونا من سوء التغذية والجوع ، و 830 مليونا من سوء الرعاية الصحية ، وربع الإنسانية من الأمية ، وهي ما تزال تكدس السلاح ، رغم أن عندها ما يكفي لمحو أي أثر لحياة في كرتنا الأرضية خمسا وعشرين مرة؟
    يستهلك الفرد في الدول «المتحضرة» ما معدله السنوي مائة كيلوغرام من اللحوم والفائض منه يحوله علفا للحيوانات ومعلبات للكلاب والقطط ، في حين يستهلك الفرد في الدول الفقيرة التي أفقروها وسرقوا وابتزوا مواردها ثلاثة كيلوغرامات من اللحوم ، وهم يعرفون أن الإنسان الذي يتشدقون بحماية حقوقه والدفاع عن إنسانيته ، هو بحاجة على الأقل لمائة غرام يوميّا من اللحوم.
    الإنسان هذا الخصيم المبين ، أخطر وأفتك حيوان على وجه الأرض ، هو في طريقه لتدمير بيئته التي يعيش عليها ، وللتدمير الذاتي ، بعد أن لوث الجو والبر والبحر ، وقضى على آلاف الأنواع من المخلوقات الحية ظلما وجهلا ، هل أوصله إلى هذه الحالة التعيسة «من الحضارة والرقي» إلا تجاهله للقانون الإلهي الحق واتباع قوانينه ودساتيره الوضعية.

    هذه الإنسانية التعيسة : القلق اليوم يلفها من أقصاها إلى أدناها بالرغم من وصولها إلى أعلى درجات التقدم الحضاري. ففي آخر الإحصائيات أن نسبة الانتحار هي الأعلى في بلدان أوروبا الشمالية وهي الأرقى عالميّا من الناحية المادية وقد قدمت لأفرادها كل أسباب الرفاهية المادية إلا السعادة! (استهلكت فرنسا 125 مليون علبة منوم ومهدئ أعصاب في سنة 1982 ، كما يحصل فيها سنويا خمسة عشر ألف محاولة انتحار عند المراهقين).
    في الولايات المتحدة كل وصفة طبية من أربعة هي وصفة مهدئ أعصاب ، ومن كل مائة مريض يدخل عيادة الطب العام ، 70 في المائة هم مرضى نفسيون عصابيون بصورة ظاهرة أو خفية! هذه الإنسانية القلقة المريضة التعيسة المتحللة أخلاقيا ما أوصلها إلى هذه الدرجة؟ ما هو الحل والمخرج؟
    برأينا أنه ما وصل الإنسان فردا ومجتمعات إلى هذه الحالة إلا لأنه ترك القوانين السماوية الحقة وهي تعاليم الإسلام واتبع قوانينه الوضعية التي أثبت الواقع والاحصائيات خللها : لينظّروا ما شاءوا وليطبقوا قوانينهم الوضعية ما شاءوا فهم لم يسعدوا حتى الآن ولن يسعدوا مستقبلا ما دامت قوانينهم الوضعية بعيدة أو متعارضة مع قوانين السماء الحقة وهي تعاليم الإسلام. نذكّر هنا بقول مصلحين اجتماعيين وفلاسفة. يقول برناردشو : «لا تستقر هذه المدنية إلا إذا رجعت إلى تعاليم محمد» ، ويقول ميخائيل نعيمة : «القرآن الكريم رسم للناس جميعا سبيلا يصلون فيه إلى هدف عظيم ألا يكونوا في مهب الريح». وأخيرا يقول الفيلسوف والمصلح الاجتماعي روجيه غارودي ، وهو الذي درس مختلف العقائد الوضعية واستقر به المسار بعد خبرة طويلة مع قوانين الإنسان الوضعية إلى اعتناق الإسلام ، بأنه لا يصلح حال هذه الإنسانية إلا الالتزام بتعاليم الإسلام.
    ما أحوجنا اليوم أفرادا ومجتمعات إلى الرجوع إلى هذا الكتاب

    العظيم : القرآن الكريم كتاب الوقاية والصيانة والشفاء للنفوس نتدبر صفاته وميزاته وخصائصه وأوامره ونواهيه ونلتزم ونعمل بها : (... قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). وما أحوجنا إلى الالتزام بحديث الرسول الحبيب المصطفى وقد أنبأنا سلفا بالفتنة العذاب التي ستحل بنا وبيّن لنا سبل الخروج منها : عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب سلام الله عليه ورضي الله عنه وأرضاه قال : ألا إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول «ألا إنها ستكون فتنة». فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين والنور المبين وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ، من علم به علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».

    خاتمة
    (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) اللهم يا من تعلم بخبايا النفوس وأنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي من غيري ، ما كان هذا الكتاب إلا بتيسير منك ، فإن كنت قد أخطأت أو قصرت في تفهم وتدبر الآيات الكريمة ، فأرجو المغفرة ، وسبحان من تناهت عن الإحاطة بمعاني وتأويل كلماته العقول ، استغفر الله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
    انتهى في 2 شوال 1407 ه‍
    30 حزيران 1987 م

    الفهرس
    الاهداء 5
    توطئة 7
    مدخل : من ايمان الفطرة الى يقين البرهان 13
    1 ـ ايمان الفطرة 16
    2 ـ ايمان البرهان 18
    3 ـ نحن بحاجة 25
    الفصل الاول : النفس 33
    1 ـ النفس في تعريف القرآني 35
    2 ـ علاقة النفس بالجسم والعقل والروح 40
    3 ـ تعريف النفس في علم النفس الوضعي 44
    4 ـ وقفة علمية مع آية كريمة في النفس 45
    5 ـ المستقر والمستودع 51
    الفصل الثاني : القلق والخوف الطبيعي والمرضي 59
    1 ـ تمهيد 61
    2 ـ ظاهرة الخوف والقلق النفسي 63

    الفصل الثالث : الموت وعقده 71
    1 ـ تعريف بالعقد النفسية 73
    2 ـ عقدة الموت 76
    3 ـ العقد المتفرعة من عقدة الموت 77
    الفصل الرابع : العقد النفسية 87
    1 ـ عقباتها ، شهواتها ، الطاغوت ، الارباب 89
    2 ـ عقد الحرمان والحرص والنقص والتعالي 94
    3 ـ العقد الجنسية 99
    الفصل الخامس : العقد النفسية والعقلية 107
    1 ـ أمراض الشخصية 110
    2 ـ الامراض النفسية العصابية 117
    3 ـ الامراض العقلية الذهانية 119
    4 ـ امراض المس الروحي 119
    الفصل السادس : مفهوم الصبية على ضوء الهدى القرآني 123
    1 ـ المصيبة كبلاء 126
    2 ـ المصيبة كغفران 127
    3 ـ المصيبة كجزاء 128
    4 ـ المصيبة كدواء 129
    5 ـ المصيبة كنتيجة لاوامر النفس 129
    6 ـ المصيبة كنتيجة لجهل الانسان 130
    7 ـ المصيبة قد تأتي من الغير 130
    8 ـ المصيبة قد تكون لخير الانسان 131

    الفصل السابع : المرتكزات والاسس للمعالجة النفسية 133
    1 ـ انها تجربتي الشخصية 133
    2 ـ انها تجربتي المهنية مع الايمان 135
    3 ـ مرتكزات طريقة الايمان العلاجي 137
    4 ـ كيف نبدأ 137
    5 ـ استطباباتها 138
    الفصل الثامن : النوم في المنظار العلمي والمفهوم القرآني 141
    1 ـ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه 143
    2 ـ مراحل النوم كما كشفها العلم 144
    3 ـ الموتة الكبرى والموتة الصغرى 145
    4 ـ الروح مفتاح الشعور والاحساس بالالم 148
    5 ـ وقفة موجزة مع الاحلام 149
    الفصل التاسع : الموت في المنظار العلمي والمفهوم القرآني 155
    1 ـ الموت في المفهوم القرآني 158
    2 ـ المفهوم القرآني للموت من الوجهة النفسية 164
    3 ـ معاني الموت البيولوجية في القرآن الكريم 164
    4 ـ الموت الطبي ، موت الدماغ 166
    5 ـ ما رأي الاسلام في الموت الطبي 168
    6 ـ علامة العين التي تدور 170
    الفصل العاشر : الاحباط النفسي في المنظار العلمي والمفهوم القرآني 173
    1 ـ الاحباط النفسي : منشؤه ومسبباته 175
    2 ـ بعض الاحصاءات 176
    3 ـ أعراض الاحباط النفسي 179

    4 ـ أشكال الانهيار النفسي 181
    5 ـ علاج الاحباط النفسي 183
    الفصل الحادي عشر : إنه كان ظلوماً جهولاً 185
    الخاتمة
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    من علم النفس القرأني
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1
     مواضيع مماثلة
    -
    » الإسلام والمرأة المؤلف: الشيخ جعفر النقدي الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع الناشر: منشورات مكتبة النجاح المطبعة: مطبعة الغري الحديثة

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 37-منتدى كتب القرأن الكريم-
    انتقل الى: