الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فإن العراق كان أصابته الضربة القاسية من المغول سنة 656 ه ـ 1258 م فلم يصح منها حتى أعقبته أخرى وأخرى ولا يزال إلى هذا العهد. تداولته الأيدي القاهرة وتناوبته الأحداث المزعجة ، فلم يتمكن من استعادة مجده واستقلاله ، بل تواترت عليه الإحن وتوالت النكبات ، فعبثت به ولم تدع له مجالا للتفكير بشؤونه ، بل لم يتنفس الصعداء إلا في 24 جمادى الأول سنة 941 ه ـ 1534 م إبان الفتح العثماني. دام هذا لأمد محدود ، ثم اختلت إدارته بما حدث من حروب بين العراق وإيران ، فرأى ضروب الضيم ، وأنواع الحيف من الإدارات العاتية. في خلالها خنع مرة ، وأبدى الشموس أخرى. لكنه كان مهيض الجناح ، متأثرا بأوضاع دولته في غالب أحواله وإن كانت له خصوصيته إلى أن حدث احتلال بغداد في 17 جمادى الأولى سنة 1335 ه ـ 11 آذار سنة 1917 م. وفي هذا التاريخ انتهى الحكم العثماني ، فقطعت العلاقة بيننا وبينه كما أنه بعد مدة وجيزة زال من البين ، وخلفته (الجمهورية التركية).
والدولة العثمانية واحدة في أصلها متنوعة في مظاهر إدارتها نظرا لطول عمرها. ولا يمكن بوجه أن تسرد وقائعها من أولها إلى آخرها ولكن حالتها القطعية يصح أن توزع إلى فصول بما حدث من وقائع جليلة وتقسم على أشهر الحوادث وما حصل من أهم الوقائع وتعتبر هذه وقفات مهمة.
وموضوع بحثنا مقصور على ما كان بين فتح بغداد على يد السلطان سليمان القانوني وبين استعادتها للمرة الثانية أيام السلطان مراد الرابع في 18 شعبان سنة 1048 ه ـ 1638 م. وهو الحكم المباشر الأول.
المراجع والمآخذ (1)
حدثت في هذا العهد وقائع عظيمة في العراق ، وتعاقبت إدارات مختلفة متأثرة بالدولة أو بشخصية الوزراء. وفي خلال ذلك ضاعت حوادث عديدة ، وكثرت فترات متسببة عن انحلال في الدولة ، واضطراب في الحكم ، وتدمير للوثائق ، فنحن في أشد الحاجة إلى معرفة ما ضاع ، والحصول على ما فات والتماسه من مظانه ... والنهم العلمي لا يهدأ عن الاستزادة ، ولا يمنع من نشر الميسور على أن نكون في تثبيت لما يعثر عليه. ولعل في المعروف ما يبصر بالحالة.
ولا شك أن الوثائق كثيرة والمؤلفات عديدة إلا أنها لا تعين إلا علاقة حروب أو صلة بالحكومة أو بالأهلين فلا تبين أحوال القطر مفصلا بل نراه مبتور الحوادث ، تتخلله فواصل فلا نجد الوقائع متسلسلة
__________________
(1) لم أتعرض في المراجع لما ليس له علاقة مثل كتاب (الدر المسلوك) للحر العاملي وعندي نسخة منه بخط مؤلفها وهي وحيدة ، وهكذا الرحلات يجب ان يبين فيها ما فات ، أو أغفل ذكره من وقائع أو مشاهدات وإلا فليس الحل إيراد أسمائها ، والأغلاط الفاضحة ليست موضوع البحث فلا محل للإطالة بما لا طائل له.
للولاة وإن كانت متعلقة بالحكومة. والكتب التاريخية المعول عليها لا تذكر الولاة على التوالي بل إن مراجعة النصوص المتعددة تكشف النقاب عن ولاة غير من ذكروا في (گلشن خلفاء) أو في (تاريخ الغرابي) مع أنهما من المؤلفات المحلية. وبينهم من تكررت ولايته فلم يتعرض لها ، أو من ولي العراق ولم نشاهد له ذكرا للفاصلة التي تخللت الحكم العثماني بالمتغلبة وبالمجاورين مع قرب العهد ممن كتبوا. شاهدنا في الوثائق بعض الخلل ولا سبب إلا اختلاف الإدارة ، وتعاقب الحكومات وتلف المصادر من جراء ما حدث من ثورات أو استيلاء ...
ومن الضروري أن نرجع إلى مؤلفات عديدة لرفع الجهالة وأن نكشف الستار عن الثقافة نوعا ونزيل الخفاء بقدر الإمكان عن وقائع هذا القطر الذي له مكانته عندنا ، وعند الأقطار العربية والإسلامية جمعاء.
وهذه التواريخ متفرقة المادة ، تهتم بالحكومة وعلاقاتها ، ولم تذكر الشعب وأوضاعه ، ولا تسلسل الوقائع واطرادها ، بل نراها مقصورة على حياة الولاة أحيانا دون سواهم ، وأخلت في الكثير منها. وهذا النقص مشهود إلا أننا من مجموعها حصل لنا ما نعده وافرا فتمكنا من تدوينه مترقبين غيره.
نهجنا نهجا علميا في تسجيل ما عرف وراعينا حالات مسهلة أو موضحة بقدر الإمكان.
اتخذنا الوقائع السياسية الكبرى وسيلة لجمع الحوادث وربطها مع ملاحظة العلاقات مما نعتقد أن لها أثرا بالغا في المعرفة.
وموضوعنا محدد بما بين السلطان سليمان القانوني من أول إدارة العثمانيين في العراق والسلطان مراد الرابع. وقد مر بنا من المراجع في الأجزاء السابقة ما تمتد حوادثها إلى هذا العهد ، وهذه لا نعيد القول فيها من جراء استمرارها في هذا الجزء أيضا.
وهذه أشهر مراجعنا الجديدة :
1 ـ المراجع المحلية :
وهذه تهمنا في الدرجة الأولى لما تحويه من إيضاح وضبط للوقائع أو علاقة بالحوادث. وهي على قلتها جليلة الفائدة عظيمة الأثر لا يصح إهمالها بوجه بل الاستزادة لما يتجدد منها ضرورية. ولما كانت هذه المراجع موضوع بحثنا في خلال سطور الكتاب قد أوضحتها واستوعبت ذكرها في (كتاب التعريف بالمؤرخين) فلا أرى ضرورة للتفصيل هنا. وإنما أذكر من المراجع المحلية :
(1) تاريخ آل افراسياب.
(2) زاد المسافر.
(3) ديوان فضولي.
(4) ديوان روحي.
(5) گلشن شعرا.
(6) تاريخ الغرابي.
(7) گلشن خلفا.
وكل هذه أوسعنا القول فيها عند ورود بحثها في حينه ، فلا نرى العجلة لا سيما وقد وجدنا بعضها يتأخر الكلام عليه إلى الأجزاء التالية من هذا التاريخ.
2 ـ المراجع الأخرى :
وهذه من التواريخ الأجنبية وهي كثيرة جدا. ومنها للمجاورين أو للأقطار العربية الأخرى. وهذه أشهرها :
(1) تاريخ مطراقي :
يتضمن (فتح السلطان سليمان) بغداد ولعله المعروف بـ (تحفة غزاة) ، يذكر منازل سفر هذا السلطان إلى العراقين ذهابا وإيابا. وفيه ألواح مهمة ، وصفحات في تصاوير البلدان العراقية ومراقدها المباركة مما لم يبق له اليوم ذكر ، أو رسم إلا قليلا والكتاب رأيته في (خزانة الجامعة) باستانبول بين نفائس كتب السلطان عبد الحميد الثاني كتب سنة 944 ه أي بعد فتح بغداد بثلاث سنوات ، قدم للسلطان سليمان القانوني والكتاب ينبىء عن معرفة المؤلف بالرسم والتصوير ، وبالتاريخ كما أنه جامع للفنون الجميلة ومعلوم أن المؤلف مؤسس لنوع من أنواع الخطوط يقال له (چپ) فيوصف بأنه (چپ نويس) وهذا الخط قريب من الديواني ... وعصر هذا السلطان نظرا لعظم حكومته وصولتها يجب أن لا يخلو من أمثال هذا المؤرخ واطلاعاته القويمة وإتقانه للرسم. وتصاوير الكتاب تعين صناعة ذلك العصر وكأننا نراها كتبت حديثا لصحة ألوانها وثبوتها ودوامها إلى هذه المدة ... ولعلها خيالية أكثر منها حقيقية. فالكتاب من نفائس الآثار. ومن الضروري أن نحتفظ بأمثال هذه الخواطر في العراق كذكرى للماضي سواء من ناحية تصوير البلدان العراقية ، أو المراقد المباركة ، بأن ننقل التصاوير عينا ، ونحصل على نفس التاريخ بالاستعانة برسامين ماهرين ... واستنساخه بوضعه الحالي. كتب عليه إنه (بيان منازل سفر العراقين) و (كتاب تواريخ آل عثمان) لأيام السلطان سليمان. كتبه باللغة التركية نصوح السلاحي المطراقي من رجال السلطان سليمان ...
والمؤلف معدود من المؤرخين العثمانيين. كتب تاريخا في مجلد واحد عن أيام السلطان سليمان القانوني. من حين جلوسه إلى سنة 954 ه ثم شرع في تدوين ما بعد هذا التاريخ إلا أنه لم يوفق لإكماله ... وسمي بالمطراقي لإتقانه لعبة المطراق ومهارته فيها. وهي نوع لعب
بالسلاح يقال له مطراق (1). ويقال إن كتاب الديوان آنئذ كان يقال لصنف منهم (مطراقي) ...
ومن مؤلفاته (فتحنامه قره بغدادى) ، ونقل تاريخ الطبري إلى التركية باسم السلطان سليمان سنة 926 ه وسماه (مجمع التواريخ) وهذه غير الترجمة المطبوعة ومخالفة لها تماما ... ويعد أيضا من مشاهير الرياضيين ... وله مؤلفات في الرياضيات وأشعار سلسة وغزل رقيق وأساليب خاصة لا يكاد يضارع فيها. ومن مؤلفاته (تقويم نصوحي) في علم النجوم (2).
(2) تاريخ السلطان سليمان :
تأليف فردي. وهو مما اعتمده هامر في تاريخ الدولة العثمانية ، ويقال له (سليماننامه).
(3) سليماننامه :
تاريخ تركي لعهد السلطان سليمان القانوني. وفيه ذكر وقائعه من حين سلطنته إلى يوم وفاته ، وبيان علماء عصره ووزرائه ...
طبع ببولاق مصر سنة 1248 ه بإذن والي مصر محمد علي باشا الكبير. والكتاب من تأليفات عبد العزيز آل قره چلبي المتوفى سنة 1068. وهذا التاريخ عولنا عليه في كثير من الحوادث.
قال صاحب عثمانلي مؤلفلري : وهناك سليماننامات أخرى إحداها لشمسي البرسي من القضاة وأخرى لفردي من الشعراء (3) ...
وللمؤلف (روضة الأبرار المبين لحقائق الأخبار). طبع في بولاق
__________________
(1) لعل هذه اللعبة هي المعروفة عندنا (بالطابق).
(2) تذكره سهى ص 100 وعثمانلي مؤلفلري ج 3 ص 151 و 3000.
(3) عثمانلي مؤلفلري ج 3 ص 120.
أيضا سنة 1248 ه. والفصل الرابع منه في دولة آل عثمان.
وله أيضا (روضة الأبرار في فتح بغداد أيام السلطان مراد الرابع) وسماها صاحب (عثمانلي مؤلفلري) بـ (ظفرنامه).
وهذه من المراجع المهمة.
(4) مرآة الممالك :
رحلة تركية لسيدي علي رئيس المتوفى سنة 970 ه ـ 1563 م. سار من بغداد إلى البصرة بأمل الذهاب إلى مصر بأمر من السلطان سليمان القانوني ليتولى قيادة الأسطول هناك فلقي في طريقه البورتغال فحاربهم ، ولم يطق المقاومة بل دمرت غالب سفنه ، فاضطر أن يميل إلى الهند ومن هناك ساح برّا حتى عاد إلى بغداد حاكيا ما رآه في طريقه. وسياحته مهمة جدا تنبىء عن عصر غمضت وقائعه ... وفيها حوادث كثيرة عن العراق وبيان عن المشاهد وعن الطريق التي مر بها. وصف بعض أحواله وعلاقة العثمانيين به وما جرى عليه في سفره من عناء ...
طبعت هذه الرحلة في مطبعة إقدام عام 1313 ه فسدّت ثلمة في تاريخ العراق ... كان أتم رحلته في (غلطة) في أوائل شعبان سنة 964 ه ـ 1557 م وأبرزها في أواسط صفر سنة 965 ه. أشار إلى ذلك في آخرها.
والمؤلف قائد بحري مشهور ، عارف بأمور البحرية معرفة تامة وكاتب أديب شاعر ماهر ويلقب بـ (الكاتبي الرومي) (1) ... وله مؤلف جمع فيه رسائل ابن ماجد الربان العربي المعروف وغيرها. سماه (المحيط) يتعلق بالبحرية وأحوال بحر الهند المسمى (بحر عمان) كتبه في أحمد آباد باللغة التركية ونقله إلى اللغة الألمانية آل (بارون هامر) ونشر في ويانة (فينة) عاصمة النمسة كما نقلت رحلته إلى الإنكليزية نقلها (ا. فامبيري) عن التركية
__________________
(1) الكاتبي القزويني كان في عهد المغول وهو معروف ... والوصف بالرومي للتفريق بينهما. وعرف آخرون بـ (الكاتبي) ويفرق بينهم بما يدفع اللبس.
وطبعت في لندن سنة 1899 م (1). وكذا نقلت إلى الفرنسية.
وله مؤلفات منها (مرآة كائنات) في الاسطرلاب ، والربع المجيب ، والمقنطرات ، ومعدل ذات الكرسي.
(5) فذلكة أقوال الأخيار في علم التاريخ والأخبار :
مجلد في التاريخ عربي العبارة لكاتب چلبي ، مصطفى بن عبد الله صاحب كشف الظنون ، منه نسخة رأيتها في المكتبة العامة باستانبول في كافة دول الإسلام وفيها معلومات وافرة عن حكومة قراقوينلو والعثمانيين والصفويين وغيرهم ... أولها : الحمد لله الذي أرشد الأولياء إلى إحاطة أخبار الزمان الخ بخط يده. لخص بها تواريخ عديدة وتكلم على كل حكومة برأسها وبدأ في فصل عن التاريخ وآخر عن الكتب المؤلفة فيه ثم في بدء الخليقة ، وفي الأنبياء ، وفي سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وغزواته وفي الخلفاء ومن وليهم على توالي القرون ... يذكر النصوص التي جعلها أساس بحثه بالفارسية أو غيرها عينا في هامش الكتاب. رأيته باستانبول. وهذه النسخة هي التي وصفها صاحب عثمانلي مؤلفلري. قال : «هذا الكتاب طولاني ، في قطع متوسط ، عربي العبارة ، وتاريخ عام يحتوي على مقدمة ، وثلاثة فصول ، وخاتمة وفي آخره بعض فوائد تاريخية وفي تتمته ألقاب الملوك والدول مرتبة على حروف الهجاء ...» ا ه (2).
ومن مؤلفاته المهمة (جهاننما) في الجغرافيا. طبع إبراهيم متفرقة. وتاريخ الفذلكة التركي (3) اعتمدناها. وله (ميزان الحق) ... توفي سنة
__________________
(1) ترجمته في كتاب أسفار بحريه عثمانية ، وفي عثمانلي مؤلفلري ج 3 ص 270 وهنا ذكر مؤلفاته.
(2) عثمانلي مؤلفلري ج 3 ص 129.
(3) تبتدىء حوادثه بسنة 1000 ه ، وتنتهي بسنة 1065 ه ، طبع في مطبعة جريدة الحوادث باستانبول سنة 1287 ه. وعندي نسخته المطبوعة.
1067 ه. وفي الطبعة الجديدة من كشف الظنون تفصيل حياته.
(6) روضة الحسين في أخبار الخافقين (تاريخ نعيما):
تاريخ تركي ، في الدولة العثمانية تأليف «نعيما أفندي». وله قيمة أدبية ، وأسلوب خاص عند الترك ، ولد مؤلفه سنة 1065 ه في مدينة حلب وأصل اسمه مصطفى. ورد استانبول بعد أن حصل العلوم ونال مناصب عديدة.
وكان عموجه زاده حسين پاشا ميالا إلى التاريخ فجيء إليه بكتاب كان في حالة مسودة كتبه أحمد أفندي من أبناء أحد العلماء محمد أفندي (شارح المنار) يتناول الحوادث من عهد السلطان أحمد الأول إلى أيام محمد باشا الكوپريلي ، وإن أحمد أفندي الموما إليه لم تتح له الفرصة أن يبيض المسودة فتوفي فكلف عموجه زادة المترجم نعيما أن يتم هذا الكتاب ، ويدون الوقائع الرسمية فيكون (وقعه نويس) أي (محرر الوقائع).
ومن ثم اتخذ نعيما ذلك الأثر أصلا ، وراجع تواريخ ووثائق وحقق ما سمع ، ودون ما شاهد فأضاف ما علم ... ولم يتحاش من نقد سلفه ، فأبرز كتابه. وسماه (روضة الحسين في أخبار الخافقين) إلا أنه عرف (بتاريخ نعيما).
وهذا التاريخ كتب في عهد انحطاط العثمانيين ، صور عصره فأبدع تصويره ، فلم يتجاوز الحقيقة ... وتبتدىء حوادثه من الألف وتنتهي بسنة 1065 ه ـ 1655 م. وهذا التاريخ قدمه إلى الصدر الأعظم عموجه زاده. وبعد وفاة هذا الصدر أتم حوادثه إلى سنة 1070 ه ـ 1660 م ، أيام داماد حسن باشا الصدر الأعظم.
وفي مقدمته بين ما يجب على المؤرخ مراعاته ... وبذا عين نهجه التاريخي وخطته التي سار عليها موضحا أن يكون المؤرخ صادق اللهجة ، لا يلتفت إلى الأقاويل الزائغة ، وأن يكون ملما بالوقائع عن
علم، ولا یلتفت إلی ما یشیع علی ألسنة الناس من الأراجیف، وأن یعتمد الثقات، ویدون الصحیح لا أن یستهویه الرأي العام بأباطيله، وأن لايتعصب، وأن يترك تزويق الألفاظ وتنميقها بحيث يرتبك الأمر بأن يستخدم البساطة أو قل الفصاحة في البیان، وأن یهمل طریقة العتبي ووصاف ... فیراعي النصائح المفیدة (1) التي لا تبلي جدتها الأيام ... طبع في مطبعة إبراهيم متفرقة وطبعات أخرى.
(7) منشآت السلاطين :
وهي المعروفة بمنشآت فريدون ، (فريدون أحمد باشا) المتوفى سنة 990 ه ـ 1582 م والمؤلف من الكتاب القدماء ومن أشهرهم ، كان رئيس الكتاب لدى الوزير الأعظم صوقوللي محمد باشا. فهو مرجع تاريخي للوقائع ومثال مشاهد للآداب في عصره. طبع في مجلدين. وفيه وثائق كثيرة تخص العراق سواء منها ما يتعلق بفتح العراق وغير ذلك ...
والكتاب لا يخلو من غمز ، فإنه نسب منشآت عديدة للعثمانيين ، منقولة من مراسلات كانت للخوارزميين وغيرهم فقلبها ، أو عدل فيها ونسبها إلى السلاطين العثمانيين ، وربما كان كتاب الدواوين اتخذوا تلك المراسلات أصلا في مدوناتهم السلطانية.
ومن مؤلفاته الأخرى (نزهة الأخبار). يتضمن وقائع سنتين حدثتا بعد واقعة سكتوار. وله (مفتاح جنت) في الأخلاق ... (2).
(
تاريخ رمضان زادة :
تاريخ تركي أوله : الحمد لله على ألطافه السنية الخ عندي نسخة
__________________
(1) نعيما تاريخي.
(2) عثمانلي مؤلفلري ج 2 ص 363 ـ 364.
خطية منه كتبت سنة 1006 ه ، وفيها بعض التعليقات وتواريخ بعض السلاطين وأخرى مطبوعة ... يتكلم فيه عن أوائل التاريخ ، ثم عن العثمانيين وفصل تاريخهم أكثر. وفيه بيان عن الوزراء والمشاهير والعلماء في أيامهم ...
ومؤلفه رمضان زاده نشانچي محمد بك من رجال السلطان سليمان القانوني ومن مشاهير المؤرخين. أصله مرزيفوني كان رئيس الكتاب ثم أمين الدفتر ... كان يكتب الطغراء في المناشير ويوقع التواقيع السلطانية ، ويحرر الطوامير الصادر من الخاقان. وتاريخه معروف بتاريخ (محمد باشا النشانجي) أي من الرماة وله (سبحة الأخيار وتحفة الأخبار) في أنساب الأنبياء والملوك إلى زمن السلطان سليمان القانوني ... توفي سنة 979 ه ـ 1572 م في استانبول (1).
(9) تاريخ صولاق زادة :
في مجلد واحد تأليف محمد همدمي چلبي المعروف بصولاق زادة. كتبه من أول تأسيس الدولة العثمانية إلى آخر أيام السلطان سليمان القانوني بإفادة سهلة بسيطة. لم يحو التفصيلات المهمة. طبع عام 1298 ه باستانبول ونسخه الخطية نادرة ... أوله : الحمد لله الذي خلق الخلق وهداهم إلى الصراط المستقيم الخ .. توفي عام 1068 ه في استانبول وله مؤلفات أخرى. منها (فهرست شاهان) منظومة في تواريخ آل عثمان ، ذيل عليها بعض الأدباء وجاء ذكرها في مقدمة التاريخ. وله تاريخ عام أيضا كما نقل عنه صاحب تذكرة صفائي وله اطلاع واسع على الموسيقى (2).
__________________
(1) عثمانلي مؤلفلري ج 3 ص 53.
(2) صولاق زاده. وعثمانلي مؤلفلري.
(10) مرآة كائنات :
لمحمد القدسي المعروف بـ (رمضان زادة). من أحفاد سابقه وهو محمد بن أحمد بن محمد بن رمضان وكان من العلماء. ولي قضاء بغداد لمرتين. وتوفي سنة 1031 ه. وتاريخه ينتهي بسلطنة السلطان سليمان القانوني. طبع سنة 1269 ه.
(11) تاريخ عالم آراي عباسي :
من الكتب التاريخية المهمة في اللغة الفارسية. وكنا بينا في المجلدات السابقة بعض التواريخ التي تمتد حوادثها إلى هذه الأيام. وهذا التاريخ يتكلم في الدولة الصفوية من ابتدائها مجملا ثم يمضي في أيام الشاه عباس الكبير بتفصيل وسماه باسمه. ومؤلفه اسكندر بك التركماني المنشي. شرع بتأليفه سنة 1025 ه وأتمه بوفاة الشاه عباس الكبير في 24 جمادى الثانية سنة 1038 ه. طبع على الحجر سنة 1314 ه. وفيه توضيح وقائع العراق لما يتصل بإيران.
(12) الإعلام بأعلام بيت الله الحرام
للشيخ قطب الدين المكي (محمد بن أحمد المكي النهروالي) الحنفي المتوفى سنة 988 ه ـ 1585 م وفي تاريخ الغرابي توفي سنة 990 ه و (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام) ألفه سنة 979 ه ـ 1572 م وأهداه إلى السلطان مراد. وفيه ما يخرج به عن موضوعه مما يتعلق بالخلافة العباسية في مصر ومكانتها ، وبين هذه ما يتعلق بالعراق ، وبالصفويين. نقله إلى التركية المولى عبد الباقي الشاعر المعروف المتوفى سنة 1008 ه ـ 1600 م. ذكر فيه أن الوزير محمد باشا العتيق طلب إليه ذلك فلبى الطلب.
طبع الأصل العربي في أوروبا ، وفي مصر إلا أن طبعة مصر مغلوطة بأغلاط كثيرة.
وله : (البرق اليماني في الفتح العثماني) ألفه للوزير سنان باشا ، فكان كسابقه أحد مراجعنا ومن مباحثه الصلات البحرية بالبرتغال ونقله إلى التركية المولى مصطفى بن محمد المعروف بـ (خسرو زاده) المتوفى سنة 998 ه. وله مجموعة الفوائد (رحلته) إلى استانبول رأيتها في خزانة ولي أفندي برقم 2440 ، نقلها الأستاذ معلم رفعت الكليسي الفاضل المعروف إلى اللغة التركية (1). ومن مؤلفاته أذكار الحج والعمرة. وله الكنز الأسمى في فن المعمى ، وديوان شعر مما لا يخص التاريخ.
وهناك مراجع أخرى مثل النور السافر والكواكب السائرة ، وخلاصة الأثر وكتب أخرى عديدة أوضحنا عنها في كتابنا (التعريف بالمؤرخين للعهد العثماني). ومن أهم المراجع (منظومة آل افراسياب) تأتي في حينها. والغرض الاستفادة لا التعداد.
وأما بعض الكتب المعاصرة فإنها كتبت لمهمة سياسية لا للتاريخ المجرد فلا تكون موضوع البحث هنا.
نظرة عامة
في 24 جمادى الأولى سنة 941 ه ـ 1534 م استولى السلطان سليمان القانوني على بغداد فقضى على الحكم الإيراني. وكانت (الأوضاع السياسية العامة) في تلك الأيام تدعو إلى معرفة توصل العثمانيين إلى إبادة حكم العجم من العراق.
كانت بلاد الشرق الأدنى إثر انحلال إدارة المغول تناوبت عليها حكومات متعددة وتولت إدارتها جملة سلاطين كل منهم يحكم صقعا. وفي الأيام الأخيرة كانت الإدارة موزعة بين آق قويونلو وبعض
__________________
(1) كشف الظنون طبعة استانبول الجديدة.
الحكومات أو الإمارات الصغيرة. أما العثمانيون فلم يكن لهم أمل في هذه الأنحاء ، بل كانت آمالهم معطوفة إلى التوسع في جهات الروم والبلقان وما جاورهما فتوغلوا فيها كثيرا.
وبعد انقراض حكومة (آق قويونلو) قامت الدولة (الصفوية) في إيران بقوة هائلة مستمدة سلطتها من التأثير الديني باعتناق مؤسسها الشاه اسماعيل طريقة (التصوف الغالي) مقرونة بمذهب الشيعة. كما أنه حرك الشعور الوطني القومي الإيراني فتزايد نفوذه وكثر أعوانه وشعر في نفسه بقدرة فتاكة وحكومة عظيمة هددت كيان الحكومات المجاورة ... بل إن قوتها فاقت المجاورين في كثير من حروبها وظهرت عليهم ظهورا بينا لكنها لم تكن في الدرجة التي تصورها هذا الشاه الشاب الممتلىء نشاطا ، المغرور بقوته وبما ربح من بعض الوقائع ، لما رأيناه في الحكومة العثمانية من الانتصار الهائل عليه وكان حكم العثمانيين سابقا لحكمه. وإن هذه الدولة ممرنة على الحروب والإدارة والتزام السياسة المكينة. أرعبت الشرق والغرب وأرهبت المجاورين ، وعاملت الشعوب والملل المحكومة بالحسنى.
ـ نعم لم تر الحكومة الصفوية مزاحما لها بعد انقراض حكومة آق قويونلو سوى (الدولة العثمانية) (1). فحاولت القضاء عليها ليصفو الجو
__________________
(1) إن الترك يتكلمون باثنتي عشرة لغة. ومنهم التركمان. خرجوا من ما وراء النهر وجاؤوا إلى بلاد الروم زرافات وبأسماء مختلفة مثل دانشمندي ، وأق قوينلو ، وسلجوق ... فجاسوا خلال هذه الديار واستولوا عليها ... ولهم لهجات متنوعة ، وإن اللغة التركمانية متشعبة من التتارية ، ولهم اصطلاحات في لهجاتهم خاصة ولغات غريبة ، لا يفهم بعضهم بعضا إلا بترجمان ، وإن الجغتاي أفصحها ، وإن تركمان آل عثمان من هؤلاء ... أما تتار قالماق أي الصين والخطا والختن فإنهم غير أولئك وإنما هم تتار آخرون ... ولهم اثنتا عشرة لغة بعدد ملوكهم ، فلا يتفاهم بعضهم مع بعض إلا بترجمان. (أوليا چلبي ج 3 ص 171).
لها خالصا بالتوغل في قلب مملكتها بدعايات واسعة النطاق كان يقوم بها رجال الشاه وأعوانه بنشر التصوف ، والدعوة له ... ومن ثم تولد النزاع بين الحكومتين وكثيرا ما كانت دولة العجم عائقا مهما ، وصارفا عظيما للدولة العثمانية من التوغل في جهات الغرب بسبب تدخلها في أمرها ، وأطماعها بأمل ابتلاعها ، توسع نفوذها في الدولة العثمانية وكان بإزعاج لا مزيد عليه. فتكون على الدولة خطر.
وأول عمل قامت به الدولة الصفوية كان على يد (شاه قولي) أي (عبد الشاه) المعروف عند الترك (بشيطان قولي) أي (عبد الشيطان). استعمل كثيرا.
تنازعتا السلطة وكل واحدة من هاتين الدولتين وجدت الأخرى حجر عثرة في طريقها والفروق بينهما كبيرة تمنع من اندماج الواحدة بالأخرى. وأهمها الفروق الدينية والقومية. بقيتا مترافقتي النزاع إلى أن قضي على الحكومة الصفوية من جانب الأفغان قبيل أيام نادر شاه فخلفتها حكومات جديدة لم تغير من وضعها إلا اسم الأسرة المالكة بحلول غيرها محلها إلى أن جاءت الدولة البهلوية فأحدثت تجددا. وهكذا بقي الجدال إلى أن انقرضت الدولة العثمانية أيضا بظهور (الجمهورية التركية) ، فبدت آمالها كما هو المشهود في الإصلاح لا في الفتح.
ولا تزال الفروق موجودة إلى اليوم ولكن التقرب ـ دون الاندماج ـ مأمول والمصافاة أكيدة. نظرا لتغير الوجهات وتبدل أشكال الحكومات وتطورها لا سيما بعد الحروب العامة لسنة 1914 م و 1939 م. بدت بوادر التقارب السلمي. لأن كل دولة تريد أن تنال حظها من الإصلاح ، وأن تلحظ مصلحتها ، وليس لها أمل في التسلط على غيرها. ففي كل مملكة ما يغنيها عن التطلع إلى الأطماع خارج حدودها ، وأن تحصل
على الرفاه والثقافة من طريقهما. وهذا لا يتم إلا بالركون إلى الطمأنينة والراحة. والعدول عما هو أشبه بالغزو العشائري.
رأت الدولة العثمانية في أيام السلطان بايزيد أن قد توسع أمر الصفويين في مملكتها وكون خطرا عليها من جراء أن القدرة على المقارعة كانت مفقودة نوعا لأن السلطان بايزيد كان خاملا وإدارته منحلة ...
ثم ولي السلطان سليم الياوز. وهذا من أعاظم ملوك العثمانيين ، كان ولا يزال يحرق الارم على الإيرانيين. خاف من توسعهم لهذا الحد فتولى إدارة الجيوش بنفسه. وقبل الدخول في المعمعة انتقى الإدارة وأتلف الأعضاء الزائغة وعد كل مخالفة أكبر جريرة حتى فيما وقع من وزيره الأعظم. حدثت بينه وبين العجم (حادثة چالديران). كاد فيها يدمر الإيرانيين وهم في بدء تكونهم وإن صدمة كبرى مثل هذه كانت تكفي آنئذ للقضاء على آمالهم. والأهلون لم يخلصوا لهم بعد ، وبينهم من أكره على الطاعة ، ولكن لم يحصل آنئذ من يشاطرهم السلطة أو له أمل في السيادة ... لما نال الناس من ظلم وقسوة في مختلف الأيام فشغلوا بأنفسهم ...
ومن نتائج أعمال الدولة العثمانية أن قضت على نفوذ (المتصوفة في الأناضول) وصار العجم في رعب من صولات الترك. ذاقوا المرارة فعلا ، ولم تكتف الدولة العثمانية بهذا الحادث من كسر شوكة إيران بل مالت إلى متفقتها (مصر) ، فضربتها الضربة القاضية ودمرتها تدميرا تاما لا عودة بعده فخلصت مصر للدولة العثمانية بل دخلت في حوزتها أنحاء إفريقيا الشمالية.
كانت دولة المماليك في مصر بسبب المجاورة ، وتوسع الدولة العثمانية تخشى أن ينالها منها ما تحذر ، فاتفقت مع إيران أو أن إيران
أوجدت فيها هذا الخوف مما دعا إلى هذا الاتفاق. ذلك ما أكسب الدولة العثمانية الاهتمام للأمر وأن تقضي على هاتين الحكومتين قبل أن تستكملا العدة. فالدولة العثمانية كانت ممرنة على الحروب أكثر من غيرها وإن كانت الدولة الصفوية اكتسبت بعض الممارسة في حروبها للاستيلاء على كافة أنحاء إيران وعلى بغداد.
وقوة السلطان سليم الياوز أعقبتها سطوة أكبر أيام السلطان (سليمان القانوني). وهذا لم يستطع العجم أن يقفوا في وجهه. وحكومته آنئذ نالت شهرت بلغت الغاية لما وصلت إليه من العز والمنعة في الشرق والغرب ولكن تدابير العجم السياسية مكنتهم من المحافظة على الوحدة من جراء أن حكومتهم لم ترتكب الخطأ الأول في (چالديران) للدخول في مقارعة عظيمة لها خطرها ولا تأمن نتائجها ... أو أن تجرب تجربة أخرى تجازف بها ، فركن الشاه إلى الاختفاء مدة والحكومة لا تطارد المختفين الهاربين فمالت إلى بغداد واكتفت بأخذها وما والاها وعادت ظافرة ...
والعراق كان من الضعف والعجز بمكان ، فلم يقدر أن يحرك ساكنا ، والحكومات السابقة أنهكت قواه ، لا يختلف عن إيران وسائر الممالك الشرقية الأخرى ... ولا يزال الخوف مستوليا عليه مما أصابه من أقوام ليس لهم رأفة به ولا رحمة أو شفقة والقوة لا تزيحها إلا القوة. ولم تكن له قدرة النهوض أو بالتعبير الأصح لم يبق من رجاله من ينقاد له الرأي العام ليقوم بالاستقلال ويربح قضيته استفادة من الفرصة السانحة. ولعل ضعف الأهلين كان أهم سبب فلا مجال للقيام ولا قدرة هناك تكفي لصد العدو. والروح قد أميتت ، فركنوا إلى قوة العثمانيين.
انحلت إدارة العراق فتكونت إدارة تركية. ولم يوسع على الأهلين.
ولولا أن الثقافة مكينة ، قائمة على أسس ثابتة من مدارس موقوفة ، وريع وافر لتأمين إدارتها ، وتأكيد معرفتها لكانت في خبر كان.
إن المدارس الموقوفة ثبتت الوضع الثقافي وغيرت الحالة ، ولم تدع مجالا للتخريب والقضاء على الآداب والعلوم. بل حييت حياة طيبة في كل فرصة وجدت فيها راحة وطمأنينة ، وإن العثمانيين كانوا في بدء عمل ثقافي ، فكانت الاستفادة من هذه المدارس كبيرة لاقتباس نظامها ومراعاة طرق تدريسها ... فصار لا يستغني موظف ، أو عالم أو أديب عن العلاقة بهذه المدارس للأخذ بالثقافة الصحيحة.
وعلى كل حال تيسر للسلطان سليمان القانوني (فتح بغداد) بسهولة دون أن يرى أدنى عقبة أو صعوبة ، ولم يجد مقاومة من عدو ولا قياما من أهلين بل فتحوا له الأبواب مستبشرين ، مسرورين.
والشعب لا يريد إلا الراحة والطمأنينة ، أنهكته الحروب ، وتسلطت عليه الأوهام حذر أن تعود إليه هذه الحروب جذعة.
والحق أن العراق اكتسب الراحة ، وسكن مدة ، ولكن بعد قليل دب في الدولة الضعف من جراء استمرار الحروب ، ودوام غوائلها ، فاضطرت الدولة إلى التضييق على الأهلين ، شعر علماء كثيرون بهذا الخطر ، وحذروا الدولة من نتائجه ... فظهر التغلب في مواطن عديدة في بغداد وغيرها ، فتشوشت الحالة في أواخر هذا العهد ، واستفاد منها المجاور وهو بالمرصاد فكان ما كان من وقائع انتهت بدخول السلطان مراد بغداد وانتزاعها من أيدي الإيرانيين ...
وفي هذا العهد لم يستفد العراق من العلاقات الاقتصادية بأصل الدولة ولا بغيرها فليس هناك ما يستحق الذكر سواء في أيام الراحة أو الاضطراب بل بقي العراق على حالته المعتادة ، فلم يظهر ما يزيد في الاقتصاديات ، ولا في السياسة ما يدعو للارتياح.
ولا يسأل عن الثقافة في هذه الزعازع ، والاضطرابات ، وأن الفرصة مكنت من استعادتها نوعا في أول العهد إلا أن الأيام الأخيرة حتى استيلاء السلطان مراد قد قضت على الكثير من آثارها ، فصرنا اليوم لا نستطيع أن نعلم عنها إلا القليل النزر. ولعل الأيام تكشف أكثر عما غاب عنا في خزائن الكتب الخاصة ، أو في البيوت من مصادر.
دامت بغداد في إدارة العثمانيين إلى أن حدثت حوادث كان آخرها واقعة (بكر الصوباشي) سنة 1028 ه ـ 1619 م ، ثار على العثمانيين ، وأعلن حكومته في بغداد. ولما رأى تضييقا من هذه الدولة طلب المساعدة من إيران ، فكان من نتائج ذلك أن استولت إيران على بغداد. دخلتها في يوم الأحد 23 ربيع الأول سنة 1032 ه ـ 1623 م.
جرت هذه إلى حروب وبيلة وقاسية بين العثمانيين والإيرانيين. اكتسبت عنفا وشدة ، ونالت وضعا خطرا على الدولتين ، فصارت كل واحدة منهما على وشك الهلاك ، ولم يبق بين الحياة والموت إلا أنفاس معدودة. جاء السلطان مراد الرابع بنفسه لفتحها ، فحدثت المعارك الهائلة والحروب الطاحنة بين الطرفين مما ولدته الأطماع ، كأن قد ذهبت لهم ذاهبة ، أو كأن العراق مخلوق لأحدهما. فتمكن السلطان مراد من استعادة بغداد في 18 شعبان سنة 1048 ه ـ 1639 م وتم الفتح. ومن ثم عادت بغداد. وكانت هذه المرة الأخيرة ، فلم يتمكن الإيرانيون بعدها من الاستيلاء عليها وإن كانت لم تنقطع الحروب ولا هدأ الأمل.
فتح بغداد
1 ـ بغداد وحاكمها :
كان العراق من الضعف بمكانة ، وبغداد قاعدة بلاده. كانت إدارتها بيد العجم ، فإن محمد خان تكلو كان حاكم بغداد من إيران وهذا
علم أن جل أماني السلطان أن تتم سفرته بفتح بغداد فارتبك أمره وأصابه الرعب ... وأول ما قام به السلطان أن أرسل أولامه بك مع الوزير الأعظم إبراهيم باشا إلى الموصل فاستولوا عليها.
ثم إن أولامه بك بعث بعض رجال قبيلته إلى من هناك من قبيلة (تكلو) برسائل يحث بها على لزوم إظهار الطاعة للسلطان ... وأبدى النصح بوجوب تسليم بغداد بلا حرب وقد صاغ رسائله هذه بتعابير تدل على الترغيب من جهة والترهيب من أخرى فأبدع في الأسلوب وحسن البيان بقصد جلب القوم واستهوائهم لجانب السلطان ...
أما الخان فلم يلتفت وأظهر أنه متأهب للطوارىء ، عازم على القراع ، وصار يعد العدة للنضال. وفي هذا الحين ورد ابن الغزالي من قبيلة تكلو أيضا إلى بغداد حاملا رسالة الشاه يخبر بها محمد خان الوالي ببغداد بأن السلطان قد تحرك قاصدا بغداد ، وفيها حث بالانصراف عن المدينة وأن يأتي إلى إيران على وجه العجلة لينجو بنفسه وبمن معه. وعلى هذا دعا الخان أعوانه وقص عليهم ما وقع ، وشاور في الأمر فلم توافقه قبيلة تكلو على الذهاب إلى الشاه وامتنعت عن طاعته ... فكان مجموع من وافقه نحو ألف فلم ير بدا من الذهاب إلى الشاه وبينا هو يفكر في الأمر إذ ورد كتاب آخر يدعوه الشاه فيه إلى لزوم الإسراع فكان داعية التشوش أكثر. جاء هذا الكتاب مع نديم الشاه (رجب دده) فلم يطق صبرا لا سيما وقد تواترت الأخبار بوصول السلطان واكتساحه الحدود بجيوشه الجرارة واجتيازه خانقين وقلة (1) مما زاد في ارتباكه. فدعا جماعة تكلو. فاوضهم وبالغ في نصحهم. دعاهم للخروج معه من المدينة واللحاق بالشاه فلم يلب دعوته أحد. فتابعه من أعوان الشاه نحو سبعمائة بيت ... وافقوا واستعدوا للذهاب معه امتثالا للأمر.
__________________
(1) أي قولاي المقاطعة المعروفة في خانقين.
ولما ألح في الطلب على طائفة تكلو قام في وجهه نحو ثلاثة آلاف. ناصبوه العداء وتحصنوا في المدرسة المستنصرية بقرب الجسر (1) تأهبا لمقارعته وكمنوا له هناك.
وكان في نية الخان آنئذ تخريب دورهم وإهلاك أهليهم ومتعلقاتهم. وفي أمله الهجوم عليهم والتنكيل بهم فخالفه السيد محمد كمونة وسكن الخصام بينهما. وجل غرضهم أن لا يوافقوا الخان ولا ينصاعوا لقوله. تعندوا فلم يمضوا طبق مرغوبه ...
لم يبق للخان أمل ، ولم ير تدبيرا ناجعا ينقذه من هذه الورطة فندم على ما فعل ، وأبدى للقوم أنه عدل عما كان عزم من الذهاب إلى الشاه وإنما مال إلى السلطان وأنه مطيع له. فسر الجميع لقوله هذا. وصوب الجماعة رأيه ...
وعلى هذا ذهب جماعة من رجال تكلو. سارعوا في الوصول إلى السلطان سليمان ليقدموا له مفاتيح بغداد وليعرضوا الطاعة. وكان هؤلاء من أهل الحل والعقد. رأى الخان الحالة وصلت إلى هذا الحد فلم يبق له أمل في أن يبقى رئيسا كما كان فيحافظ على مكانته وأن المذكورين قد غلبوه على أمره. وأنه فقدت منزلته ... ورأى الأسلم له أن يعبر الجسر باتباعه ويذهب إلى الشاه من طريق البصرة فتوجه إلى الشاه (2).
2 ـ السلطان سليمان القانوني :
الدولة العثمانية كانت ولا تزال في حالة توسع إلى هذه الأيام ، تترقب الفرص وتتوسل بالأسباب للدخول في معمعة أخرى لتكسر شوكة
__________________
(1) تعين أن محل الجسر في مكانه المعروف اليوم من سنة 941 ه.
(2) كلشن خلفا ص 61 ـ 2 ونخبة التواريخ وابن كمونة هذا هو غير المذكور في المجلد الثالث من تاريخ العراق بين احتلالين.
الصفويين فلا تدع لدولتهم مجالا للدعاية في مملكتها ، وإن التشنيع على إيران من آل الكيلاني من كل صوب ، ومن المغلوبين وفلولهم مما ذكر بواقعة چالديران ، وإن كانت لا تعد أسبابا للدخول في معارك جديدة وإنما قرب الحالة الحربية ما جرى على ذي الفقار من حادث. يضاف إلى ذلك أن أولامه بك من قبيلة تكلو حاكم أذربيجان من جهة الشاه التجأ إلى السلطان سليمان لما وجد من الشاه من خوف ، فرغبه في حرب إيران وزاد في نشاطه. وربما يعد ميله إلى السلطان من أكبر أسباب الاشتباه من والي بغداد محمد خان تكلو ، فمالت قبيلته إلى السلطان فعلا. وهذه من قبائل التركمان المعروفة (1).
كانت هذه من أكبر المسهلات للدخول في المعمعة مع العجم. جاء في جامع الدول (2) وفي غيره أنه في هذه السنة (940 ه) أمر السلطان بالتجهيز لسفر الشرق وجعل الوزير إبراهيم باشا سردارا فعبر الوزير في جمع من الحرس الملكي (قبو قولي) إلى اسكدار في 2 ربيع الآخر من هذه السنة ثم سار وشتى في حلب وكان سبب ذلك يرجع إلى أمرين :
(1) أن حاكم بغداد ذا الفقار مال إلى السلطان سليمان فأرسل إليه مفاتيح بغداد وأظهر الانقياد ولما بلغ ذلك الشاه طهماسب سار إليه فحاصر بغداد مدة فقاتله ذو الفقار وقتل. فكان الباعث لقصد السلطان.
(2) أن حاكم بدليس (بتليس) شرف خان أعلن العصيان على
__________________
(1) قاموس الأعلام ج 3 ص 1665 مادة (تكه تركمانلري). وغالب قوة الشاه تستند إلى القبائل التركمانية مثل استاجلو ، وتكه لو ، وبهارلو ، وذي القدرية ، والقاجار ، والافشار ، ذكرهم في تاريخ مختصر إيران تأليف باول هورن. ترجمه إلى الفارسية الدكتور رضا زادة شفق. طبع سنة 1314 ه. ش في طهران.
(2) ومثله في كلشن خلفا ص 61 ـ 1 إلا أن ما في جامع الدول أوسع.
السلطان وانقاد للشاه طهماسب كما أن حاكم تبريز أولامه تكلو كان قد تقلد مناصب في إيران إلى أن نال حكومة تبريز. ولما دخلت هذه السنة أوجس خيفة من الشاه طهماسب فهرب إلى الروم. التجأ إلى السلطان فأكرمه وأقطعه بدليس وأمده بعسكر ديار بكر. أرسله إلى قتال (شرف خان) فقاتله قتالا شديدا فقتله ، وكسر جيشه ببدليس وأهلك كثيرا من أتباعه. وصار ذلك أيضا سببا لقصد بلاد الشرق.
وفي أيام وجود الوزير في مشتى حلب في منزل (سواريك) في أول ذي الحجة من هذه السنة بلغه تسخيروان. ففرح بذلك إلا أنه علم أن العسكر يقولون لا يقاتل السلطان إلا السلطان فخاف من الفتنة فأرسل إلى السلطان يعرفه بالحال ويلتمس قدومه فأجاب السلطان ملتمسه. عبر إلى اسكدار في آخر سنة 940 ه وتوجه مبادرا نحو الشرق حتى وصل إلى تبريز في 20 ربيع الأول سنة 941 ه. (جرت وقائع بين الوزير والعجم في مواقع حتى وصل السلطان والوزير إلى همذان ثم قطعا بعدها المنازل متوجهين نحو بغداد فوصلا إلى قصر شيرين) ، ومن ثم دخل السلطان بجيشه الحدود العراقية ...
وكل ما عرف عن الوزير في إيران أنه قام بما يجب القيام به لتسهيل الضربة على الشاه فتعقب أثره وقارعه في بعض المواطن ... فكانت الحروب دامية. أخذ الخوف من العجم أكبر مأخذ كان نهض السلطان من استانبول في 28 ذي القعدة سنة 940 ه ـ 1534 م وصار يطوي المراحل حتى اتصل بجيش الوزير. وصل إلى السلطانية في 6 ربيع الآخر سنة 942 ه ـ 1534 م ومنها كانت وجهته همذان فوردها في 24 منه. أما الشاه فكان في حالة يرثى لها يفر من ناحية إلى أخرى ، ويتخفى في الجبال الصعبة ، ويميل عن الطرق المعتادة فرارا من وجه السلطان. والرعب استولى عليه .. وحينئذ أمال السلطان عنان عزمه نحو بغداد وكانت الغاية المقصودة.
بين قصر شيرين وبغداد (في طريق بغداد):
لم يتعرض صاحب گلشن خلفا لتفصيل طريق السلطان ولكن ذلك جاء ذكره من مؤرخين كثيرين. قصوا سير السلطان وطريق حركته إلى بغداد وبين هؤلاء المؤرخ نصوح المطراقي والمؤرخ فريدون سوى أن نصوح المطراقي كان مصاحبا للسلطان في سفره هذا ، فحكى ما شاهد بل لم يكتف بذلك وإنما صور البلدان والمراقد المباركة التي مر بها بألوان عديدة وعليه عولنا. ولم نهمل أقوال المؤرخين الآخرين ما أمكن الجمع.
إن السلطان كان قد وصل إلى (ماهي دشت) (1) في غرة جمادى الأولى نهض من مرقد أويس القرني (2) إليها. وفي السادس منه وصلوا إلى (قلعة شاهين) وهذا المنزل هو الحد الفاصل بين عراق العرب وبين إيران ومن هنا تبدأ حلوان البلدة والمدينة (3). وهذا المنزل خال من
__________________
(1) وردت في معجم البلدان بلفظ (مايدشت) وعدها من مضافات خانقين. وعين موطنها في رحلة المنشى البغدادي ص 46.
(2) في أراضي الهارونية مما يحاذي جبل حمرين بالقرب من المكان المسمى (وادي الحصان) قبر يسمى (مرقد أويس القرني) والحال أن مرقد أويس هذا قد جاء ذكره في المحل المذكور أعلاه قبل أن يصل الوارد من إيران إلى ماهي دشت بمرحلة. وهذا محل نظر أيضا. فلا يصح أن تتعدد المواطن ، وتكثر التسميات لمرقد واحد. والهارونية على نهر ديالى من ملحقات شهربان ، تأخذ ماءها من نهر ديالى ، وكانت البلدة في الصدر ، وتمتد أراضيها إلى (بلدروز) أو (براز الروز).
(3) حلوان ذكرتها في ملحق تاريخ العراق ج 2 الكلام على (درتنك). وقلعة شاهين قرية من قرى درتنك. ويقال لها (كاوروان). وتعد اليوم من أنحاء (زهاو). وسميت كاوروان باسم جبل هناك. وأما حلوان فيسمى محلها اليوم باسم (سربل) ويقع بين قلعة شاهين ونفس زهاب وبشيوه وتقع على ضفة نهر ألوند. وهناك كانت مدينة حلوان ولم يبق منها إلا أطلال وقنطرة صخرية لا تزال قائمة. (سياحتنامه حدود) وجاء ذكر (درتنك) في مسالك الأبصار ج 3 المخطوط في أياصوفيا وفي أوليا جلبي ج 4 ص 388 وج 1 ص 186.