وفى سورة الأنعام يقول جل جلاله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : 60].
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول عند استيقاظه (الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
3 ـ التغيرات فى مقاييس الجسم واكتساب الصورة الشخصية :
توجد أمامنا الآيتان (7 ـ
من سورة الإنفطار ، واللتان تحددان لنا كيفية حدوث هذه العمليات ، إذ يقول الحق جل جلاله" (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : 7 ، 8].
وتعالوا نحلل مضمون هاتين الآيتين الكريمتين بشىء من التفصيل :
فكلمة «سواك» تعنى جعل الشىء مستويا ومستقيما ومهيأ لأداء وظائفه.
وقد انتهينا الى أن التسوية تبدأ خلال مرحلة «العظام».
وتعنى كلمة «فعدلك» تغير الشكل والهيئة لتكوين شىء محدد.
أما الحرف (ف) قبل كلمة «عدلك» فيشير إلى التسلسل المباشر. وبذلك يكون المعنى (وبعد ذلك عدل هيئتك) لأن «عدلك» بينتها الآية التى تليها وهى «فى أى صورة ما شاء ركبك».
وخلال طور النشأة تتغير مقاييس الجسم ، وتتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة. (شكل 37).
فتنتقل الأذن ـ مثلا ـ من الرقبة الى الرأس ، وتتحرك العينان إلى مقدمة الوجه ، ويصبح الطرفان السفليان أكثر طولا بالمقارنة بالجسم.
وهذا ما يشار إليه بكلمة «تعديل» وتعنى : التقويم.
وتعنى كلمة «صورة» ـ فى الآية الثانية ـ «هيئة أو شكل» فالآية ـ إذن ـ تعنى أنه عقب بدء عملية التسوية مباشرة يطرأ تغيير على الجنين ، فيتخذ المقاييس الطبيعية
(التعديل) ، ويحدث اكتساب الصورة الشخصية (التصوير) ، وتستمر عمليات التعديل والتصوير حتى الولادة ، بل وبعدها.
4 ـ تحديد الجنس :
حسبما جاء فى القرآن الكريم والحديث النبوى ، فإن هناك ثلاث خطوات تحدد نمو الخصائص النوعية (التذكير والتأنيث) :
الخطوة الأولى :
وتحدث فى مرحلة النطفة (التقدير فى النطفة)
الخطوة الثانية :
وهى تمايز غدتى التناسل على شكل خصيتين أو مبيضين ، فتحدث خلال مرحلة الكساء باللحم ، فى الأسبوع التاسع.
الخطوة الثالثة :
وهى تميز الأعضاء التناسلية الخارجية ، وتحدث خلال طور النشأة.
وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف الذى رواه مسلم فى صحيحه (عن حذيفة رضى الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها ، وخلق سمعها ، وبصرها ، وجلدها ، وعظامها ، ثم قال يا رب أذكر أم أنثى ، فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك).
ويتحقق هذا بخلق الأعضاء التناسلية الخارجية التى يتم بها التمييز النهائى للذكورة والأنوثة ، وتكتمل بها مراحل وأطوار تحديد النوع. ويتم ذلك فى الأسبوع الثانى عشر.
وجدير بالذكر أن نسجل هنا هذه الملاحظات :
أن الأعضاء التناسلية الخارجية تكون متماثلة إلى الأسبوع التاسع.
أنه يمكن التمييز بسهولة بين الأعضاء التناسلية الخارجية للجنسين فى الأسبوع الثانى عشر ، ويصعب قبل ذلك.
هذا مع العلم بأن التطور النوعى لمستقبل الجنين ، والمتمثل فى الغدد والأعضاء التناسلية الخارجية ، قد تحدد سلفا وفقا لجنس الكروموسوم. إلا أنه يحدث أحيانا أن تتطور الأعضاء التناسلية الخارجية فى وضع مغاير للوضع الجينى السابق بالنسبة لتحديد نوع الجنس.
مراحل طور النشأة :
يتكون طور النشأة من عدة مراحل وتطورات ، هى :
1 ـ النشأة خلق آخر :
يبدأ هذا الطور فى الأسبوع التاسع ، ويستمر حتى الأسبوع الثانى والعشرين. وتتضح فى الجنين الصفات التالية :
أ ـ النمو السريع :
فالجنين ينمو ببطء بعد طور اللحم (الأسبوع التاسع) مباشرة ، وحتى الأسبوع الثانى عشر ، ثم يتسارع النمو جدا.
ب ـ تغيير طبيعة الجنين وتطور أعضائه :
فالهيكل العظمى يتطور من عظام غضروفية لينة إلى عظام صلبة متكلسة ، وفى الأسبوع الثانى عشر من الحمل تظهر مراكز التعظم فى غالب العظام ، وتتمايز الأطراف. ويصبح ممكنا رؤية الأظافر على الأصابع ، وتتوازن أحجام الرأس والجسم والأطراف ، لا سيما بين الأسبوعين التاسع والثانى عشر. ويظهر الشعر الزغبى على الجلد ، الذى يتمايز فى هذه المرحلة إلى بشرة وأدمة. ويزداد حجم الجنين بسرعة بصورة عامة. ويتم التمييز بين الأعضاء التناسلية الخارجية بصورة واضحة فى الأسبوع الثانى عشر. وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية ، ويظهر فى هذه المرحلة بعض الحركات العادية الذاتية ، وكذلك بعض التقلصات العضلية الانعكاسية إذا ما تعرض لمنبه خارجى.
وبصورة عامة فإن التطور الوظيفى للجهاز العصبى يتوازى مع تطور الدماغ والحبل الشوكى ، وتظهر الحركات البدائية والغريزية كالمص والقبض بعد ذلك بفترة طويلة.
ومع نهاية هذا الطور تكون أعضاء الجنين قد اكتملت وأصبحت مؤهلة للقيام بوظائفها ؛ وهو ما جاء وصفه ببالغ الإحكام فى القرآن الكريم (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ)
أقل مدة للحمل :
مدة الحمل العادية هى تسعة أشهر. لكن الجنين ـ بعد مرحلة النشأة ـ يصبح خلقا آخر قادرا على الحياة أو البقاء خارج الرحم ، عند تمام الشهر السادس من تخلقه.
ويتفق هذا مع معانى عدة آيات من القرآن الكريم هى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : 15] ، (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : 14] ، (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : 233]. وبالحساب الدقيق ـ وفقا لهذه الآيات ـ وبما توصل إليه العلم ، نجد أن أدنى مدة للحمل هى ستة أشهر. وهذا هو ما أفتى به أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ وأقره على ذلك الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وبه قال المفسرون. وقد أثبت العلم ما قرره المفسرون من حيث استحالة قدرة الجنين على التنفس قبل نهاية الأسبوع الرابع والعشرين نظرا لعدم اكتمال قدرته على ذلك.
2 ـ الحضانة الرحمية :
عرفنا من الآيات السابقة أن أدنى مدة للحمل هى ستة أشهر ، وأن هذه الأشهر كافية لبقاء الإنسان على قيد الحياة بعد خروجه من الرحم. وحيث إن الولادة تتم عادة بعد تسعة أشهر ، فيمكن اعتبار الأشهر الثلاثة بعد نهاية الشهر السادس وبين الولادة بمثابة فترة حضانة رحمية.
ولا بد لنا هنا من وقفة نتذوق فيها عظمة الخالق عزوجل ، وهو يحدد لنا فى آياته المحكمات ، بكل دقة ، أقل مدة للحمل.
3 ـ المخاض أو الولادة :
تنتهى الحضانة الرحمية بولادة الجنين. وهنا تبرز أمامنا آية رائعة يقول فيها الحق تعالى (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس : 20].
ومن معانى هذه الآية تيسير طريق الجنين لتيسير الولادة ، حيث تبدو قناة الولادة ـ وهى فى وضعها الطبيعى ـ ممرا يصعب مرور الجنين منه ؛ إلا أن هناك عوامل كثيرة تسهل عملية الولادة.
واستنادا إلى المعلومات العلمية المتوفرة ، فإننا نعرف الآن الدور الذى تؤديه العوامل التالية :
(أ) هورمون ريلاكسين : وهو هورمون يفرزه المبيضان والمشيمة ، ويؤدى إلى تراخى أربطة مفاصل الحوض ، وتليين عنق الرحم.
(ب) تقلصات الرحم : وهى تبدأ فى الجزء العلوى من الرحم ، الذى يتكون من نسيج العضلات المتقلصة المتحركة النشطة ، والذى يؤمّن القوة اللازمة لدفع الوليد خلال الجزء السفلى الساكن الرقيق من الرحم.
(ج) أغشية السلى : وهى عبارة عن كيس الماء الأمينوسى الذى يحيط بالجنين ويسهل انزلاقه.
وتبرز هذه الأغشية الممتلئة بالسائل الأمينوسى على شكل كيس مائى من خلال عنق الرحم مع كل تقلص من تقلصاته ، وتعمل على تسهيل تمدده. وتؤمّن هذه الأغشية ـ بعد أن تتمزق ـ سطحا لزجا ناعما ينزلق عليه الجنين.
ميكانيزم (آلية ـ هندسة) المخاض
يتغير وضع الجنين عند مروره عبر تجويف الحوض الذى له شكل غير منتظم. وهذه التغيرات ـ التى تطرأ على الوضع العكسى ـ هى على سبيل المثال النزول والانثناء والدوران الداخلى والتمدد ، واسترجاع الوضع الطبيعى ، والدوران الخارجى.
وصدق الله تعالى فى قوله (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ،) فقد هيأ للجنين كل هذه السبل لتسهيل مروره عبر قناة الولادة.
الخلاصة :
أى إعجاز هذا؟!
سبحانك يا الله .. تقول فى قرآنك الكريم لفظ «أنشأناه» ، فإذا به يشتمل على أوضح التطورات الخارجية والداخلية فى الملامح خلال هذا الطور من أطوار التخلق البشرى.
ولقد عرفنا أن لفظ «نشأ» يعنى (بدأ) و (نما) و (ارتفع وربا) ، فإذا بكل هذه المعانى تنطبق بشكل جلى مفهوم على كافة مراحل هذا الطور.
فما ورد بمعنى (بدأ) يصف لنا بداية عمل الأعضاء والأجهزة المختلفة ، حيث نجد أن الكلية قد بدأت فى تكوين البول ، وبدأ مخ العظام فى تكوين خلايا الدم ، وبدأت حويصلات الشعر فى الظهور فى الأسبوع العاشر ... الخ.
وأما معنى (نما) فإنه يبين النمو السريع والتطور الشامل فى أعضاء وأجهزة الجسم خلال هذا الطور.
وأما معنى (ارتفع وربا) فإنه يصف تلك الزيادة الواضحة والبالغة السرعة فى طول الجنين ووزنه ، والتى تبدأ فى الأسبوع الثانى عشر.
وسبحانك عز من قائل ، من اخترت لفظ «نشأ» لينطبق بصورة دقيقة ومناسبة للغاية على وصف مرحلة الجنين.
مسار عملية التخلق فى طور النشأة
الفصل العاشر
إعجاز الآيات القرآنية
فى الحديث عن مراحل التخليق البشرى
بعد أن أنتهت رحلتنا مع الخلق الإلهى ، لا أجد ما أقول سوى : سبحانك ربى سبحانك ، سبحانك ما أعظم شأنك.
أى إعجاز هذا يا رب يا قادر!!
منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، وقرآنك الكريم يضم بين جنباته تفردا وعظمة ، وسبقا لما اكتشفه العلم الحديث الذى لم نتوصل إلى أطرافه إلا من عشرات قليلة من السنين ، عند ما يتحدث القرآن بكل الاقتدار الإلهى عن كيفية ومراحل الخلق البشرى.
وقبل أن تعرف الإنسانية الأجهزة والآلات المعقدة الحديثة بقرون طويلة ، وقف القرآن شامخا ، يتحدث وحده ـ بكل الثقة والاقتدار ، عن مراحل الخلق البشرى ، بأوصاف معجزة ، ومنهجية علمية ، وترتيب دقيق ، لم يتوصل البشر إلى معرفته إلا منذ سنين قلائل.
حقا إنه كلام رب مقتدر ، وحديث خالق مبدع.
يقول جل جلاله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : 53] ، وذلك فى إشارة واضحة إلى أن الناس فى زمن التنزيل لم تكن لهم معرفة بحقائق العلوم التى كشفها تعالى لنا فى هذا العصر الراهن من معجزات فى خلق الكون والإنسان.
اللافت للنظر أن هذه العبارات التى يفهمها الناس ويتقبلونها ، هى فى نفس الوقت ، عبارات تحمل المعنى الأصلى المراد منها فى تعبير دقيق عن الحقيقة. فهى صيغ يسترعى انتباهنا منها أنها دقيقة جدا ومقصودة ، إذ إن كلا من منها اصطلاح لا يضارعه أى اصطلاح مما قد يخطر فى بال أى عالم من علماء اللغة فى دقته ودلالته. ثم هو إلى جوار ذلك ، اصطلاح جميل ورفيع ، ويوحى بالسمو المعنوى إضافة إلى السمو المادى ، تأنس إليه الأذن ويرتاح له الفؤاد ، ويعتقد به الشخص العالم ، الآن كما فى القديم.
ومعروف أن العلماء قد اتفقوا على أسس وضع المصطلحات العلمية لعلم الأجنة ، بحيث يتحتم أن تكون هذه المصطلحات :
1 ـ واصفة للمظهر.
2 ـ أن تعكس عمليات التطور التى تحدث فى كل طور وكل مرحلة.
3 ـ أن تتحاشى وقوع أى تداخل أو التباس فى بداية كل مرحلة ونهايتها.
ومن خلال دراسة كل المصطلحات المتعلقة بتكوين الجنين الإنسانى فى القرآن الكريم ، نجد أنها تستوفى كل الشروط الضرورية اللازمة للتسميات المثالية ، إذ يبرز فيها التطابق والوضوح بالنسبة لكل مرحلة من مراحل تطور الجنين.
ولهذا السبب فإنه لا يمكن أن يعزى تفسير وصف الجنين البشرى الوارد فى القرآن الكريم إلى المعرفة العلمية التى كانت سائدة وقت نزوله فى القرن السابع الميلادى. والاستنتاج المنطقى الوحيد ، والذى لا جدال فيه ـ فى هذا الصدد ـ هو أن الله سبحانه أوحى بذلك إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم النبى الأمى الذى لم يمارس فى حياته نشاطا علميا قط فى هذا المجال أو غيره.
وبعد أن قطعنا سويا رحلتنا مع مراحل الخلق الإلهى ، واحدة تلو الأخرى ، فقد يكون مفيدا أن نتوقف لكى نمعن الفكر ونتدبر ، كما أمرنا الله ، لنرى كيف أبدعت آيات القرآن الكريم فى بيان إعجاز هذا الخلق الإلهى.
نصوص بعض الآيات
كثيرة هى الآيات (1) التى تتحدث فى القرآن الكريم عن المراحل الأساسية فى عمليات التطور والتخلق البشرى. لكننا نختار من بينها نصوص بعض هذه الآيات كما وردت فى سبع من سور القرآن العظيم :
يقول المولى عز جلاله :
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) [الطارق : 5 ـ 7]
ويقول جل جلاله :
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : 6]
ويقول سبحانه :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : 98]
ويقول جل جلاله :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : 12 ـ 14]
ويقول تعالى :
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : 2]
ويقول سبحانه :
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : 37 ـ 39]
__________________
(1) راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب.
ويقول تعالى :
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : 7 ، 8]
ما الذى نلحظه فى هذه الآيات؟
نلحظ أن هذه الآيات تتحدث عن مراحل التخلق البشرى ، فتجعله فى أقسام واضحة متمايزة هى :
1 ـ مرحلة البداية : وهى تتناول المنبع الأساسى للعملية من جذورها ، وهو مكان خروج الحيوانات المنوية والبييضات.
2 و 3 ـ مرحلة التخلق الأولى (الحميل) : وتشمل النطفة والعلقة والمضغة ، وتخلق العظام ، ثم كسوة العظام باللحم (العضلات).
4 ـ مرحلة النشأة : وهى مرحلة تالية ، فيها تنشط عمليات النمو والتشكل ، ثم يحدث التطور فى المظهر الخارجى ، فيتخذ الجنين شكلا بشريا مميزا ومعتدلا.
كذلك نلاحظ أن هذه الآيات تتحدث عن مراحل التخلق البشرى فى صورة مصطلحات وصفية ، وفقا للمظهر الخارجى. ثم إن هذه الآيات استخدمت أفعالا وصفية لبعض أهم مراحل الخلق وأطواره.
وفيما يلى جدول توضيحى يبين العلاقة المتقابلة بين نصوص الآيات التى ذكرناها ، ثم جدول يبين المعنى اللغوى لكل تعبير قرآنى وكذلك معناه الاصطلاحى :
كلمات القرآن فى وصف مراحل التخليق البشرى
معانيها اللغوية والاصطلاحية
وقفة للتحليل العلمى والتحليل الموضوعى :
نحن الآن أمام نصوص تتولى وصف مراحل التخلق البشرى ، سواء من خلال الاسم أو الفعل. وهى نصوص تتفق سويا عند الإشارة إلى أى مرحلة ، ولا تختلف حولها مطلقا وهى نصوص تحتوى على حروف عطف تتولى الإشارة إلى المدة الزمنية وتتابع الأحداث.
هذا ما تنطوى عليه هذه الآيات ، وهذا ما نعرض له بشىء من الاستفاضة ، فى هذه الوقفة التحليلية ، علميا وموضوعيا.
أولا : أهمية حروف وأدوات العطف :
هذه الحروف والأدوات تستخدم للدلالة على تتابع التغير فى الشكل أو فى تتابع الأحداث. وأداة العطف (ثم) فى العربية تدل على وجود فاصل زمنى بين حدثين ، بينما يدل حرف (الفاء) على أن الأحداث تتوالى فورا دون فاصل زمنى.
تطبيقا لذلك على سورتى «المؤمنون» و «القيامة» ، نجد أن أداة العطف (ثم) جاءت لتدل على التسلسل البطىء بين مصطلحى النطفة والعلقة ، بينما ورد حرف (الفاء) للدلالة على الترتيب المتتابع السريع فى مراحل الجنين المذكورة فى السورتين.
ثانيا : النطفة والعلقة :
تتوافقان فى التسلسل البطىء ، حيث ورد بينهما حرف العطف (ثم) فى نفس السورتين.
ثالثا : المضعة :
فى سورة (المؤمنون) وردت كلمة «مضغة» لوصف المرحلة التى تلى «العلقة» وبيان شكل الجنين فيها. وفى سورة (القيامة) ورد فعل «خلق» تاليا لمرحلة العلقة ،
ومن بين معانيه ـ وهو المقصود هنا ـ إنشاء شىء من شىء آخر. وعليه فإن هذا الفعل جاء هنا ليدل على التحول من مرحلة «العلقة» إلى مرحلة جديدة هى «المضغة». وإذا كان المفهوم من كلمة «خلق» هنا أنها تقترن بعمليات تخلق متميزة ، فإن علم الأجنة يقر بأن بدايات الأجهزة المختلفة تبدأ خلال مرحلة «المضغة» ، وأن عملية «الخلق» سمة خاصة لمرحلة «المضغة».
وحيث إن المظهر الخارجى للجنين يتغير بالتغيرات التى تقع فى داخله ، فإن فعل (سوّى) [الذى يعنى قوّم وجعل الشىء مستويا بدون ارتفاع وانخفاض] يدل على أن مرحلة «المضغة» قد انتهت. وهذا أمر منطقى لأن «المضغة» غير مسوّاة ولا تحوى عظاما أو عضلات ، وبالتالى فليس لها مظهر بشرى.
وعليه فإن مرحلة «التسوية» المذكورة فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) ، والتى يكون فيها السطح الخارجى للجنين سويا دون تعرجات ، تأتى بعد مرحلة «المضغة» ، وتليها مباشرة.
وفى سورة (الحج) وصف للمضغة بأنها «مخلقة وغير مخلقة» ، وعليه فإن بدء عملية تخلق الأجهزة المختلفة للجنين صفة بارزة لما قبل التسوية.
وبمقارنة ما ورد فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) نجد أن الخلق والتسوية يتعاقبان على نحو متسق فيهما.
رابعا : العظام :
يتضح من سورة (الانفطار) أن مرحلة التعديل تلى طور التسوية. ويقع التعديل باقتراب الجنين من المظهر البشرى الذى لا يمكن أن يحدث فى مرحلة العظام. وعليه نخلص إلى أن مرحلة التعديل تبدأ مع بدء مرحلة التكسية باللحم (تكوين العضلات) التى تلى مرحلة العظام (التسوية).
وقد استخدم القرآن الكريم كلمة «عظام» للدلالة على الشكل فى المقام الأول ، والفعل «سوى» لوصف وقوع حدث ؛ حيث يشتمل هذا الفعل على المعانى التالية :
جعل الجنين قائما مستقيما بعد انحناء كان يشبه فيه حرف (C) بالإنجليزية.
إعداد الأعضاء وجعلها ملائمة لأداء وظائفها.
تسوية سطح جسم الجنين وجعله ناعما بلا تعرجات.
خامسا : الكساء باللحم :
تتفق بداية مرحلة الكساء باللحم فى سورة (المؤمنون) مع بداية مرحلة التعديل فى سورة (الانفطار). كما تتفق مع الآية (39) من سورة (القيامة). (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أى أن بداية التذكير والتأنيث فى سورة (القيامة) تتفق مع طور الكساء باللحم فى سورة (المؤمنون).
وهذا هو ما يقع فعلا ، حيث يحدث تمايز للحدبة التناسلية ، وتأخذ شكل المبيض أو الخصية فى هذه المرحلة.
سادسا : النشأة :
فى سورة (المؤمنون) استعمل حرف العطف (ثم) بين مرحلتى الكساء باللحم والنشأة. ولكن سورتى (القيامة) و (الانفطار) لا تذكران هذه المرحلة. ويدل ذلك على أن عملية التذكير والتأنيث تستمر حتى تكتمل ، وهو ما يحدث فعلا ، ويتم تمايز الأعضاء التناسلية الخارجية بين الأسبوعين الحادى عشر والثانى عشر ، وبالمثل تستمر عملية تعديل الأعضاء وتحديد ملامح الصورة البشرية حتى مرحلة متأخرة من الحمل.
ولأن هذه العمليات تستغرق فترة زمنية طويلة ، فقد ختمت بها الآيات فى سورتى (القيامة) و (الانفطار) ، لتعبر عن الزمن الطويل الذى تحتاجه هذه المرحلة. أما سورة (المؤمنون) فقد ذكرت فعلين متمايزين هما «الكساء باللحم» و «النشأة خلقا آخر» ، فى نفس الزمن الذى تستغرقه الأحداث فى سورتى (الانفطار) و (القيامة).
خلاصة الوقفة التحليلية :
بعد هذه المقارنات والتحليلات تبرز أمامنا النتائج التالية :
1 ـ اكتمال وصف كل مرحلة من المراحل ، مظهرا وحدثا ، من خلال الاسم الدال على مظهر خارجى ، سورة (المؤمنون) ، أو من خلال الفعل الدال على ما يحدث من عمليات داخلية ، سورتى (الانفطار) و (القيامة).
2 ـ تتوافق النصوص توافقا دقيقا عند الإشارة إلى المراحل المختلفة ، سواء ذكر الاسم أو الحدث فى تلك الإشارة.
3 ـ إشارة حروف العطف إلى المدة الزمنية التى يستغرقها الحدث ، من حيث طول الزمن أو قصره ، كما أكدت التوافق بين الآيات المختلفة ، بالإضافة إلى دلالتها على زمن تتابع الأحداث.
الخلاصة :
بكل الخشوع والإجلال ، نقف أمام المصطلحات الواردة فى القرآن الكريم ، والتى جاءت معبرة بكل دقة عن التطورات التى تقع فى المراحل المختلفة للتخلق. فهى تصف هذه الأحداث حسب تسلسلها الزمنى ، كما تصف المتغيرات التى تطرأ على هيئة الجنين مع التخلق فى كل مرحلة وصفا دقيقا.
وما كان فى وسع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يعرف هذه الحقائق عن التخلق البشرى فى القرن السابع الميلادى ، وقت نزول القرآن الكريم على قلبه الشريف ، لأن معظمها لم يكتشف إلا فى القرن العشرين (1).
وحتى تكتمل الوقفة التحليلية والموضوعية والعلمية ، فإننا ننتقل إلى بعض الأحاديث النبوية الشريفة ، نستزيد منها استيضاحا.
__________________
(1) من بين النماذج البارزة فى هذا المجال تعبير (النطفة الأمشاج) وهى النطقة الناتجة عن اتحاد نطفة الذكر (الحيمن) بنطفة الأنثى (البييضة). فلقد أسمى علماء الطب الحديث النطفة الناتجة عن هذا الاتحاد «البييضة المخصبة». جاء فى كتاب (تشريح جراى) ، وهو أشهر مرجع فى علم التشريح ، أنه يبدو من اصطلاح البييضة المخصبة هذا وكأن ببييضة الأنثى هى الأصل وأن الحيمن لا يلعب إلا دورا هامشيا أى دورا محفزا وحسب فى تكوينها ، ولهذا فإن المرجع قد اعتبر (البييضة المخصبة) اصطلاحا مضللا غير مرغوب فيه. فلننظر هنا ، مرة أخرى ، إلى عبارة (النطفة الأمشاج) ، تعبيرا قرآنيا ، لا يدانيه أى مصطلح وضعى ، فى دلالته على شركة متساوية للذكر والأنثى فى تكوين المخلوق الجديد.
إن (النطفة الأمشاج) سوف تبقى أعلى وأرقى وأبلغ فى الدلالة عما يتداوله العلماء والأطباء فى قولهم (البييضة المخصبة).
الفصل الحادى عشر
الأحاديث النبوية الشريفة
ومراحل الخلق فى الأيام الأربعين الأولى
تمهيد
عند ما يتحدث الرسول ، عليه صلوات الله وسلامه ، فإنه لا ينطق عن الهوى. وعند ما يكون حديثه الشريف عن الحمل ومراحله ، وهو النبى الأمى ، فلا بد من وقفة نتفحص فيها كلامه العلمى الدقيق ، لأنه لا ينطق عن الهوى ؛ ولأنه يصدر عن وحى يوحى إليه من رب السماء والأرض.
ولذلك لم يكن غريبا ولا عجيبا أن يتحدث الرسول صلىاللهعليهوسلم فى وصف هيئة الجنين فى الأربعين يوما الأولى ، ثم عن حالته بعد ذلك ؛ محددا معالم كل فترة وتفاصيلها الدقيقة.
وقد كانت لبعض علماء المسلمين آراء فى تأويل هذه الأحاديث ، وهذا ما سنتعرض له كله.
الأربعون يوما الأولى
وصف رسول الله صلىاللهعليهوسلم حالة الحميل فى الأربعين يوما الأولى ، فيما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو الصادق الصدوق ، قال :
(إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد) (1).
نخرج من هذا الحديث بحقيقتين أساسيتين :
الأولى : أن جمع خلق الإنسان يتم فى الأربعين يوما الأولى.
الثانية : أن مراحل الخلق الأولى وهى : النطفة والعلقة والمضغة إنما تتكون وتكتمل خلال هذه الفترة ، وهى الأربعون يوما الأولى.
جمع الخلق (المراحل الجنينية الأولى)
هذا الوصف المحكم لحالة الجنين خلال الأربعين يوما الأولى ؛ جاء علم الأجنة الحديث ليقرر كل ما جاء فيه. ففى الأسبوع الخامس يكون جسم الحميل مقوسا شبه دائرى ، ولا يزيد طوله عن سنتيمتر واحد تقريبا ، ويكون نصفه العلوى ثلتى طول جسمه الكلى ، ويكتسب فى هذا الوقت براعم أطرافه ، ويكون له ما يشيه الذيل ، وقلبه فى مرحلة بدائية جدا ويخفق بصورة منتظمة.
وتظهر الأطراف العلوية فى الأسبوع الرابع ، ويكون شكلها فى بداية الأسبوع الخامس متميزا كشكل المجداف. ولكن هذه الأطراف العلوية تتطور فى نهاية الأسبوع الخامس ، وتشاهد عليها صفائح مبتورة لليد ، وإشعاعات إصبعية.
__________________
(1) جاء هذا الحديث فى صحيح البخارى بدون لفظ (فى ذلك).
وعند نهاية الأسبوع السادس ، وقبل اليوم الثانى والأربعين ، لا تكون صورة الوجه واضحة أو شبيهة بصورة الإنسان.
وتكون العين والأذن والأعضاء التناسلية الخارجية فى صورة أولية من مراحل تطورها قبل اليوم الأربعين ، وهى لا تعمل ولا تشبه أعضاء الإنسان ، ومع ذلك فإن العين تبدأ تطورها خلال الأسبوع الرابع مع تولد الحويصلة العينية التى تتغلف لتولد الكأس البصرى ، ويحفز هذا تكون العدسة قبل نهاية الأسبوع الخامس. ويتم بعد ذلك تمايز الشبكية ، وظهور الألياف البصرية التى تصل الدماغ لتكوّن التقاطع البصرى.
وتبدأ الأذن الداخلية تطورها ، فى بداية الأسبوع الخامس ، كصفيحة ثخينة من الأديم الظاهر مكونة الصفيحة الأذنية التى سرعان ما تغطس تحت سطح الصماخ السمعى الظاهر لتكوّن الحويصلة الأذنية التى تفقد اتصالها مع السطح لتوّلد الأذن الداخلية ، ولا يكون للأذن فى هذه المراحل الأولية شكل أذن الإنسان.
يتفق هذا الوصف لتطور الحميل مع تعبير (يجمع خلقه) الواردة فى الحديث النبوى الشريف ليصف المظهر الخارجى المتقوس المتجمع ، وكذلك الناحية التشريحية الداخلية ، حيث تكون الأجهزة والأعضاء متجمعة فى حالتها الابتدائية وهى فى كتلة صغيرة ، فيكون الوصف (يجمع خلقه) معبرا عن الناحية التشريحية بدقة.
اختلاف فى فهم الحديث النبوى
فى محاولة فهم الحديث النبوى الشريف السالف ذكره ، وقع خلاف بين علماء المسلمين القدامى فى تحديد مدة النطفة والعلقة والمضغة ، هل هى أربعون يوما لكل منها ، أم أربعون يوما لها جميعا.
فسر بعض هؤلاء العلماء هذا الحديث على أنه يعنى أن النطفة والعلقة والمضغة تتم على التوالى فى فترات طول كل منها أربعون يوما. وفهموا أن عبارة (مثل ذلك) تشير إلى الفترة الزمنية (أربعون يوما) واستنتجوا من ذلك أن المضغة لا تتم إلا بعد (120) يوما.
وهذا القول غير صحيح ، لما يأتى :
1 ـ يختلف نص الحديث فى رواية مسلم عن البخارى ، من حيث إن رواية مسلم تزيد لفظ (فى ذلك) فى موضعين قبل لفظ (علقة) ولفظ (مضغة). وهى زيادة صحيحة تعد من أصل المتن جمعا بين الروايات.
2 ـ إذا كان القرآن الكريم قد ذكر أن العظام تتكون بعد مرحلة المضغة ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) فإن النبى صلىاللهعليهوسلم قد حدد فى حديث حذيفة أن بدء تخلق العظام يكون بعد الليلة الثالثة والأربعين من بدء تكوّن النطفة (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث إليها ملك ..).
وإذن فالقول بأن العظام يبدأ تخليقها بعد مائة وعشرين يوما يتعارض تعارضا بيّنا مع ظاهر الحديث الذى رواه حذيفة.
3 ـ أثبتت الدراسات الحديثة فى علم الأجنة أن تكوّن العظام يبدأ بعد الأسبوع السادس مباشرة ، وليس بعد الأسبوع السابع عشر.
وعلى هذا يتضح أن معنى تعبير (مثل ذلك) ـ فى حديث ابن مسعود ـ لا يمكن أن يكون مثله فى الأربعينات من الأيام.
وإنما يكون معنى الحديث (إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوما ثم يكون فى ذلك ـ أى فى ذلك العدد من الأيام ـ علقة (مجتمعة فى خلقها) مثل ذلك (أى مثلما اجتمع خلقكم فى الأربعين يوما) وقوله (ثم يكون علقة مثل ذلك) معناه أنه يكون فى الأربعين المذكورة علقة تامة الخلق ، متقنة محكمة ، الإحكام الممكن لها ، واللائق بنعمة الله سبحانه وتعالى.
بيان الإعجاز فى الأربعين يوما الأولى :
1 ـ جمع خلق الإنسان :
ظاهر من الحديث الشريف أن خلق الإنسان (يجمع) فى أربعين يوما.
ويقرر الأطباء ـ بعد رحلة طويلة من الدراسات والتشريح الدقيق لجسم الجنين فى الأيام الأربعين الأولى ، أن جميع الأعضاء الرئيسية للإنسان ، تتخلق واحدا بعد الآخر ، فلا تمر الأربعون يوما الأولى إلا وقد اجتمعت جميع الأجهزة ، ولكن فى صورة براعم.
وتكون مجموعة فى حيز لا يزيد عن سنتيمتر.
كما يكون الجنين مجموعا حول نفسه بالتفاف فى شكل قوس ، أو ما يشبه حرف (C) بالإنجليزية.
2 ـ ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك :
ويقرر العلم الحديث أن الجنين ـ فيما بين اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين ـ يأخذ صورة العلقة التى تسبح فى البرك ، وتتعلق بالمشيمة.
3 ـ ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك :
وهذا إعجاز آخر فى دقة الاسم الذى أطلقه القرآن الكريم والأحاديث النبوية على المرحلة التالية لمرحلة العلقة وهو المضغة ؛ حيث تتطور المضغة تدريجيا فتأخذ شكل المضغة المستديرة المميزة بعلامات تشبه طبع الأسنان عليها ، وبسطح غير منتظم.
وكما علمنا من قبل فإن الأعضاء الأساسية فى الداخل تبدأ فى التمايز وتنتج الفراغات بين الكتل شكلا أشبه بالمادة الممضوغة ، وبالتدريج يأخذ الجنين شكل المضغة.
4 ـ يدل الحديث على أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة تتم خلال الأربعين يوما الأولى ، بالرغم من أن حجم الجنين فى هذه الفترة يكون صغيرا جدا ، وأن الفترة الزمنية بين هذه المراحل قصيرة.
وقد كان تقدير عمر الجنين أمرا بالغ الصعوبة قبل اكتشاف البييضة وارتباط دورة الحيض بها. كما أن التحديد حينئذ كان عرضة للخطأ بزيادة أو نقص فى تقدير عمر الجنين يصل إلى واحد وعشرين يوما ، لأن الذى يقدر العمر لا يعلم متى بدأ العمل من أول الشهر أم من آخره. ثم إن كل هذه الأطوار للنطفة والعلقة والمضغة ، التى ذكرها القرآن الكريم لم تكن معروفة أصلا فى تلك الأيام.
ولا مجال للعجب ، فهذا ـ كما قلنا ـ حديث رسول كريم ، لا ينطق عن الهوى ، وإنما هو وحى يوحى إليه من رب السماء والأرض.
خاتمة
الحمد لله رب العالمين ..
بحمد الله أختم كتابى ، بعد أن بدأته باسم الله ..
الحمد لله أن وفقنى إلى طريق الإيمان به ، بعد أن وفقنى ـ بنعمته ـ إلى طريق العلم الحديث .. فكان هذا الكتاب إحدى محاولات التعبير عن الشكر والامتنان للخالق الواحد المنان.
وبعد .. فيا قارئى العزيز ..
لقد انتهت رحلتنا سويا عبر إعجاز الخالق سبحانه فى إبداع الخلق البشرى ، مرحلة مرحلة ، وطورا بعد طور ، ومع بلاغة آيات القرآن فى بيان هذا الإبداع والإعجاز.
وليس لدى من كلمات أضيفها فوق ما قلت ؛ سوى أن أسألك يا رب الرضى .. فقد كان رضاك هو الهدف والمبتغى.
والحمد لله رب العالمين ..
د. محمد فياض
أهم المراجع
* القرآن الكريم.
* الجامع لأحكام القرآن ـ لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ـ مطبعة دار الكتب ، 1354 ه.
* فتح البارى بشرح صحيح البخارى ـ لابن حجر العسقلانى ـ المطبعة البهية المصرية ، 1348 ه.
* علم الأجنة فى ضوء القرآن الكريم ـ هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ـ رابطة العالم الإسلامى ـ مكة المكرمة.
* أسرار خلق الإنسان ـ العجائب فى الصلب والترائب ـ الدكتور داود سلمان السعدى ـ دار الحرف العربى ـ بيروت ـ لبنان ، 1994.
* خلق الإنسان ـ دراسة علمية وقرآنية ـ الجزء الأول ـ من سلالة من طين ـ الدكتور عبد الفتاح محمد طيره ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1988.
* أطوار الخلق فى تاريخ الإنسان ـ سلسلة القرآن والعلم ـ الكتاب الأول ـ الدكتور أحمد شوقى.
* خلق الإنسان بين الطب والقرآن ـ الدكتور محمد على البار ـ الدار السعودية للنشر والتوزيع ، 1955.
* حياة آدم ـ محمود شلبى ـ دار الجبل ـ بيروت ـ لبنان ، 1992.
* الارتباط الزمنى والعقائدى بين الأنبياء والرسل ـ الدكتور محمد وصفى ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة ـ 1965.
* رياسة الدولة فى الفقه الإسلامى ـ الدكتور محمد رأفت عيمان.
* فن الولادة فى مصر القديمة ـ الدكتور محمد فياض ـ دار الشروق ، 1995.
فهرس
تقديم : 11
الفصل الأول : بداية خلق الكون وخلق آدم وحواء 13
الفصل الثانى : تاريخ علم الأجنة 23
الفصل الثالث : آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية تتحدث عن مراحل التخليق البشرى 35
الفصل الرابع : مراحل الخلق كما وردت فى القرآن الكريم 41
الفصل الخامس : الطور الأول ـ البداية 47
الفصل السادس : الطور الثانى ـ مرحلة النطفة 61
الفصل السابع : التخليق ـ الطور الثالث ـ مرحلتا العلقة والمضغة 85
الفصل الثامن : الطور الرابع ـ مرحلتا العظام واللحم 97
الفصل التاسع : الطور الخامس ـ النشأة 107
الفصل العاشر : إعجاز الآيات القرآنية فى الحديث عن مراحل التخليق البشرى 119
الفصل الحادى عشر : الأحاديث النبوية الشريفة ومراحل الخلق فى الأيام الأربعين الأولى 131
خاتمة : 137
أهم المراجع