في عمى العين عند الخليل وسيبويه (1) : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ ، كاليد والرجل ، فكما لا تقول : ما أيداه لا تقول : ما أعماه ، وفيه قولان آخران : قال الأخفش سعيد : إنّما لم يقل ما أعماه ؛ لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب ، وكذا لم يقولوا في الألوان : ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : إنما لم يقولوا : ما أقيله من القائلة ؛ لأنهم قد يقولون في البيع : قلته ففرّقوا بينهما. وحكى الفراء (2) عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال : لأنهم يقولون : عمي وعشي وعور ، وأجاز الفراء : في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان ، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أن يكون من قولك : «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي منه في الدنيا ، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) ، ولا تجوز الإمالة في قوله (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى). يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى ؛ لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (73)
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وبنو قيس يقولون : كدت ، فهي عندهم فعلت ، وقيل : إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.
(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (74)
قيل : ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة ، وقيل : ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال : ركن يركن ، وركن يركن أفصح.
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (75)
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.
__________________
(1) انظر الكتاب 4 / 214.
(2) انظر معاني الفراء 2 / 128.
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً) (76)
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) تأول العلماء هذا على تأويلين : أحدهما أنهم لو أخرجوه من أرض الحجاز كلّها لهلكوا ، والتأويل الآخر أنهم لو أخرجوه من مكة. وقال أصحاب هذا القول : لم يخرجوه وإنّما أمره الله عزوجل بالهجرة إلى المدينة ، ولو أخرجوه لهلكوا.
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (78)
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) مصدر أي سنّ الله عزوجل أنّ من أخرج نبيّا هلك سنّة ، وقال الفراء (1) : أي كسنّة.
قال الأخفش سعيد : نصب (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) بمعنى وآثر قرآن الفجر ، وعليك قرآن الفجر. قال أبو إسحاق : التقدير : وأقم قرآن الفجر.
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) (80)
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) المصدر من أفعل مفعل ، وكذا الظرف من فعل مفعل ، ومن قال في «مدخل صدق» إنه المدينة ، وفي مخرج صدق إنه مكّة فله تقديران : أحدهما أن الله جل وعز وعده ذلك فهو مدخل صدق ومخرج صدق ، والتقدير الآخر أن يكون المعنى مدخل سلامة ، وحسن عاقبة فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة لأنه جميل ، ومن قال مدخل صدق الرسالة ومخرج صدق من الدنيا ، قدّره بما وعده الله جلّ وعزّ به من نصرته الرسالة ، ومن إخراجه من الدنيا سليما من الكبائر ، وقد قيل : أمره الله جلّ وعزّ بهذا عند دخوله إلى بلد أو غيره أو عند خروجه منه. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي حجة ظاهرة بيّنة تنصرني بها على أعدائي.
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (81)
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) أي جاء أمر الله ووحيه (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي الباطل الكفر والفساد (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) والزاهق والزهوق في اللغة الذي لا ثبات له.
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً) (82)
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) أي شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الظاهرة
__________________
(1) انظر معاني الفراء 2 / 129 ، والبحر المحيط 6 / 64.
والحجج الباهرة فهو شفاء للمؤمنين أن لا يلحقهم في قلوبهم مرض ولا ريب ، وأجاز الكسائي (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) نسقا على «ما» أي وننزل رحمة للمؤمنين. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي يكفرون فيزدادون خسارا. وهذا مجاز.
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)
وقرأ أبو جعفر وناء بجانبه (1). قال الكسائي هما لغتان. وقال الفراء : لغة أهل الحجاز نأى ولغة بعض هوازن وبني كنانة وكثير من الأنصار ناء يا هذا. قال أبو جعفر : الأصل نأى ثم قلب ، وهذا من قول الكوفيين مما يتعجّب منه لأنهم يقولون فيما كانت فيه لغتان وليس بمقلوب : هو مقلوب ، نحو جذب وجبذ ، ولا يقولون في هذا ، وهو مقلوب : شيئا من ذلك. والدليل على أنه مقلوب أنهم قد أجمعوا على أن يقولوا : نأيت نأيا ، ورأيت رأيا ورؤية ورؤيا ، فهذا كلّه من نأى ورأى ، ولو كان من ناء وراء لقالوا : رئت ونئت مثل جئت. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) وإن خففت الهمزة جعلتها بين بين وحكى الكسائي عن العرب الحذف «كان يوسا» (2) وحكى وإذا المودة [التكوير : 8] قال : مثل الموزة.
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (84)
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) هذه الآية من أشكل ما في السورة. ومن أحسن ما قيل فيها أن المعنى قل كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أولى بالصواب. وهذا تستعمله العرب بعد تبيين الشيء مثل (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : 24] ، وكما يقول الرجل لخصمه : إنّ أحدنا لكاذب ، فقد صار في الكلام معنى التوبيخ. فهذا قول ، وقيل : معنى (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) في أوقات الشرائع المفترضة لا غير ، وفيها قول ثالث يكون المعنى: قل كلّ يعمل على ناحيته وعلى طريقته (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) فلمّا علم بيّن الحقّ والسّبل.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (85)
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قد تكلّم العلماء فيه ؛ فقيل : علم الله جلّ وعزّ أنّ الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما الروح ؛ لأن اليهود قالت لهم : في كتابنا أنه إن فسّر لكم ما الروح فليس بنبيّ وإن لم يفسره فهو نبي ، وقيل : إنهم سألوا عن عيسى صلىاللهعليهوسلم فقال لهم الروح من أمر ربّي ؛ أي شيء أمر الله جلّ وعزّ به وخلقه لا كما يقول النصارى.
__________________
(1) انظر البحر المحيط 6 / 73.
(2) انظر معاني الفراء 2 / 130.
(إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (87)
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء ليس من الأول أي إلّا أن يرحمك الله فيرد إليك ذلك. والرحمة من الله جل وعز التفضّل.
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (88)
فتحدّاهم النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك فعجزوا عنه من جهات إحداها وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله ، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرا أو حديثا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفا. ومن إعجازه أنه لا يتغيّر ، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة. ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير ، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز ، نحو قوله جلّ وعزّ : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : 58] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة ، والله لا يحبّ الخائنين. فمثل هذا لا يوجد في كلام العرب على دلالة هذه المعاني والفصاحة التي فيه ، ومن إعجاز القرآن ما فيه من علم الغيوب بما لم يكن إذ كان النبي صلىاللهعليهوسلم كلّما سئل عن شيء من علم الغيب أجاب عنه حتى لقد سئل بمكة فقيل له : رجل أخذه إخوته فباعوه ثم صار ملكا بعد ذلك ، وكانت اليهود أمرت قريشا بسؤاله عنه ، ووجهوا بذلك إليهم من المدينة إلى مكة وليس بمكّة أحد قرأ الكتب ، فأنزل الله جلّ وعزّ سورة يوسف عليهالسلام فيها أكثر ما في التوراة من خبر يوسف عليهالسلام ، فكانت هذه الآية للنبي صلىاللهعليهوسلم بمنزلة إحياء عيسى صلىاللهعليهوسلم الميت الذي أحياه بإذن الله جلّ وعزّ.
(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) (91)
(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) هذه قراءة أهل المدينة ، وقرأ أهل الكوفة (حَتَّى تَفْجُرَ) مختلفا ، وقرءوا جميعا التي بعدها (فَتُفَجِّرَ) قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر : الفرق بينهما بيّن ؛ لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير ، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على
ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) قال : عيونا ، وكذا قال الحسن ، وروى سعيد عن قتادة (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) قال : عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر ؛ لأن تفجّر على التكثير.
(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (92)
وقرأ أهل المدينة وعاصم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) (1).
وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (كسفا) (2) بإسكان السين. قال أبو جعفر : كسف جمع كسفة أي قطعا. وذكر السماء ليدلّ على الجمع. وحجة من قرأ كسفا أنه لمرة واحدة. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) على الحال.
(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) (93)
(أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) من رقي يرقى رقيّا إذا صعد ، ويقال : رقيت الصّبيّ أرقيه رقيا ورقية.
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (94)
(أن) في موضع نصب والمعنى من أن يؤمنوا (إِلَّا أَنْ قالُوا) في موضع رفع أي إلّا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) فانقطعت حججهم لمّا ظهرت البراهين وجاءوا بالجهل.
(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (95)
(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) على الحال ، ويجوز في غير القرآن مطمئنّون نعت للملائكة. ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ لو كان في الأرض ملائكة يمشون لا يعبدون الله ولا يخافونه. وهذا معنى المطمئنين ؛ لأن المتعبّد الخائف لا يكون مطمئنا. (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) حتى يعظهم ، ويدعوهم إلى ما يجب عليهم.
(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (96)
(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) على الحال ، ويجوز أن يكون منصوبا على البيان.
__________________
(1) و (2) انظر تيسير الداني 115 ، والبحر المحيط 6 / 78.
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (97)
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حذفت الياء من الخط لأنها كانت محذوفة قبل دخول الألف واللام ، والألف واللام لا يغيّران شيئا عن حاله إلا أنّ الاختيار إثبات الياء لأن التنوين قد زال. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : لا يجوز مثل هذا إلا بإثبات الياء ، والصواب عنده أن لا يقف عليه ، وأن يصله بالياء حتّى يكون متابعا للقراء وأهل العربية. (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) على الحال.
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (100)
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) رفع على إضمار فعل ، ولا يجوز أن يلي «لو» إلا فعل إمّا يكون مضمرا وإما لأنها تشبه حروف المجازاة. وخبّر الله جل وعز بما يعلم منهم مما غيّب عنهم فقال : لو أنتم تملكون (خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي نعمته. والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة. (لَأَمْسَكْتُمْ) أي عن النفقة (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وقيل : الإنفاق الفقر ، المعنى خشية أن تنفقوا فينقص ما في أيديكم. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) حكى الكسائي : قتر يقتر وأقتر يقتر ، وحكى أبو عبيد : قتر وقتور على التكثير ، كما يقال : ظلوم للكثير الظلم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (101)
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) مفعولان (بَيِّناتٍ) في موضع خفض على النعت لآيات ، وقد يكون في موضع نصب على النعت لتسع. وقرأ الكسائي وابن كثير فسل بنى إسرائيل بغير همز يكون على التخفيف ، وعلى لغة من قال : سال يسال. والتقدير : قل للشاكّ سل بني إسرائيل. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ما قيل في التسع الآيات عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن ابن عباس ، وما قاله ابن عباس فيجب أن يكون توقيفا لأنه ليس مما يقال بالرأي ، والقولان ليسا بمتناقضين فإنّما الحديث عن النبيصلىاللهعليهوسلم فيحمل على أنه لآيات جاء بها موسى صلىاللهعليهوسلم تتلى إلّا أنها تفسير لهذه الآيات. والدليل على هذا قوله جلّ وعزّ : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : 12] في تسع آيات إلى فرعون وقومه (مَسْحُوراً) أي مخدوعا (مَثْبُوراً) من الثبور أي الهلاك.
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (102)
(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن فرعون مع توجيهه إلى
السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليهالسلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. (بَصائِرَ) أي حجبا تبصرها العقول.
(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (104)
(لَفِيفاً) على الحال.
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً) (105)
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) لأن كلّ ما فيه حقّ.
(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (106)
(وَقُرْآناً) نصب على إضمار فعل (فَرَقْناهُ) بيناه ، وقيل : أنزلناه متفرّقا وعيدا ووعدا وأمرا ونهيا وخبرا عمّا كان ويكون ، وقيل : أنزلناه مفرّقا وقد اشتقّ مثل هذا أبو عمرو بن العلاء رحمهالله فقال : «فرقناه» أنزلنا فرقانا أي فارقا بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ ابن عباس والشّعبي وعكرمة وقتادة وقرآن فرّقناه (1) بالتشديد. ويحتمل أن يكون معناه كمعنى فرقناه إلّا أن فيه معنى التأكيد والمبالغة والتكثير. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي ليحفظوه ويفهموه يقال : مكث ومكث ومكث ومكث. وقال مجاهد أي على ترسّل.
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (107)
(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي شكرا لله وتعظيما.
(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) (108)
(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لله جلّ وعزّ من أن يعد ببعث محمد صلىاللهعليهوسلم ثم لا يبعثه.
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (109)
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) قيل : في الصلاة. (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) مفعولان.
(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (110)
(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) قال الأخفش سعيد : أي أيّ الدعاءين تدعو.
__________________
(1) انظر البحر المحيط 6 / 84.
قال أبو جعفر : وهذا قول الحسن أي إن قلتم يا الله يا رحمن ، وقال أبو إسحاق : المعنى أيّ الأسماء تدعون (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الرحمن الرحيم الغفور الودود.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (111)
قال مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي حليف ولا ناصر (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) مصدر فيه معنى التوكيد.
(18)
شرح إعراب سورة الكهف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (1)
قال أبو جعفر : زعم الأخفش سعيد والكسائي والفراء (1) وأبو عبيد أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. (قَيِّماً) نصب على الحال. وقول الضحّاك فيه حسن أنّ المعنى مستقيم أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ، ولا فساد ولا تناقض (عِوَجاً) مفعول به. يقال : في الدين ، وفي الأمر ، وفي الطريق عوج ، وفي الخشبة والعصا عوج أي عيب أي ليس متناقضا.
(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (2)
(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) نصب بلام كي ، والتقدير لينذركم بأسا أي عذابا من عنده.
(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (4)
(وَيُنْذِرَ) عطف عليه (الَّذِينَ) مفعولون.
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (5)
(كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على البيان أي كبرت مقالتهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كلمة من الكلام. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق كبرت كلمة (2) بالرفع بفعلها أي عظمت كلمتهم ، وهي قولهم : اتّخذ الله ولدا.
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (6)
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) جمع أثر ، ويقال : أثر. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ
__________________
(1) انظر معاني الفراء 2 / 133.
(2) انظر البحر المحيط 6 / 95.
أَسَفاً) قال أبو إسحاق : «أسفا» منصوب لأنه مصدر في موضع الحال. وأسف إذا حزن ، وإذا غضب.
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) قيل «ما» و «زينة» مفعولان ويكون فيه تقديران : أحدهما أنه مخصوص للشجر والثمر والمال وما أشبههنّ ، والآخر أنه عموم لأنه دالّ على بارئه ، وقول آخر أنّ جعلنا هاهنا بمعنى خلقنا يتعدّى إلى «ما» و «زينة» مفعول من أجله ، وهذا قول حسن (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبرهم فنأمرهم بالطاعة لننظر (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فالحسن العمل الذي يزهد في الزينة ثم أعلم الله عزوجل أنه مبيد ذلك كله فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (
.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (9)
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) أي أبل حسبت أنّهم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) وفي آيات الله عزوجل مما ترى أعجب منهم. قال ابن عباس : وجّهت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من مكة إلى المدينة ليسألا أحبار يهود عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فسألاهم فقالوا : سله عن فتية ذهبوا في الدهر الأول كان لهم حديث عجب ، وعن رجل طواف بلغ المشارق والمغارب ، وعن الروح ، فإن أخبركم بالاثنين فهو نبي ، وإن أخبركم بالروح فليس بنبي ، فنزلت سورة الكهف.
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (10)
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي هاربين بدينهم (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي أعطنا من عندك رحمة تنجينا بها من هؤلاء الكفار (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي على ما ننجو به. ويقال : رشد ورشد إلّا أنّ رشدا هاهنا أولى لتتفق الآيات.
(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (11)
(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) الواحدة أذن مؤنّثة وتحذف الضمة لثقلها فتقول : أذن (سِنِينَ) ظرف ويقال : سنينا. يجعل الإعراب في النون. (عَدَداً) نصب لأنه مصدر ، ويجوز أن يكون نعتا لسنين يكون عند الفراء بمعنى معدودة ، وعند البصريين بمعنى ذات عدد.
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (12)
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم من نومهم لنعلم. (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) وقد علم الله ذلك فمن أحسن ما قيل فيه أن معناه التوقيف ، كما تقول لمن أتى بباطل : هات برهانك وبينه حتّى أعلم أنك صادق ، وقيل هذا علم الشهادة. والحزبان أصحاب الكهف ، والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعث أصحاب الكهف و (أَيُ) مبتدأ و (أَحْصى) خبره. (أَمَداً) منصوب عند الفراء (1) من جهتين : إحداهما التفسير ، والأخرى بلبثهم أي بلبثهم أمدا. قال أبو جعفر : والجهة الأولى أولى ؛ لأن المعنى : عليها ، فإن قال قائل : كيف جاز التفريق بين أحصى وأمدا؟ وقولك : مرّ بنا عشرون اليوم رجلا قبيح ، فالجواب أنّ هذا أقوى من عشرين لأن فيه معنى الفعل.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (13)
الْفِتْيَةُ جمع فتى في أقل العدد ، ولا يقاس عليه والكثير فتيان.
(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (14)
(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي شددناها حتّى قالوا بين يدي الكفار (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) مصدر ، وحقيقته قول شطط ، ويجوز أن يكون مفعولا للقول.
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (16)
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) والتقدير : اذكروا إذا اعتزلتموهم. هذا قول بعض الفتية لبعض (وَما يَعْبُدُونَ) في موضع نصب أي واعتزلتم ما يعبدون فلم يعبدوه (إِلَّا اللهَ) استثناء (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) جواب الأمر (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) زعم الأصمعي أنه لا يعرف في كلام العرب إلّا مرفقا بكسر الميم في الأمر وفي اليد وفي كل شيء. وزعم الكسائي والفراء (2) أن اللغة الفصيحة كسر الميم ، وأن الفتح جائز. قال الفراء : وكأنّ الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان ، وقد يفتحان جميعا. فزعم الأخفش سعيد أنّ فيه ثلاث لغات جيدة مرفق ومرفق ومرفق. فمن قال : مرفق جعله مما ينتقل ويعمل به ، مثل مقطع ، ومن قال : مرفق جعله كمسجد ؛ لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد ، ومن قال : مرفق جعله بمعنى الرفق.
__________________
(1) انظر معاني الفراء 2 / 136 ، والبحر المحيط 6 / 100.
(2) انظر معاني الفراء 2 / 136.
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (17)
قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) (1) أدغموا التاء في الزاي والأصل تتزاور ، وقرأ أهل الكوفة (تزاور) (2) حذفوا التاء ، وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن عامر (تزور) (3) مثل تحمرّ ، وحكى الفراء : تزوار (4) مثل تحمارّ.
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (18)
(ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ظرفان (فِراراً) و (رُعْباً) منصوبان على التمييز ، ولا يجوز عند سيبويه ولا عند الفراء تقديمهما ، وأجاز ذلك محمد بن يزيد لأن العامل متصرّف ، وروي عن يحيى بن وثاب والأعمش أنهما قرءا (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) بضم الواو. وهذا جائز لأن الضمة من جنس الواو إلّا أن الكسر أجود ، وليس هذا مثل (أَوِ انْقُصْ) [المزمل : 3] لأن بعد الواو هاهنا ضمة (فِراراً) مصدر لأنّ معنى ولّيت فررت.
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (19)
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضهم بعضا (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) ، ويجوز «لبتّم» على الإدغام لقرب المخرجين (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أحدهم : لبثنا يوما ، وقال آخر : لبثنا نحوه فقال لهم كبيرهم لا تختلفوا فإنّ الاختلاف هلكة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وقرأ أهل المدينة (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) فأدغم ، وأدغم ابن كثير القاف في الكاف لتقاربهما ، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (بِوَرِقِكُمْ) حذفوا الكسرة لثقلها ، وحكى الفراء : أنه يقال : «بورقكم» (5) بكسر الواو ، كما يقال : كبد وفخذ ، وحكى غيره : أنه يقال للورق : رقّة مثل عدة ، وهذا على لغة من قال : ورقة فحذف الواو فقال : رقة.
(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ) التقدير : أيّ أهلها ، وروى سعيد بن جبير عن ابن
__________________
(1) و (2) و (3) انظر تيسير الداني 116 ، والبحر المحيط 6 / 104.
(4) انظر البحر المحیط 6 / 104.
(5) انظر معاني الفراء 2 / 137 ، والبحر المحيط 6 / 107.
عباس رحمهالله قال : يعني أيّها أطهر طعاما لأنهم كانوا يذبحون الخنازير فليأتكم برزق منه ، ويجوز كسر اللام وهو الأصل ، وكذا وليتلطّف.
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (20)
(إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ).
شرط ومجازاة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ) عطف على المجازاة وفي (إِذاً) معنى الشرط والمجازاة (أَبَداً) ظرف زمان.
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (21)
(إِذْ يَتَنازَعُونَ) ظرف زمان والعامل فيه ليعلموا إذ بعثناهم.
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (22)
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) على إضمار مبتدأ أي هم ثلاثة (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) مبتدأ وخبر ، وكذا (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). وفي المجيء بالواو «وثامنهم» خاصة دون ما تقدّم قولان : أحدهما أن دخولها وخروجها واحد ، والآخر أنّ دخولها يدلّ على تمام القصة وانقطاع الكلام. ذكر هذا القول إبراهيم بن السريّ فيكون المعنى عليه أنّ الله جلّ وعزّ خبر بما يقولون ثم أتى بحقيقة الأمر فقال : وثامنهم كلبهم. (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) رفع بفعله أي القليل يعلمونهم.
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (23)
(غَداً) ظرف زمان والأصل فيه غدو.
(إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (24)
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نصب على الاستثناء المنقطع.
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (25)
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هذه قراءة (1) أهل المدينة وأبي عمرو
__________________
(1) انظر تيسير الداني 116 ، والبحر المحيط 6 / 112.
وعاصم ، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) بغير تنوين. القراءة الأولى على أن سنين في موضع نصب أو خفض ؛ فالنصب على البدل من ثلاث ، وقال أبو إسحاق : سنين في موضع نصب على عطف البيان والتوكيد ، وقال الكسائي والفراء (1) وأبو عبيدة : التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة. قال أبو جعفر : والخفض ردّ على مائة لأنها بمعنى مئين ، كما أنشد النحويون : [الكامل]
273 ـ فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم (2)
فنعت حلوبة بسود لأنها بمعنى الجمع. فأما ثلاث مائة سنين فبعيد في العربية. يجب أن تتوقّى القراءة به ؛ لأن كلام العرب ثلاث مائة سنة فسنة بمعنى سنين فجئت به على المعنى والأصل.
(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (26)
(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) حذف منه الإعراب لأنه على لفظ الأمر ، وهو بمعنى التعجب أي ما أسمعه وما أبصره.
وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : 52] وحجّتهم أنها في السواد بالواو. قال أبو جعفر : وهذا لا يلزم لكتبهم الصلاة والحياة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول : الغدوة لأنها معرفة ولا تدخل الألف واللام على معرفة ، وروي عن الحسن (لا تعد عينيك) (3) نصب بوقوع الفعل عليها.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (30)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في خبر إنّ ثلاثة أقوال : منها أن يكون التقدير إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم ، ثم حذف منهم ؛ لأن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه يحبط أعمال الكفار ، وقيل : التقدير : إنّا لا نضيع أجرهم لأن من أحسن عملا لهم ، والجواب الثالث أن يكون التقدير : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات عدن و (عَمَلاً) نصب على البيان.
__________________
(1) انظر معاني الفراء 2 / 138.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 193 ، والحيوان 3 / 425 ، وخزانة الأدب 7 / 390 ، وشرح شذور الذهب 325 ، والمقاصد النحوية 4 / 487 ، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3 / 625 ، وشرح المفصّل 3 / 55.
(3) انظر المحتسب 2 / 27.
(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (31)
(يُحَلَّوْنَ فِيها) حكى الفراء (1) (يُحَلَّوْنَ فِيها) يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي ، ويقال : حلي الشيء يحلى. (مِنْ أَساوِرَ) في موضع نصب لأنه خبر ما لم يسمّ فاعله (مِنْ ذَهَبٍ) في موضع نصب على التمييز إلا أن الأفصح في كلام العرب إذا كان الشيء مبهما أن يؤتى بمن والقرآن إنما يأتي بأفصح اللغات فيقال : عنده جبّة من خز وجبّتان خزّا ، وأساور من ذهب وسواران ذهبا. وأساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال : سوار ، وحكى قطرب إسوار. قال أبو جعفر : قطرب صاحب شذوذ. قد تركه يعقوب وغيره ، فلم يذكروه. (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) ولو كان سندسا جاز ولكنه مبهم ، والفصيح أن يؤتى معه بمن كما تقدم. قال الكسائي : واحد السندس سندسة ، وواحد العبقريّ عبقريّة ، وواحد الرّفرف رفرفة وواحد الأرائك أريكة (نِعْمَ الثَّوابُ) رفع بنعم ولو كان نعمت لجاز لأنه للجنّة وهي على هذا (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً).
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (32)
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) التقدير مثلا مثل الرجلين.
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) (33)
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) محمول على لفظ كلتا ، وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى ، وأن تقول كلتا الجنتين آتتا أكلهما ؛ لأن المعنى الجنتان كلتاهما آتتا أكلهما ، وأجاز الفراء (2) كلتا الجنتين آتى أكله قال : لأن المعنى أكل الجنتين ، أو كلّ الجنتين. وفي قراءة عبد الله كلّ الجنتين أتى أكله (3). والمعنى عند الفراء على هذا كلّ شيء من ثمر الجنتين آتى أكله قال : ومن العرب من يفرد واحد كلتا ، وهو يريد التثنية ، وأنشد : [الرجز]
274 ـ في كلت رجليها سلامي واحده (4)
قال أبو جعفر : يقول الخليل وسيبويه (5) رحمهماالله : جاءني كلا الرجلين ، ورأيت كلا الرجلين ، ومررت بكلا الرجلين ، كلّه بألف في اللفظ ، وقال غيرهما : إلّا أنه يكتب
__________________
(1) انظر معاني الفراء 2 / 141.
(2) انظر معاني الفراء 2 / 142.
(3) انظر البحر المحيط 6 / 119.
(4) الرجز بغير نسبة في معاني الفراء 2 / 142.
(5) انظر الكتاب 1 / 266.
في موضع الخفض والنصب ؛ لأنه يقال : رأيت كليهما ، ومررت بكليهما.
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (34)
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال الأخفش : وكان لأحدهما.
(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (36)
قرأ أهل المدينة لأجدنّ خيرا مّنهما منقلبا (1) بتثنية منهما وقرأ أهل الكوفة (مِنْها) والتثنية أولى لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.
(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (38)
(لكِنَّا) مذهب الكسائي والفراء (2) ، والمازني أن الأصل «لكن أنا» فألقيت حركة الهمزة على نون لكن ، وحذفت الهمزة ، وأدغمت النون في النون. والوقف عليها لكنّا وهي ألف أنا لبيان الحركة ، ومن العرب من يقول : أنه. قال أبو حاتم فرووا عن عاصم لكنّنا هو الله ربّي (3) وزعم أن هذا لحن يعني إثبات الألف في الإدراج. قال : ومثله قراءة من قرأ (كِتابِيَهْ) [الحاقة : 19] فأثبت الهاء في الإدراج. قال أبو إسحاق : إثبات الألف في (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) في الإدراج جيد لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال : وفي قراءة أبيّ بن كعب لكن أنا هو الله ربّي (4).
(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) (39)
(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) في موضع رفع والتقدير إلّا من شاء ، ويجوز أيضا عند النحويين أن تكون «ما» في موضع نصب وتكون للشرط ، والتقدير أيّ شيء شاء الله كان فحذف الجواب ، ومثله (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) [الأنعام : 35]. (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) على التجربة ، ويجوز لا قوّة إلّا بالله (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً أَنَا) فاصلة لا موضع لها من الإعراب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء ، وقرأ عيسى بن عمر إن ترني أنا أقلّ منك مالا (5) بالرفع يجعل أنا مبتدأ وأقل خبره والجملة في موضع المفعول الثاني والمفعول الأول والنون والياء إلّا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدلّ عليها وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل ولأنها الاسم على الحقيقة وإنما النون جيء بها لعلّة.
__________________
(1) انظر تيسير الداني 117.
(2) انظر معاني الفراء 2 / 144.
(3) انظر تيسير الداني 117.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 80.
(5) انظر معاني الفراء 2 / 145 ، والبحر المحيط 6 / 123.