| الامام السجاد جهاد وامجاد | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 5:46 am | |
| إلى الرسول الأعظم 6 .. هذه ورقات متواضعة حبرتها بدم القلب وضوء العين عن حفيدك الإمام السجاد ، بقية السيف من أبناء الحسين ، أبي الشهداء ، الذي تسايرت الركبان بذكره وفضله ، أرفعها إليك وأملي يا سيدي منك القبول. عبدك حسين الحاج حسن بسم الله الرّحمن الرّحيم ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) [ طه : 114 ] اللهم ساعدني على قول الحق بما يسطره قلمي في هذه الرسالة الخالدة ، رائد الفكر الإنساني ومهد المعرفة والتي تهدي للتي هي أقوم. « هذا زين العابدين ، قدوة الزاهدين ، وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، شيمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله 6 ، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفى ، ونفثاته تسجل بكثرة صلاته وتهجده ، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها ، درت له أخلاق التقوى فتفوقها ، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها ، وألفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها وحالفته وظائف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع طريق الآخرة ، وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مفازة المسافرة ، وله الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة ، وثبت بالآثار المتواترة ، وشهد له أنه من ملوك الآخرة ». مطالب السّؤول معالم الحياة العامة في عصر الامام (ع) عصر الامام (ع) : مني عصر الإمام زين العابدين (ع) باضطراب سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، لم يشهده عصر من قبل. فقد شحن بالفتن الفظيعة والأحداث الجسام مما جعله يفقد روح الاستقرار والطمأنينة ويعيش في دوامة من القلق والقتل والتشريد والتجويع. لقد أمعن الحكم الأموي في نشر الظلم والاضطهاد ، فأرغم الناس على ما يكرهون حتى بات كل فرد منهم يعيش على أعصابه لما يساوره من الهموم والآلام والمصائب التي ينتظرها في كل حين. وسوف نوجز القول عن معالم الحياة العامة في عصر الإمام 7 والأحداث السياسية التي داهمت المسلمين والتي عانوا منها أمر الفتن وأخطر الخطوب. كما نتحدث عن معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، ذلك أن معرفة الظروف هذه التي كانت تحيط بالإمام (ع) تعطينا وضوحا كاملا عن مواقف وأهداف وأحداث تعامل معها الإمام في زمنه ، ومع أشخاص عاصرهم سواء كانوا ملوكا أو ولاة أو علماء أو عامة الناس. إن المعرفة التفصيلية لهذه الأمور تساعدنا كثيرا على فهم شخصية الإمام (ع). ملوك عصره : عاصر الإمام (ع) يزيد بن معاوية ، ومعاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. ومن الولاة : الحجاج بن يوسف الثقفي ، وعبيد الله بن زياد ، وهشام بن اسماعيل والي المدينة. الأئمة الذين عاصرهم : عاصر الإمام علي (ع) وله من العمر سنتان ، والإمام الحسن (ع) عشر سنين ، ومع الإمام الحسين (ع) عشر سنين ، وكان عمره يقارب السبع والخمسين سنة. وهكذا نرى كيف أن الإمام (ع) فتح عينيه على صراعات المحن والحروب ومكابدة الإمام علي (ع) ضد معاوية الذي تمسك بكرسي الحكم غاصبا معاندا ؛ وكيف تقاعس أهل العراق عن مناصرة الإمام الحسن (ع) حتى عقد الصلح مع معاوية مكرها. ثم شاهد الإمام بأم عينيه ، وهو في ريعان شبابه مأساة أبيه الحسين (ع) في كربلاء ، وأهل بيته ، ورأى مقتلهم واحدا واحدا ، ورأى سبي النساء إلى دمشق ، وتحمل ثقل القيود ومجابهة يزيد وعبيد الله بن زياد ، والأمة التي خذلتهم وتفرجت على قتلهم ثم عادت فبكت عليهم نادمة تائبة. الحياة السياسية : ساد الحياة السياسية في عصر الإمام (ع) ألوان من القلق والاضطراب ، فقد خيم الذعر والخوف على الناس وفقدوا جميع أشكال الأمن والاستقرار ، مما سبب تفكك المجتمع وشيوع الأزمات السياسية الحادة ، واندلاع الثورات المتلاحقة. والسبب الأول والأخير في كل هذه الأحداث المؤلمة يعود إلى طبيعة الحكم الأموي والفساد الذي استشرى في البلاد من قبل الملوك والولاة. وقد صور هذا الحكم الفاسد أحد الشعراء فقال : فدع عنك ادّكارك آل سعدى فنحن الأكثرون حصى ومالا ونحن المالكون الناس قسرا نسومهم المذلة والنكالا ونوردهم حياض الخسف ذلا وما نألوهم إلا خبالا لقد سبب الحكم الأموي الكثير من المصائب والخطوب للكثير من المسلمين وأحدث لهم الفتن والمصاعب التي ألقتهم في أدهى الشرور. من هذه المظاهر البارزة لهذا الحكم الظالم : أ ـ الجور والاستبداد : لقد استبد الأمويون في حكمهم الشعوب الإسلامية وجاروا كثيرا ، فلم يكن هناك قانون تسير عليه الدولة ، وإنما كان حكما مزاجيا يخضع لمشيئة ملوكهم ورغباتهم ، وأهواء وزرائهم وعواطف ولاتهم. وقد وصفه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي فقال : « إن نظام الحكم في عهد ملوك الأمويين لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بـ ( نظام الأحكام العرفية ) ، هذا النظام الذي يهدر الدماء ، ويرفع التعارف على المنطق القانوني ، ويهدد كل امرىء في وجوده ، وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ، ولحالات خاصة يراد بها الإرهاب ، وإقرار الأمن ، فقد كان في العهد الأموي هذا النظام السائد ، وفي الحق أنه لا يمكننا أن نسمي هذا سلطة قضائية البتة ، بل ننكر بكل قوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعنى الصحيح إلا في فترات لا تلبث حتى يكون التباين طاغيا ، وأكبر الشواهد على هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوى بدون أن تتخذ لمآتيها شكليات قانونية على الأقل مما يشعر باحترام السلطة .. » (1). لقد أصبح الاستبداد السياسي الظاهرة البارزة في الحكم الأموي اتخذ فيه الملوك الأمويون ، منهجا خاصا ، انهارت بسببه قواعد العدل السياسي ومبادىء الحرية الاجتماعية. ب ـ الإرهاب والتجويع : استخدم معاوية أبشع أنواع القتل والإرهاب فدس السم في العسل وغيره ، كما سمّ الإمام الحسن (ع) وكان يقول : إن لله جنودا من عسل .. ولا يتوانى عن الفتك والقتل في أهل البيت : وشيعتهم وأنصارهم. كتب معاوية إلى عماله كتابا واحدا إلى جميع البلدان : « انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثم أتبع ذلك بنسخة أخرى قال فيها : « من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .. وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي (ع) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق فيها معروف منهم » (2). ج ـ القضاء على الحريات العامة : لقد قضي على الحريات العامة في العهود الأموية ولم يعد لها أي __________________ (1) الإمام الحسين ، ص 339. (2) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين / عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص 70 وما بعدها. ظل على واقع الحياة ، وبصورة خاصة حرية الرأي والقول ، فبات أي فرد من المواطنين لا يستطيع أن يدلي برأيه ، وبما يفكر به وبالأخص في ما يتعلق بالولاء لأهل البيت (ع) ، فكل من يتظاهر بحبهم والولاء لهم يتهم بالكفر والإلحاد والزندقة. وقد علقت في الساحات العامة في الكوفة مجموعة من جثث رجال الفكر والعلم في الإسلام قد صلبوا أياما على الأعمدة بسبب حبهم للإمام أمير المؤمنين (ع) كميثم التمّار ورشيد الهجري ... د ـ إحياء النزعة القبلية : اتبع معاوية سياسة ( فرق تسد ) بين القبائل العربية حفاظا على ملكه وهي السياسة الاستعمارية نفسها ، والتي نفذها ولا يزال ينفذها الاستعمار الغربي في بلادنا. وهدف معاوية من هذه السياسة إلهاء القبائل عن حكمه بالمشاكل الداخلية والخلافات القبلية ، فكان يثير النزاعات بين مضر وربيعة والأزد .. وكان الأنصار يعارضون حكمه على أساس ديني ويرفضون سياسة الظلم والإرهاب فكان من واجبهم وتكليفهم الشرعي معارضة الأمويين ، فجاء معاوية بشاعر البلاط الأموي الأخطل ، وهو نصراني ، يرد عليهم فهجاهم بقصيدة منها : ذهبت قريش بالمكارم والعلى واللؤم تحت عمائم الأنصار ثم بدأ معاوية بإثارة الضغائن بين الأوس والخزرج القبيلتين العربيتين ، المعروفتين بعدائهما القديم. « وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي ـ الحكم الأموي ـ وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين ، وفاز معاوية وخلفاؤه من بعده ، بكونه حكما بين أعداء هو الذي أشعل النيران العدائية بينهم من حيث لا يشعرون ، ووحدهم في طاعته من حيث لا يدرون ، وقد دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائما مع الحاكمين ضد الثائرين ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم ، فكانوا يقفون في وجه كل محاولة تهدف إلى الثورة على النظام القائم وينخذلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكون من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتأكيد على ولائهم التام للسلطة القائمة » (1). وبديهي أن الإسلام حارب العنصرية بلا هوادة وجعلها نوعا من أنواع الجاهلية فقد قال الله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) وقال رسول الله (ص) : « لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، كلكم لآدم وآدم من تراب ». فكان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من الصحابة المقربين جدا لرسول الله (ص) لإخلاصهم في الدين وقربهم من الله تعالى. لكننا نرى أن معاوية أثار الجاهلية من جديد بعد أن خبت ، وأحياها بعدما ماتت في نفوس المؤمنين. فعمل على تعميقها وركز على التفرقة بين العرب والعجم. « استدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما : إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت على السلف ، وكأنهم أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق ، وعمارة الطريق. وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سببا في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب وفرض الجزية والخراج عليهم وإسقاطهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء » (2). __________________ (1) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين ، ص 100. (2) المصدر نفسه ، ص 103. ه ـ إقصاء الإسلام : أهمل الملوك الأمويون الشريعة الإسلامية وتنكروا للإسلام فأقصوا جميع نظمه ومبادئه عن المسلمين ، ولم يعد لأحكام القرآن أي وجود في أجهزتهم وإداراتهم. يقول نيكلسون : « كان الأمويون طغاة ، مستبدين ، لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه ، وامتهانهم لمثله العليا ، ووطئها بأقدامهم .. » (1). لقد جاهر أكثر ملوكهم بالكفر والإلحاد ودفنوا المبادىء الإسلامية ونظمها ، فشربوا الخمر وعاثوا في الأرض فسادا وانتقصوا النبي الأعظم (ص) وخصوصا يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وإلحاده وتنكره للمبادىء الإسلامية النبيلة وهو القائل : لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل (2) و ـ القضاء على الروح الثورية : لم يكتف معاوية بأساليب التفرقة والقتل والترغيب والترهيب في القضاء على مناوئيه ، فلإحكام سيطرته على الناس ولإضفاء الطابع الديني على حكمه .. استغل الجانب الديني استغلالا مشوها ومنحرفا عن هدفه الأصيل ، ومن هذه الأساليب اختلاق الأحاديث والأساطير والبدع الغريبة عن روح الإسلام. « ذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي : إن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار كاذبة وقبيحة في علي بن أبي طالب (ع) ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا __________________ (1) الإمام الحسين ، ص 64. (2) من قصيدة لابن الزبعري. يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ومنهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير. روى أبو هريرة ، شيخ المضيرة ، عن رسول الله (ص) : إن الله ائتمن على وحيه ثلاثا : أنا وجبريل ومعاوية ، وإن النبي (ص) ناول معاوية سهما وقال له : خذ هذا حتى تلقاني في الجنة ؛ وحديث آخر زاد في آخره : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها ». ثم الأحاديث المختلقة التي تجوّر الظلم منها : « من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات إلا ميتة جاهلية » (1). ولا ريب أن أبا هريرة من عملاء معاوية المرتزقة فقد انتحل هذا الحديث وانتحل غيره. ومما أضفى عليه من النعوت المختلقة أنه كان كاتبا للوحي. والغريب أنه كيف يأتمن الرسول (ص) على كتابة الوحي من رب العالمين مثل هذا الإنسان الجاهلي البعيد كل البعد عن الإسلام ، والذي لم يلج في ضميره أي بصيص من نور الهداية والحق ، وإنما بقي ملوثا بأفكاره الجاهلية السوداء. وقد سخر المحدثين التجار والمرتزقة من وعاظ السلاطين ليختلقوا له الأحاديث المزورة والمختلقة ليوهم الناس بها. لكن من يقرأ سيرته بإمعان وتجرد يجده إرهابيا محترفا لا علاقة له بالمثل الكريمة والصفات الخيرة ، ولا قرابة بينه وبين الدين الإسلامي. من تلك البدع التي اخترعها : مذهب الجبر. شجع معاوية على نشر هذا المذهب لأن ذلك يساعد على تدعيم ملكه وإضفاء الشرعية عليه إذ أن فكرته تقول : إن كل ما يحدث لنا هو من الله ، وإن الملوك والأمراء منصبون من قبل الله علينا ـ سواء رضينا أم أبينا ـ وإننا مجبورون في أفعالنا ، فكان الرجل منهم يزني ويقول : أنا مجبور على __________________ (1) المصدر السابق ، ص 112. عملي .. ويسرق ويقول : أنا مجبور على ذلك .. وهذا ما يعطي تبريرا مزيقا لكل أحكام الظلم والجور والقتل التي كان يستخدمها الملوك الأمويون أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد .. ز ـ سياسة التجهيل : إن جهل الناس للأمور يفقدهم المقاييس التي يقيسون بها الأشياء والأحداث ، وهذا مما يفيد السلطة الغاشمة ، إذ يتيح لها الفرصة بعدم مراقبة الناس لهم ومحاسبتهم على أخطائهم. وهذه السياسة الغاشمة شجعت الأمويين على نشر الجهل ولم يهتموا بنشر العلم بين أفراد الأمة ، ولم يوضحوا أحكام الله كما هي على حقيقتها بل حرفوها واختلقوا الأحاديث الموضوعة كما رأينا .. فبرز الأدعياء الجاهلون والمرتزقة المحترفون ، وتوارى العلماء والمؤمنون عن الساحة وأصبح الوضع كما قال أبو العلاء المعري : فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أني جاهل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل هذه السياسة قد فعلت فعلها وأثرت تأثيرا كبيرا في الأمة ... « لذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتى بعض من أسلم من أهل الكتاب أن سوقهم قد راج وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام ، وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم عن التخلي عنها. حتى لنجد الإمام السجاد يقول في الصحيفة السجادية في دعاء له خاص يوم الجمعة وعرفة : « اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلا وكتابك منبوذا وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعك ، وسنن نبيك متروكة » (1). كل هذه السياسات الخبيثة والمدبرة فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي وضللت قطاعات واسعة من الأمة. حتى التبست أمور كثيرة في أذهان الناس ، واختلط الحق بالباطل وأثمرت سياسة معاوية حسب مخططها وآتت أكلها. « فقد علّمت سياسة معاوية المالية وأسلوبه الوحشي ، الناس على الدجل والنفاق والسكوت عن الحق ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصلا إلى دنيا معاوية وتمسكا بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير ، وهذا الوضع الشاذ الذي فرض عليهم ، أن يخفوا دوما ما يعتقدونه حقا واقعا ، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم ، ولّد عندهم ازدواج الشخصية ، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سر المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون على حكام الجور من الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من الظالمين ، هذا الازدواج في الشخصية صوّره الفرزدق للإمام الحسين (ع) حين لقيه في بعض الطريق فسأله عن أهل الكوفة فقال له : « قلوبهم معك وسيوفهم عليك » (2). الوضع النفسي للأمة : الحروب المتلاحقة خلال خمس سنوات تقريبا ، حروب الجمل وصفين والنهروان ، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع الشامية وبين مراكز لحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم ولدت في نفوس أصحاب الإمام علي (ع) حنينا إلى السلم والاستراحة. فقد مرت عليهم سنوات وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخرى __________________ (1) المصدر السابق ، ص 112 (2) المصدر نفسه ، ص 124. إلى جانب هذا كانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم ، وإنما يحاربون إخوانهم وعشائرهم وأصحابهم الذين تربطهم بهم مودة ومعرفة. ولا ريب أن مثل هذا الشعور بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد الإمام علي إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم ، حيث اكتشف زعماء القبائل ومن إليهم أن سياسة أمير المؤمنين لا يمكن أن تلبي مطامحهم التي تزكيها سياسة معاوية في دفع المال وإقطاع الولايات ، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه. وقد ساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (ص). ولا يخفى أن الإنسان القبلي عالمه قبيلته ، ينفعل بانفعالاتها ويطمح بطموحاتها ، ويعادي من يعاديها. فهو كما وصفه أحد الشعراء : وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق. فلم يستجيبوا للإمام علي حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين. ولما استشهد الإمام علي (ع) وبويع للإمام الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها ، وخاصة عندما دعاهم الإمام الحسن للتجهيز لحرب الشام ، حيث كانت الاستجابة باردة جدا. ثم جهز جيشا ضخما إلا أنه كتب عليه الهزيمة قبل ملاقاة العدو وذلك بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه. فقد « خف معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب حيلة وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكاك وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم ». وكان هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية واعدين بأن يسلموه الحسن حيا أو ميتا. وحين خطبهم الإمام الحسن ليختبر مدى إخلاصهم هتفوا من كل جانب « البقية البقية » بينما هاجمته طائفة تريد قتله. وفي
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 5:48 am | |
| الوقت نفسه أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل بعشائرهم. ولما رأى الإمام الحسن ، أمام هذا الوضع السيىء ، أن الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزا عن النهوض بتبعات القتال ، ورأى أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم ، حينئذ جنح إلى الصلح بشروطها. هكذا كانت الحال في عهد الإمام الحسن أما حالة الناس أثناء ثورة الإمام الحسين (ع) وفيما بعدها فقد ازدادت سوءا أو أصبح الأمر أكثر حراجة : فالذعر والخوف قد أطبق على الناس ، وقل الديانون كما أشار إلى ذلك الإمام الحسين بقوله : « الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ». وظل الحسين (ع) يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه حتى سقط شهيدا مخضبا بدمائه الطاهرة على رمال كربلاء التي شهدت تلك المأساة الدموية التي لم يشهد التاريخ فظاعتها. وحينما استشهد الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه تصور الأمويون وعامة الناس أن أهل البيت قد انتهى أمرهم ، وأفل نجمهم ، فلا الأمويون يخافونهم ، ولا غير الأمويين يرجونهم .. إلى جانب هذا لم يجرأ أحد على الاتصال بهم ، والجهل المطبق بالإسلام ، فكانت الردة عن أهل البيت (ع) عامة وشاملة. هذه هي الوضعية الاجتماعية والسياسية التي كان يعيش في ظلها الإمام زين العابدين (ع). وقد عايشها بوضوح كامل مع عمه الحسن (ع) ومع أبيه الحسين (ع) واستمرت هذه الظروف على أشدها طوال حياته ... فكيف يتصرف؟ وكيف يتحرك؟ وكيف تعامل مع الملوك والولاة الظالمين؟ هل يترك الأمور على ما هي؟ أم يرفع السيف للحرب؟. المعروف عن الإمام زين العابدين (ع) أنه لم يرفع السيف في ذلك الوقت ولم يجهز جيشا للقيام بثورة ، إنما اتجه اتجاهات أخرى كانت في نظره أجدى في بناء الأمة وإعدادها للوقوف أمام تلك الانحرافات الخطيرة التي حدثت على نطاق الحكم وفي داخل المجتمع. فما هي الأسباب التي دفعت الإمام (ع) إلى الامتناع عن القيام بالثورة في ذلك الوقت. أ ـ الوضع السياسي والاجتماعي للأمة : لقد وصلت الأمة إلى حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن (ع). كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل ، أضف إلى ذلك : التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية ، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلى حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة ، فكيف سيكون موقف الإمام (ع) لو دعا إلى الثورة؟ ستكون النتيجة حتما الخذلان والفشل. ب ـ عدم وجود قوة كافية ومؤهلة للثورة : لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي على الإمام القيام بها. وقد أكد 7 على ذلك مرارا ، « روى النهدي قال : سمعت علي بن الحسين (ع) يقول : ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا » (1). والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت ـ : ـ فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير؟ لا يمكن تصور ذلك أبدا. علما أن الإمام السجاد (ع) كان واقعيا جدا في تصرفاته الحكيمة والدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (ع) __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 143. رأيه بوضوح « عن أبي عبد الله (ع) قال : لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت على الحج ولينته ، إن الله عز وجل يقول : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ * يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ * وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1). فقال له 7 : أتم الآية ، فقال : ( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (2). إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحج » (3). فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث تجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتما وسينتصر بهم : « التائبون ، العابدون ... هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه ... وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون. ذلك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون .. وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (ص) وانتصر بهم انتصارا باهرا بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة والصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم. ج ـ الاستفادة من التجارب السابقة : لقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم __________________ (1) التوبة ، الآية 111. (2) التوبة ، الآية 112. (3) الكافي الكليني ، ج 5 ، ص 26. الحوادث التي جرت على جده أمير المؤمنين وعلى أبيه الإمام الحسين وعلى عمه الإمام الحسن : ، وقد رأى خذلان الناس عن نصرة أبيه وحيدا ، فريدا ، عطشانا على شط الفرات هذه التجربة أثرت في نفسه وتعلم منها دروسا واقعية مؤلمة واستخلص عبرا كثيرة في معرفة نفوس الناس وأحوالهم وأسلوبهم ، ولم يكن للأئمة المعصومين : علي والحسن والحسين : من سبيل أفضل مما فعلوه مع هذه الأمة ، فالأساليب التي اتبعوها والمواقف التي اتخذوها مع الناس لم يكن أمامهم غيرها ... ولذلك لم يستجب الإمام زين العابدين لدعوة أهل العراق بالثورة ، وقد بيّن ذلك واتخذ موقفا حاسما واضحا تجاههم. نتلمس السبب في خطبته (ع) أمام أهل الكوفة بعد مقتل أبيه الإمام الحسين (ع) قال : « رحم الله امرءا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم : نحن كلنا سامعون ، ومطيعون ، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرنا يرحمك الله فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا ، فقال (ع) : هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟ كلا! فإن الجرح لما يندمل ، قتل أبي بالأمس وأهل بيتي معه ، ولم ينسني ثكل رسول الله (ص) وثكل أبي وبني أبي ، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال : لا غرو أن قتل الحسين فشيخه قد كان خيرا من حسين وأكرما فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصاب حسينا كان ذلك أعظما قتيل بشط النهر روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جهنما كما نرى في عبارات الإمام السجاد (ع) : ولم ينسني ثكل رسول الله (ص) وثكل أبي وبني أبي ، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري ». هذه الكلمات تحمل بين طياتها المرارة والألم الشديد في كل قطعة من جسم الإمام (ع) والغصة ما برحت باقية في حلقه حزنا وكمدا من هذه التجربة المرة جعلته يتخذ موقفا حاسما لا مهادنة فيه بأن لا يكرر التجربة التي مرت على آبائه وأهل بيته يرفض الاستجابة لم يدعوه القيام بالثورة على الحكم الأموي دون أن يطمئن لأسباب الانتصار. د ـ قسوة الملوك وانحرافهم عن الإسلام : المتتبع للتاريخ يرى بوضوح أن من أسباب فشل الثورات التي قامت في عهد الأمويين والعباسيين هو حدوثها في وقت قوة الحكام والولاة لا في زمن ضعفهم. لقد كان الملوك الأمويون وولاتهم في عصر الإمام (ع) في أوج قوتهم في ملكهم ويشهد التاريخ بأنهم أشد الناس قسوة وانحرافا عن الإسلام حيث وصل بهم الأمر إلى رمي الكعبة بالمجانيق وسبي المدينة وقتل ريحانة رسول الله (ص). وملوك عصره هم : يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. وولاة عصره هم : الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله بن زياد وهشام بن اسماعيل والي المدينة. وكل هؤلاء كانوا من الفاسقين ، الظالمين ، لا يتورعون عن ارتكاب الحرام ، ففي عهدهم قتل أشرف الناس أبيّ الضيّم سيد الشهداء ، الحسين بن علي ، وسبيت المدينة وهدمت الكعبة ورميت بالمجانيق. ويزيد الخمير السكير كان صاحب جوار وكلاب وقرود ومنادمة على الشراب. والحجاج بن يوسف الثقفي كان ظالما غشوما أهلك الحرث والنسل وتطاول على الصحابة الشرفاء والعلماء الفضلاء. هذان نموذجان من النماذج العديدة من الملوك والولاة الذين كان قد عاصرهم الإمام (ع) فمثلهم يجب أن تعد لهم العدة الكافية ليقضي على طغيانهم وجبروتهم ، وهذا ما لم يكن متوفرا للإمام زين العابدين 7. الحياة الاقتصادية في العصر الأموي : تدهورت الحياة الاقتصادية في العصر الأموي ، في حياة الإمام زين العابدين (ع) تدهورا فظيعا ، فكانت جميع مرافقها مشلولة ومضطربة إلى أبعد الحدود ، فالزراعة التي كانت العمود الفقري في البلاد قد ضعفت كثيرا ، وذلك بسبب الفتن والاضطرابات الداخلية ، وإهمال الدولة لمشاريع الري ، وإصلاح الأرض والنظر في حاجات المزارعين. فنجم عن كل ذلك مجاعة عامة في البلاد أصابت معظم الطبقة العامة من السكان. كما ارتفعت أسعار السلع وخلت معظم البيوت من حاجات الحياة ، وأصبحت بطون الناس خاوية وأجسادهم عارية. وقد صور الشاعر ابن عبدل الأسدي حالته الاقتصادية المزرية بقصيدة مدح بها بعض نبلاء الكوفة ، طالبا منه أن يسعفه بما تدر به كفه من جميل فقال : يا أبا طلحة الجواد أغثني بسجال من سيبك المعتوم أحي نفسا ـ فدتك نفسي فإني مفلس ، قد علمت ذاك ، قديم أو تطوع لنا بسلف دقيق أجره ، إن فعلت ذاك ـ عظيم قد علمتم ـ فلا تقاعس عني ما قضى الله في طعام اليتيم ليس لي غير جرة وأصيص وكتاب منمنم كالوشوم وكساء أبيعه برغيف قد رقعنا خروقه بأديم وأكاف أعارينه نشيط ولحاف لكل ضيف كريم (1) __________________ (1) حياة الحيوان للجاحظ ، ج 5 ، ص 297. فكما نرى هذا الشاعر البائس ، نهشه الفقر والحرمان ، وأماته الجوع يطلب أن يسعفه هذا الرجل الكريم بالطعام ليحيي نفسه من براثن الفقر المدقع. وكانت عامة الناس تعيش حياة بائسة لا تعرف السعة والرخاء ، لأن الاقتصاد قد تحول كله إلى جيوب الأمويين وعملائهم. ترف الملوك الأمويين : انغمس ملوك الأمويين بالنعم والترف ، فكان فتيانهم يرفلون بالقوهي (1) والعرشي كأنهم الدنانير الهرقلية (2) ، وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب بأربعماية دينار ويقول : ما أخشنه (3). وروى هارون بن صالح عن أبيه قال : كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب ـ يعني المسك ـ الذي فيها (4). وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة قمصان كأنها درج بعضها أقصر من بعض ، وفوقها رداء عدني بألفي درهم (5). وقد ذكر المؤرخون الكثير من الأخبار التي تدل على ترفهم الكبير وتلاعبهم باقتصاد الأمة وثرواتها وبعدهم عن تعاليم الإسلام السمحة العادلة. هباتهم السخية للشعراء : أسرف الملوك الأمويون الكثير من هباتهم للشعراء ، فأجزلوا لهم __________________ (1) القوهي : الثوب من الخز الفاخر. (2) الأغاني ، ج 1 ، ص 310. (3) طبقات ابن سعد ، ج 5 ، ص 246. (4) الأغاني ، ج 9 ، ص 262. (5) الأغاني ، ج 17 ، ص 89. العطاء ليقطعوا ألسنتهم وينطقوا بفضلهم. فالأحوص ، شاعرهم ، نال مرة مائة ألف درهم (1) ، كما نال مرة أخرى عشرة آلاف دينار ، ويشير إلى ثرائه الواسع في شعره فيوضح أنه لم يكن مكتسبا من تجارة أو ميراث وإنما هو من هبات الأمويين وعطاياهم فقال : وما كان لي طارفا من تجارة وما كان ميراثا من المال متلدا (2) ولكن عطايا من إمام مبارك ملا الأرض معروفا وجودا وسؤددا وقال في مدح الوليد بن عبد الملك : إمام أتاه الملك عفوا ولم يثب على ملكه مالا حراما ولا دما (3) تخيره رب العباد لخلقه وليا وكان الله بالناس أعلما فلما ارتضاه الله لم يدع مسلما لبيعته إلا أجاب وسلّما ينال الغنى والعز من نال وده ويرهب موتا عاجلا من تشاء ما وإن بكفيه مفاتيح رحمة وغيث حيا يحيا به الناس مرهما يقول الشاعر إن من يتصل بالوليد ويكون من عملائه يخفي مساوءه وينشر فضائله متملقا متكسبا ، ينال الغنى والثراء العريض ، وأما من ينصرف عنه ، فإنه ينال الموت المعجل. ومن الطبيعي أن نجد في كل عصر ، وخاصة في عصر الإرهاب والتجويع ، من يتملق للسلطان لينال الحظوة عنده فيكذب ويخادع ويصانع ليكسب لقمة عيشة .. والأخطل شاعر البلاط الأموي ، وبصورة خاصة شاعر عبد الملك بن مروان. روى أحد أساطين الأدب قال : دخل الأخطل يوما على عبد الملك بن مروان فمدحه بقصيدة عامرة الأبيات مطلعها « خف القطين » فأعجب بها الملك الأموي أيما إعجاب وقال للأخطل : ويحك! أتريد أن __________________ (1) الأغاني ، ج 9 ، ص 172. (2) الأغاني ، ج 9 ، ص 8. (3) الأغاني ، ج 1 ، ص 29. أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب ، فقال : أكتفي بقول أمير المؤمنين ، فخلع عليه وأمر بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم ، ثم أرسل معه غلاما فخرج به وهو يقول : هذا شاعر أمير المؤمنين ، هذا أشعر العرب. قال الأخطل هذه القصيدة في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق وانتصاره على مصعب بن الزبير ، وفرض عليه موقفه السياسي أن يهجو أعداء بني أمية ، فقال : إلى امرىء لا تعدينا نوافله أظفره الله ، فليهنأ له الظفر الخائض الغمرة ، الميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطر في نبعة من قريش يعصبون بها ما إن يوازى بأعلى نبتها الشجر تعلو الهضاب وحلوا في أرومتها أهل الرّباء وأهل الفخر إن فخروا حشد على الحق عيافو الخنا أنف إذا ألمت بهم مكروهة صبروا شمس العداوة حتى يستقاد لهم وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا أعطاهم الله جدا ينصرون به لا جدّ الاّ صغير ، بعد ، محتقر بني أمية قد ناضلت دونكم أبناء قوم ، هم آووا ، وهم نصروا أفحمت عنكم بني النجار قد علمت عليا معد ، وكانوا طالما هدروا يقول الأخطل شاعر البلاط الأموي المتكسب بشعره : إن الأمويين ، حشد على الحق ، وعداوتهم قاسية على من يتمرد عليهم. وقد ناضل الشاعر دونهم الأنصار وهم قبيلتا الأوس والخزرج الذين آووا النبي محمدا في يثرب لما هاجر من مكة. ثم يمننهم ويقول إنه بمدحهم هذا أسكت عنهم بني النجار وهم قوم من الأنصار ومنهم شاعر النبي حسان بن ثابت إنه شاعر يبيع كلامه بدنانير الأمويين وهمه الوحيد كسب المال ولا فرق عنده بين الحق والباطل. ولم يكتف بمدحهم بل تكفل أيضا بهجاء أعدائهم. ومن مدح الملوك إلى مدح الولاة ، إلى مدح أكثرهم فجورا وظلما وغدرا ، هو الحجاج بن يوسف الذي سفك الدماء وقتل الأحرار وهدم الكعبة ورماها بالمجانيق ... هذا الوالي الفاجر العاهر مدحه الأخطل بقصيدة عنوانها : « نور أضاء البلاد » ، قال فيها : أحيا الإله لنا الإمام فإنه خير البرية للذنوب غفور نور أضاء لنا البلاد وقد دجت ظلم تكاد بها الهداة تجور الفاخرون بكل فعل صالح وأخو المكارم بالفعال فخور فعليك بالحجاج لا تعدل به أحدا إذا نزلت عليك أمور ولقد علمت وأنت أعلمنا به أن ابن يوسف حازم منصور وأخو الصفاء فما تزال غنيمة منه يجيء بها إليك بشير وهذا أيضا شعر تكسبي هم صاحبه كسب الميل ونيل الجوائر السنية من ملوك بني أمية وولاتهم. هباتهم للمغنين والمطربين : كما أجزل الأمويون العطاء للشعراء ، فقد أغدقوا الجوائز على المغنين الذين توافدوا عليهم من شتى البلدان. فقد أعطى الوليد بن يزيد معبدا المغني اثني عشر ألف دينارا (1) واستقدم جميع مغني ومغنيات الحجاز وأغدق عليهم الجوائز الكثيرة (2). من هؤلاء وفد على يزيد بن عبد الملك معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة فأمر لكل واحد منهم بألف دينار (3). وطلب الوليد المفتي يونس الكاتب فذهب إليه وغناه فأعجب بغنائه ، فأجازه بثلاثة آلاف دينار (4). وهكذا كما ترى كانت تتفرق ثروات الأمة __________________ (1) الأغاني ، ج 1 ، ص 55. (2) الأغاني ، ج 5 ، ص 111. (3) الأغاني ، ج 4 ، ص 10. (4) الأغاني ، ج 4 ، ص 400. الإسلامية على المغنين والمطربين والعابثين من أجل نزوات الملوك الرخيصة ورغباتهم الحقيرة. وذلك في وقت أخذ الفقر والبؤس فيه يشد على خناق المواطنين ، ولم يعد للاقتصاد الإسلامي أي وجود في واقع الحياة العامة. ولا يخفى أن هذه صفات الحكم الدكتاتوري الذي يسير وراء الأهواء والعواطف ولا يتقيد بقانون أو دين أو أخلاق. شيوع الغناء : شاع الغناء في المدينة المنورة حتى أصبحت مركزا له ومقصدا للمغنين والمغنيات من شتى البلدان. قال أبو الفرج الأصفهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم (1) وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة : ما أعجب أمركم يا أهل المدينة ، في هذه الأغاني ، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها (2). وكان العقيق إذا سال ، وأخذ المغنون يلقون أغانيهم لم يبق في المدينة مخبأة ، ولا شابة ولا شاب ، ولا كهل إلا خرج ببصره ويسمع الغناء (3). ومن طريف ما ينقل أنه شهد عند عبد العزيز المخزومي ، قاضي يثرب دحمان المغني الشهير لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق فأجاز القاضي شهادته وعدله ، فقال له العراقي : إنه يغني ويعلم الجواري الغناء ، فقال القاضي : غفر الله لنا ولك ، وأينا لا يتغنى (4). وكان فقيه المدينة مالك بن أنس له معرفة تامة بالغناء ، فقد روى حسين بن دحمان الأشقر ، قال : كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أغني : __________________ (1) الأغاني ، ج 8 ، ص 244. (2) العقد الفريد ، ج 3 ، ص 233. (3) العقد الفريد ، ج 3 ، ص 245. (4) الأغاني ، ج 6 ، ص 21.
ما بال أهلك يا رباب خزرا كأنهم غضاب (1) قال : فإذا خوخة قد فتحت ، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء ، فقال : يا فاسق أسأت التأدية ، ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة ، ثم اندفع يغني فظننت أن طويسا قد نشر بعينه ، فقلت له : أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال : نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم ، فقالت لي أمي : إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه ، فدع الغناء ، وأطلب الفقه ، فإنه لا يضر معه قبح الوجه ، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء. فقلت له : فأعد جعلت فداك ، فقال : لا ، ولا كرامة ، أتريد أن تقول : أخذته عن مالك بن أنس ، وإذا هو مالك بن أنس ، ولم أعلم. وسواء أصحت هذه الرواية أم لا تصح ، وسواء أوضعها الحاقدون على مالك أم نقلوها للحط من شأنه ، فإن الذي لا ريب فيه أن المدينة المنورة في العصر الأموي كانت مركزا مهما من مراكز الغناء في العالم الإسلامي ، ومعهدا خاصا لتعليم الجواري الغناء والرقص. الغناء والرقص : كانت تقام في يثرب والمدينة حفلات الغناء والرقص لأشهر المغنين والمغنيات ، وربما كانت مختلطة بين الرجال والنساء ، ولم توضع بينهما ستارة (2). روى أبو الفرج قال : إن جميلة جلست يوما ، ولبست برنسا طويلا ، وألبست من كان معها برانس ، ثم قامت ورقصت ، وضربت بالعود ، وعلى رأسها البرنس الطويل ، وعلى عاتقها بردة يمانية ، وعلى القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص ، ومعبد ، والغريدي ، وابن عائشة ، ومالك ، وفي يد كل __________________ (1) الأغاني ، ج 4 ، ص 222. (2) الشعر والغناء في المدينة ومكة ، ص 250. منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ، ورقصها ، فغنت وغنى القوم على غنائها ، ثم دعت بثياب مصبغة ، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا ، وتمشت ومشى القوم خلفها ، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد (1). وكانت عائشة بنت طلحة تقيم احتفالات مختلطة من الرجال والنساء ، وتغني فيها عزة الميلا (2). تأثير أهل المدينة بالغناء : سمع عمر بن أبي ربيعة صوتا من جميلة فشق قميصه إلى أسفله فصار قباءا وهو لا يدري (3). ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية ( سلامة القس ) من مولاها بعشرين ألف دينار (4). ثم خرج أهل المدينة لتوديعها ، وقد ملؤوا رحبة القصر ، فوقفت بينهم وغنتهم : فارقوني وقد علمت يقينا ما لمن ذاق ميتة من إياب والناس وراءها ينتحبون ويبكون كلما رددت هذا الصوت. ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية والراقصة ( حبابة ) فجعلت تغني عنده ، وكان إلى جانبه الذي باعها ، وهو من أهل المدينة فعرض لحيته إلى شمعة فاحترقت ولم يحس بها من شدة الطرب. وقد نقل لنا المؤرخون الكثير من النوادر عن شدة تأثر أهل المدينة بالغناء والطرب. تعليم الغناء في يثرب : كانت يثرب في عهد الأمويين تعج بالمغنيين والمغنيات وكن يقمن __________________ (1) الأغاني ، ج 8 ، ص 227. (2) الأغاني ، ج 10 ، ص 57. (3) الأغاني ، ج 8 ، ص 206. (4) الأغاني ، ج 8 ، ص 343. بدور فعال في تعليم الغناء للفتيان والفتيات ، فانتشر الغناء وانتشر معه المجون والفساد. ومن المؤسف حقا أن مدينة النبي (ص) صارت في العصر الأموي مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمل أن تكون مصدر إشعاع للثقافة الدينية ومركزا هاما للتطور الفكري والحضاري في العالم العربي والإسلامي ، إلا أن ملوك بني أمية انتزعوا منها هذه الظاهرة الكريمة وأفقدوها زعامتها السياسية والاجتماعية والدينية. ويبدو أن تركيز الأمويين على تدفق الجواري وإشاعة الغناء في هذه المدينة بالذات القصد منه هو تلهي الشباب بهذه الأمور وإبعادهم عن المطالبة بالخلافة والحكم. فالمال لديهم ، والجواري عندهم ، ودور الغناء والرقص موجودة للتلهي وإضاعة الوقت ، ولماذا الحروب والقيام بالثورة. هكذا كان يفكر الحكم الأموي. إلا أنهم توهموا ذلك حيث قامت الثورات من كل جانب فكانت ثورة التوابين الذين ندموا أشد الندم على تركهم نصرة الحسين (ع). وثورة المختار ، وثورة ابن الزبير ... مجون الأمويين : عاش ملوك بني أمية كالقياصرة والأكاسرة ، حياة كلها لهو وعبث ، فامضوا لياليهم بشرب الخمور وإقامة حفلات الغناء والرقص ، وكان أول من آوى المغنين وشجع الغناء من بني أمية يزيد بن معاوية الذي بذل أبوه كل جهد حتى سلمه زمام الحكم. فقد كان يطلب المغنين والمغنيات من المدينة إلى الشام (1) ، ويتجاهر بالفسق والفجور ويشرب الخمر علنا لا يخاف لا من ربه ولا من مجتمعه. ومن مجانهم المعروفين الوليد بن يزيد الذي باع عقله للشيطان __________________ (1) الأغاني ، ج 8 ، ص 343. وعاش متهتكا فاسقا فارغا من كل القيم الأخلاقية. طلب المغني المعروف ابن عائشة فغناه بصوت رخيم ، فطرب الأمير الأموي على غنائه حتى فقد صوابه. فقال للمغني : أحسنت ، أحسنت ، ثم نزع ثيابه ، فألقاها عليه ، وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها ، ووهب له ألف دينار ، وحمله على بغلة ، وقال : اركبها بأبي أنت ، وانصرف ، فقد تركتني على مثل ( المقلى ) من حرارة غنائك (1). ثم استقدم مغنيا آخر ، عطردا ، ولما سمع منه أحد أصواته شق عليه حلة وشي ، ورمى بنفسه في بركة خمر ، فما زال بها حتى أخرج كالميت سكرا ، ولما أفاق قال لعطرد : كأني بك قد دخلت المدينة ، فقمت في مجالسها وقعدت ، وقلت : دعاني أمير المؤمنين ، فدخلت عليه فاقترح علي فغنيته وأطربته ، وشق ثيابه ، وفعل ، والله لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربن عنقك ، ثم أعطاه ألف دينار فأخذها وانصرف إلى المدينة (2). ومن مجانهم أيضا يزيد بن عبد الملك ، فقد طلب ابن عائشة فلما مثل عنده أمره بالغناء ، فغناه صوتا طرب منه حتى ألحد في طربه ، وقال لساقيه : اسقنا بالسماء الرابعة (3). هكذا أشاع هؤلاء الملوك الفسق والفجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي وبصورة خاصة في يثرب للقضاء على قدسيتها ، وما تتمتع به من مكانة مرموقة في نفوس المسلمين لكنهم فشلوا لأن كلمة الله هي العليا وأنصار الحق لا يهزمون مهما صادفوا من ظلم وجور وطغيان ، بل حمدوا وجاهدوا وأعطوا دروسا في التضحية والفداء ما زالت مشاعل مضيئة على دروب المجاهدين. __________________ (1) الأغاني ، ج 8 ، ص 324. (2) الأغاني ، ج 3 ، ص 226. (3) الأغاني ، ج 3 ، ص 307. مواقف الإمام من هذه التيارات : أمام هذه التيارات الفاسدة المدمرة للأخلاق والقيم الإنسانية ، كان موقف الإمام زين العابدين (ع) متسما بالقوة والصلابة والجرأة ، فقد سلط عليها أشعة من روحه المقدسة التي تفيض بها الصحيفة السجادية. فهي بحق تربية أخلاقية واجتماعية وسياسية وروحية ، وذلك بما حوته من وعظ وإرشاد ، وما اشتملت عليه من قيم الإسلام وهدى أهل البيت :. لقد وقفت الصحيفة السجادية سدا منيعا لحماية الإسلام وصيانته من ذلك التفسخ الجاهلي الذي أوجده الحكم الأموي فقد نعت على الأمة ما هي فيه من الانحطاط الفكري والاجتماعي ودعتها إلى الانطلاق والتحرر من ذل المعصية إلى عز الطاعة طاعة الله العلي القدير خالق الكون وواهب الحياة. يضاف إلى الصحيفة السجادية سيرة الإمام التي كانت تحكي سيرة جده الرسول الأعظم (ص) ومواقفه المحقة التي ترشد الضال وتهدي الحائر إلى الطريق القويم. لكن نظرا للحالة السياسية والاجتماعية القلقة والمشحونة بالفتن والحروب والثورات التي كانت تحيط بالإمام زين العابدين ووجوده بين الأمة المظلومة ، وبين الملوك والأمراء القساة ، الجفاة ، المنحرفين عن الإسلام والذين يسومون الناس أنواع البلاء ، ففي خضم هذه التيارات كان موقف الإمام 7 صعبا جدا وحرجا للغاية. ها هي واقعة كربلاء ماثلة أمام عينيه بدمائها ودموعها وأحزانها .. وها هي وقعة الحرة واستباحة المدينة يعايش آلامها وأحزان أهلها ، وها هي الكعبة تضرب بالنار وبالمجانيق. هكذا كان أسلوب الحكام والملوك في عهده ، أما أنصاره فلا يجد لهم أثرا ولا يجد الرجل الذي يقف معه موقفا مؤيدا حتى الشهادة. حقا لقد كان موقف الإمام صعبا جدا حيث يضطر في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى الكعبة فيتعلق بأستارها ويدعو الله دعاء حارا خالصا. كما كان يلجأ في أحيان أخرى إلى قبر جده رسول الله (ص) يدعوه ويتهجد ويتعبد فتنفرج الأزمات ويجعل الله من بعد العسر يسرا. 1 ـ الإمام (ع) مع ملوك عصره : كان موقف الإمام السجاد من ملوك عصره موقف الحازم الحاسم الذي لا يساوم ولا يداهن في دين الله وفي شريعة الله ، فلم يتقرب من الملوك ولم يمدحهم ، بل كان موقفه الحذر منهم والصلابة تجاههم .. وفي أكثر الأحيان يسدي النصيحة لهم خدمة للإسلام والمسلمين. كان أكثر ملوك بني أمية احتكاكا به هو عبد الملك بن مروان وقد عاصر الإمام (ع) عشرين سنة اتبع خلالها عبد الملك أساليب ملتوية عديدة : أ ـ الترهيب ، ب ـ الترغيب ، ج ـ العجز. أ ـ الترهيب : اتبع عبد الملك مع الإمام أسلوب التهديد والترهيب منها : الاعتقال والتضييق والإرهاب الجسدي. قال الزهري : شهدت علي بن الحسين (ع) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديدا ووكل به حفاظا في عدّة وجمع فاستأذنهم في التسليم والتوديع له فأذنوا فدخلت عليه ، والأقياد في رجليه والغل في يديه فبكيت وقلت : وددت أني مكانك وأنت سالم ، فقال : يا زهري أو تظن هذا بما ترى عليّ وفي عنقي يكريني؟ أما لو شئت ما كان فإنه وإن بلغ بك ومن أمثالك ليذكرني عذاب الله ، ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد ثم قال : يا زهري لا حراث معهم على ذا منزلتين من المدينة ، قال : فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون يطلبونه بالمدينة فما وجدوه. فكنت فيمن سألهم عنه ، فقال لي بعضهم : إنا نراه متبوعا ، إنه لنازل ، ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة. فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته فقال : إنه قد جاءني في يوم فقد الأعوان فدخل علي فقلت : أقم عندي ، فقال : لا أحب ، ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة. قال الزهري : فقلت : ليس علي بن الحسين (ع) حيث تظن أنه مشغول بنفسه ، فقال : حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به » (1). وتابع عبد الملك مع الإمام (ع) الإرهاب النفسي فأرسل الرسائل والكتب وبعث له الوفود يتوعده ويتهدده بقطع رزقه. من افتراءات عبد الملك على الإمام : « بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله (ص) عنده فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبى عليه ، فكتب عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال ، فأجابه (ع) : أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقال جل ذكره : ( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) فانظر أينا أولى بهذه الآية (2). لم تؤثر أساليب عبد الملك مع الإمام (ع) ، بل زادته صلابة وحزما والتجاءا إلى الله تعالى. فكان موقفه الرافض بل وصف عبد الملك استيحاء من الآية بأنه خوان كفور!! ... ب ـ الترغيب : ولما لم ينفع الترهيب ، اتبع عبد الملك مع الإمام (ع) أسلوبا آخر وهو الترغيب بالمال والعطايا السخية وإرجاع حقوق أهل البيت عليهم __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 123. (2) المصدر نفسه ، ص 95. السلام المغصوبة ، ظنا منه بأن يستدرج الإمام (ع) ويستميله إلى جانبه. ولكن هيهات أن ينفع هذا الأسلوب مع أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة والمبدأ الثابت الرصين. روي عن عبد الملك بن عبد العزيز قال : « لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة رد إلى علي بن الحسين (ع) صدقات رسول الله (ص) وصدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). وكانت مضمومتين (1). والآن ماذا على عبد الملك أن يفعل ، فلا الترهيب أثر به على الإمام المعصوم (ع) ولا الترغيب ، فتركه وشأنه عندما وصل إلى مرحلة العجز. ج ـ العجز : عرفنا إن الأساليب التي اتبعها عبد الملك مع الإمام ترهيبا وترغيبا لم تجده نفعا ، ولم تغير موقفه ، ذلك أن روحية أئمة الهدى ومواقفهم ثابتة ومعروفة تجاه الحق. فلم يبق لعبد الملك بن مروان إلا أن يترك الإمام وشأنه ولا يتعرض له. بل أوصى ولاته بترك أهل البيت (ع) وشأنهم وعدم التعرض لهم .. قال أبو عبد الله (ع) : لما ولي عبد الملك بن مروان واستقامت له الأمور كتب إلى الحجاج بن يوسف : « أما بعد فجنبني دماء بني عبد المطلب فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها لم يلبثوا بعدها إلا قليلا والسلام ». وكتب الكتاب سرا دون أن يعلم به أحد وأرسل به مع البريد إلى الحجاج واليه على الكوفة. وأخبر أن عبد الملك قد زيد في ملكه برهة من دهره لكفه عن بني هاشم وأمر أن يكتب ذلك إلى عبد الملك ويخبره بأن رسول الله (ص) أتاه في منامه وأخبره بذلك ، فكتب علي بن الحسين (ع) إلى عبد الملك بن __________________ (1) المصدر نفسه ، ص 119. مروان يخبره بذلك » (1). 2 ـ تعامل الإمام (ع) مع الحكام : ورد معنا أن الأسلوب الذي اتبعه الإمام (ع) مع الملوك هو الحذر والحزم وعدم المداهنة في دين الله. فكان يجهر بالحق علانية أمام أولئك الملوك فيظهر أخطاءهم ويبين لهم عاقبتهم المزرية يوم القيامة ، يومئذ يكون الملك لله الواحد القهار ... فلم يتقرب إليهم الإمام (ع) ولم يجاملهم. لكن حينما تكون هناك مصلحة إسلامية ودفاع عن بيضة الإسلام فلا يتوانى (ع) في تقديم المشورة أو النصيحة ، كما كان يفعل جده أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب (ع) حيث كان يقدم الخبرة والمشورة للخليفتين : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب مع غصبهم لحقه. لكن مصلحة الإسلام في نظره (ع) أهم وأفضل من كل مصلحة. وكان يحل لهما المعضلات في الحكم والقضاء. هكذا كان يفعل أمير المؤمنين (ع) وهكذا فعل حفيده زين العابدين. من هذه الاستشارات التي قدمها الإمام زين العابدين لعبد الملك بن مروان طريقة صك النقود ، والرد على ملك الروم وتفصيل ذلك : « استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة والقراطيس » (2). نستشف ذلك من الرواية التالية : « كتب ملك الروم إلى عبد الملك : أكلت لحم الجمل الذي هرب __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 119. (2) البداية والنهاية لابن كثير ، ج 9 ، ص 104. عليه أبوك من المدينة. لأغزونك بجنود مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى زين العابدين (ع) ويتوعده ويكتب إليه ما يقول ففعل وقال (ع) : « إن لله لوحا محفوظا يلحظه في كل يوم ثلاثماية لحظة ، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، وإني لأرجو أن يكفيك منها لحظة واحدة ، فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروم ، فلما قرأه قال : ما خرج هذا إلا من كلام النبوة » (1). 3 ـ تعامل الإمام مع الولاة : الولاة يمثلون ملوكهم الجبابرة الطغاة فهم نسخة طبق الأصل من ظلمهم وانحرافهم عن الإسلام ، بل فاقوا ملوكهم بعض الأحيان في الظلم والجور ، كما هو الحال مع الحجاج وعبيد الله بن زياد وهشام بن إسماعيل ومسرف بن عقبة ... فكان الإمام (ع) يتخذ الموقف نفسه منهم ألا وهو الحذر وعدم المجاملة ذلك كان الطابع العام لسياسته معهم. وفي أغلب الأحيان كان يستخدم الدعاء لدفع كيدهم ورد ظلمهم ، فكان هذا الأسلوب مثمرا جدا. عن عمر بن علي ، عن أبيه ، علي بن الحسين (ع) : كان يقول : لم أر مثل التقدم في الدعاء ، فإن العبد ليس تحضره الإجابة في كل وقت وكان مما حفظ عنه (ع) من الدعاء حيث بلغه توجه مسرف بن عقبة إلى المدينة « رب كم من نعمة أنعمت بها علي قلّ عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري ، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني ، وقل عند بلائه صبري فلم يخذلني ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ويا ذا النعماء __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 133. التي لا تحصى عددا. صل على محمد وآل محمد وادفع عني شره فإني أذرأ بك في نحره وأستعيذ بك من شره ». فقدم مسرف بن عقبة المدينة وكان يقال لا يريد غير علي بن الحسين (ع) فأتاه فلما صار إليه قرّبه وأكرمه ، وحباه ووصله. وقال له : أوصاني أمير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك فجزاه خيرا ثم قال : أسرجوا له بغلتي وقال له : انصرف إلى أهلك فإني أرى أن قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك فقال علي بن الحسين (ع) : ما أعذرني للأمير ، وركب ، فقال مسرف لجلسائه : هذا الخير الذي لا شر فيه مع موضعه من رسول الله 6 ومكانه منه » (1). وكان الإمام زين العابدين (ع) لا يلزم نفسه بالدعاء فقط بل يوصي الآخرين من أهل بيته وخاصته ، وأصحابه وشيعته ، يوصيهم بالتعرض لنفحات الله عند الوقوع في شدة أو مصيبة. فكان الدعاء عنده سلاحا ناجعا ضد الطغاة والظالمين والمنحرفين عن الإسلام من ملوك بني أمية وولاتهم. كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامله على المدينة صالح بن عبد الله المري : أبرز الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ وقد كان محبوسا في حبسه ـ واضربه في مسجد رسول الله (ص) خمسمائة سوط ، فأخرجه صالح إلى المسجد واجتمع الناس وصعد صالح المنبر يقرأ الكتاب ثم ينزل فيأمر بضرب الحسن ، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ دخل علي بن الحسين (ع) فأفرج الناس عنه ، لهيبته وتقاه حتى انتهى إلى الحسن ، فقال له : يا بن عم ادع الله بدعاء الكرب يفرّج عنك ، فقال : ما هو يا بن عم؟ فقال (ع) : قل وذكر الدعاء .. قال وانصرف علي بن الحسين (ع) وأقبل الحسن يكررها فلما فرغ __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 122. صالح من قراءة الكتاب ونزل قال : أرى سجية رجل مظلوم أخّروا أمره وأنا أراجع أمير المؤمنين فيه ، وكتب صالح إلى الوليد في ذلك ، فكتب إليه الوليد وأطلقه (1). والولاة كانوا يأتمرون بأمر الملوك ، فكانوا يؤذون الإمام زين العابدين (ع) ويتفننون في إيذائه ، ثم إذا انقلب الزمان عليهم ودارت دائرتهم ، فأخرجوا من إمارتهم أو انتصر عليهم غيرهم وتمكن منهم ... كان جواب الإمام (ع) الصفح عنهم وعدم التعرض إليهم مع أذاهم وتهديدهم ... « كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين في إمارته ، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للنّاس فقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين ، فمر به علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان ، فتقدم إلى خاصته ألا يعرض أحد منكم بكلمة ، وقال له (ع) : أنظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك فطب نفسا منا ومن كل من يطيعنا. فنادى هشام : الله أعلم أين يجعل رسالته » (2). * * * __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 114. عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 189 طبع النجف. (2) المصدر نفسه ، ج 46 ، ص 94. عن الطبري ج 8 ، ص 61. سيرة الإمام زين العابدين (ع) صفحات من نور النسب : هو الإمام المعصوم الرابع علي ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. والمعروف بين المحدثين بابن الخيرتين فأبوه : الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه من بنات ملوك الفرس. جاء في ربيع الأبرار للزمخشري « إن لله من عباده خيرتين فخيرته من العرب بنو هاشم. ومن العجم فارس ». أمه : اتفقت الروايات على أن أمه من أشراف الفرس ، ولكنها اختلفت في تاريخ الاستيلاء عليها من قبل المسلمين. هي : شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسرى. قال فيه أبو الأسود الدؤلي : وإن غلاما بين كسرى وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم ولادته : جاء في بعض الروايات أن ولادة علي بن الحسين 8 يوم يوم الجمعة ويقال يوم الخميس (1) بين الخامس والعاشر من شهر شعبان (2) سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين من الهجرة (3). كنيته : أبو محمد ويكنى بـ ( أبي الحسن ) أيضا. ألقابه : زين العابدين والسجاد وذو الثفنات والبكاء والعابد ومن أشهرها زين العابدين وبه كان يعرف كما يعرف باسمه. جاء في المرويات عن الزهري أنه كان يقول : « ينادي مناد يوم القيامة ليقم سيد العابدين في زمانه فيقوم علي بن الحسين (ع) ولقب بذي الثفنات لأن موضع السجود منه كانت كثفنة البعير من كثرة السجود عليه (4). أما عن تسميته بالبكاء يروي الرواة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنه قال : « بكى علي بن الحسين على أبيه عشرين سنة ما وضع خلالها بين يديه طعام إلا بكى. وقال له بعض مواليه : جعلت فداك يا بن رسول الله ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إني لم أذكر مصرع أبي وإخوتي وبني عمومتي إلا خنقتني العبرة. وقد روى الرواة كثيرا عن حزنه وبكائه فكان كلما قدم له طعام وشراب يقول : كيف آكل وقد قتل أبو عبد الله جائعا ، وكيف أشرب وقد قتل أبو عبد الله عطشانا. وكان كلما اجتمع إليه جماعة أو وفد يردد عليهم __________________ (1) إعلام الورى للشيخ الطبرسي ، ص 256. (2) مطالب المسؤول لمحمد بن طلحة الشافعي ، ص 203. (3) الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 237. (4) إعلام الورى ، ص 256. تلك المأساة ويقص عليهم من أخبارها. وأحيانا يخرج إلى السوق فإذا رأى جزارا يريد أن يذبح شاة أو غيرها يدنو منه ويقول : هل سقيتها الماء؟ فيقول له : نعم يا بن رسول الله إنا لا نذبح حيوانا حتى نسقيه ولو قليلا من الماء ، فيبكي عند ذلك ويقول : لقد ذبح أبو عبد الله عطشانا. كان يحاول في أكثر مواقفه هذه أن يشحن النفوس ويهيئها للثورة على الظالمين الذين استباحوا محارم الله واستهزأوا بالقيم الإنسانية والدعوة الإسلامية من أجل عروشهم وأطماعهم وقد أعطت هذه المواقف المحقة ثمارها وهيأت الجماهير الإسلامية في الحجاز والعراق وغيرها للثورة. إمامته : روى الكليني بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال : « إن الحسين بن علي 8 لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (ع) فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين 8 مبطونا معهم لا يرون إلا أنه لما به فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين (ع) ثم صار ذلك الكتاب إلينا يا زياد! قال : قلت : ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟ قال : فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا والله إن فيه الحدود حتى إن فيه أرش الخدش (1) كما روى المجلسي بإسناده عن محمد بن مسلم قال : « سألت الصادق جعفر بن محمد (ع) عن خاتم الحسين بن علي 8 إلى من صار ، وذكرت له إني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قال (ع) : ليس كما قالوا ، إن الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (ع) وجعل خاتمه في إصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وفعله أمير المؤمنين بالحسن 8 ، وفعله الحسن بالحسين 8 ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي بعد __________________ (1) الكافي ، ج 1 ، ص 241 وما بعدها. أبيه ، ومنه صار إلي فهو عندي ، وإلي لألبسه كل جمعة وأصلي به ، قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي فلما فرغ من الصلاة مد إلي يده فرأيت في إصبعه خاتما نقشه : لا إله إلا الله عدة للقاء الله. فقال : هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي (1). أولاده : روى الشيخ المفيد أن أولاد علي زين العابدين (ع) خمسة عشر بين ذكر وأنثى. أحد عشر ذكرا وأربع بنات (2). أكبرهم سنا وقدرا الإمام محمد بن علي الملقب بـ ( الباقر ). أمه فاطمة بنت الإمام الحسن (ع) أولدت له أربعة هم : الحسن والحسين ومحمد الباقر وعبد الله وبه كانت تكنى. ومما يبدو أن أكبر أولاده محمد الباقر ولد له سنة سبع وخمسين هجرية وكان له من العمر عندما استشهد جده الحسين (ع) في كربلاء ثلاث سنوات. وله من الذكور أيضا زيد وعمر وأمهما أم ولد. والحسين الأصغر. وعبد الرحمن وسليمان أمهما أم ولد. ومحمد الأصغر وعلي الأصغر وكان أصغر أولاده الذكور. وخديجة وفاطمة وعليّة وأم كلثوم أمهن أم ولد. وأما زيد بن علي الشهيد فقد نشأ في بيت الإمام زين العابدين حفيد الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم. هذا البيت الذي يعد مهد العلم والحكمة. تعلم فيه القرآن الكريم فحفظه واتجه إلى الحديث الشريف فتلقاه عن أبيه حتى أصبح بعد فترة واسع العلم والمعرفة. وبعد أن تركه __________________ (1) البحار ، ج 11 ، ص 6. (2) الإرشاد ، ص 244 ، قارن بالفصول المهمة لابن الصباغ والطبقات لابن سعد. والده في حدود الرابعة عشرة من عمره تعهده أخوه الإمام الباقر فزوده بكل ما يحتاج من الفقه والحديث والتفسير حتى أصبح من مشاهير علماء عصره ومرجعا معروفا لرواد العلم والحديث والحكمة والمعرفة. سافر إلى البصرة عدة مرات وناظر علماءها ومنهم واصل بن عطاء رأس المعتزلة يوم ذاك ، ناظره في أصول العقائد. وقد طلبه هشام بن عبد الملك إلى الشام وكان مجلسه حافلا بأعيان أهل الشام وخاصته ، فقال له : بلغني أنك تؤهل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة ، فأجابه زيد بن علي على الفور : ويلك يا هشام أمكان أمي يضعني؟ والله لقد كان اسحق ابن حرة وإسماعيل ابن أمة ولم يمنعه ذلك من أن بعثه الله نبيا وجعل من نسله سيد العرب والعجم محمد بن عبد الله ، إن الأمهات يا هشام لا يقعدن بالرجال عن الغايات. اتق الله في ذرية نبيك. فغضب هشام وقال : ومثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟ فرد عليه زيد بقوله : إنه لا يكبر أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ولا يصغر دون أن يوصي بتقوى الله. ومضى زيد في طريقه إلى الكوفة ثم إلى البصرة وأرسل رسائله ورسله إلى المدائن والموصل وغيرهما وانتشرت دعوته في سواد العراق ومدنه ولما بلغ أمره هشام بن عبد الملك أرسل إلى واليه على العراق يوسف بن عمر يأمره بمضايقة زيد ومطاردته وحدثت معركة أصيب فيها زيد فدفنه أصحابه في مجرى ماء حتى لا يصلب أو يحرق ، لكن ذلك لم يفده. أحدث قتله استياء عاما في جميع المناطق الإسلامية وتجدد البكاء على أهل البيت ولف الحزن كل من يحبهم ويسير على خطاهم. وممن تحدثت عنهم كتب الأنساب من أولاد الإمام علي زين العابدين عبد الله بن علي الملقب بالباهر : كان فاضلا فقيها روى عن آبائه وأجداده أحاديث كثيرة. روى بعضهم قال : سألت أبا جعفر الباقر : أي إخوانك أحب إليك وأفضل؟ فقال : أما عبد الله فيدي التي أبطش بها. وأما عمر فبصري الذي أبصر به. وأما زيد فلساني الذي أنطق به ، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وكان عبد الله يلي صدقات رسول الله وصدقات أمير المؤمنين (1). وأما عمر فقد كان ورعا جليلا وسخيا كريما تولى صدقات جده (ع) واشترط على كل من يبتاع ثمارها أن يثلم في الحائط ثلمة لكي تأكل منها المارة ولا يرد أحدا عنها ، ويروى عنه أنه قال : المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به ولا تقولوا فينا ما ليس بنا إن يعذبنا الله فبذنوبنا وإن يرحمنا فبرحمته وفضله علينا. وأما الحسين بن علي (ع) فإنه كان فاضلا ورعا يروي عن أبيه علي بن الحسين وعمته فاطمة بنت الحسين (ع) التي أودعها الحسين عند خروجه من المدينة إلى كربلاء وصيته ، كما روى عن أخيه أبي جعفر الباقر. وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادق 8 (2). والإمام محمد بن علي زين العابدين المعروف بالباقر عاش سبعة وخمسين عاما أدرك فيها جده الحسين (ع) ولزمه نحوا من أربع سنوات ، وعاش مع أبيه السجاد بعد جده خمسا وثلاثين سنة وفي طفولته كانت المحنة الكبرى التي حلت بأهل البيت في كربلاء واستشهد فيها جده الحسين ومن معه من إخوته وبني عمه وأصحابه (ع) جميعا وتجرع هو __________________ (1) الإرشاد للمفيد. (2) المصدر نفسه.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 5:50 am | |
| وقال فيه محمد بن طلحة القرشي الشافعي : محمد بن علي الباقر هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورفعه ، صفا قلبه وزكا عمله وطهرت نفسه وشرفت أخلاقه وعمرت بطاعة الله أوقاته ورسخت في مقام التقوى قدمه ، فالمناقب تسبق إليه والصفات تشرف به له ألقاب ثلاثة : باقر العلم ، والشاكر والهادي وأشهرها الباقر وسمي كذلك لتبقره العلم وتوسعه فيه. إخوته : كان للإمام علي بن الحسين 8 أخوان علي الأكبر ، وعبد الله الرضيع. وقد قتل علي الأكبر مع أبيه في كربلاء ، ولا بقية له ، وأمه كانت آمنة بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وأمها بنت أبي سفيان بن حرب. أما عبد الله الرضيع فأمه الرباب بنت امرىء القيس وقد قتل أيضا مع أبيه وأخيه يوم الطف (1). أخواته : وكان له أختان أيضا : سكينة وفاطمة ، فسكينة أمها الرباب بنت امرىء القيس ، وأما فاطمة فأمها أم اسحاق بن طلحة بن عبيد الله. فيكفي في جلالتها كلام الامام الحسين 7 مع ابن اخيه __________________ (1) وقد حمله الحسين (ع) نحو جماعة عمر بن سعد قائلا لهم : لم يبق لي سوى هذا الطفل الرضيع فاسقوه ، فقد جف اللبن من ثدي أمه ، فاختلف الجند فيما بينهم ، منهم من قال : اسقوه ، ومنهم من قال : لا تسقوه فقال ابن سعد لحرملة بن كاهل الأسدي : إقطع نزاع القوم ، فرماه حرملة بسهم في نحره فذبحه ، فبسط الحسين سيد الشهداء كفه تحت نحر الطفل ، فلما امتلأت دما رمى به نحو السماء وقال : رب هون علي ما نزل بي أنه بعين الله. اللهم لا يكن عليك أهون من فصيل ناقة صالح. ثم عاد به إلى المخيم وقيل طرحه بين القتلى من أهل بيته. الحسن بن الامام الحسن 7 لما جاء اليه خاطبا إحدى ابنتيه : أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ، فلا تصلح لرجل (1) كانت وفاتها في المدينة سنة 117 ه. امّا اختها فاطمة فيكفي في فضلها كلام الامام الحسين 7 مع ابن اخيه الحسن بن الامام الحسن : أختار لك فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله 6 : أمّا في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار (2) وفاتها في المدينة سنة 117 ه عن أكثر من سبعين سنة. * * * __________________ (1) اسعاف الراغبين : 21. (2) ادب الطف 1 / 164. إلى جنة المأوى لقد أجهد الإمام نفسه إجهادا كبيرا وحملها من أمره رهقا من كثرة عبادته وعظيم طاعته. أجمع المؤرخون أنه (ع) قد قضى معظم حياته صائما نهاره ، قائما ليله حتى وصل بعبادته وتهجده وتخضعه إلى درجة الفناء الكامل في الله ... في الوقت نفسه كانت تلاحقه ذكريات كربلاء المؤلمة ، وما جرى لأبيه سيد الشهداء (ع) ولأهل البيت من النكبات الكبيرة والخطوب المريرة. وهل بإمكانه أن ينسى كلما نظر إلى عماته وأخواته فيتذكر فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومنادي القوم ينادي : أحرقوا البيوت. كل هذه الذكريات الأليمة تثير أشد الحزن في نفسه فيحزن ويذرف الدموع الحارة. لقد بكى على أبيه عشرين سنة حتى قال له مولاه : إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. فقال (ع) : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة (1). ومن الطبيعي أن لذلك كله أثرا مباشرا على صحته التي أذابتها هذه __________________ (1) زين العابدين للمقرم ، ص 363. عن الخصال ، ج 1 ، ص 131. المآسي القاسية. فكان كلما تقدم سن الإمام ازداد ضعفا وذبولا. اغتياله بالسم : احتل الإمام زين العابدين قلوب الناس وعواطفهم فتحدث الناس بإعجاب عن علمه وفقهه وسائر ملكاته ، وكان السعيد من تشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه لذلك نراه قد تمتع بشعبية هائلة في عصره. وقد شق ذلك على الأمويين وأقضى مضاجعهم وكان من أكبر الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك. روى الزهري أنه قال : « لا راحة لي ، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا » (1). وقد صمم هذا الخبيث المجرم على اغتيال الإمام (ع) بأي طريقة ، ولما آل إليه الملك والسلطان بعث سما قاتلا إلى عامله على يثرب ، وأمره أن يدسه للإمام ونفذ عامله ذلك (2) ، وقد تفاعل السم في بدن الإمام ، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها ، وبقي على فراش الموت عدة أيام يشكو بلواه إلى الله تعالى ، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان ، وقد تزاحم الناس لتفقده وعيادته ، وهو 7 يحمد الله ويثني عليه أفضل الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية الظالمين الطغاة الذين كان همهم الدنيا الفانية ومباهجها البراقة الزائفة. وصيته لولده الإمام الباقر : عهد الإمام زين العابدين إلى ولده محمد الباقر 8 بالإمامة ، كما عهد إليه أيضا بهذه الوصية القيمة فقال له : « يا بني أوصيك __________________ (1) حياة الإمام الباقر ، ج 1 ، ص 51. (2) الصواعق المحرقة ، ص 53. بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة فقد قال لي : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله » (1). وأوصاه أيضا بناقته ، فقال له : إني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط ، فإذا أنفقت فادفنها ، لا تأكل لحمها السباع ، فإن رسول الله (ص) قال : ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة ، وبارك في نسله » ونفذ الإمام الوصية (2). والوصية الأخيرة قال فيها (ع) : « أن يتولى بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتى يواريه في مقره الأخير ». إلى جوار جده (ع) : اشتد المرض على الإمام (ع) وثقل حاله من تفاعل السم في جسده الطاهر ، وأخذ يعاني آلاما مرهقة ، فأخبر الإمام أهله في غلس الليل أن سوف ينتقل إلى الفردوس الأعلى ، وأغمي عليه ثلاث مرات ، فلما أفاق قرأ سورة ( الفاتحة ) وسورة ( إنا فتحنا ) ثم قال (ع) : « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين » (3). وانتقلت روحه الطاهرة إلى خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين ، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله ، وألطافه تعالى لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى خالقها بعد كفاح مرير وسمت بألطاف الله وتحيته تاركة إضاءات منيرة على مفارق كل الدروب في هذه الدنيا بعلومها ومعارفها وعبادتها وتجردها من كل نزعات الميول الشخصية. لقد عمل الإمام (ع) طول حياته في سبيل الله فأحب في الله وأبغض __________________ (1) زين العابدين للقرشي ، ص 421. (2) زين العابدين للقرشي ، ص 421. (3) زين العابدين للقرشي ، ص 422 ، عن روضة الكافي. في الله وجاهد من أجل رفع كلمة الله بكل ما أوتي من قوة مباركة وعطاء خير. تجهيزه 7 : نفذ الإمام الباقر الوصية (ع) بتجهيز جثمان أبيه ، فغسل جسده الطاهر ورأى مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالى ، ونظر إلى عاتقه فكأنه مبارك الإبل أيضا من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويوزعه على الفقراء والمحرومين (1) وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه وصلى عليه الصلاة المكتوبة. تشييعه 7 : جرى للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيرا ، فقد شيعه جميع الناس من قريب وبعيد ، التفت الجماهير حول النعش الكريم جازعين في البكاء والعويل بكل خشوع وإحساس عميق بالخسارة الكبرى. لقد فقدوا بموته عبقرية كبرى وخيرا عميما ، فقدوا تلك الروحانية الشفافة التي لم يخلق لها مثيل. ازدحم أهالي يثرب على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى بحمله ، وهذا أحد الفقهاء السبعة في المدينة سعيد بن المسيب لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه. وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولى أشجع ، فأجابه سعيد : أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح (2). وما نراه أنه اعتذار مهلهل ذلك أن حضور تشييع جنازة الإمام 7 الذي يحمل هدى الأنبياء وكرامة الأوصياء من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله تعالى. __________________ (1) حياة الإمام محمد الباقر ، ج 1 ، ص 54. (2) حياة زين العابدين ، ص 423. في المقر الأخير .. وصل الجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد وسط هالة من التكبير والتحميد ، فحفروا له قبرا بجوار قبر عمه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (ص) والذي استشهد بالطريقة نفسها على يد معاوية بن أبي سفيان ، صاحب القول المأثور « إن لله جنودا من عسل ». وأنزل الإمام الباقر جثمان أبيه إلى المقر الأخير وأنزل معه كنوز العلم والبر والتقوى ، وروحانية أجداده المتقين عليهم أفضل الصلاة والسلام. وبعد الفراغ من دفن الإمام زين العابدين (ع) هرع الناس نحو الإمام الباقر يعزونه ويشاركونه في لوعته وأساه والإمام مع إخوته وسائر بني هاشم يشكرون الجموع الغفيرة المعزية على مشاركتهم في الخطب الجلل والمصاب العظيم الذي حل بهم. إنا لله وإنا إليه راجعون. ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ). * * * عبادة الإمام علي زين العابدين (ع) قلنا إنه من أشهر ألقاب الإمام علي بن الحسين 8 السجاد وذي الثفنات. فالسجاد على وزن فعّال تعني كثرة السجود لأنه كان يقضي معظم أوقاته في الصلاة التي قال عنها جده النبي المصطفى (ص) إنها قرة عينه. وأما تسميته بذي الثفنات ، كما جاء في الكافي للكليني ، إن الإمام الباقر (ع) قال : كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة يقطعها في كل سنة من طول سجوده وكثرته. وفي رواية الصدوق أنه كان يقطعها ويجمها وأوصى أن تدفن معه في قبره. جاء في مصادر عدة أنه 7 كان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وإذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة ، ويقول : أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة. ومرة وقع حريق في البيت الذي هو فيه وكان ساجدا في صلاته فجعلوا يقولون : يابن رسول الله النار ، النار ، فما رفع رأسه من سجوده حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها؟ فقال : نار الآخرة. أجمع الرواة عن كثرة عبادته وصلاته فجاء عن الكليني في الكافي قال : كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة حتى مات ولقب بزين العابدين لكثرة عبادته وحسنها (1). وعن خشوعه وتقاه. قال أبو عبد الله 7 : « كان أبي يقول : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح منه ». ومن نظر إليه وهو يصلي يخاله شبيها بأبيه الإمام الحسين (ع) وبجديه علي بن أبي طالب والنبي محمد الرسول الأكرم (ص). قال أبو حمزة الثمالي : « رأيت علي بن الحسين 8 يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبه ، قال : فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته قال : فسألته عن ذلك. فقال : ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه » (2). وقال الإمام الباقر 7 : « كان علي بن الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة ، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلي عند كل نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر ، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله ، وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبدا ». (3) وجاء في المصدر نفسه قال : « كان للإمام السجاد خريطة فيها تربة الحسين إذا قام في الصلاة تغير __________________ (1) باب الخشوع في الصلاة ، ص 300. (2) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، ج 1 ، ص 231. (3) المناقب لابن شهر آشوب ، ج 4 ، ص 150. لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا » (1). وقال الإمام الصادق 7 : « ولقد دخل أبو جعفر على أبيه (ع) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد وقد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من السجود وورمت قدماه من القيام في الصلاة. قال : فقال أبو جعفر : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة له وإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي فقال : يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي ( أمير المؤمنين ) فأعطيته فقرأ فيها يسيرا ثم تركها من يده تضجرا وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب » (2). قال الزهري : « كان علي بن الحسين (ع) إذا قرأ ( ملك يوم الدين ) يكررها حتى يكاد يموت » (3). وكان الإمام السجاد يسجد على تربة الحسين (ع) لأن السجود عليها يخرق الحجب السبع ويقبل الله صلاة من سجد عليها ما لم يقبله من غيرها (4). ذلك أن الله تعالى فضل تربة سيد الشهداء على سائر البقاع حتى بيته المعظم. جاء في الحديث : إن أرض الكعبة افتخرت بنسبتها إليه جل شأنه فأوحى إليها الجليل تعالى أني خلقت أرضا لولاها ما خلقتك ولولا ما تضمنته ما خلقت البيت الذي افتخرت به » (5) : فاسجد على تربته القدسية فإن فيها الفضل والمزية __________________ (1) المصدر نفسه. (2) المصدر نفسه. (3) وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 813 ، باب تكرار الآية. (4) مناقب ابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 251. ومصباح التهجد للشيخ الطوسي ، ص 510. ومستدرك النوري ، ج 1 ، ص 248. (5) عن كامل الزيارة ، ص 268.
فنورها يخرق سبع الحجب يفوق نور نيرات الشهب ما سجد الصادق مهما صلى إلا عليها وكفانا فضلا (1) ولما شاهدته عمته فاطمة بنت علي بن أبي طالب ما ناء به من الجهد في العبادة خافت عليه من أذية نفسه وهلاكها وهو بقية السلف وحمى الأمن ومعقد الآمال ومفزع المستجير فاتت جابر بن عبد الله الأنصاري ، وهو خاصتهم وصاحب جدهم رسول الله (ص). فلعله يستطيع أن يخفف العناء والجهد عن الإمام السجاد. فقالت له : يا صاحب رسول الله (ص) إن لنا عليكم حقوقا ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا تذكرونه الله تعالى وتدعونه إلى البقيا على نفسه. وهذا علي بن الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إذ آبا منه لنفسه في العبادة. فأتى جابر باب علي بن الحسين فرأى على الباب أبا جعفر الباقر (ع) فاستأذنه في الدخول على أبيه. فدخل جابر على الإمام السجاد (ع) وهو في محرابه قد أنضته العبادة فنهض إليه الإمام وسأله عن حاله وأجلسه إلى جنبه. فقال له جابر : يابن رسول الله أما علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم؟ فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ فقال علي بن الحسين : يا صاحب رسول الله : أما علمت أن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم. فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال (ص) : أفلا أكون عبدا شكورا. فلما نظر جابر إلى علي بن الحسين لا يقبل قول من يستميله عن الجهد في القصد ، قال له يابن رسول الله : البقيا على نفسك فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف __________________ (1) المقبولة الحسينية للشيخ هادي كاشف الغطاء ، ص 89. اللأواء وبهم تستمطر السماء. فقال (ع) يا جابر لا أزال على منهاج أبوي متأسيا بهما صلوات الله عليهما حتى ألقاهما. فأقبل جابر على من حضر وقال : والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب. والله لذرية الحسين (ع) أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب وإن منهم لمن يملأ عدلا كما ملئت جورا (1). قد نرى أن مثل هذه العبادة غريبة على الناس العاديين لكنها ليست بغريبة أبدا على مثل أهل البيت العابدين الزاهدين والطاهرين المنتجبين. والإمام زين العابدين ليس بحاجة إلى الإطراء بكثرة صلاته في اليوم والليلة ألف ركعة (2) ، ولا بمتابعة صيامه الذي قالت عنه مولاته : « ما فرشت له فراشا بليل قط ولا أتيته بطعام في نهار قط » (3). وإنما ما يجب معرفته أنه 7 كان يقوم بهذه الأعمال العبادية بحق اليقين سواء من ناحية النية المقصورة على تأهل المولى سبحانه للعبادة ، لا من الخوف أو الرجاء كما سلف مثله عن جده أمير المؤمنين وسيد التقيين (ع) الذي يقول : « إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ». فالإمام السجاد يعبد الله تعالى كما يعبده أهل بيته كأنه يراه ، ويخافه كأنه ينظر إليه وجلال المهيمن وعظمته متجلية لديه في كل الأحوال. فلا غرو إذا ما تتحدث به الرواة من الرهبة والخشية التي تلفه عند المثول أمام المولى عز شأنه لأداء فريضة الصلاة فتضطرب أعضاؤه ويصفر __________________ (1) أمالي الشيخ الطوسي ، ص 47. وبشارة المصطفى ، ص 80. (2) الخصال ، ج 2 ، ص 101. (3) علل الشرائع ، ص 88. لونه ولا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح (1). وإذا قيل له في ذلك يقول (ع) : أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي (2) ، إني أريد أن أتأهب للقيام بين يدي ملك عظيم وإذا دخل في الصلاة يصلي صلاة مودع لا يصلي بعدها (3). صومه (ع) الصيام من أقوى الوسائل في رياضة النفس وتقوية الإرادة وتعويد النفس على الصبر. ونوجز القول : هو الرمز العملي بضبط النفس في دين الله. لذلك كان من أركان الدين الإسلامي وطريقا من طرق الوصول إلى حقيقة التقوى التي هي التعبير العملي عن أخذ المسلم نفسه بالإسلام. قال سبحانه وتعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : الآية 183 ]. والإمام زين العابدين كان شديد الاجتهاد في العبادة ، نهاره صائم وليله قائم. قال الإمام الصادق 7 : « كان علي بن الحسين شديد الاجتهاد في العبادة ، نهاره صائم وليله قائم ، فأضر ذلك بجسمه فقلت له : يا أبه كم هذا الدؤوب! فقال : أتحبب إلى ربي لعله يزلفني » (4). وأثناء صيامه كان كريما جدا كثير الصدقات. قال الإمام الصادق أيضا (ع) : « إنه كان علي بن الحسين إذا كان اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح وتقطع أعضاؤها وتطبخ فإذا كان عند المساء أكب على القدور حتى يجد ريح المرقة وهو صائم ثم يقول : هاتوا القصاع ، أغرفوا لآل فلان __________________ (1) الكافي ، ج 3 ، ص 119. (2) حلية الأولياء ، ج 3 ، ص 133. (3) علل الشرائع ، ص 88. (4) المناقب ، ج 4 ، ص 155. حتى يأتي إلى آخر القدور ، ثم يؤتى بخبز وتمر فيكون بذلك عشاؤه » (1). وروى علي بن أبي حمزة عن أبيه ، قال : « سألت مولاة لعلي بن الحسين 8 بعد موته ، فقلت : صفي لي أمور علي بن الحسين (ع) فقالت : أطنب أو أختصر؟ فقلت : اختصري ، قالت : ما أتيته بطعام نهارا قط ، ولا فرشت له فرشا بليل قط » (2). حجه (ع) أمر الله المسلمين بفريضة الحج من استطاع وكان قادرا على أدائه. قال سبحانه وتعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (3). والإمام السجاد كان يخرج إلى الحج ماشيا وأحيانا على ناقته ، حج عشرين حجة وما فرعها بسوط. قال سعيد بن المسيب : « كان الناس لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين فخرج وخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلى ركعتين سبّح في سجوده فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه ففزعت منه فرفع رأسه فقال : يا سعيد فزعت؟ قلت : نعم يابن رسول الله ، قال : هذا التسبيح الأعظم ». وروى سفيان قال : « أراد علي بن الحسين الخروج إلى الحج فاتخذت له أخته سكينة زادا أنفقت عليه ألف درهم فلما كان بظهر الحرة سيرت ذلك إليه ، فلم يزل يفرقه على المساكين (4) وكان القراء لا يحجون حتى يحج زين العابدين (ع) وكان يتخذ لهم السويق ، الحلو والحامض ، قال سعيد بن المسيب : « ورأيته يوما وهو ساجد ، فو الذي نفس سعيد بيده __________________ (1) المصدر نفسه. (2) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، ص 232. (3) آل عمران ، الآية 97. (4) كشف الغمة في معرفة الأئمة ، ج 2 ، ص 78. والحرة : أرض ذات حجارة. لقد رأيت الشجر والمدر ، والرحل والراحلة يردون عليه مثل كلامه » (1). وجاء في حياة الحيوان للدميري قال : « إنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد واصفرّ وخرّ مغشيا عليه ، فلما أفاق سئل عن ذلك ، فقال : إني لأخشى أن أقول : لبيك ، اللهم لبيك فيقول لي : لا لبيك ولا سعديك ، فشجعوه ، وقالوا : لابد من التلبية ، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل ، وكان يقول : صدقة الليل تطفىء غضب الرب » (2). النصوص على خصوص إمامته ورد عن محمد بن مسلم ، قال : « سألت الصادق ، جعفر بن محمد ، 8 عن خاتم الحسين بن علي 8 إلى من صار؟ وذكرت له أني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ. قال (ع) : ليس كما قالوا ، إن الحسين (ع) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (ع) وجعل خاتمه في إصبعه ، وفوض إليه أمره. كما فعله رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (ع) وفعله الحسن بالحسين (ع) ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي (ع) بعد أبيه ومنه صار إليّ فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي ، فلما فرغ من الصلاة مد إليّ يده فرأيت في إصبعه خاتما نقشه : لا إله إلا الله عدة للقاء الله ، فقال : هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي (ع) (3). وجاء عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : إن الحسين (ع) لما حضره الذي __________________ (1) المناقب ، ج 4 ، ص 136. (2) حياة الحيوان ، ج 1 ، ص 139. (3) البحار ، ج 46 ، ص 17. عن أمالي الصدوق ، ص 144. وراجع أيضا أئمتنا لعلي محمد علي دخيّل ، ص 260. حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين مريضا لا يرون أنه يبقى بعده فلما قتل الحسين (ع) ورجع أهل بيته إلى المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ، ثم صار ذلك الكتاب والله إلينا يا زياد (1). وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : كنت عند الحسين بن علي 8 إذ دخل علي بن الحسين الأصغر فدعاه الحسين وضمه إليه ضما ، وقبل ما بين عينيه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ما أطيب ريحك ، وأحسن خلقك. قال : فتداخلني من ذلك فقلت : بأبي أنت وأمي يابن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلى من؟ قال : علي ابني هذا هو الإمام أبو الأئمة. قلت : يا مولاي هو صغير السن؟ قال : نعم ، إن ابنه محمد يؤتم به وهو ابن تسع سنين ثم يطرق قال : ثم يبقر العلم بقرا (2). وجاء في المصدر نفسه : سأل رجل الحسين 7 : أخبرني عن عدد الأئمة بعد رسول الله 6. فقال 7 : اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل فقال : فسمهم لي؟ فأطرق الحسين 7 ثم رفع رأسه فقال : نعم يا أخ العرب إن الإمام والخليفة بعد رسول الله 6 علي بن أبي طالب ، والحسن وأنا وتسعة من ولدي منهم علي ابني ، __________________ (1) البحار ، ج 1 ، ص 18. عن الكافي للكليني ، ج 1 ، ص 303. (2) البحار ، ج 2 ، ص 19. عن كفاية الأثر ، ص 318 بتفاوت. وأئمتنا ، ص 261 عن كفاية الأثر أيضا. وبعد ابنه محمد الخ .. (1). وقد شهدت نصوص كثيرة متواترة على إمامة السجاد وأنه الحجة على الأمة بعد أبيه سيد الشهداء (ع) فيروي أبو خالد الكابلي عن علي بن الحسين أن أباه الحسين قال له : دخلت على رسول الله (ص) فرأيته مفكرا فقلت له : مالي أراك مفكرا؟ قال : إن الأمين جبرائيل أتاني وقال : العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول قد قضت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأعظم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي وولايتي وإني لم أقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم ثم ذكر أسماء الأئمة القائمين بالأمر بعد علي بن أبي طالب وهم : الحسن والحسين أولهم ابنه علي وآخرهم الحجة بن الحسن (2). وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر بم يعرف الإمام؟ قال (ع) : يعرف بالنص عليه من الله تعالى ونصبه علما للناس حتى يكون عليهم حجة وقد نصب رسول الله عليا (ع) وعرف الناس باسمه وعينه لهم وكذلك الأئمة ينصب الماضي من يكون بعده ويعرف الإمام بأن يسأل فيجيب ويبتدىء إن سكت الناس عنه ويخبرهم بما يكون في غد بعهد واصل إليه من رسول الله (ص) وذلك بما نزل به جبرائيل من أخبار الحوادث الكائنة إلى يوم القيامة (3). وتابع الإمام الباقر بقوله : « نحن منبت الرحمة وشجرة النبوة ومعدن الحكمة ومصابيح العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وموضع سر الله في عباده وحرمه الأكبر __________________ (1) كفاية الأثر ، ص 318. (2) الإمام زين العابدين لعبد الرزاق الموسوي المقرم ، ص 34. عن كفاية الأثر ، ص 311 لعلي بن محمد بن علي الخزاز القمي. (3) المصدر نفسه عن معاني الأخبار للصدوق ، ص 35. وعهده المسؤول عنه. فمن أوفى بعهد الله فقد وفى ، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده فعرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه بالرأفة والرحمة ووجهه الذي منه يؤتى وبابه الذي يدل عليه وخزان علمه وتراجمة وحيه وأعلام دينه والعروة الوثقى والدليل الواضح لمن اهتدى وبنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ونزل الغيث من السماء ونبت عشب الأرض. وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عرف الله وأيم الله لولا وصية سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولا يعجب منه الأولون والآخرون » (1). ثم إن الإمامة خلافة وهي من المولى سبحانه وسر من أسراره أوحى بها إلى نبي الأمة ليعرفهم القائم من بعده ومن يجب الركون إليه وأخذ معالم الدين منه وقد أودعها المهتمين جل شأنه في ذرية الرسول الأعظم بعد أن طهرهم من الرجس والريب وزكاهم من العيب وارتضاهم أعلاما لعباده يسلكون بهم لأحب الطريق. كل ذلك لترفع الضغائن وتتم معرفة المعبود تعالى وتعقد صلات التآخي وتتم أنظمة الحياة. وجاء في المصدر نفسه عن الشيخ الطوسي قال : « وفي ليلة وفاته 6 دعا أمير المؤمنين عليا (ع) وقال له : يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة ثم أملى رسول الله (ص) وصيته حتى انتهى إلى بيان الخلفاء من بعده فقال : يا علي سيكون من بعدي اثنا عشر إماما فأنت يا علي أولهم سماك الله في سمائه عليا المرتضى وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك إلى أن قال : وأنت خليفتي على أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول فإذا __________________ (1) الإمام زين العابدين للمقرم عن المختصر للحسن الحلي ، ص 128. حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي ( سيد العابدين ذي الثفنات ) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر ( باقر العلم ) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها جعفر الصادق فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الرضا فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد » (1). إن الوصية أمر محتوم على كل مسلم يوصي بها قبل وفاته لأشخاص أمناء يثق بهم ويسجل كل ما يهمه أمره لكي ينفذ بعد أن يتوفاه الله عز وجل. والنبي (ص) هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فهل يمكن أن تحضره الوفاة ويبقى ساكتا دون أن يوصي أمر الخلافة لأناس ثقاة علماء أمناء ينفذون الوصية بحذافيرها كما نص عليها خاتم النبيين والرسل. وكلنا يعلم مدى أهمية هذه الرسالة الإنسانية العظيمة وأهمية نشرها بين عباد الله وشرحها وتعليمها. إنها الرسالة الإلهية التي تصلح شؤون العباد في حياتهم الفردية وفي حياتهم الاجتماعية ، كما تصلح شؤون العباد في كل زمان ومكان ومن جميع أمم الأرض. والله سبحانه وتعالى أعلم أين يوضع رسالته فقد كلف الأئمة المعصومين معدن الحكمة ومنبت الرحمة ومصابيح العلم وموضع سره في حرمه الأكبر. هؤلاء قال فيهم الأدباء وتغنى بمجدهم الشعراء ونطق بفضلهم العلماء. من هؤلاء قال الشيخ إبراهيم يحيى العاملي من قصيدة مدح بها الإمام زين العابدين قال : __________________ (1) المصدر السابق عن الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 105. ومختصر البصائر ، ص 39.
ما غاب عن أفق الشريعة كوكب إلا وجاء بكوكب وقاد إن المهيمن ليس يخلي أرضه من حجة متستر أو باد لولا إمام الحق ما بقي الورى والجسم لا يبقى بغير فؤاد كن كيف شئت فقد أصبت هدايتي بهداهم وبلغت كل مرادي ما ضرني أن ضل عن طرق الهدى غيري إذا كتب الإله رشادي من صدّ عن عين الحياة ومات من ظمأ فلا سقيت عظام الصادي (1) وإلى هذه الظاهرة أشار الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد كلمة ثمينة حيث قال : « كان الإمام علي بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علما وعملا فهو أولى بأبيه وأحق بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولى بالإمام الماضي أحق بمقامه من غيره بدلالة آية ذوي الأرحام وقصة زكريا (ع) ». * * * __________________ (1) أعيان الشيعة ، ج 5 ، ص 551. قبسات من أخلاقه ومناقبيته جاء في طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين (ع) كان ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، عاليا ، رفيعا ، ورعا. وروى الشيخ الصدوق قال : قلت لمحمد بن شهاب الزهري : لقيت علي بن الحسين؟ قال : نعم لقيته وما لقيت أحدا أفضل منه والله ما علمت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية ، فقيل له : وكيف ذلك ، فقال : لأني لم أر أحدا وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت أحدا وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه. وكان الإمام السجاد يقدر العلم والعلماء سواء أكان أحدهم رفيعا في أعين الناس أم كان غير رفيع ما دام عنده علم ينتفع به الناس ، وإذا دخل المسجد يتخطى الناس حتى يجلس إلى جانب رجل متواضع اسمه زيد بن أسلم ، فقال له نافع بن جبير عاتبا : غفر الله لك أنت سيد الناس تتخطى خلق الله وأهل العلم وقريشا حتى تجلس مع هذا العبد الأسود ، فقال له الإمام (ع) : « العلم يقصد حيث كان » وكأنه يقصد إلى الحكمة القائلة : « الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها » والإنسان في أي زمان لا يهمه القائل بقدر ما يهمه القول الصادر عن أي لسان. أجمع المؤرخون على أن الإمام زين العابدين قد انصرف إلى العبادة والعلم والدراسة والتعليم لأنه وجد في ذلك غذاء لروحه وسلوة لقلبه وأنسا لنفسه. وإلى جانب انصرافه إلى نشر العلم والفقه كان رحيما بالناس وجوادا سخيا وخلوقا حليما. روى الكليني في الكافي قال : « ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافىء بها صاحبها ، ووقف عليه رجل من بني عمومته فأسمعه كلاما مرا وشتمه ، فلم يكلمه ، فلما انصرف قال لجلسائه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا أحب أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردي عليه ، فمضوا معه وهو يقول : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. فخرج الرجل متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافيا له على بعض ما كان منه ، فقال له الإمام زين العابدين : يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا وقلت ما قلت فإن كنت قد قلت ما فيّ فأنا أستغفر الله منه ، وإن كنت قد قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك ، فأقبل عليه الرجل معتذرا وقال : لقد قلت ما ليس فيك وأنا أحق به. وقال الرواة في مناقبه قال الشبلنجي : « خرج يوما من المسجد فلقيه رجل فسبه وبالغ في سبه وأفرط ، فعاد إليه العبيد والموالي فكفهم عنه وأقبل عليه وقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل ، فألقى عليه حميصه (1) وألقى عليه خمسة آلاف درهم فقال : أشهد أنك من أولاد المصطفى ». ويروي عنه الرواة الكثير عن حلمه وسماحته منها : إن جارية له كانت تحمل إبريقا وتسكب منه الماء لوضوئه فسقط من يدها على وجهه فشجه وسال دمه فرفع رأسه إليها لائما ، فقالت له الجارية : إن الله يقول : ( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، فقال : قد كظمت غيظي. فقالت : ( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، فقال : عفا الله عنك ، فقالت : ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، فقال : أنت حرة لوجه الله. __________________ (1) الحميصة : هي ثوب خز أو صوف معلم. وعن كرمه (ع) روى الواقدي قال : إن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان وقد أساء جوار الإمام ولحقه منه أذى شديد ، فلما توفى عبد الملك عزله الوليد بن عبد الملك وأوقفه للناس لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلا من علي بن الحسين ، فمر عليه الإمام وسلم عليه وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : إن كان أعجزك مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك ويسد حاجتك فطب نفسا منا ومن كل من يطيعنا فقال له هشام بن إسماعيل : الله أعلم حيث يجعل رسالته. هكذا كان يعامل الإمام السجاد خصومه ، يعاملهم حسب ما تملي عليه أخلاقه العالية وصفاته النبيلة ومناقبه الكريمة. من ذلك ما صنعه مع مروان بن الحكم ألد أعداء أهل البيت وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء ، وبقي إلى جانب معاوية يتتبع أهل البيت بالإساءة والأذى وينكل بهم وبشيعتهم بكل ما لديه من وسائل خبيثة. ومع كل ذلك فقد صنع معه كما صنع مع هشام بن إسماعيل وبالغ بالإحسان إليه كما بالغ هو بالإساءة إليه. وذلك يوم ثار أهل المدينة على الأمويين وضيقوا عليهم ولم يعد لهم ملجأ بها فضاقت الأمور بمروان بن الحكم إلى أبعد حد ، مما دعاه إلى استعطاف أبناء المهاجرين والأنصار لأنه لم يجد من يحمي له عيال الأمويين ونساءهم ويمنع عنهم الثائرين المتربصين الشر بهم في كل حين غير الإمام علي بن الحسين (ع) الذي ضم عيال مروان إلى عياله وعاملهم بما كان يعامل به أسرته وعياله. فإذا كان ذلك غريبا وبعيدا عن أخلاق الناس العاديين وطبائعهم فليس بغريب ولا بعيد على من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة وجعلهم فوق مستوى البشر في مواهبهم وأخلاقهم وجميع صفاتهم وأعمالهم. إن أخلاق الإمام السجاد من أخلاق أبيه الإمام الحسين وأخلاق جديه الإمام علي بن أبي طالب ، أمير المؤمنين وإمام المتقين ، ومحمد بن عبد الله خاتم النبيين الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فجده الإمام علي (ع) عفا عن مروان الذي قاد الجيوش لحربه في البصرة فبعد أن ظفر به ووقع أسيرا في قبضته تركه وأطلق سراحه مع علمه بأنه سينضم إلى معاوية ويحاربه في صفين وبعد أن استتب الأمر لمعاوية واختاره واليا على المدينة كان يؤذي الإمام الحسن (ع) وكانت مجزرة كربلاء من أغلى أمانيه. ومع كل هذه السيئات وهذه الإساءات عفا عنه بعد أن وقع في قبضة يده. ثم قال حكمته : « إذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلى الظفرين ». وجده الأكرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عفا عن رأس الشرك أبي سفيان بعد أن ظفر به ، كما عفا عن زوجته هند بنت عتبة وأحسن إليها بعد عملها الشنيع ، عندما شقت بطن الحمزة البطل المؤمن الصنديد واستخرجت كبده ونهشتها بأسنانها وحملتها إلى مكة تتشفى بالنظر إليها. وعفا (ص) أيضا عن والد مروان الحكم عندما ظفر به في مكة وقد كان يؤذيه ويسيء إليه بشتى أنواع الإساءة. وبعد أن أظهر الإسلام بعد فتح مكة كان يستهزىء به ويفتري عليه. لكن النبي (ص) اكتفى بنفيه مع ولده إلى الطائف كما عفا عن جميع مشركي مكة وجبابرتهم الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية المباركة ، وعن كل من كان يسيء إليه وقال عندها كلمته المشهورة : « إذهبوا فأنتم الطلقاء » فليس غريبا إذا أحسن الإمام زين العابدين لمن أساء إليه. فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أما عن كرمه (ع) فالروايات كثيرة لا تحصى نذكر بعضا منها. روى الصدوق عن سفيان بن عيينة أن محمد بن شهاب الزهري رأى علي بن الحسين (ع) في ليلة باردة وعلى ظهره دقيق يسعى به إلى جماعة. فقال له : يابن رسول الله ما هذا؟ أجابه : أريد سفرا أعددت له زادا أحمله إلى موضع حريز ، قال : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى عليه الإمام (ع)
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 5:52 am | |
| فقال : دعني أحمله عنك فإني أرفعك عن حمله. فقال (ع) : لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني من سفري ويحسن ورودي على ما أرد عليه أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فلما كان بعد أيام لقيه ابن شهاب وقال : يا بن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا ، قال (ع) : بلى يا زهري ليس هو كما ظننت ولكنه الموت وله أستعد ، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام وبذل الندى في الخير. وهكذا كان يعمل دائما ، يطرق بيوت الفقراء وهو مثلهم وأكثرهم كانوا يقفون على أبواب بيوتهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به وقالوا : جاءنا صاحب الجراب. وروى عنه أبو نعيم أنه كانت بيوت في المدينة كثيرة تعيش من صدقات علي بن الحسين (ع) ولا تدري من هو فاعل الخير هذا؟ فلما توفاه الله فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم ، وقالوا : ما فقدنا صدقة السر حتى فقدنا علي بن الحسين زين العابدين. روى الصدوق عن الإمام الباقر أنه كان يعول مائة بيت في المدينة. وكان إذا جاءه سائل يقول : مرحبا بمن يحمل زادي ليوم القيامة ولا يأكل طعاما حتى يتصدق بمثله. وروى ابن طاووس عن الإمام الصادق (ع) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها ... ثم يقف بينهم ويقول : ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ثم يقبل عليهم ويقول : لقد أعتقت رقابكم طمعا في عفو الله وعتق رقبتي من النار. فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس. وكان يقول : « إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه ، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار. مهابته وكراماته كان الإمام علي زين العابدين مهابا معظما عند الناس جميعا ، له مكانة خاصة في قلوبهم ومركز محترم ومرموق عند الخلفاء والولاة من أي فريق كان. يدخل عليهم فيجلونه ويحترمونه حتى الذين يحقدون عليه. دخل مرة على عبد الملك بن مروان وكان حاقدا عليه يدبر له المكايد في الخفاء ، فلما نظر إليه مقبلا وعليه مهابة أبيه وجديه ، قام إليه وأجلسه إلى جنبه وأكرمه فسأله الناس كيف تم له ذلك وهم يعلمون ما يكن في قلبه من حقد على الإمام (ع) فقال : لما رأيته امتلأ قلبي رعبا. ومرة أخرى دخل على مسلم بن عقبة والي المدينة فلما نظر إليه يتجلى مهابة وعظمة قال : لقد ملىء قلبي منه خيفة. هذا التقدير للإمام السجاد يعود إلى ما تتحلى به شخصيته من صفات خاصة مميزة ، فعلم غزير في جميع العلوم والمعارف الإنسانية وأخلاق كريمة ونبل وعفة وشهامة ، وكرم وسخاء إلى كل معوز ومحتاج من عدو وصديق ، وشجاعة نادرة في أحرج المواقف وأصعبها ، وفقه وورع وتقى في سبيل الله ، وصبر وكظم الغيظ من أجل رضى الله. ولا ريب أنه من كان مع الله فإن الله معه. جاء في رواية السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فجهد أن يصل إلى الحجر الأسود عند الطواف فلم يقدر عليه من كثرة الزحام فنصب له من كان معه منبرا في ناحية من نواحي الحرم وجلس عليه ينظر إلى الناس حتى يخف الزحام عن الحجر ليلمسه ، ووقف حوله أهل الشام. في هذه الأثناء أقبل الإمام علي زين العابدين (ع) وكان من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا على حد تعبير السبكي فطاف في البيت فلما بلغ الحجر انفرج له الناس عنه وأفسحوا له المجال ووقفوا إجلالا له وتعظيما حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس ينظرون إليه واجمين. فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم. هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام تتحرق غيظا وحسدا. التفت رجل من أهل الشام وسأل هشام بن عبد الملك : من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة. فقال هشام : لا أعرفه!! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق الشاعر حاضرا ، فقال : أنا أعرفه ، فقال الشامي : ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق ومضى في وسط تلك الجموع المحتشدة يقول على البديهة : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها : إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم من جده دان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت له الأمم ينشق نور الهدى عن نور غرته كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا الله شرفه قدما وفضله جرى بذاك له في اللوحة القلم فليس قولك : من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عمّ نفعهما يستوكفان ولا يعروهما العدم سهل الخليقة ، لا تخشى بوادره يزينه اثنان : حسن الخلق والكرم حمّال أثقال أقوام إذا قدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أريب حين يعتزم ما قال لا قط : إلا في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم
عم البرية بالإحسان فانقلعت عنه الغيابة والاملاق والعدم من معشر حبهم دين ، وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتصم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل : هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت والأسد أسد الشرى والبأس محتدم لا ينقص العسر بسطا من أكفهم سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا يستدفع السوء والبلوى بحبهم ويستزاد به الإحسان والنعم مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بدء ومختوم به الكلم يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم خير كريم وأيد بالندى هضم أي الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أوله نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا والدين من بيت هذا ناله الأمم (1) لقد كانت هذه القصيدة صفعة قاسية على هشام نزلت على رأسه كالصاعقة ، تحدى بها الفرزدق سلطان أولئك الحكام الجبابرة المعتزين بملكهم وجيوشهم وأموالهم وقصورهم ولكن فاتهم أن كل ذلك لم يغنهم شيئا في ذلك الموقف الذي تتدافع فيه الجماهير من كل حدب وصوب متسابقة للمس الحجر الأسود حتى إذا أقبل الإمام زين العابدين (ع) وقف له الناس إجلالا وتعظيما وأفرجوا له الطريق واستلم الحجر وقبله بكل يسر. ولما قضى الإمام حاجته وترك المكان عاد الناس يتسابقون ويتدافعون ؛ هذا وأهل الشام ينظرون إلى هذا المشهد الغريب وينتظرون من يعرفهم بذلك الشاب الذي هابه الناس وعظموه بعد أن تجاهله خليفتهم وظهر مخجولا أمام أهل الشام ، بعد أن كان يزعم لهم أنه هو وأسلافه الأمويون هم آل الرسول الذي أمر الله بمودتهم وما كان يتوقع هذه الصفعة القوية من أبي فراس. __________________ (1) راجع طبقات الشافعية ، ج 1 ، ص 153. يقول الرواة إن هشام بن عبد الملك لما سمع هذه القصيدة غضب على الفرزدق وأمر بحبسه بمكان يدعى عسفان ، بين مكة والمدينة وأوصى بالتضييق عليه ، وأضاف الرواة أنه لما بلغ علي بن الحسين امتداحه أرسل له ألف دينار فردها الفرزدق وقال للرسول : إني لم أقل ما قلت إلا غضبا لله تعالى لا للعطاء ولا آخذ على طاعة الله أجرا. فأعادها الإمام إليه (ع) وأرسل إليه : نحن أهل البيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده. فقبلها الفرزدق وبقي في حبس هشام مدة من الزمن وأخيرا هجاه بقصيدة قال فيها : أيحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس تهوي منيبها يقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعينا له حولاء باد عيوبها يقول الرواة إنه لما بلغه هجاء الفرزدق أمر بإخراجه من السجن عله يخرس لسانه ويكف عن الهجاء (1). فرحم الله الفرزدق رحمة واسعة فلقد كان في موقفه مع هشام بن عبد الملك من أفضل المجاهدين في سبيل الله حسبما جاء عن رسول الله (ص) الذي قال : « أفضل المجاهدين في سبيل الله الحمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر ». فضائله (ع) كان الإمام السجاد يتخلق بأخلاق النبوة ، فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وهو من الأئمة المعصومين الذين كلفوا تكليفا شرعيا من الله عز وجل لتقويم الإعوجاج ورفع الظلم عن الناس من قبل الطغاة والظالمين ، وهداية الناس عامة إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وخير مجتمعهم ليعيشوا أمة كريمة حرة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنشر الرسالة الإسلامية كما أرادها رب __________________ (1) راجع أيضا الأغاني ، ج 20 ، ص 40. العالمين وكما نفذها الرسول الأكرم والعترة الطاهرة من بعده : أجمعين. لقد خطا الإمام زين العابدين خطوة أبيه وجديه من قبله وتخلق بأخلاقهم فساعد وضحى وجاهد وصبر وتجرع كثيرا من الويلات والمحن بهمة عالية وإرادة صلبة ونفس كريمة يحسن إلى الجميع حتى الذين أساؤوا إليه. ولم يكتف بالإحسان إلى من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى. روى ابن طاووس في الإقبال بسند ينتهي إلى الإمام الصادق (ع) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها ، فيقول لهم : قولوا يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا ، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ، وتجد كل ما عملت له حاضرا كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح وهو واقف بينهم يبكي ويقول : « ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ». ثم يقبل عليهم ويقول : « لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني إليكم اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعا في عفو الله وعتق رقبتي من النار » فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتعينهم عما في أيدي الناس. وكان يقول (ع) : « إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار ، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه ، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار ». جاء في مطالب السؤول عن محمد بن طلحة الشافعي قال : « علي بن الحسين زين العابدين 7 زين العابدين ، وقدوة الزاهدين ، وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، وسمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله ، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفا ، وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده وإعراضه عن متاع الدنيا بزهده ينطق فيها ، درّت له أخلاف التقوى فتفوقها ، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها ، وآلفته أبراد العبادة فآنس بصحبتها ، وحالفته وصايف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع مفازة الساهرة وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مغارة الشافرة ، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرات وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنه من ملوك الآخرة » (1). وعن سماحته ونبله وعلو أخلاقه جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد قال إن عبد الله بن علي بن الحسين (ع) قال : لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه ، وكان يسيء إلى أبي ، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال : إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء ، فقلت يا أبت ، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال : يا بني نكله إلى الله ، فو الله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره. ولم يكتف السجاد بذلك بل أرسل إليه يعرض عليه من الأموال ما يسعه ويسد حاجته ، مع أنه كان لا يخاف إلا منه لكثرة ما كان يسيء إليه وإلى أصحابه. وإذا كان ذلك غريبا عن أخلاق الناس وطبائعهم فليس بغريب على من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة. وللإمام السجاد أبيات من الشعر مشحونة بالعاطفة الدينية ، يرشح __________________ (1) مطالب السؤول ، ص 202. منها مناجاة قلبية صعّدها الإمام من صدر حنون يفيض محبة للقاء وجه الله ، وشوقا للدار الآخرة ، وزهدا من هذه الدار الفانية وخوفا من العقاب ، وأملا في الرحمة والثواب. جاء في مستدرك الوسائل عن طاووس اليماني قال : « رأيت في جوف الليل رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول : ألا أيها المأمول في كل حاجة شكوت إليك الضر فاسمع شكايتي ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي فزادي قليل لا أراه مبلغي أللزاد أبكي أم لطول مسافتي أتيت بأعمال قباح ردية فما في الورى عبد جنى كجنايتي أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين مخافتي فإذا كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بتقاه وصدق عبادته ، ولذلك سمي بزين العابدين ، والمشهور بفقهه وورعه وأعماله الصالحة يقول : إن زاده قليل وأتى بأعمال ردية فيرجو الله ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، أن يقبل رجاءه ، ويقضي حاجته ؛ فماذا يقول غيره من المسلمين العاديين وماذا نقول نحن اليوم بعد أن انغمس أكثرنا بملذات هذه الدنيا الفانية ، وانجرف الكثير منا نحو تجميع المال متلهيا بالحياة المادية الخالصة. فكيف نواجه خالقنا عندما نقف بين يديه يوم الحساب يوم لا ينفع لا مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا جاه ولا عشيرة ، إلا من أتى الله بقلب سليم. فحسبنا الله ونعم الوكيل. وجاء في المناقب عن طاووس أيضا قال : « رأيته يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد 6 في عرصات القيامة. ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخي به علي ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين : جوزوا وللمثقلين : حطوا ، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربي؟ » ثم بكى وقال : « سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ». ثم خرّ إلى الأرض ساجدا فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده فاستوى جالسا وقال : « من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟ » فقلت : أنا طاووس يابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن علي بن أبي طالب ، وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله قال : « هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح » (1). فالنسب في الإسلام هو العمل الصالح ، فمن عمل صالحا وأطاع ربه استقام أمره وكسب رضى الله عليه ، فالله خلق الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا ، وكل الناس سواسية كأسنان المشط ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. فالمتقون هم أولياء الله من أي جنس كانوا أو أي لون أو أي عرق ، فإن الله معهم ما داموا هم معه فهل لنا بهم وبعلي بن الحسين (ع) أسوة حسنة؟ __________________ (1) المناقب ، ج 4 ، ص 151. وجاء في مستدرك الوسائل عن الأصمعي قال (1) : كنت أطوف حول الكعبة ليلا فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤ ابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول : « نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ». ثم أنشأ يقول : يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيّوم لم تنم أدعوك يا رب دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم قال فاقتفيته فإذا هو زين العابدين ». وله (ع) حوار مع نفسه حيث يخاطبها كيف تركن إلى الدنيا ألم تأخذ درسا من الماضين قبلها ، فأين أجدادنا وآباؤنا وأين الذين فجعوا ومضوا قبلها؟ أليس يكون لها بهم عبرة؟ روى الزهري عنه (ع) في المناقب قال : « يا نفس حتام إلى الحياة سكونك؟ وإلى الدنيا ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضى في أسلافك؟ ومن وارته الأرض من آلافك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ثم أنشد : فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنها فيها بوالي دوائر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر (2) __________________ (1) مستدرك الوسائل ، ج 2 ، ص 143. (2) المناقب لابن شهر آشوب ، ج 4 ، ص 152. وجاء في حياة الحيوان للدميري : قال الزهري : « ما رأيت قرشيا أفضل منه » وقال أيضا (1) : « ما رأيت أفقه منه ». وقال ابن المسيب : « ما رأيت أورع منه ». وقال القندوزي الحنفي : « كان الإمام زين العابدين (ع) عظيم التجاوز والعفو ، والصفح ، حتى أنه سبه رجل فتغافل عنه فقال له : إياك أعني ، فقال الإمام : وعنك أعرض. أشار إلى الآية الكريمة : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (2). لم يكتف الإمام السجاد بالإحسان إلى من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم المغفرة من الله سبحانه وتعالى. قال في ذلك : « اللهم إن أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدي إلي فلم أشكره ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره ومن ذي فاقة سألني فلم أوفره ومن عيب مسلم ظهر لي فلم أستره ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره ، واجعل ندامتي على ما وقعت فيه من الزلات وعزمي على ترك ما يعرض لي من السيئات توبة توجب لي محبتك يا محب التوابين. وقال أيضا مثل ذلك : اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه فاغفر له ما ألم به مني واجعل ما سمعت به من العفو عنهم وتبرعت به من الصدقة عليهم في أزكى صدقات المتصدقين وأعلى صلات المتقربين ، وعوضني من عفوي عنهم عفوك حتى يسعد كل واحد منا بفضلك وينجو كل منا بمنك. __________________ (1) حياة الحيوان ، ج 1 ، ص 139. ونور الأبصار ، ص 162. (2) الصواعق المحرقة ، ص 120. ومع كل ما قدم وضحى وأعطى وأحسن يرى نفسه مقصرا في حقوق الناس ، كان صدره واسعا جدا يستوعب كل هفواتهم ويتسع لكل انحرافاتهم ويسامح ما كان يتجمع في صدورهم من غش وطمع وحقد. يعاملهم بما عنده هو وليس بما عندهم إن البحر الكبير لا تعكر صفوه بضعة أنهار صغيرة تصب فيه ، والجسر المتين يتحمل الكثير من الأثقال مهما كانت كبيرة ويبقى صامدا جامدا على مدى الدهور. وبائع العطر يتلذذ بما يحمل ويؤنس الآخرين بروائح وروده الجميلة. والنور الساطع يري صاحبه معالم الطريق ويكشف المزالق والعثرات أمام المشاة التائهين. والشجرة القوية العتيقة جذورها ثابتة في الأرض لا تؤثر فيها الرياح مهما كانت عنيفة ، يراشقها المارة بالحجارة فتنزل لهم ثمارها بكل رحابة صدر. والغيمة المثقلة بالغيث سوف تسقط بخيراتها العميمة على جميع بقاع الأرض لا تفرق بين بقعة وأخرى. ما قاله العظماء في سيد الحكماء : أجمع أهل العلم والأدب على اختلاف ميولهم ونزعاتهم على أفضلية أهل البيت : ، فقد كانوا ينبوعا فياضا بالعلم والحكمة ، ومنهلا عذبا للخير والعطاء ، ورصيدا هاما في الأدب والمعرفة. ولم تجتمع الأمة بأسرها على أفضلية أحد كاجتماعها على أفضلية أئمة الهدى :. ومما يلاحظ أن ما كتبه عنهم كبار العلماء من غير الشيعة أكثر مما كتبه عنهم شيعتهم ومواليهم وهذا دليل واضح أنهم مركز الثقل الذي تركه الرسول الأعظم 6 بين ظهراني الأمة ، حيث جعلهم حكاما على العباد وخلفاء له 6 على الناس. هذه العترة الطاهرة تبدأ بأمير المؤمنين (ع) وتختتم بالإمام المهدي (ع) اثنا عشر خليفة معصوما. وجدير بنا أن نرجع إليهم آخذين بتعاليمهم ، متبعين لأوامرهم ، لنحقق ما نصبو إليه من خير وسعادة. وهذه مختارات من كلمات كبار العلماء في الإمام السجاد علي زين العابدين بن الإمام الحسين 8. 1 ـ قال علي بن عيسى الأربلي : « فإنه 7 الإمام الرباني ، والهيكل النوراني ، بدل الأبدال وزاهد الزهاد ، وقطب الأقطاب ، وعابد العباد ، ونور مشكاة الرسالة ونقطة دائرة الإمامة ، وابن الخيرتين (1) والكريم الطرفين قرار القلب ، وقرة العين ، علي بن الحسين. وما أدراك ما علي بن الحسين : الأواه الأواب ، العامل بالسنة والكتاب ، الناطق بالصواب ، ملازم المحراب ، المؤثر على نفسه ، المرتفع في درجات المعارف ، فيومه يفوق على أمسه ، المنفرد بمعارفه ، الذي فضل الخلائق بتليده وطارفه ، وحكم في الشرق فتسنم ذروته ، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد ، وكرم المحتد ، وزكاء الأرومة ، وطهارة الجرثومة ، عجز عنه لسان واصفه ، وتفرد في خلواته بمناجاته ، فتعجبت الملائكة من مواقفه ، وأجرى مدامعه خوف ربه (2). 2 ـ وقال الواقدي : كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل ، وكان إذا مشى لا يخطر بيديه (3). 3 ـ وقال سفيان بن عينية : ما رأيت هاشميا أفضل من زين العابدين __________________ (1) ابن الخيرتين : لقوله 6 « إن لله تعالى من عباده خيرتان : فخيرته من العرب قريش ، ومن العجم فارس ». راجع : وفيات الأعيان ، ج 2 ، ص 431. (2) كشف الغمة ، ص 209. (3) البداية والنهاية ، ج 9 ، ص 104. ولا أفقه منه (1). 4 ـ وقال الإمام مالك : سمي زين العابدين لكثرة عبادته (2). 5 ـ وقال نافع بن جبير : إنك سيد الناس وأفضلهم. 6 ـ وقال عمر بن عبد العزيز وقد قام من عنده علي بن الحسين 8 : من أشرف الناس؟ فقالوا : أنتم. فقال : كلا ، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا ، من أحب الناس أن يكونوا منه ، ولم يحب أن يكون من أحد (3). وقال أيضا في موضع آخر : سراج الدنيا ، وجمال الإسلام ، زين العابدين (4). وقال الزهري : ما رأيت أحدا أفقه من زين العابدين (5). وقال طاووس اليماني : « دخلت الحجر في الليل فإذا علي بن الحسين 8 قد دخل يصلي ما شاء الله تعالى ، ثم سجد سجدة فأطال فيها ، فقلت : رجل صالح من بيت النبوة لأصغين إليه فسمعته يقول : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك. قال طاووس : فوالله ما طلبت ودعوت فيهن في كرب إلا فرج عني » (6). __________________ (1) المناقب ، ج 2 ، ص 258. (2) بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 18. (3) كشف الغمة ، ص 199. (4) أعيان الشيعة ، ج 4 ، ص 44. (5) زين العابدين لسيد الأهل ، ص 43. (6) الفصول المهمة ، ص 201. وقال جابر الأنصاري : والله ما رؤي في أولاد الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب (ع) والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب ، وإن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (1). قبسات من مواعظه للإمام زين العابدين جولات ناجحات (ع) في المواعظ التي تعد من أعظم الأرصدة الروحية ، ومن أنجح الأدوية في معالجة الأمراض النفسية التي تؤدي بالإنسان إلى التردي في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة. وقد اهتم (ع) كثيرا بوعظ الناس وأثر عنه الكثير من المواعظ التي وعظ بها أصحابه وأهل عصره ، وهي لا تزال حية تحذر الناس من الغرور والطيش وتدعوهم إلى سلوك السبيل الحق في حياتهم الفردية والاجتماعية. كما أثرت عنه حكم تهدف إلى تهذيب النفوس وإصلاحها ، وتوازن الشخصية الإنسانية وازدهارها ، وغرس النزعات الكريمة التي تقضي على الأنانية والحسد والبغي والشر والتعدي على حقوق الآخرين. وله مواعظ هامة تدعو إلى الاتجاه إلى الله تعالى أنبل مقصد وأكرم ملجأ ، رحمان رحيم ، ينجي الإنسان من كل إثم وشر في هذه الحياة الفانية ، ويطلب إليه التزود إلى دار الآخرة التي هي المقر الدائم لكل الخيرين من عباد الله الصالحين. وسوف نعرض لبعض ما روي عنه في ذلك : 1 ـ قال 7 : « يا بن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 19. نفسك ، وما كانت المحاسبة من همك ، وما كان لك الخوف شعارا ، والحزن لك دثارا. يا بن آدم إنك ميت مبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل ، ومسؤول فأعدّ جوابا .. » (1). يدعو الإمام (ع) الإنسان لأن يقيم في أعماق نفسه واعظا منها يعظها ويحاسبها على كل ما يصدر منها من زلات وهفوات ذلك أنه مبعوث يوم القيامة ، يوم الحساب ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا ما أتى الله من قلب سليم ؛ حيث يحاسب كل إنسان على جميع ما اقترفه في حياته من إثم وشر. وعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه فيجعل منها رقيبا عليها ، فيزجرها عندما تهوي به إلى المزالق الرخيصة والنزعات الفاسدة التي تغرق صاحبها في وحول الحياة المادية. وعندها يتزود بخير زاد إلى خير معاد. 2 ـ ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة التي كان يعظ بها أصحابه قال (ع) : « أحبكم إلى الله أحسنكم عملا ، وإن أعظمكم عند الله عملا أعظمكم في ما عند الله رغبة ، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله ، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا ، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله ، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله تعالى .. » (2). لقد اهتم الإمام (ع) اهتماما بالغا بمحاسن الأخلاق لذلك طلب إلى أصحابه أن يتحلوا بأحسن الصفات وأن يقوموا بذخائر الأعمال ثم دلهم على السبيل الذي ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة من أجل ذلك عليهم أن : أ ـ يتقنوا أعمالهم ويحسنوها فعلى المؤمن إذا أراد عملا أن يكمله ويتقنه. ب ـ يرغبوا في ما عند الله وهي من أعظم الذخائر ، أما الرغبة إلى __________________ (1) تاريخ اليعقوبي ، ج 3 ، ص 46. (2) زين العابدين للقرشي ، ص 61. عن روضة الكافي ، ص 158. غيره تعالى فإنها تؤول إلى الخيبة والخسران. ج ـ لا يخافوا إلا الله وأن لا يخشوا إلا هو ، فمن أراد النجاة من عذابه تعالى عليه أن يشعر قلبه بالخشية من عزته وجلاله ، فهي تصد الإنسان من اقتراف الشر أو الإثم. د ـ أن يوسعوا أخلاقهم تجاه الآخرين لأن بحسن الأخلاق يتميز الإنسان عن غيره ومن فقد أخلاقه فقد إنسانيته. ه ـ يتوسعوا على عيالهم فينفقوا عليهم مما كسبت أيديهم رزقا حلالا ، وهذا ما يوجب المحبة والمودة والألفة بين أفراد الأسرة ، الخلية الأولى في بناء لمجتمع الإنساني. ح ـ يتقوا الله ، فتقواه تعالى هي الميزان الأصيل في الإسلام وقد دعانا الله في آيات كثيرة إلى التقوى التي هي من الإيمان. قال تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1). وجاء في القرآن الكريم الآية : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) فمن أراد أن يكون مكرما عند الله عليه بالتقوى فهي سفينة النجاة وجسر العبور إلى رضوانه عز وجل. 3 ـ ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة الشاملة لمواضيع عدة مؤثرة. قال 7 : « كفانا الله وإياكم الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبارين ، أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد (2) ، وهشيمها البائد غدا ، واحذروا ما حذركم الله منها ، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه __________________ (1) المائدة ، الآية 112. (2) الهامد : البالي. منها ، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من أعدها دارا وقرارا ، وبالله إن لكم مما فيها دليلا من زينتها وتصريف أيامها ، وتغييرا نقلا بها ، ومثلا منها ». يحذر (ع) من الخضوع للطواغيت والظالمين وأتباعهم من المفتونين بحب الدنيا ، والمغرورين بزينتها وبهجتها ، هؤلاء جميعا كانوا من المخربين الذين وقفوا عائقا على مناهضة الإصلاح الاجتماعي ، ونشر الظلم والفساد في الأرض. ويتابع 7 : « تلاعبها بأهلها ، إنها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد النار أقواما غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه » يذم الدنيا ويندد بطبيعتها لأنها ترفع الخاملين ، وتضع الأحرار والشرفاء ، ثم تدفع أقواما إلى النار ، لانحرافهم عن الحق. وإذا كانت طبيعة الدنيا مناصرة الرذائل ومعاكسة القوى الخيرة فالأجدر الزهد فيها ، والتجافي عن شهواتها والسعي للظفر بنعيم الآخرة. ثم يتابع الموعظة (ع) : « وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان (1) ، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرر الفكر ، واتعظ بالعبر ، وازدجر ، فزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، فعند ذلك نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة ، حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك __________________ (1) لعل الأصح ورهبة السلطان. الظلمة ، فقد لعمري ، استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق ، فاستعينوا بالله ، وارجعوا إلى طاعته ، وطاعة من هو أولى بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع ». أبدى (ع) ما كانت تواجهه الأمة في عصره الكثير من ألوان الأسى المرير والفتن المذهلة ، وحوادث البدع ، وطرق الجور من قبل الحكام الأمويين الذين أغرقوا البلاد بالفتن والظلم والتعسف. فكان وقع تلك الأحداث شديدا على الأمة ، فقد ثبطت القلوب عن نياتها ، وأبعدتها عن طريق الحق والرشاد. ثم تابع محذرا (ع) « فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة ، والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه ، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه ، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم ، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، فحثه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإن أرباب العلم وأتباعهم ، الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه وقد قال الله تعالى : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (1). فلا تلتمسوا شيئا في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله ، واغتنموا أيامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله ، فإن ذلك أقل للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة ، فقدموا أمر الله وطاعته ، وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت ، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته ، وطاعة أولي الأمر منكم ، واعلموا أنكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين ، يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه ». __________________ (1) فاطر ، الآية 25. يدعو الإمام (ع) إلى طاعة الله تعالى ، وطاعة أئمة الحق والهدى الذين يهدون الناس إلى الصراط المستقيم ويهدونهم إلى سبل النجاة ، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها ، ويحققون لها جميع ما تصبو إليه من العزة والحرية والكرامة. كما دعا 7 إلى التمرد على أئمة الجور الظالمين وعدم الركون إليهم أو التعاون معهم. لأن التعاون كما أراده تعالى ، هو مع البررة الأتقياء وليس مع الفجرة السفهاء. ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) [ المائدة : الآية 2 ]. ثم يتابع 7 : « واعلموا أن الله لا يصدق كاذبا ولا يكذب صادقا ، ولا يرد عذر مستحق ، ولا يعذر غير معذور ، بل لله الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل ، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم ، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها ، لعل نادما قد ندم على ما فرط بالأمس في جنب الله وضع من حق الله ، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما تفعلون ، وإياكم وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم ، واعلموا أنه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبد بأمره دون أمر ولي الله ، في نار تلهّب ، تأكل أبدانا ، قد غابت عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حر النار ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، واحمدو الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة لله إلى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون ، فانتفعوا بالعظة ، وتأدبوا بآداب الصالحين » (1). حث المؤمنين (ع) على تقوى الله وطاعته لأنهما أساس سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فبهما يستقيم سلوكه ويكون محترما كريما بين __________________ (1) تحف العقول ، ص 252 وما بعدها. وأمالي المفيد ، ص 117. وروضة الكافي ، ص 138. قومه ، وعن طريقهما تزدهر حياته ويكسب رضى الله تعالى وسعادته التي ما بعدها سعادة. تعد هذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام 7 ذلك أنها لم تقتصر على الدعوة إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة ، وإنما كانت من الوثائق الاجتماعية والسياسية والأدبية. 4 ـ ومن مواعظه أيضا : سأله رجل فقال له : كيف أصبحت يا بن رسول الله (ص)؟ فقال 7 : « أصبحت مطلوبا بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي يطالبني بالسنة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد ، فأنا بين هذه الخصال مطلوب » (1). إذا تأملنا مليا أبعاد الحياة رأيناها محاطة بهذه الأمور الثمانية ، وإذا نظرنا إلى ما حولنا وجدنا أكثر الناس يحتفلون بمباهجها ويهتمون بزينتها ومفاتنها ، لكنهم لو تبصروا أكثر وأمعنوا الفكر لصمموا على الزهد فيها لأنها فانية زائلة لا تدوم. 5 ـ وفي هذا المجال قال (ع) الموعظة التالية : « لو كان الناس يعرفون جملة الحال في صواب التبيين ، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم ، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم ، وعلى أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة ، والفكرة القصيرة المدة ، ولكنهم من بني مغمور بالجهل ومفتون بالعجب ومعدول بالهوى من باب التثبت ، ومصروف بسوء __________________ (1) زين العابدين للقرشي ، ص 50. العادة عن فضل التعلم » (1). لو أمعن الإنسان النظر وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيمانا لا يخامره الشك بأن هناك خالقا للكون ومدبرا له يخضع كل شيء لإرادته وقضائه ، وإذا آمن ذلك لوجد برد اليقين في نفسه وعاش آمنا مطمئنا لكثير من المشاكل والمصاعب التي تعترضه في حياته القصيرة الأمد ، ولكن هل يعتبر؟ وأنى له ذلك وهو يعيش في غمرة الجهل يضله الهوى عن تعلم الحقائق ويبعده عن الوصول إلى الحق. * * * __________________ (1) البيان والتبيين ، ج 1 ، ص 84. وزهر الآداب ، ج 1 ، ص 102. أنوار من تعاليمه أدلى الإمام زين العابدين 7 بالكثير من التعاليم القيمة الرفيعة التي تدل على خبرة كاملة لواقع الحياة وعمق بعيد في شؤونها وشجونها ؛ كما يرشح من تعاليمه الحكيمة خبرته الواسعة بأحوال الناس وأمورهم ومعاشهم وكل ما يتعرضون له من أمراض نفسية وسياسية ودينية وفيما يلي بعض ما أثر عنه : 1 ـ ذم التكبر : التكبر ظاهرة سيئة لأنها باب لكل شر ومصدر لكل رذيلة لذلك ذم الإمام (ع) التكبر ونعى على المتكبر الذي لا يرى غيره يستحق الحياة ، ومن ثم يقوم بالظلم والاعتداء على الناس. يقول 7 : « عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة ». فالمتكبر على الناس الفخور بنفسه ، لو تأمل ذاته قليلا ونظر إلى بداية تكوينه ، نطفة ، ثم إلى نهاية مصيره ، جيفة ، لما تكبر على الناس بماله أو بنيه! ليته تذكر قول الإمام علي (ع) : « إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق » أو تذكر قول الله عز وجل : ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ) (1). المتكبرون صموا آذانهم عن قول الله تعالى رب العرش العظيم : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) (2). أي لا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطئك مهما شمخت بأنفك ، فإنك ضعيف ضعيف وقصير قصير لن تبلغ الجبال طولا! فاعرف نفسك ، وقدر قدرك وزن الأمور بميزان العقل المتنور بنور الإيمان وزيت الحكمة وعبق الرحمة وحسن الإدراك والتقدير. فالله تعالى فاطر السماوات والأرض هو العزيز الحكيم ولا يحب كل مختال فخور قال تعالى : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (3). فالمتكبر يكرهه عباد الله في الدنيا ويكرهه الله في الآخرة ، فهو خاسر الدارين لذلك عد التكبر في الإسلام من الصفات الذميمة التي تفسد المجتمع الإنساني وتورث الفرقة والبغضاء. 2 ـ الابتهاج بالذنب : قال 7 : « إياك والابتهاج بالذنب ، فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه ». بعض الناس يخطئون مع الآخرين من أهلهم أو أصحابهم أو جيرانهم لكنهم بعد وقوع الخطأ تؤنبهم نفسهم فيتراجعون عن خطئهم ويعتذرون لسوء فعلتهم. __________________ (1) الشعراء ، الآية 88. (2) الإسراء ، الآية 37. (3) لقمان ، الآية 18. والبعض الآخر يرتكبون ال | |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:05 am | |
| 9 ـ روى الإمام محمد الباقر عن أبيه 8 في تفسير الآية الكريمة : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) (1). قال : لقد جعل الله تعالى الأرض ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمأ (2) والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم (3) ، ولا شديدة اللين كالماء ، فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم ، وقبور موتاكم ، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم ، وقبوركم ، وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم ، ثم قال عز وجل ( وَالسَّماءَ بِناءً ، ) أي سقفا من فوقكم ، محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم ، ثم قال عز وجل : ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) يعني مما يخرجه من الأرض رزقا لكم ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء. ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى (4). حفلت هذه القطعة الكريمة من كلام الإمام زين العابدين (ع) بأروع أدلة التوحيد ، فأعطت صورة مشرقة كاملة من سر خلق الله للأرض ، فقد خلقها سبحانه بكيفية رائعة فليست صلبة ولا شديدة اللين وذلك ليسهل على الإنسان العيش عليها والانتفاع بخيراتها التي لا تحصى .. __________________ (1) البقرة ، الآية 22. (2) الحمأ : شدة حرارة الشمس. (3) تعطبكم : أي تهلككم. (4) عيون أخبار الرضا ، ج 1 ، ص 137. إن الأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والبحار والأنهار والمعادن المختلفة الأنواع وغير ذلك ، من أعظم الأدلة وأوضحها على وجود الخالق العظيم الحكيم ، قال تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) [ القمر : الآية 49 ]. كما استدل الإمام (ع) على عظمة الخالق سبحانه وتعالى بخلقه السماء وما تحوي من شمس وقمر وسائر الكواكب التي تنير هذه الأرض بأنوارها. وكلنا يعلم ما لأشعة الشمس من أثر بالغ في تكوين الحياة النباتية. وما لأشعة القمر من أثر على البحار في مدها وجزرها ، وكذلك الحال بالنسبة لسائر الكواكب فإن لأشعتها هي أيضا الأثر التام في منح الحياة العامة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض وما نلفت إليه أن هذه الظواهر الكونية لم تكتشف إلا في هذه العصور الحديثة إلا أن الإمام زين العابدين (ع) ألمح إليها في كلامه ، فكان بلا ريب هو وأبناؤه وآباؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم وساهموا مساهمة فعالة في تكوين الحضارة الإنسانية. ثم أشار الإمام (ع) إلى العناية الإلهية في سقوط المطر وكيف يتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة ، وذلك لإحياء الأرض ، وإخراج الثمرات والطيبات. ولو هطلت هذه الأمطار دفعة واحدة لأهلك الحرث والنسل. قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (1). وبعدما أقام الإمام (ع) الأدلة المحسوسة على وجود الخالق الحكيم دعا إلى عبادته سبحانه وتعالى ونبذ الأصنام والأوهام التي تشل الفكر وتعيق حركة الوعي وتفقد أي قدرة على تصريف شؤون الحياة وإدارة هذا الكون إدارة حكيمة عادلة. __________________ (1) الحجر ، الآية 21. 10 ـ سأل رجل الإمام زين العابدين 7 عن الحق المعلوم الذي ورد في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (1). فقال (ع) : « الحق المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين. فقال له الرجل : فما يصنع به؟ فقال (ع) : يصل به رحما ، ويقوي به ضعيفا ويحمل له كله أو يصل أخا له في الله ، أو لنائبة تنوبه. وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له : الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء (2). في رحاب الحديث الشريف : لا يخفى ما للحديث الشريف من أهمية كبرى في العلوم الإسلامية فهو يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم ، كما يعرض لمعظم الفقه الإسلامي فيذكر الواجب والحرام والمستحب والمكروه والممنوع والمباح ويوضح عموميات كتاب الله ومطلقاته فيقيدها ويخصصها. إلى جانب ذلك يتناول الحديث الشريف آداب السلوك وقواعد الأخلاق وكل ما يسعد الإنسان في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية. والإمام زين العابدين 7 كان من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام ، ورواياته لها أهمية خاصة عند علماء الحديث وبصورة خاصة ما يرويه الزهري عنه. قال أبو بكر بن أبي شيبة : أصح الأسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب. وقد روى مجموعة كبيرة __________________ (1) المعارج ، الآية 24. (2) وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 69. من الأحاديث عن جديه الرسول الأعظم (ص) والإمام أمير المؤمنين 7 وعن أبيه الحسين (ع) وغيرهم .. وسوف نورد كوكبة مشرقة من الأحاديث رواها الإمام (ع) بسنده عن جده رسول الله (ص). 1 ـ روى الإمام (ع) أن رسول الله (ص) قال : « الإيمان قول وعمل » (1). لا يخفى أن الإيمان بالله تعالى وبرسله ليس ظاهرة لفظية يردده اللسان وإنما هو عمل وجهاد يترجم ما استقر في دخائل النفس من إيمان عميق. واتحاد القول بالعمل أمر ضروري في نجاح الحياة وتطورها. جاء في كتاب ( لأنك حبيبتي ) للدكتور أسعد علي قوله : عندما يتحد القول بالعمل ينجبان صبيا يسميانه الصدق. وعندما يتحد القول بالعمل يرزقان بنتا يسميانها الوفاء ، ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. أمر مهم جدا أن يؤمن الإنسان والأمر الأهم أن يترجم هذا الإيمان إلى عمل. 2 ـ روى 7 أن النبي (ص) قال : « الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان » (2). فالإيمان يترجم بثلاثة أركان : الأول : الإقرار باللسان الذي يترجم ما انطبع في أعماق النفس. والثاني : أن يعرف القلب (3) الشيء الذي آمن به معرفة تفصيلية فإذا لم تكن هناك معرفة ، فإن الإيمان به ينتفي موضوعيا. والثالث : أن يصحب ذلك العمل بالأركان فيترجم أعمالا صالحة. __________________ (1) الخصال ، ص 53. (2) المصدر نفسه ، ص 165. وتاريخ بغداد ، ج 1 ، ص 255. (3) القلب يعني العقل. 3 ـ وروى الإمام 7 أن رسول الله (ص) قال : « والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم » (1) العلم مع الحلم من الصفات الأصيلة التي تتغذى بها شخصية الإنسان فتنمو وتتطور وتزدهر. والعلم والحلم صنوان متلازمان لا يفيد الواحد منهما دون الآخر. فالعصر الجاهلي سمي كذلك لأنه يفتقد إلى الحلم ، فقد كان النزق والطيش والحمق تسيطر جميعها على عامة الجاهليين ، كما كانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب ، كل ذلك لعدم وجود الحلم والروية. ولما بزغ نور الإسلام أنقذهم من جهلهم وطيشهم وأوصلهم إلى شاطىء الأمان بالحلم والعلم معا. 4 ـ وروى الإمام 7 عن أبيه عن جده أمير المؤمنين : : أن رسول الله 6 قال : « لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت .. » (2). حفل هذا الحديث الشريف بعدة أمور تحذر الإنسان قبل أن يدركه ملاك الموت ويبدأ بالندم وتصعيد الحسرات. أ ـ فالإنسان يسأل أمام الله تعالى في يوم حشره ، يوم الحساب عن أيام عمره كيف قضاها ، فهل أفناها في طاعة الله ورضوانه حتى يثاب على ذلك ، أم أنه أنفقها في اقتراف المنكرات وفي معصية الله لينال جزاءه ويكسب رضاه؟ ب ـ ويسأل أيضا عن شبابه أفضل أيام حياته وأنشطها ، هل انطوت __________________ (1) الخصال ، ص 5. (2) المصدر نفسه ، ص 231. في المعاصي والأعمال المنكرة ليعاقب عليها ، أم في طاعة الله والأعمال الصالحة ليثاب عليها؟ ج ـ ويسأل الإنسان يوم الحشر والنشر عن أمواله ، هل اكتسبها بالطرق الحلال المشروعة ، وهل أنفقها في ما يرضي الله ليشكر في الدنيا ويؤجر عليها في الآخرة؟ ، أم أنه اكتسبها بطرق حرام غير مشروعة كأكل المال بالباطل والرضا وتجارة المخدرات وغيره ، وهل أنفقها في معاصي الله ومحرماته ليعاقب عليها؟ قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [ المدثر : الآية 38 ]. وقال تعالى : ( .. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) [ البقرة : 286 ]. د ـ وفي نهاية الحديث : يسأل الإنسان يوم الحساب عن محبته لأهل البيت أعلام الهدى وسفينة النجاة وأمن العباد وأنوار الحياة. فهم المجاهدون الأبرار الذين جاهدوا من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم ونشر الرسالة الإسلامية في شتى أنحاء الأرض. فمن أبغضهم فقد أبغض الحق ومن أبغض الحق فقد أبغض الله ، ومن أحبهم فقد أحب الحق ومن أحب الحق فقد أحب الله. 5 ـ وقال 7 : كان رسول الله (ص) يقول في آخر خطبته : « طوبى لمن طاب خلقه ، وطهرت سجيته ، وصلحت سريرته وحسنت علانيته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، وأنصف الناس من نفسه » (1). دعا الإسلام إلى التخلق بالأخلاق الحسنة والالتزام بالصفات النبيلة والنبي (ص) دعا المسلمين إلى الاتصاف بمحاسن الصفات فأوجز في هذا الحديث الشريف أمورا عدة : أ ـ التخلق بالأخلاق الحسنة. __________________ (1) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 156. ب ـ طهارة النفس والضمير. ج ـ التحلي بالفضائل النبيلة والآداب العالية. ه ـ حفظ اللسان وعدم الخوض في توافه الأمور. ح ـ إنصاف الناس بالحق والعدل ولو على نفسه. 6 ـ والأحاديث التي تحض على مكارم الأخلاق كثيرة منها قوله 7 عن رسول الله (ص) : « ما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخلق » (1). إن التحلي بمكارم الأخلاق من أفضل ما يملكه الإنسان في حياته ، فصاحب الخلق الحسن يمتلك محبة الآخرين وتعلو قيمته بين الناس أجمعين في هذا الدنيا. وكذلك في الآخرة فإنه يدخر خير زاد ليوم المعاد. وقال (ص) في أهمية الخلق الحسن : أقربكم مني يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الذين يألفون ويؤلفون. وقال الشاعر : أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان 7 ـ ومن الأحاديث التي تشد المؤمنين إلى بعضهم البعض وتمتن الروابط الاجتماعية بينهم ما رواه 7 عن أبيه عن جده رسول الله (ص) أنه قال : « إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمن » (2). حرص الإسلام كل الحرص على وحدة المسلمين وتماسكهم ليكونوا وحدة متضامنة على الخير والشر ، من أجل ذلك جعل من أهم برامجه حثه __________________ (1) المصدر نفسه ، ج 2 ، ص 99. (2) الإمام زين العابدين لباقر شريف قرشي ، ص 8. المؤمنين على إدخال السرور بعضهم على بعض في أفراحهم وأتراحهم وكل ما يحف بهم من مشاكل في حياتهم. وهذا مما يوجب شيوع الألفة والمحبة والمودة بينهم ، ومما يوحد صفوفهم ويمتن العلاقات الاجتماعية بين أفراد مجتمعهم. وللرسول الأعظم أحاديث عدة في هذا المجال منها : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فإذا تداعى عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ». وقال أحد الشعراء يوصي بنيه قبل موته : كونوا جميعا يا بني إذ اعترى خطب ولا تفرقوا آحاد تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا فالمؤمن عليه أن يساعد أخاه المؤمن فيؤنسه ويساعده ويخفف عنه مصائبه ويشاركه في كل ما يحتاج إليه ، لأن الرابط بينهم هو الإيمان ، والأخوة في الإيمان تستدعي المساعدة والمشاركة وإدخال البهجة والسرور إلى قلوب جميع المؤمنين. فهنيئا لكل من استطاع مساعدة الآخرين من إخوانه في الدين فيكسب محبة الدنيا وسعادة الآخرة. 8 ـ وقال 7 في تمجيد العقل : روى (ع) بسنده عن آبائه أن رسول الله (ص) قال : « إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون ، في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فجعل العلم نفسه ، والفهم روحه ، والزهد رأسه ، والحياء عينه ، والحكمة لسانه ، والرأفة همه ، والرحمة قلبه ، فلنتأمل هذا التسلسل المنطقي العظيم : جعل العلم أول كل شيء لأنه هو أساس فهم كل الأمور ( يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) و ( العلماء ورثة الأنبياء ) ثم ألحق العلم بالفهم ، ما فائدة العلم إذا كان يخزن في الذاكرة بلا فهم ولا وعي ولا إدراك! أبدا ، إن فهم العلوم يجعلنا نستفيد منها ونستعملها فيما يسعدنا ويسعد الآخرين. وكم من العلماء العقلاء أنقذوا البشرية وطوروا الحياة الإنسانية إلى الأفضل. والزهد رأسه : وذلك حتى يبتعد الإنسان عن الطمع والجشع والأنانية. والحياء عينه : يكمن الحياء في العين وهو صفة إنسانية تهب الإنسان قيمة وتقديرا. والحكمة لسانه : اللسان هو ترجمان العقل يعبر عنه بكل حالاته فعليه أن ينطق بالحكمة التي هي ميزان العقل وبرهان العطاء. والرأفة همه : القلب الرؤوف هو القلب الحنون الذي يشعر مع الآخرين ويعطف عليهم في المواقف الإنسانية الحقة. والرحمة قلبه : والرحمة صفة إلهية كريمة وصف الرحمن نفسه بها : رحمة الله الكبرى التي وسعت كل شيء فالمؤمنون رحماء فيما بينهم يتعاونون ويتآلفون ، ويحب الواحد منهم للآخر كما يحب لنفسه. ثم يتابع الحديث (ع) فيقول : .. ثم حشاه وقواه بعشرة أشياء : باليقين ، والإيمان ، والصدق ، والسكينة ، والإخلاص ، والرفق ، والعطية ، والقنوع ، والتسليم ، والشكر. هذه الصفات العشر تقوي العقل وتزكيه وتكسبه قوة وتألقا وعطاء خيرا يفيض بهجة وسعادة وهناء. ثم قال له عز وجل : أدبر فأدبر ، أقبل فأقبل ، ثم قال له : تكلم ، فقال : الحمد لله الذي ليس له سند ولا ند ، ولا شبيه ولا كفو ، ولا عديل ، ولا مثيل ، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل ، فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ، ولا أطوع لي منك ، ولا أرفع منك ، ولا أشرف منك ، ولا أعز منك ، بك أواخذ ، وبك أعطي ، وبك أوحد ، وبك أعبد ، وبك أدعى ، وبك أرتجى ، وبك أبتغي ، وبك أخاف ، وبك أحذر ، وبك الثواب وبك العقاب .. » (1). __________________ (1) الخصال ، ص 396 ـ 397. حفل هذا الحديث الشريف بتمجيد العقل ، وتعظيمه وماله من أهمية في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية والدينية. ولذلك منحه الله أفضل الخصائص وأهمها. فهو أفضل الموجودات التي خلقها الله ، وقد منحه الله للإنسان وميزه على بقية المخلوقات والكائنات. ولا يخفى أن وجود العقل ، هذه الهبة الإلهية العظيمة ، هو شرط من شروط التكليف في الإسلام ، فالفاقد عقله هو كالحيوان الأبكم لا يصح أن يتوجه له التكليف. قال بعض الحكماء : « إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب ». 9 ـ وقال 7 ، قال رسول الله (ص) : « كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه .. » (1). من الجهل الأكبر أن يتغاضى الإنسان عن عيوب نفسه ويفتش عن عيوب الآخرين فينتقد ويجرح دون أي وازع أو رقيب. وكان الأولى به أن يراقب نفسه ويصلح أخطاءه ولا يلتفت إلى عورات الآخرين. قال أمير المؤمنين (ع) : لسانك لا تذكر به عورة امرىء فكلك عورات وللناس أعين كما أن من عيوب المرء أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه ، فيتدخل في شؤونه ويحرجه في قضاياه الخاصة. فلو شاء صديقه لأفضى إليه بسره وعرض عليه ما يعاني ، أما أن يكثر من أسئلته عليه فهذا ما يؤذي الجليس ويتحول من صديق حميم إلى عدو لئيم وهو في غنى عن ذلك. وقد أخذ هذا المعنى شعراء كثيرون وبنوا عليه في قصائدهم منهم الشاعر الفرنسي ( لافنتين ) الذي سمى قصيدته بعنوان ( الخرج ) La besace ، __________________ (1) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 46. فيضع عينة على صدره يضع فيها أخطاء الآخرين وعينة على ظهره يضع فيها أخطاءه ، فيتعامى عنها ولا يراها بينما يتأمل أخطاء غيره فينقدها وينشرها. وكذلك الشاعر أحمد شوقي أخذ المعنى نفسه ونسجه في شوقياته. 10 ـ وقال 7 عن رسول الله (ص) : « في الجنة ثلاث درجات ، وفي الآخرة ثلاث درجات : فأعلى درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه ، ونصرنا بلسانه ويده. والدرجة الثانية لمن أحبنا بقلبه ، ونصرنا بلسانه. والدرجة الثالثة : لمن أحبنا بقلبه. وفي أسفل الدرك من النار من أبغضنا بقلبه وأعان بلسانه ، وفي الدرك الثالث من النار من أبغضنا بقلبه .. » (1). إن محبة أهل البيت : مدعاة إلى الفوز بأسمى الدرجات في الفردوس الأعلى ، ومحبتهم تعني محبة الحق في سبيل الله ، ومحبة الخير من أجل خير عباد الله ، ومحبة الصلاح من أجل كسب رضا الله. كما أن بغضهم من أسباب الهلكة والتردي في أسفل درك النار. فبغضهم يعني بغض الحق والبعد عن خط رسول الله (ص) وخط الدعوة الإسلامية التي أوكلوا بنشرها والوقوف في وجه كل من عرقل مسيرتها. 11 ـ وقال (ع) قال رسول الله (ص) : « ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب. الزائد في كتاب الله ، والمكذب بقدر الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله ، ويعز من أذله الله ، والمستأثر بفيء المسلمين ، المستحل له .. » (2). هؤلاء الأصناف الذين لعنهم الله تعالى ، ولعنهم كل نبي مجاب ، هم __________________ (1) زين العابدين للقرشي ، ص 12. (2) الخصال ، ص 308. المنحرفون عن الحق ، والرافضون لكل ما سنه الله في شريعته العادلة. من هؤلاء كان حكام الأمويين الذين ناصبوا العداء لأهل البيت ، للعترة الطاهرة ، ونشروا الفساد في البلاد والجور والطغيان في بقاع الأرض. لكنهم لم يستطيعوا إطفاء الشعلة المنيرة وإزالة القوة المجاهدة التي تصدت لردع الظلم ورد كيد الظالمين. والشاهد الواضح على ذلك هو سيد الشهداء الإمام الحسين 7 شهيد كربلاء الذي ضحى بنفسه ودمه الطاهر من أجل إحقاق الحق وتقومي الاعوجاج. وهو القائل : ما خرجت لا أشرا ولا بطرا وإنما خرجت من أجل الإصلاح في أمة جدي. 12 ـ وهذا حديث شريف من أغنى الأحاديث النبوية التي ضمت كنوز العلم الخيرة والحكمة الهادية والعرفان الجميل. قال الإمام زين العابدين 7 حدثني أبي أن جده رسول الله 6 قال : « أعبد الناس من أقام الفرائض ، وأسخى الناس من أدى الزكاة ، وأزهد الناس من اجتنب المحارم ، وأتقى الناس من قال بالحق في ما له وما عليه ، وأعدل الناس من رضى للناس بما يرضى لنفسه ، وأكيس الناس من كان أشد ذكرا للموت ، وأغبط الناس من كان تحت التراب قد أمن العقاب ، ويرجو الثواب ، وأعقل الناس من يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال ، وأعظم الناس في الدنيا خطرا من لم يجعل للدنيا خطرا ، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه ، وأشجع الناس من غلب هواه ، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما ، وأقل الناس لذة الحسود ، وأقل الناس راحة البخيل ، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه ، وأولى الناس بالحق أعلمهم ، وأقل الناس حرمة الفاسق ، وأقل الناس وفاء الملوك ، وأقل الناس صديقا الملوك ، وأفقر الناس الطماع ، وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيرا ، وأفضل الناس إيمانا أحسنهم خلقا ، وأكثر الناس عقلا أتقاهم ، وأعظم الناس حذرا من ترك ما لا يعنيه ، وأورع الناس من ترك المراء ، وإن كان محقا ، وأقل الناس مروءة من كان كاذبا ، وأشقى الناس الملوك ، وأمقت الناس المتكبر ، وأشد الناس اجتهادا من ترك الذنوب ، وأحلم الناس من فرّ من جهال الناس ، وأسعد الناس من حالف كرام الناس وأعقل الناس أشدهم مداراة للناس ، وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة ، وأعتى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحق الناس بالذنب السفيه ، المغتاب ، وأذل الناس من أهان الناس ، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ ، وأصلح الناس أصلحهم للناس ، وخير الناس من انتفع به الناس » (1). كما ترى هذا الحديث الشريف يلقي أضواء على طبائع الناس واتجاهاتهم وميولهم ومنازعهم ، وقد وضع المناهج الحية للإصلاح الشامل للعديد من القضايا النفسية والتربوية والاجتماعية. فهو منجم ثمين من مناجم المعرفة. * * * __________________ (1) زين العابدين للقرشي ، ص 16. جامعة أهل البيت الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتى أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتى الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتى نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب من الحجاز والكوفة والبصرة وواسط وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة. وقد أحصيت مؤلفات المتخرجين من تلك الجامعة فبلغت ستة آلاف كتاب منها أربعمائة كانت تعرف بالأصول على لسان محدثي الشيعة. ولعل أكثر محتويات الكتب الأربعة : الكافي ومن لا يحضره الفقيه والوافي والاستبصار مأخوذة منها (1). وما نلفت إليه أن المهمة التي قام بها الإمامان الباقر والصادق في قيام جامعة أهل البيت هامة جدا وتعني كل فرد من أئمة الشيعة (ع) لكن الظروف التي تهيأت للإمامين المذكورين لم تتهيأ لغيرهما من الأئمة الآخرين (ع) ذلك أن الفترة الزمنية التي قضاها الإمام الباقر قد رافقتها بوادر نقمة عارمة من مختلف الأقطار على سياسة الأمويين فالجميع أحسوا __________________ (1) سيرة الأئمة الأثني عشر ، ص 202. بسوء صنيعهم وأرادوا التخلص منهم وبصورة خاصة ظلمهم للعلويين الذي كان سلاحا قويا بيد خصومهم الطامعين بالحكم. وهذا ما دعاهم ليكونوا أكثر اعتدالا مما كانوا عليه بالأمس ولما جاء عهد الإمام الصادق كانت الدولة الأموية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني أشد المرارة من الهزائم التي تلحق بها من خصومها العباسيين الذين قوضوا أركانها وتسلموا الحكم بمساعدة العلويين والفرس. في ظل هذه الظروف الخاصة انطلق الإمامان الباقر والصادق (ع) لأداء رسالتهما. وقد تم لهما ذلك بين عهدين : عهدين : عهد غمرته الكوارث ودوخته الهزائم ، وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وزهو السيطرة على الحكم. فقامت الحكومة الجديدة على أكتاف العلويين وبمساندة الفرس. هذه الظروف هيأت للإمامين فرصة ذهبية لم تتهيأ لغيرهما من أئمة أهل البيت. لكن يا للأسف! لما استتب الأمر للعباسيين وتسلموا زمام الحكم تستروا بظل أهل البيت وشيعتهم ثم ظهروا على حقيقتهم فغدروا بأنصارهم ومثلوا أبشع الأدوار وأقبح المؤامرات التي فعلها الأمويون حتى قال أحد الشعراء : يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار إن المشاكل التي كانت تحيط بالأمويين والأخطار المحدقة بهم من كل جانب سمحت لجامعة أهل البيت أن تنمو وتتوسع حتى أصبحت تضم أكثر من أربعة آلاف طالب. لكن ذلك حدث بعد أن مضى على المسلمين أكثر من قرن لا عهد لهم بفقه يختص بأهل البيت حتى أن الرواة كانوا لا يتجرأون أن يجهروا بحديث لهم سوى ما كان يروى عن طريق الكتابة في الغالب. ذلك أن الأمويين في عز سلطانهم كانوا ينكلون بهم وبكل من يتهم بالولاء لهم ، جادين في القضاء على كل آثارهم. وما نلفت إليه أنه لو أتيح للأئمة بعد الإمام علي (ع) أن ينصرفوا إلى الناحية التي اتجه لها الإمامان الباقر والصادق لكان فقه أهل البيت هو الفقه السائد والمعمول به عند عامة المسلمين. ذلك أن فقه الإمام علي بن أبي طالب هو الينبوع الأصيل والغزير وقد كان صاحب الرأي الأول والأخير في الفقه والقضاء بلا منازع ولكن خصومه عملوا بكل ما عندهم من وسائل لطمس آثاره وآثار أبنائه من بعده وكل من ينسب إليهم رأيا أو يروي عنهم حديثا. لقد شاء الله لجامعة أهل البيت أن تعيش آمنة مطمئنة ولو لفترة يسيرة من الزمن ، تلك الفترة التي لا تعد شيئا ملحوظا بالنسبة لما تركته من الآثار في شرق البلاد وغربها ، فترة لا تتجاوز ثلث قرن من الزمن تقريبا. كما شاء الله سبحانه وتعالى لمذهب أهل البيت وفقههم ، فقه الإمام علي بن أبي طالب ، الذي أخذه عن الرسول مباشرة بلا واسطة ، أن ينسبا إلى حفيده الإمام جعفر الصادق الذي اشترك مع أبيه في تأسيس تلك الجامعة المباركة ثم استقل بها بعد وفاته 8. وهذا لا يعني أن له رأيا في أصول المذهب أو فقهه يختلف فيهما عن آبائه وأحفاده بل انهم جميعا صلوات الله عليهم يعملون بتعاليم القرآن الكريم ، وسيرة الرسول الاعظم 6. الولاء لأهل البيت : أكد الإمام زين العابدين 7 ضرورة الولاء لأهل البيت والمودة لهم ، واعتبر ذلك عنصرا مهما من عناصر الإسلام. قال (ع) لأبي حمزة الثمالي : « أي البقاع أفضل »؟ فحار أبو حمزة في الجواب فقال : « الله ورسوله أعلم ». فأجابه 7 : « إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أن رجلا عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع ، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا » (1). وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (ص) وأوصيائه (ع) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره ، ويحاسب عليها كما يحاسب على سائر الواجبات الإسلامية ، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها شرط في صحة العمل ، لا في قبوله ، كشرائط الصحة في الواجبات. جاء في أحكام القرآن للجصاص : قال سعيد بن جبير : سألت الإمام زين العابدين 7 عن القربى في الآية الكريمة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2). هي قرابتنا أهل البيت (3). فالله سبحانه وتعالى قربهم منه لأنه يعلم أين يضع رسالته ، وقد ذكر الإمام 7 في حديث آخر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة ودار الدنيا ، فقد وفد عليه جماعة من الشيعة عائدين إياه قالوا له : « كيف أصبحت يا بن رسول الله »؟ فأجابهم الإمام بلطف : « في عافية ، والله المحمود على ذلك. وكيف أصبحتم أنتم جميعا فانبروا قائلين : « أصبحنا والله لك محبين .. ». فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفى عند الله قائلا : « من أحبنا لله أدخله الله ظلا ظليلا ، يوم لا ظل إلا ظله ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا الجنة ، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه الله رزقه من حيث لا __________________ (1) الإمام زين العابدين ، ص 202. (2) الشورى ، الآية 42. (3) أحكام القرآن ، ج 3 ، ص 475. يحتسب .. » (1). قسم الإمام (ع) المحبة إلى ثلاثة أقسام عند محبي أهل البيت : أ ـ من أحب أهل البيت لله .. المحبة الحقيقية النبيلة تكون لله وليس لأمر آخر ، وأهل البيت المجاهدون في سبيل الله ، الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوة من أجل رفع كلمة الله ومن أجل نشر رسالة الله من واجب المؤمنين أن يحبوهم محبة خالصة ومحبة نبيلة وأصيلة ، وهذا واجب لا ريب فيه. هؤلاء يدخلهم الله تبارك وتعالى ظلا ظليلا يوم لا ظل إلا ظله. ب ـ ومن أحبهم مكافأة لهم. كيف نحب أهل البيت مكافأة لهم؟ لقد قدموا لنا وللناس جميعا خدمات جلى في جميع مجالات الحياة فبنشرهم الرسالة الإسلامية وجهادهم من أجل إعلاء كلمة الله أخرجوا الناس من الظلمة إلى النور ، من ظلامة الجاهلية وظلم الجاهلين إلى نور الهداية والحياة الإنسانية الحرة الكريمة. فعلى المؤمنين أن يقدموا لهم مكافأة عرفانا بجميلهم وذلك بإحياء ذكرهم. جاء في الحديث الشريف : أحيوا ذكرنا رحم الله من أحيا ذكرنا. إن إحياء ذكرهم إحياء الحق وتذكير الناس بالجهاد في سبيل الله ، وتلقينهم دروسا في التضحية والعطاء والعمل الصالح في حياتهم الدنيا والآخرة. هؤلاء يكافئهم الله بالجنة. ج ـ ومن أحبهم لغرض دنياه .. حتى الذي يحبهم من أجل مصالحه الشخصية وتحقيق أغراض دنيوية يرزقه الله من حيث لا يحتسب. نخلص من هذا أن محبة أهل البيت واجب شرعي لكل مؤمن ومؤمنة __________________ (1) الفصول المهمة ، ص 192. لأنهم نبراس هداية ونور الإسلام والسلام. سيادة أهل البيت على الناس : سأل أحدهم الإمام زين العابدين 7 ، فقال له : بماذا فضلتم على الناس جميعا وسدتموهم؟ فأجاب 7 : إعلم أن الناس جميعا لا يخلون من أحد ثلاثة : أما رجل أسلم على أيدينا فهو مولى لنا يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته. وأما رجل قاتلناه ، فقتلناه فمضى إلى النار وبقي ماله مغنما لنا. وأما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر ، ولا رابع فأي فضل لم نجزه وشرف لم نحصله »؟ (1). ما نلاحظه أن الإمام (ع) إنما ساق حديثه هذا إلى شخص لا يعترف بفضل أهل البيت : ، ولا يقر بسيادتهم المطلقة على هذه الأمة. وحسبهم فخرا أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وفرض مودتهم على جميع المؤمنين ، وقربهم الرسول (ص) بمحكم التنزيل وجعلهم سفينة النجاة وأمن العباد. روى 7 عن آبائه عن جده (ص) أن رسول الله قال لأصحابه : « إن الله قد فرض عليكم طاعتي ، ونهاكم عن معصيتي ، وفرض عليكم طاعة علي بعدي ، ونهاكم عن معصيته وهو وصيي ، ووارثي ، وهو مني ، وأنا منه ، حبه إيمان ، وبغضه كفر .. » (2). __________________ (1) غرر الآثار ودور الآثار للديلمي ، ص 80. راجع زين العابدين للقرشي ، ص 99. (2) ينابيع المودة ، الباب 41. فالرسول (ص) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (ع) على أصحابه ، وإنما الله فرضها على جميع المسلمين. ولا ريب أن السبب في ذلك عظيم اتصال أمير المؤمنين بالله تعالى ومواهبه المتعددة وعبقريته إذ ليس في المسلمين من يدانيه في مآثره وفضائله. قال الجاحظ : « لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكرت النجدة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الدنيا ومتى ذكر الإعطاء في الماعون ، كان مذكورا في هذه الخصال كلها ، إلا علي 2 » (1). أثر مجزرة كربلاء على الإمام السجاد : قبل المجزرة : نشأ الإمام زين العابدين في بيت النبوة ، بيت الوحي الذي تحمل المحن المتتالية والآلام القاسية والمصائب المؤلمة وكلها كانت في سبيل الله. استقبل الإمام (ع) في طفولته المبكرة محنة جده أمير المؤمنين (ع) وهو يتخبط بدمه في مسجد الكوفة بعد أن طعنه بخنجر مسموم ابن ملجم لعنه الله. وبعدها في سن الشباب عاش محنة عمه الحسن وهو يلفظ كبده من السم الذي دسه إليه معاوية بن أبي سفيان (2). وتجرع في شبابه أيضا ، وهو طريح الفراش من مرض فتك به آنذاك ، مصرع أبيه الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء ، ومصرع إخوته وبني عمومته. __________________ (1) ثمار القلوب للثعالبي ، ص 67. (2) أمه هند آكلة الأكباد وقد استعمل معاوية السم في العسل مع كثير من خصومه ، وهو القائل : « إن لله جنودا من عسل ». كما شاهد بأم عينه سبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، ورأى رؤوس الأهل والأصحاب الشهداء على الرماح يتقدمها رأس أبيه المظلوم الذي استشهد من أجل إحقاق الحق. أثناء المجزرة : كان علي بن الحسين أكبر ولد أبيه ، معه (ع) بطف كربلاء وقد أنهكه المرض ، روى عنه أبو مخنف أنه قال (1) : « إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، اعتزل أبي في خباء له وعنده ( جون ) مولى أبي ذر الغفاري يعالج له سيفه ويصلحه وسمعته يقول : يا دهر أف لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل من صاحب وطالب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل وكل حي سالك سبيل ما أقرب الوعد من الرحيل لما سمعت هذه الكلمات المؤثرة في نفسي خنقتني العبرة ، ولزمت السكوت وأيقنت أن البلاء واقع لا محالة. أما عمتي زينب (ع) فإنها لما سمعت ما سمعت لم تملك نفسها أن وثبت تجر ذيلها حتى انتهت إليه ونادت بأعلى صوتها : وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ، ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها أبي وقال : يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان وأوصاها بالصبر وحفظ العيال. وفي اللحظات الأخيرة من حياة أبيه دخل عليه وأوصاه قبيل وفاته بوصاياه وسلمه مواريث النبوة وكانت آخر وصية أوصاه بها : « يا بني أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله عليا حين وفاته وبما أوصى به جدك __________________ (1) راجع طبقات ابن سعد. علي عمك الحسن وبما أوصاني به عمك ، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله ، ثم ودعه ومضى إلى المعركة الأخيرة التي قتل فيها. فيا لها من ساعة محزنة مؤلمة ، ويا له من وداع تتفطر له القلوب إنه الوداع الأخير للأخوات والأهل وابنه الوحيد الذي لم يبق غيره من نسله. وداع الحياة الفانية ولقاء الحياة الأبدية الباقية في جنة الخلد مع أمه الزهراء ، سيدة نساء العالمين ، وأبيه علي أمير المؤمنين وأخيه الحسن المسموم المظلوم ، وجده رسول الله خاتم الرسل والنبيين 6. وعلي بن الحسين هو الذي دفن أباه والقتلى من أهله وأنصاره. ولما دخل الكوفة بعد ذلك ، بعد أن نفض يديه من تراب الشهداء الأبرار ، ومعه عماته وأخواته اجتمع عليهم الناس فهالهم ذلك المشهد وجعلوا يبكون وينوحون ويندبون ، ولما أجهشوا بالبكاء أومأ إلى الناس أن يسكتوا ثم وقف وقد أنهكه المرض فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي وصلى عليه ثم قال : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا. ومضى يذكر أهل الكوفة بكتبهم ومواعيدهم وبما ارتكبوه من الفظائع حتى ضج الناس بالبكاء والعويل. ولما أدخل على ابن زياد لعنه الله قال له : من أنت؟ قال : أنا علي بن الحسين ، فرد عليه بقوله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ، فأجابه الإمام : كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس ، فقال ابن زياد : بل الله قتله ، فقال الإمام : الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال : أبك جرأة على رد جوابي ، وأمر جلاوزته بقتله ، فتعلقت به عمته زينب واعتنقته وقالت : يا بن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت والله لا أفارقه فإن أردت قتله فاقتلني معه ، فرق لها وتركه. ثم كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بإرسال رأس الحسين ورؤوس القتلى مع السبايا إلى الشام ، أرسلهم إليه مع مخفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوش ، وجماعة من جنده ، وكان كما يصفه الرواة مقيدا بالحديد ، ولما بلغوا بهم الشام خرج أهلها إلى استقبالهم بأبهى مظاهر الزينة والفرح. جاء في البحار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال : خرجت إلى بيت المقدس ، فلما توسطت الشام فإذا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علق أهلها الستور والحجب وهم فرحون ، والنساء تلعب بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي أرى لأهل الشام عيدا لا نعرفه ، فأقبلت على القوم وقلت لهم : يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه ، فقالوا : يا شيخ نظنك غريبا ، فقلت لهم : أنا صاحب رسول الله (ص) سهل بن سعد الساعدي وقد رأيت رسول الله وسمعت حديثه ، فقالوا : يا سهل ما أعجبك إن السماء لتمطر دما والأرض لتنخسف بأهلها ، فقلت لهم ولم ذاك : فقالوا : هذا رأس الحسين بن علي يهدى من أرض العراق إلى يزيد بن معاوية ، فقلت : وا عجباه رأس الحسين والناس يفرحون كما أرى ، من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات ، فبينما نحن في الحديث وإنا بالرايات يتلو بعضها بعضا ، وفارس بيده رمح منزوع السنان عليه رأس الحسين (ع) من أشبه الناس وجها برسول الله (ص) ووراءه نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن وقلت : من أنت؟ قالت : أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها : ألك حاجة إلي؟ أنا سهل بن سعد ممن رأى جدك رسول الله ، قالت : يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يتقدم أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه عن النظر إلى حرم رسول الله (ص) ففعل وتم له ذلك. ثم دعا يزيد أشراف الشام ووجوهها وأجلسهم حوله وأمر بإدخال الإمام زين العابدين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال ، فقال له علي بن الحسين : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على مثل هذه الحالة ، فلم يبق أحد ممن كان حاضرا إلا بكى. التفت يزيد إلى علي بن الحسين وقال : أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت ، فقال علي بن الحسين : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ، فقال يزيد لابنه خالد : فلم يدر خالد ما يقول. فقال له يزيد : قل له ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. فقال له الإمام زين العابدين : يا بن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) وأبوك وجدك في أيديهم راية الكفار ، ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أبشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب. وروى الرواة أن يزيد بن معاوية أمر أحد أنصاره من المرتزقة عنده أن يصعد المنبر وينال من علي والحسين والحسن ويثني على معاوية فصعد الخطيب المنبر وأفاض في ذلك على معاوية ونال من علي والحسن والحسين (ع) ، فقال له الإمام السجاد : ويلك أيها المتكلم أتشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ، ثم التفت إلى يزيد وقال : أتسمح لي أن أصعد هذه وأتكلم بكلمات فيها لله رضا ولهؤلاء الجلوس أجر وثواب ، فلم يأذن له يزيد بذلك. فقال له من في المجلس : إئذن له يا أمير لنسمع ما يقول ، فرد عليهم يزيد بقوله : إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا الغلام ، فقال كما يزعم الرواة : إنه من أهل بيت زقوا العلم زقا. فلم يزالوا حتى أذن له فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:08 am | |
| أيها الناس لقد أعطينا ستا وفضلنا بسبع. أعطينا : العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة وفضلنا بأن النبي المختار (ص) منا ، والصديق منا ، والطيار منا ، وأسد الله وأسد رسوله منا والسيدة الزهراء منا وسبطا هذه الأمة منا ثم تابع قائلا : « أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى أنا ابن من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج البيت الحرام ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من سعى به جبريل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السما ، أنا ابن من أوحى الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى وعلي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وبايع البيعتين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين ... ولم يزل يقول ويعدد أنا أنا ... مآثر جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه أبي عبد الله الحسين ويذكر ما جرى في طف كربلاء حتى ضج الناس جميعا بالبكاء والنحيب حتى خشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه فأمر المؤذن بالأذان ليقطع حديث الإمام السجاد. فلما قال المؤذن : الله أكبر قال علي (ع) : لا شيء أكبر من الله ، ولما قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال الإمام (ع) : شهد بها لحمي ودمي وبشري وشعري ، ولما قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، التفت علي بن الحسين إلى يزيد بن معاوية وقال : محمد هذا جدي أم جدك ، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟! وأضاف الراوي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال ليزيد : من هذا الغلام؟ فقال : هو علي بن الحسين ، وسأله اليهودي عن جده وأبيه وأمه فأخبره بنسبه حتى انتهى إلى رسول الله (ص) فقال اليهودي : يا سبحان الله لقد قتلتم ابن بنت نبيكم بهذه السرعة بئس ما خلفتموه في ذريته ، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون الله ، وأنتم قد فارقتم نبيكم بالأمس ووثبتم على ابنه فقتلتموه فسوءة لكم من أمة. بعد المجزرة : يروي الرواة أن يزيد بن معاوية خيّر الإمام زين العابدين بين البقاء في الشام أو الرجوع إلى المدينة فاختار الرجوع إليها لأن له فيها ذكريات لا يمكن أن يمحى من ذاكرته ومن ذاكرة التاريخ عرج الموكب على كربلاء وكان فيها جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم قد شدوا الرحال لزيارة قبر الإمام الحسين فتلاقى الجميع بالبكاء والعويل وأقاموا المأتم واجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات ، وبعد أيام مضى الموكب في طريقه إلى المدينة. الإمام زين العابدين في المدينة : كانت المدينة تترقب أنباء سبط رسول الله بفارغ الصبر عندما خرج إلى الكوفة ملبيا نداء شيعته هناك. ولكن الذي راعها وأخذ منها صوت مناد ينادي : إن علي بن الحسين قد قدم إليكم مع عماته وأخواته ، إذا يا ترى أين الإمام الحسين؟ وأين النجوم الزاهرة والصحبة الطاهرة من بني الزهراء وآل عبد المطلب. انتشر الخبر ( النعي ) في كل الأرجاء حتى بلغ سفح أحد ، ثم ارتد إلى البقيع فقباء ، وما لبث أن تلاشى مع صراخ النائحين وعويل النائحات. لم تبق مخدرة في المدينة إلا خرجت من خدرها نائحة معولة. وأهل الركب الحزين يشاهدون الجموع التي خرجت لاستقباله. حزنت مدينة الرسول حزنا عميقا على العترة الطاهرة وأقامت أياما بلياليها تشهد المأتم الرهيب لا يعكر صفوها سوى اليتامى والأرامل والثكالى يسعين كل يوم إلى القبور فيبكي لهن الأصدقاء والأعداء. زوج الإمام علي (ع) كانت تخرج إلى البقيع لتبكي أبناءها الأربعة : عبد الله وعثمان وجعفرا والعباس. وتندبهم بندبة حزينة تحرق قلب كل من سمعها ، حتى قلب مروان بن الحكم ، عدو الطالبيين. والرباب عادت بعد مصرع أبيها إلى المدينة وبقيت تنوح وتبكي سنة حتى ضعفت وماتت. وأما السيدة زينب بطلة كربلاء فدموعها غزيرة جدا لأن اللهيب في قلبها أطفأ تلك الدموع فهبت تطلب ثأرا ، لأن هذا الدم المسفوح لا ينبغي أن يضيع هدرا كان وجودها في المدينة كافيا لأن يلهب القلوب المؤمنة بالحق على الشهداء ، ويؤلب الناس على حكم الطغاة وجورهم ، وهذا ما ضايق الحكام الأمويين ، فكتبوا إلى واليهم في المدينة : « إن وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر وإنها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين » عندها أمره الطاغية يزيد أن يفرق البقية الباقية من آل البيت في الأقطار والأمصار (1). ولما علمت 3 بالخبر قالت غاضبة : « وقد علم والله ما صار إلينا قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام وحملنا على الأقتاب فو الله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا ». لم تعش السيدة زينب (ع) بعد مقتل أخيها الحسين الشهيد وإمام الشاهدين سوى عام ونصف العام ، لكنها استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تقلق مضاجع الأمويين وتغيّر مجرى التاريخ. لقد ظن حكام بني أمية أن __________________ (1) بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطىء. مقتل الحسين يسدل الستار على الفصل الأخير على المسرحية الكربلائية وما نحسبه يسدل حتى تتبدل الأرض ومن عليها! الإمام الحسين (ع) باق في المهج والأرواح ، ومأساة الحسين مأساة إنسانية خالصة تأخذ بلب كل إنسان وتستثير مشاعر جميع الشرفاء. الحسين شهيد وإمام الشاهدين ، والشاهدية حضور تام في الذات والمجتمع والكون ، تولد منها الشهادة عملا لذلك الحضور. إن الغمامة المحملة بإيحاءات البحر ، ونسمات الفلك فتحت فمها لتقول كلمة الحق ، كلمة العودة إلى المنبع ، مثلما تئن الأوتار والنايات وتصفر العلائم الموسيقية منسلة من الجسد لتعود إلى قلب الأرض وهي تحدو حول الشمس حداء الصيرورة ، وهو في الوقت ذاته نشيد الحب الأكبر والجمال الأعظم والجلال المطلق. كلمة الحسين الشاهدة الملتزمة تقول الموت البطولي كما لم تقله شهادة في تاريخ الأرض ، لأنها عبارة جده الرسول الأعظم التي كتبها من فوح القرآن وسوف تبقى ما بقي أنبل إنسان ، ولا يستطيع أن يخفيها أو يغيّر مجراها بنو مروان أو بنو سفيان مهما تصعنوا في الظلم والبهتان. خطبته في المدينة : والناس يزدحمون حول فسطاطه وكان معه بشر بن حذلم ، خرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه. أخرج الخادم له كرسيا فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال : « الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، ملك يوم الدين ، بارىء الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم تابع قائلا : إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية. أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن أنهما لها وأي قلب لا يتصدع لقتله ، وأي فؤاد لا يحن إليه ، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم. أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق ، والله لو أن النبي (ص) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام. عندما سمع الجماهير خطابه هذا أثر في نفوسهم إلى حد بعيد فارتج المكان بالبكاء والعويل وشعر المسلمون بتلك الصدمة العنيفة التي أصابت الإسلام في الصميم. مما أثار في ضمائرهم الهامدة روح النضال والدفاع عن الحق المهدور ، ودب في نفوسهم الشعور بالإثم والتقصير ، فلم السكوت عن كرامتهم التي أصبحت تداس تحت أقدام يزيد الفاجر والمجرم بعد أن أقدم على قتل سبط الرسول وريحانته وسبى نسائه. من هنا كانت ثورة التوابين والمختار بن أبي عبيدة الثقفي فقد استماتوا لأخذ ثأر الدم المهدور وذلك للتكفير عن تخاذلهم عن نصرة الإمام الحسين والخضوع للظالمين. ثم استمرت الثورات تقودها روح كربلائية حطمت عروش الأمويين الطغاة وقامت بعدها دولة العباسيين. دخل الإمام زين العابدين المدينة وهو يكفكف دموعه ، فرآها موحشة يخيم على أهلها الحزن والأسى ، وديار أهله خالية تنعى سكانها فانصرف عن شؤون الناس ولم يكن يعنيه شيء من الدنيا ومن فيها. فشرع يبكي على أبيه المظلوم وعلى أخوته وعمومته الشهداء حتى عده المحدثون من البكائين. فماذا يعمل؟ أيأخذ بالثأر ، أم يصبر وفي العين قذى؟ إن الظروف لا تسمح له بأخذ الثأر وقد شاهد تلك المصيبة الفادحة والمؤلمة في كربلاء ، وأدرك أن وقعة الطف الدامية قد كفته أعباء الحرب بإظهارها ضلال الأمويين وظلمهم وطغيانهم. وهنا بعد أن تحمل أعباء الخلافة الإلهية من أبيه وأصبح حجة على خلقه ، آثر الاعتزال والبعد عن الضجيج ليحفظ دمه الذكي ودم شيعته الأبرار. روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : « البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد (ص) وعلي بن الحسين :. فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية. وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له : « تالله تفتىء تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ». وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له : إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحدة منهما. وأما فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تنقضي حاجتها. وأما علي بن الحسين فبكى على أبيه عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولاه : أما آن لحزنك أن ينقضي فقال له : ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحد ودب ظهره من الحزن وابنه حي في دار الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلا من أهل بيتي مضرجين بدمائهم حولي فكيف ينقضي حزني. وكان (ع) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه وأسرته في كربلاء ، وأحيانا كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جرى لأهل بيته ، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماء قبل ذبحها ، وعندما يسمعهم يقولون : إنا لا نذبح حيوانا قبل أن نسقيه ولو قليلا من الماء. فيبكي ويقول : لقد ذبح أبو عبد الله غريبا عطشانا فيبكون لبكائه حتى ترتفع الأصوات بالنحيب. كان إذا رأى غريبا في الطريق دعاه إلى ضيافته وطعامه ، ثم يبكي ويقول : لقد قتل أبو عبد الله غريبا جائعا عطشانا في طف كربلاء. إلى غير ذلك من المواقف التي كان يقفها بعد مقتل أبيه في السنين الأولى وذلك ليشحن النفوس بالحقد على الظالمين ويهيئها للثورة عندما يحين الوقت المناسب. كما ساهمت عمته زينب (ع) في هذا النوع من التحرك السياسي. هذا اللون من الحزن المتواصل يثير عواطف الجماهير ويغضبها ويدب فيها النقمة على يزيد الطاغية وجلاوزته المجرمين. إثر ذلك خيّم على المدينة جو من القلق ينذر بتفجير الموقف بين حين وآخر لقد استطاع الإمام زين العابدين وعمته العقيلة زينب (ع) تعبئة النفوس للثورة بترديدهما لتلك المأساة والنوح المتواصل الذي ألهب النفوس بانتظار الوقت المناسب للأخذ بالثأر. مواقف الإمام من الصحابة والعلماء : كان موقف الإمام (ع) من أصحابه وعلماء أهل زمانه النصح والإرشاد. ومراقبة أعمالهم وتقديم المشورة لهم تجاه أنفسهم وتجاه الأمة ، ليصحح الانحراف الذي يحصل عندهم ثم يدلهم على الموقف الإسلامي الصحيح للحوادث والسلوكيات وتوضيح مفاهيم الشريعة الإسلامية وأصولها حينما تلتبس عليهم الأمور ، فيجلي الأمر أمامهم ويوضح لهم حكم الله في المسائل واضحا جليا لا لبس فيه ، ثم يحذرهم من التقرب من الملوك ومداهنتهم أو تأييد الأشخاص غير المخلصين للإسلام والذين يقومون بثورات لأجل المنصب وكرسي الحكم لا لأجل رفع كلمة الله الواحد القهار وسوف نعطي مثلين على سبيل الذكر لا الحصر. موقف الإمام مع الحسن البصري : عمد الإمام إلى تصحيح سلوك العلماء وتقويم أخلاقهم وتوجيه النقد لهم بكل أدب واحترام ، فيحاور العالم حتى يعترف بخطئه ويقدم للإمام كل تقدير وتبجيل معترفا له بالآية الكريمة : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ آل عمران : الآية 24 ]. « رأى علي بن الحسين (ع) الحسن البصري عند الحجر الأسود يقص فقال : يا هذا أترضى نفسك للموت؟ قال : لا. قال : فعملك للحساب؟ قال : لا ، قال فثمّ دار للعمل؟ قال : لا ، قال : فلله في الأرض معاذ غير هذا البيت؟ قال : لا ، قال : فلم تشغل الناس عن الطواف!؟ ثم مضى. قال الحسن : ما دخل مسامعي مثل هذه الكلمات من أحد قط أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا : هذا زين العابدين. فقال الحسين : « ذرية بعضها من بعض » (1). موقف الإمام مع الزهري : كان للإمام (ع) مواقف رائعة تجاه الزهري حيث وضح له معالم الدين وحكمة التشريع. __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 132 عن المناقب ، ج 3 ، ص 297. « كان الزهري عاملا لبني أمية فعاقب رجلا فمات إثر العقوبة فخرج الزهري هائما متوحشا ودخل إلى غار ، فطال مقامه تسع سنين ، قال : وحج علي بن الحسين 7 فأتاه الزهري فقال له الإمام : إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك ، فابعث بديّة مسلمة إلى أهله واخرج إلى أهلك ومعالم دينك ، فقال له : فرّجت عني يا سيدي! الله أعلم حيث يجعل رسالته ورجع إلى بيته » (1). وفي رواية أخرى رواها سفيان بن عيينة عن الزهري ، يبيّن فيها الإمام للزهري أحكام الله ويفصلها له بصورة واضحة كاملة. من ذلك القول في الصوم أقسامه والواجب منه وغير الواجب وكل ما يتعلق بأحواله. وقد ورد تفصيل ذلك في باب سابق. موقف الإمام (ع) من الأمة : اهتم الإمام (ع) اهتماما واسعا كبيرا بشؤون أمته فاتبع أساليب متنوعة وذلك حسب الظروف والأحوال وحسب الجماعات والأشخاص نذكر من هذه الأساليب : أ ـ تفقد شؤون الأمة : اهتم الإمام بكل ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية في حياتها المعنوية كما في حياتها المادية. فكان 7 يتفقد شؤون الفقراء والمساكين لأنه كان يحبهم ويشفق عليهم فيجالسهم ويستمع إلى مشاكلهم ... وكان يخرج ليلا يحمل على ظهره الغذاء والطعام والطحين وكل ما تحتاج إليه العائلة ، وقد غطى وجهه لئلا يعرفه أحد ، فيطرق باب المساكين بابا بابا ويعطيهم رزق الله ... وقد ترك هذا العمل آثارا على ظهره ، اكتشف بعد __________________ (1) المصدر السابق ، ص 132. وفاته حين غسلوه وكفنوه 7. فكان الإمام بهذا العمل يعيش الهاجس الروحي مع الأمة ويستشعر المسؤولية الكبرى تجاهها إذعانا منه لحديث جده رسول الله (ص) : « من أصبح ولم يهتم بشؤون المسلمين فليس بمسلم » ... وعن عمر بن ثابت قال : لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره فقالوا : ما هذا؟ فقالوا : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة » (1). وعن شبيبة بن نعامة قال : كان علي بن الحسين (ع) يقوّت مائة أهل بيت بالمدينة ، وكانوا يعيشون ولا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون بالليل ... ب ـ مواجهة المشبهة والملحدين : وكما تصدى الإمام 7 للانحراف الأخلاقي لدى الأمة الإسلامية تصدى أيضا للانحراف العقائدي والفكري الذي طرأ على فكر بعض قطاعات الأمة من فئات خبيثة منحرفة عن الخط الإسلامي السليم. كان (ع) يقاوم هذا الانحراف بكل ما يملك من جهود حتى وصل به الحد إلى الارتياع من هذه الانحرافات في الفكر والعقيدة. فنراه (ع) في مسجد رسول الله (ص) ذات يوم إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ففزع لذلك وارتاع ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله (ص) فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربه ومما قاله في مناجاته : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك فجهلوك وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به شبّهوك ، وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك إلهي ولم يدركوك فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن يناولوك بل سوّوك بخلقك فمن __________________ (1) الإرشاد للمفيد ، ج 2 ، ص 153. ثمّ لم يعرفوك. واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك » (1). لقد حارب الإمام زين العابدين المشبهة والملحدين بالدعاء ، هذا الأسلوب الذي هو الصفة المميزة له في تلك الظروف هو أسلوب غير مباشر (2) ، وهو المفضل والمؤثر أكثر في التبليغ وقد استعمله النبي إبراهيم الخليل 7 في تذكير قومه بانحرافهم عن عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم التي سرعان ما تزول وتأفل : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ : هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ الأنعام : 76 ـ 80 ]. ج ـ التربية والتثقيف : اتخذ الإمام السجاد جانب الموعظة والإرشاد ركنا أساسيا في مسيرته الحياتية في تبليغ الأمة الإسلامية ، فنراه تارة يلقي الخطب والمواعظ بصورة عامة ، وتارة أخرى نجده يخصص جلسات خاصة ومواعيد ثابتة لأصحابه يوجههم ويؤهلهم ويربيهم لتحمل الأمانة ، والتكليف الشرعي ، والتزام المسؤولية الاجتماعية ، فكان له موعد مع أصحابه في كل يوم جمعة يوعظهم ويذكرهم ويبلغهم ما هم عليه قادمون ، وما هم عنه مسؤولون. وقد استخدم الإمام (ع) أسلوب الدعاء استخداما ناجحا في تربية الأمة وتوجيهها الوجهات الصحيحة في الأخلاق والاجتماع والسياسة والدين ، وسوف نعرض في فصل لاحق أثر الدعاء في تربية الأمة وتثقيفها. __________________ (1) الإرشاد للمفيد ، ج 2 ، ص 153. (2) أسلوب نعبر عنه « إيّاك أعني واسمعي يا جارة ». د ـ تحديد العلاقة مع أهل البيت (ع) : اختلف الناس في حبهم وفي بغضهم لأهل البيت (ع) فبعضهم أبغضهم حتى عدهم من الخوارج ، والبعض الآخر أحبهم حتى ألههم ، وقد تعرض أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) لمثل هذه الحالات ، فكان يخطب بين الجموع التي تجتمع تحت منبره وتسمع ما يقول : أشهد أنك أنت الله ، وفي الطرف الآخر من يقول : لله درّك كاذبا » (1). ويروى أنه مر بجماعة كانوا يأكلون في شهر رمضان ، فسألهم أعن سفر أم مرض؟ وحذرهم من النار. فأجابوه : أندخل النار وأنت وأنت ، فنزل عن دابته وسجد وقال : أنا عبد من عبيد الله ... وقد شاهد الإمام زين العابدين (ع) فئة من شيعته قد أوغلوا في حبهم حتى أخرجهم عن الصراط السوي وعن خط الإسلام السليم. فتحول الحب لأهل البيت (ع) إلى غلو ثم تأليه وبالتالي إضفاء صفات عليهم ما أنزل الله بها من سلطان. فما كان من الإمام إلا أن يقاومهم بحزم ويجابههم بكل ما يملك من أساليب ، فأفهمهم وأرشدهم بأن عملهم هذا هو انحراف عن الإسلام وبعيد كل البعد عن خط أهل البيت (ع) ، خط الرسول الأعظم (ص) حب فيه عيب عليهم ومنقصة لهم. روى ابن شهاب الزهري قال : حدثنا علي بن الحسين (ع) وكان أفضل هاشمي أدركناه ، قال : « أحبونا حب الإسلام ، فما زال حبكم لنا حتى صار شينا علينا » (2). أي أحبونا حبا يكون موافقا لقانون الإسلام ولا يخرجكم عنه ، ولا زال حبكم لنا حتى أفرطتم وقلتم فينا ما لا نرضى به ، فصرتم شينا وعيبا علينا ، حيث يعيبوننا الناس بما تنسبون إلينا. __________________ (1) دراسات في نهج البلاغة للشيخ محمد مهدي شمس الدين. (2) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 73 ، عن إرشاد المفيد ، ص 271. وفي رواية أخرى « عن علي بن الحسين (ع) قال : يا معشر أهل العراق ، يا معشر أهل الكوفة ، أحبونا حب الإسلام ولا ترفعونا فوق حقنا » (1). فكلام الإمام واضح تمام الوضوح في الطلب من الشيعة أن يحبوا أهل البيت (ع) حب الإسلام بحيث لا يخرجهم هذا الحب عن إطار الإسلام ، وعن صورة الإيمان ، وحدود الشريعة الإسلامية ومن يخرج عن هذه الحدود فقد خرج بطبيعة الحال عن الإسلام. شعره عرف بعض الحكماء الشعر فقالوا : الشعر إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال. وقال آخرون : الشعر هو الحق ينقله الشعور حيا إلى القلب فالتعريف الأول يصح أن يكون للفن الأدبي بضربيه الشعر والنثر. والتعريف الثاني يخاطب العقل والشعور معا. فالوزن والقافية والاتصال بالشعور من الشروط اللازمة في قول الشعر. والإمام السجاد قال الشعر صادرا عن عقله وشعوره معا ونابعا من تجاربه ومعاناته في الحياة. وكل شعره جاء في المناجاة والأخلاق والدعوة إلى الخير والفخر ، والنهي عن الشر والأمر بمكارم الأخلاق. ولا غرو فالإمام زين العابدين (ع) من الذين كرسوا حياتهم من أجل الحق والفضيلة وتقويم الانحراف والجهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام. وهذه مقتطفات من شعره : قال في إحدى مناجاته التي ترتعد منها الفرائص : « يا نفس حتى م إلى الدنيا سكونك ، وإلى عمارتها ركونك أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن رواته الأرض من ألاّفك؟ ومن __________________ (1) حلية الأولياء ، ج 3 ، ص 137. فجعت به من إخوانك؟ خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقابر فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دوائر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر فكم خرمت أيدي المنون من قرون ، وكم غيرت الأرض ببلائها وغيبت في ترابها ممن عاشرت من البشر وشيعتهم إلى القبور ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس. ثم يتابع في نصحه لأهل الدنيا : وأنت على الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر على خطر تمسي وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر وإن امرءا يسعى لدنياه جاهدا ويذهل عن أخراه لا شك خاسر فحتى م على الدنيا إقبالك؟ وبمغرياتها اشتغالك؟ وقد أسرع إلى قذالك الشيب البشير ، وأنذرك النذير ، وأنت ساه عما يراد بك ولاه عن غدك وقد رأيت بأم عينك انقلاب أهل الشهوات ، وعاينت ما حل بهم من المصائب والنكبات. وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى عن اللهو واللذات للمرء زاجر أبعد اقتراب الأربعين تربص وشيب قذال منذ ذلك ذاعر كأنك معني بما هو صائر لنفسك عمدا أو عن الرشد حائر فحول نظرك إلى الأمم الماضية والقرون الخالية كيف اختطفتهم عوادي الأيام فأفناهم الحمام ، فأمحت من الدنيا آثارهم وأصبحوا رمما تحت التراب إلى يوم الحشر والحساب. وأضحوا رميما في التراب وأقفرت مجالس منهم عطلت ومقاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم وأنى لسكان القبور التزاور فما أن ترى إلا قبورا ثووا بها مسطحة تسفي عليها الأعاصر ثم يحذر (ع) المتكبرين ويعظ الملوك الجبارين الذين نزل بهم ما لا يصد فتعالى الله العزيز القهار ، مبيد المتكبرين وقاصم الجبارين الذي ذل لعزه كل سلطان ، وباد بقوته كل ديان : مليك عزيز لا يرد قضاؤه حكيم عليم نافذ الأمر قاهر عنا كل ذي عز لعزة وجهه فكم من عزيز للمهين صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت لعزة ذي العرش الملوك الجبابر ويتابع (ع) تحذيره للناس عامة من الدنيا ومكائدها ، وما نصبت للناس من مصائبها ، وتحلت لهم من زينتها وأظهرت لهم من بهجتها ومن شهواتها وأخفت عنهم من مكائدها وقواتلها : وفي دون ما عينت من فجعاتها إلى دفعها داع وبالزهد آمر فجد ولا تغفل وكن متيقظا فعما قليل يترك الدار عامر فشمّر ولا تفتر فعمرك زائل وأنت إلى دار الإقامة صائر ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها وإن نلت منها غبه لك ضائر وما دام اللبيب على ثقة من زوال الدنيا وفنائها ، فلماذا يحرص عليها ويطمع في بقائها ، وكيف تنام عينه وتسكن نفسه وهو يتوقع الممات في جميع أموره!! إلا له ، ولكنا نغر نفوسنا وتشغلنا اللذات عما نحاذر وكيف يلذ العيش من هو موقن بموقف عدل يوم تبلى السرائر كأنا نرى أن لا نشور ، وإنما سدى ما لنا بعد الممات مصادر وبعد الوقوع في الخطايا وانغماسه في الرزايا يبكي على ما سلف ويتحسر على ما فاته من دنياه ، فيشرع بالاستغفار حين لا ينجيه لا استغفار ولا اعتذار من هول المنية ونزول البلية : أحاطت به أحزانه وهمومه وأبلس لما أعجزته المقادر فليس له من كربة الموت فارج وليس له مما يحاذر ناصر
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:09 am | |
| وقد جشأت خوف المنية نفسه ترددها منه اللها والحناجر فتذكر أيها الإنسان الحالة التي أنت صائر إليها لا محالة ، فإنك منقول إلى دار البلى ومدفوع إلى هول ما ترى : ثوى مفردا في لحده وتوزعت مواريثه أولاده والأصاهر واحنوا على أمواله يقسمونها فلا حامد منهم عليها وشاكر فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها ويا آمنا من أن تدور الدوائر ولم تتزود للرحيل وقد دنا وأنت على حال وشيك مسافر فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي وعمري فان والردى لي ناظر وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت يجازي عليه عادل الحكم قادر تخرب ما يبقى وتعمر فانيا فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر وهل لك إن وافاك حتفك بغتة ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ودينك منقوص ومالك وافر روى الزهري قال : كان علي بن الحسين 7 يناجي ربه تعالى ويقول : « قل لمن قل عزاؤه ، وطال بكاؤه ، ودام عناؤه ، وبان صبره ، وتقسم فكره ، والتبس عليه أمره ، من فقد الأولاد ، ومفارقة الآباء والأجداد ، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد؟. تعز فكل للمنية ذائق وكل ابن أنثى للحياة مفارق فعمر الفتى للحادثات دريئة تناهبه ساعاتها والدقائق كذا نتفانا واحد بعد واحد وتطرقنا بالحادثات الطوارق وفيم وحتى م الشكاية والردى جموح لآجال البرية لاحق فكل ابن أنثى هالك وابن هالك لمن ضمنته غربها والمشارق فلا بد من إدراك ما هو كائن ولا بد من اتيان ما هو سابق فما للإنسان والخلود إلى دار الأحزان والهوان ، وقد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرحمن ، ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ). فالشباب للهرم ، والصحة إلى السقم ، والوجود إلى العدم ، فلماذا التلهف والندم وقد خلت من قبلنا الأمم : أترجو نجاة من حياة سقيمة وسهم المنايا للخليقة راشق سرورك موصول بفقدان لذة ومن دون ما تهواه تأتي العوائق وحبك للدنيا غرور وباطل وفي ضمنها للراغبين البوائق فأين السلف الماضون وأين الأهلون والأقربون ، وأين الأنبياء المرسلون فقد طحنتهم المنون ، وفقدتهم العيون وإنا إليهم صائرون. فإنا لله وإنا إليه راجعون. إذا كان هذا نهج من كان قبلنا فإنا على آثارهم نتلاحق فكن عالما أن سوف تدرك من مضى ولو عصمتك الراسيات الشواهق فما هذه دار المقامة فاعلمن ولو عمر الإنسان ما ذر شارق فتأمل وتبصر واسأل أين من بنى القصور وهزم الجيوش وجمع الأموال ، أين ملوك الفراعنة والأكاسرة والغساسنة؟ كأن لم يكونوا أهل عز ومنعة ولا رفعت أعلامهم والمناجق ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا ولا أخذت منهم بعهد مواثق وروى طاووس الفقيه قال : رأيت زين العابدين (ع) يطوف بالبيت من العشاء إلى السحر ويتعبد ثم قال : « ... إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربي؟ ثم أنشأ يقول : أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثم أين محبتي أتيت بأعمال قباح ردية وما في الورى خلق جنى كجنايتي وحدث عبد الله بن المبارك أنه كان في بعض السنين يساير الحاج إذ رأى صبيا سباعيا أو ثمانيا يسير في ناحية الحاج بلا زاد ولا راحلة فقال له : مع من قطعت البر؟ فقال : مع الباري جل شأنه ، فسأله عن راحلته وزاده فأجابه : بأن زاده تقواه وراحلته رجلاه وقصده إلى مولاه سبحانه وتعالى ، فكبر في عينه وازداد تعجبه فتشوق إلى استكشاف نسبه فقال : هاشمي علوي فاطمي. وكان هذا يفسر مواهبه الأدبية فسأله عن معرفته بالشعر فاستنشده من شعره فقال : لنحن على الحوض رواده نذود ونسقي وراده وما فاز من فاز إلا بنا وما خاب من حبنا زاده ومن سرنا نال منا السرور ومن ساءنا ساء ميلاده ومن كان غاصبنا حقنا فيوم القيامة ميعاده ثم فارقه ولم يشاهده إلا بالأبطح ، فرآه جالسا وحوله جماعة يسألونه عما أبهم عليهم من الحلال والحرام وما أشكل عليهم فإذا هو زين العابدين (ع) ومما يروى له صلوات الله عليه قوله : نحن بنو المصطفى ذوو غصص يجرعها في الأنام كاظمنا عظيمة في الأنام محنتنا أولنا مبتلى وآخرنا يفرح هذا الورى بعيدهم ونحن أعيادنا مآتمنا والناس في الأمن والسرور وما يأمن طول الزمان خائفنا وما خصصنا به من الشرف ال طائل بين الأنام آفتنا يحكم فينا والحكم فيه لنا جاحدنا حقنا وغاصبنا (1) ذكر الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ __________________ (1) راجع زين العابدين للمقرم عن مناقب ابن شهر آشوب ، ج 2 ، ص 255. وبحار الأنوار ، ج 11 ، ص 26. النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (1). علم الأسرار والحقيقة ثم قال أشار إلى هذا رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال : إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا (2) وذكر ابن شهر آشوب في المناقب أن الأصمعي قال : كنت أطوف ليلة بالبيت الحرام فإذا شاب ظريف عليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول نامت العيون إلى أن قال : يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام وفدك حول البيت قاطبة وأنت وحدك يا قيوم لم تنم أدعوك ربي دعاء قد أمرت به فارحم بكائي بحق البيت والحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم (3) وقال 7 مخاطبا الحكام الظالمين : لكم ما تدعون بغير حق إذ ميز الصحاح من المراض عرفتم حقنا فجحدتمونا كما عرف السواد من البياض كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضيا الإله فنعم قاض (4) وقال 7 ليزيد بن معاوية : لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا والله يعلم إنا لا نحبكم ولا نلومكم أن لا تحبونا __________________ (1) المناقب ، ج 3 ، ص 268. (2) المائدة ، الآية 67. (3) زين العابدين للمقرم ، ص 258. (4) المناقب ، ج 2 ، ص 252. قال : صدقت يا غلام ، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين ، والحمد لله الذي قتلهما وسفك دماهما. فقال 7 : لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد (1). ومن الأشعار المنسوبة إلى الإمام زين العابدين مقطوعتين من المناجاة المنظومة ذكر أنهما وجدتا بخط بعض العلماء. الأولى : ألم نسمع بفضلك يا منايا دعاء من ضعيف مبتلاء (2) غريقا في بحار الغم حزنا أسيرا بالذنوب والخطاء أنادي بالتضرع كل يوم مجدا بالتبتل والدعاء لقد ضاقت علي الأرض طرا وأهل الأرض ما عرفوا دوائي فخذ بيدي إني مستجير بعفوك يا عظيم ، ويا رجائي أتيتك باكيا فارحم بكائي حيائي منك أكثر من خطائي ولي هم وأنت لكشف همي ولي داء وأنت دواء دائي وأيقظني الرجاء فقلت ربي رجائي أن تحقق لي رجائي تفضل سيدي بالعفو عني فإني في بلاء من بلاء والثانية : إليك يا رب قد وجهت حاجاتي وجئت بابك يا ربي بحاجاتي أنت العليم بما يحوي الضمير به يا عالم السر علام الخفيات اقض الحوائج لي ربي فلست أرى سواك يا رب من قاض لحاجاتي __________________ (1) بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 42. (2) هذه الأبيات نسبها السيد حسن النوري في الصحيفة السجادية الرابعة إلى الإمام (ع). وهكذا كما ترى اختلال الوزن والركة في المعنى والنظم ظاهرة بوضوح. والذي أراه أن كلا المقطوعتين وما يشبههما من الشعر الركيك من الموضوعات على الإمام 7 ، إذ كيف تنسب للإمام مثل هذه الأبيات المفككة الركيكة التي تخلو من أية مسحة أدبية أو بلاغية ، وهو صاحب الشأن الأدبي الرفيع يكفيه فخرا أنه صاحب الصحيفة السجادية التي لم يؤثر في الكلام العربي مثل فصاحتها وبلاغتها. كما نسب إلى الإمام زين العابدين ديوان شعر حافل بالنصائح والمواعظ وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين بخط السيد أحمد بن الحسين الجزائري ، وقع الفراغ من كتابتها سنة 1358 ه وقد استنسخها عن نسخة بخط السيد محمد بن السيد عبد الله الشوشتري المتوفى سنة ( 1283 ه ). وقد نشره الدكتور حسين علي محفوظ في مجلة البلاغ العدد الثامن من السنة الأولى ص 24 وقال في تقديمه له : « ينسب إلى السجاد 7 387 بيتا من الشعر جمعها شيخنا المرحوم محمد علي التبريزي المدرس المتوفى سنة ( 1373 ه ) من كتاب التحفة المهدية المطبوع في تبريز سنة 1357 ه وهو القسم الثاني من ديوان المعصومين الذي سماه : الدر المنثور ، وقد أهدى إلي صديقنا الباحث الفاضل الكريم مرتضى المدرس نسخة خطية من شرح ديوان السجاد (ع) مكتوبة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري فيه 29 مقطوعة من بحر الوافر ذوات خمسة أبيات مرتبة على الهجاء عدتها 145 بيتا ، وإذا صح أن ينسب شيء من الشعر إلى الإمام فالظن كل الظن أن في المضامين إليه من المنظوم ما هو قيد كلماته ، ونظم معانيه ، واتباع منهجه ، ودليل سيرته ، واقتداء بهداه .. ». ولا يخالني الشك في عدم صحة نسبة هذا الديوان إلى الإمام زين العابدين (ع) لا لمعانيه وإنما لركاكة ألفاظه وضعف صياغته. والذي يطالع للإمام ما أثر عنه من غرر الحكم والآداب يجد أن الإمام قد استعمل أفصح الألفاظ وأبلغها ، وأعذب الأسلوب وأكثره جاذبية للقارىء. فقد كان 7 من أفصح بلغاء الأمة العربية على الإطلاق. وما أذهب إليه أنه ليس من نظم الإمام (ع) وإنما نظمه بعض المعجبين بمواعظه وحكمه ونسبه إليه. لكن هذا الناظم لا يجيد النظم ، فقد صاغ أغلب الأبيات بألفاظ ركيكة تخلو من حسن الديباجة وجمال الأسلوب. ومن آثار الإمام زين العابدين المخطوطة ذكر الدكتور حسين علي محفوظ أن للإمام مصاحف تنسب إلى خطه الشريف توجد في مكاتب شيراز وقزوين وأصفهان ومشهد (1). التكافل الاجتماعي كان الإمام 7 يحث أصحابه وشيعته على المواساة فيما بينهم والإحسان إلى الآخرين لأن ذلك خير ضمان لوحدتهم واجتماع كلمتهم ، وقد أثر عنه وعن الأئمة الأطهار الكثير من النصائح الرفيعة في هذا الشأن وهذه بعض منها : قال 7 : 1 ـ « من قضى لأخيه حاجة قضى الله له مائة حاجة ، ومن نفّس عن أخيه كربه نفّس الله عنه كربه يوم القيامة بالغا ما بلغت ، ومن أعانه على ظالم له ، أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام ، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسر بقضائها ، كان كإدخال السرور على رسول الله (ص) ، ومن سقاه من ظمأ ، سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن كساه من عري ، كساه الله من استبرق وحرير ، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على __________________ (1) مجلة البلاغ العدد السابع السنة الأولى ، ص 59. المسكي من الثوب سلك ، ومن كفاه ما أهمه أخدمه الله من الولدان ، ومن حمله على راحلة بعثه الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة ، ومن كفنه عند موته كساه الله يوم ولدته أمه إلى يوم يموت ، ومن زوجه زوجة يأنس بها ، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه ، ومن عاده في مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف ، وتقول : طبت ، وطابت لك الجنة .. والله لقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام .. » (1) يحفل هذا الحديث بتعاليم إنسانية رفيعة المستوى تدعو المسلمين إلى التعاون والتضامن والمحبة ، مما يمتن أواصر المودة والرحمة والتعاطف بينهم. ويعتبر هذا الحديث وأمثاله من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام ، فالمسلم أخ المسلم يشعر معه في أفراحه ويساعده في أتراحه ويعمل من أجل سعادته بكل ما يستطيع بالمال أو اليد أو اللسان وهو أضعف الإيمان. 2 ـ وقال 7 في المؤاساة والإحسان لضمان وحدة المسلمين : « إن أرفعكم درجات وأحسنكم قصورا وأبنية (2) ، أحسنكم إيجابا للمؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم ، إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة (3) طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ألف عام يقدمه ، وإن كان من المعذبين بالنار ، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره .. » (4). في هذا الحديث الطيب حث الإمام (ع) المسلمين ليعملوا على __________________ (1) ثواب الأعمال ، ص 81. (2) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 44. والقصور يعني في الجنة. (3) راجع سورة إبراهيم ، الآية 24 ـ 26. (4) تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 44. مواساة الفقراء والإحسان إليهم ، وذكر ما يترتب عليه من الأجر الجزيل عند الله. وعد من المواساة الكلمة الطيبة التي يقدمها الإنسان المسلم لأخيه المسلم ، فإذا لم يكن لديه مالا يساعد به المحتاجين فيمكن مساعدتهم بيده ، وإذا تعذر عليه ذلك فباستطاعته مساعدتهم ومواساتهم بفكره ، بكلمة طيبة تفيدهم وتهديهم وتطيب خاطرهم. وقد عد هذا الأمر واجب شرعي على المسلمين. 3 ـ وقال الإمام 7 : « من بات شبعانا وبحضرته مؤمن جائع طاو فإن الله تعالى يقول لملائكته : اشهدوا على هذا العبد ، أمرته فعصاني ، وأطاع غيري ، فوكلته إلى عمله ، وعزتي وجلالي لا غفرت له أبدا .. » (1). في هذا الحديث تأكيد صريح على عاتق كل مسلم تجاه إخوانه في الإيمان ، فعليه أن يشعر معهم في محنهم ومصائبهم وحرمانهم في مجتمعهم الظالم الذي كان يحكمه حكام طغاة. كما يمكن أن نعد هذا الحديث وأمثاله مما أثر عن أئمة أهل البيت (ع) من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام ، ليقضي بصورة جازمة على الفقر والحرمان في المجتمع الإسلامي. 4 ـ ولم يكتف الإسلام بحث المسلمين على مساعدة إخوانهم في الدين ، بل يحاسبهم على تقصيرهم إذا ما حصل. قال الإمام زين العابدين 7 : « من أطعم مؤمنا حتى يشبع ، لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا الله رب __________________ (1) زين العابدين للقرشي عن عقاب الأعمال ، ص 30. العالمين .. وأضاف 7 : « من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان ، ثم تلا قوله تعالى : ( أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (1). إن إطعام الجائع ودفع السغب عنه ضرورة إسلامية ملحة يسأل عنها الإنسان المسلم ويحاسب عليها ، وبصورة خاصة إذا كان الفقير بحاجة ماسة إلى الطعام. فمساعدة المعوزين توطد العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وتحيي في نفوسيهم المحبة ، مصدر كل خير وعطاء. ثم يمكن اعتبار ما ينفق على المحتاجين في هذا المجال من الصدقات والصدقة زكاة وهي ركن أساسي من فروع الدين الإسلامي. من هنا كان الواجب الشرعي يقضي على المسلمين المؤمنين مساعدة إخوانهم وقضاء حوائجهم. 5 ـ وفي ذلك قال الإمام السجاد 7 : « من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسى مؤمنا من عري ، لم يزل في ستر الله وحفظه ما بقيت منه خرقة .. » (2). يحرص الإسلام كل الحرص على شد أزر المسلمين وتضامنهم صفا واحدا لدرء الظلم عنهم والوقوف في وجه الظالمين ، والمنحرفين ، وليس لهم ذلك إلا بمساعدتهم لبعضهم البعض وسد حاجات إخوانهم في الإيمان مهما كانت المساعدات بسيطة. __________________ (1) البلد ، الآية 12 ـ 13 ـ 14. والسغبان : الجائع. (2) المؤمن ، ص 19 للحسين بن سعيد الأهوازي من مخطوطات السيد الحكيم تسلسل 196 ، وقد قامت بتحقيقه ونشره مدرسة الإمام المهدي في قم ( عج ) سنة 1404 ه ـ وقد ورد هذا الحديث تحت رقم 159 ، ص 62. راجع زين العابدين للقرشي ، ص 81. 6 ـ صلة الأرحام : دعا الإسلام إلى صلة الأرحام وحث المسلمين على العلم بها وحذر من قطيعتها وذلك لما يترتب عليها من التواصل والمحبة إذا وصلت ، ومن المضاعفات السيئة إذا قطعت ، والإمام زين العابدين (ع) حث على صلة الأرحام فقال : « من سره أن يمد الله في عمره ، وأن يبسط له في رزقه ، فليصل رحمه ، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول : يا رب صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى سفل قعر في النار .. » (1). لقد تواترت الأخبار عن الأئمة المعصومين : في الحث على صلة الأرحام ، فالذي يصل رحمه يمد الله في عمره ، ويزيد في رزقه ويكسب الأجر الجزيل في الدار الآخرة. وصلة الأرحام توجب تماسك المجتمع وشيوع المحبة والمودة والصفاء بين المسلمين ، وذلك من أهم ما يدعو إليه الإسلام. إن هذه المبادىء الإنسانية الرفيعة التي دعا إليها الإسلام ورفع شعارها تمثل الجوهر الحقيقي له ، ولو طبقها المسلمون على واقع حياتهم لأصبحوا سادة الأمم وقادة الشعوب ولساد الأمن والأمان والسلم والسلام على الدنيا بأسرها. الإسلام دين إنساني يراعي مصالح الإنسان في كل مكان ليعيش عيشة حرة كريمة ، ويعمل على تنوير بصائر الناس ليكسبوا أجر الدارين الدنيا والآخرة. فهل يفقه المسلمون جوهر إسلامهم اليوم؟ وهل يعقلوا أن بعدهم عن الوحدة الإسلامية يعني بعدهم عن الخط الإسلامي الذي رسمه لهم النبي الأكرم في دعوته المباركة؟ إن عزة المسلمين تكمن في تعاونهم على البر والتقوى ، وفي تآلفهم ورص صفوفهم صفا واحدا ليستطيعوا __________________ (1) البحار واللسان الذلق : اللسان الفصيح. الوقوف في وجه أعداء الله وأعداء الإنسانية عامة. وهذا أمر سهل جدا لو تنازلوا عن حبهم للمنصب وتعلقهم في هذه الدنيا الفانية. من هنا كان نداء الإسلام لأهل الفضل وما يستحقون من خير وجزاء. ولهذا حثّ الإمام زين العابدين (ع) أصحابه ودعاهم إلى إسداء الفضل وعمل المعروف إلى الناس كافة. قال (ع) : 7 ـ « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم أهل الفضل ، فيقوم ناس قبل الحساب ، فيقال لهم : إنطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم إلى أين؟ فيقولون : إلى الجنة ، فإذا سألوهم عما استحقوا ذلك ، يقولون : كنا إذا جهل علينا حلمنا ، وإذا ظلمنا صبرنا ، وإذا أسيء إلينا غفرنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد : ليقم أهل الصبر ، فيقوم ناس ، فيقال لهم : إنطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم مثل الأول. فيقولون : صبرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبرناها عن معصية الله عز وجل ، فيقولون لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد : ليقم جيران الله عز وجل ، فيقوم ناس ، فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة فتسألهم الملائكة عما استحقوا ذلك ، وما مجاورتهم لله عز وجل؟ فيقولون : كنا نتزاور في الله ، ونتجالس في الله ، ونتبادل في الله ، فيقولون : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .. » (1). يدعو الإمام (ع) في هذا الحديث الشريف المسلمين خاصة إلى إسداء المعروف إلى الناس عامة والتحلي بمكارم الأخلاق التي توجب رفع مستوى الإنسان إلى أرفع الدرجات ، وبلوغه ذروة الشرف والكمال التي أرادها له رب العالمين. قال الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ __________________ (1) تاريخ اليعقوبي ، ج 3 ، ص 46. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ .. ) (1). والأمر بالمعروف حث عليه الإمام زين العابدين فقال (ع) : 8 ـ « التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره ، إلا أن يتقي تقاه ، فقيل له : ما تقاته؟ قال : يخاف جبارا أن يفرط عليه ، أو أن يطغى .. » (2). فكما نرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المبادىء الإسلامية البارزة التي تبناها الإسلام بصورة إيجابية وذلك من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية بين الناس ، ويزول الظلم والطغيان عن عباد الله ، فلا يبقى منكر ولا اعتداء على واقع الحياة العامة بين البشر. وقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى : على ضرورته ولزومه. وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العملية شروط القيام بهذا الواجب الإسلامي الخطير والهام في بناء مجتمع إسلامي عظيم يعيش موفور الكرامة عزيز الجانب. * * * __________________ (1) آل عمران ، الآية 110. (2) طبقات ابن سعد ، ص 2135. مؤلفات الإمام زين العابدين 7 إن أول من ألف في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت : والعلماء العظام من شيعتهم ، فهم الرواد الأوائل في الميدان الأدبي والاجتماعي والديني ، الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والمعرفة والحكمة في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية. وما نلفت إليه أن مؤلفاتهم وسائر بحوثهم لم تقتصر على علم خاص ، وإنما تناولت جميع أنواع العلوم التي يحتاج إليها الإنسان ، في حياته الخاصة والعامة والتي تفيده في دنياه وآخرته. فقد ألفوا في علوم كثيرة منها : الفقه ، والتفسير ، والحديث ، والأصول ، والصرف والنحو ، والكلام ، والفلسفة والحساب ، والتاريخ والفلك ... وإلى جانب هذه العلوم وضعوا قواعد هامة في الأخلاق الإنسانية ، وآداب السلوك الفردية والاجتماعية وأصول التربية الوطنية. وكان أول الرواد الذي سبق في هذا المضمار رائد الأمة الفكرية والعلمية والأدبية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 الذي فتق أبواب العلوم العقلية والنقلية والتربوية وأسس أصولها وقواعدها. يقول العلامة المعروف عباس العقاد : « إن الإمام أمير المؤمنين (ع) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علما ، فوضع قواعدها وأرسى أصولها » (1). ومن الذين ألّفوا من الأئمة الطاهرين الإمام زين العابدين 7 ، فقد كانت مؤلفاته نموذجا فريدا لتطور الفكر الإسلامي وتقدم الحركة العلمية والثقافية في العالم العربي. 1 ـ الصحيفة السجادية هي من ذخائر التراث الإسلامي ، ومن مناجم المباحث البلاغية والأخلاقية والتربوية والأدبية في الإسلام ونظرا لأهميتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم ، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد (2). ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة في السياسة التي أحالت حياة المسلمين إلى جحيم مظلم ليس فيه أي بصيص نور من هدي الإسلام وإشراقه ، فالتكتل الحزبي والسياسي الذي سعى وراءه أصحاب المصالح والأطماع الشخصية حيث اختفى أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه السمحة وآدابه الإنسانية وحكمه الخالدة. لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقا جديدة للوعي الديني ، كان المسلمون قد فقدوه ، ودعت إلى التبتل الروحي والصفاء النفسي والطهارة والتجرد من الأنانية ونبذ الجشع والطمع وغير ذلك من الرذائل والنزعات الشريرة التي نهى عنها الإسلام. كما دعت الصحيفة إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ومصدر الخير والحق والجمال سبحانه وتعالى أحسن الخالقين. __________________ (1) عبقرية الإمام علي للعقّاد. (2) حياة الإمام زين العابدين ، ص 116. عن الذريعة في تصانيف الشيعة ، ج 15 ، ص 18. فرادتها : تمتاز الصحيفة السجادية بأمور بالغة الأهمية ومميزات عديدة ، من بينها ما يلي : 1 ـ تمثل الانقطاع الكامل لله تعالى والاعتصام بحبله والتجرد التام من عالم المادة. 2 ـ لقد كشفت عن معرفة كاملة يتمتع بها الإمام تفيد عن عمق إيمانه بالواحد القهار ، ولم يكن ذلك ناشئا عن عاطفة عابرة أو تقليد قديم ، وإنما هو قائم على العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد أدلى (ع) في صحيفته هذه بكثير من البحوث الكلامية التي انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون في ما كتبوه عن واجد الوجود. 3 ـ احتوت على كمال الخضوع أمام الله تعالى ، وبذلك قد امتازت على بقية أدعية الأئمة الطاهرين بما فيها من أفانين التضرعات وإظهار التذلل لله تعالى. قال الفاضل الأصفهاني : « إن الله تعالى قد خص كل واحد منهم بمزية وخصوصية لا توجد في غيره ، كالشجاعة في أمير المؤمنين وابنه الحسين (ع) والرقة والتفجع في أدعية زين العابدين (ع) لا سيما أدعية الصحيفة الكاملة ، المعروفة بين أصحابنا الإمامية بزبور آل محمد ، وأخرى بإنجيل أهل البيت » (1). 4 ـ لقد فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء. فالإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى ، وعفوه وكرمه. يقول الإمام 7 : « إلهي وعزتك وجلالك ، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك ، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك .. ». __________________ (1) الصحيفة الخامسة السجادية ، ص 13 ـ 14. 5 ـ أكثر ما ورد من أدعية في الصحيفة يصلح برامج للأخلاق الروحية وآداب السلوك والفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان عن عالم المادة. 6 ـ احتوت على حقائق علمية لم تكن معروفة في عصره ، نذكر منها قوله (ع) : « اللهم وامزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء .. ». لقد أشار هنا (ع) إلى حقيقة علمية اكتشفت في العصور الأخيرة ، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة بـ ( الكوليرا ) إنما تأتي عن طريق الماء ، فهو الذي يتلوث بجراثيمها كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنه يصاب بهذا الداء. هذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا العصر. 7 ـ إنها تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلى الله والبالغ به إلى أرقى مراتب الكمال ، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتصال بالله تعالى خالق الكون ، وواهب الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق ، وبالأمل بعد القنوط أن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلى عالم الملكوت. 8 ـ تعتبر الصحيفة السجادية ثورة على الفساد والانحلال الذي كان سائدا في ذلك العصر بسبب السياسة الأموية التي أشاعت المجون والفساد والتحلل بين المسلمين. فجاءت الصحيفة ثورة على الجمود والتخلف والانحطاط في العصر الأموي. 9 ـ لقد بلغت أرقى مراتب الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية. فلا نجد كلاما عربيا بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين 7. قال الدكتور حسين محفوظ : « وعلى الرغم من أنه ـ الدعاء ـ المأثور عن الأئمة نثر فني رائع ، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور ، ونمط بديع من أفانين التعبير ، وطرق بارعة من أنواع البيان ، ومسلك معجب من فنون الكلام ، والحق إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي (ص) وأهل البيت (ع) التي لم يرق إليها غير طيرهم ، ولم تتسم إليها سوى أقلامهم. فالدعاء أدب جميل ، وحديث مبارك ، ولغة غنية ، ودين قيم ، وبلاغة عبقرية ، إلهية المسحة ، نبوية العبقة .. » (1). وقد اهتمت الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية اهتماما بالغا بالصحيفة السجادية ، فقد واظب جميع العلماء المسلمين الصالحين على الدعاء بها في غلس الليل وفي وضح النهار متضرعين بها إلى الله تعالى. ولم تقتصر على العالم العربي فقط وإنما تعدت إلى غيره من شعوب العالم فترجمت إلى أكثر اللغات الأجنبية ، كالفرنسية والإنكليزية والفارسية والألمانية وغيرها. ومما يدل على مدى أهميتها أن الخطاطين في مختلف العصور الإسلامية انبروا إلى كتابتها بخط أثري في منتهى الروعة وقد حفلت بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلامية. كما عكف العلماء على دراسة الصحيفة وإيضاح مقاصدها وشرحها. والعلماء الذين قاموا بهذه المهمة زاد عددهم على السبعين عالم. كل ذلك لأنهم وجدوا في الصحيفة نموذجا فريدا يستفيد منه كل أديب وباحث فقد كان البارز فيها جمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ وارتياح روحي يبلسم النفوس الحائرة والقلوب الضالة. ومن مظاهر الروعة البلاغية فيها الأطناب والإيجاز حيث تدعو الحاجة. فقد أطنب (ع) في وصف الجنة وما فيها من نعم وترف ، وقصور جميلة كل ذلك بسبب تشويق الناس إليها وترغيبهم بأعمال البر والخير ليفوزوا بنعيمها. كما أطنب في التهويل من النار وقساوة العذاب وذلك __________________ (1) مجلة البلاغ العدد السادس من السنة الأولى ، ص 56. لزجر الناس عن اقتراف الموبقات وإبعادهم عن ارتكاب المنكرات. وهو بهذا يجاري أسلوب القرآن الكريم. وقد نص علماء البلاغة على أن الأطناب في ذلك من أرقى مراتب البلاغة وأروع صورها. * * * من فوح القران وبوح فكره رسالة الحقوق .. وما أدراك ما رسالة الحقوق! إنها وسيلة كريمة ليفهم الإنسان نفسه وما فطرت عليه من مواهب خيرة ونزعات إنسانية. هي لعمري سجل المعرفة بكل أنواعها الدينية والعلمية والفلسفية تفيد جميع الناس في كسب علومهم ومعارفهم وتقويم أخلاقهم وسلوكهم وتعمل على تطوير مجتمعهم في سائر منازعهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية والأدبية والأخلاقية ... رسالة الحقوق منبع غزير للعلوم الإنسانية ومنهج عزيز للقيم الأخلاقية ومشرف أعلى على جميع التطورات الاجتماعية والحضارة البشرية. هي أم الرسالات تنسق تنسيقا كاملا بين عقائد المسلم وأعماله ومشاعره وسلوكه فتطلق روحه من عقاب الأوهام والترهات ، وتوجه نفسه إلى الأعمال الصالحة والطاقات البناءة وكأنها تربط ربطا محكما بين نواميس الكون الطبيعية ومنازع الفطرة البشرية في انسجام تام وتناسق كريم. ولا يخفى أن العمل برسالة الحقوق يهدي المسلم المؤمن إلى عبادة الله متى توجه العبد إلى ربه سبحانه وتعالى ، فهي كما وصفها الفقهاء « مشدودة إلى العروة الوثقى لا انفصام لها ». ورسالة الحقوق منارة مضيئة تهدي الفرد إلى الطريق القويم فتوقظ ضميره وتحيي شعوره بالعقيدة الإسلامية الواضحة التي لا غموض فيها ولا تعقيد ، كما أنها تهدي الناس الذين يعملون بها إلى الخير العام سواء أكانوا شعوبا أم دولا أم حكومات من شتى الألوان والأجناس فتوطد العلاقات الاجتماعية بينهم على أسس ثابتة لا تتأثر بالأغراض الشخصية ولا تميل مع الرأي والهوى ، ولا غرو فهي مستقاة من المنبع الإلهي الأصيل من كتاب الله الصامت الذي « لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ». رسالة الحقوق أم الرسالات ومصدر البطولات وملهمة الحضارات تكون للحاكم أساس عدله في حكمه ، وللعامل أساس صدقه في عمله ، وللمسلم طمأنينة وإيمانا ، وللمؤمن بهجة ورضا وللأمة نورا وحقا وعدلا. وحسبها قيمة وفخرا أن غارس بذرتها هو من وحي الرسالة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ، من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .. قال تعالى : ( ... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) [ الأحزاب : 33 ] هو الإمام المعصوم علي زين العابدين (ع) الملقب بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته ومع كثرة عبادته كثرة علمه الذي لا ينحصر في هذه الرسالة فحسب فالمجال متسع كثيرا لكل عالم أراد أن يعب من معارفه المختلفة ولكل باحث أحب أن يقتبس من حكمه وأدبه. لقد ترك للإنسانية تراثا خالدا وبحرا زاخرا بشتى العلوم والمعارف التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته ، وهي أشبه بالغيث تحيي النفوس بعد موتها وتبعث على طاعة الله والبعد عن معصيته ؛ وبمقدار ما يبلغ الإنسان من علوم الإمام زين العابدين يبلغ حدا بعيدا من العظمة مع الخالدين. روى أبو حمزة الثمالي قال : « دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على علي بن الحسين (ع) فقال له : جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عز وجل : ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) ، قال له (ع) : ما يقول الناس فيها قبلكم؟ قال : يقولون : إنها مكة. فقال : وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة؟ قال : فما هو؟ قال : إنما عنى الرجال ، قال : وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال : أو ما تسمع إلى قوله عز وجل : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ) وقال : ( وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ ) وقال : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟ قال : وتلا عليه آيات بهذا المعنى قال : جعلت فداك! فمن هم؟ قال : نحن هم ، فقال : أو ما تسمع إلى قوله : ( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) قال : آمنين من الزيغ » (1). فالله سبحانه أعلم أين يضع رسالته فأهل البيت أهل العلم والمعرفة وأهل التقى والدين جاهدوا في الله حق جهاده وعملوا على نشر العلوم الدينية والأدبية والفلسفية والعملية بكل ما زودهم سبحانه بها من طاقات. والإمام السجاد ورث العلم بكل أنواعه وألوانه عن أبيه وجديه فحفظ كتاب الله وتفقه فيه وعمل على نشره. روى الطبرسي قال : « لقي عباد البصري علي بن الحسين (ع) في طريق مكة فقال له : « يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه ، وإن الله عز وجل يقول : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ التوبة : 111 ] فقال علي بن الحسين : إذا رأينا هؤلاء الذي هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج ». __________________ (1) الاحتجاج ، ج 2 ، ص 312.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:11 am | |
| وجاء في المصدر نفسه : « سئل الإمام زين العابدين عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (ع) : لكل واحد منهما آفات ، فإذا سلما من الآفات ، فالكلام أفضل من السكوت. قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال : لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنما يبعثهم بالكلام ، ولا استحقت الجنة بالسكوت ، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت ، ولا توقيت النار بالسكوت ، ولا تجنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت » (1). وتكلم الإمام (ع) فكانت هذه الدرر الثمينة ، رسالة الحقوق التي رسم فيها معالم الشخصية الصالحة التي ينشدها الإسلام لقد وضعت حقوق الجوارح من اللسان والسمع والبصر واليد والرجل ... إلى الصلاة والصوم والحج ... إلى حقوق المعلم والسلطان والمالك .. إلى حقوق الأرحام من الأب والأم والأخ .. كما رسمت أيضا حقوق أهل الإسلام وأهل الذمة وطلب إلينا حق رعايتها والعمل في تأديتها لنعالج على ضوئها مشاكلنا الخاصة والعامة وما يعتور طريقنا من هفوات وأخطاء وتقصير .. لقد أرادنا عناصر إنسانية صالحة تحب الخير للجميع وتعمل به وتنبذ الشر وتتجنبه. وقد كتب هذه الرسالة الذهبية (ع) وأتحف بها بعض أصحابه ، وقد رواها العالم الكبير ثقة الإسلام ثابت بن أبي صفية ، المعروف بأبي حمزة الثمالي تلميذ الإمام (ع) (2) ، ورواها عنه بسنده المحدث الصدوق (3) ، وحجة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني والحسن بن علي بن الحسين بن شعبة البحراني __________________ (1) المصدر السابق ، ص 315. (2) الكشي ـ الخصال. (3) من لا يحضره الفقيه الخصال. في تحف العقول (1). الدوافع لكتابة رسالة الحقوق : كثر اللهو والطرب وانتشرت دور الميسر ومجالس الغناء طيلة حكم الأمويين ، واستقدم ملوكهم الجواري والمغنين والمغنيات من شتى البلدان إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وأغدقوا عليهم المال بسخاء. كما بذلوا الكثير من المال على الشعراء لتأييد سلطانهم فاصطنعوا به الأحزاب واستذلوا به الأعداء. وكان عبد الملك بن مروان من أكثر ملوك بني أمية بذلا للمال في سبيل تأييد سلطانه ، وعامله آنذاك الحجاج بن يوسف فلما حاصر الكعبة ، وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيب جنده ، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال لهم : « يا أهل الشام ، قاتلوا على أعطيات عبد الملك » ففعلوا (2). وكثيرا ما كان يرد أذى الأحزاب وإخماد الثورات بالمال ينثره على الناس فينشغلون به عنه. من ذلك ما فعله مع جماعة عمرو بن سعيد الأشدق لما طمع بالشام دونه. فاحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدرا ، ولما علم أصحابه بمقتله تجمهروا حول دار الخلافة مطالبين بدم زعيمهم ، خاف عبد الملك العاقبة فأمر أن يرمى برأس عمرو إلى الناس ومعه المال الكثير ، فنفذ ابنه عبد العزيز ذلك ، وجعل يلقي بالأموال على الجماهير المحتشدة. فلما رأى الناس الرأس والأموال انشغلوا بالأموال وتفرقوا (3). لقد استخدموا المال والنساء وبذلوا على تلك المجالس والليالي الساهرة بسخاء ، ولم يكن يدعوهم إلى هذا السلوك المنحرف والاستهتار __________________ (1) المصدر السابق. (2) راجع التمدن الإسلامي لجرجي زيدان ، ج 1 ، ص 83. (3) نفسه ، ص 84. الفاضح حبهم لملذاتهم فقط ، وإنما كان هدفهم من وراء ذلك إماتة الروح الإسلامية الصحيحة في نفوس الناس ليبعدوهم عن الدين الإسلامي وعن رسالة الأنبياء المرسلين فلا يهمهم بعد هذا أمر الخلافة والمطالبة برفع الظلم والاستهتار فالمال ميسور أمام فراغ الشباب والجواري ودور الميسر منتشرة تستويهم للتلهي وقتل الوقت هدرا. لقد هيأوا الأذهان أيضا إلى قبول الرأي القائل بأن الخلافة ليست إلا ملكا كالقيصرية والكسروية ، وأن الله تعالى لم ينص على إمام بعينه كما يرى كثير من المسلمين. في وسط هذا المجتمع المريض كان لا بد للإمام السجاد أن يداوي هذه النفوس لتتخلص من أمراضها وتعرف حدودها وترجع إلى الأخلاق الإسلامية السامية التي تعيد للأمة تعاليم الإسلام القومية والسليمة التي كاد الأمويون أن يقضوا على معظمها بأعمالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وتصرفاتهم التي لا تليق بأمة مرموقة بين الأمم تعرف مكانتها السامية بين الدول المتحضرة أجل لقد تفسخت الأخلاق وتردت حتى أصبحت تهدد بخطر عظيم الأمر الذي دعا الغيارى على الدين أن يهتموا الاهتمام الكبير لصد هذا التيار الجارف. ومن أحرى بأهل البيت الذين اختارهم سبحانه وتعالى لردع الظلم عن أعناق المستضعفين ، وهداية الناس إلى الحياة الحرة الكريمة. قال محمد صادق الصدر : « وكان أول من لفت الأنظار إلى هذا الخطر المحدق بالناس جميعا الإمام زين العابدين 7 فقد نشط في جهاده نشاطا عظيما منقطع النظر فكان يلقي على الأمة بآرائه الإصلاحية تارة عن طريق المناجاة ، وطورا عن طريق القلم ، وهذه ( رسالة الحقوق ) أملاها 7 دستورا عاما يتضمن كل ما تحتاجه البشرية من حقوق ، فلم يترك حقا من حقوق الله على عباده ، أو حقوق العباد أو حقوق العباد بعضهم على بعض إلا ذكره ونبه عليه ، وقد قدم الأهم فالأهم من هذه الحقوق ببيان رائع ، ومنطق لا يقبل الرد ولا أعرف أسلوبا أروع من هذا الأسلوب ، وفكرا صالحا للمجتمع أصلح من هذا الفكر ، وهي مواضيع عامة منبعثة عن حاجات المجتمع الإنساني يصلح تطبيقها ، والسير على نهجها في كل زمان ، وهي تكفل للناس السعادة والهناء في الدارين » (1). رسالة إصلاحية يحتاجها الفرد في حياته الخاصة ليصلح أموره ويعرف حدوده ، كما يحتاجها المجتمع البشري بكل أفراده وطبقاته ، يحتاجها الراعي ليحكم بالعدل وتحتاجها الرعية لتقاوم الظلم والقهر وتعيش حياة كريمة هنية. أما الدوافع التي دفعت الإمام السجاد إلى كتابة هذه الرسالة الخالدة ونشرها فهي دوافع إنسانية أملتها عليه الظروف السياسية والتدهور الأخلاقي والفساد المستشري في البنية الحاكمة. لقد تعلم من أبيه الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء الذي خرج « لا أشرا ولا بطرا وإنما ليصلح رسالة جده » النبي المصطفى 6. وهذا عرض موجز للحقوق : 1 ـ أول هذه الحقوق التي بلغت خمسين حقا ( حق الله ) : قال الإمام 7 : « فأما حق الله الأكبر عليك فإنك تعبده لا تشرك به شيئا ، فإن فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحب منهما ». إن من أعظم حقوق الله تعالى على عباده أن يعبدوه بإخلاص ، ولا يشركوا بعبادته أحدا ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، الرفض المطلق لكل الآلهة التي صنعتها الأيدي البشرية والعقول الضالة ، وبمقدار هذا الرفض يتأكد التوجه للإثبات ، فالله واحد أحد في ذاته ، واحد أحد في صفاته ، __________________ (1) رسالة الحقوق لمحمد صادق الصدر ، ص 36. واحد أحد في خصائصه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. ) الإيمان القلبي العميق يطهر القلوب من الزيغ ويحرر العقول من الرق والتبعية ، أما عبادة غير الله من الأصنام والأزلام والأوثان فإنها ذل وعبودية ، وقضاء على كرامة الانسان وعزته. والإيمان بالله يفرض على الإنسان أن ينظر إليه سبحانه وتعالى نظر الربوبية المطلقة التي تملك الحياة كما تملك الموت ، وتملك الأعمار كما تملك الأرزاق. قال تعالى : ( اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1). التوحيد بالله وعدم الشرك به أساس من الأسس التي لا تقبل المساومة وقد حسم القرآن الكريم هذه القضية فقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (2). والإمام زين العابدين جعل في هذه الرسالة أكبر حقوق الله على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، وفي مقابل هذه العبادة بإخلاص تكون كفاية الله له لأمري الدنيا والآخرة. ففي الدنيا يشعر بالسعادة النفسية والاطمئنان القلبي في الآخرة ، وفي رحاب الله يفوز بالخلود الأبدي ورضوان الله أكبر ما يتوق إليه الإنسان ويسعى من أجله. 2 ـ حقوق الجوارح ـ من عرف نفسه فقد عرف ربه حق النفس : « وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله عز وجل فتؤدي إلى لسانك حقه وإلى سمعك حقه وإلى بصرك حقه وإلى يدك حقها وإلى رجلك حقها ، وإلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه ، وتستعين بالله على ذلك ». __________________ (1) آل عمران ، الآية 26. (2) النساء ، الآية 48. تركزت دعوة الإمام (ع) إلى إصلاح النفس البشرية إصلاحا ربانيا شاملا كي تؤدي دورها المطلوب في طاعة الله تعالى وإعانة عباد الله لأن منها المنطلق لعملية الإصلاح الشاملة فمتى صلحت النفس صلح غيرها واستقام. ولذا ورد الحث من الإمام (ع) لأن يقف الإنسان موقف الحذر واليقظة ، والمراقب والمحاسب يترصدها في ميولها وحركاتها فيحاسبها في كل خطوة من خطواتها ليحملها على الحق في طاعة الله تعالى ويدفعها نحو الخير. وهذا ما عناه النبي الأكرم في حديثه الشريف عندما أرسل سرية من الجيش إلى القتال في سبيل الله ، ولما رجعوا قال (ص) : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل : يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ فقال (ص) : الجهاد الأكبر : جهاد النفس. ومعنى جهاد النفس أن يلزمها المرء بأحكام الإسلام فلا ينحرف لميل أو هوى ولا يميل لمصلحة شخصية ذاتية على حساب الدين فيضعف أمام المحرمات ، ويتهاون بترك الواجبات فيجعل للشيطان عليها سبيلا. وذكر الإمام أن لكل جارحة في بدن الإنسان حقا عليه فبدأ باللسان آلة النطق. 3 ـ حق اللسان : « وأما حق اللسان فإكرامه عن الخنى ، وتعويده على الخير ، وحمله على الأدب ، وإجمامه إلا لموضع الحجة والمنفعة للدين والدنيا ، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها وبعد شاهد العقل والدليل عليه ، وتزين العاقل بعقله وحسن سيرته في لسانه ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. » من المعروف أن اللسان آلة النطق والمترجم عن العقل هو من أهم الجوارح في بدن الإنسان ، كما أنه من أخطرها على حياته ، سلاح ذو حدين ، بأحدهما نساهم في توفير السعادة لنا ولمجتمعنا وبالآخر نقضي على سعادتنا ونجلب الخراب والدمار للعباد والبلاد. والإنسان يسمو أو يهان بمنطقه ، فإن تكلم بكلام طيب صان نفسه من الزلل وعاش محترما بين أهله وأفراد مجتمعه ، وإن تكلم بكلام خبيث أهان نفسه وبات محتقرا مهانا. فالإمام (ع) يطلب للإنسان أن يكون صالح النطق ، لا فحش ولا لغو ولا عبث ، بل نظيف اللسان مهذب الكلام. قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ، يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) (1). لقد دعا الإمام الحكيم (ع) الإنسان إلى السيطرة على لسانه وإلزامه بمراعة الأمور التالية ليعزز مكانته ويرفع من شأنه : أ ـ البعد عن الخنى ـ أي الفحشاء ـ لأنها توجب مهانة الإنسان. ب ـ حمله على التكلم بالكلام الطيب الذي يرفع إلى الله تعالى. ج ـ إمساكه عن الكلام إلا لموضع الحاجة من أمور الدين والدنيا. د ـ تعويده على مقالة الخير وما ينفع الناس. ه ـ إبعاده عن الخوض في فضول القول الذي لا يعود عليه وعلى الناس بالخير. والكلمة الطيبة في الإسلام صدقة ، قال تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (2). 4 ـ حق السمع : « وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة __________________ (1) إبراهيم ، الآية 24 ـ 25. (2) البقرة ، الآية 263. كريمة تحدث في قلبك خيرا ، أو تكسب خلقا كريما ، فإنه باب الكلام إلى القلب ، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر ولا قوة إلا بالله .. ». جهاز السمع هو التركيب البديع للإنسان أبدعها الله تعالى كي يصل بها إلى مرضاته فيسمع بها المسموح وكل ما يصلح النفس ويهذبها. إنها الجهاز الذي ينقل المعلومات إلى الدماغ فيبدل كيان الإنسان ويحوله من حالة إلى حالة فإذا سمع فكرة رسالية قيمة وتفاعل معها تحوله إلى إنسان صالح يحب الخير ويعمل به. أما إذا سمع فكرة هدامة ملوثة بالإلحاد فقد تحوله إلى مجرم يعمل المحرمات دون أي رادع أو وازع. فمجالس الانحلال الخلقي والمفسدين في الأرض منعها الإسلام وحرمها لأنها ستنقل إلى القلب عن طريق الأذن ما يفسد خلق الإنسان ويجره إلى الهاوية. ولذا نهى الله عن ذلك بقوله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً. ) (1) كما أن الله مدح الذين يستمعون إلى دعاة الخير والمحبة والإيمان ، قال تعالى : ( رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ... ) (2). فعلينا جميعا أن نصغي إلى كلمة الحق ونعمل بها ونقبل الحقيقة مهما كانت قاسية ومرة من أي إنسان وفي أي زمان. وأن نجعل الجهاز السمعي بريدا صالحا لنقل الآداب الكريمة والفضائل الحسنة والمزايا __________________ (1) النساء ، الآية 140. (2) آل عمران ، الآية 193. الحميدة لتكون من صفاتنا وخصائصنا. 5 ـ حق البصر : « وأما حق بصرك فغضه عما لا يحل لك ، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما فإن البصر باب الاعتبار ». إن للبصر حقا على الإنسان ، وهو حجة على النظر إلى ما حرمه الله الذي هو مفتاح الولوج في اقتراف الآثام ، فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له. والإنسان مسؤول أمام الباري عز وجل عن بصره إذا انطلق في غير رحابه وحدوده المسموح بها. قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (1). والفائدة التي يستفيدها الإنسان من نعمة البصر يعود إليه بالذات فإذا نظر إلى آثار الماضين وتأمل كيف كانت معيشتهم وأحوالهم وأخذ من ذلك كله العبرة والعظة يكون نظره نعمة له يستفيد منها في تصحيح مساره في الدارين الدنيا والآخرة. أما إذا استعمل بصره في الحرام والمنكرات فإن الإسلام يعد ذلك خيانة لهذه الأمانة العظيمة وانحرافا عن الخط السليم ، فكم من نظرة أورثت صاحبها حسرة دائمة لأنها استعملت في غير المجال المسموح بها. فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له وعليه أن يستفيد ببصره علما يهذب به نفسه ، وينفع به مجتمعه. من هنا أمر الله المؤمنين من عباده بغض الأبصار عن الأشياء المحرمة. قال تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. __________________ (1) الإسراء ، الآية 36. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... ) (1). والحقيقة أن البصر نعمة كبرى لا يعرف قيمتها إلا من فقدها فهي تكشف للإنسان معالم طريقه فتعرفه على كل أمور حياته وتطل به على مباهج الدنيا وجمالاتها. فهل يرعى الإنسان هذه النعمة حق رعايتها ويصونها من التجاوز والابتذال؟ 6 ـ حق الرجلين : « وأما حق رجليك فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك ولا قوة إلا بالله » (2). خلق الله الرجلين للإنسان نعمة عظيمة يسعى بهما إلى قضاء حوائجه لينال الأهداف البعيدة التي تتطلب حركة ومشيا لكن عليه أن يستخدم هذه النعمة في طاعة الله ومعونة عباده. فقد يقطع المسافات الطويلة من أجل إعانة فقير وقضاء حاجة إنسان مؤمن ينفس عنه كربه. وقد يقطع الصحراء ليؤدي فريضة الحج التي أوجبها الله على القادرين من عباده ، وقد يسعى برجليه للجهاد في سبيل الله والدفاع عن حقوق عباد الله المؤمنين ضد الطغاة المغتصبين. كما يستطيع برجليه أن يعتدي على أعراض الناس وأموالهم ويفسد بين المتحابين منهم أو يقتل مسلما من عباد الله الصالحين دون حق. فبهما يمكنه تحصيل الحسنات كما أن بهما يستطيع أن يكتسب المحرمات. والسعيد من الناس من تتحرك قدماه في طاعة الله ورضوانه ، ينظر مواطن الثواب فييمم وجهه نحوها ، ويدرك مواطن الشر فيجنب قدميه عنها. __________________ (1) النور ، الآية 30 و 31. (2) الأصح أن يقال : حاملتاك وسالكتان بك. والمؤمنون يعرفون أن هذه الأرجل ستشهد عليهم يوم الحساب إذا انحرفوا عن الخط الإسلامي السليم. قال تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (1). فهنيئا لمن عرف مواقع أقدامه أين تقع فاختار لها طاعة الله وابتعد بها عن معاصي الله. 7 ـ حق اليدين : « وأما حق يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك ، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ولا تقبضها مما افترض الله عليها ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها ، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها ، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل ووجب لها حسن الثواب من الله في الآجل .. ». وعرض الإمام (ع) لليدين وما عليهما من حقوق ، فمن حقهما أن لا يبسطهما في ما حرمه الله تعالى. فمن امتدت يده إلى أموال الغير سمي عند الله والناس سارقا ويترتب عليه آثار الفعل الشنيع فيقام عليه الحد في تشريع الله وتأخذه أعين الناس بالازدراء والتصغير لأنه وسم بميسم السارق الوضيع. ومن امتدت يده إلى أجساد الغير اعتداء منه واعتدادا بقوته يؤدب في قانون الإسلام المثل بالمثل. وليس في قانون الإسلام التسلط على الضعفاء فالكل سواسية أمام العدالة الإسلامية وصاحب الحق هو سيد الموقف فاليد يجب أن تكون في إطارها المحدد لها وهذا ما بينه الإمام في رسالته الخالدة ، حيث يعاقب المعتدي من الله في الآجل ومن الناس باللائمة في العاجل ، وهذه اليد جعل لها حقا أن لا تبسط إلى ما لا يحل لها ولا يجوز __________________ (1) يس ، الآية 65. لها أن تقبض عن إعطاء الحق إلى أصحابه ولا تقوم بمساعدة المساكين وقضاء حاجة المحتاجين. اللهم ساعدني لتكون يدي أمينة عفيفة في الدنيا لا تهمل ما عليها من الواجبات لتنال شرف العاجل وثواب الآجل في الدار الآخرة. 8 ـ حق البطن : « وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاء لقليل للحرام ، ولا لكثير ، وأن تقتصد له في الحلال ، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين ، وذهاب المروءة ، وضبطه إذا همّ بالجوع والظمأ فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ، ومثبطة ، ومقطعة عن كل بر وكرم ، وأن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة .. » (1). يدلي الإمام (ع) في هذه الفقرات بحقوق البطن على الإنسان وهي عديدة منها : أ ـ أن لا نجعل البطن وعاء للحرام فنتغذى بمال مغصوب حرام وما ينتج عن ذلك من مضاعفات سيئة مما يؤدي بنا إلى الانحراف عن الطريق القويم. ب ـ الاعتدال في الأكل وعدم الإسراف في تناول العديد من المآكل الدسمة والمتنوعة حتى الإصابة بالتخمة ، فعلى المسلم الاقتصاد في تناول الطعام الحلال ، لأن التخمة تسبب الإصابة بالكسل والابتعاد عن البر والكرم ؛ كما أنها تعطل جميع القوى العقلية ، بالإضافة إلى ما تحدثه من أضرار صحية كالإصابة بضغط الدم والسمنة ومرض السكر وغير ذلك من الأمراض الأخرى. __________________ (1) اقتصد في الأمر : اعتدل. والتخمة : ثقل تسببه كثرة الأكل. المكسلة : ما يدعو إلى الكسل. مثبطة : ما يعوق ويشغل. والإسلام لم يحرم الطيبات إذا كانت من باب الحلال بل يبيحها للمسلمين دون إفراط ولا تبذير. إن شهوة البطن إذا أرسل لها العنان فإنها تقود صاحبها إلى ارتكاب الموبقات وتفتح أمامه شهوة الجنس والشبق وهاتان الشهوتان الطعام والجنس يستتبعهما الرغبة في تحصيل المال والبحث عنه بشتى الطرق دون الالتفات إلى الحرام منه أو الحلال. من هنا نستطيع أن نقدر حكمة الصوم التي بينها الإسلام على لسان الأئمة المعصومين. وندرك الأبعاد الحقيقية التي تجعل الصائم رقيق الشعور مرهف الحس تجاه الفقراء والمعوزين فيخفف عنهم آلامهم ويغدق عليهم من يده الكريمة لا يريد منهم لا جزاء ولا شكورا. ثم إن المسلم لا يهتم بطعامه إلا ليقوى به على الحياة والعمل في خدمة نفسه وخدمة عباد الله ونشر العدل والحكمة في التوجه إلى الله تعالى. أما الملحد أو الكافر لا يهمه سوى بطنه وما يتغذى به من أشهى المأكولات. ولذلك نرى كيف ذم الله الكافرين وشبههم بالأنعام قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (1). والإسلام أحل للإنسان الكثير من الطيبات وحرم عليه الخبائث ووضع له حدودا مرسومة لا يجوز له أن يتعداها. والذي حرمه الإسلام من الأطعمة والأشربة فإنما حرمه أما لخبثه أو لإفساده وإخلاله بالروح الإنسانية فأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وأنواع المسكرات والمخدرات كلها من المحرمات التي تتقزز النفس منها لما تجر على صاحبها من الضرر والمهانة. __________________ (1) الحج ، الآية 23. 9 ـ حق الفرج : « وأما حق فرجك فحفظه مما لا يحل لك ، والاستعانة عليه بغض البصر ، فإنه من أعون الأعوان ، وكثرة ذكر الموت ، والتهدد لنفسك بالله ، والتخويف لها به ، وبالله العصمة والتأييد ، ولا حول ولا قوة إلا به ... ». الحياة الجنسية في الإسلام تتركز على العفة والفضيلة ، وصيانة النفس من اقتراف الزنا والفحشاء ، والطرق التي يتوقى بها الإنسان من الإنزلاق في شهوات منكرة وتحجبه عن اقتراف مثل هذه الجرائم فهي كما أدلى بها الإمام (ع) : أ ـ غض البصر عن المحارم لأن النظر هو العامل الأول للوقوع في الحرام ، وقد عبروا عنه في بعض الأخبار بزنى العين. ب ـ الإكثار من ذكر الموت ، ذلك أنه يزهد الإنسان في طلب الملذات ويطفىء من جذوته حب الشهوات ، كما أن ذكر الموت يقضي على هيجان الشهوة الجنسية. ج ـ التخويف من عقاب الله العظيم فإنه من عوامل القضاء على جريمة الزنا. والإسلام لا يريد القضاء على الشهوة الجنسية لأن ذلك يفوت الكثير من المنافع التي لا يمكن تحقيقها بدونها فإذا ماتت غريزة الجنس في الإنسان انقرضت السلالة البشرية وانعدم الوجود الإنساني وانتهى دور الإنسان كخليفة الله على الأرض عمارة ورقيا وحضارة. لكن الإسلام يعمد إلى تهذيب هذه الشهوة وضبطها وردها إلى حد الاعتدال إذا أرادت الخروج عما وضعت من أجله ، وقد تبلغ ذروتها في سن المراهقة. إن العلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة منعها الإسلام وعاقب عليها كما حاربت هذه العلاقة كل الأديان وعدتها من أكبر الخطايا وأعظمها لما في هذا التعدي من ظلم وما له من انعكاسات سيئة على الفرد وعلى المجتمع. الزنا جريمة شرعية وأخلاقية وانحراف عن السنن الطبيعية والآداب الاجتماعية. ولذلك نهى الله تعالى عن الاقتراب من هذه الفاحشة ويحرمها على المؤمنين قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) (1). وقال تعالى أيضا : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2). ولما كان الزنى من المحرمات فقد فتح الإسلام أمام الإنسان سبيلا شرعيا محببا رغب فيه ودعا إليه المسلمين إلى ممارسته ألا وهو الزواج الشرعي الذي يلتقي الرجل والمرأة على أساسه وينشأ منه أسرة شرعية طاهرة وهذا أشرف حل جعله الإسلام من أجل القضاء على الرذيلة والانحراف. فالمسلم مطالب أمام الله وأمام الناس بحفظ فرجه عما لا يحل له وقد مدح الله الحافظين لفروجهم وقرنهم بالمسلمين المؤمنين والصادقين الصابرين والصائمين. قال تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (3). وبعد حقوق الجوارح باشر الإمام زين العابدين 7 بحقوق الأفعال فشرحها وبين حدودها. __________________ (1) الإسراء ، الآية 32. (2) النور ، الآية 3. (3) الأحزاب ، الآية 35. حقوق الأفعال 10 ـ حق الصلاة : « فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى الله ، وأنك قائم بها بين يدي الله ، فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل ، الراغب ، الراهب ، الخائف ، الراجي ، المسكين ، المتضرع ، المعظم من كان بين يديه ، بالسكون والإطراق وخشوع الأطراف ، ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسه ، والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك ، واستهلكتها ذنوبك ولا قوة إلا بالله .. ». هذه صورة الصلاة كما يريدها الله وكما يحب أن يكون عليها صاحبها ، صورة العبد الكادح إلى ربه ، الوافد عليه ، صورة الإنسان الضعيف الصغير ، يقف بين يدي الله العزيز الكبير. صورة توحي بعظمة الباري عز وجل فيها التوبة والإنابة والخضوع والخشوع. إنها لقاء الشوق والمحبة يعترف المصلي لخالق الكون بالربوبية والإلهية بكل أوصافها : العلم والقوة والرحمة والحكمة والعزة ... الصلاة هي قربان كل تقي وعمود الدين ووجهة يعرج بها المسلم إلى الله ويسأل عنها يوم القيامة ، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ... والإمام زين العابدين (ع) أعطانا لوحة جميلة في التعليم والتوجيه ، يريد أن يصلنا بالله ومن خلال هذه الصلة يعلمنا الأدب مع عزته وجلاله. فعلى المسلم أن يصلي بسكينة ووقار ، خاشع الأطراف ، حسن المناجاة ، لا يشغل فكره بأي شأن من شؤون الدنيا ، وعليه أن يسأل الله العلي القدير لينقذه من التبعات والخطيئات ، وفك رقبته من النار. فعلى المصلي أن يكون راغبا في ثواب الله ، راهبا من عذابه ، متضرعا خاشعا ، خائفا ، فلا يترك لليأس مدخلا إلى قلبه ولا يترك للرجاء أن يقف مانعا عن التوجه إلى الله والازدياد من الأعمال الصالحة. فعلينا أن نؤدي صلاتنا بشروطها وآدابها وخشوعها وأن نؤديها بفاعليتها وروحانيتها وسموها لتكون هذه الصلوات محطات من أجل الوصول إلى رضا الله وطاعته. 11 ـ حق الصوم : « وأما حق الصوم فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار وهكذا جاء في الحديث « الصوم جنّة من النار » (1) فإن سكنت أطرافك في حجبها رجوت أن تكون محجوبا وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب ، فتطلع على ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله ، لم تأمن أن تخرق الحجاب ، وتخرج منه ، ولا قوة إلا بالله .. ». الصوم هو من العبادات المهمة في الإسلام ، هو رياضة روحية يتجرد الإنسان فيه من كل شهوات الدنيا ليحلق في أجواء من الصفاء والروحانية. تتجسد في الصوم المساواة بين جميع المسلمين يجمعهم شهر رمضان المبارك ويوحد نفوسهم ومشاعرهم ، وهو لا يعني الامتناع عن الطعام والشراب فحسب بل هناك وراء ذلك ما هو أعمق وأدق. فعلى الصائم أن يمسك لسانه عن الكذب وقول الباطل ، ويمسك سمعه عن سماع الغيبة ، وفرجه مما لا يحل له ، وبطنه عن تناول الحرام ، وبهذا يكون الصوم « جنة » من النار ومنجى من عذاب الله وعقابه. أما إذا تعدت هذه الجوارح والأعضاء وظائفها الشرعية وانحرفت عن خطها السوي فإنها توصل بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه. 12 ـ حق الصدقة : « وأما حق الصدقة فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ، ووديعتك التي لا __________________ (1) جنّة : أي وقاية من النار. تحتاج إلى الأشهاد ، فإذا علمت ذلك ، كنت بما استودعته سرا أوثق بما استودعته علانية ، وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال ، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بأشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنها أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليه. ثم لم تمنن بها على أحد لأنها لك فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه لأن ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتّن بها على أحد ولا قوة إلا بالله .. ». لقد رغب الإسلام بكل الصدقات والهبات والتبرعات والمسلم إذا عاش مع الناس بحاجاتهم وقضاياهم وتفاعل معهم عاطفيا وعمليا سوف يتحول إلى عنصر عطاء. والعطاء إذا خرج عن نفس طيبة يتحسس بآلام الناس وينفس عنهم كربتهم ويرفع عنهم عوزهم سوف يتحول العمل إلى عبادة تعادل الصلاة والصوم. لذلك أكد الإمام على الصدقة واعتبرها ذخرا عند الله للمتصدق وهو إنما يقدمها لنفسه ، فإنه يجدها حاضرة يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون. كما أكد الإمام (ع) على ضرورة إعطاء الصدقة في السر ، وأن تكون خالية من المن لأن ثوابها يعود على منفقها ولا يضيع عند الله تعالى وهي لا تحتاج إلى الأشهاد ولا إلى الوثائق وكلما كانت سرا كانت أكثر ثوابا وأبعد عن الظهور والكبرياء ، أما إذا أعطيت جهارا وأمام الملأ من الناس فإنها تخرج عن هدفها المحدد لها وهو التوجه نحو الله والتماس رضاه. قال تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1). __________________ (1) البقرة ، الآية 262. ونظرا لأهمية الصدقة في السر فقد كان الإمام (ع) يعول مائة بيت في يثرب ، وهم لا يعلمون من هو الذي يعيلهم. 13 ـ حق الهدي : « وأما حق الهدي فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك والتعرض لرحمته وقبوله ولا تريد عيون الناظرين دونه ، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا وكنت إنما تقصد إلى الله واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير كما أراد بخلقه التيسير ، ولم يرد بهم التعسير ، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن (1) لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين ، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ، ولا مؤونة عليهما ، لأنهما الخلقة ، وهما موجودان في الطبيعة ولا قوة إلا بالله ... ». الهدي من فريضة الحج تمتاز بطابعها السياسي العبادي وهو ما يذبحه حجاج بيت الله الحرام من الأنعام في مكة أو في منى وقد أكد الإمام (ع) على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى غير مشفوع بأي سبب آخر ومظاهر فاسدة كالرياء وطلب السمعة. لأن الله تعالى يتقرب إليه باليسير من الأعمال لا بالعسير وبالتذلل لا بالتكبر. والحاج يهرق دما ضحية تعبيرا عن تتويج تلك الأعمال العبادية المأمور بها بثورة دامية ينفذها المسلم إذا احتاج هذا الدين دماء طاهرة من أجل الجهاد في سبيل الله. والهدي يرمز إلى العطاء الكريم والفداء العظيم والمسلم على استعداد دائم لهذا العطاء والفداء .. يقدمه خاليا من كل الشوائب التي تفسد قبوله. __________________ (1) التدهقن : التكبر والتجبر.
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:13 am | |
| ثم بيّن لنا الإمام قاعدة إسلامية هامة وهي اليسر استمدها من القرآن الكريم. قال تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. ) (1). ومن حقوق الأفعال تحدث 7 عن حقوق الأئمة. حقوق الأئمة 14 ـ حق الأئمة : « فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه ابتلي فيك ، بما جعله الله له عليك من السلطان ، وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه (2) وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لإعطائه الرضى ما يكفّه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازه (3) ولا تعانده فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك (4) فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك ، ولا قوة إلا بالله .. ». ومن الشؤون الدينية إلى الشؤون السياسية. ففي التشريع الإسلامي الحاكم هو الله جل جلاله ، فهو الذي يملكنا تكوينيا من أنه خلقنا وصورنا وأخرجنا إلى عالم الوجود. قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (5). وقد اختار سبحانه رسلا كراما حملهم أمانة تبليغ الرسالة الإسلامية ، فهم ينقلون إرادة الله وينفذون أوامره ونواهيه. لقد تولوا المهمتين : التبليغ والتنفيذ. فالرسول الأعظم (ص) قام بإبلاغ الناس بوحي الله المتجسد في __________________ (1) البقرة ، الآية 185. (2) أي لا تخاصمه. (3) لا تعازه : لا تعارضه. (4) عققت نفسك : آذيتها والعقوق : نكران الجميل. (5) الأنعام ، الآية 57. القرآن والسنة وكان الحاكم المطلق الذي نفذ هذه الأحكام فأعلن الحروب وفتح البلاد ونظم الجيش وحكم في الحدود وهكذا كانت السلطة بيده ولا يجوز مخالفته. ولأنه كان يعلم أن الله سبحانه سيختاره إلى جواره كما اختار الأنبياء من قبله أبلغ الأمة عن الخليفة بعده وعينه باسمه وأشار إليه بأوصافه فكان الإمام علي بن أبي طالب (ع) نص عليه صريحا بأمر من الله في حديث المنزلة وحديث الدار. قال تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. ) (1). وقد تأكد حديث تعيين الإمام علي (ع) في حديث الغدير الذي بلغه النبي (ص) للأمة في حجة الوداع ثم تتابعت السلسلة الطاهرة من أهل البيت فكانوا اثنا عشر إماما مع الإمام علي :. آخرهم الإمام الحجة محمد ابن الحسن العسكري الذي شاءت حكمة الله أن يغيب عن الأبصار وإن كان حاضرا في الأمصار. وهناك شروط ومواصفات من اجتمعت فيه كان الحاكم الذي يقوم في تدبير شؤون الأمة الإسلامية. وأهم هذه الشروط : 1 ـ الإيمان : على الحاكم أن يكون مؤمنا يعتقد بالشريعة الإسلامية أصولا وفروعا ، عقائدا وأحكاما. 2 ـ العدالة : فلا يترك واجبا ولا يرتكب حراما دون عذر شرعي ، لأن الفاسق يجعل نفسه حجة بأيدي الأشرار والفاسقين ، وبهذا يطعن بالشريعة الإسلامية ويقتدي به أصحاب المصالح الشخصية. 3 ـ العلم : على الحاكم في الإسلام أن يكون أعلم الناس بالشريعة لأن وظيفته القيادية تحتم عليه حفظها وبيانها ، وشرحها لا يكون إلا على أيدي العلماء الفقهاء. قال الإمام علي (ع) : « ألا وإن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ». إن القيادة الشرعية الصالحة التي __________________ (1) آل عمران ، الآية 144. تهتم بشؤون المسلمين وتحافظ على كرامة الناس وعزتهم هي التي تقلب مفاهيم الناس وتحولهم إلى أعضاء صالحين يتمسكون بالفضيلة وينشدون الخير. فإن كان الحاكم ورعا تقيا صالحا عالما انعكس ذلك على مجتمعه كله فتسود الفضيلة وينتشر العدل ويعم الرفاه. أما إذا كان غاضبا فاسدا فاسقا منحرفا انعكس ذلك على مجتمعه فانتشر الفساد وساد الظلم واضطربت أمور الناس. وما نراه اليوم من مظالم وما نعيشه من نكبات واستغلال واستعباد ، كل ذلك نتيجة للانحراف عن الإسلام. والإمام زين العابدين (ع) في رسالته المباركة وضع الحاكم أمام واجبه ومسؤولياته ويضع المواطن أمام واجبه أيضا فإذا أخطأ الحاكم الظالم عليك إرشاده بأيسر الطرق بحيث تخرج عن تبعة ما يلحقك من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 15 ـ حق المعلم : « وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك في ما لا غنى بك عنه ، بأن تفرّغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتذكي له قلبك ، وتجلي له بصرك ، بترك اللذات ونقص الشهوات ، وأن تعلم أنك في ما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ، ولا تخنه في تأدية رسالته ، والقيام بها عنه إذا تقلدتها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». المعلم من أكرم رجال الأرض الذين ساهموا في نشر العلم وفك عقال الجهل ، إنه صانع الفكر والحضارة ، ينير دروب السالكين للوصول إلى الحقيقة وشاطىء السلامة. لقد ارتفع عن الأنانية البغيضة ليفتح قلوب الآخرين المغلقة ويزرع في نفوسهم حب الخير ونداء التقدم وثورة التحرير ، يدفع طلابه نحو الأمجاد العظيمة في كل مجالات العلم والأدب والأخلاق. وبالعلم والأخلاق قامت الحضارات الإنسانية. فله أياد بيضاء على الإنسانية عامة ، وعلى المتعلم خاصة. وقد أشاد الإمام (ع) بمكانة المعلم فأثبت له حقوقا على المتعلم وجعله مسؤولا عن رعايتها والقيام بها. وهذه الحقوق هي : 1 ـ احترام المعلم وتعظيمه وتقدير عطائه لما له من عظيم الفضل على المتعلمين في تنوير طريقهم وإنقاذهم من ظلام الجهل وظلم الجاهلين. 2 ـ توقير مجلسه واعتماد الحشمة والأدب فيه. 3 ـ حسن الاستماع لمحاضراته والإقبال عليها بجدية واهتمام. 4 ـ تفريغ العقل وتحضير الفهم وإذكاء القلب وإجلاء البصر ومن الطبيعي أن طالب العلم إذا لم يقبل على معلمه برغبة واهتمام فإنه لا يستفيد في مدرسته أو جامعته. 5 ـ ترك اللذات والابتعاد عن الشهوات لأنهما شرطان أساسيان في تحصيل العلوم عامة ، والدينية خاصة. فطالب اللذات لا يحصل غالبا على شيء من العلوم. 6 ـ على المتعلم أن ينشر جميع العلوم والمعارف التي تلقاها عن أستاذه لأن ذلك واجب شرعي عليه في استمرار رسالة العلم ونشره بين جميع الناس. هذه الأصول التربوية التي دعا إليها الإمام تمثل التربية السليمة التي يجب على طلابنا اليوم الاقتداء بها لأنها تعاليم علمائنا الأبرار الذين قدموا للبشرية كل خير وصلاح وتعاليم الإسلام العظيم الذي دخل إلى القلب والروح فقلب الموازين وغير المفاهيم الجاهلية ونقل الناس من الظلام إلى النور فصاغهم صياغة ربانية خالصة. 16 ـ حق المالك : « وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك ، تلزمك طاعته في ما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق ، فإذا قضيته رجعت إلى حقه ، فتشاغلت به ، ولا قوة إلا بالله .. ». اهتم أهل البيت : بالرق وعملوا كل ما لديهم على فك رقاب العبيد ، ولو أنهم تولوا قيادة الأمة بعد النبي 6 مباشرة لقضوا على الرق بشتى صوره ولم يبق أي أثر له. والإمام زين العابدين (ع) تمشيا مع خط الإسلام في تحبيذ العتق أعتق الألوف من العبيد. قال سيد الأهل : « فهو يشتري العبيد لا لحاجة به إليهم ولكن ليعتقهم ، وقالوا : إنه أعتق مائة ألف (1). لقد عمل الإمام (ع) على إنقاذ الإنسان من العبودية وعامل الأرقاء كما يعامل أبناءه باللطف والرحمة واللين فلم يجعل الرق يحمل العبودية والذل ، عملا بقول جده أمير المؤمنين : « إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق ». وقد تعرض الإمام (ع) إلى حق المالك على رقه ، فأوجب طاعته إلا أن يدعو مولاه إلى معصية الله فلا طاعة له. 17 ـ حق الرعية : « فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم ، وذلهم ، فما أولى __________________ (1) زين العابدين لسيد الأهل ، ص 7. من كفافه ضعفه وذله حتى صيره رعية ، وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله ، بالرحمة والحياطة والأناة (1) ، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضله هذه العزة والقوة التي قهرت بها ، أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه ولا قوة إلا بالله .. » (2). نظر الإمام (ع) إلى الحكومات القائمة في عصره فرأى الطواغيت والفراعنة وأنصاف الآلهة الذين توصلوا إلى كرسي الحكم بالقوة والقهر فقتلوا ونهبوا وأجرموا وسجنوا دون وازع من دين أو رادع من ضمير ، لقد تجردوا من إنسانيتهم ولبسوا ثياب الذئاب الكاسرة وحكموا على أشلاء الناس وجماجم البشر فكان فرعون وهامان ويزيد وابن زياد والوليد والحجاج ... واليوم في عالمنا المعاصر يوجد أمثالهم ممن يسومون الناس بالذل والهوان ويحاسبونهم على التهمة والظن كل ذلك في سبيل الحفاظ على عروشهم ومصالحهم. هؤلاء الطواغيت يدّعون الحكم باسم الإسلام ، والإسلام منهم بريء كل البراءة ، إنهم عبء على الإسلام والمسلمين ، تولوا عروشهم الدنيئة بمعونة أسيادهم المستعمرين ، والإسلام لا يعترف بشرعية حكمهم ولا يسمح للشعب أن يتقيد بما يأمرون وينهون. على الحاكم في الإسلام أن يكون كالأب الرحيم على رعيته يرعاهم ويتفقذ شؤونهم ويعيش آمالهم وآلامهم ، عليه أن يتمثل بوصية أمير المؤمنين لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر. جاء في الوصية : « وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ في الدين أو نظير لك في الخلق! __________________ (1) الحياطة : الحماية والصيانة. (2) الأصح : مما أنعم عليه. تفرض منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك ... ». والإمام زين العابدين (ع) يوصي الحكام برعاية الشعوب والرحمة بها ، والحياطة لشؤونها ، والأناة في التصرف في أحوالها ، وقد وضعهم وجها لوجه أمام الله كي يقوموا بأداء شكر هذه النعمة التي استطاعوا من خلالها أن ينفذوا حكم الله وإرادته ويجعلوا كلمته هي العليا. 18 ـ حق المتعلمين : « وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم في ما آتاك من العلم ، وولاك من خزانة الحكمة فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك ، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبده ، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه ، كنت راشدا ، وكنت لذلك آملا معتقدا ، وإلا كنت له خائنا ولخلقه ظالما ، ولسلبه عزه متعرضا ». حث الإسلام على العلم ودعا إليه وأمر بطلبه ولو كان في أبعد البلاد وأقصاها. وقد رفع الله المؤمنين والمتعلمين درجات. قال تعالى : ( .. يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (1). وعن أمير المؤمنين 7 قال : « ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ». فنشر العلم أمر ضروري وواجب على المعلمين وذلك حتى يقضى على الجهل وتمنع البدع __________________ (1) المجادلة ، الآية 11. وتستقيم الأمور في الحياة. وكما أخذ الله على الجاهل أن يتعلم أخذ على العالم أن يبذل علمه. والإمام زين العابدين (ع) يوجه حديثه إلى المعلم فيقول له : إن الله سبحانه وتعالى بما أعطاك من العلم جعلك محط حاجة طلابه فإن أحسنت فيما توليت وقمت بما يدعوك إليه الواجب من نشر العلم وبذله للمتعلمين ، فالله تعالى فيما رزق العلماء من العلم والحكمة ، قد جعلهم خزنة عليها ، فإن بذلوه إلى الناس فقد قاموا بواجبهم وأدوا رسالتهم وإلا كانوا خائنين وظالمين وتعرضوا لنقمة الله وسخطه. 19 ـ حق المملوكة أو حق رعيتك بملك النكاح : « وأما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا ، وكذلك كل واحد منكم يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ، ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ، ما لم تكن معصية ، فإن لها حق الرحمة ، والمؤانسة ، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لا بد من قضائها ، وذلك عظيم ولا قوة إلا بالله .. ». أوصى الإسلام بالزواج الشرعي وحدد مواصفات المرأة ومواصفات الرجل كي يستمر الزواج ويعطي ثماره التي يرغبها. ففي مقام الدعوة إليه قال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1). وقال تعالى أيضا : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ __________________ (1) النور ، الآية 32. يَتَفَكَّرُونَ ) (1). فالمرأة سكن للرجل وهدوء وراحة ضمير من هنا قول الإمام زين العابدين (ع) : « فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا وأنسا وواقية ». وقال تعالى : ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ). فالمرأة تستر عيوب الرجل وعوراته كما تسترها الثياب ، وكما أن الإنسان يختار من الثياب المناسب واللائق به وهذه نعمة يجب على كل منهما أن يؤدي شكرها. يقول الإمام زين العابدين (ع) : « وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها .. ». هذه المعاشرة الحسنة تتجسد في مسيرة المرأة المسلمة والرجل المسلم على حد سواء ولكل منهما الأجر والفضل وعلى الزوجة أن تطيع زوجها وتحافظ على شؤونه وما ملكت يداه ولا تعصي له أمرا إلا إذا كان فيه معصية لله فعندها تسقط طاعته. « إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ». 20 ـ حق رعيتك بملك اليمين : « وأما حق رعيتك بملك اليمين فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله ، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ، ولا أجريت له رزقا ، ولكن الله كفاك ذلك بمن سخره لك ، وائتمنك عليه ، واستودعك إياه لتحفظه فيه ، وتسير فيه بسيرته فتطعمه مما تأكل ، وتلبسه مما تلبس ، ولا تكلفه مما لا يطيق ، فإن كرهته خرجت إلى الله منه ، واستبدلت به ، ولم تعذب خلق الله ، ولا قوة إلا بالله .. ». ملك اليمين هم العبيد والإماء الذين تحت يد إخوانهم من بني البشر ، وقد جهد الإسلام منذ يومه الأول في سبيل تحريرهم وإخراجهم من ذل الرق والعبودية إلى عز الانطلاق والحرية. __________________ (1) الروم ، الآية 21. وهذا الإمام زين العابدين ما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان الكثير من العبيد. وهذه الوصية منه (ع) تمثل موقفا رائعا من مواقفه. لقد نظر الإمام (ع) إلى المملوك نظرة رحيمة مستمدة من جوهر الإسلام وواقعه ، فالمملوك كالحر هو من صنع الله ، خلق له السمع والبصر ، وأجرى له الرزق كما صنع ذلك للحر ، فليس للمالك أن يتكبر عليه ، أو يحمله فوق طاقته. وليعلم المالك أن الله سبحانه سخره له وائتمنه عليه واستودعه إياه فحق له أن يحفظ الأمانة والوديعة فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يعذب خلق الله. وهذه لفتة كريمة من الإمام كي يعود المالك إلى ضميره وعقله. حقوق الرحم وفي استعراضه للحقوق وجه الإمام (ع) نظرة صائبة نحو الأرحام وأدلى بحقوقهم. 21 ـ حق الأم : « فحق أمك أن تعلم أنها حملتك ، حيث لا يحمل أحد أحدا ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا ، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها ، وجميع جوارحها ، مستبشرة بذلك ، فرحة موبلة (1) محتملة لما فيه مكروهها ، وألمها ، وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة ، وأخرجتك إلى الأرض ، فرضيت أن تشبع وتجوع هي ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتظمأ ، وتظلك وتضحي وتنعمك ببؤسها ، وتلذذك بالنوم بأرقها ، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء (2) __________________ (1) موبلة : مواظبة ومستمرة. (2) الحواء : ما يحتوي الشيء ويحيط به. وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه .. ». الأم : هذه الكلمة العذبة ، الطيبة التي تفيض عطفا وحنانا ، وحبا وإخلاصا ، وتضحية وإيثارا. إنها تمثل العطاء بمدلوله الإسلامي الإنساني فيها تتجسد كل معاني الخير ، ومن نفسها تقدم أعلى ما عندها راغبة في العطاء ، تقدم سعادتها وراحتها وقلبها ونفسها وكل ما تطاله يدها دون منّ ولا جزاء. حملت وليدها وهنا على وهن وأطعمته من ثمرة قلبها وروته من صدرها ، فكانت تضعف ليقوى وتبذل ليشتد. لقد أشغلت سمعها وبصرها ويدها ورجلها وبشرها وجميع جوارحها ، كل ذلك قدمته راغبة لئلا يتأذى أو يتضرر وليدها. وبعد الحمل والخروج إلى عالم النور لم تكتف الأم الحنون عن تقديم عطاياها بل سلكت مسلك الإيثار بأجمل صوره وأجلها ، فبذلت جميع طاقاتها للحفاظ عليه والسهر على راحته إلى أن يكبر ويأخذ طريقه في الحياة والإمام زين العابدين في رسالته الكريمة شرح واقع الحال عندها ودفع الولد إلى شكرها على ما قدمته من جميل وهذه كانت وصية الله في كتابه الكريم. قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (1). ما أعجز الإنسان عن أداء حقوق أمه ، وإذا قدم لها جميع الخدمات والمبرات لما أدى أبسط شيء من حقوقها « فيا رضا الله ورضا الوالدين ». 22 ـ حق الأب : « وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك ، وأنك فرعه ، وأنك لولاه لم تكن __________________ (1) لقمان ، الآية 14. فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلا بالله .. ». أولى الإسلام ركنا الأسرة اهتماما كبيرا ، وأما حق الأب على الولد فهو كبير أيضا كحق الأم. فالأب يسعى في تحصيل لقمة العيش له ولأسرته فيبذل جهدا كبيرا ويتحمل مشقات كثيرة من أجل إسعاد أولاده. الأب يمثل الأصل والابن يمثل الفرع ، ولا وجود للفرع دون الأصل لأنه السبب في وجوده ونموه وازدهاره. وما نراه اليوم أن الفرع قد يطغى على الأصل ، فيرى الابن نفسه أكبر من أبيه وأكثر فهما وتطورا فيتطاول على الوالدين وينال من كرامتهما ناسيا أنه من تربية أيديهما ونتاج فضلهما وثمرة لوجودهما. هذا النوع من الأبناء هو إنسان عاق منحرف ابتعد عن الصواب وغفل عن وصية الله له التي تحث الأولاد على طاعة الوالدين واحترامهما. قال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) (1). والإسلام دعا إلى تمتين روابط الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة فالولد البار يقوم بأداء حق الوالدين ويطيعهما ويوفر لهما كل أسباب الرضا فلا يفحش في الكلام لهم ولا يغلظ وإنما المعاملة بالعطف والرقة وخفض الجناح والكلام الطيب ولئن كانت الكلمة الطيبة صدقة فإنها في حق الوالدين أكبر من الصدقة وأنبل. ورد في أحكام القرآن لأبي بكر ابن عربي الأندلسي ج 2 ص 35 ، أن شيخا قال أبياتا يعتب فيها على ولده قرأها على النبي (ص) وهي : __________________ (1) الإسراء ، الآية 24.
غذوتك مولودا وقد كنت يافعا تعل بما أحنى عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليك مدى ما فيك كنت أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل فلما سمع النبي (ص) هذه الأبيات قال للولد : « أنت ومالك لأبيك ». 23 ـ حق الولد : « وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ، ومضاف إليك ، في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربه ، والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ، ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذور إلى ربه في ما بينه وبينه بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه ولا قوة إلا بالله .. ». الولد قطعة من الكبد بل هو الكبد كله. قال أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن 8 : « ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي » والولد هو امتداد لحياة أبيه ، واستمرار لوجوده هو بعضه بل هو كله. من هذا المنطلق يبادر الأب إلى الحفاظ على أولاده فيقوم بإعالتهم من مأكل ومطعم وكساء. وهذا العمل هو جزء كبير من الواجبات المطلوبة من الوالد. ولم يقتصر واجبه عند هذا الحد من الواجبات المادية بل عليه واجب أكبر في تربية أولاده تربية إسلامية فاضلة ، فيغرس في أعماقه النزعات الكريمة ، ويعوده على العادات الحسنة ويجنبه الرذائل ويقيم له الأدلة على الخالق العظيم الذي يملك كل شيء وبذلك يكون قد أدى واجبه نحو أسرته ونحو مجتمعه فالأسرة الصالحة لبنة في بناء مجتمع صالح وإن أخفق فهو مسؤول أمام الله تعالى ، ومعاقب على ذلك. والإمام زين العابدين يبين أن القضية ليست نتاج فحسب بل هي مسؤولية وحساب فالولد يعيد وجود أبيه فإن كان صالحا برا تقيا نسب إلى أبيه ، وإن كان شقيا طالحا نسب إليه أيضا فالإمام (ع) يستثير في الوالد مكامن العز ويحرك في نفسه حب الاستمرارية في الحياة فإن أحسن تربيته يكون قد حقق لنفسه السمعة الطيبة والأحدوثة الحسنة ، من هنا كان القول المأثور : « الولد سر أبيه ». 24 ـ حق الأخ : « وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحا على معصيته ، ولا عدة للظلم بحق الله (1) ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه ، والإقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له ، وإلا فليكن الله آثر عندك (2) ، وأكرم عليك منه .. ». الإسلام كدين إنساني اجتماعي جاء ليشد أواصر القربى ويقوي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فشرع قانون الأخوة الإسلامية ، الأخوة في الله ، فمهما تباعدت البلاد ونأت الديار نجد المسلم العربي يفرح للقاء أخيه الهندي أو الإيراني أو المصري أو السوري أو العراقي أو __________________ (1) ورد في نسخة أخرى : « للظلم لخلق الله ». (2) أثر عندك : أفضل وأولى. الجزائري ... أو أي أخ من بلد عربي مسلم آخر. وذلك تحت ظلال الأخوة الإسلامية « إنما المؤمنون إخوة ». هذه الأخوة تتوثق أكثر إذا انضمت إليها أخوة النسب فإنهما تتآلفان وتتساندان في طريق الحق والإيمان ، لكن أخوة النسب لا يقيم لها الإسلام وزنا إذا لم تكن ضمن الخط الإسلامي وفي طريق تقوى الله. والإمام زين العابدين (ع) يلقننا درسا من دروس الإسلام في التربية الاجتماعية فبلغت أنظارنا أن الأخ يد لأخيه وعز ومنعة وقوة له ، هو سنده في الملمات وشريكه في السراء والضراء وله من الحقوق ما يلي : 1 ـ أن لا يتخذه سلاحا على المعاصي ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) ولا يستعين به على ظلم الناس والاعتداء عليهم بغير حق. 2 ـ أن يرشده إلى سبل الخير ويهديه إلى طريق الرشاد. 3 ـ أن يعينه على ( الوسواس الخناس ) ويحذره منه ، ويخوفه من عقاب الله تعالى ، يوم لا ينفع لا مال ولا بنون إلا ما أتى الله بقلب سليم. 4 ـ أن ينصحه في أمور آخرته ودنياه ، فإن أطاعه وانقاد للحق فذاك ، وإلا فليعرض عنه ، ولا يتصل به لأنه عصى الله وليكن سبحانه وتعالى أكرم عليك منه وآثر لديك. 25 ـ حق المنعم عليك بالولاء : « وأما حق المنعم عليك بالولاء فتعلم أنه أنفق فيك ماله ، وأخرجك من ذل حق الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها ، وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية ، وأوجدك رائحة العز ، وأخرجك من سجن القهر ، ودفع عنك العسر ، وبسط لك لسان الإنصاف ، وأباحك الدنيا ، فملكك نفسك ، وحل أسرك ، وفرغك لعبادة ربك ، واحتمل بذلك التقصير في ماله ، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك ، وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكافأتك في ذات الله فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك ». كان الرق سائدا في المجتمع الجاهلي ولما جاء الإسلام عمد إلى ترغيب الناس في تحرير العبيد وتخليصهم من نير الاستعباد ، وقد شجع النبي الأكرم والأئمة الأطهار من بعده على تحرير الرقيق بشتى صوره وأشكاله. فتسابقوا جميعهم (ع) إلى عتق العبيد فالإمام علي بن أبي طالب (ع) أعتق ألف مملوك من كد يمينه وعرق جبينه ، وحفيده الإمام زين العابدين (ع) كانت إحدى خصائصه عتقه للعبيد حيث كان يشتريهم ويقوم بتعليمهم وتهذيبهم ثم يحررهم لوجه الله ، فكان العبد عنده لا يستقر أكثر من ستة أشهر إلى سنة. إن هذا التصرف العظيم ينطلق من قاعدة أساسية وهي إرادة الحرية لجميع الناس وينسجم مع نظرة الإسلام إلى كون الناس أحرارا والرق حالة طارئة يجب أن تزول ، وقد جعل تحرير العبيد كفارة لبعض الذنوب. فعلى الإنسان الذي عادت إليه حريته أن يشعر بهذه النعمة الكبيرة التي تمت على يد هذا المنعم الذي أطلق سراحه وأعتق رقبته. وليعلم أن تحريره نعمة تفرض عليه الشعور بأن هذا المنعم هو أولى الناس به بعد أهله وأرحامه في حياته وموته ، لأنه أطلقك من سجن العبودية وملكك نفسك وفرغك بعبادة ربك واحتمل ذلك التقصير في ماله لذلك لا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك. 26 ـ حق المولى : « وأما حق مولاك ، الجارية عليه نعمتك ، فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه ، وواقية وناصرا ، ومعقلا ، وجعله لك وسيلة ، وسببا بينك وبينه ، فالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك ، فإن لم تخفه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه ، ولا قوة إلا بالله .. ». دعا الإمام (ع) المسلمين إلى مراعاة حقوق أرقائهم فإن الله قد جعلهم عليهم وكلاء ، فاللازم عليهم مراعاة حقوقهم ، ومعاملتهم معاملة كريمة ، والإحسان إليهم بكل ما يمكن إحسانه ، فإن فعلوا ذلك وقاموا به فإن الله يجازيهم على ذلك ويجعل إحسانهم إليهم وقاية لهم من النار في الآخرة لما يحققونه من أجر وثواب. 27 ـ حق صاحب المعروف : « وأما حق ذي المعروف عليك ، فأن تشكره وتذكر معروفه وتنشر له المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه ، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية. ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته وإلا كنت مرصدا له موطنا نفسك عليها .. » (1). فاعل المعروف رجل خيّر طابت نفسه وسخت كفه حتى أصبح فعل الخير سجية من سجاياه ، يبادر إلى فعله عندما يعلم به دون سؤال ولا التماس طلب. يقوم بعمله هذا وهو يشعر بلذة وارتياح نفسي. وحسن هذا المعروف أن يبقى طي الكتمان لا يعرف به إلا صاحبه أما إذا أراد صاحب المعروف أن يكسب شهرة بمعروفه طمعا بتحقيق مصالح شخصية ومآرب خاصة فإنه لا يستحق المدح ولا الثناء ويذهب معروفه باطلا مهما كان كبيرا. قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً __________________ (1) الضمير في عليها عائد إلى المكافأة. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) (1). أما إذا كانت نفوس أهل الخير طاهرة تريد الخير لوجه الله تعالى فعلى المحسن إليه تقديم الشكر لهم ونشره بين أفراد المجتمع حتى يتسابق أهل الخير إلى الخيرات فيما بينهم. ثم من واجب المحسن إليه أيضا المبادرة بالدعاء إلى من أحسن إليه اعترافا منه بالجميل ثم يترقب الفرص المناسبة ليرد لهم إحسانهم وجميلهم عند استطاعته. 28 ـ حق المؤذن : « وأما حق المؤذن فأن تعلم أنه مذكرك بربك ، وداعيك إلى حظك ، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك ، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك وإن كنت في بيتك متهما لذلك ، لم تكن لله متهما في أمره ، وعلمت أنه نعمة من الله عليك ، لا شك فيها فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال ، ولا قوة إلا بالله .. ». الله اكبر .. نشيد من أناشيد السماء يرتله المؤمنون على هذه الأرض المباركة فينعش قلوبهم المفعمة بالإيمان ويحرك فيها الصلة بالله تعالى. بهذا النشيد الرباني تحطمت عروش السلاطين الظالمين وزالت دول الجبارين الفاسدين إلى غير رجعة. بهذا النشيد السماوي نشط المجاهدون الأبطال وأحرزوا الانتصارات الباهرة ، وفتحوا الفتوحات الزاهرة ، وأرشدوا الناس إلى الحياة الحرة الكريمة. ( أشهد أن لا إله إلا الله ) شهادة وجدانية تتجسد في رفض كل الآلهة __________________ (1) البقرة ، الآية 264. البشرية ما عدا الله الواحد الأحد وله الحكم والمحيي والمميت. وأشهد أن محمدا رسول الله : شهادة إقرار أن محمدا رسول من الله المبلغ لكلامه المتلقي منه الوحي والبيان. إنه المبلغ عن الله أحكامه ولا يجوز التوجه إليه عن الطرق الأخرى المخالفة له. حي على الصلاة : الصلاة التي ترفع بالمصلي إلى أرقى درجات الكمال والفضيلة ، وهي التي تنهي عن الفحشاء والمنكر وتبني الإنسان ليعيش عزيزا كريما عظيما. حي على الفلاح : يريد الله لعباده المؤمنين أن يتسلموا مقاليد الحياة ويقودوا العالم نحو الخير والصلاح. حي على خير العمل : تجعل المسلم يتفاعل مع أحكام الله وتشد عزيمته إلى المسيرة الحياتية الكريمة. والرافع لهذا النشيد السماوي هو المؤذن المذكر بالله تعالى والمحرك لهذا الإنسان نحو الصلاة فحق له أن يشكر ويحسن إليه .. هذه هي وصية الإمام (ع) إلى المسلمين ليحسنوا إلى الذي يعلمهم بدخول وقت الصلاة وهي من أهم الفرائض الدينية في الإسلام. 29 ـ حق إمام الجماعة : « وأما حق إمامك في صلاتك فأن تعلم أنه تقلد السفارة في ما بينك وبين الله ، والوفادة إلى ربك ، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه ، ودعا لك ولم تدع له ، وطلب فيك ولم تطلب فيه ، وكفاك هم المقام بين يدي الله ، والمسألة له فيك ، ولم تكفه ذلك ، فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك ، وإن كان آثما لم تكن شريكه فيه ، ولم يكن لك عليه فضل ، فوقى نفسك بنفسه ، ووقى صلاتك بصلاته فتشكر له على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». صلاة الجماعة فيها أجر كبير وسر دقيق وبالخصوص إذا كانت خلف إمام اكتملت فيه شروط الإمامة. وصلاة الجماعة لها دلائل عدة منها : المساواة بين المسلمين فلا يفضل شخص على آخر مهما كان مركزه وظروفه ، فمن سبق إلى المكان يكون أحق به. وتدل أيضا على وحدة المسلمين في الكلمة والموقف ، فالجميع ينضمون تحت لواء التوحيد لله والطاعة لرسول الله (ص) كما أنها تدل على حسن النظام في الإسلام ، فالصفوف كلها خلف إمام واحد ينوب عنهم في قراءة الفاتحة والسورة ويبلغ مرادهم. والجميع يثقون بعدالته وتقواه والتزامه بمنهج الإسلام. ولإمام الجماعة فضل كبير على المؤتمين به ، وذلك لما يترتب من الثواب الجزيل على الجماعة. وقد تضافرت الأخبار باستحباب صلاة الجماعة وأنه كلما ازداد عدد المصلين جماعة ازداد ثوابهم وتضاعف أجرهم. ومن المعلوم أن ما يظفر به المأموم من الثواب الجزيل إنما هو بسبب إمام الجماعة الذي تقلد السفارة في ما بين المأموم وبين الله تعالى فهو مندوب عن المصلين يحمل أفكارهم ومشاعرهم بين يدي الله يخاطبه عنهم. وبذلك فقد تحمل الإمام عنهم أعباء القراءة في حين أن المأموم لم ينب عنه بشيء. ولهذه الجهة وغيرها فحق له الشكر وهذا ما أشار إليه الإمام زين العابدين (ع) في رسالته الكريمة هذه ذلك إن قصّر أثم هو دونك ولحقته جريرة ذنبه دونك فبصلاته وقى صلاتك وبنفسه وقى نفسك من النار فهو المسؤول والمحاسب عنك فحق له الشكر والثناء. 30 ـ حق الجليس : « وأما حق الجليس فأن تلين له كنفك وتطيب له جانبك وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تغرقه في نزع اللحظ إذ لحظت وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا نطقت ، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار ، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ، ولا تقوم إلا بإذنه ولا قوة إلا بالله ». راعى الإسلام جميع الآداب الاجتماعية ومنها أدب المجالس فمن أدب الجالسين أن يفسحوا للقادم إليهم مهما كان ضيق المكان ليشعروه بالتقدير والاحترام عملا بقول الله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ .. ) (1). ومن أدب الداخل إلى المجلس أن يجلس حيث يجد فراغا ملائما طبقا لقول الرسول (ص) : « إجلس حيث انتهى بك المجلس » ومن أدب الجالسين بعضهم مع بعض أن يشعروا أنفسهم باحترام بعضهم البعض فلا يتكلم أحدهم بخشن الكلام أو وهو غير ملتفت إلى مخاطبه أو بعبارات نابية. لأن المجالس في الإسلام لها آدابها واحترامها ، والإمام زين العابدين يتحفنا من هذه الآداب بما يلي : 1 ـ أن يلين الجليس جانبه لجليسه ولا يتلفظ بكلام فيه غلظة وشدة تنفر منها الطباع. 2 ـ أن يطيب له جانبه وذلك بتقديره وتكريمه. 3 ـ أن ينصفه إذا خاض معه الحديث ولا يظهر الاستعلاء عليه. 4 ـ أن لا يبالغ كثيرا في أمره. 5 ـ أن يقتصد بإفهامه عندما يوجه إليه الكلام. 6 ـ إذا جاء قبله فعليه الاستئذان منه إذا أراد القيام وإذا جاء بعده فهو بالخيار في المقام. قال الإمام (ع) : « وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ولا تقوم إلا بإذنه ». ما نلفت إليه أن هذه الآداب لو طبقها المسلمون على واقع حياتهم __________________ (1) المجادلة ، الآية 11. لسادت المحبة والوئام في ما بينهم وزالت الحزازات التي تفرق بينهم وتباعد بين جماعاتهم. 31 ـ حق الجار : « وأما حق الجار فحفظه غائبا ، وكرامته شاهدا ، ونصرته ومعونته في الحالين جميعا ، لا تتبع له عورة ، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها ، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف ، كنت لما علمت حصنا حصينا ، وسترا ستيرا ، لو بحثت الألسنة عنه لم تتصل إليه لانطوائه عليك. لا تستمع إليه من حيث لا يعلم ، لا تسلمه عند شديدة ، ولا تحسده عند نعمة. تقيل عثرته وتغفر زلته ، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلما له ، ترد عنه الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». اهتم الإسلام بالجار اهتماما بالغا وجعل له حقوقا كثيرة تنطلق من حب التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان. والله تعالى أوصى بالإحسان إلى الجار. قال تعالى : ( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ ) (1). وقد تضافرت الأخبار عن أئمة الهدى (ع) بالوصاية والعناية في أمور الجار وذلك لإيجاد التضامن الاجتماعي بين المسلمين. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) : « وأوصانا رسول الله (ص) بالجار حتى ظننا أنه سيورثه » وحتى لو كان الجار كافرا فرض له الإسلام حقوقا. قال رسول الله (ص) : الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد. فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام. __________________ (1) النساء ، الآية 36. والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار. والجار الذي له حق واحد ، الكافر له حق الجوار. ولهذا يتوجه الإمام زين العابدين (ع) في رسالته ليلقي الأضواء الكاشفة على حقوق الجار. وهي : 1 ـ أن يحفظ الجار جاره في حال غيابه ، فلا يستغل غيابه للنيل منه والاعتداء على كرامته. 2 ـ أن يكرمه في حال حضوره وينصره ويعينه في حال غيابه. 3 ـ أن لا يتتبع أي عورة أو منقصة له ولا يبحث له عن سوءة وعليه أن يحفظ له حريمه ومعايبه وإن عرف بشيء من ذلك ستره ضمن أسراره. 4 ـ أن لا يستمع لحديثه اختيارا بدون علمه ولا يجوز له أن يسترق السمع ليأخذ منه ما لا يرضى ، لأن الإسلام يريد من الجار أن يمتنع عن كل ما يعكر صفو الود والوفاق ويلقي المسلم مع المسلم بقلب طاهر ووجه باسم دون أن يكون هناك أي حذر يسيء الظن. لأن ذلك يفرق بين الناس والإسلام يدعو إلى الإلفة والتضامن ورص الصفوف. 5 ـ ومن حق الجار أن لا يسلم جاره عندما تنزل به شدة أو تلم به مصيبة بل عليه أن يعينه بنفسه وما له وما ملكت يداه وإذا حصلت له نعمة فليفرح معه ولا يحسده عليها. 6 ـ الحلم عنه إذا بدرت منه بادرة سوء ، وعدم مقابلته بالمثل. 7 ـ صد من يشتمه أو يذكره بسوء. 8 ـ يعيش معه بترفع وإباء فيصفح عنه إذا زل أو أخطأ ويحلم عليه حتى يرجع إلى رشده ، ولا يصدق أية وشاية أو كلمة سوء ممن يريد أن يلقي بينهما العداوة والبغضاء. لقد دعانا الإمام زين العابدين لنتمسك بتعاليم الدين الإسلامي
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 3304 نقاط : 4993 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الامام السجاد جهاد وامجاد الجمعة أكتوبر 18, 2024 6:14 am | |
| العظيم وشريعته الكريمة حيث لا نجد دعوة في العالم تتبنى ما تبناه الإسلام في حق الجار ولا نظن أن هناك شريعة أعطت للجار من الحقوق ما أعطاه الإسلام. 32 ـ حق الصاحب : « وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا وإلا فلا أقل من الإنصاف ، وأن تكرمه كما يكرمك ، وتحفظه كما يحفظك ، ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ، ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك نصيحته وحياطته ، ومعاضدته على طاعة ربه ومعونته على نفسه في ما لا يهم به من معصية ربه ثم تكون عليه رحمة ، ولا تكون عليه عذابا ، ولا قوة إلا بالله .. ». ليست الصحبة في الإسلام تعارفا عابرا وجانبيا بل لها حقوقها التي يجب مراعاتها على كل صاحب تجاه صاحبه. فالصاحب يكتسب من صاحبه عاداته وأخلاقه ، وتقاليده وأفكاره ، وكما قال المثل : قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. وقد أمر الإسلام باختيار الأصحاب الذين يقربونه من الله ويعينونه عند الضيق. وعلى الإنسان أن يتمهل في اتخاذ الصديق كما عليه أن يتمهل في تركه. قال أمير المؤمنين (ع) : « لا تصحب إلا عاقلا تقيا ولا تخالط إلا عالما زكيا ولا تودع سرك إلا مؤمنا وفيا ». وقد حدد الإمام زين العابدين حقوق الصاحب على صاحبه وهي : 1 ـ أن تكون المصاحبة على الفضل والمعروف وليس لغايات خاصة. 2 ـ أن يحفظ كل منهما صاحبه في حضوره وفي غيابه. 3 ـ أن تقوم المصاحبة على المودة الصادقة والإخاء الصافي والمحبة الخالصة. 4 ـ أن يقدم كل صاحب لصاحبه النصيحة ولا يقصر به عما يستحق من المساعدة. 5 ـ أن يعضد كل منهما صاحبه على طاعة الله تعالى والتجنب عن معاصيه فيعينه في دنياه وفي آخرته. 6 ـ أن تكون الصداقة نعمة ورحمة فلا يغير على صاحبك سلطة تسلمها أو مال حصل عليه. 33 ـ حق الشريك : « أما حق الشريك فإن غاب كفيته ، وإن حضر ساويته ، ولا تعزم على حكمك دون حكمه ، ولا تعمل برأيك دون مناظرته ، وتحفظ عليه ماله ، وتنفي عنه خيانته في ما عز وهان فإنه بلغنا إن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ، ولا قوة إلا بالله ». لقد أباح الإسلام الشركة في العقود وعمل بها المسلمون وقد حدد الفقهاء شروطها وذكروا موانعها. واختيار الشريك أمر هام ذلك أن العاقل يعرف كيف يختار الشريك الأمين التقي ، الورع الذي يخاف الله فإذا كان الشريك بهذه المواصفات من الأمانة والعفة والنزاهة عندئذ يأتي دور التربية الإسلامية التي تنبه الشريك كيف يجب أن يعامل شريكه. والإمام زين العابدين (ع) تحدث عن صفات الشريك وواجباته تجاه الشريك الآخر منها : 1 ـ إذا غاب عليه أن يكفيه في عمله وينوب عنه في أداء حقه وإذا حضر معه عليه أن يساويه بنفسه فلا يتميز عنه. 2 ـ فلا يمضي رأيا دون رأيه ولا ينفذ ما يريده دون علمه ، بل عليه مشاورته وأخذ رأيه فيما يقدم عليه من عمل يكون مشتركا بينهما حتى يتحمل مسؤولية كاملة نحو ما له. 3 ـ على الشريك أن ينفي تهمة الخيانة عن شريكه فلا يتهمه بعد أن كان مصدر ثقة ولا يتصرف إلا ضمن موازين الشرع والحق. ذلك أن نفي الخيانة هي مرحلة مهمة للود والصفاء بين الشركاء. فالثقة أهم شرط في دوام الشركة ، وما نجده من الاختلاف بين الشركاء إنما كان في أكثر الأحيان نتيجة عدم التكافؤ بين الشريكين ، ففي حين يكون أحدهما مؤمنا يكون الآخر مستهترا أو فاسقا ، أو أنه مستبد برأيه فلا يعطي لشريكه الفرصة للتعبير عن رأيه. ولو عمل الشركاء بنصائح الإمام زين العابدين (ع) لما وقع الخلاف بينهم ولنجحوا في شركتهم وحققوا هدفهم. 34 ـ حق المال : « وأما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله ، ولا تنفقه إلا في حله ، ولا تحرفه عن مواضعه ، ولا تصرفه عن حقائقه ، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه ، وسببا إلى الله ، ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك ، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك ولا يعمل فيه بطاعة ربك ، فتكون معينا له على ذلك ، وبما أحدث في مالك ، أحسن نظرا لنفسه فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة ، وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة ، ولا قوة إلا بالله ». لا يخفى ما للمال من دور هام في ترفيه الإنسان وسعادته. هو وسيلة لقضاء حاجات الإنسان وليس هدفا مقصودا بذاته والإسلام لا يدعو الناس إلى الابتعاد عن لذات الحياة ولا يحارب المال ، فالله جعله والبنين زينة حياة الإنسان. ( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا. ) كما أنه يكره الفقر والمسكنة ويجعل اليد العليا خير من اليد السفلى التي تمتد لتأخذ. لكن المال سلاح ذو حدين ويعود نفعه أو ضرره لجهة استعماله. فصاحبه يمكن أن يسعد به ويمد الإنسانية بأروع المشاريع ، كما يمكنه أن يحول هذا المال إلى سيف قاطع يحول سعادة الإنسان إلى شقاء ودمار. وما نراه اليوم من أكثر المتمولين الذين أمدهم الله بالمال ، يحولون هذا المال إلى معصية الله ، حيث يستعملونه في سائر المحرمات كالخمر والقمار والربا وحفلات اللهو وغير ذلك من الأعمال المنكرة التي مجها الإسلام وعاقب عليها. والإسلام يشجع على إنفاق المال في سبيل الله ، فيصرف على الفقراء والمحتاجين ويتصدق به على المعوزين من أخواننا المسلمين وغير المسلمين. وذلك عملا بقول الله عز وجل : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... ) (1). والذي ينفق المال بهذه الطريقة في سبيل الله لا منا ولا أذى يكسب رضا الله وتعود الفائدة عليه. قال تعالى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ .. ) (2). ولا يخفى أن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم من أبرز مصاديق الإحسان الذي يتبرع به الإنسان على الفقراء ، من هنا سأل سائل الإمام الصادق 7 فقال : إنا لنحب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال الإمام (ع) : تصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأحج وأعتمر. قال الإمام : ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة .. فإن صلة الناس بالمال والتصدق عليهم أبرز مصاديق الإحسان المحض الذي يتبرع به الإنسان على الفقراء والمحتاجين. والإسلام يريد أن يكون المال الذي يجنيه الإنسان من الطرق الشرعية __________________ (1) البقرة ، الآية 262. (2) البقرة ، الآية 272. المحللة ، لذلك وضع طرقا لاكتساب المال إذا تجاوزها الإنسان لم يكن المال شرعيا. من هنا يوضح الإمام زين العابدين (ع) حيث يقول : ( وأما حق هذا المال فأن لا تأخذه إلا من حله ) ينفق في الوسائل المحللة والمشاريع الخيرية التي يثاب عليها كإنشاء المستشفيات ومعاهد التعليم وتأسيس المكتبات العامة وما شابه ذلك من المشاريع التي تفيد كافة الناس. أما إذا جمعه صاحبه وادخره لورثته ، فإن أنفقوه في طاعة الله فقد كسبوا رضى الله دونه وذهبوا بالغنيمة وإن أنفقوه في معصية الله فإثمه عليه لإعانته إياهم على المعاصي والحرام ، وباء هو بالحسرة والخسران. من هنا قال الإمام زين العابدين (ع) : « ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركك ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معينا له على ذلك .. » (1). 35 ـ حق الغريم : « وأما حق الغريم المطالب لك فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته ، ولم ترده ، وتمطله ، فإن رسول الله (ص) قال : « مطل الغني ظلم » وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ، وطلبت منه طلبا جميلا ، ورددته عن نفسك ردا لطيفا ، ولم تجمع عليه ذهاب ما له ، وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم ، ولا قوة إلا بالله .. ». جاء الإسلام ونظم كل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا تنظيما شاملا ليكون جسر عبور سليم له إلى الآخرة. هذا التنظيم شمل جميع المعاملات واستوعب جميع ما يجري في الحياة من أبواب التجارة كالبيع والشراء ، وأبواب الزراعة والجعالة ، وأبواب الإجارة والسبق والرماية ، __________________ (1) راجع نهج البلاغة لأمير المؤمنين هناك بحث عن المال في طرق كسبه وطرق إنفاقه. وأبواب الشركة والمضاربة والوديعة ، إلى آخر أبواب المعاملات. هذه المعاملات نظمها الإسلام حسب الأصول هادفا منها تمتين العلاقات بين المسلمين وتوثيق الروابط الاجتماعية من هذه المعاملات كان القرض وهو من الأمور المستحبة التي نادى بها الإسلام بعد أن حرم الربا وكل ما يسلب الفقير ماله. والقرض قربة إلى الله تعالى يوطد الصلة بين الأخوة ويزرع المحبة في قلوبهم لأنه يفك أسر المحتاج وينقذه من ضيق يضنيه ويغنيه عن أرباب المال المستغلين. والقارض أعطى للمستقرض فرصة واسعة حتى يؤدي دينه فلم يحصره بأجل معين أو يضغط عليه في الوفاء. بل عليه أن يرد المعروف لصاحبه ولا يسوف في الأداء. أما إذا لم يتوفر مال القرض فعلى أربابه أن يراعوا أحوال المستقرض حتى تتيسر الأمور. قال تعالى : ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .. ) (1). وقد أشار الإمام زين العابدين أن على المستدين أن يتلطف إلى أرباب المال ويقابلهم بالكلمة الطيبة ويردهم ردا جميلا ( فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته ولم ترده وتمطله ) ثم يتابع الوجه الآخر : ( وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ) إن لم ترضه بأداء الدين. وإذا لم يسلك الدائن هذا السبيل فإن ذلك لؤم. 36 ـ حق الخليط : « وأما حق الخليط فأن لا تغره ولا تغشه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاصه عمل العدو الذي لا يبقى على صاحبه وإن اطمأن إليك استقصيت على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل ربا ، ولا قوة إلا بالله .. ». الخليط كالشريك والجليس وليس عابر سبيل فعليك أن تحافظ عليه __________________ (1) البقرة ، الآية 280. ولا تغشه عملا بقول الرسول الأعظم « من غشنا فليس منا » فالغش لعامة الناس أمر سيء ومرذول فكيف به للخليط كما لا يجوز لك تكذيبه لأن ذلك يعد من الطعن فيه وعدم الثقة. ومن شروط المخالطة أن يكون الخليط قوي الإيمان ، صادق اللهجة محبا للحق ملتزما بأوامر الله تعالى ؛ وإلا كان الخليط منحرفا عن الحق سيئا لا يقيم وزنا لدين أو إيمان ، فالبعد عنه خير من الاقتران به ، لأن من يكون مسلكه كذلك فإنه يضل صاحبه ويحرفه عن جادة الاستقامة والقرآن الكريم للذين يتخذون خليلا غير صالح. قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) (1). والإمام زين العابدين (ع) يحذرنا من اتخاذ المغفل والمخادع خليلا ويطلب إلينا أن لا نعيبه ولا ننقصه لأن ذلك ليس من فعل الخلطاء بل هو من فعل الأعداء ، لأن العدو هو الذي يتحين الفرص للنيل من عدوه. 37 ـ حق الخصم : « وأما حق الخصم المدعي عليك فإن كان ما يدعيه عليك حقا لم تتفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدعيه باطلا رفقت به وردعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه وبه يشحد عليك سيف عداوته لأن لفظة السوء تبعث الشر والخير مقمعة للشر ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». النظم الإسلامية من أرقى ما جاءت به الشرائع في العالم فأين هي __________________ (1) الفرقان ، الآية 27. القوانين الوضعية المنحرفة من القوانين الإلهية المنزهة؟ وقد تعرّض الأئمة الصالحين والفقهاء العالمين للقضاء فحللوا مسائله وحددوا مواصفات القاضي وآدابه وبينوا المنهج الذي يكون عليه القضاء. والإمام زين العابدين يريد في رسالته هذه أن يدخل إلى أعماق النفس ليحررها من الشذوذ ويعود بها إلى طاعة الله ورسوله. فيذكر الإنسان الذي أقيمت عليه الدعوة. فإن كانت صادقة من صاحبها فعليه أن لا يبطلها ويبطل الحق الذي تعلق بها ، فيرده إلى أهله. كما عليه أن يحاسب نفسه في هذا الموقع فيخاصمها إن جنحت به عن الحق فيحكم بالحق دون أن ينظر إلى الشهداء كي يدلوا بشهاداتهم عليه ، لأن ذلك هو حق الله ولا يجوز للمسلم أن ينقض حقا من حقوق الله. أما إذا أراد أن يأخذ أموال الناس بالباطل من خلال فصاحة لسانه فإنه سيحاسب على فعله الشنيع ويعاقب على تصرفه الضال. ذلك أن كل حق يأخذه من الناس في غير موضعه إنما هو قطعة من النار تحرقه يوم القيامة. إن من يأكل أموال الناس بالباطل إنما يجني على نفسه لأنه سوف يقف أمام حاكم عادل لا يحتاج إلى بينة أو شهود ، لأنه يعلم ما في السرائر وما تكنه الصدور أما إذا كانت الدعوى الموجهة ضدك باطلة فالإسلام يأمر أن يرده بالرفق والموعظة الحسنة التي ترده إلى دينه وتحرك فيه إيمانه الذي يربطه بخالقه ، ولا يجب أن نستعمل اللغط واللجاج لأن ذلك لا ينفع ولا يقطع الدعوى من مجاريها بل ربما يجني على الشريف الشر والغم. 38 ـ حق المدعى عليه : « وأما حق الخصم المدعى عليه ، فإن كان ما تدعيه حقا أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى ، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه ، وقصدت قصد حجتك بالرفق وأمهل المهلة وأبين البيان وألطف اللطف ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك في ذلك درك ، ولا قوة إلا بالله .. ». لقد شدد الإسلام على منع الترافع إلى الظلمة الذين انحرفوا عن العدل والحق وسلكوا طرقا فاسدة يتبرأ منها الدين. وعن الإمام الصادق (ع) قال : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه حكما بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ». والإمام زين العابدين (ع) يعطينا درسا مفيدا في كيفية الترافع وكيف نقدم حجتنا. فإذا كان المدعي على حق في دعواه ، فأوصاه أن يتجنب الكلمات النابية مع خصمه ، بل يقابله بالبيان الواضح والحجة الظاهرة والكلمة الطيبة ، كما عليه تجنب القيل والقال لأنهما لا يجديان شيئا ، ولا يرجعان حقا بل ربما يذهب ذلك بالحق ويضيع ويخرج عن الهدف الرئيسي الذي من أجله كانت الدعوة. 39 ـ حق المستشير : « وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك في رحمة ولين فإن اللين يؤنس الوحشة وإن الغلظ يوحش موضع الأنس. وإن لم يحضرك له رأي ، وعرفت له من يثق برأيه ، وترضى به لنفسك دللته عليه ، وأرشدته إليه فكنت لم تأله (1) خيرا ولم تدخره نصحا ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». ورد عن النبي (ص) وعن الأئمة المعصومين الحث على الاستشارة وعدم الاستقلالية في الرأي. فعلى المستشير أن يقف على عقول الآخرين ليدرك وجوه الحسن والقبح فيها. ورد عن النبي (ص) : « ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ». __________________ (1) لم تأله : أي لم تقصر. وقال الإمام علي بن أبي طالب (ع) : « من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ». فالاستشارة يجب أن تكون من رجل اجتمعت فيه شروط أهلته لذلك أولها وأهمها : العقل ، يعقل الأمور ويحلها بروية بعيدا عن الميل والهوى. والشرط الثاني : الالتزام الديني ، أن يكون ملتزما إسلاميا ، ورعا تقيا حتى لا يقوده انحرافه إلى مخالفة الحق والصواب. والشرط الثالث : المعرفة والخبرة. فإذا اجتمعت فيه هذه الشروط حق له أن يستشار وحق للناس أن يسمعوا له. أما إذا فقدت هذه الشروط فإن الاستشارة قد تسبب الضرر. والإمام زين العابدين (ع) يطلب من المستشير على المشير أن يؤدي نصيحته له بلطف ولين لا شدة فيه ، لأن الشدة تنفر منها الطباع وتستوحش منها القلوب ، وإن عرف من يثق برأيه فليدله عليه ، ويرشده له وبهذا يكون قد أدى واجبه اتجاهه وأسدى إليه خيرا ومعروفا. 40 ـ حق المشير : « وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه ، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ولا تدع شكره على ما بدا لك من أشخاص رأيه وحسن وجه مشورته ، فإذا وافقك حمدت الله ، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر ، والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك ، ولا قوة إلا بالله .. ». من الآداب الإسلامية التي يعلمها الإسلام لاتباعه ، أدب المشاورة والوقوف على آراء الآخرين في القضايا التي يبغي حلها ، فالإسلام في الوقت الذي يجعل للإنسان الاستقلالية في الرأي والاعتداد بالنفس يأمره أن يقرن رأيه برأي غيره ثم يوازن بين كل هذه الآراء ليرى وجه الصواب. والعاقل يختار أسلم الطرق وأنفعها وهذا ما يحصل عند الذين يملكون التجارب في الحياة والممارسة في حل مشاكل الناس عامة. أما حق المشير على المستشير فلا يتهمه في رأيه ولا يزهد في نصيحته وإذا اتهمه في رأيه فإنه غير ملزم بالأخذ به وإذا تطابق الرأيان فيجب أن يحمد الله ويقبل رأيه مقرونا بالشكر ، كما عليه أن يرد هذا الموقف بموقف مماثل له فتشير عليه إذا فزع إليك. 41 ـ حق المستنصح : « وأما حق المستنصح فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أنه يحمل ، ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه ، وليكن مذهبك الرحمة ، ولا قوة إلا بالله .. ». يريد الإمام زين العابدين أن يعطي درسا للمستنصح كيف يكون الأسلوب الذي تصاغ به النصيحة؟ وكيف يكون الحديث؟ فيطلب إلينا أن نقابل المستنصح بمر الحق والصراحة القاسية إذا لزم الأمر ولا نسايره بما يتفق مع حاجاته ورغباته وكل شخص وله أسلوبه الذي يجب أن نتعامل معه ، فالعالم له أسلوبه الخاص به والجاهل له أسلوبه والعامل له أسلوبه والأمي له أسلوبه والأستاذ له أسلوبه والتلميذ له أسلوبه فكل واحد من هؤلاء له خطابه الخاص يخاطب به. ثم إن من حق طالب النصيحة أن تؤدى إليه بما يستطيع حمله وتقبله. وكما قال الرسول الأعظم : خاطبوا الناس على قدر عقولهم. والنصيحة يجب أن تقدم بأسلوب مرن وسلس لئلا يشق على المستنصح ذلك فيرفض النصيحة. وكم من نصيحة رفضت لأنها لم تستوف شروطها الموضوعية وكم من رجل صالح مخلص أصيب بخيبة أمل في رد النصائح التي أسدى بها إلى الآخرين وذلك لقساوته وعدم دراسته لحالة الطرف الآخر فتذهب عندها نصيحته أدراج الرياح. 42 ـ حق الناصح : « وأما حق الناصح فأن تلين له جناحك ، ثم تشرئب له قلبك (1) ، وتفتح له سمعك ، حتى تفهم عنه نصيحته ، ثم تنظر فيها ، فإن وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه ، وعرفت له نصيحته ، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته ، ولم تتهمه ، وعلمت أنه لم يألك نصحا إلا أنه أخطأ إلا أن يكون عندك مستحقا للتهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على كل حال. ولا قوة إلا بالله .. ». الناصح هو إنسان حكيم صقلت فكره التجارب وأكسبته الأيام خبرة واسعة أما لتجربة قام بها بنفسه أو لخبرة اكتسبها من ناصحين مخلصين. فمن حقه على السامع أن يصغي إليه لأنه يحمل له الإخلاص ويلقنه لباب الود الذي فيه نجابة. ومن حق الناصح أيضا على المستنصح أن يكون معه لين الجانب متواضعا ، فيتوجه إليه بقلب متفتح يستمع الحديث ويحلله بوعي ودقة فلا يحوج الناصح إلى الإعادة والتكرار. وبعد الاستماع الجيد بالسمع والقلب ينظر فيما يعرض عليه من النصيحة فيقومها بإمعان ويحللها بموضوعية ، فإن رأى وجه الصواب قد اكتمل فيه معالم الصحة فذلك توفيق من الله تعالى ، يجب أن يحمده عليه ويقبله منه ثم يقبل النصيحة ويحفظها. وأما إذا عرضها على نفسه وحللها ولم يجدها موافقة للصواب فإن كان ممن يتهم عنه أما لدينه أو أمانته وإخلاصه له فيجب عندها أن يرحمه ويستر عليه ، ذلك أنه لم يقصر اتجاهك وإنما قد أخطأ عن غير عمد ففسر __________________ (1) الأصح : بقلبك. الأمر تفسيرا مخالفا للواقع. أما إذا كان متهما عندك لأنه لم يستقص كل جوانب الموضوع أو أنه لا يريد لك الخير والفلاح فعليك أن تهمله ولا تعبأ بشيء من أمره بل تكله إلى الله فهو الذي يتولى الحساب. 43 ـ حق الكبير : « وأما حق الكبير فإن حقه توقير سنه ، وإجلال إسلامه. إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه ، وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه إلى طريق ، ولا تؤمه في طريق (1) ولا تستجهله ، وإن جهل عليك تحملت وأكرمته بحق إسلامه مع سنه ، فإنما هي حق السن بقدر الإسلام ، ولا قوة إلا بالله .. ». لقد سن الإسلام آدابا اجتماعية رائعة لا تقاس ولا من أي وجه بالآداب التي أفرزتها الحضارة المادية. وذلك من أجل بناء مجتمع أصيل تسود فيه المحبة والاحترام والتقدير فاحترام الشيخ الكبير واجب احترامه إذا كان من أهل الفضل والسابقة في الإسلام. أما مظاهر تكريمه فقد عرضها علينا الإمام 7 وهي : 1 ـ ترك مقابلته عند الخصام وفي المسائل التي توجب الجدل. 2 ـ إذا سار معه في طريق فلا يسبقه أو يتقدم عليه. 3 ـ إذا خفي على الشيخ بعض المسائل فلا يظهر جهله فيها. 4 ـ وإذا اعتدى عليه الشيخ فليتحمله ويكرمه من أجل إسلامه وكبر سنه. هذه الآداب التي دعا إليها الإسلام ونفذها أئمة الهدى (ع) توطد __________________ (1) لا تؤمه في طريق : أي لا تتقدمه. العلاقات الاجتماعية بين الناس وتصفي قلوبهم وتطهر نفوسهم ، إنها آداب إنسانية يمدح فاعلها في الدنيا ويؤجر ويثاب في الآخرة. 44 ـ حق الصغير : « وأما حق الصغير فرحمته ، وتثقيفه ، وتعليمه ، والعفو عنه ، والستر عليه ، والرفق به ، والمعونة له ، والستر على جرائر حداثته ، فإنها سبب للتوبة والمداراة له ، وترك مماحكته فإن ذلك أدنى لرشده .. » (1). الطفولة صورة ملائكية في الطهارة والبراءة وقد تظهر في عينيه الصافيتين وفي حركاته العفوية وفي جوارحه الناصعة ؛ وفي كلماته البيضاء. والطفل كالعجين بين يدي مربيه يستطيعان صوغه رجلا صالحا عظيما وبعيدا عن كل سوء وغش ، رجلا عقائديا يؤثر الحق ويدافع عنه في كل آن. أما إذا أهمل الوالدان تربية ولدهما فسوف تسود الصفحة البيضاء وتتحول القوة الإيجابية إلى قوة سلبية تخرب وتهدم وتعتدي على الآخرين بغير حق. قال سيد البلغاء والحكماء أمير المؤمنين في وصيته لولده الحسن 8 : « إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء إلا قبلته ». والإسلام يعتبر الطفل أمانة بين يدي والديه كما يعتبره أمانة في يد المجتمع المتمثل بالشارع والمدرسة والجامعة فعلى هذه العناصر جميعا رحمة هذا الطفل الطري العود وقد أعلن الإمام زين العابدين (ع) حقوق الصغير على الكبير التي تعد من ركائز التربية الإسلامية وهي : __________________ (1) الجريرة : الذنب أو الخطأ والمماحكة : المخاصمة بلا وجه. 1 ـ رحمة الصغير والعطف عليه وعدم استعمال الشدة والقسوة لأنهما بخلقان فيه العقد النفسية ويوجبان انحرافه عن الخط السليم. 2 ـ تعليمه وتثقيفه وفتح آفاق المعرفة أمام عينيه. 3 ـ الرفق به وإعانته في كل ما يحتاج إليه. 4 ـ الستر على جرائر حداثته وعدم نشرها. 5 ـ مداراته وترك مخاصمته لأن ذلك أفضل لرشده. هذه الأصول التربوية التي أعلنها الإمام (ع) توجب صلاح النشء وتهذيبهم وإصلاح المجتمع وترقيته إلى الأكمل والأفضل. 45 ـ حق السائل : « وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة ، وقدرت على سد حاجته ، والدعاء له في ما نزل به ، والمعاونة له على طلبته ، وإن شككت في صدقه ، وسبقت إليه التهمة ، ولم تعزم على ذلك لم تأمن من أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدك عن حظك ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك ، تركته بستره ورددته ردا جميلا. وإن غلبت نفسك في أمره ، وأعطيته على ما عرض في نفسك منه ، فإن ذلك من عزم الأمور .. ». في الواقع السؤال ذل ولم يسمح به الإسلام إلا في أوقات الضرورة التي يتوقف عليها حفظ النفس من الهلاك. يد المسلم عزيزة مترفعة تأبى أن يتصدق أحد عليها. والإسلام دعا إلى العمل الجاد والكفاح الشريف وعدّ الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله. والمسلم الكريم يكسب قوته بعرق جبينه وكد يمينه من صنوف الموارد المحللة التي تؤمن العيش الرغيد. ولا يخفى أن الأرزاق بيد الله يرزق من يشاء وبغير حساب ولكن على الإنسان السعي والتحصيل والعمل الجاد ، وبعد ذلك يأتي دور الله عز وجل في الإنجاح والتوفيق. وعلى المؤمن أن يسأل مؤمنا مثله لأن السؤال إلى غير أهله مذلة ومهانة. وفي هذا قال أمير المؤمنين (ع) مخاطبا المؤمن : « ماء وجهك جامد يقطره السؤال فانظر عند من تقطره ». والإمام زين العابدين (ع) يعلم المسؤول كيف يجب أن يتعامل مع السائل ، يعلمه كيف يواجه الموقف بنفس راضية فيقول : وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة. وأما إذا شك المسؤول في صدق السائل فلا يقابله بالجفاء بل يعامله بالعقل والروية والكلمة الطيبة ، فلعل الوسوسة والشك إنما هما من الشيطان الذي يوسوس في صده ويمنعه عن ممارسة الخير وفعله وإذا لم يستطيع مقاومته وحال بينه وبين العطاء فلتكن كلمة المواساة والستر عليه وليكن الرد الجميل اللين. 46 ـ حق المسؤول : « وأما حق المسؤول فحقه إن أعطي قبل منه ما أعطى بالشكر له والمعرفة لفضله وطلب وجه العذر في منعه وأحسن به الظن وأعلم أنه إن منع فماله منع ، وإن ليس التثريب في ماله ، وإن كان ظالما فإن الإنسان لظلوم كفار .. ». يتعرض الإمام هنا إلى حق المسؤول الذي أعطى وبذل ووهب والذي يمر بأشكال مختلفة ووجوه متعددة فتارة غني مترف وأخرى فقير مسكين ، وتارة كريم سخي وأخرى بخيل غني والمسؤول يعطي عن طواعية ويشعر مع المحتاج همومه وآلامه ويمد يده ليقدم ما منحه الله من خير وعطاء. فمن أوليات حقوق السائل أن يقابل المسؤول بالشكر والدعاء له فيما إذا أكرمه وأعطاه ، وإذا منعه فليحسن الظن به. أما الإنسان القادر الذي يمنع السائل مع القدرة على عطائه فإنما يحجب ماله عن نفسه ويحرمها منه لأن الله قد أعد للمتصدقين الثواب الجزيل والأجر العميم. 47 ـ حق من سرك الله به : « وأما حق من سرك الله به وعلى يديه ، فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولا ثم شكرته على ذلك بقدره في موضع الجزاء ، وكافأته على فضل الابتداء ، وأرصدت له المكافأة ، وإن لم يكن تعمدها حمدت الله وشكرته ، وعلمت أنه منه ، توحدك بها (1) ، وأحببت هذا إذا كان سببا من أسباب نعم الله عليك ، وترجو له بعد ذلك خيرا ، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت ، وإن كان لم يعتمد ، ولا قوة إلا بالله .. ». إن المسلم الذي يلتزم بالأخلاق الإسلامية يعيش مع الناس بأخلاق الرسل المصلحين والأئمة الطاهرين ، فيصفح عنهم زلاتهم ويستر عوراتهم ، ويبتسم في وجوههم ، ويتواضع لهم ويتجنب إهانتهم وإذلالهم. والإمام زين العابدين يرتفع بنفسية المسلم عن الإساءة إلى أخيه المسلم ليدخل في عداد العاملين على مسرته وانشراحه ومن يبادر إلى إدخال السرور على قلوب الناس هو من خيار الناس فقد أسدى إلى أخيه يدا بيضاء فالواجب يقضي عليه بأن يقوم بشكره ، ويذكر إحسانه. ولا يخفى أن إدخال السرور على قلب المسلم يجعله يشعر أنك تهتم بسعادته كما يضفي جوا من الود والمحبة والصفاء .. لكن هذا السرور يجب أن يتخذ الطريق الشرعي المباح دون ما يكون محرما كما هو الحال عند بعض المتهاونين بالدين والمستهزئين بغيرهم. أما إذا أقدم من سرك الله مختارا فعليك شكره على هذه النعمة وإذا جاءت مسرتك عن يديه صدفة فإن الله تعالى هو الذي منّ عليك بمثل هذه النعمة وعليك أن ترجو له الخير لأنها على أي حال قد صدرت عنه وكان سببا لهذه النعم. وبالشكر تدوم النعم. والحمد لله رب العالمين الذي منّ __________________ (1) توحدك بها : اختصك بها. علينا بنعم لا تحصى. 48 ـ حق من أساء القضاء : « وأما حق من أساء القضاء على يديه بفعل أو قول فإن كان تعمدها كان العفو أولى بك ، لما فيه من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق فإن الله يقول : ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ... ) إلى قوله ( لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (1). وقال تعالى أيضا : ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) (2). وهنا يتعرض الإمام (ع) للقضاة فيقول : إذا جاروا على أحد بقول أو فعل ، وكان ذلك عن عمد ، فالأولى الصفح والعفو عنهم عملا بالآداب الإسلامية العالية التي حثت على العفو عن المسيء أما إذا صدرت الإساءة منهم عن خطأ فلا ينبغي مؤاخذتهم لأنهم لم يتعمدوا الظلم والجور. 49 ـ حق أهل الملة : « وأما حق ملتك عامة فإضمار السلامة ، ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتألفهم ، واستصلاحهم ، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك ، إذ كف عنك أذاه ، وكفاك مؤونته ، وحبس عنك نفسه ، فعمهم جميعا بدعوتك ، وأنصرهم جميعا بنصرتك ، وأنزلهم جميعا منازلهم ، كبيرهم بمنزلة الوالد ، وصغيرهم بمنزلة الولد ، وأوسطهم بمنزلة الأخ ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة ، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه .. ». لقد كرّم الإسلام الإنسان من أي ملة أو أصل كان ودعا إلى كرامته __________________ (1) الشورى ، الآية 41 ـ 43. (2) النحل ، الآية 126. واحترامه عملا بقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً ) (1). فهذا التكريم من الله للإنسان يفرض بأي حال تكريم الإنسان للإنسان ، والمسلم من واجبه تكريم المسلم الآخر ، وللمسلمين حقوق عامة عليهم جميعا رعايتها وهي حسب ما أعلنها الإمام زين العابدين 7 : 1 ـ إضمار السلامة وترجمتها بدرجة أعلى من السلامة والمودة والإخاء. 2 ـ على المسلم أن ينشر للمسلمين جناح الرحمة فلا يستعلي عليهم ولا يأخذهم بالعنف بل يعفو عنهم عملا بأمر الله : ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2). 3 ـ أن يرفق بمسيئهم ولا يقسو عليه وذلك لإصلاحه وتقويمه. 4 ـ أن يعمل على تآلفهم ووحدة كلمتهم ورص صفوفهم. 5 ـ أن يشكر كل محسن منهم على إحسانه ويشجعه على هذه الظاهرة الكريمة التي تعود فائدتها على المجتمع بأسره. 6 ـ أن يعمل على نصرتهم عندما تدعو الحاجة إلى الدفاع عن حقهم. 7 ـ أن يحترم الجميع ويعطي كل واحد منهم قدره فينزل كبيرهم بمنزلة والده ، وصغيرهم بمنزلة ولده ، وأوسطهم بمنزلة أخيه. ولا ريب لو أن كل مسلم طبق هذه الحقوق على واقع حياته لكانوا يدا واحدة قوية تجاهد في سبيل الحق وتنتصر بإذن الله تعالى ولما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من التفرقة والتخاذل والخسران. __________________ (1) الإسراء ، الآية 70. (2) البقرة ، الآية 237. 50 ـ حق أهل الذمة : « وأما حق أهل الذمة فالحكم أن تقبل منهم ما قبل الله ، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده ، وتكلهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم وأجروا عليه ، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك في ما جرى بينك وبينهم من معاملة ، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله ، والوفاء بعهده ، وعهد رسول الله (ص) حائل فإنه بلغنا أنه قال : « من ظلم معاهدا كنت خصمه » ، « فاتق الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ». فهذه خمسون حقا محيطا بك ، لا تخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها ، والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك ولا قوة إلا بالله ، والحمد لله رب العالمين .. ». لقد رعى الإسلام أهل الذمة ، اليهود والنصارى ، من الذين دخلوا في ذمة الإسلام فعاملهم بالحسنى كما عامل سائر المسلمين فمارسوا حرياتهم الفكرية والعملية والدينية وعاشوا بأمن ورخاء واستقرار ضمن شروط معينة ودخلوا في عهد مع الإسلام عندما أرادوا أن يبقوا على دينهم. وبموجب هذا العهد أصبحوا أهل ذمة تجري عليهم أحكام معينة. ومن واجباتهم : 1 ـ دفع الجزية ويرجع تقديرها للإمام وهي عبارة عن قدر معين من المال يدفعه اليهودي والنصراني عن نفسه في ظل حماية الإسلام له وهي تسقط عن النساء والصبيان والعاجزين والمجانين. 2 ـ أن لا يقوموا بأي عمل ينافي الأمان للدولة الإسلامية مثل إمداد المشركين أو العزم على حرب المسلمين لأن ذلك ينقض العهد ويخالفه. 3 ـ أن لا يؤذوا المسلمين بسرقة أموالهم والتعرض لنسائهم وإيواء المشركين والتجسس لهم فإن فعلوا شيئا من ذلك كان نقضا لعهدهم. 4 ـ أن لا يتظاهروا بالمنكرات كالزنى وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر علنا لأن المجتمع الإسلامي مجتمع نظيف يرفض المنكرات المحرمة ويعاقب عليها ، فلا يسمح لأي لأنسان أن يتعامل بها جهرا لأنها تؤدي إلى الاستهانة بالدين. 5 ـ أن يجري عليهم ما يجري على المسلمين. فإذا التزم أهل الذمة بهذه الشروط كانوا في ذمة الله وذمة رسوله لا يجوز ظلمهم والتعدي عليهم وتجاوز أموالهم وأعراضهم. ويقضي بينهم وبين المسلمين بحكم الله. من هنا حذر الإمام زين العابدين أن ينقض هذا العهد أو ينحرف عنه المسلمون فنبه أن يتقبل فيهم ما قننه الله وشرعه لهم من أحكام ، والوفاء بحقوقهم والحكم فيهم بما أنزل الله وعدم الاعتداء عليهم بغير حق. هذه هي رسالة الحقوق الخالدة التي حبرها قلم الإمام السجاد من فوح القرآن وبوح فكره وأفاض بها على الأمة الإسلامية التي كابد في إنقاذها من جور الحكام الطغاة واستبداد الملوك القساة ومترديات الجاهلية الأولى. في هذه الرسالة رسم الإمام (ع) معالم الشخصية الإنسانية الصالحة التي يتبناها الإسلام ويفتخر بها كل مسلم لما لها من فوائد خاصة بكل إنسان ومنافع عامة لإصلاح المجتمع من الانحرافات الأخلاقية والدينية وإرجاعه إلى الخط الإسلامي السليم الذي رسمه جده المصطفى الرسول الأعظم 6. إنها رسالة يتيمة في موضوعها وفريدة في أسلوبها تضمنت حقوق المسلمين كما تناولت حقوق أهل الذمة بموضوعية كاملة والآداب الإسلامية شاملة والأخلاق الإنسانية عامة يريد من خلالها الإمام أن يساهم في صنع الشخصية الإسلامية السليمة التي تعمل في سبيل الله وتحب وتبغض في الله وتساعد بلا أذى أو من عباد الله. فعلى جميع المسلمين رعاية هذه الرسالة العظيمة والعمل في تأديتها ليعالجوا على ضوئها جميع ما يعترض حياتهم من مشاكل وأزمات ويعيشوا عيشة كريمة وعناصر صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتحب الخير وتعمل به وتكره الظلم وترفضه بكل ما لديها من وسائل مناسبة. هذه هي رسالة الحقوق الخالدة والكريمة ذات المضامين العالية نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية للعمل بها خالصة لوجه الكريم وينفعنا بها في الدارين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين المعصومين. * * * فهرس المراجع والمصادر 1 ـ القرآن الكريم. 2 ـ أحكام القرآن للجصاص. 3 ـ أئمتنا للحاج علي محمد علي دخيّل. 4 ـ اعلام الورى للشيخ الطبرسي. 5 ـ أمالي الشيخ الطوسي. 6 ـ الإمام الحسين للشيخ عبد الله العلايلي. 7 ـ الأغاني لأبي فرج الأصفهاني. 8 ـ الاحتجاج للطبرسي. 9 ـ الإرشاد للشيخ المفيد. 10 ـ بحار الأنوار للمجلسي ج 46. 11 ـ البداية والنهاية لابن كثير. 12 ـ البيان والتبيين للجاحظ. 13 ـ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان. 14 ـ تاريخ اليعقوبي. 15 ـ تحف العقول ابن شعبة البحراني. 16 ـ تفسير البرهان. 17 ـ ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين. 18 ـ ثمار القلوب للثعالبي. 19 ـ ثواب الأعمال الشيخ الصدوق. 20 ـ الحيوان للجاحظ. 21 ـ حياة الإمام الباقر للشيخ القرشي. 22 ـ حلية الأولياء ج 3 أبو نعيم الأصبهاني. 23 ـ حياة الحياة للدميري. 24 ـ الخصال للشيخ الصدوق. 25 ـ دراسات في نهج البلاغة للشيخ محمد مهدي شمس الدين. 26 ـ رسالة الحقوق للسيد عباس علي الموسوي. 27 ـ زين العابدين لعبد الرزاق الموسوي المقرم. 28 ـ زين العابدين لسيد الأهل. 29 ـ سيرة الأئمة الاثني عشر للسيد هاشم الحسني. 30 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. 31 ـ الشعر والشعراء في المدينة ومكة. 32 ـ الطبقات لابن سعد. 33 ـ طبقات الشافعية. 34 ـ العقد الفريد لابن عبد ربه. 35 ـ علل الشرائع للشيخ الصدوق. 36 ـ عيون الأخبار للدينوري. 37 ـ عبقرية الإمام علي لعباس العقاد. 38 ـ غرر الآثار للديلمي. 39 ـ الفصول المهمة ابن الصباغ المالكي. 40 ـ قادتنا كيف نعرفهم السيد محمد هادي الحسيني الميلاني. 41 ـ الكافي للكليني. 42 ـ كفاية الأثر. 43 ـ كشف الغمة في معرفة الأئمة 1 ـ 3 لللأربيلي. 44 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي. 45 ـ بطلة كربلاء د. بنت الشاطىء. 46 ـ من لا يحضره الفقيه 4. م. الطوسي. 47 ـ مطالب السؤول محمد بن طلحة الشافعي. 48 ـ مناقب شهرآشوب 4. م. 49 ـ المقبولة الحسينية للشيخ هادي كاشف الغطاء. 50 ـ معاني الأخبار للصدوق. 51 ـ فضائل الإمام علي للشيخ محمد جواد مغنية. 52 ـ مجمع البيان للشيخ الطبرسي. 53 ـ مجلة البلاغ العدد السابع السنة الأولى. 54 ـ نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب. 55 ـ نهاية الأرب للنويري. 56 ـ وسائل الشيعة للسيد محسن الأمين. 57 ـ شرح رسالة الحقوق. م. 2. حسن السيد علي القبانجي. 58 ـ شرح رسالة الحقوق للسيد عباس الموسوي. فهرس الموضوعات معالم الحياة العامة في عصر الإمام (ع) عصر الإمام 7 ملوك عصره 8 الأئمة الذين عاصرهم 8 الحياة السياسية : أ ـ الجور والاستبداد 9 ب ـ الإرهاب والتجويع 10 ج ـ القضاء على الحريات العامة 10 احياء النزعة القبلية 11 ه ـ إقصاء الإسلام 13 و ـ القضاء على الروح الثورية 13 ز ـ سياسة التجهيل 15 الوضع النفسي للأمة : أ ـ الوضع السياسي والاجتماعي للأمة 19 ب ـ عدم وجود قوة كافية 19 ج ـ الاستفادة من التجارب السابقة 20 د ـ قسوة الملوك وانحرافهم عن الاسلام 22 الحياة الاقتصادية في العصر الأموي : ترف الملوك الأمويين 24 هباتهم السخية للشعراء 24 هباتهم للمطربين والمغنين 27 شيوع الغناء 28 الغناء والرقص 29 تأثر أهل المدينة بالغناء 30 مواقف الإمام من هذه التيارات : 1 ـ الإمام مع ملوك عصره 34 أ ـ الترهيب 34 ب ـ الترغيب 35 ج ـ العجز 36 2 ـ تعامل الإمام مع الحكام 37 3 ـ تعامل الإمام مع الولاة 38 سيرة الإمام زين العابدين (ع) : النسب 41 أمه 41 ولادته 41 كنيته 42 ألقابه 42 إمامته 43 أولاده 44 إخوته 48 أخواته 48 إلى جنة المأوى 51 اغتياله بالسم 52 وصيته لولده الإمام الباقر (ع) 52 تجهيزه 54 تشييعه 54 في المقر الأخير 55 عبادته : صومه 61 النصوص على خصوص إمامته 63 قبسات من أخلاقه 69 مهابته وكراماته 74 فضائله 77 قبسات من مواعظه 78 ما قاله العظماء في سيد الحكماء 84 أنوار من تعاليمه : ذم التكبر 95 الابتهاج بالذنب 96 العدالة 99 صفات المؤمنين 100 أفضل الأعمال عند الله 104 حقيقة الموت 105 الزهد 106 الحب في الله 107 من غرر أجوبته : العصبية 109 أفضل الأعمال 111 الأخذ بالجوهر 111 يوم القيامة 113 ما أويتم النبي (ص) من أبويه 114 بعد وقعة كربلاء : من الغالب؟ 114 كيف أصبحت يا بن رسول الله 114 سؤال الزهري المغموم 114 أوجه الصوم 115 ولكم في القصاص حياة 118 سؤال سعيد بن المسيب 119 جميع شرائع الدين 119 من روائع حكمه 120 أفضل الكلمات 133 تحف من بعض علومه : في رحاب القرآن الكريم 137 في رحاب الحديث الشريف 145 جامعة أهل البيت 157 الولاء لأهل البيت 159 سياسة أهل البيت على الناس 162 أثر مجزرة كربلاء على الإمام السجاد : قبل المجزرة 163 أثناء المجزرة 164 بعد المجزرة 169 الإمام زين العابدين في المدينة 169 خطبته في المدينة 171 مواقف الإمام من الصحابة والعلماء : موقف الإمام مع الحسن البصري 175 موقف الإمام مع الزهري 175 موقف الإمام مع الأمة : أ ـ تفقد شؤون الأمة 176 ب ـ مواجهة المشبهة والملحدين 177 ج ـ التربية والتثقيف 178 د ـ تحديد العلاقة مع أهل البيت 179 شعره 180 التكافل الاجتماعي 189 مؤلفات الإمام زين العابدين (ع) : 1 ـ الصحيفة السجادية 198 2 ـ رسالة الحقوق 203 الدوافع لكتابة رسالة الحقوق 207 عرض موجز للحقوق : حق الله 209 ـ حقوق الجوارح 210 حق النفس 210 حق اللسان 211 حق السمع 212 حق البصر 214 حق الرجلين 215 حق اليدين 216 حق البطن 217 حق الفرج 219 ـ حقوق الأفعال : حق الصلاة 221 حق الصوم 222 حق الصدقة 222 حق الهدي 224 ـ حقوق الأئمة : حق الأئمة 225 حق المعلم 227 حق المالك 229 حق الرعية 229 حق المتعلمين 231 حق المملوكة 232 حق رعيتك بملك اليمين 233 ـ حقوق الرحم : حق الأم 234 حق الأب 235 حق الولد 237 حق الأخ 238 حق المنعم عليك بالولاء 239 حق المولى 240 حق صاحب المعروف 241 حق المؤذن 242 حق إمام الجماعة 243 حق الجليس 244 حق الجار 246 حق الصاحب 248 حق الشريك 249 حق المال 250 حق الغريم 252 حق الخليط 253 حق الخصم 254 حق المدعى عليه 255 حق المستشير 256 حق المشير 257 حق المستنصح 258 حق الناصح 259 حق الكبير 260 حق الصغير 261 حق السائل 262 حق المسؤول 263 حق من سرك الله به 264 حق من أساء القضاء 265 حق أهل الملة 265 حق أهل الذمة 267 فهرس المراجع والمصادر 271 الفهرس 275
| |
|
| |
| الامام السجاد جهاد وامجاد | |
|