وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (1)» (2).
نلاحظ هنا كيف يرصد الإمام عليهالسلام الانحراف في تصور الخالق سبحانه ،
وكيف يضع المسألة في نصابها التوحيدي ، بتجريد الذات الإلهية عن كل صفات
الممكن ، وتوجيه الناس إلى عدم الخوض في صفاته بما لا يملكون كنهه وعمقه ،
وأن يصفوه بما وصف به نفسه ، فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها.
وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال : « قلت لأبي الحسن موسى بن
جعفر عليهالسلام : لأي علة عرج الله بنبيه صلىاللهعليهوآله إلى السماء ، ومنها إلى سدرة المنتهى ،
ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، والله لا يُوصف بمكان ؟
فقال عليهالسلام : إن الله تبارك وتعالى لا يُوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ،
ولكنه عز وجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم
بمشاهدته ، ويريه عجائب عظمته ، ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك
على ما يقول المشبهون ، سبحان الله وتعالى عما يشركون » (3).
وعن الشيخ المفيد ، قال : « قال يونس بن عبد الرحمن يوماً لموسى بن
جعفر عليهماالسلام : أين كان ربك حين لا سماء مبنية ولا أرضاً مدحية ؟ قال عليهالسلام : كان
نوراً على نور ، خلق من ذلك النور ماء منكدراً ، فخلق من ذلك الماء ظلمة ،
فكان عرشه على تلك الظلمة. قال : إنما سألتك عن المكان ! قال : قال عليهالسلام :
كلما قلت : أين ، فأين هو المكان. قال : وصفت فأجدت ، إنما سألتك عن المكان
الموجود المعروف ! قال : كان في علمه لعلمه ، فقصر علم العلماء عند
علمه » (4).
__________________
(1) سورة الشعراء : 26 / 217 ـ 219.
(2) الكافي 1 : 125 / 1 ، الاحتجاج 2 : 156 ، التوحيد : 183 / 18.
(3) علل الشرائع 1 : 126 ، التوحيد : 175 / 5.
(4) الاختصاص : 60.
ونهى الإمام الكاظم عليهالسلام أصحابه عن مجالسة كل من يصف الله تعالى
بالصفات البشرية ، أو يحده بالمكان والزمان والحركة والانتقال ، ولو كان من
أولي القربى ، وحثّهم على مقاطعتهم وحذّرهم غضب الله وانتقامه إن لم ينتهوا
عن ذلك.
عن سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : «سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول لأبي : ما
لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب ؟ قال : إنه خالي. فقال له أبو الحسن عليهالسلام :
إنه يقول في الله قولاً عظيماً ، يصف الله تعالى ويحده ، والله لا يُوصف ، فإما
جلست معه وتركتنا ، وإما جلست معنا وتركته. فقال : إن هو يقول ما شاء ،
أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول ؟ فقال له أبو الحسن : أما تخافن أن تنزل
به نقمة فتصيبكم جميعاً ؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى عليهالسلام ،
وكان أبوه من أصحاب فرعون ، فلما لحقت خيل فرعون موسى عليهالسلام تخلف
عنه ليعظه ، وأدركه موسى ، وأبوه يراغمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا
جميعاً ، فأتى موسى عليهالسلام الخبر ، فسأل جبرئيل عليهالسلام عن حاله ، فقال له : غرق
رحمه الله ، ولم يكن على رأي أبيه ، لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن
قارب المذنب دفاع » (1).
الإرادة والمشيئة :
خلاصة ما أثبته الإمام الكاظم عليهالسلام بخصوص الإرادة في مقابل مقالات
القدرية الباطلة أن الإرادة هي الفعل لا غير ، وأن إرادته تعالى هي أن يقول
للشيء كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، لأنها من صفات
المخلوق المنفية ، وإن الله سبحانه إذا شاء شيئاً أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره
قضاه ، وإذا قضاه أمضاه ، ولا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.
عن صفوان بن يحيى ، قال : « قلت لأبي الحسن عليهالسلام : أخبرني عن الإرادة
__________________
(1) أمالي المفيد : 112 / 3.
من الله ومن المخلوق. فقال عليهالسلام : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد
ذلك من الفعل ، وأما من الله عزّ وجلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا
يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي من صفات
الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ
ولا نطق بلسان ، ولا همة ولا تفكر ، ولا كيف لذلك كما أنه بلا كيف » (1).
وعن محمد بن إسحاق ، قال : «قال أبو الحسن عليهالسلام ليونس مولى علي بن
يقطين : يا يونس ، لا تتكلم بالقدر. قال : إني لا أتكلم بالقدر ، ولكني أقول : لا
يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقال عليهالسلام : ليس هكذا أقول ، ولكني
أقول : لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.
ثم قال : أتدري ما المشيئة ؟ فقال : لا ، فقال : همه بالشيء ، أو تدري ما
أراد ؟ قال : لا ، قال : إتمامه على المشيئة. فقال : أو تدري ما قدر ؟ قال : لا ،
قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. ثم قال : إن الله إذا شاء شيئاً
أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه.
يا يونس ، إن القدرية لم يقولوا بقول الله : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللهُ ) (2) ولا قالوا بقول أهل الجنة : ( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (3) ولا قالوا بقول أهل النار : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) (4) ولا قالوا بقول إبليس : ( رَبِّ بِمَا
أَغْوَيْتَنِي ) (5) ولا قالوا بقول نوح : ( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ
__________________
(1) التوحيد : 147 / 17.
(2) سورة الإنسان : 76 / 30.
(3) سورة الأعراف : 7 / 43.
(4) سورة المؤمنون : 23 / 106.
(5) سورة الحجر : 15 / 39.
لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (1)
ثم قال : قال الله : يا بن آدم ، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي
أديت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، وجعلتك سميعاً بصيراً
قوياً ، فما أصابك من حسنة فمني ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ،
وذلك لأني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم قال : قد نظمت لك كل شيء
تريده » (2).
وروى داود بن قبيصة عن الإمام الرضا عليهالسلام أنه قال : « سأل رجل أبي عليهالسلام :
هل منع الله عما أمر به ، وهل نهى عما أراد ، وهل أعان على ما لم يرد ؟
فقال عليهالسلام : أما قولك هل منع عما أمر به ، فلا يجوز ذلك عليه ، ولو جاز ذلك
لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم ، ولو منعه لعذره ولم يلعنه. وأما
قولك هل نهى عما أراد ، فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى
آدم عليهالسلام عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ، ولو أراد منه أكلها ، لما نادى عليه
صبيان الكتاتيب ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (3) والله تعالى لا يجوز عليه
أن يأمر بشيء ويريد غيره. وأما قولك : هل أعان على ما لم يرد ، فلا يجوز
ذلك عليه ، وتعالى الله عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكفيرهم ، وقتل
الحسين بن علي عليهماالسلام والفضلاء من ولده ، وكيف يعين على ما لم يرد وقد
أعدّ جهنم لمخالفيه ، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته وارتكابهم
لمخالفته ؟ ولو جاز أن يعين على ما لم يرد ، لكان أعان فرعون على كفره
وادعائه أنه رب العالمين ، أفترى أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية ؟
__________________
(1) سورة هود : 11 / 34.
(2) المحاسن : 244 / 238.
(3) سورة طه : 20 / 121.
ومضى الإمام عليهالسلام يقول : يُستتاب قائل هذا القول ، فإن تاب من كذبه على
الله وإلاّ ضربت عنقه » (1).
علمه تعالى :
إنّ الله تعالى عالم بمصير الأشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ،
وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل.
عن أيوب بن نوح : « أنه كتب إلى أبي الحسن عليهالسلام يسأله عن الله عزّ وجلّ ، أكان
يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد
خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق ، وما كوّن عندما كوّن ؟ فوقع بخطه :
لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعدما
خلق الأشياء » (2).
وعن الكاهلي ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام في دعاء : الحمد لله منتهى
علمه. فكتب إليّ : لا تقولن منتهى علمه ، ولكن قل منتهى رضاه » (3).
إن الدعاء الذي يجري على اللسان قد يكون عرضةً للوهم والخطأ الذي لا
يشعر به الإنسان حال اشتغاله بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه ، فلا يستحضر
معانيه ودلالاته ، وهنا يمارس الإمام عليهالسلام عملية تصحيح للدعاء ، وكأنه يريد
أن يشير إلى حقيقة جديرة بالاهتمام ، وهي ضرورة اخضاع التراث للدراسة
العلمية حتى لا ينفذ إلى تراثنا مفهوم غير إسلامي ، فلعلنا ندعو فنقول : الحمد لله
منتهى علمه ، من حيث لا نشعر أن ذلك يجعل علم الله محدوداً بين البداية
والنهاية ، والحال أن علم الله ليس له نهاية ولا تحدّه حدود ، من هنا علينا أن
__________________
(1) الاحتجاج : 387 ، بحار الأنوار 5 : 24 / 31.
(2) الكافي 1 : 107 / 3.
(3) الكافي 1 : 107 / 4 ، التوحيد : 134.
نقول : منتهى رضاه ، لأن رضاه يتصل بعمل المخلوقين في درجات تتحرك حتى
تبلغ منتهاها ، ولا يتعلق ذلك في ذاته وفي صفته.
السعادة والشقاوة :
اختلفت مقولات أهل الكلام اختلافاً شديداً في تفسير الآيات والآثار
التي تسند الشقاء والسعادة إلى الله تعالى ، فأخذ بعضهم بظاهرها ، وحكموا
بحتميّة الشقاء والسعادة في حياة الإنسان من جانب الله تعالى ، ونفوا دور
الإنسان في اختيار الهداية والضلالة.
وفصّل أهل البيت عليهمالسلام في هذا المطلب ، بأنّ علم الله المعبّر عنه بأُمِّ الكتاب ،
لا يتطرق إليه التغيير والتبديل ، وعلمه تعالى في أُمِّ الكتاب محيط بكل شيء ،
ومنها سعادة الإنسان وشقائه ، وعلمه تعالى بالشيء لا يعني نسبة فعله إليه. أما
علمه تعالى المعبّر عنه بلوح المحو والاثبات ، فإن لله تعالى فيه المشيئة يقدّم ما يشاء
ويؤخر ما يشاء ، وهو موقوف على أعمال العباد ، فأعمال البر تحوّل شقاء
الإنسان إلى سعادة ، واقتراف الذنوب وارتكاب السيئات تحوّل مصير الإنسان
من السعادة إلى الشقاء. وعليه فإنّ الله تعالى هو مصدر السعادة والهداية في
حياة الإنسان ، وأمّا الشقاء والضلالة فمن الإنسان نفسه ، وكلا الأمران يجريان
باختياره وقراره.
ويدلّ على هذا المعنى ما رواه محمد بن أبي عمير ، قال : « سألت أبا الحسن
موسى بن جعفر عليهماالسلام عن معنى قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : الشقيّ من شقي في بطن
اُمه ، والسعيد من سعد في بطن اُمه. فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن
اُمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن اُمه أنه
سيعمل أعمال السعداء.
قلت له : فما معنى قوله صلىاللهعليهوآله : اعملوا فكل ميسّر لما خلق الله ؟ فقال : إن
الله عزوجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ، ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله
عزوجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) ، فيسّر كلاًّ لما خلق
له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى » (2).
الكفر والشرك :
وسأل أبو أحمد الخراساني الإمام الكاظم عليهالسلام : « الكفر أقدم أم الشرك ؟
فقال عليهالسلام له : ما لك ولهذا ، ما عهدي بك تكلّم الناس ! قال : أمرني هشام بن
الحكم أن أسألك. فقال : قل له الكفر أقدم ، أول من كفر إبليس ( أَبَىٰ
وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (3) والكفر شيء واحد ، والشرك يثبت واحد
ويشرك معه غيره » (4).
كلماته في النبوة والإمامة :
للإمام موسى الكاظم عليهالسلام مناظرات وأقوال ووصايا تعرض فيها لمسألة
الإمامة باعتبارها من أكثر القضايا التي شغلت حيزاً واسعاً من جهود العلماء
وكثر الرأي فيها ، وللإمام الكاظم عليهالسلام ومن قبله آباؤه الميامين عليهمالسلام كلمتهم في
هذا الإطار ، وهي أن الإمامة منصب إلهي ، والإمام يشترك مع النبي باعتبارهما
حجة ظاهرة على الناس ، ويفترق عنه بالوحي فهو لا يُوحى إليه ، وأن الأرض
لا تخلو من حجة منذ خلق الله تعالى آدم ، وأن الأئمة من آل البيت هم ورثة
النبي صلىاللهعليهوآله وأولاده وأفضل من خلّف بعده في أُمته ، وأنهم أولي الأمر الذين
فرض الله طاعتهم على خلقه باعتبارهم قادة الرسالة المعصومين ، وأن ولاء
__________________
(1) سورة الذاريات : 51 / 56.
(2) التوحيد : 356 / 3.
(3) سورة البقرة : 2 / 34.
(4) تحف العقول : 412.
جميع الخلائق يجب أن يكون لهم ، وأن لهم حقوقاً جعلها الله لهم واجبة في أعناق
من يدينون لهم بالولاء منها الخمس والمودة ، وأن منهم القائم الذي يطهر
الأرض من أعداء الله ، وله غيبة يطول أمدها ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها
آخرون ، وإنما هي ابتلاء من الله عزّ وجلّ ابتلى بها خلقه ، حتى يظهر ويملأ
الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً ، وهو الخامس من ولد الإمام الكاظم عليهالسلام ،
والثاني عشر من أهل البيت المعصومين عليهمالسلام.
وكان لأصحاب الإمام الكاظم عليهالسلام دور فاعل في التدليل على فكرة
الإمامة وأطروحتها ، وذلك من خلال مناظراتهم واحتجاجاتهم مع أصحاب
المذاهب والفرق الإسلامية ، كهشام بن سالم الجواليقي ، ومحمد بن علي بن النعمان
المعروف بمؤمن الطاق ، وهشام بن الحكم ، وكان ممن فتق الكلام في الإمامة ،
حاذقاً بصناعة الكلام ، وغير هؤلاء كثير ، الأمر الذي أدى إلى انتشار فكر أئمة
أهل البيت عليهمالسلام وذيوع منهجهم بين المسلمين بفضل براهينهم الساطعة
ومناظراتهم التي تميزت بقوة الحجة وسرعة البديهة والجرأة ، وفيما يلي نذكر أهم
كلمات الإمام عليهالسلام في هذا الإطار :
الحجّة الظاهرة :
قال الإمام الكاظم عليهالسلام في وصيته لهشام بن الحكم : « يا هشام ، إن لله على
الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء
والأئمة عليهمالسلام ، وأما الباطنة فالعقول » (1).
لا تخلو الأرض من حجّة :
عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الأول عليهالسلام ، قال : « ما ترك الله
__________________
(1) الكافي 1 : 10 ـ 15 / 12 ، تحف العقول : 383 ـ 402.
عزّوجلّ الأرض بغير إمام قطّ منذ قبض آدم عليهالسلام ، يهتدي به إلى الله عزّوجلّ ،
وهو الحجة على العباد ، من تركه ضلّ ، ومن لزمه نجا حقّاً على الله
عزّوجلّ » (1).
ولاية أهل البيت عليهمالسلام :
عن عمرو بن سعيد ، قال : « سألت أبا الحسن عليهالسلام عن قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (2) ، قال : علي بن أبي طالب
والأوصياء من بعده » (3).
مودة أهل البيت عليهمالسلام :
روى الخطيب البغدادي بالإسناد عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن
جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده :
« أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أخذ بيد حسن وحسين قال : من أحبني وأحب هذين
وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (4).
حقوق أهل البيت عليهمالسلام :
عن التلعكبري ، بإسناده عن الكاظم عليهالسلام ، قال : « قال لي هارون :
أتقولون : إن الخمس لكم ؟ قلت : نعم. قال : إنه لكثير. قال : قلت : إن الذي
أعطاناه علم أنه لنا غير كثير » (5).
الغيبة :
عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليهماالسلام ، قال : « إذا فقد
__________________
(1) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : 220 / 2.
(2) سورة النساء : 4 / 59.
(3) تفسير العياشي 1 : 253 / 176.
(4) تاريخ بغداد 13 : 289.
(5) بحار الأنوار 48 : 158 / 33.
الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلنكم أحد عنها. يا بني ،
انه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان
يقول به ، إنما هي محنة من الله عزّ وجلّ امتحن بها خلقه ، ولو علم آباؤكم
وأجدادكم ديناً أصحّ من هذه لاتبعوه » (1).
وعن العباس بن عامر القصباني ، قال : « سمعت أبا الحسن موسى بن
جعفر عليهالسلام يقول : صاحب هذا الأمر من يقول الناس : لم يولد بعد » (2).
عن داود بن كثير الرقي ، قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام عن
صاحب هذا الأمر ، قال : هو الطريد الوحيد الغريب الغائب عن أهله ، الموتور
بأبيه عليهالسلام » (3).
وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال : « دخلت على موسى بن جعفر عليهماالسلام
فقلت له : يا ابن رسول الله ، أنت القائم بالحق ؟ فقال : أنا القائم بالحق ، ولكن
القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله عزّ وجلّ ، ويملأها عدلاً كما مُلئت
جوراً وظلماً ، هو الخامس من ولدي ، له غيبة يطول أمدها ، خوفاً على
نفسه ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون.
ثم قال : طوبى لشيعتنا ، المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا ، الثابتين
على موالاتنا والبراءة من أعدائنا ، أولئك منا ونحن منهم ، قد رضوا بنا
أئمة ، ورضينا بهم شيعة ، فطوبى لهم ، ثم طوبى لهم ، وهم والله معنا في
درجاتنا يوم القيامة » (4).
__________________
(1) إكمال الدين : 359 / 1.
(2) إكمال الدين : 360 / 2.
(3) إكمال الدين : 361 / 4.
(4) إكمال الدين : 361 / 5.
عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي ، أنه قال للإمام الكاظم عليهالسلام : « يكون في
الأئمة من يغيب ؟ فقال عليهالسلام : نعم يغيب عن أبصار الناس شخصه ، ولا يغيب
عن قلوب المؤمنين ذكره ، وهو الثاني عشر منا ، يسهّل الله له كل عسير ،
ويذلل له كل صعب ، ويظهر له كنوز الأرض ، ويقرب له كل بعيد ، ويبير به كل
جبار عنيد ، ويهلك على يده كل شيطان مريد ، ذلك ابن سيدة الإماء الذي
تخفى على الناس ولادته ، ولا يحل لهم تسميته حتى يظهره الله عزّ وجلّ ،
فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً » (1).
مناظرات في الإمامة :
دافع الإمام الكاظم عليهالسلام من خلال عدّة مناظرات ذكرنا بعضها في الفصل
الثاني (2) عن الاُسس التي تقوم عليها الإمامة وعن أهم قواعدها ، كما ردّ على
المزيد من الشبهات المثارة حولها ، نقتصر هنا على ذكر بعض ما جاء منها مع
هارون في موضوعين مهمين بالنسبة إلى خلفاء بني العباس ، هما تفضيل آل أبي
طالب على آل العباس ، وسبب وراثتهم النبي صلىاللهعليهوآله دون بني العباس.
عن أبي أحمد هاني بن محمد بن محمود العبدي ، عن أبيه ، بإسناده عن
موسى بن جعفر عليهماالسلام ـ في حديث ـ قال : « قال الرشيد : أخبرني لِمَ فضّلتم
علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة ، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد ،
وإنا بنو العباس ، وأنتم ولد أبي طالب ، وهما عمّا رسول الله صلىاللهعليهوآله وقرابتهما
منه سواء ؟ فقلت : نحن أقرب. قال : وكيف ذلك ؟! قلت : لأن عبد الله
__________________
(1) إكمال الدين : 368 / 6.
(2) في موقفه عليهالسلام من الرشيد أجابه عن سبب نسبة أهل البيت عليهمالسلام إلى رسول
الله صلىاللهعليهوآله مع أن المرء يُنسب إلى أبيه ، وكيف قيل لهم عليهمالسلام ذرية النبي صلىاللهعليهوآله ، مع أن
العقب للذكر ، وهم عليهمالسلام أولاد البنت.
وأبا طالب لأب وأم ، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ، ولا من أم
أبي طالب.
قال : فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلىاللهعليهوآله والعم يحجب ابن العم ، وقبض
رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد توفي أبو طالب قبله ، والعباس عمه حي ؟ فطلب الإمام
الكاظم عليهالسلام الأمان من الرشيد قبل الجواب فأمنه.
فقلت : إن في قول علي بن أبي طالب عليهالسلام : ليس مع ولد الصلب ذكراً
كان أو أنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة ، ولم يثبت للعم مع ولد
الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب ، إلاّ أن تيماً وعدياً وبني أمية قالوا :
العم والد. رأياً منهم بلا حقيقة ، ولا أثر عن النبي صلىاللهعليهوآله.
إلى أن قال الرشيد : زدني يا موسى. فقلت : إن النبي صلىاللهعليهوآله لم يورث من
لم يهاجر ، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر. فقال : ما حجتك فيه ؟ فقلت :
قول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ
حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ) (1) وإن عمي العباس لم يهاجر » (2).
المبحث الثاني
دوره عليهالسلام في التشريع والتصنيف
أسهم الإمام الكاظم عليهالسلام في الدفاع عن مصادر التشريع ، فأكد على اتباع
الكتاب والسنة ، وإبطال القياس والرأي والاستحسان ، ورفض كل أشكال
الابتداع في دين الله ، وأثرت عن الإمام الكاظم عليهالسلام كثير من الأخبار التي
تتحدث عن سيرته وسننه التي تجسد مبادئ الإسلام وشريعته السمحاء ، وفي
__________________
(1) سورة الأنفال : 8 / 72.
(2) عيون أخبار الرضا عليهالسلام 1 : 81 / 9 ، تحف العقول : 404 ، الاختصاص : 48 ،
الاحتجاج 2 : 168.
نفس السياق نجد عدّة كتب ورسائل ومسائل رويت عنه في مجال الأحكام
والشرائع ، لا يزال بعضها ماثلاً إلى اليوم ، هذا فضلاً عن سعة الرواية عنه في
كافة أبواب الفقه ، فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما
ملأ بطون الدفاتر ، وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد
المتصلة ، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم. ويمكن أن نطلع على دور الإمام عليهالسلام في
تبليغ أحكام الشريعة مما يلي :
مصادر التشريع :
1 ـ موقفه عليهالسلام من القياس :
عاش الإمام الكاظم عليهالسلام في مرحلة ظهر فيها اتجاه القياس والرأي
والاستحسان بقوة في خط الاجتهاد ، والقياس هو إسراء الحكم من موضوع
إلى موضوع آخر للظن بأن أساس الحكم هنا هو أساس الحكم هناك ، وقد بدأ
القياس كقاعدة من قواعد الاستنباط في عصر الإمام الصادق عليهالسلام من قبل
المذهب الحنفي ، ووقف الإمام الصادق عليهالسلام ومن بعده الإمام الكاظم عليهالسلام ضد هذه
القاعدة الاجتهادية ، لأن القياس وكذلك الرأي والاستحسان إنما هي تعويل
على العقل ، ودين الله سبحانه لا يُصاب بالعقول ، كما أنه لا توجد واقعة إلاّ
ويمكن إدراجها تحت الأحكام الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة ، روى
سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن الأول عليهالسلام ، قال : « قلت : أكل شيء في كتاب
الله وسنة نبيه ، أم تقولون فيه برأيكم ؟ فقال : بل كل شيء في كتاب الله وسنة
نبيه » (1).
وعنه ، عن أبي الحسن موسى عليهالسلام ، قال : « قلت : أصلحك الله ، إنا نجتمع
__________________
(1) بصائر الدرجات : 321 / 1.
فنتذاكر ما عندنا ، فما يرد علينا شيء إلاّ وعندنا فيه شيء مسطّر ، وذلك مما أنعم
الله به علينا بكم ، ثم يرد علينا الشيء الصغير وليس عندنا فيه شيء ، فينظر
بعضنا إلى بعض ، وعندنا ما يشبهه ، أفنقيس على أحسنه ؟ فقال عليهالسلام : وما لكم
والقياس ! إنما هلك من هلك من قبلكم بالقياس. ثم قال : إذا جاءكم ما
تعلمون فقولوا به ، وإن جاءكم ما لا تعلمون فها ، وأهوى بيده إلى فيه (1).
فقلت : أصلحك الله ، أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله الناس بما يكتفون به في عهده ، قال : نعم ،
وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة. فقلت : ضاع من ذلك شيء ؟ فقال : لا ، هو
عند أهله » (2).
وهنا يضع الإمام عليهالسلام اصبعه على موضع الجرح ، فإن مشكلة المسلمين هي
أنهم تركوا أهله فلم يرجعوا إليهم فتاهوا في لجّة البحر ، وقد قيل إن أبا حنيفة لم
يوثق إلاّ (17) أو (18) حديثاً ، لذلك لجأ إلى القياس ، ولو كان قد رجع إلى أهل
البيت عليهمالسلام الذين نزل الوحي في بيوتهم وتوارثوا الحديث كابراً عن كابر ،
لاستغنى عن الرأي والظن في أحكام الله.
وفي حديث آخر يؤكد الإمام عليهالسلام سبب ترك القياس ، وهو أن الكتاب
والسنة لم يتركا فراغاً في التشريع في أي موضوع ، عن أبي المغرا ، عن عبد
صالح عليهالسلام ، قال : « سألته فقلت : إن أناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك
وسمعوا منهما الحديث ، فربما كان الشيء يُبتلى به بعض أصحابنا وليس في ذلك
عندهم شيء ، وعندهم ما يشبهه ، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟ فقال : لا ، إنما
هلك من كان قبلنا بالقياس. فقلت له : لم تقول ذلك ؟ فقال : لأنه ليس من
__________________
(1) أي اسكتوا.
(2) الكافي 1 : 57 / 13 ، الاختصاص : 282 ، بصائر الدرجات : 322 / 4.
شيء إلاّ وجاء في الكتاب والسنة » (1).
وإنما هلك من هلك بالقياس لأنهم لم يرتكزوا على حجة شرعية في
الأحكام التي استنبطوها انطلاقاً مما ظنوه ملاكاً للحكم في الأصل فنقلوه إلى
الفرع لوجود الملاك فيه ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
أمثلة في إبطال القياس :
عن عثمان بن عيسى ، عن بعض أصحابه. قال : « قال أبو يوسف (2)
للمهدي وعنده موسى بن جعفر عليهماالسلام : تأذن لي أن أسأله عن مسائل ليس عنده
فيها شيء ؟ فقال له : نعم. فقال لموسى بن جعفر عليهماالسلام : أسألك ؟ قال : نعم. قال : ما
تقول في التظليل للمحرم ؟ قال : لا يصلح. قال : فيضرب الخباء في الأرض
ويدخل البيت ؟ قال : نعم. قال : فما الفرق بين هذين ؟ قال أبو الحسن : ما تقول
في الطامث ، أتقضي الصلاة ؟ قال : لا. قال : فتقضي الصوم ؟ قال : نعم. قال :
ولِمَ ؟ قال : هكذا جاء. قال أبو الحسن عليهالسلام : وهكذا جاء هنا. فقال المهدي لأبي
يوسف : ما أراك صنعت شيئاً. قال : رماني بحجر دامغ » (3).
ويتكرر نفس المشهد ولكن بمحضر الرشيد ، فجاء في جواب الإمام عليهالسلام
لمحمد بن الحسن الشيباني لما أبطل قياسه : « أتعجب من سنة رسول الله ! إن
رسول الله صلىاللهعليهوآله كشف ظلاله في إحرامه ، ومشى تحت الظلال وهو محرم ، إن
أحكام الله تعالى يا محمد لا تُقاس ، فمن قاس بعضه على بعض فقد ضل
__________________
(1) المحاسن : 212 ، الاختصاص : 281 ، بصائر الدرجات : 322 / 3.
(2) هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، من أصحاب الحديث ، ثم غلب عليه الرأي ،
أخذ الفقه عن ابن أبي ليلى ثم عن أبي حنيفة ، وولي القضاء لهارون الرشيد.
(3) عيون أخبار الرضا عليهالسلام 1 : 78 / 6 ، مناقب آل أبي طالب 3 : 429 ، الاحتجاج :
394.
عن سواء السبيل. فسكت محمد بن الحسن ، ولم يحُر جواباً » (1).
2 ـ موقفه عليهالسلام من الاستحسان والرأي :
ذكرنا آنفاً أن الإمام عليهالسلام وقف بوجه هذا التيار المدمر للشريعة مثلما وقف
بوجه القياس ، ففي حديثه عليهالسلام ليونس بن عبد الرحمن قال : « يا يونس ، لا
تكونن مبتدعاً ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيه ضل ، ومن ترك
كتاب الله وقول نبيه كفر » (2).
والمقصود من النظر بالرأي هو اعتبار الاستحسانات الذاتية أساساً للحكم
الشرعي من غير حجة شرعية من كتاب أو سنة ، وهو عين الابتداع في الدين ،
ولا يعني ذلك رفض الإمام عليهالسلام لحركة الرأي في الإنسان كوسيلة من وسائل
التفكير في معرفة موضوعات الأحكام من الأشياء ، بل انه يريد التأكيد على أن
الاستحسان في الحكم الشرعي لا يُعد من الوسائل التي جعلها الشارع أساساً
للاستنباط ، ولأن حجيته لم تثبت من كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله ، أما ترك حديث
أهل البيت عليهمالسلام وما رووه عن جدهم رسول الله صلىاللهعليهوآله فإنه يؤدّي إلى الضلال ،
لأنهم يملكون الحقيقة مما قاله النبي صلىاللهعليهوآله في التفسير وتشريع الأحكام ، بكونهم
حجة إلى جانب القرآن إلى يوم الدين كما جاء في حديث الثقلين.
ومن الأمثلة العملية على رفض الإمام عليهالسلام لكافة أنواع الابتداع في الدين ،
ما حكي أن المنصور تقدّم إليه عليهالسلام بالجلوس للتهنية في يوم النيروز ، وقبض ما
يحمل إليه ، فقال عليهالسلام : « إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله صلىاللهعليهوآله فلم
أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنّة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ الله أن
__________________
(1) الإرشاد 2 : 235 ، اعلام الورى 2 : 30 ، مناقب آل أبي طالب 3 : 429.
(2) الكافي 1 : 56.
نحيي ما محاه الإسلام. فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك
بالله العظيم إلاّ جلست » (1).
على أن يوم النيروز الذي دخل في تقاليدنا الإسلامية ، قد جاءت به
أحاديث تؤكد كونه من الأيام المباركة ويستحب الغسل والصلاة فيه ، ولا
تؤكد كونه عيداً لأنّ أعياد المسلمين معروفة ، وليس هذا منها كما جاء في
جوابه عليهالسلام للمنصور ، وقد سكت المنصور عن الرد على الإمام عليهالسلام إلاّ التذرّع
بسياسة الجند ، لكون أغلب الجيش وقادته كانوا من الموالي ، وفي هذا المجال
يُروى أنه أُهدي إلى أمير المؤمنين علي عليهالسلام فالوذج ، فقال : « ما هذا ؟ قالوا : يوم
نيروز. قال عليهالسلام : فنيرزوا إن قدرتم كل يوم. يعني تهادوا وتواصلوا في الله » (2).
فلم يعطه الإمام عليهالسلام أهمية إلاّ بمقدار اعتباره مناسبة لتوزيع الحلوى
والتواصل بين المسلمين ، والمسألة تحتاج إلى مزيد من البحث العلمي الدقيق ،
لأن إدخال أي يوم ليكون عيداً في التقاليد الإسلامية ، أمر يحتاج إلى التأكد من
خلال المصادر الأصلية ، أما من القرآن أو السنة الشريفة ، أو من أحاديث أهل
البيت عليهمالسلام ، ويبقى الاشكال قائماً لكل من يحتفل به كعيد شرعي إسلامي ، أما
الاحتفال به كيوم لمطلع الربيع فهو أمر لا بأس به.
3 ـ عرض الحديث على الإمام عليهالسلام :
عرضت على الإمام الكاظم عليهالسلام بعض الأحاديث إما بأمر منه عليهالسلام ، أو من
السائل لغرض الاستيضاح عن التعارض بين الأحاديث ، وكان موقفه عليهالسلام من
الأحاديث المعروضة عليه إما أن يسقط الحديث جملة ، أو يضعّفه ويطعن
__________________
(1) مناقب آل أبي طالب 3 : 433.
(2) دعائم الإسلام / القاضي النعمان المغربي 2 : 326.
بإسناده ويعرضه على الكتاب والسنة ، وقد يؤيده غير أنه يدل السائل على أن
مورد الحديث خاص.
ومن ذلك ما رواه محمد الرافقي ، قال : « كان لي ابن عمّ يقال له الحسين بن
عبد الله ، وكان زاهداً ، فقال له أبو الحسن عليهالسلام : اذهب فتفقّه واطلب الحديث.
قال : عمّن ؟ قال : عن فقهاء أهل المدينة ، ثمّ اعرض عليّ الحديث... قال :
فذهب فكتب ، ثم جاء فقرأه عليه فأسقطه كله » (1).
وعن أبان الأحمر ، قال : « سأل بعض أصحابنا أبا الحسن عليهالسلام عن الطاعون
يقع في بلدة وأنا فيها ، أتحول عنها ؟ قال : نعم. قال : ففي القرية وأنا فيها ، أتحوّل
عنها ؟ قال : نعم. قال : ففي الدار وأنا فيها ، أتحول عنها ؟ قال : نعم. قلت : إنا
نتحدث أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف ؟ قال :
إن رسول الله صلىاللهعليهوآله إنما قال هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو
العدو ، فيقع الطاعون ، فيخلّون أماكنهم ويفرون منها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله
ذلك فيهم » (2).
ونقل السيد ابن طاوس عن كتاب ( نزهة الكرام وبستان العوام ) لمحمد بن
الحسين بن الحسن الرازي ، قال : « إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن
جعفر عليهماالسلام فأحضره ، فلما حضر عنده قال : إن الناس ينسبونكم يا بني فاطمة
إلى علم النجوم ، وإن معرفتكم بها معرفة جيدة ، وفقهاء العامة يقولون : إن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إذا ذكرني أصحابي فاسكتوا ، وإذا ذكروا القدر فاسكتوا ،
وإذا ذكروا النجوم فاسكتوا. وأمير المؤمنين عليهالسلام كان أعلم الخلائق بعلم
__________________
(1) الكافي 1 : 353 / 8 ، الإرشاد 2 : 223.
(2) معاني الأخبار : 254 / 1.
النجوم ، وأولاده وذريته الذين تقول الشيعة بإمامتهم كانوا عارفين بها.
فقال له الكاظم عليهالسلام : هذا حديث ضعيف ، وإسناده مطعون فيه ، والله
تعالى قد مدح النجوم ، ولولا أن النجوم صحيحة ما مدحها الله عزّ وجلّ ،
والأنبياء عليهمالسلام كانوا عالمين بها ، وقد قال الله تعالى في حق إبراهيم خليل
الرحمن عليهالسلام : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ ) (1). وقال في موضع آخر : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي
سَقِيمٌ ) (2). فلو لم يكن عالماً بعلم النجوم ما نظر فيها ، وما قال : ( إِنِّي
سَقِيمٌ ). وإدريس عليهالسلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم. والله تعالى قد أقسم
بمواقع النجوم ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (3). وقال في موضع آخر :
( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) إلى قوله : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) (4) ... » (5).
سيرة الإمام الكاظم عليهالسلام وسننه :
الإمام الكاظم عليهالسلام في سيرته وسننه نسخة من سيرة وسنن آبائه صلوات
الله عليهم ، لأنها ترتوي من منهل واحد ، هو سيرة جدهم المصطفى صلىاللهعليهوآله التي
تجسد مبادئ الإسلام وشريعته السمحاء ، وقد تحدث الرواة في عشرات
الأحاديث عن صور كثيرة من سننه وسيرته العملية التي تدخل في صميم
مصادر التشريع ، ومنها صلاته ومصلاّه وسجوده ، ودعائه واستغفاره وتلاوته
وحفظه ، وحجّه وعمرته وكتابته ، ولباسه وخاتمه ، ومطعمه وآداب أكله
__________________
(1) سورة الأنعام : 6 / 75.
(2) سورة الصافات : 37 / 88 و 89.
(3) سورة الواقعة : 56 / 76.
(4) سورة النازعات : 79 / 1 ـ 5.
(5) فرج المهموم : 107 / 25.
ووليمته وتخلله ، وحمامه وخضابه ، وحلق شعره ومشطه وتجمره ، وراحلته
وزراعته ، وسيرته مع غلمانه وجواريه ، وسعيه في قضاء حاجات المسلمين ،
وطبه وحجامته وعلاجاته بعض الأمراض.
وذكرنا في الفصل الخامس سيرته في العبادة والحلم وكظم الغيظ والزهد
والتواضع ، وكلها تعكس جوانب وضّاءة من مظاهر العظمة التي يتحلّى بها
إمامنا كاظم الغيظ عليهالسلام ، مما يتوجب علينا أن نحوّل ما نتمكن منها إلى برامج عمل
في حياتنا ، كي نرتبط بالخطوط الفكرية والعملية التي انطلق بها في الحياة ،
ونتحرك في خط الاستقامة الذي ارتضاه الإمام عليهالسلام لشيعته ، وهذا هو معنى
الولاء للإمام ، لأن إمامتهم هي أن يكونوا أمامنا في مسيرة الإسلام التي تبدأ من
الله وتنتهي إليه.
المصنفات المنسوبة إليه عليهالسلام :
ذكر المؤرخون لسيرة الإمام الإمام الكاظم عليهالسلام والمترجمون لأصحابه من
علماء الرجال عدّة كتب ورسائل ومسائل ونسخ ، رواها عنه أصحابه في
مجالات شتى منها الأحكام والشرائع والتفسير والدعاء والحكم والمواعظ
والوصايا وغيرها ، وقد وصل بعضها إلينا مثل مسنده عليهالسلام برواية المروزي (1) ،
ومسائل أخيه علي بن جعفر (2) ، وفيما يلي نذكر أهم إسهامات الإمام أبي الحسن
موسى الكاظم عليهالسلام في هذا الاتجاه :
1 ـ كتاب الحج ، رواه عنه أبو الحسن علي بن عبيد الله بن علي بن
الحسين (3).
__________________
(1) طبع بتحقيق السيد محمد حسين الجلالي ، ويشتمل على (59) حديثاً.
(2) طبع مع مستدرك عليه بتحقيق مؤسسة آل البيت عليهمالسلام.
(3) رجال النجاشي : 256 / 671 ، الذريعة / الطهراني 6 : 251 / 1373.
2 ـ دعاء الجوشن الصغير ، أورده السيد ابن طاوس في ( مهج الدعوات ) (1)
وذكر أنه قد كتبه عن إملائه عليهالسلام جمع من شيعته الحاضرين مجلسه الذين كانوا
يحملون معهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال ، فيكتبون كلما نطق
بكلمة ، أو أفتى في نازلة كما سمعوا منه (2).
3 ـ أدعية أيام الأسبوع ، أوردها هبة الله بن أبي محمد الحسن الموسوي في
( المجموع الرائق من أزهار الحدائق ).
4 ـ كتاب الحديث ، رواه عنه أبو اسماعيل بكر بن الأشعث الكوفي (3).
5 ـ كتاب رواه عنه أبو جعفر محمد بن صدقة العنبري البصري (4).
6 ـ كتاب رواه عنه القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن
إبراهيم بن الحسن (5).
7 ـ كتاب رواه عنه خلف بن حماد بن ياسر الكوفي (6).
8 ـ وله مسائل عدّة رواها عنه إبراهيم بن أبي محمود الخراساني ، وهي قدر
خمس وعشرين ورقة (7) ، وأخرى رواها الحسن بن علي بن يقطين مولى بني
هاشم (
، وثالثة رواها عبد الله بن محمد الأهوازي (9) ، ورابعة رواها أخوه
__________________
(1) وطبع في لكهنو سنة 1871 م.
(2) الذريعة / الطهراني 5 : 287 / 1337.
(3) رجال النجاشي : 109 / 275 ، الذريعة / الطهراني 6 : 316 / 1745.
(4) رجال النجاشي : 364 / 983.
(5) رجال النجاشي : 314 / 859.
(6) رجال النجاشي : 152 / 399.
(7) رجال الكشي : 567.
(
رجال النجاشي : 45 / 91 ، الفهرست / الشيخ الطوسي : 98 / 166.
(9) الذريعة / الطهراني 20 : 369 / 3458.
أبو الحسن علي بن جعفر العريضي ، وهي باقية إلى الآن