السكينة والوقار ، والبسني درعك الحصينة ، واحفظني بسترك الواقي ، واجعلني في عافيتك النافعة ، وصدق قولي وفعالي ، وبارك لي في ولدي واهلي ، ومالي ، وما قدمت وأخرت ، وما اغفلت ، وما تعمدت ، وما توانيت ، وما اسررت ، فاغفر لي برحمتك يا أرحم الراحمين .. » (417)
ويكشف هذا الدعاء عن مدى انقطاع الامام الى الله ، وشدة اتصاله به ، فقد ألجأ جميع أموره إليه ، واستعاذ به من فتن الدنيا ، وغرورها ، خوفا ان تصده عن ذكره تعالى.
2 ـ روى الربيع عن عبد الله بن عبد الرحمن عن الامام أبي جعفر 7 انه قال له :
« إلا أعلمك دعاء لا ندعو به نحن أهل البيت اذا اكربنا أمر ، وتخوفنا من شر السلطان إلا قبل لنا به .. »
« بلى بأبي أنت وأمي .. »
« قل : يا كائنا قبل كل شيء ، ويا مكون كل شيء ، ويا باقي بعد كل شيء صل على محمد واهل بيته .. ثم تذكر حاجتك .. » (418)
وذكرت له ادعية أخرى ، وهي تدلل على مدى روحانيته ، وعظيم اتصاله بخالقه.
الحث على الدعاء :
وحث الامام (ع) على الدعاء الى الله ، قال (ع) : « ان الله كره الحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، واحب ذلك لنفسه جل ذكره
__________________
(417) مهج الدعوات ( ص 213 ـ 215 ).
(418) مهج الدعوات ( ص 215 ).
ان يسأل ، ويطلب ما عنده .. » (419)
روائع الحكم :
وأثرت عن الامام أبي جعفر (ع) روائع الحكم القصار الحافلة بالقيم الكريمة والحكم الصائبة والتجارب النافعة ، وهذه بعضها :
1 ـ قال (ع) : « إن استطعت أن لا تعامل أحدا إلا ولك الفضل عليه فافعل .. »
2 ـ قال (ع) : « صانع المنافق بلسانك ، واخلص مودتك للمؤمن ، وان جالسك يهودي فاحسن مجالسته .. »
3 ـ قال (ع) : « ما شيب شيء بشيء احسن من حلم بعلم .. »
4 ـ قال (ع) : « قم بالحق ، واعتزل ما لا يعنيك ، وتجنب عدوك ، واحذر صديقك من الاقوام ، إلا الأمين من خشي الله ، ولا تصحب الفاجر ، ولا تطلعه على سرك ، واستشر في أمرك الذين يخشون الله .. »
5 ـ قال (ع) : « صحبة عشرين سنة قرابة .. »
6 ـ قال (ع) : « في كل قضاء الله خير للمؤمن .. »
7 ـ قال (ع) : « من لم يجعل الله له من نفسه واعظا فان مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا .. »
8 ـ قال (ع) : « من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه. »
9 ـ قال (ع) : « كم من رجل لقى رجلا فقال له : اكب الله عدوك ، وماله من عدو الا الله. »
10 ـ قال (ع) : « ما عرف الله من عصاه ، وانشد.
تعصي الاله وأنت تظهر حبه
هذا لعمرك في الفعال بديع
__________________
(419) تحف العقول.
لو كان حبك صادقا لأطعته
ان المحب لمن أحب مطيع
11 ـ قال (ع) : « إنما مثل الحاجة الى من اصاب مالا حديثا ـ يعني به مستحدث النعمة ـ كمثل الدرهم في فم الأفعى أنت إليه محوج ، وأنت منها على خطر .. »
12 ـ قال (ع) : « اعرف المودة في قلب أخيك بما له في قلبك .. »
13 ـ قال (ع) : « الايمان حب وبغض .. »
14 ـ قال (ع) : « أربع من كنوز البر كتمان الحاجة ، وكتمان الصدقة ، وكتمان الوجع ، وكتمان المصيبة .. »
15 ـ قال (ع) : « من صدق لسانه زكى عمله ، ومن حسنت نيته زيد في رزقه ، ومن حسن بره في أهله زيد في عمره. »
16 ـ قال (ع) : « من استفاد اخا في الله على ايمان بالله ووفاء باخائه طلبا لمرضات الله فقد استفاد شعاعا من نور الله ، وامانا من عذاب الله وحجة يفلج بها يوم القيامة ، وعزا باقيا ، وذكرا ناميا لأن المؤمن من الله عز وجل لا موصول ، ولا مفصول ، قيل له : ما معنى لا موصول ، ولا مفصول؟ قال (ع) : لا موصول به انه هو ، ولا مفصول منه ، انه من غيره .. »
17 ـ قال (ع) : « كفى بالمرء غشا لنفسه ان يبصر من الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه أو يعيب غيره بما لا يستطيع تركه ، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه .. »
18 ـ قال (ع) : « التواضع : الرضا بالمجلس دون شرفه ، وان تسلم على من لقيته ، وان تترك المراء ، وان كنت محقا .. »
19 ـ قال (ع) : « إن المؤمن اخو المؤمن ، لا يشتمه ، ولا يحرمه ،
ولا يسيء به الظن .. »
20 ـ قال (ع) : « من قسم له الخرق (420) حجب عنه الايمان .. »
21 ـ قال (ع) : « ان لله عقوبات في القلوب ، والابدان ، ضنك في المعيشة ، ووهن في العبادة ، وما ضرب عبد بعقوبة اعظم من قسوة القلب .. »
22 ـ قال (ع) : « اذا كان يوم القيامة نادى مناد اين الصابرون؟ فيقوم فئام (421) من الناس ، ثم ينادي مناد اين المتصبرون؟ فيقوم فئام من الناس ، فقيل له :
« ما الصابرون والمتصبرون؟ »
قال (ع) : الصابرون على اداء الفرائض ، والمتصبرون على ترك المحارم .. »
23 ـ قال (ع) : « يقول الله : يا ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس .. »
24 ـ قال (ع) : « أفضل العبادة عفة البطن والفرج .. »
25 ـ قال (ع) : « الحياء والايمان مقرونان في قرن فاذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه .. »
26 ـ قال (ع) : « ان هذه الدنيا تعاطاها البر والفاجر ، وان هذا الدين لا يعطيه الله إلا أهل خاصته .. »
27 ـ قال (ع) : « إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض ، ولا يعطي دينه إلا من يحب .. »
__________________
(420) الخرق : ضعف العقل.
(421) الفئام : الجماعة من الناس.
28 ـ قال (ع) : « لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحدا ، ولو يعلم المسئول ما في المنع ما منع أحد أحدا .. »
29 ـ قال (ع) : « إن لله عبادا ميامين مياسير يعيشون ، ويعيش الناس في اكنافهم وهم في عباده مثل القطر ، ولله عباد ملاعين مناكيد لا يعيشون ، ولا يعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده مثل الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .. »
30 ـ قال (ع) : « ان الله يحب افشاء السلام .. » (422)
31 ـ قال (ع) : « لكل شيء آفة ، وآفة العلم النسيان .. » (423)
32 ـ قال (ع) : « اللهم اعني على الدنيا بالغنى ، وعلى الآخرة بالتقوى » (424).
33 ـ قال (ع) : « لا يزال الرجل يزداد في رأيه ما نصح لمن استشاره .. » (425)
34 ـ قال (ع) : « سلاح اللئام قبيح الكلام .. » (426) ونظم بعض الشعراء هذه الحكمة الرائعة بقوله :
لقد صدق الباقر المرتضى
سليل الامام 7
بما قال : في بعض الفاظه
قبيح الكلام سلاح اللئام (427)
__________________
(422) هذه الحكم القيمة أخذت من تحف العقول ( ص 292 ـ 300 ).
(423) البداية والنهاية 9 / 310.
(424) البيان والتبيين 3 / 222.
(425) عيون الاخبار لابن قتيبة 1 / 300.
(426) حلية الأولياء 3 / 184 ، صفة الصفوة 2 / 61.
(427) الاتحاف بحب الاشراف ( ص 53 ).
35 ـ قال (ع) : « الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ، ولا تصيب الذاكر. » (428)
36 ـ قال (ع) : « اشد الاعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال ، وانصافك من نفسك ، ومواساة الأخ في المال .. » (429)
37 ـ قال (ع) : « لا يكون المعروف معروفا إلا باستصغاره وتعجيله وكتمانه » (430).
38 ـ قال (ع) : « ان من الصدق في السنة التجافي في الدين لأهل المروءات » (431).
39 ـ قال (ع) : « ما احسن الحسنات بعد السيئات ، وما اقبح السيئات بعد الحسنات .. » (432)
40 ـ قال (ع) : « من اصاب مالا من أربع لم يقبل منه في أربع ، من أصاب مالا من غلول أوربا أو خيانة أو سرقة ، لم يقبل منه في زكاة ، ولا في صدقة ولا في حج ، ولا في عمرة .. » (433)
41 ـ قال (ع) : « لا يقبل الله عز وجل حجا ولا عمرة من مال
__________________
(428) حلية الأولياء 3 / 181 ، صفة الصفوة 2 / 60 ، سير اعلام النبلاء 4 / 242 ، مرآة الزمان 5 / 78.
(429) حلية الاولياء 3 / 183.
(430) الاخبار الموفقيات ( ص 400 ).
(431) المردة للمرزباني 2 / ب ، من مصورات مكتبة العلامة السيد مهدي الخرسان.
(432) أمالي الصدوق ( ص 224 ).
(433) أمالي الصدوق ( ص 296 ).
حرام .. » (434)
42 ـ قال (ع) : « من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه. » (435)
43 ـ قال (ع) : « ان الكذب هو حراب الايمان .. » (436)
44 ـ قال (ع) : « كان لي أخ في عيني عظيما ، وكان الذي عظمه صغر الدنيا في عينيه .. » (437)
45 ـ قال (ع) : لأصحابه يدخل احدكم يده في كيس صاحبه فيأخذ ما يريد؟ فقالوا له : لا ، فقال (ع) : لستم اخوانا كما تزعمون. (438)
46 ـ قال (ع) : « شر الآباء من دعاه البر الى الافراط ، وشر الأبناء من دعاه التقصير الى العقوق .. » (439)
47 ـ قال (ع) : « عظموا أصحابكم ، ووقروهم ، ولا يتهجم بعضكم على بعض .. » (440)
48 ـ قال (ع) : « ما من نكبة تصيب العبد الا بذنب .. » (441)
__________________
(434) أمالي الصدوق ( ص 296 ).
(435) أمالي الصدوق ( ص 296 ).
(436) اصول الكافي 2 / 339.
(437) مرآة الجنان 1 / 248.
(438) صفة الصفوة 2 / 63.
(439) تأريخ اليعقوبي 2 / 53.
(440) اصول الكافي 2 / 173.
(441) اصول الكافي 2 / 269.
49 ـ قال (ع) : « إن الله قضى قضاء حتما ألا ينعم على العبد نعمة فيسلبها اياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة .. » (442)
50 ـ قال (ع) : « لو صمت النهار لا افطر ، وصليت الليل لا أفتر ، وانفقت مالي في سبيل الله علقا ، علقا ، ثم لم تكن في قلبي محبة لاوليائه ، ولا بغضة لاعدائه ما نفني ذلك شيئا ... » (443)
51 ـ سأل زرارة الامام أبا جعفر (ع) قال له : ما الحنيفية؟ قال 7 : هي الفطرة التي فطر الناس عليها ... فطرهم على معرفته .. » (444)
52 ـ قيل للامام أبي جعفر (ع) : أتعرف شيئا خيرا من الذهب؟ قال (ع) : نعم معطيه (445).
53 ـ قال (ع) : بلية الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا .. » (446)
54 ـ قال (ع) : « ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج .. » (447)
55 ـ قال (ع) : « اصبر للنوائب ، ولا تتعرض للحقوق ، ولا تعط أحدا من نفسك ما ضره عليك اكثر من نفعه .. » (448)
__________________
(442) اصول الكافي 2 / 273.
(443) تأريخ اليعقوبي 3 / 61.
(444) البحار 12 / 87.
(445) تأريخ اليعقوبي 3 / 61.
(446) اعلام الورى ( ص 27 ).
(447) جامع السعادات 2 / 16.
(448) تأريخ اليعقوبي 3 / 61.
56 ـ قال (ع) : « شيعتنا من أطاع الله .. » (449)
57 ـ قال (ع) : « بئس الأخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا .. » (450)
58 ـ قال (ع) : « ليس في الدنيا شيء أعون من الاحسان الى الاخوان. » (451)
59 ـ قال (ع) : « من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا الى كل شر وبلية الا من عصمه الله .. » (452)
60 ـ قال (ع) : « ما يضر من عرفه الله الحق ان يكون على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يأتيه الموت .. » (453)
61 ـ قال (ع) : « اذا دخل أهل الجنة ، الجنة بأعمالهم ، فاين عتقاء الله من النار ، ان لله عتقاء من النار .. » (454)
62 ـ قال (ع) : « لا خير فيمن لا تقية له .. » (455)
63 ـ قال (ع) : « إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر الى قلبك ، فان كان يحب أهل طاعة الله عز وجل ، ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبك ، وان كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل
__________________
(449) نور الابصار للشبلنجيّ ( ص 131 ).
(450) نور الابصار ( ص 131 ).
(451) اسعاف الراغبين ( ص 316 ).
(452) البداية والنهاية 9 / 311.
(453) التحصين ( ص 225 ) لاحمد بن فهد الحلي.
(454) الدر النظيم ( ص 191 ).
(455) علل الشرائع ( ص 51 ).
معصيته فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحب .. » (456)
64 ـ قال (ع) : « إن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق ، والنذر في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى .. » (457)
65 ـ قال (ع) : « إذا شبع البطن طغى .. » (458)
66 ـ قال (ع) : « ما من شيء أبغض الى الله من بطن مملؤ .. » (459)
67 ـ قال (ع) : « من طلب الدنيا استعفافا عن الناس ، وسعيا على أهله وتعطفا على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامة ، ووجهه مثل القمر ليلة البدر » (460).
68 ـ قال (ع) : « إن حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه للأيمان .. » (461)
69 ـ قال (ع) : « اني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار علمه كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله. » (462)
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض كلماته الحكمية التي تمثل اصالة الفكر والابداع.
__________________
(456) علل الشرائع ( ص 117 ).
(457) مجمع البيان 1 / 252.
(458) جامع السعادات 2 / 5.
(459) جامع السعادات 2 / 5.
(460) جامع السعادات 2 / 21.
(461) اعلام الورى.
(462) شرح النهج 7 / 92.
نظمه للشعر :
ولم تنص المصادر المترجمة للإمام أبي جعفر (ع) على أنه كان ينظم الشعر ، وانما نصت على أنه فتق أبوابا كثيرة من العلوم ، واسس معظم قواعدها ، وانه ممن أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، غير أن السيد علي صدر المدني نسب له هذه الأبيات :
عجبت من معجب بصورته
وكان من قبل نطفة مذرة
وفي غد بعد حسن صورته
يصير في القبر جيفة قذرة
وهو على عجبه ونخوته
ما بين جنبيه يحمل العذرة (463)
وسواء أصح أن الامام (ع) كان ينظم الشعر أم لم يصح فان ـ من المقطوع به ـ انه كان في طليعة البلغاء ، وقد دللت على ذلك المجموعة الضخمة من كلماته الحكمية التي هي من الطراز الأول في فصاحتها وبلاغتها.
وقبل أن أطوي الحديث عن مواهب الامام أبي جعفر (ع) أرى من الحق أن ابين اني لم اذكر الا نماذج يسيرة ، وصورا موجزة من علومه ومعارفه وحكمه ، ولا أزعم أني احطت بها أو الممت ببعضها ، فذلك من غير الممكن لي ، فقد تركت الباب مفتوحا لغيري من البحاث للكشف عنها وعن ، سائر جوانب حياته المشرقة التي هي امتداد ذاتي لحياة آبائه العظام الذين اضاءوا الحياة الفكرية للناس.
__________________
(463) أنوار الربيع 6 / 300.
مع كثير عزة : والكميت
وكانت للشاعرين الشهيرين كثير عزة ، والكميت الأسدي اتصالات وثيقة بالامام أبي جعفر فكلاهما يدينان بإمامته ، ووجوب طاعته ، والانقطاع إليه ، وقد شاع ذلك عنهما ، وعرفا به عند جميع الأوساط ، ونعرض ـ بايجاز ـ لبعض شئونهما ، ومدى ارتباطهما بالامام (ع) :
كثير عزة :
أما كثير عزة فهو أبو حمزة الخزاعي المدني ، أحد عشاق العرب المشهورين هام بحب عزة بنت جميل ، وله معها أخبار كثيرة ، ذكرها المعنيون بترجمته ، وكان في مواهبه الشعرية أشعر أهل الاسلام ـ كما يقول ابن اسحاق ـ (1).
ولاؤه لأهل البيت (ع) :
كان كثير شديد الولاء لأهل البيت (ع) متعصبا لهم ، ولم يخف تشيعه على الامويين ، فقد أقسم عليه عبد الملك بن مروان بحق الامام أمير المؤمنين (ع) أن يحدثه هل رأى أحدا هو اعشق منه؟ فقال له كثير : لو سألتني بحقك أخبرتك ، فأقسم عليه ، فأخبره عن غرام بعض العشاق (2).
مع الامام الباقر :
كان كثير يكن فى اعماق نفسه خالص الحب والولاء للإمام أبي جعفر 7 ويدين بامامته وفضله ، ويقول المؤرخون : ان رجلا نظر إليه وهو راكب ، والامام أبو جعفر (ع) يمشي فانكر عليه ذلك
__________________
(1) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ( ص 587 ).
(2) وفيات الاعيان 3 / 266.
وقال له :
« اتركب وأبو جعفر يمشي؟!! »
فاجابه كثير جواب المؤمن بدينه ، المتبصر في عقيدته قائلا :
« هو أمرني بذلك ، وأنا بطاعته في الركوب أفضل من عصياني اياه بالمشي .. » (3)
ودلت هذه البادرة على حسن أدبه ، وكمال عقيدته ، فان طاعة الامام واجبة ليس الى مخالفتها من سبيل.
مدحه لبني مروان :
واختص كثير ببني مروان فكانوا يعظمونه ويكرمونه (4) ونظم في مدحهم عدة قصائد ذكرت في ( ديوانه ) الا انه لم يكن في مدحه لهم جادا ، ولا مؤمنا بما يقول ، وإنما مدحهم طمعا بأموالهم وهباتهم ، وكان يسخر منهم فكان يشبههم بالحيات والعقارب ، فقد روى المؤرخون أنه وفد على الامام أبي جعفر (ع) فقال (ع) له :
« تزعم أنك من شيعتنا ، وتمدح آل مروان؟!! »
فأنبرى كثير قائلا :
« إنما أسخر منهم ، وأجعلهم حيات ، وعقارب ، ألم تسمع الى قولي في عبد العزيز بن مروان :
وكنت عتبت معتبة فلجت
بي الغلواء في سن العقاب
ويرقيني لك الراقون حتى
أجابك حية تحت الحجاب
وفهم ذلك عبد الملك فقال لأخيه عبد العزيز : ما مدحك ، انما
__________________
(3) أمالي المرتضى 1 / 283.
(4) الاعلام 6 / 72.
جعلك راقيا للحيات ، ونقل لي ذلك عبد العزيز فقلت له : والله لأجعلنه حية ، ثم لا ينكر ذلك فقلت فيه :
يقلب عيني حية بمجارة
أضاف إليها الساريات سبيلها
يصيد ويغضي وهو ليث خفية
إذا أمكنته عدوة لا يقيلها
ولما تلوت ذلك على عبد الملك اجزل لي بالعطاء ، وخفي عليه ما قصدته (5) فلم يكن كثير في مديحه لبني مروان جادا ، ولا مؤمنا بما يقول : وانما كان ساخرا وهازء ، فقد خادعهم ليكسب منهم الأموال التي اختلسوها بغير حق ، ولم تكن له مندوحة لأخذ شيء منها الا بهذه الوسيلة.
وفاته :
توفى سنة ( 105 ه ) وقد توفى في اليوم الذي توفى فيه عكرمة وصلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر ، فقال الناس : مات أفقه الناس ، واشعر الناس (6) وقد شيع بتشييع حافل ، وكان من جملة المشيعين لجنازته الامام أبو جعفر (ع).
رواية موضوعة :
وذكر بعض المؤرخين رواية ـ فيما نحسب ـ أنها من الموضوعات فقد رووا عن يزيد بن عروة أنه قال : غلبت النساء على جنازة كثير ، وهن يبكينه ، ويذكرن عزة في ندبتهن ، فقال أبو جعفر محمد بن علي : افرجوا لي عن الجنازة لأدفعها ، قال : فجعلنا ندفع عنها النساء ، وجعل أبو جعفر يضربهن بكمه ، ويقول : تنحين يا صويحبات ، يوسف ، فانتدبت
__________________
(5) اخبار شعراء الشيعة ( ص 62 ).
(6) وفيات الاعيان 3 / 269.
امرأة منهن ، واقبلت على الامام فقالت له : يا ابن رسول الله لقد صدقت انا لصويحبات يوسف ، وقد كنا خيرا منكم له ، فقال أبو جعفر لبعض مواليه : احتفظ بها حتى نجيء ، فلما فرغوا من دفن جنازة كثير جيء له بالمرأة فقال (ع) لها :
« أنت القائلة : إنكن خير منا؟ .. »
« نعم ، تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله؟ .. »
« أنت آمنة من غضبي فابيني .. »
« نحن يا ابن رسول الله دعوناه الى اللذات من المطعم والمشرب ، والتمتع ، وانتم معاشر الرجال القيتموه في الجب ، وبعتموه بأبخس الاثمان ، وحبستموه في السجن ، فأينا كان به لحن ، وعليه ارأف؟ .. »
وابدى الامام اعجابه بها فقال لها :
« لله درك لن تغالب امرأة الا غلبت ، ثم قال لها الك بعل؟ .. »
« لي من الرجال من أنا بعله .. »
« صدقت مثلك من تملك زوجها ، ولا يملكها .. »
وانصرفت المرأة ، فقال رجل من القوم وكان يعرفها : هذه زينب بنت معيقب الانصارية (7).
والذي يواجه هذه الرواية من المؤاخذات ما يلي :
1 ـ ما معنى تجمهر السيدات من النساء حول جثمان كثير ، واحاطتهن به حتى صعب على الامام الوصول إليه ، فاضطر حتى أمر بكشفهن عنه ، مع العلم أن المرأة لم يعهد انها تشترك في مثل هذه المراسيم ، فقد امرت أن تقر في بيتها.
__________________
(7) الدرجات الرفيعة ( ص 590 ).
2 ـ ومما يدعو الى الاطمئنان بوضع الرواية تهجم الامام على السيدات اللاتي ازدحمن على جنازة كثير ، فانه (ع) كان المثل الأعلى للآداب الرفيعة والاخلاق الفاضلة ، ومن المستحيل أن تصدر منه أية كلمة نابية.
3 ـ ومما يدعم وضع الرواية هو الحوار الذي دار بين الامام ، وبين السيدة الانصارية وسؤاله منها انها لها زوج وهل يتناسب مع قدسية الامام والحق انها الى الخيال اقرب منه الى الواقع ، .. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن ترجمة كثير (
.
الكميت الاسدي :
الكميت بن زيد بن خنيس ( أبو المستهل ) الأسدي ، شاعر الاولين والآخرين ـ على حد تعبير الفرزدق ـ (9) ولو لا شعره لم يكن للغة ترجمان ، ولا للبيان لسان ـ حسبما يقول عكرمة الضبي ـ (10).
وهو في طليعة رجال الفكر والأدب في عصره ، وقد ساهم مساهمة ايجابية في تطور الثقافة العربية وازدهار الحركة العلمية في الاسلام ، ونعرض لبعض البنود المشرقة من جوانب حياته.
ولادته ونشأته :
ولد الكميت سنة ( 60 ه ) وهي السنة التي فجعت بها الأمة الاسلامية
__________________
(
توجد ترجمة كثير في كل من الاغاني 8 / 25 ، وشذرات الذهب 1 / 131 ، وسير اعلام النبلاء ، وخزانة البغدادي 2 / 381 ، ومعجم الشعراء للمرزباني ( ص 350 ) واخبار الشيعة (62) ووفيات الاعيان 3 / 265 ـ 270.
(9) الاغاني 15 / 115.
(10) روضات الجنات 6 / 59.
بقتل سيد الشهداء الامام الحسين (ع) (11) وقد انطبعت في نفسه صورة تلك المأساة المروعة وأخذت تتفاعل مع مشاعره وعواطفه ، وظهر أثر ذلك في شعره الحزين الذي يرثي به الامام الحسين (ع).
أما نشأته فقد نشأ بالكوفة التي هي عاصمة الشيعة ، وينبوع التشيع ، ومنجم الثورات على بني أمية ، وتربى على حب أهل البيت (ع) فكان حبهم من عناصره ، ومقوماته.
مواهبه :
كان الكميت من أفذاذ التأريخ ، ومن اعلام الأمة العربية ، وكان يتمتع بمواهب شريفة وصفات رفيعة ، عدها بعضهم بعشر خصال قال : « كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر ، كان خطيب أسد ، وفقيه الشيعة ، حافظ القرآن العظيم ، ثبت الجنان ، وكان كاتبا حسن الخط ، وكان نسابة ، وكان جدلا ، وهو أول من ناظر في التشيع ، وكان راميا لم يكن في بني اسد أرمى منه ، وكان فارسا شجاعا دينا ، وكان مشهورا في التشيع مجاهرا في ذلك .. » (12)
وهذه الصفات قد رفعته الى القمة ، وميزته على جميع ادباء عصره.
شعره :
اما شعره فهو من مناجم الأدب العربي ، ومن أروع ما قاله شعراء العرب على الاطلاق ، فلم يكن في شعره يميل الى الدعابة والمجون ، وبذلك فقد فارق شعراء العصر الاموي والعباسي الذين اتجهوا بمواهبهم الفكرية والادبية الى اللهو والعبث وفساد الاخلاق.
__________________
(11) الغدير 2 / 211.
(12) خزانة الأدب 1 / 99.
اما الكميت فقد صرف فكره الى ساداته من بني هاشم ، فاخذ ينشر مآثرهم ، ويذيع فضائلهم بأروع ما نظم في الأدب العربي.
ويقول المؤرخون : كان الكميت لا يذيع شعره بين الناس حتى يرضى به ، ويطمئن إليه ، فلذا كان لوحة فنية تحكي الابداع والفن والفكر ، أما هاشمياته ، فقد كبرت عن التحديد والتقييم ، وقد ضمنها الاستدلال على مذهبه الذي لا يقبل الجدل والتشكيك ، وكانت هاشمياته احدى الوسائل الثقافية في تلك العصور لما فيها من الخصب وغزارة الفكر والادب ، وكانت تروى في الاندية ، والمجالس ويحفظها الناس.
الكميت مع الفرزدق :
ويروي المؤرخون أن الكميت لما نظم ( الهاشميات ) سترها ولم يذعها بين الناس ، ورأى أن يعرضها على شاعر العرب الأكبر الفرزدق بن غالب ليرى رأيه فيها ، فقصده ، وبعد أن استقر به المجلس قال له :
ـ يا أبا فراس ، إنك شيخ مضر ، وشاعرها ، وأنا ابن اخيك الكميت ابن زيد الأسدي.
ـ صدقت أنت أبن أخي فما حاجتك؟
ـ نفث على لساني ، فقلت : شعرا فأحببت أن أعرضه عليك ، فان كان حسنا أمرتني باذاعته ، وإن كان قبيحا أمرتني بستره ، وكنت أول من ستره علي
وعجب الفرزدق من حسن أدبه ، فطفق يقول له :
ـ أما عقلك فحسن ، واني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك ، فانشدني ما قلت : وانبرى الفرزدق يتلو عليه رائعته قائلا :
طربت وما شوقا الى البيض أطرب
وقطع الفرزدق عليه كلامه قائلا : فيم تطرب يا ابن أخى؟! فقال :
ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب؟!
وراح الفرزدق يقول : بلى يا ابن أخي فالعب ، فانك في أوان اللعب ، فقال :
ولم يلهني دار ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنان مخضب
واكبر الفرزدق هذا الشعر ، وانطلق يقول : ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال :
ولا السانحات البارحات عشية
أمر سليم القرن أم مر أعضب
فقال الفرزدق : اجل لا تتطير فقال الكميت :
ولكن الى أهل الفضائل والتقى
وخير بني حواء والخير يطلب
واهتز الفرزدق من روعة هذا الادب العالي فراح يقول :
« من هؤلاء؟ ويحك. »
قال الكميت :
الى النفر البيض الذين يحبهم
الى الله فيما نابني اتقرب
واستولى الكميت على مشاعر الفرزدق وعواطفه فصاح :
« ارحني ويحك من هؤلاء؟!! » قال الكميت :
بني هاشم رهط النبي فانني
بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة
الى كنف عطفاه أهل ومرحب
وملك هذا الشعر احاسيس الفرزدق ، وانطلق يقول :
« يا ابن أخي ، اذع ، ثم اذع ، فأنت والله اشعر من مضى ، وأشعر من بقي » (13).
__________________
(13) الاغاني 15 / 124.
مميزات شعره :
ويمتاز شعر الكميت بأنه كان مسرحا للقيم الدينية التي تعبر اصدق التعبير عن عواطفه تجاه ساداته بني هاشم الذين اخلص لهم في مودته وحبه ، وفقد فرضت عليه ذلك الأدلة الشرعية التي لا تقبل الجدل والنقاش أما الظواهر التي امتاز بها شعره ، فمن بينها.
1 ـ ان شعره في بني هاشم لم يكن عاطفيا ، وانما قام على الجدل والاقناع ، يقول شوقي ضيف : « وهكذا لم يعد الشعر عند الكميت يعبر عن الشعور فحسب ، بل اصبح يعبر أيضا عن الفكر ، وأصبح يشفع بكل ما وصل إليه العقل العربي في هذا العصر من قدرة على الجدال والاقناع » (14) « بل لعل تعبيره عن الفكر أهم من تعبيره عن العواطف » (15) وهذه لوحة من احدى روائعه التي تمثل هذا الاتجاه :
وقالوا : ورثناها أبانا وأمنا
وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
يرون لهم حقا على الناس واجبا
سفاها وحق الهاشميين أوجب (16)
وشجب الكميت بهذين البيتين دعوى الذين انتحلوا الخلافة ، وفرضوا لهم حقا على الناس لأنهم من قريش أسرة النبي (ص) فان هذه الجهة التي توصلوا بها الى الخلافة قد توفرت في آل البيت (ع) على اكمل صورها فهم الصق الناس به ، واقربهم إليه ... ويأخذ الكميت بعد هذين البيتين في الثناء على الرسول الاعظم (ص) ثم يعرج على ما ذهب إليه من أحقية آل البيت (ع) بالخلافة فيقول :
__________________
(14) التطور والتجديد ( ص 241 ).
(15) التطور والتجديد ( ص 240 ).
(16) الهاشميات ( ص 41 ـ 42 ).
يقولون : لم يورث ولو لا تراثه
لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير
وكندة والحيان بكر وتغلب (17)
وقد أراد بهذين البيتين ابطال ما زعموه أن النبي (ص) لم يورث فان كان ذلك حقا فان القبائل المذكورة لها نصيب في الخلافة بل كانت الناس فيها سواء ـ حسبما يقول شارح الهاشميات ـ ولا وجه لاختصاص قريش بها ، وهو منطق رصين يقوم على المنطق والفكر ... لقد كان الكميت بهذا الاستدلال فقيها فقد صاغ شعره صياغة العالم الفقيه الذي يعرف كيف يناقش المسائل ، ويثبتها ويدلل عليها ـ كما يقول الدكتور يوسف خليف ـ (18).
2 ـ وأقام الكميت شعره في مدح بني هاشم على الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم تدلل على ما ذهب إليه ، يقول مخاطبا بني هاشم :
وجدنا لكم في آل حاميم آية
تأولها منا تقي ومعرب
وفي غيرها آيا وآيا تتابعت
لكم نصب فيها الذي الشك منصب (19)
انه يشير في البيت الأول الى قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (20).
وفي البيت الثاني الى قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (21) وقوله تعالى : ( وَآتِ ذَا
__________________
(17) الهاشميات ( ص 42 ).
(18) حياة الشعر في الكوفة ( ص 713 ).
(19) الهاشميات ( ص 40 ).
(20) سورة الشورى : آية 23.
(21) سورة الأحزاب : آية 33.
الْقُرْبى حَقَّهُ ) (22) وقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (23).
لقد دعم الكميت ما ذهب إليه في فضل ساداته بني هاشم بآيات من القرآن الكريم « الذي ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فهو حجة قاطعة لا ريب فيه.
3 ـ واتسم شعر الكميت في مدحه لأهل البيت (ع) بأنه صادق اللهجة ، قوي العاطفة ، مبعثه الايمان الخالص الذي لا يشوبه أي عرض من اعراض الدنيا ، فقد كان يبغي فيه وجه الله والدار الآخرة ويدلل على ذلك قوله :
الى النفر البيض الذين بحبهم
الى الله فيما نالني أتقرب
لقد اخلص الكميت في هواه وحبه لأهل البيت (ع) لأنه لم ير وسيلة تقربه الى الله زلفى سوى الاخلاص في المودة لهم.
4 ـ والظاهرة التي يمتاز بها شعر الكميت في بني هاشم انه لم يستند فيما نظمه فيهم الى ما يسمعه عنهم من المآثر والفضائل ، وإنما يستند الى مشاهداته فقد عاصرهم ، ونظر الى مثلهم العليا التي طبق شذاها العالم بأسره ، فهام بها ، شأنه شأن الأحرار الذين يقدسون الفضيلة ، ويكبرون من اتصف بها ، .. لقد كان شعر الكميت صورة حية يحكي الواقع المشرق لأهل البيت (ع) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
هذه بعض مميزات شعر الكميت ، أما الحديث عن مظاهره الفنية فانه يستدعي الاطالة ، وقد آثرنا الايجاز في اكثر هذه البحوث.
__________________
(22) سورة الأسراء : آية 26.
(23) سورة الانفال : آية 41.
صلابته فى عقيدته :
كان الكميت صلب العقيدة ، راسخ الايمان ، قد أقام عقيدته على الواقع العلمي الذي لا يقبل الجدل والنقاش ، فهو شاعر العقيدة الشيعية ، والمعبر عن آرائها ، ومبادئها ويجمع الرواة على أنه اول من فتق باب الاحتجاج للشيعة في هاشمياته ، وانه كان لسانهم ، والمدافع عنهم ، والمحتج لهم ، وقد صورت هاشمياته الجانب الفكري ، والعقائدي للشيعة ، واحاطت ـ بوضوح ـ بشئون الامامة التي تعتبر من العناصر الاساسية في مبادئهم.
مع الامام الباقر :
واختص الكميت بالامام أبي جعفر (ع) فكان شاعره الخاص ، وقد تلا عليه بعض هاشمياته وقصائده التي نظمها في حق أهل البيت (ع) فأخذت موقعها من نفس الامام (ع) فشكره ودعا له بالمغفرة والرضوان.
وكان الكميت لا يرى أحدا في هذه الدنيا يستحق الولاء والتقدير غير سيده الامام أبي جعفر (ع) فقد دخل عليه وهو يقول :
ذهب الذين يعاش في اكنافهم
لم يبق إلا شامت أو حاسد
وبقي على ظهر البسيطة واحد
فهو المراد وأنت ذاك الواحد (24)
تعطشه لرؤيا الامام :
كان الكميت مقيما في الكوفة ، فاشتد به الوجد الى رؤيا الامام فسافر الى يثرب ، ولما مثل عند الامام تلا عليه قصيدته التي يذكر فيها تعطشه لرؤياه ، يقول فيها :
كم جزت فيك من احواز وايقاع
وأوقع الشوق بي قاعا الى قاع
__________________
(24) روضات الجنات 6 / 56.
يا خير من حملت أنثى ومن وضعت
به إليك غدى سيري وايضاعي
أما بلغتك فالآمال بالغة
بنا الى غاية يسعى لها الساعي
من معشر شيعة الله ثم لكم
صور إليكم بابصار واسماعي
دعاة أمر ونهي عن أئمتهم
يوصي بها منهم واع الى واعي
لا يسأمون دعاء الخير ربهم
أن يدركوا فيلبوا دعوة الداعي (25)
وصورت هذه الابيات عظيم ولائه للامام ، وما عاناه من جهد الطريق ، وعناء السفر في سبيل رؤيته والالتقاء به.
رثاؤه للحسين :
وكان الكميت قد ولد في السنة التي استشهد بها أبو الأحرار الامام الحسين (ع) ولما ترعرع ، وفهم الحياة رأى الناس قد ذهلتهم أهوال تلك المأساة الخالدة في دنيا الأحزان ، وهم يرددون في انديتهم ومجالسهم ما عاناه ريحانة رسول الله (ص) من فوادح المحن والخطوب ، وقد هزت مشاعره وعواطفه ، وملأت نفسه الما عاصفا ، وقد رثاه بذوب روحه في كثير من شعره ، ويقول الرواة انه نظم قصيدة في رثاء الحسين ووفد على الامام أبي جعفر ليتلوها عليه فلما مثل عنده قال له :
ـ يا ابن رسول الله قد قلت فيكم أبياتا من الشعر : أفتأذن لي في انشادها؟
__________________
(25) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ( ص 189 ) وفي اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 516 ان هذه الابيات قالها اخو الكميت الورد بن زيد الأسدي أمام الامام ابي جعفر ، وليست للكميت ، وذكر ذلك احمد بن محمد عياش في مقتضب الأثر ( ص 132 ).
ـ انها ايام البيض (26) ـ التي يكره فيها انشاد الشعر ـ.
ـ هي فيكم خاصة.
ـ هات ما عندك.
فانبرى يقول :
اضحكني الدهر وابكاني
والدهر ذو صرف والوان
لتسعة بالطف قد غودروا
صاروا جميعا رهن اكفان
وتألم الامام كأشد ما يكون التألم حينما سمع رثاء جده الامام الحسين ، واغرق في البكاء وبكى معه ولده الامام الصادق (ع) كما بكت العلويات من وراء الخباء ، ولما بلغ الى قوله :
وستة لا يتجارى بهم
بنو عقيل خير فرسان
ثم علي الخير مولاهم
ذكرهم هيج أحزاني
بكى الامام أبو جعفر (ع) أمرّ البكاء ، وذكر له ما اعد الله من الثواب الجزيل لمن يذكر أهل البيت ، ويحزن لحزنهم ، ولما بلغ قوله :
من كان مسرورا بما مسكم
أو شامتا يوما من الآن
فقد ذللتم بعد عز فما
ادفع ضيما حين يغشاني
أخذ الامام (ع) بيد الكميت وأخذ يدعو له قائلا :
« اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. »
ولما بلغ قوله :
متى يقوم الحق فيكم متى
يقوم مهديكم الثاني
__________________
(26) الايام البيض : يراد بها أيام الليالي البيض ، وهي الثالث عشر والرابع عشر ، والخامس عشر ، وسميت لياليها بيضا لأن القمر يطلع فيها من أولها الى آخرها.
التفت إليه الامام ، وعرفه بأن الامام المهدي (ع) هو الامام المنتظر الذي يملأ الارض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، وسأله الكميت عن زمان خروجه فقال (ع) : لقد سئل رسول الله (ص) عن ذلك ، فقال : انما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم الا بغتة (27).
الميمية من هاشمياته :
وانشد الكميت بحضرة الامام أبي جعفر (ع) الميمية من هاشمياته ، وهي من أروع الشعر العربي وارقاه فهي تصور ـ بوضوح ـ انطباعاته الخاصة عن أهل البيت (ع) تصويرا رائعا يستند الى مشاهداته لمآثرهم الرفيعة ومثلهم العليا ، يقول فيها :
من لقلب متيم مستهام
غير ما صبوة ولا احلام
طارقات ولا ادكار غوان
واضحات الخدود كالآرام
بل هواي الذي أجن وابدي
لبني هاشم فروع الانام
للقريبين من ندى والبعيدين
من الجور في عرى الاحكام
والمصيبين باب ما اخطأ الناس
ومرسي قواعد الاسلام
والحماة الكفاة في الحرب ان
لف ضرام وقوده بضرام
والغيوث الذين أن أمحل الناس
فمأوى حواضن الأيتام
والولاة الكفاة للأمران طر
ق يتنا بمجهض أو تمام
والأساة الشفاة للداء ذي
الريبة والمدركين بالاوغام
والروايا التي يحمل بها النا
س وسوق المطبعات العظام
والبحور التي بها تكشف الحر
ة والداء من غليل الأوام
لكثيرين طيبين من النا
س وبرين صادقين كرام
واضحي أوجه كرام جدود
واسطي نسبة لهام فهام
__________________
(27) الغدير 2 / 200.
للذرى فالذرى من الحسب الثا
قب بين القمقام فالقمقام
راجحي الوزن كاملي العدل في ال
سيرة طبين بالامور العظام
فضلوا الناس في الحديث حديثا
وقديما في اول القدام
لقد ذكر في مطلع قصيدته هيامه في الحب ، وانه قد استولى على مشاعره وعواطفه ، فصار اسيرا ، لا يملك من أمر نفسه شيئا. ولكن لمن هذا الحب العارم الذي وقع في شبكه؟ انه ليس للغانيات التي يفتتن الناس بجمالهن ، وانما كان لأرفع الناس شأنا ، واسماهم مكانة ، انهم بنو هاشم الذين التقت بهم جميع عناصر الشرف والمجد ، وفاقوا جميع الناس بمواهبهم وعبقرياتهم ، فقد قصر عليهم اخلاصه وهواه الذي يجنه ويبديه.
ولم يندفع الكميت بحب ساداته بني هاشم وراء العاطفة ، وإنما رآهم صورة رائعة لا ثاني لها في تأريخ البشرية ، فقد رأى ، وشاهد ، ولمس أروع صور الانسانية التي رفعتهم الى القمة السامقة ، قمة الفكر ، والقيادة العليا في الاسلام.
رأى الكميت من صفات اسياده التي هام بها ما يلي :
1 ـ انهم معدن الجود والكرم والسخاء ، فقد جادوا بجميع ما يملكونه لانعاش المحرومين ، وانقاذ البائسين.
2 ـ انهم مصدر العدل بين الناس ، فلا يؤثرون قريبا على بعيد ، وانما الناس جميعا عندهم على حد سواء ، فلا يعرفون المحسوبية ، ولا سائر الاعتبارات الأخرى التي يأخذ بها الناس اندفاعا مع العاطفة والهوى.
3 ـ انهم اشجع من خلق الله ، فلم يمر الخوف على نفوسهم ، فقد خاضوا غمرات الحروب ، وأبدوا من صنوف البسالة ، ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فكان الامام امير المؤمنين (ع) مضرب المثل في
الدنيا في شجاعته وبسالته ، وكذلك الامام الحسين سيد الأباة والاحرار في الارض فقد ابدى يوم عاشوراء من قوة البأس وروعة التصميم ما حير العقول وأذهل الألباب ، وتطعمت بهذه الروح العالية سائر ابناء الأسرة النبوية ، فقد ملكوا من الشجاعة ما لا يملكها أي أحد من الناس.
4 ـ انهم كانوا الملجأ والمأوى لايتام الناس وسائر الفقراء والمحرومين ان امحل الناس ، ولم يجدبوا فليس هناك من يعطف عليهم سوى أهل البيت :.
5 ـ انهم ولاة الأمور للناس ان التبست عليهم الأمور أو طرقتهم الازمات والأحداث ، فليس هناك من يستطيع التغلب عليها سواهم ، فهم الذين يملكون العقول النيرة ، والافكار الصائبة التي يحلون بها مشاكل الناس وازماتهم.
6 ـ انهم الحكماء الماهرون في معالجة أمراض النفوس ، وازالة ما فيها من جراثيم الزيغ والانحراف ، فقد درسوا واقع هذا الانسان ، وسبروا اعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، ووقفوا على اندفعاته نحو الحرص والطمع والجشع وايثاره للهوى على الحق ، فوضعوا العلاج الحاسم لجميع أمراضه وآفاته ، وتجد في كلماتهم روائع الحكم والمواعظ الهادفة الى اصلاح الناس وتهذيبهم.
7 ـ انهم الروايا الذين يحملون الحكمة والحياة الى الناس ، فاليهم يلجأ الضامئ ومن ساحل كرمهم وجودهم ينتهل كل من يريد الحياة.
8 ـ انهم البحور الذين يرتوي منهم كل من اشرف على الهلاك ، فهم مصدر السعادة والخير لهذا الانسان.
9 ـ انهم اطيب الناس برا وصدقا ، وكرما ، وأصبح الناس وجوها ،