تراثنا
العدد الرابع السنة الاُولى ربيع 1406 هـ ق
الفهرس
كلمة العدد
بقلم التحرير 7
نظرات سريعة في فنّ التحقيق ( 4 )
أسد مولوي 9
أسباب نزول القرآن
السيد محمد رضا الحسيني 19
أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربية ( 4 )
السيد عبد العزيز الطباطبائي 68
دليل المخطوطات ( 3 )
السيد أحمد الحسيني 102
السيد حامد حسين « ره » وكتابه العبقات
السيد علي الميلاني 144
ما ینبغي نشره من التراث
157
وثائق تاریخیة
163
مناقشات : سرّ العالمين لمن ؟
الشيخ محمد علي الحائري 172
من التراث الأدبي المنسي في الأحساء
الشيخ جعفر الهلالي 183
من ذخائر التراث
تفسير سورة الإخلاص للاُردوبادي
الشيخ جعفر عباس الحائري 199
الاُرجوزة اللطيفة في علوم البلاغة للمشهدي
السيد الحسيني 209
من أنباء التراث 219
موضوع اللغة الإنكليزية 240
كلمة العدد بقلم التحرير
مرّت على العالم الإسلامي ـ في 18 صفر سنة 1406 للهجرة ـ الذكرى المئوية
لوفاة العلّامة ، كبير متكلّمي الإمامية ، وسيد المحدّثين ، آية الله ( السيد حامد حسين بن
السيد محمد قلي اللكهنوي ) أحد القمم السامقة من علماء مدرسة آل محمد صلّى الله عليه
وآله وسلّم ، ومؤلف الكتاب الضخم الفخم « عبقات الأنوار في إمامة الائمّة الأطهار »
الذي فاق به من سبقه واعجز من لحقه .
هذا الكتاب الموسوعة الذي نخل فيه مؤلفه ـ قدّس الله روحه ـ التراث
الإسلامي ، واستقرأ لأجله آلافاً من المجلّدات المخطوطة والمطبوعة على الحجر ، أيامَ لم
يكن الكتاب الإسلامي مفهرساً ـ حتى فهرس موضوعات ـ واستخرج من تلك الكمية
الضخمة ما حاول الطواغيت إخفاءه ، من الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة ، على أنّ
الإمامة لأهلها الّذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، أهل بيت الرحمة ، و
أصحاب الغيرة والحيطة على الاُمّة ، لا لمن تغلّب على رقاب المسلمين بالسيف ، ولا لمن
عاث في دماء المسلمين واعراضهم واموالهم عيث أعدى أعدائهم ، ثم اكتفى بالشهادتين
وبمسجد عمره أو مسجدين !
ونشرة ( تراثنا ) إذ تحيي ذكراه ـ سقى الله اتربته شآبيب رحمته تعترف أنّ حقّه
على الاُمّة عظيم ، لا يفي بأداء بعضه عدد من مجلة أو مؤتمر في بلد . . إنّ حقّه ـ رضوان
الله عليه ـ معهد متخصّص في فنّه الذي وقف عليه عمره ، ودراسات موسّعة عن أثره
في الاُمّة الإسلامية وجهاده ، وحفاظ كريم على مكتبته واثاره ، ونشر حديث لكتبه و
مؤلفاته .
وما كلمتنا هذه ، وما المقالة المنشورة في هذا العدد عنه ـ رضوان الله عليه ـ وعن
كتابه واسرته ومكتبته إلّا قطرة من بحر الدراسات التي ينبغي أن تدور حوله .
وفّق الله المسلمين لأداء حقّ علمائهم ـ أحياءاً وامواتاً ـ واتّباعهم ، فإنّهم ـ
والتاريخ يشهد ـ كما قال العبد الصالح : « يا قوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد » .
نظرات سريعة
في فن التحقيق
( 4 ) أسد المولوي
عدّة المحقّق وحاجاته اللازمة
لكل عامل آلات وحاجات يتوصل بها إلى عمله ، ومحقق التراث عامل ـ وإن
اختلفت الأعمال في أساليبها ـ وهو محتاج إلى آلات عمله ، وفي هذه النظرة سنتحدّث
عن قسم من هذه الحاجات :
1 ـ الكفاية الإقتصادية
لا أعني بالكفاية الإقتصادية أن يكون المحقّق واسع الغنىٰ متموّلاً من الطبقة
العليا في امتلاك المال ( طاغوتا ) فإنّ هذه الحالة الإجتماعية لا يؤمل من أهلها خير ولا
يؤمن منهم شرّ ، فهم يشكّلون طبقة أوجدتها الأوضاع الشاذّة عن الحقّ ، وغذّاها ظلم
الإنسان لأخيه الإنسان .
وإنّما أعني بالكفاية أن يكون للمحقّق مورد دخل دارّ يكفيه مؤونة طلب
العيش ، ويصون ماء وجهه أن يراق ، ويحفظ عليه حرّية فكره .
وإلّا . . فهل نأمل ممّن يكدّ في طلب رزقه أن يخرج لنا من رائع تراثنا كتاباً
مضبوطاً . . أم نأمل منه أن يغضب فلاناً وعلّاناً في تقويم عوج ما نشروه ، أو تصحيح
خطأ ما كتبوه .
ولينظر القارئ إلى حالة فريدة في التاريخ ، هي حالة علماء الشيعة الإمامية ـ
أقصد العلماء بما يعطيه حاقّ الكلمة من معنى ـ وغزارة إنتاجهم ودقّته ونزاهته ، و
ليفتّش عن سببه . . فإنّه واجد من أهمّ أسباب ذلك أنّهم كفوا مؤونة عيشهم فانصرفوا
إلى علمهم وانقطعوا إليه فأجادوا وأفادوا .
وكان لهم من استقلال الفكر وحرية النظر ما لا نظير له ، لاستقلالهم
الإقتصادي عن المتموّلين ، وغناهم عن المرتّب والوظيفة .
وليرجع القارئ بصره إلى من كُفي المؤونة من المؤلفين والمحقّقين . . وليعتبر .
قال صاحب « كشف الظنون » في مقدمة الكشف ج 1 / 43 :
« وأمّا ضيق الحال وعدم المعونة على الإشتغال ، فمن أعظم الموانع واشدّها ،
لأنّ صاحبه مهموم مشغول القلب أبداً » .
وما اُريد بهذا أن اُثّبط همم المحارفين . . ولا أن أصرفهم عن وجهتهم وانّما هي
حقيقة اُقرّرها . . ولكل قاعدة شواذّ .
2 ـ حسن قراءة الخط العربي
قد تتبادر إلى ذهن القارئ غرابة هذا العنوان ، ولعلّه يقول : وايّ عارف
بالألفباء العربية ـ من عربي أو مستعرب ـ لا يحسن قراءة الخط العربي ؟
ولكن . .
الخط العربي بتشابه صور حروفه ، ودقّة الفرق بينها ، وبجريانها في يد الكاتب
على صور مختلفة مشتبهة . . . كثيراً ما تحتمل في القراءة عدّة ألفاظ .
أضف إلى هذا عجلة الناسخ أو جهله ، والسهو والنسيان اللذين لا يخلو منهما إلّا
من عصم الله . . ولسبق القلم وسبق النظر حصة كبيرة في هذا الباب .
ولا تنس سقم الأصل المنقول عنه ، وعجلة المؤلف أو الناسخ ، وقد رأيت من
خطوط العلماء نسخة من كتاب الإيضاح للعلّامة الحلّي رحمه الله ( ـ 726 هـ ) خالية من
النقط متّصلة الكتابة كلمة بكلمة ، تصعب قراءتها ولا يستطيعها إلّا الحذّاق . ومثلها في
تراثنا كثير .
لهذه الأسباب ـ مجتمعة ـ ولغيرها ممّا طوينا ذكره ، يكون تمكّن المحقّق من
قراءة الخط العربي عُدّة يعتدّ بها لمواجهة هذه المشكلات التي هي في تراثنا المخطوط
السمة الغالبة ولها منه الحصة الوافرة .
وعندي أنّ لطالب التحقيق أن يمتحن نفسه بقراءة الخطوط اليدوية الشائعة ،
فإنّها أول الطريق .
وقراءة الكتب المحققة جيّداً وملاحظة هوامشها ، لأنّ محقّقي التراث الضابطين
يستدلّون لقراءتهم في الهوامش ـ غالباً ـ بأدلّة تفتح الذهن وترسّخ الملكة .
وقراءة مقالات النقود والردود التي يعقّب بها بعضهم على بعض ، ومظنّتها
المجلات المتخصّصة كمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ، ومجلة كلية الآداب بجامعة
القاهرة ، ومجلة الاُستاذ العراقية . . . وأمثالها .
فإنّ في هذين الموردين من لطائف التصحيح ، ودقائق التصحيف الشيء الكثير .
وقد جاء السيد محمد باقر الداماد قدّس سرّه ( 960 ـ 1041 هـ ) في الراشحة
السابعة والثلاثين من كتابه الفريد « الرواشح السماوية في شرح أحاديث الإمامية »
وهو شرح لأجلّ كتب حديث أهل البيت عليهم السلام ، كتاب الكافي للشيخ الكليني
قدّس سرّه ، وممّا يحزّ في النفس وتكاد أن تذهب عليه حسرات عدم إكماله هذا
الشرح القيّم ، فلم يخرج منه إلّا بعض المقدمة . .
جاء هذا العيلم بكلام جامع في التحريف والتصحيف ( ص 132 ـ 157 من
مطبوعته على الحجر سنة 1311 هـ ) .
قال رحمه الله عن التصحيف في ص 133 : « وهذا فنّ جليل عظيم الخطر ، إنّما
ينهض بحمل أعبائه الحذّاق من العلماء الحفّاظ والنقّاد من الكبراء المتبصّرين » .
وقسّمه إلى أقسام :
محسوس لفظي : وهو واقع في موادّ الألفاظ وجواهر الحروف وصورها الوزنية
وكيفيّاتها الإعرابية وحركاتها اللازمة .
وهذا التصحيف المحسوس اللفظي :
إمّا من تصحيف البصر كجرير وحريز .
وأمّا من تصحيف السمع كـ ( استأى لها ) أي استاء و ( استآلها ) أي أوَّلَها ـ
من التأويل ـ .
ثم تكلّم رحمه الله عن التصحيف المعنوي .
ثم ساق أمثلة من تصحيفات عصريّيه ـ لا نوافقه على كلّها ـ .
وبالجملة فهو بحث عميق دقيق من مجرّب خبير ، فلا يفوتنّ طلبة العلم إمتاع
عيونهم وعقولهم به .
وقد تحدّث الدكتور مصطفى جواد في تحقيقه لكتاب « تكملة إكمال الإكمال »
لابن الصابوني ، عن هذا الأمر بما يفيد الطالب ، ولا يحضرني الكتاب لأدلّ على مكانه
فيه .
وقد كسر علماؤنا السابقون كتباً برأسها لهذا الفنّ ، منها :
شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ، المشتهر باسم التصحيف والتحريف ،
للحسن بن عبد الله العسكري ( 293 ـ 382 هـ ) .
ودرّة الغوّاص في أوهام الخواصّ ، للقاسم بن علي الحريري ( 446 ـ 516 هـ ) .
وذكر عبد القادر البغدادي ( 1030 ـ 1093 هـ ) في مقدمة « خزانة الأدب »
من كتب هذا الفنّ سبعة كتب تحت عنوان ( ما يتعلّق بأغلاط اللغويّين ) [ اُنظر خزانة
الأدب 1 / 11 ط . بولاق 1299 هـ ] .
وأفرد له صاحب « كشف الظنون » عنواناً وعدّه علماً ، وكذلك فعل المولى
عصام في « مفتاح السعادة ومصباح السيادة » .
وممّا شاع على ألسنتهم في العصر الأول : « لا تأخذ العلم عن صحفيّ » يعنون
به من يأخذ علمه من الكتب لا من أفواه الشيوخ ، لأنّ الكتب مظنّة التصحيف
والتحريف .
وفي هذا الباب من الطرائف والمضحكات الشيء الكثير .
وبالجملة لا غنى لطالب التحقيق عن معرفة فنّ التصحيف والإطّلاع على ما
كتب فيه .
وأعتذر عن إيراد قائمة أمثلة له ، لئلّا يصحّفها الطابع فتحتاج إلى تصحيح
جديد . . !
وإنّما أدلّ القارئ على قائمة مفيدة في ( تحقيق النصوص ونشرها ) لعبد السلام
هارون ، من أرادها فليراجعها .
وقد كشفت لي متابعة سنين طوال لهذا الأمر أنّ كثيراً من أوهام المحقّقين ـ
كباراً وناشئين ـ علّتها عدم إجادة قراءة الخطّ العربيّ . .
3 ـ الإستقرار
أعني به أن لا يكون المتصدّي لهذا الفنّ منتقل الدار ، مزعجاً في وطنه من دار
إلى دار ، ومرتحلاً من وطنه من قطر إلى قطر ، وبخاصة نقلات هذا الزمان الذي صارت
فيه الكرة الأرضية غابة وحوش كواسر ، من نجا منها برأسه فقد سلم ، وأصبح الإنسان
فيها من سقط المتاع . . لا حرمة ولا كرامة .
والمنتقل من وطنه غريب ـ إن لم يكن متموّلاً ـ لا يجد في البلد الجديد إلّا الصدّ
والردّ ، ولا مثنوية في هذا . . ومن ذاق عرف . .
وربّ سائل : ما هي حاجة المحقق إلى الإستقرار ؟ والعلم في الصدور لا في
الصناديق . . ! ؟
وفي جوابه نقول :
إنّ سعة المعارف التي وصلت إليها البشرية ، ومخلّفات السلف الضخمة وكون
المحقّق مجدّداً لبناء قد تشعّث ، أو مزيناً له وقد حال عن روائه الأول ، فهو لا شكّ محتاج
إلى الآلة التي تعينه في عمله وهي آلة يشقّ معها الإنتقال .
وطالب هذا الفنّ ـ حقّ الطلب ـ مولع بالكتب ، باذل ما يضنّ به غيره في
سبيل اقتنائها ـ ومن المعلوم أنّ أثمن المكتبات ما كان حصيلة عمر عالم أو باحث ـ فعلى
مرّ الأيام تتجمّع عنده مكتبة أقلّ ما يقال فيها أنّها بقدر أثاث بيته . . والكتاب ثقيل
يحتاج إلى العناية في نقله من مكان إلى مكان .
وطالب هذا الفن ـ أيضاً ـ مغرم بالقراءة والتقييد والتسجيل ، لا تكاد تمرّ به
نكتة علمية إلّا ودوّنها في طواميره ، أو حزمها في أضابيره ، فتكون له من هذه التقييدات
أكوام من الجزازات ، هي خلاصة مطالعاته وزبدة ملاحظاته .
ثم هو غير بالغ هذه المرتبة إلّا بعد وهن العظم واشتعال الرأس شيباً ، وذلك
الوقت من عمره مظنّة استقراره من عناء الطلب . . ومن الكدح في سبيل العيش .
ومن المعلوم عند العارفين اعتذار الصاحب بن عبّاد عن قبول منصب الوزارة في
بلد غير بلده ، لأنّ مكتبته فقط تحتاج في نقلها إلى مائتي بعير .
وانظر إلى من استقرّت به الدار . . كم هو محكم التحقيق لطيف التدقيق ،
واستثن من هو ملصَق بهذا الفنّ طارئ عليه .
وللنفس الإنسانية الصافية اُلفة بما يحيط بها حتى أنّها تألف الجماد ، وحسبك
شاهداً قوله صلّی الله عليه وآله في جبل اُحد : « جبل يحبّنا ونحبّه » .
4 ـ حاجة المحقق من الكتب
هنا بيت القصيد لهذه النظرة الذي رسمنا على ضوئه عنوان ( عدّة المحقق ) .
فطالب هذا الفنّ محتاج إلى أنواع من الكتب كثيرة ، هي بعض سلاحه في مواجهة
المشاكل التي ألمّت بالكتاب المخطوط من طبيعية ومقصودة ، وهي بعض عدّته في
إخراج الكتاب سالماً من المصائب التي لحقت به طوال قرون .
ونستطيع أن نقسّم هذه الكتب إلى مجموعات :
أ ـ كتب الفنّ
وهي كتب قليلة لا تكاد تتجاوز عدد الأصابع ، لحداثة التأليف في فنّ
التحقيق عندنا ـ على قدمه واقعاً في تراثنا ـ .
من هذه الكتب :
1 ـ تحقيق النصوص ونشرها ـ لعبد السلام محمد هارون ـ طبعته الاُولى سنة
1954 م .
2 ـ اُصول نقد النصوص والكتب ـ للمستشرق الألماني برجستراسر ، وقد نشره
الدكتور محمد حمدي البكري سنة 1969 م .
3 ـ قواعد تحقيق المخطوطات ـ للدكتور صلاح الدين المنجّد .
4 ـ اُصول تحقيق النصوص ـ للدكتور مصطفى جواد ، وهي أماليه على طلبة
ماجستير اللغة العربية بجامعة بغداد ، نشرها الدكتور محمد علي الحسيني في كتابه « دراسات
وتحقيقات » المطبوع سنة 1974 م .
5 ـ منهج تحقيق النصوص ونشرها ـ للدكتور نوري حمودي القيسي وسامي
مكّي العاني ، طبع سنة 1975 م .
6 ـ تحقيق التراث ـ للدكتور عبد الهادي الفضلي ، طبعته الاُولى سنة 1984 م .
وهناك مقالات منشورة في المجلات يجدها الباحث في مظانّها .
وفي مقدّمات بعض المحقّقين لبعض ما نشروه فوائد لا يستهان بها ، صدرت عن
ممارسة وخبرة .
وفي تراثنا الواسع درر منثورة ، يجدها الباحث خلال مطالعاته .
ب ـ الفهارس
فهارس الكتب حاجة لازمة للمحقّق لأنّها عينه التي تدلّه على ما تفرّق من
مخطوطاتنا ، وتهديه إلى أماكن وجودها . . وربّ كتاب قطعنا منه الأمل ثم عثر عليه
مخطوطاً في المكتبة الفلانية العامة أو الخاصة .
هذه الفهارس نستطيع تقسيمها ثلاثة أنواع :
1 ـ فهارس تدلّ الطالب على الأماكن التي هي مظنّة احتواء الكتاب العربي ،
وهي مكتبات العامة منها كثيرة والخاصة أكثر من أن تحصى ، وقد أفرد جرجي زيدان
في كتابه « تاريخ آداب اللغة العربية » ج 3 / 455 ـ 496 فصلاً بعنوان ( المكتبات ) ، و
ذكر برجستراسر أسماء مكتبات اسطنبول التي زاد عددها على أربعين مكتبة ، وقد جدّ
بعدهما ظهور كثير من المكتبات إمّا مكتبات خاصة وقفت ، أو مكتبات عامة اندمج
بعضها ببعض . .
وعلى كل حال يستطيع الباحث أن يسجّل في جزازات أسماء المكتبات
وعناوينها ، ويرتّبها ترتيباً مناسباً لتكون تحت يده وقت الحاجة .
2 ـ فهارس تدلّ الطالب على الكتاب ، وأين يجده ؟
وهي فهارس المكتبات ، وقد صدر منها عدد ضخم ، أحصى منها كوركيس
عوّاد في كتابه « فهارس المخطوطات العربية في العالم » ( 3312 ) مادة ، وقد نشره معهد
المخطوطات العربية بالكويت سنة 1984 م ، في مجلدين .
أمّا المكتبات الخاصة فالمفهرس منها أقلّ قليل ، والكثير منها بعد في طيّ
الكتمان .
ومن أهمّ فهارس المخطوطات الجامعة :
الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، للمرحوم العلّامة آقا بزرك الطهراني .
تاريخ الأدب العربي ، كارل بروكلمان .
تاريخ التراث العربي ، فؤاد سزكين .
وهنا ملاحظة مهمّة يجدر بنا تسجيلها ، وهي أنّ الفهارس مهما كانت دقيقة
فإنّها لا يمكن الإعتماد عليها اعتماداً كاملاً ، لأنّ أكثر الفهارس الدقيقة كتبها
المستشرقون وهم ـ بطبعهم ـ قاصرون عن معرفة دقائق تراثنا ، أمّا الفهارس العربية
والفارسية ففيها من الخلط والخبط ما لا حدّ له . . فقد ترى كتاباً في فهرس مكتبة ما ،
فتطلبه منهم مصوّراً ، فيأتيك كتاب غير الذي أنت طالبه .
3 ـ فهارس المطبوعات
وهي التي تدلّ المحقّق على ما أخرجته الطباعة من الكتب ، وهي كثيرة منها :
اكتفاء القنوع بما هو مطبوع ـ إدوارد فنديك ـ طبع القاهرة سنة 1897 م .
معجم المطبوعات العربية والمعرّبة ـ يوسف إليان سركيس .
معجم المخطوطات المطبوعة ـ د . صلاح الدين المنجّد ـ أربعة أجزاء من سنة
1954 ـ 1975 م .
وقد عدّ الدكتور عبد الهادي الفضلي في كتابه « تحقيق التراث » 65 عنواناً
من الكتب المتخصّصة بهذا الجانب من جوانب فنّ التحقيق .
وفي النشريات الدورية التي تنشرها المكتبات الوطنية إعانة كبيرة لمحقّقي
التراث .
ج ـ كتب اللغة العربية
هذه اللغة الكريمة الواسعة التي قيل فيها : لم يحط بها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ ،
والتي حظيت بأعلى المراتب لارتباطها بالله تعالى ـ وكلّ مرتبط بالله تعالى معجز باقٍ لا
يضرّه من كاده ـ وفازت بالخلود بنزول القرآن الكريم بها ، وبكونها لغة الأرض كلّها في
عالم المهديّ من آل محمد صلّی الله عليه وآله ، وستبقى بعد فناء الأرض وما عليها لغة
لأهل الجنّة .
هيّأ الله سبحانه ـ لهذه اللغة الكريمة من الأسباب ما مكّن لها في الأرض ، وسخّر
لخدمتها أقواماً رسخ في قلوبهم حبّ الله ورسوله وكتابه ، ففضّلوها على لغاتهم التي نشؤوا
عليها ، ووقفوا أعماراً جليلة على العناية بها وكان فوز أحدهم بغريبة من غرائبها فوزاً
بقرطي مارية .
فأثروا مكتبتها بألوان الكتب في غريبها ومعربها والدخيل فيها ، وفي نحوها
وصرفها وبيانها وبديعها ، وفي خطّها ونقطها . . ولم يتركوا جانباً من الجوانب التي لها
علاقة بها من قريب أو بعيد إلّا واشبعوه بحثاً ودراسة وافتنّوا أيّما افتنان في تقييد
شواردها وتأنيس أوابدها ، وجمع النظير منها إلى نظيره ، والنادّ إلى اُلّافه .
وحسبك أنّهم في التأليف المعجمي ( متن اللغة ) قد تفننوا فألّفوا معاجم لمعاني
الألفاظ واخرى لألفاظ المعاني ، وثالثة للحقيقة والمجاز ، ورابعة لمعاني اُصول الموادّ ، و
خامسة للمصطلحات ، وسادسة للمعرب والدخيل . . .
والمكتبة العربية الإسلامية كتبت بهذه اللغة الوسيعة ، والمحقق مغرى بالكتاب
المخطوط مغرم بإخراجه في أكمل صورة واجملها ، فعليه أن يكون من معرفة اللغة على حظّ
كاف يمكّنه من غايته . . ووسيلته إنّما هي الكتب المعتمدة والأسفار التي خلّد فيها
مؤلفوها علوم هذه اللغة المقدّسة .
ولا نقول إنّ على محقق التراث أن يكون علّامة لغوياً أو نحوياً ـ لأنّ هذا مطلب
عسير لا يتأتّى إلّا للواحد بعد الواحد ـ بل نريد منه أن يكون ذا إلمام كاف بحيث يفهم
الكلام العربي ويتذوقه كأهله . . أمّا ما عسر عليه لغرابته فما عليه في الرجوع إلى الكتب
المتخصّصة غضاضة .
لذا فهو محتاج إلى عدد من المعاجم اللغوية وكتب النحو والصرف وغيرها من
كتب اللغة ، ويشترط أن تكون هذه الكتب ممّا اعتمده أهل اللغة الاُصلاء لا ممّا يجيء به
مستشرق أو عدو لهذه الاُمة . .
وإلّا فهل يقول عاقل بالإعتماد على المنجد الذي ثبت خطؤه ـ فقد أحصى عليه
عبد الستار فرّاج مئات الأغلاط في القسم اللغوي منه ونشره في مجلة العربي الكويتية ، وفي
ذكري أنّ أحد الدماشقة الحريصين على لغتهم أحصى عليه أكثر من ألف غلطة
في القسم اللغوي فقط ، أمّا قسم الأعلام منه ففيه ما يضرّ بالإسلام بعد ما أضرّ قسيمه
باللغة . . . . نعم هل يقول عاقل بالإعتماد عليه وترك عين الخليل ، وصحاح الجوهري ،
ومخصّص ابن سيدة ومحكمه ، ولسان العرب ، وتاج العروس واصله القاموس المحيط . .
إلى مئات من كتب أئمّة اللغة الأثبات .
أم يقول عاقل بالإعتماد على نحو علي الوردي أو سلامة موسى الهدّامين ، وترك
شرح الكافية للرضي الاسترابادي ، الذي ألّفه في حضرة أفصح الناس ـ بعد أخيه
صلّی الله عليه وآله ـ أمير المؤمنين عليه السلام ، ففاض عليه من أنوار ذلك المعهد الأقدس
ما جعله الحجّة في النحو ، وجعله صاحبه نجم الأئمة .
د ـ الكتب المشهورة المرجوع إليها كثيراً
هي كتب في تراثنا تفوت العدّ ، ولكنّ المحقّق محتاج إلى جملة منها وأهمّها في
علم الحديث : الكتب الأربعة والبحار من حديث آل الرسول صلّی الله عليه وآله ،
والستّة ومسند أحمد وكنز العمّال من كتب الجمهور ، وفي التفسير : التفاسير المعتبرة
كمجمع البيان لأمين الدين الطبرسي وتفسير الطبري . . وفي التاريخ : تاريخ ابن
واضح اليعقوبي وتاريخ المسعودي وتاريخ الطبري . . . وغيرها .
وعليه بحسن الإنتقاد وجودة المراجعة .
هـ ـ المجلّات والدوريّات المتخصّصة
وهي كثيرة ـ ومنها ما له عمر طويل ـ مثل :
مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ( مجلة مجمع اللغة العربية ـ حالياً ) وقد بلغ
عمرها الستين عاماً .
مجلة المجمع العلمي العراقي .
مجلة التراث العربي السورية .
مجلة معهد المخطوطات العربية .
مجلّات كليّات الآداب في الجامعات العربية .
نشرتنا هذه ( تراثنا ) التي نأمل أن تسدّ فراغاً في هذا البلد المبارك من بلدان
الإسلام ( ايران الإسلام ) البقعة المباركة العريقة الصلة بالتراث العربي ، الحافظة له
الحانية عليه .
وللمستشرقين مجلّات كثيرة .
ولا ننسى البحوث التي تنشر في مجلات غير متمحّضة لهذا الفنّ وهي كثيرة
متفرقة .
وبعد هذا كلّه فإنّ على المحقّق أن يكون متابعاً لما يصدر من جديد في فنّه ، وأن
يتّصل بأئمّة هذا الفنّ الّذين قضوا أعمارهم في البحث والتنقيب . . وإلّا فإنّه يتخلّف
عن مسايرة الركب وينقطع به الطريق .
وما التوفيق إلّا من عند الله . .
للبحث صلة . . . .
اسباب نزول القران
أَهَمِيَّتُها ، طُرُقُها ، حُجِيَّتُها ، مَصادِرُها السيد محمد رضا الحسيني
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق وخير المرسلين ،
سيّدنا رسول الله محمّد صلّى الله عليه ، وعلى الأئمّة المعصومين من آله المنتجبين ، صلاة
وسلاماً دائمين إلى يوم الدين .
وبعد ، لا ريبَ أنّ اهتمام المسلمين انصبَّ ـ منذ فجر الإسلام ـ على
تفسير القرآن الكريم ، توصُّلاً اِلى العمل به ، وتطبيقه .
وكان التفسير في بداية أمره يعتمد عنصر الإبانة والإيضاح بالكشف عن معنى
اللفظ لغوياً ، وعن مدلوله عرفيّاً ، واظهار ذلك بألفاظ اُخرى أكثر استعمالاً واسرع
دلالة عند العرف العام ، وهذا ما تدلّ عليه كلمة ( التفسير ) بالذات .
ويجد المتتبّع أنّ أكثر التفاسير المصنّفة في القرنين الأول والثاني تعتمد هذا
الشكل من التفسير ، كتفسير مجاهد ( المتوفّى سنة 104 ) ، وزيد الشهيد ( سنة 122 ) ،
وعطاء الخراساني ( ت 133 ) وغيرهم .
وهذا المنهج التفسيري يبتني في الأغلب على ما ذكره الصحابة وكبار التابعين ، و
أكثر من نقل عنه ذلك هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ( ت 68 ) (1) الذي يُعدّ من
____________________________
1 ـ جمع الجلال السيوطي ما نقل عن ابن عباس في هذا المعنى في كتابه : الإتقان في علوم القرآن ( ج 2
ص 6 ـ 106 ) .
روّاد علم التفسير والمشهورين بعلم القرآن ، حتى لقّب بـ « ترجمان القرآن » (2) .
وكان جلّ تلمذته على الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، حتى
شهد الإمام في حقّه ، بقوله : « كأنّما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق » (3) .
وهذا الشكل من التفسير يرتكز ـ كما أشرنا ـ على المعلومات اللغوية فيتناول
الألفاظ الغريبة الواردة في القرآن بالشرح والبيان وإيراد ما فيها من مجازٍ في الكلمة
أو الإسناد أو حذف أو تقدير أو نحو ذلك من التصرّفات اللفظية .
قال الاُستاذ فؤاد سزگين ـ بعد أن عدّد تلاميذ ابن عباس في علم التفسير ـ :
« تضمّ تفاسير هؤلاء العلماء وكذلك تفسير شيخهم توضيحات كثيرة ذات طابع لغوي
أحرى أن تسمّى : دراسة في المفردات » (4) .
وانصبّ جهد المفسّرين في مرحلة تالية على معرفة الحوادث المحيطة بنزول
القرآن ، لما في ذلك من أثر مباشر على فهم القرآن والوصول إلى مغزى الآيات الكريمة ،
لأنّ موارد النزول والمناسبات التي تحتفّ بها تضمّ قرائن حاليّة تكشف المقاصد
القرآنية ، ويستدلّ بها على سائر الأبعاد المؤثرة في تحديدها وتفسيرها ، ويسمّى هذا
الجهد ( بمعرفة أسباب النزول ) في مصطلح مؤلّفي علوم القرآن .
وقد ساهم كثير من الصحابة ، الّذين شهدوا نزول الوحي ، وعاصروا الحوادث
المحتفّة بذلك ، وحضروا المشاهد ، وعاشوا القضايا التي نزلت فيها الآيات ، في بيان هذه
الأسباب بالإدلاء بمشاهداتهم من أسباب النزول .
واستند المفسّرون إلى تلك الآثار في مجال التفسير مستعينين بها على فهم القرآن
وبيان مراده .
ويجدر أن يسمّى هذا الشكل من الجهد التفسيري بمنهج « التفسير التاريخي » .
وقد أشار بعض علماء التفسير إلى هذين الشكلين من الجهد بقوله : إعلم أنّ
التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن وبيان المراد ، أعمّ من أن يكون بحسب
اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره .
____________________________
2 ـ لاحظ الفقيه والمتفقّه للخطيب ( ص ) ، تأسيس الشيعة للسيد الصدر ( ص 322 ) .
3 ـ سعد السعود لابن طاووس ( ص 287 و 296 ) ، البرهان في علوم القرآن للزركشي ( ج 1 ص 8 )
4 ـ تاريخ التراث العربي ( المجلّد الأوّل ج 1 ص 177 ) .
والتفسير : إمّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ ، وإمّا في كلام متضمّن لقصّة لا
يمكن تصويره إلّا بمعرفتها (5) .
ولقد وجدتُ فراغاً في الكتب المتعرّضة لأسباب النزول سواء العامّة لكلّ
الآيات ، أو الخاصّة ببعضها ، حيث أغفلتْ جانب أسباب النزول من حيث أهمّيّتها ، و
طرق إثباتها وحجّيّتها ، وأخيراً ذكر مصادرها المهمّة .
فأحببتُ أنْ اُقدِّم هذا البحث عسى أن يسدّ هذا الفراغ ، أو يجد فيه
المتخصّصون تحقيقاً منهجيّاً لم يتكفل استيعابه المؤلّفون لكتب علوم القرآن على الرغم من
تعرّض بعضهم له .
عصمنا الله من الخطأ والزلل في القول والعمل .
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني
____________________________
5 ـ الإتقان ، للسيوطي ( ج 4 ص 193 ) ، ولاحظ الذريعة ( ج 3 ص 34 ) .
( 1 ) أَهميّتُها
اهتمّ المفسّرون بذكر أسباب النزول ، فجعلوا معرفتها من الضروريّات لمن يريد
فهم القرآن والوقوف على أسراره ، وأكّد الأئمة على هذا الإهتمام ، فجعله الإمام
أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام من الاُمور التي لو لم يعرفها المتصدّي لمعرفة
القرآن لم يكن عالماً بالقرآن ، فقال عليه السلام :
اعلموا رحمكم الله أنّه من لم يعرف من كتاب الله : الناسخ والمنسوخ ، والخاصّ
والعامّ ، والمحكم والمتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكّي من المدني ، وأسباب التنزيل
. . . ، فليس بعالم القرآن ، ولا هو من أهله (6) .
ومن هنا نعرف سرّ عناية الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بأمر نزول القرآن
ومعرفة أسبابه ومواقعه ، فقد كان يُعلن دائماً عن علمه بذلك ، ويصرّح باطّلاعه الكامل
على هذا القبيل من المعارف الإسلاميّة :
ففي رواية رواها أبو نعيم الإصبهاني في « حلية الاولياء » عن الإمام عليّ
عليه السلام أنّه قال : والله ما نزلتْ آية إلّا وقد علمتُ فيما اُنزلتْ ! وأين اُنزلتْ ! إنّ ربّي
وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً (7) .
وقال عليه السلام : والله ما نزلتْ آية في ليلٍ أو نهارٍ ، ولا سهلٍ ولا جبلٍ ، ولا برٍّ
ولا بحر ، إلّا وقد عرفتُ أيّ ساعة نزلتْ ! أو في من نزلتْ ! (
.
وإذا كان أمر نزول القرآن ـ ومنه أسبابه ـ بهذه المثابة من الأهمّية عند الإمام
عليّ عليه السلام ، وهو القِمة الشمّاء بين العارفين بالقرآن وعلومه ، بل هو معلّم القرآن
بعد النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلم ، كما في الحديث عن أنس بن مالك ، قال النبيّ :
عليّ يعلّم الناس بعدي من تأويل القرآن ما لا يعلمون يخبرهم . [ شواهد التنزيل ج 1
ص 29 ] .
____________________________
6 ـ بحار الأنوار للمجلسي ( ج 93 ص 9 ) نقلاً عن تفسير النعماني .
7 ـ تأسيس الشيعة ( ص 318 ) ، وسيأتي في نهاية هذا البحث ذكر أحاديث اُخرى بهذا المضمون .
8 ـ تفسير الحبري ، الحديث ( 37 و74 ) ، شواهد التنزيل للحسكاني ( ج 1 ص 280 ) ، وسنتحدّث في
خاتمة هذا البحث عن ارتباط الإمام بالقرآن .
وقال المفسّر ابن عطيّة : « فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعليّ بن أبي
طالب » (9) .
فإنّ أهمّية أسباب النزول ومعرفتها تكون واضحة ، حيث تُعدّ من الشروط
الأساسيّة لمن يريد التعرّف على القرآن .
وقد أفصح عن ذلك الأعلام والمؤلّفون أيضاً :
قال الواحدي : إذ هي [ يعني الأسباب ] اُولىٰ ما يجب الوقوف عليها ، فأَولى أن
تصرف العناية إليها ، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصّتها و
بيان نزولها (10) .
وقال السيّد العلّامة الفاني : وامّا وجه الحاجة إلى شأن نزول الآيات ، فلأنّ
الخطأ في ذلك يفضي الى اتّهام البريء وتبرئة الخائن ، كما ترى أنّ بعض الكتّاب
القاصرين عن درك الحقائق ، يذكرون أنّ شأن نزول آية تحريم الخمر إنّما هو اجتماع
عليّ عليه السلام مع جماعة في مجلس شرب الخمر ، مع أنّ التاريخ يشهد بكذب ذلك ، و
نرى بعضهم يقول : إنّ قوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ » إنّما
نزلت في شأن ابن ملجم (11) .
وقال الدكتور شوّاخ : نزل القرآن منجّماً على النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم
حسب مقتضيات الاُمور والحوادث ، وهذا يعني أنّ فهم كثير من الآيات القرآنية متوقّف
على معرفة أسباب النزول ، وهي لا تخرج عن كونها مجرّد قرائن حول النصّ ، وقد حرّم
العلماء المحقّقون الإقدام على تفسير كتاب الله لمن جهل أسباب النزول .
ولذا كان الإقدام على تفسير كتاب الله تعالى محرّماً على اُولئك الّذين يجهلون
أسباب النزول ويحاولون معرفة معنى الآية ، أو الآيات دون الوقوف على أسباب نزولها و
قصّتها (12) .
وبلغ اهتمام علماء القرآن بأسباب النزول إلى حدّ عدّه من أهمّ أنواع علوم
____________________________
9 ـ المحرّر الوجيز ( ج 1 ص 8 ـ 9 ) من مخطوطة دار الكتب المصريّة رقم ( 168 ) تفسير ، بواسطة البرهان
للزركشي ( ج 1 ص 8 ) بتحقيق أبو الفضل إبراهيم .
10 ـ أسباب النزول للواحدي ( ص 4 ) .
11 ـ آراء سماحة السيد العلّامة الفاني ( حول القرآن ) ( ص 29 ) .
12 ـ معجم مصنّفات القرآن الكريم ( ج 1 ص 6 ـ 127 ) .
القرآن .
فجعله برهان الدين الزركشي أوّل الأنواع في كتابه القيّم « البرهان في علوم
القرآن » .
وأفرد له السيوطي « النوع التاسع » من كتابه القيّم « الإتقان في علوم
القرآن » بعنوان « معرفة أسباب النزول » .
وسنأتي في الفقرة الأخيرة من هذا البحث على ذكر المصادر العامّة والخاصّة
لهذا الموضوع .
وبالرغم من الأهميّة البالغة لأسباب النزول ، فقد عارض بعض هذا الإهتمام ،
مستنداً إلى اُمورٍ من الضروري عرضها ثم تقييمها :
الأمر الأول : إنّه لا أثر لهذا العلم في التفسير :
قال السيوطي : زعم زاعم أنّه لا طائل تحت هذا الفنّ [ أي فنّ أسباب النزول ]
لجريانه مجرى التاريخ (13) .
ومع مخالفة هذا الإدّعاء لما ذكره الأئمّة والعلماء كما عرفنا تصريحهم بأنّ معرفة
أسباب النزول ممّا يلزم للمفسّر حيث لا يمكن الوقوف على التفسير بدونه ، بل يحرم كما
قيل .
فقد ردّ السيوطي على هذا الزعم بقوله : وقد أخطأ في ذلك ، بل له فوائد :
منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم .
ومنها : تخصيص الحكم به عند من يرى أنّ العبرة بخصوص السبب .
ومنها : أنّ اللفظ قد يكون عامّاً ، ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف
السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته ، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ .
ومنها : دفع توهّم الحصر (14) .
الأمر الثاني : إنّ المورد لا يخصّص .
واعترض أيضاً : بأنّ ما يستفاد من أسباب النزول هو تعيين موارد أحكام
الآيات وأسبابها الخاصّة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يمكن أن يحدّد مداليل الآيات ولا
____________________________
13 ـ الإتقان ( ج 1 ص 107 ) .
14 ـ المصدر السابق ( ج 1 ص 7 ـ 109 ) .
يخصّص عموم الأحكام ، وقد عنون علماء اُصول الفقه لهذا البحث بعنوان : « إنّ المورد لا
يخصّص الحكم » .
قال الاُصولي المقدسي : إذا ورد لفظ العموم على سبب خاصّ لم يسقط عمومه ،
وكيف ينكر هذا ، وأكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس
ابن الصامت ، وآية اللعان في هلال بن اُميّة ، وهكذا (15) .
والجواب عنه أوّلاً : إنّ البحث الاُصولي المذكور لا يمسّ المهمّ من بحث أسباب
النزول ، لأنّ البحث الاُصولي يتوجّه إلى شمول الأحكام المطروحة في الآيات لغير
مواردها ، وعدم شمولها ، فالبحث يعود إلى أنّ الآية هل تدلّ على الحكم في غير موردها
أيضاً كما تشمل موردها ، أو لا تشمل إلّا موردها دون غيره ؟
ففي صورة الشمول لغير موردها أيضاً ، يمكن الإستدلال بظاهرها الدالّ بالعموم
على الحكم في غير المورد .
وأمّا بالنسبة الى نفس المورد فلا بحث في شمول الآية له ، فإنّ شمول الآية له
مقطوع به ومجزوم بإرادته بدلالة نصّ الآية ، وهي قطعيّة لا ظنيّة ، حيث أنّ المورد لا
يكون خارجاً عن الحكم قطعاً ، لأنّ إخراجه يستلزم تخصيص المورد ، وهو من أقبح
أشكال التخصيص وفاسد بإجماع الاُصوليّين .
قال المقدسي في ذيل كلامه السابق ، في حديث له عن الآيات النازلة
للأحكام في الموارد الخاصّة ، ما نصّه : فاللفظ يتناولها [ أي الموارد الخاصّة ] يقيناً ، و
يتناول غيرها ظنّاً ، إذ لا يُسأل عن شيء فيُعدل عن بيانه إلى غيره . . . فنقل الراوي
للسبب مفيدٌ ليبيّن به تناول اللفظ له يقيناً ، فيمتنع من تخصيصه (16) .
وقال السيوطي : إذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته ، فإنّ
دخول صورة السبب قطعيّ واخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي
أبو بكر في « التقريب » ولا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك (17) .
____________________________
15 ـ روضة الناظر وجنّة المناظر لابن قدامة المقدسي ( ص 5 ـ 206 ) ، وانظر الإتقان للسيوطي ( ج 1
ص 110 ) .
16 ـ روضة الناظر ( ص 206 ) .
17 ـ الإتقان ( ج 1 ص 107 ) .