تراثنا
العدد الثالث السنة الاُولى شتاء 1406 هـ ق
الفهرس
كلمة العدد بقلم التحرير 5
نظرات سريعة في فنّ التحقيق ( 3 ) أسد مولوي 7
تطور الفقه عند الشيعة في القرنين 4 و 5 ( 2 ) الشيخ جعفر السبحاني 14
أهل البيت في المكتبة العربية ( 3 ) السيد عبد العزيز الطباطبائي 38
دليل المخطوطات ( 2 ) السيد أحمد الحسيني 59
المصطلح الرجالي : أسند عنه السيد محمد رضا الحسيني 98
من ذخائر التراث
منظومة تقريب المنطق للشهرستاني هيئة التحرير 157
كتاب قضاء حقوق المؤمنين للصوري حامد الخفاف 171
من أنباء التراث 207
قسم اللغة الانكليزية 224
كلمة العدد بقلم التحرير
لعلّ تساؤلاً داعب أفكار بعض قراء « تراثنا » الحريصين عليها ، عن هدف
النشرة وخطّتها ، فهم يخشون عليها أن يطغى عليها جانب من جوانب بحر التراث
الواسع العميق . لأنّ ألوان الرؤية التراثية في زماننا هذا متشعّبة :
فمنها ـ مثلاً ـ لون يقدّس الماضي على علّاته فيعيش التراثي ابن القرن الرابع
عشر الهجري فكراً كالفكر الذي عاشه ابن القرن الرابع .
وهذا مندثر ماض به الزمن .
ومنها لون يرى التراث مجداً لاُمّة مضت وقد جاء الزمان الحاضر بالجديد
الذي لا بدّ منه ، والذي يرى هذا الرأي يعيش التراث أمجاداً ذاهبة ويعيش الحاضر
منبت الصلة بالاُمّة التي يعتزّ ـ هو ـ بتراثها ! وتابعاً لاُمّة اُخرى شرقية أو غربية ـ لا
فرق ـ .
وهذا انفصاميّ مريض الفكر ترى بيته على الطراز الغربي لكنّ فرشه قديم
أثري ، تجد بدل الوسائد فيه رحال الإبل .
ولون يرى أنّ التراث مجد وحياة : هو مجد بما حقّق للبشرية في القرون الماضية
من تقدّم وإسعاد للانسانية ، وهو حياة بما أنَّنا اُمّة لها ماض عريق ـ لا يمكن لعاقل أن
يفرط به ـ وهو ماض حيّ لأنّ فيه حياة البشرية ونجاتها . . ولا يضرّ الحق والعدل
قدمهما في حياة الانسان .
وهذا حيّ مجاهد . . والحياة عقيدة وجهاد .
ولكن لهذه الحياة تكاليفها . . وحاجاتها .
فنحن نقول لقرائنا الكرام : إنّ « تراثنا » نشرة تعنى بالتراث حفظاً وصيانة ، و
درساً واستفادة ، وتطبيقاً على واقع مرّ لم يجن من الحضارات ! غير الاسلامية ـ في
الأعمّ الأغلب ـ إلّا وسائل الدمار التي جعلت من الأرض جحيماً أليم العذاب .
وإنّنا نهتمّ بتراثنا بما أنّه تراث مَنْ مَنّ الله بهم على البشرية رحمة ، محمد وآل
محمد صلوات الله عليه وعليهم ، وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين ـ .
نظرات سريعة
في فن التحقيق
( 3 ) بقلم التحرير
( تحدّثنا في العدد السابق عن بعض صفات المحقق ، ونتحدث هنا عن أربع
صفات اُخرى هي : )
5 ـ الصبر والأناة :
المخطوطات بما رافقها من ظروف سيئة في الغالب ، وبطول الزمن الذي
يغير الأحوال ويفعل فعله في الحجر الصلد ، وببعد العهد الذي تغمض معه
الواضحات ، وتنبهم السبل . . والمحقق بها هو مجدّد لشباب الكتاب وراجع به إلى ما
كان عليه كما أخرجه مؤلفه أو قريب منه ـ .
هذه الامور ـ وغيرها ـ تقتضي من المحقق الصبر والجلد في معالجة مخطوطة
أحال خطّها القدم ، وتنقص من حبرها وورقها بُعد العهد ، واعتورها من عوامل
الطبيعة وفعل الانسان ـ مالكاً ووارثاً وقارئاً ـ ما غيّر صورتها وأبهم واضحها .
فعلى المحقق أن يكون على ذكر من أن الحبر كثيراً ما ينصل ، وأنّ الأيدي
التي ملكت المخطوطة كثيراً ما تتدخل فيما يظنه فاعله إصلاحاً وهو عين الإفساد ، وأنّ
الجلد ربما تهرّأ فجدّده مجلّد غير عارف بالكتاب فغيّر من ترتيب أوراقه ـ خصوصاً
والكثير من المخطوطات خال من أرقام الصفحات معتمد نظام التعليقة الذي كثيراً ما
يوهم ، وبعضها خال حتى من هذا النظام ـ وأنّ . . وأنّ . . مضافاً إلى ولع العثة
بالكتب ، وفعل الرطوبة والجوّ فيها .
فما يسع المحقق ـ والحالة هذه ـ إلّا أن يعتدّ بالصبر في مواجهة هذه المشكلات ،
ليخرج منها سالماً من تطرّق الأوهام . . إلّا أوهاماً هي من طبيعة الإنسان .
أمّا إنْ ضجر المحقق فَقَدْ فَقَدَ أقوى جننه . . ولا يأمل أن يخرج كتاباً أحسن
من نسخة مخطوطة كغيرها من المخطوطات .
ولا يخفى أن من ملازمات الصبر الأناة لأن العجلة مظنّة السهو والوهم ،
وليجرب المحقق نسخ المخطوط الذي يبغي تحقيقه ـ والنسخ مرحلة يسرع فيها المحقق
بطبعه لأن التدقيق والتنقير سيأتي بعدها ـ ولينظر في مرحلة المقابلة ـ التي تأتي بعد النَسخ ـ
ليرى كم سقط من قلمه من كلمات وكم زاد من عنده !
ولئن تسومح بالسرعة في مرحلة النَسخ ، فلا يمكن أن يتسامح بها في مرحلة
الضبط . . وما يضير المحقق أن يصرف من وقته ساعات ـ بل أياماً ـ منقّباً في بطون
الكتب مراجعاً للعارفين بالفن . . لضبط مشكل أو تصحيح تصحيف أو إيضاح
غامض .
وما أشبه عمل المحقق المتأني باللؤلؤة الطبيعية في جوف المحارة تستوي كما أراد
لها الله تعالى ، ثم تكون زينة تزري بالاُلوف من لؤلؤ الصناعة السريع إنتاجه .
6 ـ الأمانة :
يعتز الكاتب بكتابه اعتزازاً بالغاً قد يوازي اعتزازه بولده أو يزيد ، لأنّ ولده
امتداد له إلى عدة عقود من الزمان بينما كتابه امتداد خالد له ونعني بالخلود هنا مفهومه
الأرضي أي البقاء الطويل ـ والانسان بطبعه مفطور على حبّ البقاء ، وما أهرام
مصر . . وما تحنيط جثة لنين الملحد الّا شاهد صدق على هذا .
فالمؤلف عندما ينهي كتابه ويضع فيه أعزّ ما عند الانسان ـ فكره ـ إنّما يتركه
أمانة في أعناق الأجيال ، وهو لا يرضى بتغييره أو تحويره ، وقد نبّه بعضهم في أواخر
كتبهم على هذا ولعنوا من بدّل أو غيّر في مؤلفاتهم .
وما أسوأ ما صنع ناسخ التفسير العظيم ـ تفسير العيّاشي ـ حيث حذف
أسانيده ، وفي هذا التفسير من درر أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما لا يوجد في
غيره ، ولو وصلنا مسنداً لكان شأنه في العلم والفكر أيّ شأن .
فقد جنىٰ ناسخه ـ كما ترى ـ جناية علمية كبرى في إغفاله الأمانة عند
نسخه إيّاه ، وأفقد الاُمة الإسلاميّة بهذا الإغفال درّة يتيمة من درر تراثها .
والمحقّق مكلّف بهذه الأمانة ، واجب عليه رعايتها ، محرّم عليه خيانتها ، فإن قام
بواجبه فبها ونعمت . . وإن خان فإن حساب الله وحساب التاريخ شديد .
ليس للمحقّق أن يبدّل أو ينقص أو يزيد في الكتاب الذي يحققه ، فإن
أوجب البحث أن يفعل شيئاً من هذا فعليه أن يشير إلى ما أصلح أو زاد أو نقص ،
بحيث يتميّز عمله وعمل صاحب الأصل .
لكنا ـ مع شديد الأسف ـ نجد في كثير من المطبوعات التي كتب عليها أنها
من تحقيق فلان . . زيادة ونقصاً وتبديلاً وتغييراً عمّا رسمه المؤلف لغايات أقل ما
يقال فيها إنّها خيانة علمية .
فهذا المحقق المعروف عبد السلام محمد هارون في تحقيقه لـ « وقعة صفّين »
لنصر بن مزاحم المنقري ـ الطبعة الثانية 1382 هـ ـ ص 231 بعد السطر الثامن رأساً ،
قد وقع في وهم لا يسامح عليه ، فقد أسقط نصّاً من الكتاب هو :
[ وعن عمر بن سعد ، عن سلام بن سويد ، عن علي عليه السّلام في قوله :
« وألزمهم كلمة التقوى » قال : هي لا إلٰه إلّا الله والله أكبر . قال : هي كلمة
النصر ] .
مع العلم أنّ هذا النص المحذوف جاء في طبعة إيران على الحجر سنة 1301
هـ ، ص 119 السطر الثامن ، وقد اعتمد هارون هذه الطبعة أصلاً في تحقيقه ، قال في
صفحة ح ـ ط من مقدمته لـ « وقعة صفين » :
« طبع هذا الكتاب لأول مرة على الحجر في إيران سنة 1301 وهذه الطبعة
نادرة الوجود . . وهذه النسخة هي التي قد اتخذتها أصلاً في نشر هذا الكتاب وتحقيقه ،
وهي التي اعبّر عنها بلفظ ( الأصل ) » .
ثم . . هذا الذي أسقط هارون موجود بنصه وفصه في بحار الأنوار للعلّامة الكبير
الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المتوفّىٰ سنة 1111 هـ ـ رحمه الله تعالى ، في الطبعة الحديثة
ج 100 صفحة 37 حديث 35 ، وإيراد المجلسي ـ رحمه الله ـ له يدلّ دلالة قاطعة على
أخذه له من نسخة مخطوطة أقدم من المطبوعة على الحجر بأكثر من مائتي عام .
وعلّق ناشر البحار على الحديث بقوله : « لم نجده في مطبوعة مصر ، ويوجد في
طبعة إيران القديمة ص 119 » .
وواضح أنّ النصّ خال مما ينثير مذهبياً . . فما أدري ما السبب في حذفه !
ثم ليعلم أنّ باب العصبية المذهبية والتحزّب الأعمىٰ أوسع الأبواب التي
يؤتىٰ منها المحقق ، ومثله باب الجهل وعدم الدليل . . وإلّا فما على المحقق إن كان نصّ
المؤلف لا يوافق هواه أن يثبته في مكانه ثمّ يعلّق عليه في الهامش .
وقد رأينا من المطبوعات المحرّفة كثيراً من هذا النوع مما يفقد القاریء الثقة بها
وبالقائمين عليها ، ويجعله يفضل الطبعات الحجرية بل النسخ المخطوطة على كثير
من المطبوعات المحققة الأنيقة !
ولا يظنّن متصدّ لتراثنا أنّ القراء بتلك المنزلة من الجهل ، فقد رأيت أشخاصاً
لا يحملون شهادة قديمة ولا حديثه ، ويعدّون في عداد العامة زيّاً ومعيشة ، لكنّهم ـ
يشهد الله ـ على درجة من الفهم والتتبع والإحاطة دونها كثيرون من حملة أرقى
الشهادات الجامعية .
وامة بُني دينها على العلم لا يتوهمن أحد أن تخلو من العلماء .
أما عصر تحريم قراءة كتب الفئة الفلانية فقد ولّىٰ مع طواغيته .
نعم . . يستثنى من ذلك الخطأ الواضح المقطوع به ، أو الزيادة الموضحة
لمراد المؤلف . . فليس على المحقق حرج أن يصلح هذا الخطأ أو يزيد هذه الكلمة ،
بشرط تمييزها عن عمل المؤلف ، وبشرط إحراز رضا المؤلف .
وهذا الإحراز له دلائل تدل عليه ، ولأذكر مثالاً على ذلك :
لو أنّ محققاً اشتغل في كتاب مؤلفه نحوي معروف ورأى فيه خطأ من الأخطاء
النحوية المقطوع بخطئها ، والتي من مذهب المؤلف تخطئتها ، ولم يأت به المؤلف هنا
للاستشهاد على مذهب يخالفه . . فإننا هنا نقطع بأنّ هذا الخطأ طاریء على النسخة و
أن المؤلف يرضى بإصلاحه .
7 ـ الذوق الجميل :
الحياة الجافة مملة مصروفة عنها الأنظار ، والحياة العلمية مع ما فيها من
لذات عقلية ومتع روحية ، قد يعرض لها ما يسمها بسمة الجفاف . . لذلك نرى
اسلوب التدريس يختلف من اُستاذ إلى آخر ، فهذا اُستاذ يتشوق الطلبة لحضور درسه و
يأسون لفوات محاضرة من محاضراته . . وما هذا إلّا لذوق منه جميل يصبّ به الدرس في
قالب من الإلقاء والتفهيم مشوق .
والكتاب الفلاني غرة في كتب التفسير ـ مثلاً ـ لكن إخراجه الطباعي و
توزيع فقراته صارف للقاریء عن اجتناء يانع ثمراته ، واجتلاء عرائس أفكاره .
والكتاب الإسلامي التراثي لم يخرج إلى الناس ـ في الأعم الأغلب ـ بالصورة التي
تجذب القاریء وتستهوي المطالع ، إلّا أفراداً قد لا تتجاوز عدد الأصابع .
وإلّا فأين الطبعة الأنيقة ـ التي تدعو القاریء للنظر فيها واقتناص فوائدها ـ
من كتاب رياض السالكين ، شرح الصحيفة السجّادية ، على منشئها السلام ، وهو
أحسن وأبدع ما اُلّف على الصحيفة ، ومؤلّفه لغوي أديب شاعر صحيح الولاء لآل
بيت الرحمة عليهم السلام . . ! ؟
وقل مثل ذلك في التفسيرين الجليلين : « التبيان » و « مجمع البيان »
لشيخ الطائفة الطوسي ومفسّرها الطبرسي نوّر الله ضريحيهما .
وعرّج على الكتب الأربعة : الكافي والفقيه والتهذيبين . . ومرّ بنظرك
على الشروح الجليلة : « مرآة العقول » و « روضة المتّقين » . . فلن تجد إلّا شاكياً يتلو
شاكياً من الإهمال وقلّة العناية . . بل عدمها .
المحقّق الذوّاقة يستطيع أن يخرج لنا من هذه الدرر الغوالي غرراً في جبين
الدهر ، وينبوعاً رقراقاً من علوم أهل البيت عليهم السلام فيه الريّ والرواء .
والذوق الجميل هو الذي يفعل بهذه الكتب فعل الجوهري الصنّاع الذي
يجعل من حجر كريم ـ هو كبقية الأحجار في شكله ـ زينة لا تقدر بثمن .
فتوزيع فقرات الكتاب ، وتفصيل أبوابه ، وترقيم أحاديثه ، وشرح غامضه ، و
تنظيم إحالاته ، والإبداع في تنويع فهارسه ، التي تجعل مطالب الكتاب من القاریء
على طرف الثمام . .
ثم اختيار الحرف الطباعي الجميل والورق المناسب .
هذه الاُمور ـ مجتمعة ـ تجعل الكتاب يضيء بعضه بعضاً .
8 ـ الإلتزام :
الدين الإسلامي دين النظام ، فالشارع المقدّس نظّم حياة المسلم تنظيماً
دقيقاً في جميع مناحيها . . ولا يكاد يمرّ بالمسلم أمر من الأمور إلّا وقد حسب له الشرع
الشريف حسابه ووضعه في نصابه .
ومسألة العلم التي أولاها الإسلام مكانة سامية ، وكثر الحثّ على طلب العلم
وحفطه ونشره في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ممّا تغنينا شهرته عن ذكره .
لكنّ مسألة قد تكون خافية أو قريبة من الخفاء هي مسألة كتب الهدى
وكتب الضلال التي ذكرتها الرسائل العملية ورتّبت لها أحكاماً تمسّ موضوعنا ولها
به تعلّق قويّ .
فصيانة عقل الإنسان وفكره وحفظهما مما يدنسهما فرض في الدين لازم . . من
أجله حرّمت الخمرة وأشباهها .
وقد رسخ هذا المفهوم ـ مفهوم الإلتزام العلمي والثقافي ـ في وجدان المسلم ،
فلا تكاد تجد مخطوطة إلّا وقد ختمها مؤلفها بطلب الدعاء من القراء ، واعتدادها ممّا
يدّخره ليوم القيامة . . وكثيراً ما ختم النّساخ كتاباتهم بطلب الدعاء من القاریء أو
بطلب إصلاح الخلل أو عدّ النَّسْخ من الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان .
هذا ابن البوّاب الكاتب ( ـ 423 هـ ) الخطّاط المعروف ، يقول في رائيّته في
علم الخط (1) :
وارغب بنفسك أن يخطّ بنانها
خـبراً تخلفه بدار غرورِ
فجميع فعل المرء يلقاه غداً
عند التقاء كتابه المنشورِ
وهذا البيت السائر الدائر في خواتيم المخطوطات :
ولا تكتب بخطك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراهُ
إلى الكثر الكثير مما حفلت به أوائل المخطوطات وخواتيمها .
وقد شاع هذا المفهوم حتى أصبحت نسبة هذه الأشعار مجهولة . . لأنها صارت
شعار اُمّة .
فالمسلم الملتزم الذي يرى نفسه محاسباً على أعماله ، لا يتحف اُمّته إلّا بما
يثقل ميزان حسناته غداً ، مما ينفع الناس من الكتب القيّمة .
وكان المستشرقون من أضرّ الأعداء بما نشروه من تراثنا المحسوب علينا وما
قَعَّدوه من قواعد لدراسته ، فتراهم يغرقون الدنيا بطبعات رباعيّات الخيّام المشكّكة ،
____________________________
(1) اُنظر الكنى والألقاب 1 / 224 .
وهي طبعات مصوّرة أنيقة لكنّها السمّ في الدسم . . وبطبعات ألف ليلة وليلة ذات
الصور الماجنة التي خطّتها يراعات مصوّريهم فأبرزت تحلّلهم وأطّرته بإطار شرقي !
وفي جانب الفكر شغلوا الناس بابن الريوندي الملحد وأمثاله ، وربّوا خادماً
وناشراً لهذا الملحد رجلاً ينتسب إلى اُسرة علمية دينية ، نشأ في مدرسة إسلامية
أوصلته إلى مقاعد جامعة كمبردج في إنكلترة . . وعاد إلينا جاحداً لاُسرته منكراً
لجميل المدرسة العلمية الإسلاميّة التي هيّأت له أسباب الدراسة وأوصلته بما لها ـ
الذي هو من أخماس وتبرّعات مؤمني المسلمين ـ إلى نيل شهادة الدكتوراه !
فعلى المحقّق المسلم أن لا يكون ملقط جمر . . يلقط من نار أعداء الاُمّة ويرميه
في عقول أبنائها ، وفي تراثنا الكثير الطيّب الذي أجره مضمون لناشره ، وهو مفيد في
رفعة الاُمّة وعلوّ شأنها .
ويمكن أن نأخذ من غيرنا خير ما عندهم ممّا يتّفق مع قواعدنا وظروفنا . .
فنحن اُمّة لها أصالتها ولم تعش يوماً على فتات موائد غيرها . . إلّا حين تسلّم القوس
غير باريها وصَيَّر الاُمَّة حقل تجارب لأفكار الغربيّين والشرقيّين التي هي كشجرة
خبيثة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار .
ولكن . . أمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
للموضوع صلة . . .
تطور الفقه عند الشيعة
في القرنين الرابع والخامس
وكتاب المهذّب للقاضي ابن البرّاج
( 2 ) الشيخ جعفر السبحاني
( نشأته العلمية ، أساتذته وتلاميذه ، تآليفه القيّمة ، حديث عن كتاب
المهذّب ) .
قد سبق منّا البحث في العدد السابق من هذه النشرة عن تطور الفقه
عند الشيعة الإمامية في القرنين : الرابع والخامس ، وقمنا بترجمة الأقطاب الثلاثة
منهم الذين ساهموا في تطوير الفقه وتكامله والآن نلفت نظر القاریء إلى رابعهم
ونقول :
الرابع : الشيخ سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن
برّاج الطرابلسي ، تلميذ السيد المرتضى ، وزميل الشيخ الطوسي أو تلميذه المعروف
بالقاضي تارة ، وبابن البرّاج اُخرى ، فقيه عصره ، وقاضي زمانه ، وخليفة الشيخ
في الشامات .
وهو أحد الفقهاء الأبطال في القرن الخامس بعد شيخيه : المرتضى والطوسي ،
صاحب كتاب « المهذّب » في الفقه وغيره من الآثار الفقهية فهو ـ قدّس سرّه ـ اقتفى
خطوات شيخ الطائفة من حيث التبويب والتفريع ، ويعدّ الكتاب من الموسوعات
الفقهية البديعة في عصره .
وهذا الكتاب هو الذي يزفّه الطبع إلى القراء الكرام في العالم الإسلامي ،
وسوف تقف على مكانة الكتاب وكيفية التصحيح والتحقيق في آخر هذه المقدّمة .
ولأجل ذلك يجب علينا البحث عن المؤلف والكتاب حسبما وقفنا عليه في
غضون الكتب ومعاجم التراجم ، وما أوحت إلينا مؤلفاته ، وآثاره الواصلة إلينا .
وقبل كل شيء نذكر أقوال أئمّة الرجال والتراجم في حقّه ، فنقول :
1 ـ يقول الشيخ منتجب الدين في الفهرس عنه : القاضي سعد الدين
أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن برّاج ، وجه الأصحاب ، وفقيههم ، وكان
قاضياً بطرابلس ، وله مصنّفات ، منها : « المهذب » و « المعتمد » و « الروضة » و
« المقرّب » و « عماد المحتاج في مناسك الحاج » أخبرنا بها الوالد ، عن والده ، عنه (1) .
2 ـ ويقول ابن شهرآشوب في « معالم العلماء » (2) : أبو القاسم عبد العزيز بن
نحرير بن عبد العزيز ، المعروف بابن البرّاج ، من غلمان (3) المرتضى رضي الله عنه ، له
كتب في الاصول والفروع ، فمن الفروع : الجواهر ، المعالم ، المنهاج ، الكامل ، روضة
النفس في أحكام العبادات الخمس ، المقرّب ، المهذّب ، التعريف ، شرح جمل العلم
والعمل للمرتضى رحمه الله (4) .
3 ـ وقال الشهيد في بعض مجاميعه ـ في بيان تلامذة السيد المرتضى ـ : ومنهم
أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن برّاج ، وكان قاضي طرابلس ، ولاه القاضي جلال
الملك رحمه الله .
وكان اُستاذ أبي الفتح الصيداوي ، وابن رزح [ كذا ] ، من أصحابنا .
وقال الشيخ علي الكركي في إجازته للشيخ برهان الدين أبي إسحاق
إبراهيم بن علي ـ في حقّ ابن البرّاج ـ : الشيخ السعيد ، خليفة الشيخ الإمام أبي جعفر
محمد بن الحسن الطوسي بالبلاد الشامية ، عزّ الدين عبد العزيز بن نحرير بن البرّاج
قدّس سرّه (5) .
4 ـ وقال بعض تلامذة الشيخ علي الكركي ، في رسالته المعمولة في ذكر
أسامي مشائخ الأصحاب : ومنهم الشيخ عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي ، صنّف
____________________________
(1) بحار الأنوار ج 102 ص 441 ، وقد طبع فهرس منتجب الدين في هذا الجزء من أجزاء البحار .
(2) معالم العلماء ص 80 .
(3) المراد من الغلمان في مصطلح الرجاليّين هو الخصّيص بالشيخ ، حيث أنّه تلمذ عليه وصار من
بطانة علومه .
(4) معالم العلماء ص 80 .
(5) رياض العلماء ج 3 ص 144 .
كتباً نفيسة منها : المهذّب ، والكامل ، والموجز ، والإشراق ، والجواهر ، وهو تلميذ الشيخ
محمد بن الطوسي .
5 ـ وقال الأفندي في الرياض : وقد وجدت منقولاً عن خط الشيخ البهائي ،
عن خط الشهيد أنّه تولّى ابن البرّاج قضاء طرابلس عشرين سنة أو ثلاثين سنة ،
وكان للشيخ أبي جعفر الطوسي أيام قراءته على السيد المرتضى كلّ شهر إثنا ديناراً
ولابن البرّاج كلّ شهر ثمانية دنانير ، وكان السيد المرتضى يجري على تلامذته جميعاً .
6 ـ ونقل عن بعض الفضلاء أنّ ابن البرّاج قرأ على السيد المرتضى في شهور
سنة تسع وعشرين وأربعمائة إلى أن مات المرتضى ، وأكمل قراءته على الشيخ الطوسي ،
وعاد إلى طرابلس في سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة ، وأقام بها إلى أن مات ليلة
الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وقد نيف
على الثمانين (6) .
7 ـ ونقل صاحب الروضات عن « أربعين الشهيد » ، نقلاً عن خطّ صفيّ
الدين المعد الموسوي : إنّ سيدنا المرتضى ـ رضي الله عنه ـ كان يجري على تلامذته
رزقاً ، فكان للشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله أيام قراءته عليه كل شهر إثنا عشر
ديناراً وللقاضي كلّ شهر ثمانية دنانير ، وكان وقف قرية على كاغذ الفقهاء (7) .
8 ـ وقال عنه التفريشي في رجاله : فقيه الشيعة الملقّب بالقاضي ، وكان
قاضياً بطرابلس (
.
9 ـ وقام المولى نظام الدين القريشي في نظام الأقوال : عبد العزيز ابن البرّاج ،
أبو القاسم ، شيخ من أصحابنا ، قرأ على المرتضى في شهور سنة تسع وعشرين و
أربعمائة وكمل قراءته على الشيخ الطوسي ، وعبر عنه بعض ـ كالشهيد في الدروس و
غيره ـ بالقاضي ، لأنّه وليَ قضاء طرابلس عشرين سنة أو ثلاثين ، مات ليلة الجمعة
لتسع خلون من شعبان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة (9) .
10 ـ وقال الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل : . . . وجه الأصحاب
____________________________
(6) رياض العلماء ج 3 ص 141 ـ 142 .
(7) روضات الجنّات ج 4 ص 230 .
(
نقد الرجال ص 189 .
(9) رياض العلماء ج 3 ص 145 ، نقلاً عن نظام الأقوال .
وفقيدههم ، وكان قاضياً بطرابلس ، وله مصنّفات ، ثمّ ذكر نفس ما ذكره منتجب
الدين في فهرسه ، وابن شهرآشوب في معالمه ، والتفريشي في رجاله (10) .
11 ـ وقال المجلسي في أوّل البحار : وكتاب المهذّب وكتاب الكامل وكتاب
جواهر الفقه للشيخ الحسن المنهاج ، عبد العزيز بن البرّاج ، وكتب الشيخ الجليل ابن
البرّاج كمؤلّفها في غاية الإعتبار (11) .
12 ـ وقال التستري في مقابس الأنوار : الفاضل الكامل ، المحقّق المدقق ،
الحائز للمفاخر والمكارم ومحاسن المراسم ، الشيخ سعد الدين وعزّ المؤمنين ، أبو القاسم
عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي الشامي نوّر الله مرقده السامي ،
وهو من غلمان المرتضى ، وكان خصّيصاً بالشيخ وتلمذ عليه وصار خليفته في البلاد
الشامية ، وروى عنه وعن الحلبي ، وربما استظهر تلمذته على الكراجكي وروايته عنه
أيضاً (12) .
وصنّف الشيخ له ـ بعد سؤاله ـ جملة من كتبه معبّراً عنه في أوائلها بالشيخ
الفاضل ، وهو المقصود به والمعهود ، كما صرّح به الراوندي في « حلّ المعقود » ، وكتب
الشيخ أجوبة مسائل له أيضاً ، وكان من مشائخ ابن أبي كامل ، والشيخ حسكا ،
والشيخ عبد الجبّار ، والشيخ محمّد بن علي بن محسن الحلبي ، وروى عنه ابناه الاُستاذان
أبو القاسم وأبو جعفر اللذان يروي عنهما القطب الراوندي وابن شهرآشوب والسروي
وغيرهم ، وله كتب منها : المهذّب ، والجواهر ، وشرح جمل المرتضى ، والكامل ، و
روضة النفس ، والمعالم ، والمقرّب ، والمعتمد ، والمنهاج وعماد المحتاج في مناسك
الحاجّ ، والموجز ، وغيرها ، ولم أقف إلّا على الثلاثة الاُول ، ويعبّر عنه كثيراً بابن
البرّاج (13) .
13 ـ وقال المتتبع النوري : . . . الفقيه العالم الجليل ، القاضي في طرابلس
الشام في مدّة عشرين سنة ، تلميذ علم الهدى وشيخ الطائفة ، وكان يجري السيد عليه
____________________________
(10) أمل الآمل ج 2 ص 152 ـ 153 .
(11) بحار الأنوار ج 1 ص 20 و 38 .
(12) سيوافيك من صاحب رياض العلماء خلافه وأنّ الذي تتلمذ عليه هو تلميذ القاضي لانفسه ، و
أنّ الاشتباه حصل من الوحدة في الاسم واللقب .
(13) مقابس الأنوار ص 7 ـ 9 .
في كل شهر دينار ( الصحيح ثمانية دنانير ) ، وهو المراد بالقاضي على الإطلاق لسان
الفقهاء ، وهو صاحب المهذّب والكامل والجواهر وشرح الجمل للسيد والموجز
وغيرها . . . توفّي ـ رحمه الله ـ ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة 481 هـ ، وكان
مولده ومنشأه بمصر (14) .
14 ـ وقال السيد الأمين العاملي : وجه الأصحاب ، وكان قاضياً بطرابلس ،
وله مصنّفات ، . . . كتاب في الكلام ، وكان في زمن بني عمّار (15) .
15 ـ وقال الحجّة السيد الصدر عنه : القاضي ابن البرّاج ، هو الشيخ
أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البرّاج ، وجه الأصحاب وفقيههم ،
إمام في الفقه ، واسع العلم ، كثير التصنيف ، كان من خواصّ تلامذة السيد المرتضى ،
حضر عالي مجلس السيد في شهور سنة 429 إلى أن توفّي السيد .
ثم لازم شيخ الطائفة أبا جعفر الطوسي حتى صار خليفة الشيخ وواحد أهل
الفقه ، فولّاه جلال الملك قضاء طرابلس سنة 438 ، وأقام بها إلى أن مات ليلة
الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وقد نيف على الثمانين ،
وكان مولده بمصر وبها منشأه (16) .
إلى غير ذلك من الكلمات المشابهة والمتردافة الواردة في كتب التراجم
والرجال التي تعرف مكانة الرجل ومرتبته في الفقه وكونه أحد أغيان الطائفة في
عصره ، وقاضياً من قضاتهم في طرابلس .
غير أنّ من المؤسف أنّ أرباب التراجم الّذين تناولوا ترجمة الرجل عمدوا إلى
نقل الكلمات حوله آخذين بعضهم من بعضهم من دون تحليل لشخصيته ، ومن دون
أن يشيروا إلى ناحية من نواحي حياته العلمية والإجتماعية .
ولأجل ذلك نحاول في هذه المقدمة القصيرة تسليط شيء من الضوء على
حياته ، وتحليلها حسبما يسمح لنا الوقت .
____________________________
(14) المستدرك ج 3 ص 481 .
(15) أعيان الشيعة ج 7 ص 18 .
(16) تأسيس الشيعة لفنون الإسلام ص 304 .
أضواء على حياة المؤلف :
ميلاده : لم نقف على مصدر يعيّن تاريخ ميلاد المترجم له على وجه دقيق ، غير
أنّ كلمة الرجاليّين والمترجمين له اتّفقت على أنّه توفّي عام 481 هـ وقد نيف
على الثمانين ، فعلى هذا فإنّ أغلب الظنّ أنّه ـ رحمه الله ـ ولد عام 400 هـ أو قبل
هذا التاريخ بقليل .
هو شاميّ لا مصريّ :
وأمّا موطنه فقد نقل صاحب « رياض العلماء » عن بعض الفضلاء أنّه
كان مولده بمصر ، وبها منشأه (17) .
وأخذ منه صاحب « المقابيس » كما عرفت ، ولكنّه بعيد جداً .
والظاهر أنّه شاميّ لامصريّ ، ولو كان من الديار المصرية لزم أن ينتحل
المذهب الإسماعيلي ، وينسلك في سلك الإسماعيليّين ، لأنّ المذهب الرائج في مصر ـ
يومذاك ـ كان هو المذهب الإسماعيلي ، وكان الحكّام هناك من الفاطميّين يروجون
لذلك المذهب ، فلوكان المترجم له مصريّ المولد والمنشأ فهو بطبع الحال إذا لم يكن
سُنيّاً ، يكون إسماعيليّاً ، وبما أنّه يعدّ من أبطال فقهاء الشيعة الإمامية لزم أن يشتهر
انتقاله من مذهب إلى مذهب ، ولذاع وبان ، مع أنّه لم يُذكر في حقّه شيء من
هذا القبيل .
هذا هو القاضي أبوحنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي ، الفقيه الفاطميّ
الإسماعيليّ ، مؤلف كتاب « دعائم الإسلام » المتوفّى في القاهرة في جمادى الثانية عام
363 هـ قد عاش بين الفاطميّين وألّف على مذهبهم ، ومات عليه ، وصلّى عليه المعزّ
لدين الله .
فالظاهر أنّ ابن برّاج شاميّ ، وقد انتقل بعد تكميل دراسته إلى مولده ـ البلاد
الشامية ـ للقيام بواجباته ، وحفظ الشيعة من الرجوع إلى محاكم الآخرين .
____________________________
(17) رياض العلماء ج 3 ص 143 .
الرزق بحسب الدرجة العلمية :
قد وقفت في غضون كلمات الرجاليّين والمترجمين أن السيد المرتضى كان
يجري الرزق على الشيخ الطوسي اثني عشر ديناراً وعلى المؤلّف ثمانية دنانير ، وهذا
يفيد أنّ المؤلف كان التلميذ الثاني من حيث المرتبة والبراعة بعد الشيخ الطوسي في
مجلس درس السيد المرتضى ، كيف وقد اشتغل الشيخ بالدراسة والتعلّم قبله بخمسة
عشر عاماً ، لأنّه تولّد عام 400 هـ أو قبله بقليل وولد الشيخ الطوسي عام 485 هـ .
وحتى لو فرض أنّهما كانا متساويين في العمر ومدّة الدراسة ولكنّ براعة
الشيخ وتضلّعه ونبوغه ممّا لا يكاد ينكر ، وعلى كل تقدير فالظاهر أنّ هذا السلوك
من السيد بالنسبة لتلميذيه كان بحسب الدرجة العلمية .
هو الزميل الأصغر للشيخ :
لقد حضر المؤلف درس السيد المرتضى ـ رحمه الله ـ عام 429 هـ ، وهو ابن
ثلاثين سنة أو ما يقاربه ، فقد استفاد من بحر علمه وحوزة درسه قرابة ثمان سنين ،
حيث أنّ المرتضى لبّىٰ دعوة ربّه لخمس بقين من شهر ربيع الاوّل سنة 436 (18) .
فعند ما لبّى الاُستاذ دعوة ربّه ، حضر درس الشيخ إلى أن نصب قاضياً في
طرابلس عام 438 ، وعلى ذلك فقد استفاد من شيخه الثاني قرابة ثلاث سنوات ،
ومع ذلك كلّه فالحقّ أنّ القاضي ابن برّاج زميل الشيخ في الحقيقة ، وشريكه في التلمّذ
على السيد المرتضى ، وأنّه بعد ما لبّىٰ السيد المرتضى دعوة ربّه وانتهت رئاسة الشيعة
ـ في بغداد ـ إلى الشيخ الطوسي ، حضر درس الشيخ الطوسي توحيداً للكلمة ، وتشرّفاً
وافتخاراً ، كما قبل من جانبه الخلافة والنيابة في البلاد الشامية .
ويدلّ على أنّ ابن البرّاج كان زميلاً للشيخ لا تلميذاً له اُمور :
1 ـ عند ما توفّي اُستاذه السيد المرتضى رحمه الله ، كان القاضي ابن برّاج قد
بلغ مبلغاً كبيراً من العمر ، يبلغ الطالب ـ في مثله ـ مرتبة الإجتهاد ، وهو قرابة
الأربعين ، فيبعد أن يكون حضوره في درس الشيخ الطوسي من باب التلمذ ، بل هو
____________________________
(18) فهرس النجاشي ص 193 .
لأجل ما ذكرناه قبل قليل .
2 ـ إنّ السيد المرتضى عمل كتاباً باسم « جمل العلم والعمل » في الكلام
والفقه على وجه موجز ، ملقياً فيها الاُصول والقواعد في فنّ الكلام والفقه .
وقد تولّى شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي شرح القسم الكلامي منه ،
وهو ما عبّر عنه بـ « تمهيد الاُصول » وقد طبع الكتاب بهذا الاسم وانتشر .
بينما تولّى القاضي ابن برّاج ـ المترجم له ـ شرح القسم الفقهي .
ومن هذا يظهر زمالة هذين العلمين ، بعضهما لبعض في المجالات العلمية ،
فكل واحد يشرح قسماً خاصّاً من كتاب اُستاذهما .
3 ـ إنّ شيخنا المؤلف ينقل في كتابه « شرح جمل العلم والعمل »
عند البحث عن جواز إخراج القيمة من الأجناس الزكوية ماهذا عبارته : « وقد ذكر
في ذلك ما أشار إليه صاحب الكتاب رضي الله عنه ، من الرواية الواردة ، من الدرهم
أو الثلثين ، والأحوط إخراجها بقيمة الوقت ، وهذا الذي استقرّ تحريرنا له مع شيخنا
أبي جعفر الطوسي ، ورأيت من علمائنا من يميل إلى ذلك » (19) .
وهذه العبارة تفيد زمالتهما في البحث والتحرير .
4 ـ نرى أنّ المؤلف عند ما يطرح في كتابه « المهذّب » آراء الشيخ يعقبه بنقد
بنّاء ومناقشة جريئة ، وهذا يعطي كونه زميلاً للشيخ لا تلميذاً آخذاً ، ونأتي لذلك
بنموذجين :
أولاً ـ فهو يكتب في كتاب الأيمان من « المهذّب » إذا ما حلف الرجل على
عدم أكل الحنطة فهل يحلف إذا أكلها دقيقاً أولاً ، ما هذا عبارته :
كان الشيخ أبو جعفر الطوسي ـ رحمه الله ـ قد قال لي يوماً في الدرس : إنْ
أكلها على جهتها حنث ، وإنْ أكلها دقيقاً أو سويقاً لم يحنث .
فقلت له : ولِمَ ذلك ؟ ! وعين الدقيق هي عين الحنطة ، وإنّما تغيّرت
بالتقطيع الذي هو الطحن .
فقال : قد تغيّرت عمّا كانت عليه ، وإن كانت العين واحدة ، وهو حلف ان
لا يأكل ما هو مسمّى بحنطة لا ما يسمّى دقيقاً .
____________________________
(19) شرح جمل العلم والعمل ص 268 ، وقد حقّق نصوصه الاُستاذ مدير شانه چى دام ظلّه .