| الميزان في تفسير القرأن ج2 | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 7:50 pm | |
| بسم الله الرّحمَن الرّحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ـ 183 أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أو عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ـ 184 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أو عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ـ 185 . ( بيان ) سياق الآيات الثلاث يدل أولاً على انها جميعاً نازلة معاً فإن قوله تعالى : أياماً معدودات ، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله : الصيام في الآية الاولى ، وقوله تعالى : شهر رمضان ، في الآية الثالثة إِما خبر لمبتدء محذوف وهو الضمير الراجع إِلى قوله أياماً معدودات ، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف ، والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله :
كتب عليكم الصيام ، في الآية الاولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعاً كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان . وسياق الآيات يدل ثانياً على أن شطراً من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزلة التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر ، أعني : أن الآيتين الاوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب ، إِذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول ، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلاً شاقاً بطبعه على المخاطب ، ولذلك ترى الآيتين الاوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إِلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة ، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب ، ويحصل به تطيب النفس ، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار ، بالإِشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل ، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والآجل . ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله : كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الامم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه ، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإِيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر ، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى : لعلكم تتقون ، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إِنما هو في أيام قلائل معينة معدودة ، وهو قوله تعالى : أياماً معدودات ، فإِن في تنكير ، أياماً ، دلالة على التحقير ، وفي التوصيف بالعدل إِشهار بهوان الأمر كما في قوله تعالى : « وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ » يوسف ـ 30 ، على أنّا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام ، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه ولا يستثقلها ، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر
إِلى قوله ، فدية طعام مسكين اه . وإِذا كان هذا العمل مشتملاً على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبط ، فإِن من تطوع خيراً فهو خير له من ان يأتي به عن كره وهو قوله تعالى : فمن تطوع خيراً فهو خير له الخ ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ ، وعليهذا فقوله تعالى في الآية الاولى : كتب عليكم الصيام ، إِخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الآية » البقرة ـ 178 ، وقوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » البقرة ـ 180 ، فإن بين القصاص في القتلى والوصية للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقاً ، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى القاتل حياً سالماً يعيش ولا يعبأ بما جنى من القتل ، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين ، وخاصة عند الموت والفراق الدائم ، فهذان أعني القصاص ، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع ، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إِلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام ، فإِنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إِليها وهو الاكل والشرب والجماع ، ولذلك فهو ثقيل على الطبع ، كريه عند النفس ، يحتاج في توجيه حكمه إِلى المخاطبين ، وهم عامة الناس من المكلفين إِلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم ، ولهذا السبب كان قوله : كتب عليكم القصاص اه ، وقوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ، إِنشاء للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدمة بخلاف قوله : كتب عليكم الصيام فإِنه إِخبار عن الحكم وتمهيد لإِنشائه بقوله : فمن شهد منكم ، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اه ، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الايمان ، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإِن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم ، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضاً لما سمعت
أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإِن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص . قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه ، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ » يس ـ 12 وقوله تعالى : « وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » المائدة ـ 45 ، والصيام والصوم في اللغة مصدر ان بمعنى الكف عن الفعل : كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك ، وربما يقال : انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق اليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة ، من طلوع الفجر إِلى المغرب بالنية ، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامة موسى وعيسى وغيرهم ، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت ، وليس قوله : كما كتب على الذين من قبلكم ، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوباً عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف ، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته . والمراد بالذين من قبلكم ، الامم السابقة من المليين في الجملة ، ولم يعين القرآن من هم ، غير أن ظاهر قوله : كما كتب ، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك ، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه ، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره ، لكنهم يصومون أياماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة : كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب ، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام . بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين ، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم ، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي
إِليه الانسان بفطرته كما سيجيء . وربما يقال : إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الانبياء استناداً إلى روايات لا تخلو عن ضعف . قوله تعالى : لعلكم تتقون ، كان أهل الاوثان يصومون لإِرضاء آلهتهم أو لإِطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرماً أو عصوا معصية ، وإذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد ، وإِن الله سبحانه أمنع جانباً من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذىً ، وبالجملة هو سبحانه بريء من كل نقص ، فما تعطيه العبادات من الاثر الجميل ، أي عبادة كانت وأي أثر كان ، إنما يرجع إِلى العبد دون الرب تعالى وتقدس ، كما ان المعاصي أيضاً كذلك ، قال تعالى : « إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وإِن أَسَأْتُمْ فَلَهَا » الإسراء ـ 7 ، هذا هو الذي يشير اليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي الى الانسان الذي لا شأن له إِلا الفقر والحاجة ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ » الفاطر ـ 15 ويشير اليه في خصوص الصيام بقوله : لعلكم تتقون ، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإِن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة ، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إِلى الارض ، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إِنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات ، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها ، وتتربى على ذلك إِرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إِلى الله سبحانه ، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع . قوله تعالى : أياماً معدودات ، منصوب على الظرفية بتقدير ، في ومتعلق
بقوله : الصيام ، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعاً للمكلف ، وقد مر ان قوله : شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن « الخ » بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان . وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بالايام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء ، وقال بعضهم : والثلاث الايام هي الايام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها ، ثم نزل قوله تعالى : شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن الخ ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان ، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السّنّة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض . والذي يظهر به بطلان هذا القول أولاً : ان الصيام كما قيل : عبادة عامة شاملة ، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك ، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيداً من الاعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أُمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطفّ ثم تبرّكوا باليوم فاتخذوه عيداً وشرعوا صومه تبركاً به ووضعوا له فضائل وبركات ، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيداً إسلامياً بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى ، وكل ذلك لم يكن ، وليس اليوم ذا شأن مليّ حتى يصير عيداً ملياً قومياً مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس ، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير يوماً إسلامياً كيوم المبعث ويوم مولد النبي ، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيداً دينياً كمثل عيد الفطر وعيد الاضحى فما باله عزيزاً بلا سبب ؟ . وثانياً : ان الآية الثالثة من الآيات أعني قوله : شهر رمضان الخ ، تأبى بسياقها ان تكون نازلة وحدها وناسخاً لما قبلها فإِن ظاهر السياق أن قوله شهر رمضان خبر لمبتدء محذوف أو مبتدءٌ لخبر محذوف كما مرّ ذكره فيكون بياناً للأيام المعدودات
ويكون جميع الآيات الثلث كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان ، وأما جعل قوله : شهر رمضان مبتدئاً خبره قوله : الذي أُنزل فيه القرآن فإنه وإِن أوجب استقلال الآيه وصلاحيتها لأن تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها ، مع أن النسخ مشروط بالتنافي والتباين . وأضعف من هذا القول قول آخرين ـ على ما يظهر منهم ـ : إِن الآية الثانية أعني قوله تعالى : أياماً معدودات إلخ ، ناسخة للآية الاولى أعني قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ ، وذلك أن الصوم كان مكتوباً على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى عليهالسلام حتى استقر على خمسين يوماً ، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الاولى فكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والناس يصومونها في صدر الاسلام حتى نزل قوله تعالى : أياماً معدودات إلخ ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره . وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلاناً ، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإِشكال ، وكون الآية الثانية من متممات الآية الاولى أظهر وأجلى ، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية . قوله تعالى : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر ، الفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله : كتب عليكم ، وقوله : معدودات اه ، أي إن الصيام مكتوب مفروض ، والعدد مأخوذ في الفرض ، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد ، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر ، فإِنه لا يرفع اليد عن صيام عدة من أيام أُخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلّف من الصيام عدداً ، وهذا هو الذي أشار تعالى إِليه في الآية الثالثة بقوله : ولتكملوا العدة ، فقوله تعالى : أياماً معدودات ، كما يفيد معنى التحقير كما مرّ يفيد كون العدد ركناً مأخوذاً في الفرض والحكم . ثم إِن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر
ينكشف لسفره عن داره التي يأوي اليها ويكنّ فيها ، وكأن قوله تعالى : أو على سفر ، ولم يقل : مسافراً للإِشارة إلى اعتبار فعلية التلبس حالاً دون الماضي والمستقبل . وقد قال قوم ـ وهم المعظم من علماء أهل السنة والجماعة ـ : إِن المدلول عليه بقوله تعالى : فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر ، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والإِفطار ، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى : فعدة من ايام أُخر هو عزيمة الإفطار دون الرخصة ، وهو المروي عن أئمة اهل البيت ، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير ، فهم محجوجون ، بقوله تعالى : فعدة من أيام أُخر . وقد قدروا لذلك في الآية تقديراً فقالوا : ان التقدير فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام اخر . ويرد عليه أولاً : أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار اليه إِلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه . وثانياً : أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فان المقام كما ذكروه مقام التشريع ، وقولنا : فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزاً بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والاباحة ، وأما كونه جائزاً بمعنى عدم كونه الزامياً فلا دليل عليه من الكلام ألبتة بل الدليل على خلافه فان بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر . قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، الاطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل ، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة ، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكيناً جائعاً من أوسط ما يطعم الانسان ، وحكم الفدية أيضاً فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله : وعلى الذين ، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير . وقد ذكر بعضهم : ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفّروا عن كل يوم بطعام مسكين ، لأن الناس كانوا يومئذ غير متعودين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، وقد ذكر بعض هؤلاء : أنه نسخ حكم غير العاجزين ، واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله ، من جواز الفديه . ولعمري إِنه ليس إلا لعباً بالقرآن وجعلاً لآياته عضين ، وأنت إِذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاماً موضوعاً على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان ، ثم اذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق ، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضاً ، وينقض آخره أوله فتاره يقول كتب عليكم الصيام ، واخرى يقول : يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية ، واخرى يقول : يجب عليكم جميعاً الصيام إِذا شهدتم الشهر ، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة ، ولم يكن في الآية حكم غير القادرين ، اللهم إِلا أن يقال : إن قوله : يطيقون ، كان دالاً على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة ، وبالجملة يجب عليهذا أن يكون قوله : وعلى الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخاً لقوله : كُتب عليكم الصيام ، في أولها لمكان التنافي ، ويبقى الكلام في وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر ، ثم قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخاً لقوله : وعلى الذين يطيقونه في وسطها ، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين ، مع كون الناسخ مطلقاً شاملاً للقادر والعاجز جميعاً ، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه وهذا من أفحش الفساد . وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله : شهر رمضان الخ لقوله : أياماً معدودات الخ ، ونسخ قوله : اياماً معدودات الخ ، لقوله : كتب عليكم الصيام ، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجباً . قوله تعالى : فمن تطوع خيراً فهو خير له ، التطوع تفعل من الطوع مقابل
الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة ، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى التطوع التلبس في إِتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلاً إِلزامياً أو غير إلزامي ، واما اختصاص التطوع استعمالاً بالمستحبات والمندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه . وبالجملة التطوع كما قيل : لا دلالة فيه مادة وهيئة على الندب وعليهذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معني الكلام السابق ، والمعنى والله أعلم : الصوم مكتوب عليكم مرعياً فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الامم التي قبلكم ، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعاً لا كرهاً ، فإِن من أتى بالخير طوعاً كان خيراً له من أن يأتي به كرهاً . ومن هنا يظهر : أن قوله : فمن تطوع خيراً من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيراً مكان كون التطوع بالصوم خيراً نظير قوله تعالى : « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » أي فاصبر ولا تحزن فانهم لا يكذبونك . وربما يقال : إِن الجملة أعني قوله تعالى : فمن تطوع خيراً فهو خير له ، مرتبطة بالجملة التي تتلوها أعني قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، والمعنى أن أن من تطوع خيراً من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيراً له . ويرد عليه : عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع ، فانه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول ، مع أن قوله : فمن تطوع خيراً ، لا دلالة له على التطوع بالزيادة فان التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة . قوله تعالى : وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ، جملة متممة لسابقتها
والمعنى بحسب التقدير ـ كما مر ـ تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فان التطوع بالخير خير والصوم خير لكم ، فالتطوع به خير على خير . وربما يقال : ان الجملة أعني قوله : وأن تصوموا خير لكم ، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فان ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب ، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الافطار والقضاء . ويرد عليه : عدم الدليل عليه أولا ، واختلاف الجملتين أعني قوله : فمن كان منكم الخ ، وقوله : وأن تصوموا خير لكم ، بالغيبة والخطاب ثانياً ، وأن الجملة الاولى مسوقة لبيان الترخيص والتخيير ، بل ظاهر قوله : فعدة من أيام أُخر ، تعين الصوم في أيام أُخر كما مر ثالثاً ، وأن الجملة الاولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتى يكون قوله : وأن تصوموا خير لكم بياناً لأحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أُخر وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله : وأن تصوموا خير لكم ، من غير قرينة ظاهرة رابعاً ، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبياً بل المقام ـ كما مر سابقاً ـ مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله : « فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ » البقرة ـ 54 ، وقوله تعالى : « فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » الجمعة ـ 9 ، وقوله تعالى « تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » الصف ـ 11 ، والآيات في ذلك كثيرة خامساً : قوله تعالى : شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن الا شهر رمضان . والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الإِنزال والتنزيل أن الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي ، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم باعتبار كونه مقروّاً كما قال تعالى « إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » : الزخرف ـ 3 ، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه . والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : « وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا » : الاسراء ـ 106 ، وهو ظاهر في نزوله تدريجاً في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريباً ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين . وربما أُجيب عنه : بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نجوماً وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة ـ مجموع مدة الدعوة ـ وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات . وقد أورد عليه : بأن تعقيب قوله تعالى : أُنزل فيه القرآن بقوله : هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان ، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين . وأُجيب : بأن كونه هادياً من شأنه أن يهدي من يحتاج إِلى هدايته من الضلال وفارقاً إِذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه ، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أُجريت وخرجت من القوة إلى الفعل . والحق أن حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب ولو زماناً يسيراً ، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى : « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا » المجادلة ـ 1 ، وقوله تعالى : « وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا » الجمعة ـ 11 ، وقوله تعالى : « رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا » الأحزاب ـ 23 ، على أنّ في القرآن ناسخاً
ومنسوخاً ، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول . وربما أُجيب عن الإشكال : أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان انّ أول ما نزل منه نزل فيه ، ويرد عليه : أن المشهور عندهم أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما بعث بالقرآن ، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلثين يوماً وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن ، على أن أول سورة اقرأ باسم ربك ، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة ، وكذا سورة المدّثّر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جداً أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على أن قوله تعالى : أُنزل فيه القرآن ، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : « وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ » الدخان ـ 3 ، وقوله : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » : القدر ـ 1 ، فإِن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إِنزال القرآن أول إِنزاله أو إِنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك . والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإِن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إِنما عبّرت عن ذلك بلفظ الإِنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى : « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ » : البقرة ـ 185 وقوله تعالى : « حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ » : الدخان ـ 3 ، وقوله تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » القدر ـ 1 ، واعتبار الدفعة إِما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى : « كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ » يونس ـ 24 . فإِن المطر إِنما ينزل تدريجاً لكنّ النظر هىٰهنا معطوف إِلى أخذه مجموعاً واحداً ، ولذلك عبّر عنه بالإِنزال دون التنزيل ، وكقوله تعالى : « كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ » ص ـ 29 ، وإِما لكون الكتاب ذا حقيقة أُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحداً غير تدريجي ونازلاً بالإِنزال دون التنزيل . . وهذا الاحتمال الثاني هو اللّائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى : « كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ »
هود ـ 1 ، فإِن هذا الاحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة فالإِحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إِلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه ، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل . وأوضح منه قوله تعالى : « وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ » الاعراف ـ 53 ، وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ـ إلى أن قال : ـ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس ـ 39 فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طارٍ على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر ، وأنهم إِنما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يؤل إِليه هذا التفصيل وغافلين عنه ، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إِلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إِشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب . وأوضح منه قوله تعالى : ( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 . فإنه ظاهر في أن هناك كتاباً مبيناً عرض عليه جعله مقرّواً عربياً ، وإِنما أُلبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإِلا فإِنه ـ وهو في أُمّ الكتاب ـ عند الله ، عليّ لا يصعد إِليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضاً قوله تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) الواقعة ـ 80 ، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وأن التنزيل بعده ، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الذي عبّر عنه في آيات الزخرف ، بام
( 2 ـ الميزان ـ 2 ) الكتاب ، وفي سورة البروج ، باللّوح المحفوظ ، حيث قال تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج ـ 22 ، وهذا اللّوح إنما كان محفوظاً لحفظه من ورود التغيّر عليه ، ومن المعلوم أن القرآن المنزّل تدريجاً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدّل ، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزّل ، وإِنما هذا بمنزله اللباس لذاك . ثم إِن هذا المعنى أعني : كون القران في مرتبة التنزيل بالنسبة إِلى الكتاب المبين ـ ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبّس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثَل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب كما في قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، إِلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله : شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ، وقوله : إِنا أنزلناه في ليلة مباركة ، وقوله : إِنا أنزلناه في ليلة القدر ، على إِنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إِلى قلب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دفعة كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدة الدعوة النبوية . وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى : « وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ » طه ـ 114 ، وقوله تعالى : « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِن عَلَيْنَا بَيَانَهُ » القيامة ـ 19 ، فإن الآيات ظاهره في أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان له علم بما سينزل عليه فنُهيَ عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي ، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به ـ إنشاء الله تعالى ـ . وبالجملة فإن المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها : على كون هذا القرآن المنزّل على النبي تدريجاً متكئاً على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة ، وأن تلك الحقيقة أُنزلت على النبي إنزالاً فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه ، وسيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ » آل
عمران ـ 7 . فهذا ما يهدي اليه التدبّر ويدل عليه الآيات ، نعم أرباب الحديث ، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لمّا أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطرّوا الى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدّالّة على كون القرآن هدى ورحمة ونوراً وروحاً ومواقع النجوم وكتاباً مبيناً ، وفي لوح محفوظ ، ونازلاً من عند الله ، وفي صحف مطهّرة إِلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعراً منثوراً . ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان : قال ما محصّله : إنه لا ريب أن بعثة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان مقارناً لنزول أوّل ما نزل من القرآن وأمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتبليغ والإِنذار ، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت باللّيل لقوله تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ » الدخان ـ 2 ، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى : « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ » البقرة 185 . وجملة القرآن وإن لم تنزل : في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها ، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعاً فصح ان يقال : أنزلناه في ليلة ( على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكلّ بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماويّة أيضاً كالتوراة والإِنجيل والزبور باصطلاح القرآن ) قال : وذلك : أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى : إِقرأ بإِسم ربّك إلخ ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان ، نزل والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى اليه : قوله تعالى : إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ ، ولمّا تلقّى الوحي خطر بباله أن يسأله : كيف يذكر اسم ربّه فتراءى له وعلّمه بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين إِلى آخر سورة الحمد ، ثم علّمه كيفيّة الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يجد ممّا كان يشاهده أثراً إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنّه رسول من الله إلى الناس ، مأمور بهدايتهم ثم لمّا دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد اليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى اليه قوله تعالى :
« يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ الآيات » المدّثر ـ 2 . قال : فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر : وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إِلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت . قال : وهناك روايات أُخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان : أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله ، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولاً بمخالفة الكتاب ، وثانياً أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه ، انتهى ملخّصاً . ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام أجزائه ـ تقبل الإِصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق . ففيه أولاً : أن هذا التقوّل العجيب الذي تقوّله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل وأنه صلىاللهعليهوآلهوسلمنزل عليه : إِقرأ باسم ربك ، وهو في الطريق ، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علّم الصلوة ، ثم دخل البيت ونام تعباناً ، ثم نزلت عليه سورة المدّثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ ، كل ذلك تقوّل لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنّة قائمة ، وإِنما هي قصة تخيّليّة لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجيء . وثانياً : أنه ذكر ان من المسلّم أن البعثة ونزول القرآن والأمر بالتبليغ مقارنة زماناً ثم فسّر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نبياً غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أُعطي الرسالة بنزول سورة المدّثر ، ولا يسعه ، أن يستند في ذلك إِلى كتاب ولا سنّة ، وليس من المسلّم ذلك . أما السنة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقاً إِذ لا شيء من كتب الحديث مما ألّفته العامة أو الخاصة إِلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قرنين فصاعداً فهذا في السنّة ،
والتاريخ ـ على خلّوه من هذه التفاصيل ـ حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرقٌ إليه أيضاً . وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوّله ظاهرة فإن سورة اقْرأ باسم ربك ـ وهي أول سورة نزلت على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما ذكره أهل النقل ، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقلّ من احتمال نزولها دفعة ـ مشتملة على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلوة ويذكر امره في نادي القوم ( ولا ندري كيف كانت هذه الصلوة التي كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يتقرّب بها إِلى ربه في باديء أمره إِلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة ) قال تعالى فيها : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذا صَلَّىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أو أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ » العلق ـ 18 ، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهي مصلياً عن الصلوة ، ويذكر أمره في النادي ، ولا ينتهي عن فعاله ، وقد كان هذا المصلي هو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك : « كَلَّا لَا تُطِعْهُ » العلق ـ 19 . فقد دلت السورة على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن ، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى ، وهذا هو النبوة ولم يسم أمره ذلك انذاراً ، فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم نبياً وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ . وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان ، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أَن يقال : قل بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين الخ ، أو يقال : بسم الله الرحمن الرحيم قل : الحمد لله رب العالمين الخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى : مالك يوم الدين ، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف . نعم وقع في سورة الحجر ـ وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها ،
وسيجيء بيانه ـ قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ » الحجر ـ 87 . والمراد بالسبْع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآناً بل سبعاً من آيات القرآن وجزئاً منه بدليل قوله تعالى : « كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ الآية » الزمر ـ 23 . ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدلّ على سبق نزولها نزول سورة الحجر ، والسورة مشتملة أيضاً على قوله تعالى : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الآيات » الحجر ـ 95 ، ويدل ذلك على أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد كف عن الإِنذار مدة ثم أمر به ثانياً بقولة تعالى : فاصدع . وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله : قم فأنذر المدثر ـ 2 ، فان كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر ، حال قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر الآية ، لاشتمال هذه السورة أيضاً على قوله تعالى : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إِلى آخر الآيات » المدثر ـ 11 ، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر : وأعرض عن المشركين الخ ، وإن كانت السورة نازلة نجوماً فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة . وثالثاً : أن قوله : إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إِلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوماً على رسول الله اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها ، وان المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور كرة الأرض خطأ وفرية . أما اولاً : فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت . واما ثانياً : فلأن الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت . واما ثالثاً : فلأن قوله : إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع ـ وإِنه اضحوكة ـ وليت شعري : ما هو الوجه المصحح ـ على قوله ـ لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحاً محفوظاً ؟ أذلك لكون هذا العالم محفوظاً عن التغير والتحول ؟ فهو عالم الحركات ، سيال الذات ، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظاً عن الفساد تكويناً أو تشريعاً ؟ فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظاً عن اطلاع غير أهله عليه ؟ كما يدل
عليه : قوله تعالى : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِ
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 7:55 pm | |
| عليه : قوله تعالى : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » الواقعة ـ 79 ، فإِدراك المدركين فيه على السواء ! . وبعد اللتيا والتي : لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية ، فإِن حاصل توجيهه : أن معنى : أنزل فيه القرآن : كأنما أُنزل فيه القرآن ، ومعنى : إنا أنزلناه في ليلة : كأنا أنزلناه في ليلة ، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق ! . ولو جاز لقائل أن يقول : نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال : إِن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة ، أي نزول إِجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقاً . وفي كلامه جهات اخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام . قوله تعالى : هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، الناس ، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح ، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى : « وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » الروم ـ 30 ، وقال تعالى : « وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ » العنكبوت ـ 43 ، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الامور المعنوية بالبينة والبرهان ، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إِلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم ، والقرآن هدى لهم ونعم الهدى ، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل ، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الالهية والركون إِلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم اليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز ، قال تعالى : « يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » المائدة ـ 16 . ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى ، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر . قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته ، وشهادة الشهر إِنما هو ببلوغه والعلم به ، ويكون بالبعض كما يكون بالكل . وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إِلا من طريق الملازمة في بعض الاوقات بحسب القرائن ، ولا قرينة في الآية . قوله تعالى : ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام اخر ، ايراد هذه الجملة في الآية ثانياً ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار . قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء : وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر ، وصيام عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة ، واللام في قوله : لتكملوا العدة ، للغاية ، وهو عطف على قوله : يريد ، لكونه مشتملاً على معنى الغاية ، والتقدير وانما أمرناكم بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة ، ولعل ايراد قوله : ولتكملوا العدة هو الموجب لاسقاط معنى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر وذكره في الآية السابقة . قوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون ، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية أنهما لبيان الغاية غاية اصل الصيام دون حكم الاستثناء فإِن تقييد قوله : شهر رمضان بقوله : الذي انزل فيه القرآن الى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية الى ان التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن واعلن ربوبيته وعبوديتهم ، وشكر له بما هداهم الى الحق ، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل . ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكراً لنعمه اذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف عن اعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير __________________ (1) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح ( منه ) . والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال : ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون كما قال : في اول الآيات : لعلكم تتقون . ( بحث روائي ) في الحديث القدسيَّ ، قال الله تعالى : الصوم لي وأنا اجزي به . أقول : وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير ، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي ، وغيره كالصلوة والحج وغيرهما متألف من الإِثبات أو لا يخلو من الاثبات ، والفعل الوجودي لا يتمحض في إِظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه ، لأنه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الإِنية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإِخلاد إلى الأرض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمراً بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى ، وقوله أنا اجزي به ، إِن كان بصيغة المعلوم كان دالا على انه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحداً كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد : ان الصدقة إِنما يأخذها الله من غير توسيطه أحداً ، قال تعالى ؟ « وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ » التوبة ـ 104 ، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال : ما يفطر ، ويفطر حتى يقال ، ما يصوم ، ثم ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود ، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر ، ثم ترك ذلك وفرّقها في كل عشرة يوماً خميسين بينهما اربعاء فقبض صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يعمل ذلك . وعن عنبسة العابد ، قال : قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر . أقول : والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي
كان يصومه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما عدا صوم رمضان . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ، قال : هي للمؤمنين خاصة . وعن جميل ، قال : سئلت الصادق عليهالسلام عن قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال ، يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام . قال : فقال : هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة . وفي الفقيه عن حفص قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول إِن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا فقلت له : فقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، قال : إِنما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الامم ففضل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى امته . أقول : والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده ، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالم عليهالسلام وكأن الروايتين واحدة ، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم ، الأنبياء خاصة ولو كان كذلك ، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب ، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم . وفي الكافي عمن سأل الصادق عليهالسلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد ؟ فقال : القرآن جملة الكتاب ، والفرقان الحكم الواجب العمل به . وفي الجوامع عنه عليهالسلام : الفرقان كل آية محكمة في الكتاب . وفي تفسيري العياشي والقمي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن ، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء . أقول : واللفظ يساعد على ذلك ، وفي بعض الأخبار أن رمضان اسم من اسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال : جاء رمضان وذهب ، بل شهر رمضان الحديث ، وهو واحد غريب في بابه ، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضاً من المفسرين . والأخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان ، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام بحيث يستبعد جداً نسبة التجريد إلى الراوي . وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال : قلت : لأبي عبد الله عليهالسلام إن ابن أبي يعفور ، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال : وما هي ؟ قلت : يقول لك : إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اسافر ؟ قال : إِن الله يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إِلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه . أقول : وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالاخذ بالاطلاق . وفي الكافي عن علي بن الحسين عليهالسلام قال : فأما صوم السفر والمرض فإِن العامة قد اختلفت في ذلك فقال : قوم يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إِن شاء صام وإِن شاء أفطر ، وأما نحن : فنقول : يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام اخر . أقول : ورواه العياشي أيضاً . وفي تفسير العياشي عن الباقر عليهالسلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال عليهالسلام : ما أبينها لمن عقلها ، قال : من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر . أقول : والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك ، وقد عرفت دلالة الآية عليه . وفي تفسير العياشي أيضاً عن أبي بصير قال : سألته عن قول الله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض . وفي تفسيره أيضاً عن الباقر عليهالسلام في الآية ، قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش . وفي تفسيره أيضاً عن الصادق عليهالسلام قال : المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير . أقول : والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير ايام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة ايام اخر فإِن المريض في قوله تعالى : فمن كان منكم مريضاً ، لا يشمله وهو ظاهر ، والعطاش مرض العطش . وفي تفسيره أيضاً عن سعيد عن الصادق عليهالسلام قال : إِن في الفطر تكبيراً ، قلت : ما التكبير إِلا في يوم النحر ، قال : فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد . وفي الكافي عن سعيد النقاش قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون ، قال : قلت : واين هو ؟ قال : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلوة الفجر وفي صلوة العيد ثم يقطع ، قال : قلت : كيف أقول ! قال : تقول الله اكبر . الله اكبر . لا إِله إِلا الله والله اكبر . الله اكبر على ما هدانا . وهو قول الله ولتكملوا العدة يعني الصلوة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول : الله اكبر . لا إِله إِلا الله والله اكبر . ولله الحمد ، قال : وفي رواية التكبير الآخر أربع مرات . أقول : اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب ، وقوله عليهالسلام : يعني الصلوة لعله يريد : أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة أيام الصوم بصلوة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم ، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، فإِنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاولى منه هذا ، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الاخيرة يؤيد ما قيل : إِن قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي . وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له ، جعلت
فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق هذا ؟ قال ما خلق الله من هذا حرفاً فما صام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إِلا ثلاثين لان الله يقول : ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه . اقول : قوله : فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري ، والرواية تدل على ما قدمناه : أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان . وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله : ولتكبروا الله على ما هداكم قال : التكبير التعظيم ، والهداية الولاية . اقول : وقوله : والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق : ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلاً كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية ، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله . وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبيعبد الله ، قال : سئلته عن قول الله عز وجل : شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال أبو عبد الله : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة ، ثم قال : قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان . اقول : ما رواه عليهالسلام عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن وائلة بن الاسقع عن النبي . وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة ؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن . وفي الدر المنثور عن ابن عباس : قال : شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إِلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد
صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد ذلك في الامر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً . اقول : وروي هذا المعنى عن غيره أيضاً كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إِنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى : « وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ » آل عمران ـ 58 وفي قوله تعالى : « وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ » الطور ـ 5 ، وقوله تعالى : « فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » الواقعة ـ 79 ، وقوله تعالى : « وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا » حم السجدة ـ 12 ، وجميع ذلك ظاهر إِلا ما ذكره في مواقع وانه السماء الاولى وموطن القرآن فإِن فيه خفاء ، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك ، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء ، وسيجيء الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى ، ومما يجب أن يعلم ان الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه ، والكلام على الاشارة والرمز شائع فيه ، ولا سيما في امثال هذه الحقائق : من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور ، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ـ 186 . ( بيان ) قوله تعالى : وإِذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداع إِذا دعان ، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق اسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها ، وفيه دلالة على كمال العناية ، بالأمر ، ثم قوله : عبادي ، ولم يقل : الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية ، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال : فإِني قريب ولم يقل : فقل إنه قريب ، ثم التأكيد بإِن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل
الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه ، ثم الدلالة على تجدد الاجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما ، ثم تقييده الجواب أعني قوله : أُجيب دعوة الداع بقوله : إِذا دعان ، وهذا القيد لا يزيد على قوله : دعوة الداع المقيد به شيئاً بل هو عينه ، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى : « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » المؤمن ـ 60 ، فهذه سبع نكات في الآية تنبيء بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها ، مع كون الآية قد كرر فيها ـ على إيجازها ـ ضمير المتكلم سبع مرات ، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف . والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي ، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره ، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره . ثم إن العبودية كما مر سابقاً هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب اليه تعالى . وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وساير ما ينسب إِليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها ، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الانحاء كما في قولنا : نفسه ، وبدنه ، وسمعه ، وبصره ، وفعله ، وأثره ، وهي أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا : زوجه وماله وجاهه وحقه ، ـ وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار ـ إنما يملكونه بإِذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون ايّاما كان وتمليكه فالله عز اسمه ، هو الذي اضاف نفوسهم واعيانهم اليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس ، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والافئدة ، وهو الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً . فهو سبحانه الحائل بين الشيء ونفسه ، وهو الحائل بين الشيء وبين كل ما يقارنه : من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو اقرب الى خلقه من كل
شيء مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى : « وَنَحْنُ أَقْرَبُ اليه مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ » الواقعة ـ 85 ، وقال تعالى : « وَنَحْنُ أَقْرَبُ اليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » ق ـ 16 ، وقال تعالى : « أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ » الانفال ـ 24 ، والقلب هو النفس المدركة . وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقياً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الاطلاق واقرب اليهم من كل شيء عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب اي دعاء دعى به احد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان الملك عام ، والسلطان والاحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود : ان الله لما خلق الاشياء وقدر التقادير تم الامر ، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء ، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان الامر مفروغ عنه ، ولا كما يقوله جماعة من هذه الامة : ان لا صنع لله في افعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مجوس هذه الامة فيما رواه الفريقان من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : القدرية مجوس هذه الامة . بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شيء شيئاً الا بتمليك منه سبحانه واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه ، يقع ، وما لم يشاء ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ » الفاطر ـ 15 . فقد تبين : ان قوله تعالى : واذا سألك عبادي عني فاني قريب أُجيب دعوة الداع اذا دعان ، كما يشتمل على الحكم اعني اجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربه منهم ، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم ، واطلاق الاجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فانه مجيبه الا ان ههنا امراً وهو انه تعالى قيد قوله : اجيب دعوة الداع بقوله اذا دعان ، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه ، فان قولنا : اصغ الى قول الناصح اذا نصحك أو اكرم العالم اذا كان عالماً يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة ، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي
يجب الاصغاء إِلى قوله والعالم إِذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إِكرامه فقوله تعالى إِذا دعان ، يدل على أن وعد الاجابة المطلقة ، إنما هو إِذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئاً لسانه قلبه ، فإِن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة ، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أُدير صدقاً أو كذباً جداً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً ، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالاً ، قال تعالى : « وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِن الانسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » ابراهيم ـ 34 ، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر ، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطرياً وجودياً ، وقال تعالى : « يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ » الرحمن ـ 29 ، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح . فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الاجابة ، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الاجابة فقد فقد أحد أمرين وهما اللذان ذكرهما بقوله : دعوة الداع إِذا دعان . فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء ، وانما التبس الأمر على الداعي التباساً كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إِحياء الميت ، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الانبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك ، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه . وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالاسباب العادية أو بامور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره ، لا من يعمل بشركة الاسباب والاوهام ، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإِن أخلصوه بلسانهم . فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية ، وبه يظهر معاني سائر الآيات
( 2 ـ الميزان ـ 3 ) النازلة في هذا الباب كقوله تعالى : « قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ » الفرقان ـ 77 وقوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ اليه إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ » الانعام ـ 41 ، وقوله تعالى : « قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ » الانعام ـ 64 ، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزياً وسؤالاً فطرياً يسأل به ربه ، غير انه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلقت نفسه بالاسباب فأشركها لربه ، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه ، مع انه لا يسأل غيره فإِنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى ، ولما وقع الشدة وطارت الاسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله ، فعاد إِلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الاسباب ، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء ، ثم إذا تلبس به ثانياً عاد الى ما كان عليه أولاً من الشرك والنسيان . وكقوله تعالى : « وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ » المؤمن ـ 60 ، والآية تدعو الى الدعاء وتعد بالاجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها : عن عبادتي أي عن دعائي ، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث انها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار انما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض اقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك . وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى : « فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ » المؤمن ـ 14 ، وقوله تعالى : « وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ » الأعراف ـ 56 ، وقوله تعالى : « وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ » الانبياء ـ 90 ، وقوله تعالى : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » الأعراف ـ 55 ، وقوله تعالى : « إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ، الى قوله ، وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا » مريم ـ 4 ، وقوله تعالى : « وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ » الشورى ـ 26 ، الى غير ذلك من الآيات المناسبة ، وهي تشتمل على
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 7:57 pm | |
| اركان الدعاء وآداب الداعي ، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى ، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات . قوله تعالى : فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام : ان الله تعالى قريب من عباده ، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء ، وهو ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه ، فهو يدعوهم الى دعائه ، وصفته هذه الصفة ، فليستجيبوا له في هذه الدعوة ، وليقبلوا اليه ، وليؤمنوا به في هذا النعت ، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه . ( بحث روائي ) عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما رواه الفريقان : الدعاء سلاح المؤمن ، وفي عدة الداعي في الحديث القدسى : يا موسى سلني كل ما تحتاج اليه حتى علف شاتك وملح عجينك . وفي المكارم عنه عليهالسلام الدعاء افضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال : « قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ » ، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام . وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أوحى الله الى بعض انبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي ، ايأمل عبدي في الشدائد غيري ، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد ، بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني ؟ الحديث . وفي عدة الداعي ايضاً عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت اسباب السموات واسباب الارض من دونه فان سئلني لم أعطه وان دعاني لم أجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السموات والارض
رزقه ، فإِن دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان استغفرني غفرت له . اقول : وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إِبطالاً لسببية الاسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الاشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللاً فياضة مستقلة دون الله سبحانه ، وللانسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته ان لحاجته سبباً معطياً لا يتخلف عنه فعله ، ويشعر ايضاً ان كل ما يتوجه اليه من الاسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتديء عنه كل امر ، والركن الذي يعتمد عليه ويركن اليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الاسباب ولازم ذلك ان لا يركن الركون التام الى شيء من هذه الاسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري ، والانسان ينتقل الى هذه الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك انه سئل ربه واتصل حاجته ، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الاسباب الى ربه فاستفاض منه ، وإذا طلب ذلك من سبب من الاسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وانما هو امر صوره له تخيله لعلل اوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة ، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر . ونظير ذلك : ان الانسان كثيراً ما يحب شيئاً ويهتم به حتى اذا وقع وجده ضاراً بما هو أنفع منه واهم واحب فترك الاول وأخذ بالثاني ، وربما هرب من شيء حتى اذا صادفه وجده أنفع وخيراً مما كان يتحفظ به فأخذ الاول وترك الثاني ، فالصبي المريض اذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة ، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه ، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط ، واما النظام التخيلي فكثيراً ما يقع فيه الخطاء والسهو ، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئاً ، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه ، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الاحاديث ، وهو اللائح من قول علي عليهالسلام فيما سيأتي : أن العطية على قدر النية الحديث . وفي عدة الداعي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة . وفي الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلا خيراً . اقول : وذلك ان الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة . كما مر ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون . وفي العدة أيضاً عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إفزعوا الى الله في حوائجكم ، والجأوا اليه في ملماتكم ، وتضرعوا اليه وادعوه ، فإن الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة ، واما أن يكفز له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم . وفي نهج البلاغة : في وصية له عليهالسلام لابنه الحسين عليهالسلام : ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئابيب رحمته ، فلا يقنطنك إبطاء إِجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل ، واجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه واوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفي عنك وباله ، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له . اقول : قوله : فإِن العطية على قدر النية يريد عليهالسلام به : ان الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه ، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه ، فإِن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي احسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والاجابة . وقد بيّن عليهالسلام بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً كالابطاء في الاجابة ، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا ، أو بما هو خير منه في الآخرة ، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل ، فإِن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطىء إِجابتها لأن السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الاجابة على بطؤ ، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك ويزعم ان فيه سعادته
وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا . وفي عدة الداعي عن الباقر عليهالسلام ما بسط عبد يده الى الله عزّ وجل إِلا استحيى الله أن يردها صفراً حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإِذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه ، وفي خبر آخر على وجهه وصدره . اقول : وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان ، وجابر ، وعبد الله بن عُمر ، وأنس بن مالك ، وابن أبي مغيث عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ثماني روايات ، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللاً بأنه من التجسيم إِذ رفع اليدين إِلى السماء ايماء الى أنه تعالى فيها ـ تعالى عن ذلك وتقدس ـ . وهو قول فاسد ، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إِلى موطن الصورة ، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم ، كما هو ظاهر في الصلوة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها ، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية ؛ ومنها الدعاء ، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط ، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة ، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسنداً عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين عليهالسلام عن النبي ، وفي عدة الداعي مرسلاً أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يرفع يديه إِذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين . وفي البحار عن علي عليهالسلام أنه سمع رجلاً يقول : اللهم إِني أعوذ بك من الفتنة ، قال عليهالسلام : أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى : « أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ » ولكن قل : اللهم إِني أعوذ بك من مضلات الفتن . اقول : وهذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات ، وفيها : أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه ، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء والكثير وغير ذلك . وفي عدة الداعي عن الصادق عليهالسلام : إِن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه . وفي العدة أيضاً عن علي عليهالسلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه . اقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو . وفي دعوات الراوندي : في التوراة يقول الله عزّ وجل للعبد : إِنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك ، وإن شئت أخرتكما إِلى يوم القيامة . اقول : وذلك أن من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات ، فإِذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم ، واذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره ، وإِن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة ، قال تعالى : « وَيَدْعُ الانسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الانسان عَجُولًا » الاسراء ـ 11 . وفي عدة الداعي : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لابي ذر : يا أبا ذر ألا اعلمك كلمات ينفعك الله عزّ وجل بهن ؟ قلت بلى يا رسول الله ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : احفظ الله يحفظك الله ، احفظ الله تجده امامك ، تعرّف إِلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإِذا سألت فاسأل الله ، وإِذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إِلى يوم القيامة ، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه . اقول : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة : يعني : ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك ، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الاسباب في الرخاء ، ثم إِذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها ، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير ، فهو لم يدع ربه ، وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر ، ففي مكارم الأخلاق عن الصادق عليهالسلام قال عليهالسلام من تقدم في الدعاء أُستجيب له إِذا نزل البلاء ، وقيل : صوت معروف ، ولم
يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له اذا نزل البلاء وقالت الملائكة : ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث ، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى : « نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ » التوبة ـ 67 ، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع ، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : واذا سئلت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله ، ارشاد الى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإِن هذه الاسباب العادية التي بين أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الإِيصال ، والامر بيد الله تعالى ، فإِذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إِلى سبب بعد سبب ، وإِن كان أبى الله أن يجري الامور الا بأسبابها وهذه دعوة الى عدم الاعتماد على الاسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية الى الغاء الاسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه ، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب ، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك أسباب ؟ واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإِلغاء الأسباب كان كمن سأل الانسان أن يناوله شيئاً من غير يد أو ينظر اليه من غير عين أو يستمع من غير أُذن ، ومن ركن الى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل ، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهية غير المتناهية ولا سلباً للاختيار الواجبي ، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه ، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة الى الفعل لا الى الفاعل ، اذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون الا باليد ، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقاً ، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الاسباب فزيد مثلاً وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا ، لو تخلف واحد من هذه العلل
والشرائط لم يكن هو هو ، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها ، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فقد جرى القلم بما هو كائن الى يوم القيامة ، تفريع على قوله : واذا سألت فاسأل الله ، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله : واذا سألت ، وسببه ، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة ، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى ، وأما هو تعالى : فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن ، ولذلك عقب الجملة بقوله : ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ . ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً : ان الدعاء من القدر . اقول : وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء : ان الحاجة المدعو لها اما ان تكون مقضية مقدرة أولا ، وهي على الاول واجبة وعلى الثاني ممتنعة ، وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء ، والجواب : أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده ، والدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه ، وهذا هو المراد بقولهم : ان الدعاء من القدر ، وفي هذا المعنى روايات أُخر . ففي البحار عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يرد القضاء الا الدعاء . وعن الصادق عليهالسلام : الدعاء يرد القضاء بعد ما أُبرم ابراماً . وعن أبي الحسن موسى عليهالسلام : عليكم بالدعاء فإِن الدعاء والطلب الى الله عزّ وجل يرد البلاء ، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإِذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفاً . وعن الصادق عليهالسلام ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أُبرم ابراماً ـ فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه . اقول : وفيها اشارة الى الإِصرار وهو من محققات الدعاء ، فان كثرة الاتيان
بالقصد يوجب صفائه . وعن اسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليهالسلام : دعوة العبد سراً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية . اقول : وفيها اشارة الى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب . وفي المكارم عن الصادق عليهالسلام : لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلي على محمد وآل محمد . وعن الصادق عليهالسلام أيضاً ، من قدّم أربعين من المؤمنين ثم دعا أُستجيب له . وعن الصادق عليهالسلام ايضاً ـ وقد قال له رجل من اصحابه اني لأجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا اجدهما ـ قال : فقال : وما هما ؟ قلت : ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى اجابة ، قال افترى الله اخلف وعده ؟ قلت : لا ، قال : فمه ؟ قلت : لا ادري قال : لكني أخبرك من أطاع الله فيما امر به ثم دعاه من جهة الدعاء اجابه ، قلت : وما جهة الدعاء ؟ قال : تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء ، ثم قال : وما الآية الاخرى ؟ قلت : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وأراني أُنفق ولا أرى خلفاً ، قال : افترى الله اخلف وعده ؟ قلت : لا ، قال : فمه ؟ قلت : لا أدري ، قال : لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وانفق في حقه لم ينفق درهماً الا اخلف الله عليه . اقول : والوجه في هذه الاحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة . وفي الدر المنثور عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان الله اذا اراد ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء . وعن ابن عمر ايضاً عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له ابواب الرحمة ، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له ابواب الجنة . اقول : وهذه المعنى مروي من طرق ائمة اهل البيت ايضاً : من أُعطي الدعاء أُعطي الاجابة ، ومعناه واضح مما مر . وفي الدر المنثور ايضاً عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال . اقول : وذلك ان الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون الى الاسباب يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة واسبابها العادية حتى ان الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الاذعان بتعين الطرق ووساطة الاسباب المتوسطة فإِنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثم اذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب ، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن اسبابها وان لم يكن للأسباب الا الوساطة دون التأثير ، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإِنه لا يلائم السلطنة التامة الالهية ، وهذا التوهم هو الذي اوجب ان نعتقد استحالة تخلف المسببات عن اسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم ، والقرب عن الحركة ، والشبع عن الاكل ، والريّ عن الشرب ، وهكذا ، وقد مر في البحث عن الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية ، وبعبارة أُخرى توسط الاسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على اسبابها العادية بل البحث العقلي النظري ، والكتاب والسنة تثبت اصل التوسط وتبطل الانحصار ، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها . اذا عرفت هذا علمت : ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإِن الدعاء مستجاب فيه كما ان العمدة من معجزات الانبياء راجعة الى استجابة الدعوة . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : في قوله تعالى : فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون اني اقدر ان أُعطيهم ما يسألوني . وفي المجمع ، قال : وروي عن ابي عبد الله عليهالسلام انه قال : وليؤمنوا بي اي وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون ، اي لعلهم يصيبون الحق ، اي يهتدون اليه . أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ 187 . ( بيان ) قوله تعالى : أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، الاحلال بمعنى الاجازة ، وأصله من الحل مقابل العقد ، والرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره ، من الالفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء ، وقد كني به هىٰهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الالفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والاتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية ، وكذا لفظ الوطىء والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإِن اخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إِلى التصريح ، كما ان الفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل ، وتعدية الرفث بإِلى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل . قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ، الظاهر من اللباس معناه المعروف وهو ما يستر به الانسان بدنه ، والجملتان من قبيل الاستعارة فإِن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباساً يواري به سوأته ويستر به عورته . وهذه استعارة لطيفة ، وتزيد لطفاً بانضمامها إِلى قوله : احل لكم ليلة الصيام
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 7:58 pm | |
| الرفث إِلى نسائكم ، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس ، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقي به صاحبه عن الرفث إِلى غيره ، واما الرفث اليه فلا لانه لباسه المتصل بنفسه المباشر له . قوله تعالى : علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ، الاختيان والخيانة بمعنى ، وفيه معنى النقص على ما قيل ، وفي قوله : انكم تختانون ، دلالة على معنى الاستمرار ، فتدل الآية على ان هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سراً بالخيانة لأنفسهم ، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو ، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما ، وخاصة اذا اجتمعا ، ظاهر ان في ذلك . وعلى هذا فالآية دالة على ان حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام ، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين ، ويشعر به أو يدل عليه قوله : أُحل لكم ، وقوله : كنتم تختانون ، وقوله : فتاب عليكم وعفا عنكم ، وقوله : فالآن باشروهن ، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال : فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى ، وهو ظاهر . وربما يقال : ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة الى الجماع أو إلى الاكل والشرب ، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق اهل السنة والجماعة ، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية ، فهموا منه التساوي في الاحكام من جميع الجهات ، وقد كانت النصارى كما قيل : إِنما ينكحون ويأكلون ويشربون في اول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون ، غير ان ذلك صعب عليهم ، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سراً مع كونهم يرونه معصية وخيانة لأنفسهم ، والشيوخ ربما اجهدهم الكف عن الاكل والشرب بعد النوم ، وربما اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الاكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح والاكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان ، وظهر بذلك : ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم ، التشبيه في اصل فرض الصوم لا في
خصوصياته ، واما قوله تعالى : أُحل لكم ، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى : « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ » المائدة ـ 96 ، اذ من المعلوم ان صيد البحر لم يكن محرماً على المحرمين قبل نزول الآية ، وكذا قوله تعالى « عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ » ، انما يعني به انهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ، ولذا قال : تختانون انفسكم ولم يقل : تختانون الله كما قال : « لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ » الأنفال ـ 27 ، مع احتمال ان يراد بالاختيان النقص ، والمعنى علم الله انكم كنتم تنقصون انفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره ، وكذا قوله تعالى : فتاب عليكم وعفا عنكم ، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا . وفيه ما عرفت : ان ذلك خلاف ظاهر الآية فإِن قوله تعالى : أُحل لكم ، وقوله : كنتم تختانون انفسكم ، وقوله : فتاب عليكم وعفا عنكم ، وان لم تكن صريحة في النسخ غير ان لها كمال الظهور في ذلك ، مضافاً الى قوله تعالى : فالآن باشروهن « الخ » ، اذ لو لم يكن هناك الا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر ، واما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فانها لم تبين سائر احكام الصوم ايضاً مثل حرمة النكاح والاكل والشرب في نهار الصيام ، ومن المعلوم ان رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الاحكام ، والآية تنسخ ما بينه الرسول وان لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك . فان قلت : قوله تعالى : هن لباس لكم وانتم لباس لهن ، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد ان لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة ان يعلل النسخ بما يعم الناسخ والمنسوخ معاً وان قلنا : ان هذه التعليلات الواقعة في موارد الاحكام حكم ومصالح لا علل ، ولا يلزم في الحكمة ان تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرماً قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء وهن لباس لهم . قلت : اولاً انه منقوض بتقييد قوله : أُحل لكم بقوله : ليلة الصيام مع ان
حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار ، وثانياً : ان القيود المأخوذة في الآية من قوله : ليلة الصيام ، وقوله : هن لباس لكم ، وقوله : انكم كنتم تختانون انفسكم ، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون احد الزوجين لباساً للآخر يوجب ان يجوز الرفث بينهما مطلقاً ، ثم حكم الصيام المشار اليه بقوله : ليلة الصيام ، والصيام هو الكف والامساك عن مشتهيات النفس من الاكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه الى غير مورد الصيام ، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهراً كاملاً عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية يوجب تسهيلاً ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلاً ، وبذلك يعود اطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام الى بعض اطلاقه وهو ان يعمل به ليلاً لا نهاراً ، والمعنى والله اعلم : ان اطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلاً ونهاراً وحرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا انكم تختانون انفسكم فيه واردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة ، واعدنا اطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام الى الليل . والحاصل : ان قوله تعالى : هن لباس لكم وانتم لباس لهن ، وان كان علة أو حكمة لإِحلال أصل الرفث الا ان الغرض في الآية ليس متوجهاً اليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله : هن لباس لكم الى قوله : وعفا عنكم ، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعاً . قوله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، أمر واقع بعد الحضر فيدل على الجواز ، وقد سبقه قوله تعالى : في أول الآية : احل لكم والمعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن ، والابتغاء هو الطلب ، والمراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الانساني من طريق المباشرة ، وفطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوه النكاح والمباشرة ، وسخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وإِن لم يقصدوا ظاهراً إلا ركوب الشهوة ونيل اللذة كما انه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالاكل والشرب وهو المطلوب الفطري وان لم يقصدوا بالاكل والشرب إِلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري ، فإِنما هو تسخير إِلهي . واما ما قيل : ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإِن الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه ، فيبعده : ان الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة . قوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ، الفجر فجران ، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب اذا شاله ، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الافق الشرقي اذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الافق الى ثمانية عشر درجة تحت الافق ، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضاً مستطيلاً على الافق كالخيط الابيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ، ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس . ومن هنا يعلم ان المراد بالخيط الابيض هو الفجر الصادق ، وان كلمة من ، بيانية وان قوله تعالى : حتى يتبيّن لكم الخيط الاسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الافق من الفجر ، المجاور لما يمتد معترضاً معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبيّن من الخيط الاسود . ومن هنا يعلم أيضاً : ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فان ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود . قوله تعالى : ثم اتموا الصيام الى الليل ، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام الى الليل بعد تبيّنه استغنى عن ذكره ايثاراً للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه الى الليل ، وفي قوله : اتموا دلاله على انه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير ان تكون مركبة من أُمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة ، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث ان الاول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده ، قال تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » المائدة ـ 3 ، فإن الدين مجموع الصلوة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به ، بخلاف النعمة على ما سيجىء بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية . قوله تعالى : ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد ، العكوف والاعتكاف هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الاقامة فيه ملازماً له . والاعتكاف عبادة خاصة من احكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه الا لعذر والصيام معه ، ولذلك صح ان يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى : ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد . قوله تعالى : تلك حدود الله فلا تقربوها ، أصل الحد هو المنع واليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد الى غير ذلك ، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي اليها ، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الاكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الاحكام والحرمات الإِلهية التي بيّنها لكم وهي احكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها . ( بحث روائي ) في تفسير القمي عن الصادق عليهالسلام قال : كان الاكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار ، وكان النكاح حراماً في الليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوّات بن جبير الانصاري اخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشِعب يوم أُحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه وبقي في اثنى عشر رجلاً فقتل على باب الشعب ، وكان اخوه هذا خوّات بن جبير شيخاً كبيراً ضعيفاً ، وكان صائماً مع رسول الله في الخندق ، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام ؟ فقالوا : لا تنم حتى نصنع لك طعاماً فأبطأت عليه اهله بالطعام فنام قبل ان يفطر ، فلما انتبه قال لأهله ، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما اصبح حضر حفر الخندق فاغمى عليه فرآه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرقّ له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان فأنزل الله : أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إِلى نسائكم الآية ، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان ، والاكل بعد النوم إِلى طلوع الفجر
( 2 ـ الميزان ـ 4 ) لقوله : حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ، قال : هو بياض النهار من سواد الليل . اقول : وقوله : يعني إِلى قوله : وكان رجل ، من كلام الراوي ، وهذا المعنى مروي بروايات أُخرى ، رواها الكليني والعياشي وغيرهما ، وفي جميعها ان سبب نزول قوله : وكلوا واشربوا « الخ » ، إنما هو قصة خوات بن جبير الانصاري وان سبب نزول قوله : أُحل لكم « الخ » ، ما كان يفعله الشبان من المسلمين . وفي الدر المنثور عن عدة من اصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إِذا كان الرجل صائماً فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الانصاري كان صائماً فكان يومه ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك ، أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فنزلت هذه الآية أُحل لكم ليلة الصيام الرفث ، إِلى قوله : من الفجر ففرحوا بها فرحاً شديداً . اقول : وروي بطرق أُخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمه بن مالك الانصاري على اختلاف ما في القصة . وفي الدر المنثور أيضاً : واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس : ان المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إِن ناساً من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك الى رسول الله فأنزل الله أُحل لكم ليلة الصيام ، الى قوله : فالآن باشروهن يعني انكحوهن . اقول : والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر ، وهي متحدة في ان حكم النكاح بالليل كحكم الاكل والشرب وأنها جميعاً كانت محللة قبل النوم محرمة بعده ، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاولى ان النكاح كان محرماً في شهر رمضان بالليل والنهار جميعاً بخلاف الاكل والشرب فقد كانا محللين في اول الليل قبل النوم محرمين بعده ، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الاكل والشرب
محللاً قبل النوم محرماً بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله : كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض الخ ، وقد قال تعالى : أُحل لكم ليلة الصيام الرفث ، ولم يأت بقيد يدل على الغاية ، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات : ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الاكل والشرب ايضاً لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله : علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم « الخ » ، قبل قوله : كلوا واشربوا . وفي الدر المنثور ايضاً : ان رسول الله قال : الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه ، واما المستطيل الذي يأخذ الافق فإنه يحل الصلوة ويحرّم الطعام . اقول : والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه . وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ـ 188 . ( بيان ) قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، المراد بالاكل الاخذ أو مطلق التصرف مجازاً ، والمصحح لهذا الاطلاق المجازي كون الاكل أقرب الافعال الطبيعية التي يحتاج الانسان إلى فعلها وأقدمها فالانسان أول ما ينشاء وجوده يدرك حاجته إِلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك ، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه ، ولذلك كان تسمية التصرف والاخذ ، وخاصة في مورد الاموال ، أكلاً لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات . والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك ، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل
اليه القلب ، والبين هو الفصل الذي يضاف إِلى شيئين فأزيد ، والباطل يقابل الحق الذي هو الامر الثابت بنحو من الثبوت . وفي تقييد الحكم ، أعني قوله : ولا تأكلوا أموالكم ، بقوله : بينكم ، دلالة على ان جميع الاموال لجميع الناس وإِنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيماً حقاً بوضع قوانين عادلة تعدّل الملك تعديلاً حقاً يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلاً ، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى : خلق لكم ما في الارض جميعاً وفي إضافته الاموال إِلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الانساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الارض على ما يذكره النقل والتاريخ ، وقد ذكر هذا الاصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مأة مورد ولا حاجه إلى إِيرادها في هذا الموضع ، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى : « وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ » البقره ـ 275 ، وقوله تعالى : « لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ » النساء ـ 29 ، وقوله تعالى : « تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا » التوبة ـ 24 ، وغيرها ، والسنة المتواترة تؤيده . قوله تعالى : وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً ، الإدلاء هو ارسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي ، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إِلى من يريده ، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء ، والجملة معطوفة على قوله : تأكلوا ، فالفعل مجزوم بالنهي ، ويمكن ان يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوباً بأن المقدرة ، التقدير مع ان تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد ، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لانفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها اليه واخذ الراشي فريقاً آخر منها بالإثم وهما يعلمان ان ذلك باطل غير حق . ( بحث روائي ) في الكافي عن الصادق عليهالسلام في الآية : كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم
الله عن ذلك . وفي الكافي ايضاً عن ابي بصير قال : قلت لابي عبد الله عليهالسلام : قول الله عز وجل في كتابه : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام ، قال يا أبا بصير إِن الله عز وجل قد علم ان في الامة حكاماً يجورون ، اما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكام اهل الجور ، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إِلى حكام اهل العدل فأبى عليك إِلا ان يرافعك إلى حكام اهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إِلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل اليك وما أُنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إِلى الطاغوت . وفي المجمع قال : روي عن ابي جعفر عليهالسلام : يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الاموال . اقول : وهذه مصاديق والآية مطلقة . ( بحث علمي اجتماعي ) كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة ، ومنها النبات والحيوان والانسان ، فإِنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن ان ينتفع به في إِبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه ، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال ، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود اليه ، فهذه انواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها ، وكذلك اقسام الحيوان والانسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعاً خيالياً أو عقلياً ، فهذا مما لا شبهة فيه . وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية ، والحيوان والانسان بالشعور الغريزي ان التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى ان الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين ( فهذا حاصل الامر وملاكه ) ولذلك فالفاعل من الانسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإِنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه ، وهذا اصل الاختصاص الذي
لا يتوقف في اعتباره إنسان ، وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك ، ولي ان افعل كذا ولك ان تفعل كذا . ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عشّ أو كنّ أو وكر أو ما أصطاده أو وجده ، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك ، وما نشاهده من تشاجر الاطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي ، ثم إِن ورود الانسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إِلا ما ادركه بأصل الفطرة إِجمالاً ، ولا يوجب إِلا إصلاح ما كان وضعه أولاً وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة ، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي المذكور أنواعاً متفرقه ذوات أسام مختلفه فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك . وهم وإِن أمكن ان يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك ، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالانسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إِلى غير ذلك من الجهات ، فيزيدوا في بعض ، وينقصوا من بعض ، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض ، لكن اصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره ، ولذلك نرى ان المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه الى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من اصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري ، وفي بطلان الفطرة فناء الانسان . وسنبحث في ما يتعلق بهذا الاصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والارث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك انشاء الله العزيز . يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ـ 189 . ( بيان ) قوله تعالى : يسئلونك الى قوله : والحج ، الاهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالاً اول الشهر القمري اذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الاولى والثانية كما قيل ، وقال بعضهم الليالي الثلاثة الاول ، وقال بعضهم حتى يتحجر ، والتحجر ان يستدير بخطة دقيقة ، وقال بعضهم : حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمراً ويسمى في الرابعة عشر بدراً ، واسمه العام عند العرب الزبرقان . والهلال مأخوذ من استهل الصبي اذا بكى عند الولادة أو صاح ، ومن قولهم : أهل القوم بالحج اذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، سمي به لان الناس يهلون بذكره اذا رأوا . والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل ، ويطلق ايضاً : على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن ، والمراد هىٰهنا الاول . وفي قوله تعالى : يسئلونك عن الاهلة ، وان لم يشرح ان السؤال في امرها عماذا ؟ عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال والقمر والبدر كما قيل ، أو عن حقيقة الهلال فقط ، الظاهر بعد المحاق في اول الشهر القمري كما ذكره بعضهم أو عن غير ذلك . ولكن اتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل : يسئلونك عن الاهلة دليل على ان السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته اذ لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال : يسئلونك عن القمر لا عن الاهلة ، وايضاً لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص كان الانسب ان يقال : يسئلونك عن الهلال اذ لا غرض
حينئذ يتعلق بالجمع ، ففي اتيان الاهلة بصيغة الجمع دلالة على ان السؤال انما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالاً بعد هلال ورسمه الشهور القمرية ، وعبر عن ذلك بالاهلة لانها هي المحققة لذلك فاجيب بالفائدة . ويستفاد ذلك من خصوص الجواب : قل هي مواقيت للناس والحج ، فإِن المواقيت وهي الازمان المضروبة للافعال ، والاعمال انما هي الشهور دون الاهلة التي ليست بأزمنة وانما هي أشكال وصور في القمر . وبالجملة قد تحصل ان الغرض في السؤال انما كان متعلقاً بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فاجيب ببيان الفائدة وانها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم فإن الانسان لا بد له من حيث الخلقة من ان يقدر أفعاله واعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان ، ولازم ذلك ان يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أُمورهم قطعاً صغاراً وكباراً مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الالهية التي تدبر امور خلقه وتهديهم الى صلاح حياتهم ، والتقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع انما هو تقطيع الايام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الإِدراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الانسان الا بعد قرون واحقاب من بدء حياته في الارض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائماً . فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في امور دينهم ودنياهم وللحج خاصة فإنه أشهر معلومات ، وكأن اختصاص الحج بالذكر ثانياً تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور . قوله تعالى : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إِلى قوله : من ابوابها ، ثبت بالنقل ان جماعة من العرب الجاهلي كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقباً من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الاسلام وامرهم بدخول البيوت من ابوابها ، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن ، وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله . ولو لا ذلك لامكن ان يقال : ان قوله : وليس البر إلى آخره ، كناية عن النهي
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:00 pm | |
| عن امتثال الاوامر الالهية والعمل بالاحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرّعت عليه ، فلا يجوز الحج في غير أشهره ، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة عليهذا متمما لاول الاية ، وكان المعنى : ان هذه الشهور أوقات مضروبة لاعمال شرعت فيها ولا يجوز التعدي بها عنها الى غيرها كالحج في غير أشهره ، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الاية مشتملة على بيان حكم واحد . وعلى التقدير الاول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إِتيان البيوت من ظهورها يدل على ان العمل المذكور لم يكن مما امضاه الدين وإِلا لم يكن معنى لنفى كونه براً فانما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر ، وأثبت ان البر هو التقوي ، وكان الظاهر ان يقال : ولكن البر هو التقوي ، وانما عدل الى قوله : ولكن البر من اتقى ، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى : ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن الآية . والامر في قوله تعالى : وأتوا البيوت من أبوابها ، ليس امراً مولوياً وإِنما هو إِرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجرى على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلاً ومخرجاً فيها ، فإِن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي ، فلا يدل على أزيد من الهداية إِلى طريق الصواب من غير إِيجاب ، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة . قوله تعالى : واتقوا الله لعلكم تفلحون ، قد عرفت في أول السورة ان التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال ، ومن المعلوم ان جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الاخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإِنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة ، ولذلك قال تعالى : واتقوا الله لعلكم تفلحون ، فأتى بكلمة الترجي ، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إِتيان البيوت من ظهورها .
( بحث روائي ) في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سأل الناس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الاهلة فنزلت هذه الآية « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ » يعلمون بها أجل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم . أقول : وروى هذا المعنى فيه بطرق أُخر عن ابي العالية وقتادة وغيرهما ، وروي أيضاً أن بعضهم سأل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن حالات القمر المختلفة فنزلت الآية . وهذا هو الذي ذكرنا آنفاً انه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به . وفي الدر المنثور أيضاً : أخرج وكيع ، والبخاري ، وابن جرير عن البراء : كانوا إِذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها . وفي الدر المنثور أيضاً اخرج ابن ابي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الابواب في الاحرام وكانت الانصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بستان اذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الانصاري فقالوا : يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإِنه خرج معك من الباب فقال له : ما حملك على ما فعلت قال : رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال : إِني رجل أحمس قال : فإن ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها . اقول : وقد روي قريباً من هذا المعنى بطرق أُخرى ، والحمس جمع أحمس كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم وشدة بأسهم . وظاهر الرواية ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله : ما حملك على ما صنعت « الخ » ، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة ، وهي تنسخ حكماً مشرعاً من غير آية هذا ، ولكنك قد عرفت ان الآية تنافيه حيث تقول : ليس البر بأن تأتوا ، وحاشا الله سبحانه
ان يشرع هو أو رسوله بأمره حكماً من الاحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر . وفي محاسن البرقي عن الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : وأتوا البيوت من أبوابها قال يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الامور كان . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : الاوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه . أقول : الرواية من الجرى وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الاولى ، ولا شك ان الآية بحسب المعنى عامة وإِن كانت بحسب مورد النزول خاصة ، وقوله عليهالسلام ولولاهم ما عرف الله ، يعني البيان الحق والدعوة التامة الذين معهم ، وله معنى آخر أدق لعلنا لعلنا نشير اليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات في معنى الروايتين كثيرة . وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ـ 190 . وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ـ 191 . فإِنِ انتَهَوْا فإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ 192 . وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ـ 193 . الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ـ 194 . وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ـ 195 .
( بيان ) سياق الآيات الشريفة يدل على انها نازلة دفعة واحدة ، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لاول مرة مع مشركي مكة ، فإِن فيها تعرضاً لاخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين ، وللفتنة ، وللقصاص ، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده ، وكل ذلك امور مربوطة بمشركي مكة ، على انه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم ان قاتلوكم وهو ظاهر ، ولا قيداً احترازياً ، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم ، إِذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته ، ويقال : لا تقاتله بل انما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله . بل الظاهر ان الفعل أعني يقاتلونكم ، للحال والوصف للاشارة ، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة . فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى : « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ » الحج ـ 40 ، إِذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط . على ان الآيات الخمس جميعاً متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله ، لاصل الحكم ، وقوله تعالى : لا تعتدوا الخ ، تحديد له من حيث الانتظام ، وقوله تعالى : واقتلوهم « الخ » تحديد له من حيث التشديد ، وقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام « الخ » ، تحديد له من حيث المكان ، وقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة « الخ » تحديد له من حيث الامد والزمان ، وقوله تعالى : الشهر الحرام « الخ » ، بيان ان هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم ، وقوله تعالى : وأنفقوا ، إِيجاب لمقدمته المالية وهو الإنفاق للتجهيز والتجهز ، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضاً كما احتمله بعضهم ، ولا ان تكون نازلة في شؤون متفرقه كما
ذكره آخرون ، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين . قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه ، فان الدفاع محدود بالذات ، والتعدي خروج عن الحد ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . قوله تعالى : ولا تعتدوا « الخ » الاعتداء هو الخروج عن الحد ، يقال عدا واعتدى إذا جاوز وحده ، والنهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق ، والابتداء بالقتال ، وقتل النساء والصبيان ، وعدم الانتهاء الى العدو ، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية . قوله تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم الى قوله : من القتل ، يقال ثقف ثقافة أي وجد وادرك فمعنى الآية معنى قوله : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » التوبة ـ 6 ، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالباً وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك ، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني ، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقبلها . فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك الى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك ، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لان في القتل انقطاع الحياة الدنيا ، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين . قوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه « الخ » ، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظاً لحرمته ما حفظوه ، والضمير في قوله : فيه راجع إلى
المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد . قوله تعالى : فإِن انتهوا فإِن الله غفور رحيم ، الانتهاء الامتناع والكف ، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الإسلام فإِن ذلك هو المراد بقوله ثانياً : فان انتهوا فلا عدوان ، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع الى أقرب الجمل اليه وهو قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد ، وعلى هذا فكل من الجملتين اعني قوله تعالى : فإِن انتهوا فان الله ، وقوله تعالى : فان انتهوا فلا عدوان ، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار . وفي قوله تعالى : فان الله غفور رحيم ، وضع السبب موضع المسبب إِعطاء لعلة الحكم ، والمعنى فإِن انتهوا فإِن الله غفور رحيم . قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله ، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره ، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الاصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكة ، ويدل عليه قوله تعالى : ويكون الدين لله : والآية نظيرة لقوله تعالى : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ » الانفال ـ 40 ، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فان قبلت فلا قتال وان ردت فلا ولاية الا لله ونعم المولى ونعم النصير ، ينصر عباده المؤمنين ، ومن المعلوم أن القتال إِنما هو ليكون الدين لله ، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إِلا عن دعوة إِلى الدين الحق وهو الدين الذي يستقر على التوحيد . ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » التوبة ـ 30 ، بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى ، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب ، فالمراد ، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الاصنام ويقر بالتوحيد ، وأهل الكتاب مقرون به ، وإِن كان ذلك كفراً منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى : إِنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ، لكن الإسلام قنع منهم
بمجرد التوحيد ، وإِنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزيه لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإِظهار الإسلام على الدين كله . قوله تعالى : فإِن انتهوا فلا عدوان إِلا على الظالمين ، أي فإِن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إِلا على الظالمين ، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى : فإِن انتهوا فإِن الله غفور رحيم الآية ، فالآية كقوله تعالى : « فإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ » التوبة ـ 12 قوله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه ، والحرمات : حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام ، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه ، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك ، فانما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إِعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل ، فقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، فالمعنى أن الله سبحانه إِنما شرع القصاص في الشهر الحرام لانه شرع القصاص في جميع الحرمات وإِنما شرع القصاص في الحرمات لانه شرع جواز الاعتداء بالمثل . ثم ندبهم الى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالاً للشدة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إِلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين ، وهم أحوج إِلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى : واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين . وأما أمره تعالى بالاعتداء مع انه لا يحب المعتدين فإِن الاعتداء مذموم إِذا لم يكن في مقابله اعتداء وأما إِذا كان في مقابله الاعتداء فليس إِلا تعالياً عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم ، كالتكبر مع المتكبر ، والجهر بالسوء لمن ظلم . قوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة ، أمر بانفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الإنفاق هىٰهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في اول الآيات بكونه في سبيل الله ، كما مر ، والباء في قوله : بأيديكم زائدة للتأكيد ، والمعنى : ولا تلقوا أيديكم إِلى التهلكة كناية عن النهي عن إِبطال القوة والاستطاعة والقدرة فان اليد مظهر لذلك ، وربما يقال : ان الباء للسببية ومفعول لا تلقوا محذوف ، والمعنى : لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إِلى التهلكة ، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الانسان بحيث لا يدري أين هو ، وهو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره . والكلام مطلق أُريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إِفراط وتفريط كما أن البخل والإمساك عن إِنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة ، وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم ، وكما أن التبذير بانفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إِلى انحطاط الحياة وبطلان المروة . ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالاحسان فقال : وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ، وليس المراد بالاحسان الكف عن القتال أو الرأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الاحسان هو الاتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال ، والكف في مورد الكف ، والشدة في مورد الشدة ، والعفو في مورد العفو ، فدفع الظالم بما يستحقه إِحسان على الانسانية باستيفاء حقها المشروع لها ، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إِحسان آخر ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين ، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع ، قال تعالى : « قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ » آل عمران ـ 31 ، وقد بدأت الآيات الشريفة ـ وهي آيات القتال ـ بالنهي عن الاعتداء وان الله لا يحب المعتدين وختمت بالأمر بالاحسان وأن الله يحب المحسنين ، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى . الجهاد الذي يأمر به القرآن : كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله
سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ » ، إِلى قوله : « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ » الكافرون ـ 6 ، وقال تعالى : « وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ » المزمل ـ 10 ، وقال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ » النساء ـ 77 ، و كأن هذة الآية تشير إِلى قوله سبحانه وتعالى : « وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ » البقرة ـ 110 . ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى : « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ » الحج ـ 40 ، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها ، وكذا قوله : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فإِنِ انتَهَوْا فإِن اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ » الانفال ـ 40 ، وكذا قوله تعالى : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » البقرة ـ 190 . ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب ، قال تعالى : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » التوبة ـ 29 . ومنها آيات القتال مع المشركين عامة ، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » التوبة ـ 5 ، وكقوله تعالى : « قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً » التوبة ـ 36 . ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى : « قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً » التوبة ـ 123 . وجملة الأمر أن القرآن يذكر أن الاسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إِصلاح الإنسانية في حيوتها كما قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ
( 2 ـ الميزان ـ 5 ) اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » الروم ـ 30 ، فإِقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ إِن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » الشورى ـ 13 ، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري ، قال تعالى : « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » الحج ـ 40 ، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع ، ونظيره قوله تعالى : « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ » البقرة ـ 251 ، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال : « لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ » الانفال ـ 8 ، ثم قال تعالى : بعد عدة آيات : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ » الانفال ـ 24 ، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محيياً لهم ، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالاً ابتدائياً كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الانسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية وموت الفطرة ، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إِعادة لحياتها وإِحيائها بعد الموت . ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب : أنه ينبغي أن يكون للاسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإِخلاص الايمان لله سبحانه وتعالى فإِن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إِنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية ، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على اعطاء الجزية ، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وان كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك ، والدفاع عن حق الانسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق . والقرآن وإِن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إِلا بانجاز الامر بهذه المرتبة ، من القتال وهو القتال لاقامة الاخلاص في التوحيد ، قال تعالى : « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » الصف ـ 9 ، وأظهر منه قوله تعالى : « وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ » الانبياء ـ 105 ، وأصرح منه قوله تعالى : « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا » ، النور ـ 55 ، فقوله تعالى : يعبدونني يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى : لا يشركون بي شيئاً ، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركاً ، قال تعالى : « وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ » يوسف ـ 106 ، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الارض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقاً . وربما يتوهم المتوهم : أن ذلك وعد بنصر إِلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالاسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله : ليستخلفنهم في الارض ، فإِن الاستخلاف إِنما هو بذهاب بعض وإِزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إِيماء الى القتال . على أن قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ » المائدة ـ 54 ، ـ على ما سيجيء في محله ـ يشير الى دعوة حقة ، ونهضة دينية ستقع عن أمر إِلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة انما تقع عن دعوة جهاد . وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الانبياء السالفين فان دينهم إِنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية ، دون الاكراه على الايمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات ، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الاجبار والاكراه ! وذلك أن القرآن يبين أن الاسلام مبني على قضاء الفطرة الانسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الانسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت اليه ، وهي تقضى بأن التوحيد هو الاساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه ، وأن الدفاع
عن هذا الاصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفائه بأي وسيلة ممكنة ، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال ، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الاذى في جنب الله ، ثم الدفاع عن بيضة الاسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الانسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشيء من القتال الا بعد إِتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية ، قال تعالى : « ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » النحل ـ 125 ، والآية مطلقة ، وقال تعالى : « لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ » الانفال ـ 42 . وأما ما ذكروه من استلزامه الاكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إِحياء الانسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الافراد بعد البيان واقامة الحجة البالغة عليهم ، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فان المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى الى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر الى القتال حتى يطيع وينقاد طوعاً أو كرهاً . على ان الكره انما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل ، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإِنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعاً . وأما ما ذكروه : ان سائر الانبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقه
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:01 pm | |
| اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح عليهم السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب ، وكذلك كان عيسى عليهالسلام أيام إِقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإِنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الاسلام . على أن جمعاً من الانبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة ، والقرآن يذكر طرفاً منه ، قال تعالى : « وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ » آل عمران ـ 147 ، وقال تعالى ـ يقص دعوة موسى قومه إِلى قتال العمالقة ـ :
« وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ ، إِلى أن قال : يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ إِلى أن قال تعالى : قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ » المائدة ـ 24 ، وقال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » البقرة ـ 246 ، إِلى آخر قصة طالوت وجالوت . وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ : « أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ » ـ إِلى أن قال تعالى ـ : « ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ » النمل ـ 37 ، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله : فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها « الخ » إِلا قتالاً ابتدائياً عن دعوة ابتدائية . ( بحث اجتماعي ) لاريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الانسان وسائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإِنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء . وكما أن الفطرة والجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالانسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الانسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقاً في ذلك وإِن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد ، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإِذعانها بأن لها حقاً في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها اذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم ، والناموس ناموس التنازع في البقاء ، فكل نوع يحفظ وجوده وبقائه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإِباحه تصرفه المذكور ، ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان : من انها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون والأنياب والمخالب والأظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك ، وبعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الأسلحة الطبيعية القوية
تستريح إِلى الفرار أو الاستتار او الخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات ، وبعضها الذي يقدر على إِعمال الحيل والمكائد ربما اخذ بها في الدفاع كالقرد والدب والثعلب وأمثالها . والانسان من بين الحيوان مسلح بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع ، وله فطرة كسائر الانواع ، ولفطرته قضاوة وحكم ، ومن حكمها أن للانسان حقاً في التصرف ، وحقاً في الدفاع عن حقه الفطري ، وهذا الحق الذي يذعن به الانسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الانساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكماً اولياً فطرياً فيستخدم به كل ما يمكنه ان يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإِن هذا الحكم معدل بالاجتماع إِذ الانسان إِذا أحس بحاجته إِلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الافراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إِلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله . ومن هنا يعلم : ان الانسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إِلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإِن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إِلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه ، بل إِنما يستند في ذلك إِلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقاً ثم يشاهد تضييعه فينهض إِلى الدفاع عنه . فكل قتال دفاع في الحقيقة حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعاً من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الأرض وإِهلاك الحرث والنسل . فقد تبين : أن الدفاع عن حقوق الإنسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للانسان نعم لما كان هذا حقاً مطلوباً لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية فلا يقدم على الدفاع إِلا إِذا كان ما يفوت الانسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق
الضائع المستنقذ في الاهمية الحيوية ، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الانسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الانساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الانساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم . ( بحث روائي ) في المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الآية ، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفاً واربعمأه فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إِلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية . أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس وغيره . وفي المجمع أيضاً عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية . أقول : وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه . وفي المجمع في قوله تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه : أن الفتنة في الدين ـ وهو الشرك ـ أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإِن كان غير جائز . اقول : وقد عرفت : ان ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة انها نزلت دفعة واحدة . وفي الدر المنثور في قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية ، بطرق عن قتادة ، قال : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله . قال : حتى يقال : لا إِله إِلا الله ، عليها قاتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واليها دعا ، وذكر لنا : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقول : إِن الله أمرني ان أُقاتل الناس حتى : يقولوا : لا إِله إِلا الله فإِن انتهوا فلا عدوان إِلا على الظالمين ، قال : وإِن الظالم الذي أبى أن يقول لا إِله إِلا الله يقاتل حتى يقول : لا إِله إِلا الله . اقول : قوله : وإِن الظالم من قول قتادة ، استفاد ذلك من قول النبي وهي استفادة حسنة ، وروي نظير ذلك عن عكرمة . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر : إِنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إِن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فما يمنعك ان تخرج ؟ قال : يمنعني : أن الله حرم دم أخي ، قالا : ألم يقل الله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون ان تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله . اقول : وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان ، وقد مر بيانه ، وانما المورد من مصاديق الفساد في الارض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه . وفي المجمع في قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية ، قال أي شرك ، قال : وهو المروي عن أبي عبد الله عليهالسلام . وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام ، عن العلاء بن الفضيل ، قال : سئلته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام ؟ قال إِذا كان المشركون ابتدئوهم باستحلاهم ، رأى المسلمون بما انهم يظهرون عليهم فيه ، وذلك قوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال : لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى ، ويغزو فإِذا حضره أقام حتى ينسلخ . وفي الكافي عن معاوية بن عمار قال : سئلت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلاً في الحل ثم دخل الحرم فقال عليهالسلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت : فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم يقام عليه الحد في الحرم لانه لم ير للحرم حرمة ، وقد قال الله : عز وجل : « فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ » فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إِلا على الظالمين . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكه ، قال : لو ان رجلاً أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وُفّق ، أليس الله يقول : ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة وأحسنوا إِن الله يحب المحسنين ، يعني المقتصدين ! وروى الصدوق عن ثابت بن أنس ، قال : قال رسول الله : طاعة السلطان واجبة ، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله ، ودخل في نهيه يقول الله : ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة . وفي الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران ، قال كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله : يلقي بيديه إِلى التهلكة ، فقام أبو أيوب ، صاحب رسول الله : فقال : يا أيها الناس إِنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإِنما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار ، إِنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله إِن أموالنا قد ضاعت وإِن الله قد اعز الاسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه ، يرد علينا ما قلنا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة فكانت التهلكة الاقامة في الاموال وإِصلاحها وتركنا
الغزو . اقول : واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه : أن الآية مطلقة تشمل جانبي الافراط والتفريط في الانفاق جميعاً بل تعم الانفاق وغيره . وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فإِن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أو بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ـ 196 . الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ـ 197 لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ إِن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ـ 198 . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ 199 . فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ـ 200 . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ـ 201 . أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ ـ 202 . وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ اليه تُحْشَرُونَ ـ 203 . ( بيان ) نزلت الآيات في حجة الوداع ، آخر حجة حجها رسول الله ، وفيها تشريع حج التمتع . قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إِلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو ، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء اليه بعد الشروع في بعض أجزائه ، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إِذا وجده الشيء ترتب عليه من الاثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال ، فانضمام أجزاء الانسان بعضها إِلى بعض هو تمامه ، وكونه إنساناً عالماً أو شجاعاً أو عفيفاً كماله ، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلاً فيه اهتماماً بأمره وشأنه ، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الاول الحقيقي والدليل عليه قوله تعالى بعده : فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدى ، فإِن ذلك تفريع على التمام بمعنى إِيصال العمل إِلى آخر أجزائه وضمه إِلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الاتمام بمعنى الاكمال وهو ظاهر . والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إِبراهيم الخليل عليهالسلام وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إِلى يوم القيامة . ويبتدي هذا العمل بالاحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام ، وفيها التضحية بمنى ورمي الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة ، وفيها أُمور مفروضة أُخر ، وهو على ثلاثة أقسام : حج الافراد ، وحج القرآن ، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله . والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالاحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير ، وهما أعنى الحج ، والعمرة عبادتان لا يتمان إِلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية . قوله تعالى : فإِن أُحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم « الخ » ، الاحصار هو الحبس والمنع ، والمراد الممنوعية عن الاتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالاحرام والاستيسار صيرورة الشيء يسيراً غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه ، والهدي هو ما يقدمه الانسان من النعم إِلى غيره أو إِلى محل للتقرب به ، واصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إِلى المقصود ، والهدي والهدية كالتمر والتمرة ، والمراد به ما يسوقه الانسان للتضحية به في حجه من النعم . قوله تعالى : فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه « الخ » ، الفاء للتفريع ، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على ان المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق ، والاتيان بقوله : أو أذى من رأسه بلفطة أو الترديد يدل على ان المراد بالاذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس ، فهذان الامران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث : التي هي الصيام ، والصدقة ، والنسك . وقد وردت السنة ان الصيام ثلاثة ايام ، وان الصدقة إِطعام ستة مساكين ، وان النسك شاة . قوله تعالى : فإِذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج ، تفريع على الاحصار ، أي إِذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج ، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والاحلال إِلى زمان الاهلال بالحج فما استيسر من الهدى ، فالباء للسببية ، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الاحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالاحلال . قوله تعالى : فما استيسر من الهدى ، ظاهر الآية ان ذلك نسك لا جبران لما فات منه من الاهلال بالحج من الميقات فإِن ذلك أمر يحتاج إِلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر . فان قيل : إِن ترتب قوله : فما استيسر من الهدى ، على قوله : فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع ان اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدى واقع بإِزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفاً فهو جبران لذلك . قلت : يدفعه قوله تعالى : بالعمرة ، فإِن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد ، ولا معنى للتسهيل حيث لا إِحرام لتمام العمرة وعدم الاهلال بالحج بعد ، على أن هذا الاستشعار لو صح فإِنما يتم به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتع بالعمرة إِلى الحج لا كون الهدى جبراناً لما فاته من الاهلال بالحج من الميقات دون مكة ، وظاهر الآية كون قوله : فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج فما استيسر من الهدى إِخباراً عن تشريع التمتع لا إِنشاء للتشريع فإِنه يجعل التمتع مفروغاً عنه ثم يبني عليه تشريع الهدى ، ففرق بين قولنا : من تمتع فعليه هدى وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدى ، وأما إِنشاء تشريع التمتع فإِنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجعتم ، جعل الحج ظرفاً للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه ، فالزمان الذي يعد زماناً للحج ، وهو من زمان إِحرام الحج إِلى الرجوع ، زمان الصيام ثلاثة أيام ، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ان وقت الصيام قبل يوم الاضحى أو بعد إِيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإِلا فعند الرجوع إِلى وطنه ، وظرف السبعة إِنما هو بعد الرجوع فإِن ذلك هو الظاهر من قوله : إِذا رجعتم ، ولم يقل حين الرجوع على ان الالتفات من الغيبة إِلى الحضور في قوله إِذا رجعتم لا يخلو عن إِشعار بذلك . قوله تعالى : تلك عشرة كاملة ، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متمة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكماً مستقلاً آخر على ما مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه ، وإِنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها . قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إِلى الحج لغير الحاضر ، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام
أكثر من اثني عشر ميلاً على ما فسرته السنة ، وأهل الرجل خاصته : من زوجته وعياله ، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون اهله حاضري المسجد الحرام من الطف التعبيرات ، وفيه إِيماء إِلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل ، فإِن المسافر من البلاد النائية للحج ، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق ، لا يخلو عن الحاجة إِلى السكن والراحة والانسان إِنما يسكن ويستريح عند أهله ، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام ، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إِلى الحج والاهلال بالحج من المسجد الحرام من غير ان يسير ثانياً إِلى الميقات . وقد عرفت : أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إِنما هي هذه الجملة أعني قوله : ذلك لمن لم يكن « الخ » ، دون قوله : فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج ، هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص ولا حال دون حال . قوله تعالى : واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبيء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إِنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الامر فإِن الحج خاصة من بين الاحكام المشرعة في الدين كان موجوداً بينهم من عصر إِبراهيم الخليل معروفاً عندهم معمولاً به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الاسلام على ما كان تقريباً إِلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمراً هيناً سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالانكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات ، ولذلك اضطر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إِلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء ، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبي أو أُمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه . قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج إِلى قوله : في الحج ، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة . وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهراً للحج فإِنه من قبيل قولنا : زمان مجيئي اليك يوم الجمعة مع ان المجيء إِنما هو في بعضه
دون جميعه . وفي تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الايجاز فإِن المراد بالحج الاول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه ، ولو لا الاظهار لم يكن بد من إِطناب غير لازم كما قيل . وفرض الحج جعله فرضاً على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية ، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه ، والفسوق هو الخروج عن الطاعة ، والجدال المراء في الكلام ، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع ، والفسوق ، بالكذب ، والجدال بقول لا والله وبلى والله . قوله تعالى : وما تفعلوا من خير يعلمه الله ، تذكرة بأن الاعمال غير غائبة عنه تعالى ، ودعوة إِلى التقوى لئلّا يفقد المشتغل بطاعة الله روج الحضور ومعنى العمل ، وهذا دأب القرآن يبين أُصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم العمل ، فإِن العلم من غير عمل لا قيمة له في الاسلام ، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله : واتقوني يا أُولي الالباب ، بالعدول من الغيبة إِلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين . قوله تعالى : ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ، هو نظير قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ » إِلى ان قال : « فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ » الجمعة 10 ، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو ، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إِباحة البيع اثناء الحج . قوله تعالى : فإِذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، الافاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام ، وهي المزدلفة . قوله تعالى : واذكروه كما هديكم « الخ » أي واذكروه ذكراً يماثل هدايته إِياكم وانكم كنتم من قبل هدايته إِياكم لمن الضالين .
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:03 pm | |
| قوله تعالى : ثم افيضوا من حيث افاض الناس ، ظاهره إِيجاب الافاضة على ما كان من دأب الناس والحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل ان قريشاً وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون : نحن اهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالافاضة من حيث افاض الناس وهو عرفات . وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله : فإِذا أفضتم من عرفات ، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري ، والكلام بمنزلة الاستدراك ، والمعنى ان أحكام الحج هي التي ذكرت غير انه يجب عليكم في الافاضة ان تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة ، وربما قيل : إِن في الآيتين تقديما وتأخيراً في التأليف ، والترتيب : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإِذا أفضتم من عرفات . قوله تعالى : فإِذا قضيتم مناسككم إِلى قوله : ذكراً ، دعوة إِلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لان نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى : « وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ » أعظم من حق آبائه عليه ، وقد قيل : إِن العرب كانت في الجاهلية إِذا فرغت من الحج مكثت حيناً في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم وأو في قوله أو أشد ذكراً ، للاضراب فتفيد معنى بل ، وقد وصف الذكر بالشدة وهو امر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية ، قال تعالى : « اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا » الاحزاب ـ 41 ، وقال تعالى : « وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا » الاحزاب ـ 35 ، فإِن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصوراً في اللفظ ، بل هو امر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه ، فيمكن ان يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى : « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ » آل عمران ـ 191 ، وان يتصف بالشدة في مورد من الموارد ، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى : فإِذا قضيتم مناسككم ، مورداً يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الانسب توصيف الذكر الذي أُمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر . قوله تعالى : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا « الخ » تفريع على قوله
تعالى : فاذكروا الله كذكركم آبائكم ، والناس مطلق ، فالمراد به أفراد الانسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إِلا آبائه أي لا يبتغي إِلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إِلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة ، ومن المؤمن الذي لا يريد إِلا ما عند الله سبحانه ، ولو أراد من الدنيا شيئاً لم يرد إِلا ما يرتضيه له ربه ، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال ، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إِلا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إِلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة . ومن هنا يظهر : وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا ، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسناً عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الارضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه ، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإِن ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إِلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إِلا الحسنة دون السيئة . والمقابلة بين قوله : وما له في الآخرة من خلاق ، وقوله : أُولئك لهم نصيب مما كسبوا ، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى : « وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا » الفرقان ـ 23 ، وقال تعالى : « وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا » الاحقاف ـ 20 ، وقال تعالى : « فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا » الكهف ـ 105 . قوله تعالى : والله سريع الحساب ، إِسم من أسماء الله الحسنى ، وإِطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معاً ، فالحساب جار ، كلما عمل عبد شيئاً من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاءً وفاقاً . فالمحصل من معنى قوله : فمن الناس من يقول إِلى آخر الآيات ، أن اذكروا الله تعالى فإِن الناس على طائفتين : منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة ، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فعطيه كما يريد ، فكونوا من أهل النصيب
( 2 ـ الميزان ـ 6 ) بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آئسين . قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات ، الايام المعدودات هي ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة ، والدليل على ان هذه الايام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج ، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى : فمن تعجل في يومين « الخ » ، فإِن التعجل في يومين إِنما يكون إِذا كانت الايام ثلاثة ، يوم ينفر فيه ، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة ، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضاً . قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إِثم عليه ومن تأخر فلا إِثم عليه لمن اتقى ، لا نافية للجنس فقوله : لا إِثم عليه في الموضعين ينفي جنس الاثم عن الحاج ولم يقيد بشيء أصلاً ، ولو كان المراد لا إِثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به ، فالمعنى أن من اتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر ، ومن هنا يظهر : ان الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك ، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال . واما قوله : لمن اتقى ، فليس بياناً للتعجل والتأخر وإِلا لكان حق الكلام ان يقال : على من اتقى ، بل الظاهر ان قوله : لمن اتقى نظير قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية ، والمراد ان هذا الحكم لمن اتقى واما من لم يتق فليس له ، ومن اللازم ان يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيؤل المعنى ان الحكم إِنما هو لمن اتقى تروك الاحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب ان يقيم بمنى ويذكر الله في ايام معدودات ، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمة اهل البيت كما سيجيء إِنشاء الله . قوله تعالى : واتقوا الله واعلموا انكم اليه تحشرون ، امر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإِن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إِلا مع ذكر يوم الجزاء ، قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ » ص ـ 26 . وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى : انكم اليه تحشرون ، مع ما في نسك
الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر ، وإِشعار بأن الناسك ينبغي ان يذكر بهذا الجمع والافاضة يوماً يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحداً . ( بحث روائي ) في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ، قال : هما مفروضان . وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهم السلام قالوا : سألناهما عن قوله : واتموا الحج والعمرة لله ، قالا : فإِن تمام الحج ان لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في حديث قال : يعني بتمامهما أدائهما ، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما . اقول : والروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الاتمام فإِن فرضهما وادائهما هو إِتمامهما . وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين حج حجة الاسلام خرج في اربع بقين من ذي القعدة حتى اتى الشجرة وصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها واهل بالحج وساق مأة بدنة واحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة ، حتى إِذا قدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر ، ثم قال : أبدء بما بدء الله عز وجل به فأتى الصفا فبدء بها ثم طاف بين الصفاء والمروة سبعاً ، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم ان يحلوا ويجعلوها عمرة ، وهو شيء امر الله عز وجل به فأحل الناس ، وقال رسول الله : لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت كما امرتكم ، ولم يكن يستطيع من اجل الهدي الذي معه ، إِن الله عز وجل يقول : ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله ، قال سراقة بن جعثم الكناني : علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم ، أرأيت هذا الذي امرتنا به لعامنا أو لكل عام ؟ فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بل للأبد ، وإِن رجلاً قام فقال : يا رسول الله نخرج حجاجاً ورؤسنا تقطر من نسائنا ؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إِنك لن تؤمن بها أبداً ، قال : عليهالسلام : واقبل علي عليهالسلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد احلت ووجد ريح الطيب فانطلق إِلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مستفتياً فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا علي بأي شيء أهللت ؟ فقال بما اهل به النبي ، فقال : لا تحل انت فاشركه في الهدي وجعل له سبعاً وثلاثين ونحر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثلاثاً وستين فنحرها بيده ثم اخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم امر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم قد اكلنا الآن منه جميعاً والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاج المفرد ، قال : وسئلته : ليلاً احرم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أم نهاراً ؟ فقال : نهاراً ، فقلت : أي ساعة ؟ قال : صلوة الظهر . اقول : وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره . وفي التهذيب عن الصادق عليهالسلام قال : دخلت العمرة في الحج إِلى يوم القيمه فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج فما استيسر من الهدي فليس لاحد إِلا أن يتمتع لان الله انزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم . وفي الكافي أيضاً عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : فما استيسر من الهدي شاة . وفي الكافي أيضاً عن الصادق عليهالسلام في المتمتع لا يجد الشاة ، قال : يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة ، قيل : فإِنه قد قدم يوم التروية ؟ قال : يصوم ثلاثة ايام بعد التشريق ، قيل : لم يقم عليه جماله ؟ قال : يصوم يوم الحصبة وبعده يومين ، قيل : وما الحصبة ؟ قال يوم نفره ، قيل : يصوم وهو مسافر ؟ قال : نعم اليس هو يوم عرفة مسافراً ؟ إِنا اهل بيت نقول بذلك ، يقول الله تعالى : فصيام ثلاثة ايام في الحج ، يقول : في ذي الحجة . وروي الشيخ عن الصادق عليهالسلام قال : ما دون المواقيت إِلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام ، وليس له متعة . اقول : يعني ان ما دون المواقيت فساكنه يصدق عليه انه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة ، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمة اهل البيت . وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : الحج اشهر معلومات ، قال :
الحج اشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ليس لاحد ان يحج فيما سواهن . وفيه عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : فمن فرض فيهن « الخ » ، الفرض التلبية والاشعار والتقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج . وفي الكافي عنه عليهالسلام في قوله تعالى : فلا رفث « الخ » ، الرفث الجماع ، والفسوق الكذب والسباب ، والجدال قول الرجل : لا والله وبلى والله . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلاً من ربكم الآية يعني الرزق فإِذا أحلّ الرجل من إِحرامه وقضى فليشتر وليبع في الموسم . اقول : ويقال : إِنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآيه . وفي المجمع ، وقيل : معناه لا جناح عليكم ان تطلبوا المغفرة من ربكم ، رواه جابر عن ابي جعفر عليهالسلام . اقول : وفيه تمسك بإِطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الافراد . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ثم افيضوا من حيث افاض الناس الآية ، قال : إِن اهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم اهل عرفة ، وكان رجل يكني أبا سيار وكان له حمار فاره ، وكان يسبق اهل عرفه ، فإِذا طلع عليهم قالوا : هذا ابو سيار ثم أفاضوا فامرهم الله ان يقفوا بعرفة وان يفيضوا منه . اقول : وفي هذا المعنى روايات اخر . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، قال : رضوان الله والجنة في الآخرة ، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا . وعنه عليهالسلام قال : رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة ، وفي الآخرة الجنة . وعن علي عليهالسلام في الدنيا المرئة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء ، وعذاب النار امرئة السوء . أقول : والروايات من قبيل عد المصداق والآيه مطلقة ، ولما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الاولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : وأذكروا الله في أيام معدودات الآية ، قال : وهي أيام التشريق ، وكانوا إِذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم : كان أبي يفعل كذا وكذا ، فقال الله جلّ شأنه : فإِذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكراً ، قال : والتكبير : الله اكبر ، الله اكبر ، لا إِله إِلا الله والله اكبر ولله الحمد ، الله اكبر على ما هدانا ، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام . وفيه عنه عليهالسلام قال : والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إِلى صلاة الفجر من اليوم الثالث ، وفي الامصار يكبر عقيب عشر صلوات . وفي الفقيه في قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إِثم عليه ومن تأخر فلا إِثم عليه الآية ، سئل الصادق عليهالسلام في هذه الآية فقال : ليس هو على أن ذلك واسع إِن شاء صنع ذا ، لكنه يرجع مغفوراً له لا ذنب له . وفي تفسير العياشي عنه عليهالسلام قال يرجع مغفوراً له لا ذنب له لمن اتقى . وفي الفقيه عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : لمن اتقى الآية ، قال : يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى . وعن الباقر عليهالسلام لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إِحرامه . وعنه أيضاً : لمن اتقى الله عزّ وجل . وعن الصادق عليهالسلام لمن اتقى الكبائر . أقول : قد عرفت ما يدل عليه الآية ، ويمكن التمسك بعموم التقوى كما في
الروايتين الأخيرتين . ( بحث روائي آخر ) في الدر المنثور أخرج البخاري والبيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة ، قال : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اجعلوا إِهلالكم بالحج عمرة إِلا من قلد الهدى فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإِنه لا يحل حتى يبلغ الهدي ثم أمرنا عشية التروية ان نهل بالحج ، فإِذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله : فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجعتم إِلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإِن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وأشهر الحج التي ذكر الله : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم ، والرفث الجماع ، والفسوق المعاصي ، والجدال المراء . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر ، قال : تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إِلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالعمرة إِلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإِنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع إِلى أهله . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر : قال : كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجاً حتى إِذا لم يكن بيننا وبين أن نحل إِلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال ، قلنا أيروح أحدنا إِلى عرفة وفرجه يقطر منياً ؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيباً فقال : أبالله تعلمون أيها الناس ؟ فأنا والله أعلمكم بالله
وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هدياً ولحللت كما أحلوا ، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إِذا رجع إِلى أهله ، ومن وجد هدياً فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة ، قال عطاء : قال ابن عباس : إِن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء . أقول : وقد رويت الرواية بألفاظ أُخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور . وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النسائي عن مطرف ، قال : بعث إِلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال : إِني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإِن عشت فاكتم علي وإِن مت فحدث بها عني إِني قد سلم على وأعلم أن نبي الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه نبي الله ، قال رجل فيها برأيه ما شاء . وفي صحيح الترمذي أيضاً وزاد المعاد لابن القيم سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج ، قال : هي حلال فقال له السائل : إِن أباك قد نهى عنها فقال : أرأيت إِن كان أبي نهى وصنعها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : لقد صنعها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم . وفي صحيح الترمذي وسنن النسائي وسنن البيهقي وموطأ مالك وكتاب الام للشافعي عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن أبى وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إِلى الحج فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إِلا من جهل أمر الله ، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي ، قال الضحاك : فإِن عمر ابن الخطاب نهى عن ذلك ، قال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه . وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى ، قال : قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو بالبطحاء فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أهللت ؟ قلت : أهللت بإِهلال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : هل سقت من هدي ؟ قلت : لا ، قال : طف بالبيت وبالصفا والمروة
ثم حل فطفت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي وغسلت رأسي فكنت أُفتي الناس في إِمارة أبي بكر وإِمارة عمر فإِني لقائم بالموسم إِذ جائني رجل فقال : إِنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت : أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فاتموا فلما قدم قلت : ماذا الذي أحدثت في شأن النسك ؟ قال : أن نأخذ بكتاب الله فإِن الله قال : وأتموا الحج والعمرة لله ، وأن نأخذ بسنة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يحل حتى نحر الهدي . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي نضرة ، قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال : على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما قام عمر قال : إِن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء وإِن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وافصلوا حجكم من عمرتكم فإِنه اتم لحجكم وأتم لعمرتكم . وفي مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال : هي سنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يعني المتعة ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجاً . وفي جمع الجوامع للسيوطي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا أنهي عنها وذلك أن احدكم يأتي من افق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج وإِنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله إِن كانوا معه حتى إِذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج الى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إِلا يوماً والحج أفضل من العمرة ، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإِنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم . وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر ، قال : قلت : إِن ابن الزبير ينهي عن المتعة وإِبن عباس يأمر به ، قال : على يدي جرى الحديث ، تمتعنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس ، فقال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإِنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنا أنهي عنهما وأُعاقب عليهما إِحديهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إِلى اجل إِلا
غيبته بالحجارة والاخرى متعة الحج . وفي سنن النسائي عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : والله إِني لانهاكم عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يعني العمرة في الحج . وفي الدر المنثور اخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق ، قال : كان عثمان ينهي عن المتعة وكان عليّ يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي عليهالسلام : لقد علمت انا تمتعنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : ولكنا كنا خائفين . وفي الدر المنثور ايضاً أخرج ابن ابي شيبة ومسلم عن ابي ذر كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة . وفي الدر المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي ذر قال : لا تصلح المتعتان إِلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج . اقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه ، فإِن هذا النهي ربما يبحث فيه من جهه كون ناهيه محقاً أو معذوراً فيه وعدم كونه كذلك ، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب . وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة ، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب . فنقول : أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله الآيه وان التمتع مما كان مختصاً برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر : أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما امركم الله ، فقد عرفت : ان قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية لا يدل على أزيد من وجوب إِتمام الحج والعمرة بعد فرضهما . والدليل عليه قوله تعالى : فإِن أُحصرتم « الخ » ، واما كون الآيه دالة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحج ، وأن عدم الفصل كان امراً خاصاً برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة ، أو به وبمن معه في تلك الحجة ( حجة الوداع ) فدون إِثباته خرط القتاد . وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله : والله إِني لأنهاكم عن المتعة إِلى قوله : ولقد فعلها
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم . واما الاستدلال عليه بأن في النهي اخذاً بالكتاب أو السنة كما في رواية ابي موسى من قوله : ان نأخذ بكتاب الله فإِن الله قال : واتموا الحج والعمرة لله وان نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدي انتهى ، فقد عرفت ان الكتاب يدل على خلافه ، واما ان ترك التمتع سنة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لكونه لم يحل حتى نحر الهدي ففيه : اولاً : انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الاخر التي مر بعضها آنفاً . وثانياً : ان الروايات ناصة على ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صنعها ، وانه صلىاللهعليهوآلهوسلم اهل بالعمرة واهل ثانياً بالحج ، وانه خطب وقال : أبا لله تعلمون ايها الناس ، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية ان حج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان حج قران وان المتعة كانت تطلق على حج القران ! وثالثاً : ان مجرد عدم حلق الراس حتى يبلغ الهدي محله ليس احراماً للحج ولا يثبت به ذلك ، والآية ايضاً تدل على ان سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق ، إِذا لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة . ورابعاً : هب ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم اتى بغير التمتع لكنه امر جميع اصحابه ومن معه بالتمتع ، وكيف يمكن ان يعد ما شأنه هذا سنته ؟ وهل يمكن ان يتحقق امر خص به رسول الله نفسه ويأمر أُمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس ؟ ! واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإِتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله : ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجاً انتهى ، وكما في بعض الروايات قد علمت ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فعله واصحابه ولكني كرهت ان يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم انتهى ، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم ، والله ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إِلى ما كان يخشاه ويكرهه ! ومن أعجب
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:05 pm | |
| الأمر أن الآية التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج ، فهل التمتع إِلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما ؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه ! واعجب منه : ان الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية ! وامر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمتع بعين ما جعله سبباً للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا : أيروح أحدنا إِلى عرفة وفرجه يقطر منياً انتهى فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقام خطيباً ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانياً بالتمتع كما فرضه عليهم أولا . واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي عن سعيد بن المسيب من قوله : مع ان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإِنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى . ففيه أيضاً : أنه اجتهاد في مقابل النص ، على ان الله سبحانه يرد عليه في نظير المسأله بقوله : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » التوبة ـ 28 . واما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي عليهالسلام ولكنا كنا خائفين انتهى ، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور ، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال : يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إِلى الحج كما تصنعون ، إِنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر ، أو يحبسه امر حتى يذهب ايام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إِلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هدياً فهذا التمتع بالعمرة إِلى الحج الحديث . ففيه : أن الآية مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت ان الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون
قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إِلى الحج الآية . على أن جميع الروايات ناصة في ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اتى بحجه تمتعاً ، وانه أهل بإِهلالين للعمرة والحج . واما الاستدلال عليه : بأن التمتع كان مختصاً بأصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما في روايتي الدر المنثور عن ابي ذر ، فإِن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه ، وإِن كان المراد انه كان حكماً خاصاً لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم ، ففيه انه مدفوع بإِطلاق قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية . على ان إِنكار بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وابي موسى ومعاوية ( وروي ان منهم ابا بكر ) ينافي ذلك ! واما الاستدلال عليه بالولاية وانه إِنما نهى عنه بحق ولايته الأمر وقد فرض الله طاعة أُولي الأمر إِذ قال « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ الآیة » النساء ـ 54 ، ففيه ان الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد . بيان ذلك : ان الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما انزله الله على رسوله كقوله تعالى : « اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ » الأعراف ـ 3 ، وما بينه رسول الله مما شرعه هو بإِذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى : « وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ » التوبه ـ 29 ، وقوله تعالى : « مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا » الحشر ـ 7 ، فالمراد بالايتاء الامر بقرينة مقابلته بقوله : وما نهيكم عنه ، فيجب إِطاعة الله ورسوله بامتثال الاوامر وانتهاء النواهي ، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى : « وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » المائدة ـ 45 ، وفي موضع آخر « فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » المائدة ـ 47 ، وفي موضع آخر « فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » المائدة ـ 44 ، وقال تعالى : « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا » الاحزاب ـ 36 ، وقال : « وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » القصص ـ 68 ، فإِن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك ، وقد نص القرآن على انه
كتاب غير منسوخ وان الاحكام باقية على ما هي عليها إِلى يوم القيامة ، قال تعالى : « وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » فصلت ـ 42 ، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الامة ، أُولي الأمر فمن دونهم . ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ » إِنما يجعل لاولى الامر حق الطاعة في غير الاحكام فهم ومن دونهم من الامة سواء في انه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب ، فالذي يجب فيه طاعة اولي الامر إِنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الامة فيه ، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة . فكما ان الواحد من الناس له ان يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الاكل له من مال نفسه ، وله ان يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالاً ، وله ان يترافع إِلى الحاكم إِذا نازعه احد في ملكه ، وله ان يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع ، كل ذلك إِذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الاحكام على حالها ، وليس له أن يشرب الخمر ، ولا له ان يأخذ الربا ، ولا له ان يغصب مال غيره بإِبطال ملكه وإِن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى ، هذا كله في التصرف الشخصي ، كذلك ولي الامر له ان يتصرف في الامور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الاحكام الالهية على ما هي عليها ، فيدافع عن ثغور الاسلام حيناً ، ويمسك عن ذلك حيناً ، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة ، أو يأمر بالتعطيل العمومي او الانفاق العمومي يوماً إِلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة . وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين ان يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الامر من قِبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ان يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد الى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة . ولو جاز لولي الامر ان يتصرف في الحكم التشريعي تكليفاً أو وضعاً بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق ، ولم يكن لاستمرار الشريعة الى يوم القيمة
معنى البتة ، فما الفرق بين ان يقول قائل : ان حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه ، وبين ان يقول القائل : ان اباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم اهمالها ، أو ان اجراء الحدود مما لا تهضمه الانسانية الراقية اليوم ، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله ؟ ! وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور : اخرج اسحق بن راعويه في مسنده ، واحمد عن الحسن : ان عمر بن الخطاب همّ ان ينهي عن متعة الحج فقام اليه أُبي بن كعب ، فقال : ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنزل عمر . وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ـ 205 . وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ـ 205 وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ـ 206 وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ 207 . ( بيان ) تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما ان الآيات السابقة اعني قوله تعالى : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا « الخ » ، تشتمل على تقسيم لهم غير ان تلك الآيات تقسّمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة ، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الايمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة . قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا « الخ » ، اعجبه الشيء
اي راقه وسره ، وقوله : في الحياة الدنيا ، متعلق بقوله : يعجبك ، اي ان الاعجاب في الدنيا من جهة ان هذه الحياة نوع حياة لا تحكم الا على الظاهر ، واما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب ، لا يشاهده الانسان وهو متعلق الحياة بالدنيا الا ان يستكشف شيئاً من امر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه : من قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه ، والمعنى انه يتكلم بما يعجبك كلامه ، من ما يشير به الى رعاية جانب الحق ، والعناية بصلاح الخلق ، وتقدم الدين والامة وهو اشد الخصماء للحق خصومة ، وقوله : الد ، افعل التفضيل من لد لدوداً اذا اشتد خصومة ، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب ، وقيل : الخصام مصدر ، ومعنى ألد الخصام اشد خصومة . قوله تعالى : واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها « الخ » ، التولي هو تملك الولاية والسلطان ، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية : أخذته العزة بالإثم ، الدال على ان له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه ، والسعي هو العمل والاسراع في المشي ، فالمعنى واذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأُوتي سلطاناً وتولى امر الناس سعى في الارض ليفسد فيها ، ويمكن ان يكون التولي بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة ، اي اذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره ، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير الى السعى في الارض لاجل الفساد والافساد . قوله تعالى : ويهلك الحرث والنسل ، ظاهره انه بيان لقوله تعالى : ليفسد فيها اي يفسد فيها بإِهلاك الحرث والنسل ، ولما كان قوام النوع الانساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لاغناء عنهما للنوع في حال : اما التوليد فظاهر ، واما التغذي فانما يركن الانسان فيه إِلى الحيوان والنبات ، والحيوان يركن إِلى النبات ، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات ، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى انه يفسد في الارض بإِفناء الانسان وابادة هذا النوع بإِهلاك الحرث والنسل . قوله تعالى : والله لا يحب الفساد ، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون
والوجود ( الفساد التكويني ) فإِن النشأة نشأة الكون والفساد ، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إِلا بفساد ، ولا حياة إِلا بموت ، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية ، وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه . وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإِن الله انما شرّع ما شرّعه من الدين ليصلح به اعمال عباده فيصلح اخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة البشرية ، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة . فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه اذا سعى في الارض بالفساد فإِنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها ، وتغيير حكم الله عما هو عليه ، والتصرف في التعاليم الدينية ، بما يؤدي الى فساد الاخلاق واختلاف الكلمة ، وفي ذلك موت الدين ، وفناء الانسانية ، وفساد الدنيا ، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم اكتاف هذه الامة الاسلامية ، وتصرفهم في امر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين الا وبالاً ، وللمسلمين الا انحطاطاً ، وللامة الا اختلافاً ، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب ، ولا الانسانية الا خطفة لكل خاطف ، فنتيجة هذا السعي فساد الارض ، وذلك بهلاك الدين اولاً ، وهلاك الانسانية ثانياً ، ولهذا فسر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية كما سيأتي انشاء الله . قوله تعالى : واذا قيل له اتق الله اخذتة العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد ، العزة معروفة ، والمهاد الوطاء ، والظاهر ان قوله : بالاثم متعلق بالعزة ، والمعنى انه اذا أُمر بتقوى الله اخذتة العزة الظاهرة التي اكتسبها بالاثم والنفاق المستبطن في نفسه ، وذلك ان العزة المطلقة انما هي من الله سبحانه كما قال تعالى : « تُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ » آل عمران ـ 26 ، وقال تعالى : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » المنافقين ـ 8 ، وقال تعالى : « أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا » النساء ـ 139 . وحاشا ان ينسب تعالى شيئاً الى نفسه ويختصه بإِعطائه ثم يستعقب اثماً أو شراً فهذه العزة انما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الامر عزة بحسب ظاهر الحياه الدنيا
( 2 ـ الميزان ـ 7 ) لا عزة حقيقية اعطاها الله سبحانه لصاحبها . ومن هنا يظهر ان قوله : بالاثم ليس متعلقاً بقوله : اخذته ، بأن يكون الباء للتعدية ، والمعنى حملته العزة على الاثم ورد الامر بالتقوى ، وتجيبه الآمر بما يسوئه من القول ، أو يكون الباء للسببية ، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الاثم الذي اكتسبه ، وذلك ان اطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم امضائها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها ، بخلاف ما لو سميت عزة بالاثم . واما قوله تعالى : « بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ » ص ـ 2 ، فليس من قبيل التسمية والامضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله : كم اهلكنا من قبلهم « الخ » ، فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا اصيلة . قوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله « الخ » ، مقابلته مع قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله « الخ » يفيد ان الوصف مقابل الوصف أي كما ان المراد من قوله : ومن الناس من يعجبك ، بيان ان هناك رجلاً معتزاً بإِثمه معجباً بنفسه متظاهراً بالاصلاح مضمراً للنفاق لا يعود منه الى حال الدين والانسانية الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله : ومن الناس من يشري نفسه « الخ » ، بيان ان هناك رجلاً آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد الا ما اراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له الا بربه ولا ابتغاء له الا لمرضات الله تعالى ، فيصلح به امر الدين والدنيا ، ويحيى به الحق ، ويطيب به عيش الانسانية ، ويدر به ضرع الاسلام ، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى : والله رؤوف بالعباد ، بما قبله ، فإِن وجود إِنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إِذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين ، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة ، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إِفساد أعدائه بإِصلاح أوليائه كما قال تعالى : « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ » البقرة ـ 251 ، وقال تعالى :
« وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا » الحج ـ 40 ، وقال تعالى : « فإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ » الانعام ـ 89 ، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إِلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إِلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه ، ولا هوى له إِلا في ربه ، وإِصلاح الارض ومن عليها ، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ » التوبة ـ 111 ، إِلى غير ذلك من الآيات . ( بحث روائي ) في الدر المنثور عن السدي : في قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك الآية ، انها نزلت في الاخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة ، أقبل إِلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة وقال : جئت أُريد الاسلام ويعلم الله اني لصادق فأعجب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك منه فذلك قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه ، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله : وإِذا تولى سعى في الارض الآية . وفي المجمع عن ابن عباس : نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لانه يظهر خلاف ما يبطن ، قال : وهو المروي عن الصادق عليهالسلام . اقول : ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات . وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت انها من الآيات النازلة في أعدائهم . وفي المجمع عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ويهلك الحرث والنسل : أن المراد بالحرث هىٰهنا الدين ، والنسل الانسان . اقول : وقد مر بيانه ، وقد روي : ان المراد بالحرث الذرية والزرع ، والامر التطبيق سهل . وفي أمالي الشيخ عن علي بن الحسين عليهالسلام : في قوله تعالى : ومن الناس من يشري
نفسه الآية ، قال : نزلت في علي عليهالسلام حين بات على فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم . اقول : وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في شأن ليلة الفراش ، ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبي وغيره . وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب ، قال : لما اردت الهجرة من مكة إِلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت الينا ولا مال لك وتخرج انت ومالك ، والله لا يكون ذلك أبداً ، فقلت لهم : أرأيتم إِن دفعت لكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم فدفعت اليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : ربح البيع صهيب مرتين . اقول : ورواه بطرق أُخرى في بعضها ونزلت : ومن الناس من يشري نفسه الآية ، وفي بعضها نزلت في صهيب وابي ذر بشرائهما انفسهما بأموالهما وقد مر ان الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء . وفي المجمع عن علي عليهالسلام : ان المراد بالآية الرجل يقتل على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر . اقول : وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ـ 208 . فإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ 209 . هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا إِن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ـ 210 .
( بيان ) هذه الآيات وهي قوله : يا ايها الذين آمنوا إِلى قوله : ألا إِن نصر الله قريب الآيه سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل ، وانه لم ينفصم وحدة الدين ، ولا ارتحلت سعادة الدارين ، ولا حلت الهلكة دار قوم إِلا بالخروج عن السلم ، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها ، شوهد ذلك في بني إِسرائيل وغيرهم من الامم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الامة لكن الله يعدهم بالنصر : الا ان نصر الله قريب . قوله تعالى : يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، السلم والاسلام والتسليم واحدة ، وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعاً ، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أُمروا بالدخول في السلم كافة ، فهو امر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه ، فيجب ذلك على كل مؤمن ، ويجب على الجميع ايضاً ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وايضاً الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو اليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر اليه ، ولا يذعنوا لانفسهم صلاحاً باستبداد من الرأي ولا يضعوا لانفسهم من عند انفسهم طريقاً يسلكونه من دون ان يبينه الله ورسوله ، فما هلك قوم إِلا باتباع الهوى والقول بغير العلم ، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إِلا عن اختلاف . ومن هنا ظهر : ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو اليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو اليه من امر الدين بأن يزين شيئاً من طرق الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم ، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إِياه في ضمن التعاليم الدينية . وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك ايضاً : فإِن الخطوات إِنما تكون في طريق مسلوك ، وإِذا كان سالكه هو المؤمن ، وطريقه إِنما هو طريق الايمان فهو طريق شيطاني في الايمان ، وإِذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم
فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان ، واتباعه اتباع خطوات الشيطان . فالآية نظيرة قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ » البقرة ـ 169 ، وقد مر الكلام في الآية ، وقوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ » النور ـ 21 ، وقوله تعالى : « كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ » الانعام ـ 142 ، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إِلى الجماعة لمكان قوله تعالى : كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة ، فهذه الآية في معنى قوله تعالى : « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا » آل عمران ـ 103 ، وقوله تعالى : « وأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ » الانعام ـ 153 ، ويستفاد من الآية أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج اليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس . قوله تعالى : فإِن زللتم من بعد ما جائتكم البينات ، الزلة هي العثرة ، والمعنى فإِن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم ـ والزلة هي اتباع خطوات الشيطان ـ فاعلموا ان الله عزيز غير مغلوب في امره ، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته ، ويجريه فيكم من غير ان يمنع عنه مانع . قوله تعالى : هل ينظرون إِلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام « الخ » ، الظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به ، وظاهر الآية ان الملائكه عطف على لفظ الجلالة ، وفي الآية التفات من الخطاب الى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالاعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما اوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق ، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون ، أو بحيث لا يعبيء بهم وبما يقعون فيه من الهلاك ، والى الله ترجع الامور ، فلا مفر من حكمه وقضائه ، فالسياق يقتضي ان يكون قوله : هل ينظرون ، هو الوعيد الذي اوعدهم به في قوله
تعالى في الآية السابقة فاعلموا ان الله عزيز حكيم . ثم إِن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الاجسام ، ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث ، ويلازم الفقر والحاجة والنقص ، فقد قال تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » الشورى ـ 11 ، وقال تعالى : « وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ » الفاطر ـ 15 ، وقال تعالى : « اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » الزمر ـ 62 ، الى غير ذلك من الآيات ، وهي آيات محكمات ترجع اليها متشابهات القرآن ، فما ورد من الآيات وظاهرها إِسناد شيء من الصفات أو الافعال الحادثة اليه تعالى ينبغي ان يرجع اليها ، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا واسمائه الحسنى تبارك وتعالى ، فالآيات المشتملة على نسبة المجيء أو الاتيان اليه تعالى كقوله تعالى : « وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » الفجر ـ 22 ، وقوله تعالى : « فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا » الحشر ـ 2 ، وقوله تعالى :« فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ » النحل ـ 26 ، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست اسمائه كالإحاطة ونحوها ولو مجازاً ، وعلى هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى : أن يأتيهم الله الإحاطة بهم للقضاء في حقهم . على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إِذا سلب نسبة من النسب وفعلاً من الأفعال عن استقلال الاسباب ووساطة الاوساط فربما نسبها إِلى نفسه وربما نسبها إِلى امره كقوله تعالى : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ » الزمر ـ 42 ، وقوله تعالى : « يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ » السجدة ـ 11 ، وقوله تعالى : « تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا » الأنعام ـ 61 ، فنسب التوفي تارة الى نفسه ، وتارة الى الملائكة ثم قال تعالى : في أمر الملائكة : « بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الأنبياء ـ 27 ، وكذلك قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ » يونس ـ 93 ، وقوله تعالى :« فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ » المؤمن ـ 78 ، وكما في هذه الآية : ان يأتيهم اللَّهُ في ظلل من الغمام الآية ، وقوله تعالى : « هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا إِن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ » النحل ـ 33 . وهذا يوجب صحة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أُمور اليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير : جاء ربك ، ويأتيهم الله ، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله .
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:06 pm | |
| فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك ، وذلك أن أمثال قوله تعالى : « وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ » الفاطر ـ 15 ، وقوله تعالى : « الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ » ص ـ 9 ، وقوله تعالى « أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها ، مليء بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته اليه تعالى ، لكن هذه المعاني اذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته اليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى ، فإِذا لم يصاحب المعنى نقصاً وحاجة لتجريده عنه صح اسناده اليه تعالى بل وجب ذلك لأن كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته . فالمجيء والإتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إِذا جرّد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب ، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات ، وحينئذ صح إِسناده اليه تعالى حقيقة من غير مجاز : فإِتيانه تعالى اليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم ، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إِلا بعد إِمعان في السير ، وركوبها كل سهل ووعر ، وإِثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة . وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبىء عنه قوله سبحانه في الآية السابقة : إِن الله عزيز حكيم ، ومن الممكن أن يكون وعيداً بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية : « هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا إِن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أو يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ » النحل ـ 33 ، ومن الممكن أن يكون وعيداً بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إِلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ » يونس ـ 47 ، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا » الروم ـ 30 ، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا ، ومن الممكن أيضاً أن يكون وعيداً بما سيقع في الدنيا والآخرة معاً ، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده . قوله تعالى : وقضي الأمر والى الله ترجع الامور ، السكوت عن ذكر فاعل القضاء ، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله : والى الله ترجع الامور ، لإظهار الكبرياء على ما يفعله الاعاظم في الإخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن . ( بحث روائي ) قد تقدم في قوله تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع ، وفي بعض الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مر مراراً في نظائره . وفي التوحيد والمعاني عن الرضا عليهالسلام في قوله تعالى : « هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا إِن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ » قال : يقول : هل ينظرون إِلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت ، وعن قول الله عز وجل : « وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا » قال : ان الله عزّ وجل لا يوصف بالمجيء والذهاب ، تعالى عن الانتقال وانما يعني به وجاء امر ربك والملك صفاً صفاً . أقول : قوله عليهالسلام يقول هل ينظرون ، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائة . والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره فإِن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر ، قال تعالى : « بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الانبياء ـ 27 ، وقال تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ » النحل ـ 2 . وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الإنكاري في قوله : هل ينظرون الا ان يأتيهم الله « الخ » لإنكار مجموع الجملة لا لإنكار المدخول فقط ، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا امراً محالاً وهو : أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم الى الجسم ، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال ، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات ، وفيه : أنه لا يلائم ما مر : أن الآيات
ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجهاً إِلى حال المؤمنين ، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان ، على ان الكلام لو كان مسوقاً لإفاده ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى : « وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أو نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا » الفرقان ـ 21 ، وقوله تعالى : « وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ » الانبياء ـ 26 . على انه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى : في ظلل من الغمام ، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر . ( بحث روائي آخر ) إِعلم أنه ورد عن أئمة أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي عن الباقر عليهالسلام وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق عليهالسلام ، تفسيرها بظهور المهدي عليهالسلام كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر عليهالسلام بطريقين . ونظائره كثيرة فإِذا تصفحت وجدت شيئاً كثيراً من الآيات ورد تفسيرها عن أئمة أهل البيت تارة بالقيامة وأُخرى بالرجعة وثالثة بالظهور ، وليس ذلك إِلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني ، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات ، فمنهم من طرح هذه الروايات ، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرقة ، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها ، ومنهم ـ وهم أمثل طريقة ـ من ينقلها ويقف عليها من غير بحث . وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإِن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة ، وربما لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين الى الشيعة ، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه ، وبعضهم رام إِبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال : ما حاصله : « إِن الموت بحسب العناية الإلهية
لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة الى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إِلى الدنيا بعد موته رجوع الى القوة وهو بالفعل ، هذا محال إِلا أن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإِبراهيم عليهم السلام وغيرهم . ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شيء وما يتمسك به المثبتون غير تام ، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة ، هذا . ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلاً عقلياً أبطل صدره ذيله فما كان محالاً ذاتياً لم يقبل استثنائاً ولم ينقلب بإِخبار المخبر الصادق ممكناً ، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقاً ولو فرض صدقه في إِخباره أوجب ذلك اضطراراً تأويل كلامه الى ما يكون ممكناً كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الإثنين ، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب . وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة الى الفعل الى القوة ثانياً حق لكن الصغرى ممنوعة فإِنه إِنما يلزم المحال المذكور في إِحياء الموتى ورجوعهم الى الدنيا بعد الخروج عنها إِذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه ، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة الى الفعل خروجاً تاماً ثم مفارقتها البدن بطباعها . وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع الى الدنيا بعده محذوراً ، فإِن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني ، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود الى الدنيا بعد استيفاء الشرط ، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة الى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول الى غير هذا المقام . وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه : أن الروايات متواترة معنى عن أئمة أهل البيت ، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الأول ، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة ، على أن عدة من الآيات النازلة فيها ، والروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد ، وسيجيء التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى : « وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا
مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا » النمل ـ 83 وغيره من الآيات . على أن الآيات بنحو الإجمال دالة عليها كقوله تعالى : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم » البقرة ـ 214 ، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إِحياء الأموات كما قصه القرآن من قصص إِبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم ، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان : « والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل » . على أن هذه القضايا التي اخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان ، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفاً وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها . ولنرجع الى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة ، وبالرجعة أو الظهور تارة أُخرى ، فنقول : الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من اوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الاسباب ولا شاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الاوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه الى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم . ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث ، حتى يدفع بعضها بعضاً كما ان النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للأموات منا لا تدفع الدنيا ، ولا الدنيا تدفعها ، قال تعالى : « تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » النحل ـ 63 . فهذه حقيقة يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الاسباب عن
توهم الميت ، فعن علي عليهالسلام « من مات قامت قيامته » ، وسيجيىء بيان الجميع إِنشاء الله . والروايات المثبتة للرجعة وإِن كانت مختلفة الآحاد إِلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إِلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور ، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عبادة خالصة ، لا يشوبها هوى نفس ، ولا يعتريه اغواء الشيطان ، ويعود فيه بعض الاموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إِلى الدنيا ، ويفصل الحق من الباطل . وهذا يفيد : أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة ، وإِن كان دونه في الظهور لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة ، ولذلك ربما أُلحق به يوم ظهور المهدي عليهالسلام أيضاً تمام لظهور الحق فيه أيضاً تمام الظهور وإِن كان هو أيضاً دون الرجعة ، وقد ورد عن أئمة أهل البيت : « أيام الله ثلاثة : يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة » ، وفي بعضها : « أيام الله ثلاثة : يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة » ، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة ، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم عليهم السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أُخرى وبالظهور ثالثة ، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع ، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه . سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ـ211 ـ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ـ 212 .
( بيان ) قوله تعالى : سل بني إِسرائيل كم آتيناهم من آية « الخ » تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى : فإِن زللتم من بعد ما جائتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم ، الآية من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر . يقول : هذه بنو إِسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الامة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك ، ورزقهم من الطيبات ، وفضلهم على العالمين ، سلهم كم آتيناهم من آية بينة ؟ وانظر في امرهم من اين بدئوا وإِلى اين كان مصيرهم ؟ حرّفوا الكلم عن مواضعه ، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أُموراً من عند انفسهم بغياً بعد العلم ، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الانداد ، والاختلاف وتشتت الآراء ، وأكل بعضهم بعضاً ، وذهاب السودد ، وفناء السعادة ، وعذاب الذلة والمسكنة في الدنيا ، ولعذاب الآخرة اخزى وهم لا ينصرون . وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه : من يبدل نعمة واخرجها إِلى غير مجراها فإِن الله يعاقبه ، والله شديد العقاب ، وعلى هذا فقوله : ومن يبدل نعمة الله إِلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم ، سنة جارية . قوله تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ، في موضع التعليل لما مر ، وإِن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فانها إِذا زينت لانسان دعته إِلى هوى النفس وشهواتها ، وأنست كل حق وحقيقة ، فلا يريد الانسان إِلا نيلها : من جاه ومقام ومال وزينة ، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شيء لاجلها وفي سبيلها ، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إِلى التميزات والتعينات ، فينقلب الدين إِلى تميز الزعماء والرؤساء وما يلائم سوددهم ورئاستهم ، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أُمتنا اليوم ، وكنا شاهدناه في بني اسرائيل من قبل ، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من ان يكون كفراً اصطلاحياً أو كفراً مطلقاً في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحاً بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية ، وغيّر نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة
الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب . قوله تعالى : والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الخ ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل . كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ـ 213 . ( بيان ) الآية تبيّن السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به ، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان : ان الانسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه امة واحدة ، ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفّعت بالتبشير والانذار : بالثواب والعقاب ، وأُصلحت بالعبادات المندوبة اليها ببعث النبيين ، وإِرسال المرسلين ، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أُمور المبدء والمعاد ، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية ، وظهرت الشعوب والاحزاب ، وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إِلا بغياً من الذين أُوتوا الكتاب ، وظلماً وعتواً منهم بعد ما تبيّن لهم أُصوله ومعارفه ، وتمت عليهم الحجة ، فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إِلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين ، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إِلى الحق المختلف فيه بإذنه ، والله يهدي
من يشاء إِلى صراط مستقيم . فالدين الالهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني ، والمصلح لامر حياته ، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها ، وينظّم للانسان سلك حياته الدنيوية والاخروية ، والمادية والمعنوية ، فهذا إِجمال تاريخ حياة هذا النوع ( الحياة الاجتماعية والدينية ) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة . وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون مختلفة . ( بدء تكوين الانسان ) ومحصّل ما تبيّنه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولا كل نوع إِنساني بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعاً مشتقاً من نوع آخر حيواني أو غيره : حوّلته اليه الطبيعة المتحولة المتكاملة ، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الارض ، فقد كانت الارض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع واليهما ينتهي هذا النسل الموجود ، قال تعالى : « إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ » الحجرات ـ 13 ، وقال تعالى : « خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » الاعراف ـ 189 ، وقال تعالى : « كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ » آل عمران ـ 59 ، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الانواع وان الانسان مشتق من القرد ، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإِنما هي فرضية ، والفرضية غير مستند الى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية ، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية ، بل حتى الامكانات الذهنية ، اذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع البحث ، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى : « إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ » آل عمران ـ 59 .
( تركبه من روح وبدن ) وقد أنشأ الله سبحانه هذا النوع ، حين ما أنشاء ، مركباً من جزئين ومؤلفاً من جوهرين ، مادة بدنية ، وجوهر مجرد هي النفس والروح ، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية ، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية ، ثم يرجع الانسان إِلى الله سبحانه ، قال تعالى : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ » المؤمنون ـ 16 ، ( انظر الى موضع قوله ثم أنشأناه خلقاً آخر ) ، وفي هذا المعنى قوله تعالى : « فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » ص ـ 72 ، وأوضح من الجميع قوله سبحانه : « وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ » السجدة ـ 11 ، فإِنه تعالى أجاب عن اشكالهم بتفرق الاعضاء والاجزاء واستهلاكها في الارض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفيهم ويضبطهم فلا يدعهم ، فهم غير أبدانهم ! فأبدانهم تضل في الارض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولا فائتة ولا مستهلكة وسيجيء انشاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له . ( شعوره الحقيقي وارتباطه بالاشياء ) وقد خلق الله سبحانه هذا النوع ، وأودع فيه الشعور ، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد ، ففيه قوة الادراك والفكر ، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل اليه امر الحدوث والوقوع ، فله إِحاطة مابجميع الحوادث ، قال تعالى : « عَلَّمَ الانسان مَا لَمْ يَعْلَمْ » العلق ـ 5 ، وقال تعالى : « وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ » النحل ـ 78 ، وقال تعالى : « وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا » البقرة ـ 31 ، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء ، ويستطيع الانتفاع من كل امر ، اعم من الاتصال أو التوسل به إِلى غيره بجعله آلة واداة للاستفادة من غيره ، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية ، وسلوكه في مسالكه الفكرية ، قال تعالى : « خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا » البقرة ـ 29 ، وقال تعالى : « وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ » الجاثية ـ 13 ، إِلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الاشياء مسخره للانسان . ( علومه العملية ) وانتجت هاتان العنايتان : اعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي ان يهيىء لنفسه علوماً وإِدراكات يعتبرها اعتباراً للورود في مرحلة التصرف في الاشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه . توضيح ذلك : انك اذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان ، هذا الموجود الارضي الفعال بالفكر والارادة ، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه انه في افعاله الحيوية يوسط إِدراكات وافكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل ، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان ، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفاً ابتدائياً أو تصرفاً بعد تصرف ، وهذا أمر واضح يجده كل إِنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إِلى أزيد من تنبيه وإِيقاظ . ثم إِذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطراً منها لا يصلح لان يتوسط بين الانسان وبين أفعاله الارادية كمفاهيم الارض والسماء والماء والهواء والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات ، وكمعاني قولنا : الاربعة زوج ، والماء جسم سيال ، والتفاح أحد الثمرات ، وغير ذلك من التصديقات ، وهي علوم وإِدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الادراكية ، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا
( ما نحكي عنه بلفظ أنا ) ، والكليات الاخر المعقولة ، فهذه العلوم والادراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إِرادة ولا صدور فعل ، بل إِنما تحكي عن الخارج حكاية . وهناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا : إِن هناك حسناً وقبحاً وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك ، والخير يجب رعايته ، والعدل حسن ، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية ، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الافكار والادراكات لا هم لنا إِلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الارادية إِلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة . وهي معذلك لا تحكي عن أُمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الامر كذلك في القسم الاول فهي علوم وإِدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية ، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إِحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة ، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل ، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل ، ونفورها عمالا يلائمها يوجب حدوث صور من الاحساسات : كالحب والبغض ، والشوق والميل والرغبة ، ثم هذه الصور الاحساسية تبعثنا إِلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح ، وينبغي ولا ينبغي ، ويجب ويجوز ، إِلى غير ذلك ، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر ، فقد تبين أن لنا علوماً وإِدراكات لا قيمة لها إِلا العمل ، ( وهي المسماة بالعلوم العملية ) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر . والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل ، والاخذ بالتصرف في الكون ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، قال تعالى : « الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ » الاعلى ـ 3 ، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إِلى ما هو كمال وجوده ، وسوق له إِلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه ، سواء كان ذا شعور أو فاقداً للشعور . وقال تعالى في الانسان خاصة : « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا » الشمس ـ 8 ، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإِلهام فطري منه تعالى ، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي ، وهي العلوم العملية التي لا اعتبار
لها خارجة عن النفس الانسانية ، ولعله اليه الاشارة بإِضافة الفجور والتقوى إِلى النفس . وقال تعالى : « وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وإِن الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » العنكبوت ـ 64 ، فإِن اللعب لا حقيقة له إِلا الخيال فقط ، كذا الحياة الدنيا : من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إِنما هي أُمور خيالية لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن ، بمعنى ان الذي في الخارج إِنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الانسان وأحواله . فالموجود بحسب الواقع من « الانسان الرئيس » إنسانيته ، وأما رئاسته فإِنما هي في الوهم ، ومن « الثوب المملوك » الثوب مثلاً ، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن ، وعلى هذا القياس . ( جريه على استخدام غيره انتفاعاً ) فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة ، ومن جملة هذه الافكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله ، وبعبارة أُخرى إِذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه ، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن ، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة ، ويعمل آلات من المادة ، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع ، واستخدام الابرة للخياطة ، واستخدام الاناء لحبس المايعات ، واستخدام السلم للصعود ، إِلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل ، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها . وبذلك يأخذ الانسان ايضاً في التصرف في النبات بأنواع التصرف ، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك ، وبذلك يستخدم ايضاً انواع الحيوان في سبيل منافع حياته ، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:08 pm | |
| وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها ، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين ، فيستخدمها كل استخدام ممكن ، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف ، كل ذلك مما لا ريب فيه . ( كونه مدنياً بالطبع ) غير ان الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه ، وهم أمثاله ، يريدون منه ما يريده منهم ، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم ، وهذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية ، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه ، ويتعادل النسب والروابط ، وهو العدل الاجتماعي . فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني ، والعدل الاجتماعي إِنما هو حكم دعا اليه الاضطرار ، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبداً ، وهذا معنى ما يقال : إِن الانسان مدني بالطبع ، وإِنه يحكم بالعدل الاجتماعي ، فإِن ذلك أمر ولّده حكم الاستخدام المذكور اضطراراً على ما مر بيانه ، ولذلك كلما قوي إِنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثراً فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الامم القوية ، وعلى ذلك جرى التاريخ ايضاً إِلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية . وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى : « إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا » الاحزاب ـ 72 ، وقوله تعالى : « إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا » المعارج ـ 19 ، وقوله تعالى : « إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » إِبراهيم ـ 34 ، وقوله تعالى : « إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ » العلق ـ 7 . ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أولياً لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل ، وحسن تشريك المساعي ، ومراعاة التساوي ، مع ان المشهود دائماً خلاف ذلك ، وإِعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه
الضعيف ، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه . ( حدوث الاختلاف بين افراد الانسان ) ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إِلى الاختلاف الضروري بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والاخلاق المستندة إِلى ذلك ، وإِنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إِلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الإجتماع الصالح من العدل الاجتماعي ، فيستفيد القوي من الضعيف اكثر مما يفيده ، وينتفع الغالب من المغلوب من غير ان ينفعه ، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفاً مغلوباً بالحيلة والمكيدة والخدعة ، فإِذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام ، فكان بروز الاختلاف مؤدياً إِلى الهرج والمرج ، وداعياً إِلى هلاك الانسانية ، وفناء الفطرة ، وبطلان السعادة . وإِلى ذلك يشير تعالى بقوله : « وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا » يونس ـ 19 ، وقوله تعالى : « وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ » هود ـ 119 ، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها : « لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » الآية . وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد ، وإِن كان الجميع إِنساناً بحسب الصورة الانسانية الواحدة ، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الافكار والافعال بوجه ، واختلاف المواد يؤدي إِلى اختلاف الاحساسات والادراكات والاحوال في عين انها متحدة بنحو ، واختلافها يؤدي إِلى اختلاف الاغراض والمقاصد والآمال ، واختلافها يؤدي إِلى اختلاف الافعال ، وهو المؤدي الى اختلال نظام الاجتماع . وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع ، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف ، ونيل كل ذي حق حقه ، وتحميلها الناس . والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد طريقين : الاول : إِلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق ، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة ، مع الغاء المعارف الدينية : من التوحيد والاخلاق الفاضلة ، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور اليه ولا مرعي ، وجعل الاخلاق تابعة للاجتماع وتحوله ، فما وافق حال الاجتماع من الاخلاق فهو الخلق الفاضل ، فيوماً العفة ، ويوماً الخلاعة ، ويوماً الصدق ، ويوماً الكذب ، ويوماً الامانة ، ويوماً الخيانة ، وهكذا . والثاني : إِلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الاخلاق واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية . وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الامة المجتمعة من الانسان : أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط ، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية ، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل ، فيه بوار هذا النوع ، وهلاك الحقيقة الانسانية ، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه ، بدء من عنده وسيعود اليه ، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية ، حياة طويلة الذيل ، غير منقطع الامد ، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية ، وكيفية سلوك الانسان فيها ، واكتسابه الاحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبداً لله سبحانه ، بادئاً منه عائداً اليه ، وإِذا بنى الانسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده ، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه ، واباد حقيقته . فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إِلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير ، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف : من قتل ، وضرب ، وهتك عرض ، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك ، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم . فقال قائل منهم : عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والامتعة ، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي ، فليس إِلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة . وقال قائل منهم : ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه ، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية ، ويأخذ بالرحمة لرفقائه ، والعطوفة والشهامة والفضيلة ، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الامتعة الموجودة ، فليست إِلا لكم ولمنزلكم هذا . وقد أخطأ القائلان جميعاً ، وسهيا عن أن القافلة جميعاً على جناح سفر ، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئاً من ذلك لم يكن يستقبله إِلا الضلال والغى والهلاك . والقائل المصيب بينهم هو من يقول : تمتعوا من هذه الامتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة ، وخذوا من ذلك زاداً لما هو أمامكم من الطريق ، وما أُريد منكم في وطنكم ، وما تريدونه لمقصدكم . ( رفع الاختلاف بالدين ) ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعاً ذلك على أساس التوحيد ، والاعتقاد والاخلاق والافعال ، وبعبارة أُخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إِلى معادهم ، وانهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد ، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل ، فالتشريع الديني والتقنين الالهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره ، قال تعالى : « إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » يوسف ـ 40 ، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها : « فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » الآية ، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والانذار بإِنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم . ومن هذا الباب قوله تعالى : « وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِن هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ » الجاثية ـ 24 ، فإِنهم إِنما
كانوا يصرون على قولهم ذلك ، لا لدفع القول بالمعاد فحسب ، بل لاَن القول بالمعاد والدعوة اليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية ، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية : من العبادات والمعاملات والسياسات . وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين ، واتباع أحكامه في الحياة ، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والاعمال ، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إِلى ما ورائها . وكذا قوله تعالى : « إِن الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ » ـ 30 ، فبيّن تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل ، والله سبحانه يدعو إِلى دار السلام ، ويبني دينه على الحق والعلم ، والرسول يدعو الناس إِلى ما يحييهم ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ » الانفال ـ 24 ، وهذه الحياة هي التي يشير اليها قوله تعالى : « أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا » الانعام ـ 122 ، وقال تعالى : « أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الرعد ـ 19 ، وقال تعالى : « قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » يوسف ـ 108 ، وقال تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » الزمر ـ 9 ، وقال تعالى : « يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ » البقرة ـ 129 ، إِلى غير ذلك ، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة اليه والحث به ، وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل . فما أبعد من الانصاف قول من يقول : ان الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له ، وهؤلاء القائلون أُناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئاً مما وراء الطبيعة ، فظنوا عدم الاثبات إثباتاً للعدم ، وقد أخطأوا في ظنهم ، وخبطوا في حكمهم ، ثم نظروا الى ما في أيدي امثالهم من الناس المتهوسين من أُمور يسمونه باسم الدين ، ولا حقيقة لها غير الشرك ، والله بريء من المشركين ورسوله ، ثم نظروا الى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليداً وقد أخطأوا
في حسبانهم ، والدين أجل شأناً من ان يدعو الى الجهل والتقليد ، وامنع جانباً من ان يهدي الى عمل لا علم معه ، أو يرشد الى قول بغير هدى ولا كتاب منير ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جائه . ( الاختلاف في نفس الدين ) وبالجملة فهو تعالى يخبرنا ان الاختلاف في المعاش وأُمور الحياة إِنما رفع أول ما رفع بالدين ، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين . ثم إِنه تعالى يخبرنا ان الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإِنما أوجده حملة الدين ممن أُوتي الكتاب المبين : من العلماء بكتاب الله بغياً بينهم وظلماً وعتواً ، قال تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، إِلى ان قال ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ » الشورى ـ 14 ، وقال تعالى : « وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » يونس ـ 19 ، والكلمة المشار اليها في الآيتين هو قوله تعالى : « وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ » الاعراف ـ 24 فالاختلاف في الدين مستند إِلى البغي دون الفطرة ، فإِن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » الروم ـ 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة . ( الانسان بعد الدنيا ) ثم إِنه يخبرنا ان الانسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل داراً أُخرى سماها البرزخ ، ثم داراً أُخرى سماها الآخرة غير ان حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية ، ومعنى كون الحياة انفرادية ، انها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني ،
والتشارك والتناصر ، بل السلطنة هناك في جميع احكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر اصلاً ، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بدٌ عن حكومة التعاون والتشارك ، لكن الانسان خلفه وراء ظهره ، وأقبل إِلى ربه ، وبطل عنه جميع علومه العملية ، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا ، وليس له إِلا صحابة عمله ، ونتيجة حسناته وسيآته ، ولا يظهر له إِلا حقيقة الامر ويبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، قال تعالى : « وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا » مريم ـ 80 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ » الانعام ـ 94 ، وقال تعالى : « هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ » يونس ـ 30 ، وقال تعالى : « مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ » الصافات ـ 26 ، وقال تعالى : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » إِبراهيم ـ 48 ، وقال تعالى : « وأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وأنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ » النجم ـ 41 ، إِلى غير ذلك من الآيات ، فهذه الآيات كما ترى تدل على ان الانسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة اجتماعية مبنية على التعاون والتناصر ، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية ، ولا يجنى إِلا ثمرة عمله ونتيجة سعيه ، ظهر له ظهوراً فيجزى به جزاء . قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة ، الناس معروف وهو الافراد المجتمعون من الانسان ، والامة هي الجماعة من الناس ، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى : « إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ » النحل ـ 120 ، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى : « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » يوسف ـ 45 ، أي بعد سنين وقوله تعالى : « وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ » هود ـ 8 ، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى : « وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ » المؤمنون ـ 52 ، وفي قوله تعالى : « إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » الانبياء ـ 92 ، وأصل الكلمة من أم يأم إِذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة ، بل على
جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها ، وهو المصحح لاطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إِذا أُطلقت . وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق ، وعلى السذاجة والبساطة ، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في أُمور الحياة ، ولا اختلاف في المذاهب والآراء ، والدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى : « فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ » ، فقد رتب بعثة الانبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أُمة واحدة فالاختلاف في أُمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة ، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين أُوتوه بغياً بينهم فالاختلاف في الدين إِنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إِنزاله بالبغي . وهذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار ، فإِنا نشاهد النوع الانساني لا يزال يرقى في العلم والفكر ، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة ، عاماً بعد عام ، وجيلاً بعد جيل ، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوماً بعد يوم ، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج ، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة ، والاستفادة من مزايا الحياة ، وكلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه اقل عرفاناً برموز الحياة ، وأسرار الطبيعة ، وينتهي بنا هذا السلوك إِلى الانسان الاولي الذي لا يوجد عنده الا النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة وحدود العيش ، كأنهم ليس عندهم الا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيىء لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون ، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد والإيواء الى الكهوف والدفاع بالحجارة والاخشاب ونحو ذلك ، فهذا حال الانسان في أقدم عهوده ، ومن المعلوم ان قوماً حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهوراً يعتد به ، ولا يبدو فيهم الفساد بذواً مؤثراً ، كالقطيع من الغنم لا هم لافراده الا الإهتداء لبعض ما اهتدى اليه بعض آخر ، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب . غير ان الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما اشرنا اليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلب ، وهو كل يوم يزداد علماً وقوة على طرق الاستفادة ، ويتنبه بمزايا جديدة ، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع ، وفيهم الاقوياء وأُولوا السطوة وأرباب
القدرة ، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم ، وهو منشأ ظهور الإختلاف الإختلاف الفطري الذي دعت اليه قريحة الاستخدام ، كما دعت هذه القريحة بعينها الى الاجتماع والمدنية . ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين ، اذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما ، ويعدل امرهما ، ويصلح شأنهما ، وذلك كالانسان تتسابق قواه في افعالها ، ويؤدي ذلك الى التزاحم ، كما ان جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة ، وهناك عقل يعدل بينهما ، ويقضي لكل بما يناسبه ، ويقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الاخرى في فعلها . والتنافي بين حكمين فطريين فيما نحن فيه من هذا القبيل ، فسلوك فطرة الانسان الى المدنية ثم سلوكها الى الاختلاف يؤديان الى التنافي ، ولكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الانبياء بالتبشير والانذار ، وانزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم : ان المراد بالآية ان الناس كانوا أُمة واحدة على الهداية ، لان الاختلاف انما ظهر بعد نزول الكتاب بغياً بينهم ، والبغي من حملة الكتاب ، وقد غفل هذا القائل عن ان الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافاً واحداً ، وقد مر بيانه ، وعن ان الناس لو كانوا على الهداية فإِنها واحدة من غير اختلاف ، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الانبياء وانزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف ، واشاعة الفساد ، واثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الاخلاق مع استبطانها ؟ ويظهر به ايضاً : فساد ما ذكره آخرون ان المراد بها ان الناس كانوا أُمة واحدة على الضلالة ، اذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى : فبعث الله النبيين « الخ » ، وقد غفل هذا القائل عن ان الله سبحانه يذكر ان هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي أشار اليه بقوله سبحانه : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإِذنه ، انما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب ، وبيان آياته للناس ، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والانزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحح لنسبة ذلك الى حملة الكتاب وعلماء الدين ؟ ويظهر به ايضاً ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو اسرائيل حيث ان الله يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم ، قال تعالى : « فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » الجاثية ـ 16 ، وذلك أنه تفسير من غير دليل ، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم . وأفسد من ذلك قول من قال : إِن المراد بالناس في الآية هو آدم عليهالسلام ، والمعنى ان آدم عليهالسلام كان أُمة واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته ، فبعث الله النبيين « الخ » ، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه . ويظهر به ايضاً فساد قول بعضهم : إِن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى : « وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا » الفتح ـ 7 ، فهو دال على الثبوت ، والمعنى : ان الناس أُمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعاً فإِن الانسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده ، لكثرة حوائجه الوجودية ، واتساع دائرة لوازم حياته ، بحيث لا يتم له الكمال إِلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي ، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره ، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج اليه ويستحقه في وجوده ، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتاً من الأوقات ، يدل عليه ما وصل الينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعياً مدنياً لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير ان ذلك يؤدي إِلى الاختلاف ، واختلال نظام الاجتماع ، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف ، وبلغها اليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين ، وإِنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف . فمحصل المعنى ان الناس أُمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف ، فلذلك بعث الله الانبياء وانزل الكتاب . ويرد عليه اولاً : انه اخذ المدنية طبعاً أولياً للانسان ، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازماً ذاتياً لهذا النوع ، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك ، بل امر تصالحي اضطراري ، وان القرآن ايضاً يدل على خلافه . وثانياً : ان تفريع بعث الانبياء وإِنزال الكتب على مجرد كون الانسان مدنياً بالطبع غير مستقيم إِلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إِلى الاختلاف ،
وظهور الفساد ، فيحتاج الكلام إِلى التقدير وهو خلاف الظاهر ، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام . وثالثاً : أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافاً واحداً ، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين ، حيث تقول : وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس ، ثم تقول وما اختلف فيه اي في الكتاب إِلا الذين أُوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغياً بينهم ، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله ، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس ، فأحد الاختلافين غير الآخر : أحدهما اختلاف عن بغي وعلم ، والآخر بخلافه . قوله تعالى : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين « الخ » ، عبر تعالى بالبعث دون الارسال وما في معناه لان هذه الوحدة المخبر عنها من حال الانسان الاولي حال خمود وسكوت ، وهو يناسب البعث الذي هو الاقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك ، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون ان يعبر بالمرسلين أو الرسل ، على ان البعث وانزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتبنيههم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم ، وإِنبائهم انهم مخلوقون لربهم ، وهو الله الذي لا إِله إِلا الله ، وأنهم سالكون كادحون إِلى الله مبعوثون ليوم عظيم ، واقفون في منزل من منازل السير ، لا حقيقة له إِلا اللعب والغرور ، فيجب ان يراعوا ذلك في هذه الحياة وأفعالها ، وان يجعلوا نصب اعينهم انهم من أين ، وفي اين ، إِلى اين ، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه : من استقر عنده النبأ دون الرسول ، ولذلك عبر بالبنيين ، وفي اسناد بعث النبيين الى الله سبحانه دلالة على عصمة الانبياء في تلقيهم الوحي وتبليغهم الرسالة إِلى الناس وسيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان ، وأما لتبشير والانذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن آمن واتقى ، والوعيد لعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذب وعصى فهما امس مراتب الدعوة بحال لانسان المتوسط الحال ، وإِن كان بعض الصالحين من عباده وأوليائه لا تتعلق نفوسهم لغير ربهم من ثواب أو عقاب . قوله تعالى : وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفو فيه ، الكتاب
فعال بمعنى المكتوب ، والكتاب بحسب المتعارف من اطلاقه وان استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة انما يبرم بالكتابة غالباً شاع اطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أو كل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إِبرامه ، وقد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن ، وبهذا المعنى سمي القرآن كتاباً وهو كلام الهي ، قال تعالى : « كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ » ص ـ 29 ، وقال تعالى : « إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا » النساء ـ 103 وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه ، دلالة على ان المعنى : كان الناس امة واحدة فاختلفوا فبعث الله « الخ » ، كما مر . واللام في الكتاب اما للجنس واما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليهالسلام لقوله تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ » الشورى ـ 13 ، فإِن الآية في مقام الامتنان وتبين ان الشريعة النازلة على هذه الامة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الانبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الانبياء العظام : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم . ولما كان قوله تعالى : وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على ان الشرع إِنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام اولاً : على ان لنوح عليهالسلام كتاباً متضمناً لشريعة ، وانه المراد بقوله تعالى : وانزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، إِما وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس . وثانياً : ان كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة ، اذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله : شرع لكم الآية . وثالثاً : ان هذا العهد الذي يشير تعالى اليه بقوله : كان الناس أُمة واحدة الآية كان قبل بعثة نوح عليهالسلام وقد حكم فيه كتابه عليهالسلام . قوله تعالى : وما اختلف فيه إِلا الذين أُوتوه بغياً بينهم ، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته ، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا » الروم ـ 30 ،
نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه الى البغي . وفي قوله تعالى : إلا الذين أُوتوه ، دلالة على ان المراد بالجملة هو الإشارة إِلى الاصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغياً وإِن كان ضالا عن الصراط السوي ، فإِن الله سبحانه لا يعذر الباغي ، وقد عذر من اشتبه عليه الامر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا ، قال تعالى : « إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » الشورى ـ 42 ، وقال تعالى : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ إِن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ إِلى أن قال ـ : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » التوبة ـ 106 ، وقال تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا » النساء ـ 99 . على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة ، ولكن تنافي التعمد والبغي ، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهية ، قال تعالى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » البقرة ـ 39 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد ، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي الى بغي حملة الكتاب من بعد علم . قوله تعالى : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته ، كما دل عليه قوله تعالى : وأنزل معهم الكتاب بالحق ، وعند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معاً : الاختلاف في شأن الحياة ، والاختلاف في الحق والمعارف الإلهية الذي كان عامله الاصلي بغى حملة الكتاب ، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى : بإِذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إِلزاماً منهم ، وإِيجاباً على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم ، فإِن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم ، ولا يوجب عليه موجب إِلا ما أوجبه على نفسه ، بل كانت الهداية بإِذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد ، وعلى هذا فقوله تعالى : والله يهدي من يشاء إِلى
( 2 ـ الميزان ـ 9 ) صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإِذنه ، والمعنى إِنما هداهم الله بإِذنه لان له أن يهديهم وليس مضطراً موجباً على الهداية في مورد أحد ، بل يهدي من يشاء ، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم . وقد تبين من الآية أولا : حد الدين ومعرّفه ، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاخروي ، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه ، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج . وثانياً : أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعاً للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم استكمل رافعاً للاختلاف الفطري وغير الفطري معاً . وثالثاً : أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة ، فإِذا استوعبها ختم ختماً فلا دين بعده ، وبالعكس إِذا كان دين من الاديان خاتماً كان مستوعباً لرفع جميع جهات الاحتياج ، قال تعالى : « مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، وقال تعالى : « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ » النحل ـ 89 ، وقال تعالى : « وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ » حم السجدة ـ 42 . ورابعاً : أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها . وخامساً : السبب في بعث الانبياء وإِنزال الكتب ، وبعبارة أُخرى العلة في الدعوة الدينية ، وهو أن الانسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني ، وإِذا كانت الفطرة هي الهادية إِلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف ، وكيف يدفع شيء ما يجذبه اليه نفسه ، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إِلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم ، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والإيجاد فما هو مقدمته كذلك ، وقد قال تعالى : « الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شيء إِلى ما يتم به خلقه ، ومن تمام خلقة الانسان أن يهتدي الى كمال وجوده في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى أيضاً : « كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا » الاسراء ـ 20 ، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء : يمد
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:09 pm | |
| كل من يحتاج الى إِمداده في طريق حياته ووجوده ، ويعطيه ما يستحقه ، ولأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه ، من قبل نفسه لا من قبله تعالى . ومن المعلوم أن الانسان غير متمكن من تتميم هذه النقصية من قبل نفسه فإِن فطرته هي المؤدية الى هذه النقصية فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية ؟ . وإِذا كانت الطبيعة الانسانية هي المؤدية الى هذا الاختلاف العائق للانسان عن الوصول الى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت اليه وإِصلاح ما أفسدته ، فالاصلاح ( لو كان ) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة ، وهي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي ، ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الاصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إِلا إِلى نفسه مع ان قيام الانبياء كسائر الامور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية . فالنبوة حالة إِلهية ( وإِن : شئت قل غيبية ) نسبتها إِلى هذه الحالة العمومية من الادراك والفعل نسبة اليقظة إِلى النوم بها يدرك الانسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الانسان ، وهذا الادراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي ، والحالة التي يتخذها الانسان منه لنفسه بالنبوة . ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة الى الاجتماع المدني من جهة وإِلى الاختلاف من جهة أُخرى ، وعنايته تعالى بالهداية الى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود النبوة ، وبعبارة أُخرى دليل النبوة العامة . تقريره : أن نوع الانسان مستخدم بالطبع ، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إِلى الاجتماع المدني وإِلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والايجاد برفعه ولا يرتفع إِلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها ، وهداية الانسان الى كماله وسعادته بأحد أمرين : إِما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية الى الاختلاف فكيف ترفعها ؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة ، وهو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى
بالنبوة والوحي ، وهذه الحجه مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم ، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية ، بينتها التجربة للانسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية ، إِلى أقدم أعصار الحياة الانسانية التي يذكرها التاريخ . فلا الانسان انصرف في حين من احيان حياته عن حكم الاستخدام ، ولا استخدامه لم يؤد الى الاجتماع وقضى بحياة فردية ، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف ، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية ، ولا ان فطرته وعقله الذي يعده عقلاً سليماً قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد ، وناهيك في ذلك : ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية ، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الانسانية ، والحروب المهلكة للحرث والنسل ، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس ، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم ، فما ظنك بالقرون الخالية ، أعصار الجهل والظلمة ؟ . وأما أن الصنع والايجاد يسوق كل موجود إِلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث ، وكذا كون الخلقة والتكوين إِذا اقتضى أثراً لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث ، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدّقه البحث والتجربة معاً : أما البحث : فلأن الدين يدعو الى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الانساني مفروض فيه ، وأما التجربة : فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين ، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الانسان صلحت نفوسهم ، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس ، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقى مرهونة التقدم الإسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك ، وسنستوفي البحث عنه إِنشاء الله في محل آخر أليق به . وسادساً : أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الانساني ،
قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للانسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه . وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الانسان منذ نزول القرآن إِلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرناً تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدماً باهراً ، وقطع بعداً شاسعاً غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية ، وأخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه ، ولم يتقدم حتى قدماً واحداً ، أو رجع أقداماً خلفه القهقرى ، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معاً . وقد اشتبه الامر على من يقول : إِن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإِصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال ، ولا شك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن ، وتشريع قوانين الاسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليهالسلام وموسى عليهالسلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجباً لنسخ شرائع الإسلام ووضع قوانين أُخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر . والجواب عنه : أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للانسان ، بل اعتبر حقيقة الوجود الانساني ، وبنى أساسه على الكمال الروحي والجسمي معاً ، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعاً ، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة والسياسة ، وقد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإِنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية ( والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها ) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني ، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي ، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط ، بل الجسم والروح جميعاً ، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إِلى التتميم ، والوهن المحتاج إِلى التقوية ؟ . وسابعاً : أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الخطاء .
( كلام في عصمة الانبياء ) توضيح هذه النتيجة : أن العصمة على ثلاثة أقسام : العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي ، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة ، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية ، ويرجع بالاخرة إِلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما ، ونعني بالعصمة وجود أمر في الانسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية . وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ ، وبعبارة أُخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطأ في الامور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم ، ونظير الخطأ في تشخيص الامور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث . وكيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم عليهم السلام في جميع الجهات الثلاث : أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة : فيدل عليه قوله تعالى في الآية : « فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ » فإِنه ظاهر في أن الله سبحانه إِنما بعثهم بالتبشير والانذار وانزال الكتاب ( وهذا هو الوحي ) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل ، وبعبارة أُخرى لهداية الناس إِلى حق الاعتقاد وحق العمل ، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم ، وقد قال تعالى : « لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى » طه ـ 52 ، فبيّن أنه لا يضل في فعله ولا يخطيء في شأنه فإِذا أراد شيئاً فإِنما يريده من طريقه الموصل اليه من غير خطأ ، وإِذا سلك بفعل إِلى غاية فلا يضل في سلوكه ، وكيف لا وبيده الخلق والامر وله الملك والحكم ، وقد بعث الانبياء بالوحي إِليهم وتفهيمهم معارف الدين ولا بد أن يكون ، وبالرسالة لتبليغها للناس ولا بد أن يكون ! وقال تعالى أيضاً : « إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا » الطلاق ـ 3 ، وقال أيضاً : « وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ » يوسف ـ 21 . ويدل على العصمة عن الخطأ أيضاً قوله تعالى : « عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا » الجن ـ 28 ، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم ، والاحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير غيرهم ، ليتحقق إِبلاغهم رسالات ربهم ، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي « وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » مريم ـ 64 ، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إِلى بلوغه النبي إِلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره . وهذان الوجهان من الاستدلال وإِن كانا ناهضين على عصمة الانبياء عليهم السلام في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا ، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضاً بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسناً جائزاً كما لو قال : إِن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضاً منه فإِن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغاً لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإِن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلاً للآخر ، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إِلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى . ويدل على عصمتهم مطلقاً قوله تعالى : « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ » الانعام ـ 90 ، فجميعهم عليهم السلام كتب عليهم الهداية ، وقد قال تعالى : « وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ » الزمر ـ 37 . وقال تعالى : « مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ » الكهف ـ 17 ، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال ، فلا يوجد فيهم ضلال ، وكل معصية ضلال كما يشير اليه قوله تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ إِن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا » يس ـ 62 ، فعد كل معصية ضلالاً حاصلاً بإِضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإِثبات هدايته
تعالى في حق الانبياء عليهم السلام ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالاً تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإِبلاغهم إِياه . ويدل عليها أيضاً قوله تعالى : « وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا » النساء ـ 68 ، وقال أيضاً : « اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ » الحمد ـ 7 ، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين ، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الانبياء : « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا » مريم ـ 59 ، فجمع في الانبياء أولاً الخصلتين : اعني الإنعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن هدينا واجتبينا بعد قوله : أنعم الله عليهم ، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية ، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم ، والفريق الثاني غير الأول لان الفريق الاول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني ، وإِذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غياً فالفريق الأول وهم الانبياء ما كانوا يتبعون الشهوات ولا يلحقهم غي ، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى انهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الإطلاق في قوله : أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غياً . وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الانبياء من طريق العقل بأن إِرسال الرسل وإِجراء المعجزات على ايديهم تصديق لقولهم . فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لاهليتهم للتبليغ ، والعقل لا يعد انساناً يصدر منه المعاصي والافعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلاً للدعوة إِلى ذلك المرام فإِجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجهة اليهم بالطاعة . ولا يرد عليه : ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ ، فإِن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه ، إِما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير ، وإِما لأن مقصودهم هو البلوغ إِلى ما تيسر من الامر المطلوب ، والقبض على اليسير والغض عن الكثير وشيء من الامرين لا يليق بساحته تعالى . ولا يرد عليه ايضاً : ظاهر قوله تعالى : « فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة ـ 123 ، فإِن الآية وإِن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه ، لا تصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الاول . ومما يدل على عصمتهم عليهم السلام قوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ » النساء ـ 64 ، حيث جعل كون الرسول مطاعاً غاية للارسال ، وقصر الغاية فيه ، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ ، فلو تحقق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك ارادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد الا الحق . وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولاً أو فعلاً والمعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريداً غير مريد ، آمراً وناهياً ، محباً ومبغضاً بالنسبة الى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والافعال علواً كبيراً وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم ، فان تكليف ما لا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لانه تكليف ولا تكليف وارادة ولا ارادة وحب ولا حب ومدح وذم بالنسبة الى فعل واحد ! ومما يدل على ذلك ايضاً قوله تعالى : « رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء ـ 165 ، فان الآية ظاهرة في ان الله سبحانه
يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل عليهم السلام ، ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح اذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق ارادة الله ورضاه : من قول أو فعل ، وخطاء أو معصية والا كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى . فان قلت : الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الانبياء عليهم السلام لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شيء فإِن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة ، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية . قلت : نعم لكن الذي يحتاج اليه في الابحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي عليهالسلام ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صواباً أو طاعة وهو ظاهر . ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إِلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا » الطلاق ـ 3 ، وكذا قوله تعالى : « إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » هود ـ 56 ، على أن كلاً من الحوادث يحتاج إِلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به ، فهذه الافعال الصادرة عن النبي عليهالسلام على وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إِلى سبب مع النبي عليهالسلام وفي نفسه وهي القوة الرادعة ، وتوضيحه : أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الافعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها معصية ، ولا شك أن الفعل الاختياري إِنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية ، وإِنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها ، فإِن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلاً تحققت الطاعة ، وإِن كان المطلوب ـ أعني الصورة العلمية التي يضاف اليها المشية ـ اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية ، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل ، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الأمر الالهي لما صدر إِلا الطاعة ، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية ( والعياذ بالله ) لم يتحقق
إِلا المعصية ، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بوصف الطاعة دائماً ليس إِلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة ، وهو الاذعان بوجوب العبودية دائماً ، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها ، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية . ومن جهة أُخرى النبي لا يخطیء في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطیء في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الافعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إِلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الاسباب يكون معه ، ولا انضمام من شيء إِلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإِرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي عليهالسلام فيه ، ولازم ذلك إِبطال علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإِرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الافعال الاختيارية عن كونها اختيارية ، وهو ينافي افتراض كونه فرداً من أفراد الانسان الفاعل بالعلم والارادة ، فالعصمة من الله سبحانه إِنما هي بإِيجاد سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صواباً وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكة كما مر . ( كلام في النبوة ) والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة ( وهي وصف إِرشاد الناس بالوحي ) في كلامه كثيراً عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إِلى قسمين أو كالتقسيم : وهما الرسول والنبي ، قال تعالى : « وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ » الزمر ـ 69 ، وقال تعالى : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ » المائدة ـ 109 ، ومعنى الرسول حامل الرسالة ، ومعنى النبي حامل النبأ ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده . وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة ، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر . لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا » مريم ـ 51 ، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إِلى العام كما لا يخفى . وكذا قوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ » الحج ـ 51 ، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلاً منهما مرسلاً لكن قوله تعالى : « وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ » الزمر ـ 69 ، وكذا قوله تعالى : « وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى : « فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ » إِلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال الى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى : وكان رسولاً نبياً الآية ، فإِن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى وكان رسولاً خبيراً بآيات الله ومعارفه ، وكذا قوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ » الآية لامكان ان يقال : ان النبي والرسول كليهما مرسلان الى الناس ، غير ان النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ » يونس ـ 47 ، وقوله تعالى : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا » الاِسراء ـ 15 ، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس الى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء ـ 165 ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا اليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت « ع » من الفرق بينهما . ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه ، قال تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ » المؤمن ـ 78 ، الى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم
بضعة وعشرون نبياً وهم : آدم ، ونوح ، وادريس ، وهود ، وصالح ، وابراهيم ، ولوط ، واسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل ، والياس ، ويونس ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان وايوب وزكريا ، ويحيى ، واسماعيل صادق الوعد ، وعيسى ، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين . وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية ، قال سبحانه : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا » البقرة ـ 246 ، وقال تعالى : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا » البقرة ـ 259 ، وقال تعالى : « إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ » يس ـ 14 ، وقال تعالى : « فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا » الكهف ـ 65 ، وقال تعالى : « وَالْأَسْبَاطِ » البقرة ـ 136 ، وهناك من لم يتضح كونه نبياً كفتى موسى في قوله تعالى : « وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ » الكهف ـ 60 ، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم . وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبياً . واعلم : ان سادات الانبياء هم أُولوا العزم منهم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ، ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليهم ، قال تعالى : « فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » الاحقاف ـ 35 ، وسيجيء ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه ، قال تعالى : « وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا » الاحزاب ـ 7 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا » طه ـ 115 . وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب ، قال تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ » الشورى ـ 13 ، وقال تعالى : « إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ » الاعلى ـ 19 ، وقال تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ إِلى أن
قال : « وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِوَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ـ إِلى أن قال ـ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ » المائدة ـ 51 . والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم كتباً ، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة « الخ » ، بانضمامه إِلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الآية تدل عليه ، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود عليهالسلام ، قال تعالى : « وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا » النساء ـ 163 ، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إِلى آدم ، وشيث ، وادريس ، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع . واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ » النساء ـ 163 ، وسيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إِنشاء الله . ( بحث روائي ) في المجمع عن الباقر عليهالسلام أنه قال : كان الناس قبل نوح أُمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين . وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام في الآية قال : وكان ذلك قبل نوح فقيل : فعلى هدى كانوا ؟ قال بل كانوا ضلالاً ، وذلك إِنه لما انقرض آدم وصالح ذريته ، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إِلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر ، وكذبوا ، إِنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرء : فيها يفرق كل أمر حكيم ، فيحكم الله تبارك وتعالى : ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك ، ـ قلت أفضلالاً كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع بقول ابراهيم : لئن لم يهدني
ربي لاكونن من الضالين أي ناسياً للميثاق . اقول : قوله : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله ، يفسر معنى كونهم ضلالاً المذكور في أول الحديث ، وأنهم إِنما خلوا عن الهداية التفصيلية إِلى المعارف الالهية ، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير اليه قوله عليهالسلام في رواية المجمع المنقولة آنفاً : على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالاً . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أي ناسياً للميثاق ، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإِن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إِطلاق الهداية عليه من عناية . وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال : من أين أثبت أنبياء ورسلاً ؟ قال أبو عبد الله عليهالسلام : إِنا لما أثبتنا : ان لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبون بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في احوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من احياء الموتى ، وابراء الاكمه والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته . اقول : والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة . إِحداها : الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره صلىاللهعليهوآلهوسلم تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة الآية . وثانيتها : الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة ، وما ذكره عليهالسلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى : « وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ » البقرة ـ 23 . وثالثتها : مسئلة عدم خلو الارض عن الحجة وسياتي بيانه إِنشاء الله . وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال : قلت يا رسول الله كم النبيون ؟ قال : مأة وأربعة وعشرون الف نبي ، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جماً غفيراً ، قلت من كان أول الانبياء ؟ قال : آدم ، قلت : وكان من الانبياء مرسلاً ؟ قال : نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون : آدم ، وشيث ، وأُخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم ، ونوح ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأول نبي من بني إِسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي ، قلت : يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال : مأة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إِدريس ثلثين صحيفة ، وعلى إِبراهيم عشرين صحيفة ، وانزل التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان . اقول : والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم ، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي عن الرضا عن آبائه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهالسلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة ، والسيد في الاقبال عن السجاد عليهالسلام ، وفي البصائر عن الباقر عليهالسلام . وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : وكان رسولاً نبياً الآية قال : النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين . اقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى : « فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ » الشعراء ـ 13 ، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل اليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي ، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان ، وربما كانت نبوة من غير رسالة ، فيكون الرسالة أخص من النبوة م
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:11 pm | |
| لا مفهوماً كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول : قلت : كم المرسلون منهم ؟ فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس ، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه
بعضهم على دلالة قوله تعالى : « وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلاً بهذه الرواية ونظائرها . والجواب : أن النبوة أعم مصداقاً من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق . وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : إِنما سمي أُولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إِلى زمن إِبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إِبراهيم كان على شريعة إِبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إِلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه الى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعة عيسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه الى زمن نبينا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم فهؤلاء الخمسة أُولوا العزم ، وهم أفضل الانبياء والرسل عليهم السلام وشريعة محمد لا تنسخ الى يوم القيامة ، ولا نبي بعده الى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه . اقول : وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق عليهالسلام . وفي تفسير القمي في قوله تعالى : فأصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل الآية ، وهم نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى بن مريم عليهم السلام ، ومعنى أُولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إِلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم : وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى . أقول : وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أُولي العزم من الأنبياء خمسة : نوح ، وإِبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم كما رويناه من طرق أهل البيت ، وهناك أقوال أُخر منسوبة إِلى بعضهم : فذهب بعضهم إِلى أنهم ستة : نوح ، وإِبراهيم ، وإِسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وذهب بعضهم إِلى أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين ، وذهب بعضهم
( 2 ـ الميزان ـ 10 ) إِلى أنهم أربعة : ابراهيم ، ونوح ، وهود ، ورابعهم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك . وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال ؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث . أقول : وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بطرق كثيرة . وفي الصافي عن المجمع عن علي عليهالسلام بعث الله نبياً أسود لم يقص علينا قصته . وفي النهج قال عليهالسلام في خطبة له يذكر فيها آدم عليهالسلام : فأهبطه إِلى دار البلية وتناسل الذرية ، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إِليهم ، فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر اليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسيّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة : من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، واحداث تتابع عليهم ، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة أو محجة قائمة ، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم : من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرّفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الابناء ، الى ان بعث الله سبحانه محمداً لإنجاز عدته ، وتمام نبوته الخطبة . اقول : قوله : اجتالتهم أي حملتهم على الجولان الى كل جانب ، وقوله : واتر اليهم ، أي ارسل واحداً بعد واحد ، والاوصاب جمع وصب وهو المرض ، والأحداث جمع الحدث وهو النازلة ، وقوله نسلت القرون اي مضت ، وإِنجاز العدة تصديق الوعد ، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإِرسال رسوله محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبشر به عيسى عليهالسلام وغيره من الانبياء عليهم السلام ، قال تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا » الأنعام ـ 115 . وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : قال الله تعالى لموسى عليهالسلام : وكتبنا له في الالواح من كل شيء فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشيء كله ، وقال تعالى لعيسى : لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وقال الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء . اقول : وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين ، وقوله عليهالسلام قال الله لموسى « الخ » إشارة الى ان قوله تعالى في الالواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة : « وتفصيل كل شيء » اذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله : في الالواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم . ( بحث فلسفي ) مسألة النبوة العامة بالنظر إِلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام وقوانين مجعولة مشرّعة وهي أُمور اعتبارية غير حقيقية ، وإِن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإِن البحث الفلسفي إِنما ينال الاشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا يتناول الامور المجعولة الاعتبارية . لكنها بالنظر إِلى جهة أُخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي ، وذلك أن المواد الدينية : من المعارف الاصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية من جهة أنها تثبت فيها علوماً راسخة أو احوالاً تؤدي الى ملكات راسخة ، وهذه العلوم والملكات تكون صوراً للنفس الانسانية تعين طريقها الى السعادة والشقاوة ، والقرب والبعد من الله سبحانه ، فإِن الإنسان بواسطة الاعمال الصالحة والإعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هيء له عند الله سبحانه من القرب والزلفى ، والرضوان والجنان وبواسطة الاعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صوراً لا تتعلق إِلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار الى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقي . وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية . توضيح ذلك : ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال ، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية ، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل الى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان ، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال ، ويتبدل به قوتها الى الفعلية ، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية . واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد ، والخوف والرجاء ، والرغبة الى المنافع ، والرهبة من المضار ، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضاً متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم ، وخساراً للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم ، والدعوة تحتاج الى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى . فان قلت : كفى في الدعوة ما يدعو اليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل ، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى ، فأي حاجة الى بعث الانبياء . قلت : العقل الذي يدعو إِلى ذلك ، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح ، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقاً ، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة ، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إِحساسات القوى الشهوية والغضبية ، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة ، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو الى الاختلاف ، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إِلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إِلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم ، فلا غناء عن تأييد إِلهي بنبوة تؤيد العقل .
( بحث اجتماعي ) فان قلت : هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير ولكن الطبيعة تميل دائماً إِلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إِلى صلاح أفراده فهو يستقر بالاخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الاصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالأخرة الى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الافراد ، ويشهد به ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل الى التكامل وتتمنى الصلاح وتتوجه الى السعادة اللذيذة عند الانسان ، فمنها ما بلغ مبتغاه وامنيته كما في بعض الامم مثل سويسره ، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول . قلت : تمايل الطبيعة إِلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحداً إِنكاره ، والاجتماع المنتهى الى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إِلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية ، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه بالقوة ، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة والحاضرة متوجهة إِلى الكمال ، ونيل بعضها إِلى المدنية الفاضلة السعيدة ، وقرب البعض الآخر أو بعده ، فإِن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان ، فإِن الانسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم وروح ، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال ، يحتاج إِلى كمال وسعادة تستند اليها في حياته الآخرة ، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالاً له وسعادة بالنسبة اليه ، وحقيقته هذه الحقيقة . فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إِنما يتوجه بالفعل إِلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الانساني ، وإِن كان في قصدها هداية الانسان الى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه ، وضلاله عن
صراطه المستقيم ، فهذا الكمال لا يتم له إِلا بتأييد من النبوة ، والهداية الالهية . فان قلت : لو صحت هذه الدعود النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية ، كما ان هداية الانسان بل كل موجود مخلوق إِلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين ، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات ، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية ، وليس كذلك ، فكيف يكون إِصلاحاً حقيقياً ولا تقبله الاجتماعات الانسانية ؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إِلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة . قلت : أولاً أثر الدعوة الدينية مشهود معاين ، لا يرتاب فيه الا مكابر ، فإِنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت ، ربت أُلوفاً وأُلوفاً من الافراد في جانب السعادة ، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد والاستكبار ، والايمان والكفر ، مضافاً إِلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة احياناً من الزمان ، على ان الدنيا لم تقض عمرها بعد ، ولما ينقرض العالم الانساني ، ومن الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوماً الى اجتماع ديني صالح ، فيه حياة الانسانية الحقيقية وسعادة الفضائل والاخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إِلا الله سبحانه ، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هيناً لا يعبأ به . وثانياً : أن الابحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الاخلاق تثبت أن الأفعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالاحوال والملكات من الاخلاق ترتضع من ثدي الصفات النفسانية ، ولها تأثير في النفوس ، فالافعال آثار النفوس وصفاتها ، ولها آثار في النفوس في صفاتها ، ويستنتج من هناك أصلان : أصل سراية الصفات والاخلاق ، وأصل وراثتها ، فهي تتسع وجوداً بالسراية عرضاً ، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولاً . فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من اقدم عهودها ، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الانسان الاجتماعية من حيث الاخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة ، فللدعوة الدينية آثار في النفوس وإِن لم تجبها ولم تؤمن بها . بل حقيقة الأمر : أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين ، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد ، فإِن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أُمم وجماعات هامة ، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو الى الايمان ، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح ، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإِن كان قليلاً بقايا من آثاره ونتائجه ، فإِن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها : أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو الى الرقية في جميع الشؤون الانسانية ، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب ، وتدعو الى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها ، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعاً ويدعو الى إِصلاح الجميع . فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إِلى الدين وتربيته . ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة ، وأهملت أمر الدين والأخلاق ، فإِنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم ، ولو كانت أصل الفطرة كافيه ، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئاً من ذلك . على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية ، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها ، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهرياً ، فتأخر هؤلاء وتقدم أُولئك ، والكلام طويل الذيل . وبالجملة الأصلان المذكوران ، أعني السراية والوراثة ، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي . فان قلت : فعلى هذا فما فائدة الفطرة فإِنها لا تغني طائلاً وإِنما أمر السعادة بيد النبوة ؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة . قلت : ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة ، فإِن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة الى الانسان ليس أمراً
خارجاً عن هذا النوع ، ولا غريباً عن الفطرة ، فإِن الفطرة هي التي تهتدي اليه ، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك ، وهذا المعين الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضاً أمراً خارجاً عن الانسانية وكمالها ، منضماً الى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلاً ، وإِلا كان ما يعود منه إِلى الانسان أمراً غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر الى ثقل الانسان في وزنه ، بل هو أيضاً كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع ، وهو شعور خاص وإِدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي اليه بالفعل إِلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الالهية كما أن للبالغ من الانسان شعوراً خاصاً بلذة النكاح ، لا تهتدي اليه بالفعل بقية الأفراد غير البالغين بالفعل ، وإِن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الانسانية ، والشعور شعور مرتبط بالفطرة . وبالجملة لا حقيقة النبوه أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبياً ، وخارج عن فطرته ، ولا السعادة التي تهتدي سائر الامة اليها أمر خارج عن إنسانيتهم وفطرتهم ، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني ، وإِلا لم تكن كمالاً وسعادة بالنسبة اليهم . فان قلت : فيعود الاشكال على هذا التقرير الى النبوة ، فإِن الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة . فإِن المتحصل من هذا الكلام ، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة ، وعقولهم سليمة عن الاوهام والتهوسات ورذائل الصفات ، فيهتدون باستقامة فطرتهم ، وسلامة عقولهم الى ما فيه صلاح الاجتماع ، وسعادة الانسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس ، وعمران الدنيا والآخرة ، فإِن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي . قلت : كلا ! وإِنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة ، ولا ما تستتبعه . أما اولاً : فلأن ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني ، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد . فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل ،
وهذا النبوغ يدعو الى الفكر في حال الاجتماع ، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل ، وما يسعد به الانسان الاجتماعي . فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي ، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي ، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين ، وروحه الطاهر الذي يفيض هذه الافكار الى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الامين وهو جبرائيل ، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه ، والكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي ، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إِلى الخير ، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إِلى الشر والفساد ، وعلى هذا القياس . وهذا فرض فاسد ، وقد مر في البحث عن الإعجاز ، أن النبوة بهذا المعنى لان تسمى لعبة سياسية أولى بها من ان تسمى نبوة إِلهية . وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي ، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة ، وتقدم أيضاً أن هذا العقل بعينه هو الداعي الى الاختلاف ، وإِذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف ، واحتاج فيه إِلى متمم يتمم أمره ، وقد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعاً خاصاً من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الانسان وتهتدي به الفطرة الى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده . ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري ، بمعنى أن ما يجده الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي ، والطريق غير الطريق . ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعوراً نفسياً باطنياً ، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده ، يفتح له باباً الى عالم وراء هذا العالم ، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات ، وراء ما يناله العقل والفكر ، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من اوروبا مثل جمز الانجليزي وغيره . فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي ، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني . واما ثانياً : فلأن المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعيسى وموسى وإِبراهيم ونوح « ع » وغيرهم ـ وبعضهم يصدق بعضاً ـ وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن ، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق ، فإِن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام عليهم السلام أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة ، ونشأة المادة ، وحكم الحس ، بحيث لا يعد إِرجاعها الى الطبيعة وحكمها إِلا تأويلاً بما لا يقبله طبع الكلام ، ولا يرتضيه ذوق التخاطب . وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان . فان قلت : فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمراً خارقاً للعادة فإِنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم ، فكيف يمكن أن يسوق الجميع الى اصلاح شأنهم ويهدي النوع الى سعادته الحقيقية ؟ ! وقد مر سابقاً أن كل ما فرض هادياً للانسان الى سعادته وكماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته ، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان اليه . قلت : كون هذا الأمر خارقاً للعادة مما لا ريب فيه ، وكذا كونه أمراً من قبيل الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه ، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة ولا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع المحال ، وللعقل طريق الى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فان له أن يستدل على الشيء من طريق علله وهو الاستدلال اللمي ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده ، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين : فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي
يأتي به النبي على سعادة الإنسان في دنياه وآخرته ، وتارة من جهة اللوازم وهو ان النبوة لما كانت أمراً خارقاً للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء الطبيعة وهوالهها الذي يهديها الى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها الى كماله وسعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفاً خارقاً للعادة وهو التصرف بالوحي ، ولو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزاً جاز غيره من خوارق العادة ، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقاً وكان النبي واجداً لها لكان من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة ، وهذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى : « وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ » البقرة ـ 23 . فان قلت : هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحي النبوة وأثبتها النبي بالإعجاز ، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع الذي جاء به النبي ، لكن ما المؤمن عن الغلط ؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطأ في تشريعه وهو إِنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ . ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني ، وإِضلاله هذا النوع في سيره إِلى سعادته ، فيعود المحذور من رأس . ! قلت : الابحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة ، فإِن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إِنما هو الناموس التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الانواع الوجودية إِلى كماله الوجودي وسعادته الحقيقية ، فإِن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجوداً حقيقياً كسائر الانواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إِلى سعادته ، ومن المعلوم ان الامور الخارجية من حيث انها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط ، أعني ان الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في الخارج ! وإِنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والامور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإِن الصدق والكذب من خواص القضايا ، تعرضها من حيث
مطابقتها للخارج وعدمها ، وإِذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إِلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته ، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحي ، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي ، ولا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه ، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء ، فمن الواجب ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط . فظهر : ان هذا الروح النبوي لا يحل محلاً إِلا بمصاحبة العصمة ، وهي المصونية عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة ، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا اليه سابقاً ، فإِن هذه عصمة في تلقي الوحي من الله سبحانه ، وتلك عصمة في مقام العمل والعبودية ، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحي ، فإِن كلتيهما واقعتان في طريق سعاده الانسان التكوينية وقوعاً تكوينياً ، ولا خطاء ولا غلط في التكوين . وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إِشكال آخر في المقام وهو : أنه لمَ لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغير والتأثر ؟ فإِن الشعور الفطري وان كان أمراً غير مادي ، ومن الامور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إِلا انه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة ، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحواً من التعلق ، وان سلم انه غير مادي في ذاته فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد ، ومع امكان عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة . والجواب : أنا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري ، ولا معنى لتحقق الخطاء في الوجود الخارجي . وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقاً نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضاً للتغير والفساد ، وانما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري ( وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري ) وذلك ان من الشعور شعور الانسان بنفسه ، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغير والخطأ فإِنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي ، وتتمة هذا الكلام موكول إِلى محله . فقد تبين مما مر امور : احدهما : انسياق الاجتماع الانساني إِلى التمدن والاختلاف . ثانيها : ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة . ثالثها : ان رافع هذا الاختلاف إِنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الانسان لا غير . رابعها : ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الانبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان . خامسها : ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إِدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية . سادسها : ان هذه النتائج ( ويهمنا من بينها الثلثة الاخيرة أعني : لزوم بعثة الانبياء ، وكون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخاً ، وكون النبي معصوماً غير غالط في تلقي الوحي ) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي ، وهو سير كل واحد من الانواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول اليها والتلبس بها ، والانسان أحد هذه الانواع ، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة ، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة ، فلا بد ان يكون الوجود يهيىء له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه اليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مر بيانه . أَمْ حَسِبْتُمْ إِن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ـ 214 . ( بيان ) قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة إِلى آخر هذه الآية ، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض . قوله تعالى : ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة ، وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إِلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونعمة حباهم الله بها ، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان ، ولا يلقوا فيه الاختلاف ، ولا يجعلوا الدواء دائاً ، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إِسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم ، فإِن المحنة دائمة ، والفتنة قائمة ، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إِلا بالثبات والتسليم . وفي الآية التفات إِلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة ، فإِن اصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام اليهم في قوله : يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، وإِنما عدل عن ذلك إِلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك ، وبعد انقضاء الوطر عاد إِلى خطابهم ثانياً . . . وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب ، والمعنى على ما قيل : بل أحسبتم ان تدخلوا الجنة « الخ » ، والخلاف في أم المنقطعة معروف ، والحق ان ام لإفادة الترديد ، وأن الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد ، لا انها دلالة وضعية ، فالمعنى في المورد مثلاً : هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات على نعمة الدين ، والاتفاق والاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة « الخ » . قوله تعالى : ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، المثل بكسر الميم فسكون
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:12 pm | |
| الثاء ، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه ، والمراد به ما يمثل الشيء ويحضره ويشخصه عند السامع ، ومنه المثل بفتحتين ، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا » الجمعة ـ 5 ، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى : « انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ » الفرقان ـ 9 ، وإِنما قالوا له صلىاللهعليهوآلهوسلم : مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك ، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله : مستهم البأساء والضراء الخ فالمراد به المعنى الاول . قوله تعالى : مستهم الباساء والضراء الى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الاجمال الذي دل عليه بقوله : ولما ياتكم مثل الذين ، بين ذلك بقوله : مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة الى الانسان في خارج نفسه كالمال والجاه والاهل والامن الذي يحتاج اليه في حيوته ، والضراء هي الشدة التي تصيب الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض ، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل بمعنى عثر ، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الارض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة ، وهو كصر وصرصر ، وصل وصلصل ، وكب وكبكب ، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش . قوله تعالى : حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه ، قرء بنصب يقول ، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها ، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية ، والمعنيان وإِن كانا جميعاً صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق ، فإِن كون الجملة غاية يعلل بها قوله : وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة . قوله تعالى : متى نصر الله ، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعاً ، ولا ضير في ان يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ » الصافات ـ 172 ، وقال تعالى : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » المجادلة ـ 21 ، وقد قال تعالى أيضاً : « حَتَّىٰ إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا » يوسف ـ 110 ، وهو أشد لحناً من هذه الآية . والظاهر أيضاً أن قوله تعالى : ألا إِن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه . . . والآية ( كما مرت اليه الاشارة سابقاً ) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الامة كما جرى في الامم السابقة . وتدل أيضاً على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابراً ، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده . يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ـ 215 . ( بيان ) قوله تعالى : يسئلونك ماذا ينفقون ، قل ما أنفقتم من خير ، قالوا : إِن الآية واقعة على أُسلوب الحكمة ، فإِنهم إِنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه ، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه ، وكان الاحق بالسؤال إِنما هو من ينفق له : صرف الجواب إِلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحق السؤال . والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئاً ، وهو أن الآية مع ذلك متعرضه لبيان جنس ما ينفقونه ، فإِنها تعرضت لذلك : أولاً بقولها : من خير ، إِجمالاً ، وثانياً بقولها : وما تفعلوا من خير فإِن الله به عليم ، ففي الآية دلالة على ان الذي ينفق به هو المال كائناً ما كان ، من قليل أو كثير ، وان ذلك فعل خير والله به عليم ، لكنهم كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه ، وهم : الوالدان والاقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل . ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين : ان المراد بما في قوله تعالى : ماذا
ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإِنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه ، بل هو السؤال عن الكيفية ، وانهم كيف ينفقونه ، وفي أي موضع يضعونه ، فاجيب بالصرف في المذكورين في الآية ، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة . ! ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر : ان السؤال وإِن كان بلفظ ما إِلا ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإِن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال ، وإِذا كان هذا معلوماً لم يذهب اليه الوهم ، وتعين ان السؤال عن الكيفية ، نظير قوله تعالى : « قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا » البقرة ـ 70 ، فكان من المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا ، فلا وجه لحمل قوله : ما هي على طلب الماهية ، فكان من المتعين ان يكون سؤالاً عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها ، ولذلك أُجيب بالمطابقة بقوله تعالى : « إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ الآية » البقرة ـ 71 . وقد اشتبه الأمر على هؤلاء ، فإِن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق ، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين ، لكنه لا يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية ، حتى يصح لقائل ان يقول عند السؤال عن المستحقين للانفاق : ماذا أُنفق : أي على من أُنفق ؟ فيجاب عنه بقوله : للوالدين والأقربين ، فإِن ذلك من أوضح اللحن . بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفاً بالحد والماهية ، أو معرفاً بالخواص والاوصاف ، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشيء ، ومنه يعلم ان قوله تعالى : « يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ » وقوله تعالى : « إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ » ، سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة ، وهو السؤال عما يعرف الشيء ويخصه والجواب بذلك . وأما قول القائل : إِن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطأ ، فإِن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إِلى غيره . ويتلوهما في الغرابة قول من يقول : إِن السؤال كان عن الامرين جميعاً : ما
( 2 ـ الميزان ـ 11 ) ينفقون ؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر ، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه ! وهو كما ترى . وكيف كان لا ينبغي الشك في ان في الآية تحويلاً ما للجواب إِلى جواب آخر تنبيهاً على ان الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم ، وإِلا فكون الانفاق من الخير والمال ظاهر ، والتحول من معنى إِلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول اليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن ، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى : « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً » البقرة ـ 171 وقوله تعالى : « مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ » آل عمران ـ 117 وقوله تعالى : « مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ » البقرة ـ 261 ، وقوله تعالى : « يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » الشعراء ـ 89 ، وقوله تعالى : « قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا » الفرقان ـ 57 ، وقوله تعالى : « سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ » الصافات ـ 160 ، إِلى غير ذلك من كرائم الآيات . قوله تعالى : وما تفعلوا من خير فإِن الله به عليم ، في تبديل الانفاق من فعل الخير هىٰهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إِيماء إِلى أن الانفاق وان كان مندوباً اليه من قليل المال وكثيره ، غير انه ينبغي ان يكون خيراً يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى : « لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » آل عمران ـ 92 ، وكما قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ » البقرة ـ 267 . وايماء إِلى ان الانفاق ينبغى ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والاذى كما قال تعالى : « ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى » البقرة ـ 262 ، وقوله تعالى : « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ » البقرة ـ 219 . ( بحث روائي ) في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من اصحاب محمد ما سألوه إِلا عن ثلاث عشرة مسئلة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : يسئلونك
عن الخمر والميسر ، ويسألونك عن الشهر الحرام ، ويسئلونك عن اليتامى ، ويسئلونك عن المحيض ، ويسئلونك عن الانفال ، ويسئلونك ماذا ينفقون ، ما كانوا يسألون إِلا عما كان ينفعهم . في المجمع في الآية : نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله ! بماذا أتصدق ؟ وعلى من أتصدق ؟ فأنزل الله هذه الآية . اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان ، وقد استضعفوا الرواية ، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إِلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه . ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم اين يضعون أموالهم ؟ فنزلت يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكوة سوى ذلك كله . ونظيرها في ذلك ايضاً ما رواه عن السدي ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على اهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة . اقول : وليست النسبة بين آية الزكاة : « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً » التوبة ـ 104 ، وبين هذه الآية نسبة النسخ وهو ظاهر إِلا ان يعني بالنسخ معنى آخر . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ـ 216 . يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ 217 . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ 218 . ( بيان ) قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، الكتابة كما مر مراراً ظاهرة في الفرض إِذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع ، وفي القضاء الحتم إِذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجهاً اليهم إِلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى : « لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ » النور ـ 61 ، وغير ذلك من الآيات والادلة . ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله : « وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ » وهو لا يناسب إِظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك ، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة اليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين . والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك ، والكره بفتح الكاف : المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره انسان آخر على فعل ما يكرهه ، قال تعالى : « لا يَحِلُّ لَكُمْ إِن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا » النساء ـ 19 ، وقال تعالى : « فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا او كَرْهً » فصلت ـ 11 ، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إِما لان القتال لكونه متضمناً لفناء النفوس وتعب الابدان والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية ، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرهاً وشاقاً للمؤمنين بالطبع ، فإِن الله سبحانه وإِن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح ، وذكر ان فيهم رجالاً صادقين في إِيمانهم مفلحين في سعيهم ، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل ، وهو ظاهر بالرجوع إِلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأُحد والخندق وغيرها ، ومعلوم ان من الجائز
أن ينسب الكراهة والتثاقل إِلى قوم فيهم كاره وغير كاره واكثرهم كارهون ، فهذا وجه . وإِما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين ، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الاموال ورسوخ الاستطاعة ، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال والاستعجال في النزال ، فبيّن تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر ، فإِن لله أمراً في هذا الامر هو بالغه ، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إِلا ظاهره وهذا وجه آخر . وإِما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله ، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤدياً إِلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر ، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة ، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك ، ويدخلوا تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء ، ونفوس الكفار من الهلاك الابدي والبوار الدائم ، فبيّن ذلك انهم مخطئون في ذلك ، فإِن الله ـ وهو المشرع لحكم القتال ـ يعلم ان الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة ، وانه لا يعود من كثير منهم عائد إِلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة ، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إِلى سائر الاعضاء ، الذي لا ينجع فيه علاجٌ دون أن يقطع ويرمي به ، وهذا أيضاً وجه . فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى : ( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إِلا ان الاول أنسب نظراً إِلى ما أُشير اليه من آيات العتاب ، على ان التعبير في قوله : كتب عليكم القتال ، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك . قوله تعالى : وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، قد مر فيما مر ان أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب ، فالله سبحانه إِنما يقول : عسى ان يكون كذا لا لأنه يرجوه ، تعالى عن ذلك ، بل ليرجوه المخاطب أو
السامع . وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب ، محبين للسلم ، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعاً ، بيان ذلك : أنه لو قيل : عسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبوا شيئاً وهو شر لكم ، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإِنهما ربما يخطئان الواقع ، ومثل هذا الكلام إِنما يلقى إِلى من اخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط ، وأما من اخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الاعتزال ، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إِلى خطأه في الامرين جميعاً ، فيقال له : لا في كرهك أصبت ، ولا في حبك اهتديت ، عسى ان تكره شيئاً وهو خير لك وعسى ان تحب شيئاً وهو شر لك لانك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إِلى حقيقة الامر ، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به ايضاً قوله تعالى سابقاً : أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما : عسى ان تكرهوا ، وعسى ان تحبوا . قوله تعالى : والله يعلم وانتم لا تعلمون ، تتميم لبيان خطأهم ، فإِنه تعالى تدرج في بيان ذلك إِرفاقاً بأذهانهم ، فأخذ أولاً بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال بقوله : عسى ان تكرهوا ، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها ، وزوال صفة الجهل المركب كرّ عليهم ثانياً بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إِنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئاً من حقائق الامور ، والذي ترونه مستند إِلى نفوسكم التي لا تعلم شيئاً إِلا ما علمها الله إِياه وكشف عن حقيقته ، فعليكم ان تسلموا اليه سبحانه الأمر . والآية في إِثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ » آل عمران ـ 5 ، وقوله تعالى : « وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ » البقرة ـ 255 ، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ » البقرة ـ 190 . قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر ، واشتمالها مع ذلك على ان إِخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله ، وان الفتنة أكبر من القتل ، يؤذن
بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلاً ، وانه إِنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » الآية ، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم ، وطعن الكفار به ، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه . قوله تعالى : قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ، الصد هو المنع والصرف ، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج ، والظاهر ان ضمير به راجع إِلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد ، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام . والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام ، وقد قيل : إِنها منسوخة بقوله تعالى : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » التوبة ـ 6 ، وليس بصواب ، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال . قوله تعالى : وإِخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ، أي والذي فعله المشركون من إِخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين ، وهم أهل المسجد الحرام ، منه اكبر من القتال ، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إِلى الكفر أكبر من القتل ، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به ، ولم يكن المؤمنون فيما اصابوه منهم إِلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم . قوله تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم إِلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم . قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه « الخ » ، تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار . ( كلام في الحبط ) والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره ، ولم ينسب في القرآن إِلا إِلى العمل كقوله تعالى : « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » الزمر ـ 65 ،
وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ » محمد ـ 33 ، وذيل الآية يدل بالمقابلة على ان الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى : « وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ » هود ـ 16 ، ويقرب منه قوله تعالى : « وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا » الفرقان ـ 23 . وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير ، وقد قيل : إِن اصله من الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إِلى هلاكه . والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الاعمال في الدنيا والآخرة معاً ، فللحبط تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة ، فإِن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة ، قال تعالى : « مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » النحل ـ 97 ، وخسران سعى الكافر ، وخاصة من ارتد إِلى الكفر بعد الايمان ، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه ، فإِن قلبه غير متعلق بأمر ثابت ، وهو الله سبحانه ، يبتهج به عند النعمة ، ويتسلى به عند المصيبة ، ويرجع اليه عند الحاجة ، قال تعالى : « أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا » الأنعام ـ 122 ، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في افعاله ، وليس للكافر ، ومثله قوله تعالى ، « فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ » طه ـ 124 ، حيث يبين ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة ، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيده رحبة وسيعة . وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى : « ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وإِنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ » محمد ـ 11 . فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة الحيوة ، لا خصوص الاعمال العبادية ، والافعال القربية التي كان المرتد عملها واتى بها حال الايمان ، مضافا الى ان الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي ، ولا فعل قربي
لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ » محمد ـ 9 ، وقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ » آل عمران ـ 22 ، الى غير ذلك من الآيات . فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن ان يؤثر في سعادة الحياة ، كما ان الايمان يوجب حياة في الاعمال تؤثر بها اثرها في السعادة ، فإِن آمن الانسان بعد الكفر حييت اعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة ، وإِن ارتد بعد الايمان ماتت اعماله جميعاً وحبطت ، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أُخروية ، لكن يرجى له ذلك إِن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء . ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتد إِلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه . توضيح ذلك : انه ذهب بعضهم إِلى ان أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إِلى حين الموت ، فإِن لم يرجع إِلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك ، واستدل عليه بقوله تعالى « وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » وربما أيّده قوله تعالى : « وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا » الفرقان ـ 23 ، فإِن الآية تبيّن حال الكفار عند الموت ، ويتفرع عليه انه لو رجع إِلى الايمان تملك اعماله الصالحة السابقة على الارتداد . وذهب آخرون إِلى ان الردة تحبط الاعمال من اصلها فلا تعود اليه وان آمن من بعد الارتداد ، نعم له ما عمله من الاعمال بعد الايمان ثانياً إِلى حين الموت ، واما الآية فإِنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع اعماله وافعاله التي عملها في الدنيا ! وانت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف ، ان لا وجه لهذا النزاع اصلاً ، وان الآية بصدد بيان بطلان جميع اعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته ! وهنا مسألة أُخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير ، وهي ان الاعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها ، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن . ذهب بعضهم إِلى التباطل والتحابط بين الاعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم ، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس ، ولازمه ان لا يكون عند الانسان من عمله إِلا حسنة فقط أو سيئة فقط ، ومن قائل بالموارنة وهو ان ينقص من الاكثر بمقدار الاقل ويبقى الباقي سليماً عن المنافي ، ولازم القولين جميعاً ان لا يكون عند الانسان من اعماله إِلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما . ويردهما اولاً قوله تعالى : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » التوبة ـ 102 ، فإِن الآية ظاهرة في اختلاف الاعمال وبقائها على حالها إِلى ان تلحقها توبة من الله سبحانه ، وهو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه . وثانياً : أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الانساني من طريق المجازاة ، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة على حدة إِلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الاحباط ، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد . وذهب آخرون إِلى أن نوع الاعمال محفوظة ، ولكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة . نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » الانفال ـ 29 ، وقال تعالى : « فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ » البقرة ـ 203 ، وقال تعالى : « إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » النساء ـ 31 ، بل بعض الاعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى : « إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ » الفرقان ـ 70 . وهنا مسألة أُخرى هي كالاصل لهاتين المسألتين ، وهي البحث عن وقت استحقاق
الجزاء وموطنه ، فقيل : إِنه وقت العمل ، وقيل : حين الموت ، وقيل : الآخرة ، وقيل : وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إِلى حين الموت وموافاته لم يستحق ذلك إِلا أن يعلم الله ما يؤل اليه حاله ويستقر عليه ، فيكتب ما يستحقه حال العمل . وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات ، فإِن فيها ما يناسب كلاً من هذه الاوقات بحسب الانطباق ، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة . والذي ينبغي أن يقال : إِنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا الآية » ـ 26 ، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهراً متحولاً قابلاً للتحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية ، فإِذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب ، وإِذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب ، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إِلى غيرها ، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده ، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحول والتغير إِلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقاً . وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة الى التكاليف الالهية وترتب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الاطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب المدح والذم عليها ، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسيء بمجرد صدور الفعل عن فاعله ، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلاً للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد والتمرد ، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه ، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قط فإِنما يكون إِذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة . ومن هنا يعلم : أن في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه . وأن الحق أولاً : أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد ، وإِنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه . وثانياً : أن حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند الموت . وثالثاً : أن الحبط كما يتعلق بالأعمال الاخروية كذلك يتعلق بالأعمال الدنيوية . ورابعاً : أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه .
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:14 pm | |
| ( كلام في احكام الاعمال من حيث الجزاء ) من أحكام الأعمال : أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد . قال تعالى : « وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية » ، وكالكفر بآيات الله والعناد فيه . قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » آل عمران ـ 22 ، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة ، قال تعالى : « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم » الزمر ـ 55 ، وقال تعالى : « فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ » طه ـ 124 . وأيضاً : من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول ، قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ » سورة محمد ـ 33 ، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة ، وإِبطال العمل هو الاحباط ، وكرفع الصوت فوق صوت النبي ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ » الحجرات ـ 2 . وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة ، قال تعالى : « وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ » هود ـ 114 ، وكالحج ، قال تعالى : « فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ » البقرة ـ 203 ، وكاجتناب الكبائر ، قال تعالى : « إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » النساء ـ 31 ، وقال تعالى : « الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ » النجم ـ 32 . وأيضاً : من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها الى غيره كالقتل ، قال تعالى : « إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ » المائدة ـ 29 ، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت ، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات الى الغير كما سيجيء . وأيضاً : من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير الى الإنسان لا عينها ، قال تعالى : « لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ » النحل ـ 25 ، وقال : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ » العنكبوت ـ 13 ، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير الى الانسان لا عينها ، قال تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ » يس ـ 12 . وأيضاً : من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب ، قال تعالى : « إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ » الإسراء ـ 75 ، وقال تعالى : « يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ » الأحزاب ـ 30 ، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى : « مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ » البقرة ـ 261 ، ومثله ما في قوله تعالى : « أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ » القصص ـ 54 ، وما في قوله تعالى : « يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ » الحديد ـ 28 ، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقاً ، قال تعالى : « مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا » الانعام ـ 160 . وأيضاً : من الحسنات ما يبدل السيئات الى الحسنات ، قال تعالى : « إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ » الفرقان ـ 70 . وأيضاً : من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير ، قال تعالى : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » الطور ـ 21 ، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الايتام من نسل الظالم ، قال تعالى : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ » النساء ـ 9 . وأيضاً : من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إِلى غيره ، ويجذب حسنات الغير اليه ، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إِلى الغير ، ويجذب سيئاته اليه ، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق ، سيجيء البحث عنه في قوله تعالى : « لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ » الانفال ـ 37 . وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلاً منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إِنشاء الله العزيز . وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر : أن في الاعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاماً يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم ، وذلك أن فعل الاكل مثلاً من حيث انه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية ، إِنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلاً ولا يتخطاه الى غيره ، ولا ينتقل عنه الى شخص آخر دونه ، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة الى صورة أُخرى مثلاً ، ولا يتعداه الى غيره ، ولا يتبدل بغيره ، ولا ينقلب عن هويته وذاته ، وكذا اذا ضرب زيد عمراً كانت الحركة الخاصة ضرباً لا غير وكان زيد ضارباً لا غير ، وكان عمرو مضروباً لا غير الى غير ذلك من الامثلة ، لكن هذه الافعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الاحكام كما قال تعالى :
« وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » البقرة ـ 57 ، وقال تعالى : « وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ » الفاطر ـ 43 ، وقال تعالى : « انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ » الانعام ـ 24 ، وقال تعالى : « ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ » المؤمن ـ 74 . وبالجملة : عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه ، وربما نقل الفعل واسنده الى غير فاعله ، وربما أعطى للفعل غير حكمه الى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني . ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى ( فيما حكاه في كتابه ) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الامور على المجرمين في حال الموت والبرزخ ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول . قال تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ » الزمر ـ 70 ، وقد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى : « وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم » إِبراهيم ـ 22 . ومن هنا نعلم : أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا اليه . والذي يحل به هذه العقدة : ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإِرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إِياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية ، وتمسك بالاصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية ، فعد نفسه مولى والناس عبيداً والانبياء رسلاً اليهم ، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر ، والتبشير والإنذار ،
والوعد والوعيد ، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك . وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس ، فهو يصرح أن الامر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل اليهم ، غير انه شيء لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أُفق إِدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى : « وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » الزخرف ـ 4 . فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الاحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد ، ومن لطيف الأمر : أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الافهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة ، ممكنة التوجيه بها ، فإِن العقل العملي الإجتماعي لا يأبى مثلاً : التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كأن يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول ، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته ، ففي المثال الاول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهراً أفعالاً للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي ، وفي المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة ، في عين أنها افعال للتابعين فيها ، فهي افعال لهم معاً ، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون . وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له ، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل ، أو حسنات الغير حسنات للانسان ، أو للانسان امثال تلك الحسنات ، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة . فالقرآن الكريم يعلل هذه الاحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الانسان بفعل غيره خيراً أو شراً ، وإِسناد الفعل إِلى غير فاعله ، وجعل الفعل غير نفسه ، الى غير ذلك ، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الافهام العامة ، وإِن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس ، وكانت الاحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا ، وسينكشف على
الانسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى : « وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ » الاعراف ـ 53 ، وقال تعالى : « وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( إِلى أن قال ) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ » يونس ـ 39 . وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الاحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » الزلزال ـ 8 ، وقوله تعالى : « وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ » الانعام ـ 164 ، وقوله تعالى : « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » الطور ـ 21 ، وقوله تعالى : « وأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ » النجم ـ 39 ، وقوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا » يونس ـ 44 ، إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وذلك ان الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إِنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره ، وكذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع ، فالمعصية معصيتان ، وكذا تحكم بأن من أعان ظالماً على ظلمه أو اقتدى بإِمام ضلال فهو شريك معصيته ، وفاعل كمثله ، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى : « وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ الآية » ونظائرها من حيث الجزاء ، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض . وإِلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ » الزمر ـ 70 ، فقوله : وهو أعلم بما يفعلون ، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إِنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من افعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند انفسهم من غير علم ولا عقل ، فإِن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن اصحاب السعير « لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ » الملك ـ 10 ، وفي الآخرة ايضاً حيث قال
( 2 ـ الميزان ـ 12 ) « وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا » الاسراء ـ 72 ، وقال تعالى : « نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ » الهمزة ـ 7 ، وقال تعالى في تصديق هذا السلب : « قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ » الاعراف ـ 38 ، فأثبت لكل من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب ، اما المتبوعين فلضلالهم وإِضلالهم ، واما التابعين فلضلالهم وإِقامتهم امر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر انهم جميعاً لا يعلمون . فان قلت : ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة ينافي آيات أُخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى : « كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » فصلت ـ 3 ، وكالآيات التي تحتج عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال ، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إِثبات العقل والإدراك لهم فيه ، على أن هىٰهنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى : « لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » ق ـ 22 ، وقوله تعالى : « وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ » السجدة ـ 12 . قلت : مرجع نفى العلم عنهم في الدنيا نفى اتباع ما عندهم من العلم ، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى : « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا » الإسراء ـ 13 ، وقوله تعالى : « قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ » الزخرف ـ 38 ، إِلى غير ذلك من الآيات ، وسيجيء إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى : « يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ » البقرة ـ 242 . وقد أجاب الإمام الغزالي عن إِشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله : إِن نقل الحسنات والسيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة ، فيرى الظالم مثلاً طاعات نفسه في ديوان غيره ، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى : « لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ » ، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائماً إِلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إِلا يوم القيامة ، وما لا يعلمه الانسان فليس بموجود له وإِن كان موجوداً في نفسه ، فإِذا علمه صار موجوداً له كأنه وجد الآن في حقه . فقد سقط بهذا قول من قال : إِن المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل ؟ . فنقول : المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة ، ولكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها ، وأثر الطاعة ليس أمراً خارجاً عن الانسان لاحقاً به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال ، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إِعادة المعدوم الممتنعة ، وإِن كان جوهراً فما هذا الجوهر ؟ ! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإِن للطاعات تأثيراً في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيراً فيه بالقسوة والظلمة ، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة ، وبالظلم والقسوة يستعد القلب للحجاب والبعد ، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضاد كما قال تعالى : « إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ » وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اتبع السيئة الحسنة تمحقها » والآثام تمحيصات للذنوب ، ولذلك قال عليهالسلام : إِن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله ، وقال عليهالسلام : الحدود كفارات . فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها ، والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور ، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إِلى قلب المظلوم ، وما في قلب المظلوم من الظلمة إِلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيئات . فإِن قال قائل : ليس هذا نقلاً حقيقياً إِذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم ، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة أُخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلاً حقيقة . قلنا إِسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال : انتقل الظل من موضع الى موضع آخر ، وانتقل نور الشمس أو السراج من الارض إِلى الحائط
إِلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات ، فليس فيه إِلا أنه كني بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب ، وسمى إِثبات الوصف في محل وابطال مثله في محل آخر بالنقل ، وكل ذلك شائع في اللسان ، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إِذا ورد ، انتهى ملخصاً . أقول : محصل ما أفاده أن اطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق اي القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني : استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لإمحاء شيء واثبات شيء آخر في محل آخر ، وإِذا إِطرّد هذا الوجه في سائر احكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات ، وقد عرفت انه سبحانه قرر هذه الاحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي ، ويبني عليه احكامه من المصالح والمفاسد ، ولا ريب ان هذه الاحكام العقلية إِنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة ، فيؤاخذ القاتل مثلاً بجرم المقتول او يتحف المقتول او ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد ان الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا . هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن احكام العقل العملي ، واما بالنسبة الى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات الا بحسب التحليل بمعنى ان نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إِذا قيست الى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك . ومن احكام الأعمال : انها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا » آل عمران ـ 30 ، وقال تعالى : « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا » الإسراء ـ 13 ، وقال تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِين » يس ـ 12 ، وقال تعالى : « لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ » ق ـ 22 ، وقد مر البحث عن تجسم الأعمال . ومن احكام الاعمال : ان بينها وبين الحوادث الخارجية ارتباطاً ، ونعني بالاعمال
الحسنات والسيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية ، دون الحركات والسكنات التي هي آثار الاجسام الطبيعية فقد قال تعالى : « وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ » الشورى ـ 30 ، وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ » الرعد ـ 11 ، وقال تعالى : « ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ » الانفال ـ 53 ، والآيات ظاهرة في ان بين الاعمال والحوادث ارتباطاً ما شراً أو خيراً . ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » الاعراف ـ 96 ، وقوله تعالى : « ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » الروم ـ 41 . فالحوادث الكونية تتبع الاعمال بعض التبعية ، فجرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات ، وانفتاح أبواب البركات ، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية ، وتماديه في الغي والضلالة ، وفساد النيات وشناعة الاعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الامم بفشو الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إِلى الانسان واعماله ، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك ، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل . فالامة الطالحة إِذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إِلى إِهلاكها وإِبادتها ، قال تعالى : « أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ » المؤمن ـ 21 ، وقال تعالى : « وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا » الاسراء ـ 16 ، وقال تعالى : « ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ » المؤمنون ـ 44 ، هذا كله في الامة الطالحة ،
والامة الصالحة على خلاف ذلك . والفرد كالامة يؤخذ بالحسنة والسيئة والنقم والمثلات غير ان الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما انه يؤخذ بمظالم غيره كابائه واجداده ، قال تعالى حكاية عن يوسف عليهالسلام : « قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » يوسف ـ 90 ، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزة وغيرهما ، وقال تعالى : « فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ » القصص ـ 81 ، وقال تعالى : « وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا » مريم ـ 50 ، وكأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى : « جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ » الزخرف ـ 28 ، وقال تعالى : « وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ إِن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا » الكهف ـ 82 ، وقال تعالى : « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ » النساء ـ 9 ، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه . وبالجملة إِذا أفاض الله نعمة على أُمة او على فرد من افراد الانسان فإِن كان المنعم عليه صالحاً كان ذلك نعمة انعمها عليه وامتحاناً يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إِذ يقول : « قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » النمل ـ 40 ، وقال تعالى : « لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ » ابراهيم ـ 7 ، والآية كسابقتها تدل على ان نفس الشكر من الاعمال الصالحة التي تستتبع النعم . وان كان المنعم عليه طالحاً كانت النعمة مكراً في حقه واستدراجاً وإِملائاً يملئ عليه كما قال تعالى : « وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ » الانفال ـ 30 ، وقال تعالى : « سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » القلم ـ 45 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ » الدخان ـ 17 . وإذا انزلت النوازل وكرت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإِن كان المصاب صالحاً كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب ، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحك ، قال تعالى : « أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ » العنكبوت ـ 4
وقال تعالى : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ » آل عمران ـ 140 . وإِن كان المصاب طالحاً كان ذلك اخذاً بالنقمة وعقاباً بالاعمال ، والآيات السابقة دالة على ذلك . فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إِلى عامله ، وأما قوله تعالى : « وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ » الزخرف ـ 35 ، فغير ناظر إِلى هذا الباب بل المراد به ( والله اعلم ) ذم الدنيا ومتاعها وانها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه ، ولذلك يؤثر للكافر ، وان القدر للآخرة ولو لا ان افراد الانسان امثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر . فان قيل : الحوادث العامة والخاصة كالسيول والزلازل والامراض المسرية والحروب والاجداب لها علل طبيعية مطردة اذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت ، وعليه فلا محل للتعليل بالاعمال الحسنة والسيئة بل هو فرضية دينية ، وتقدير لا يطابق الواقع . قلت : هذا اشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرض له تفصيلاً في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ » الاعراف ـ 64 . وجملة القول فيه : ان الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبه لمقاصد القرآن واهله ، فهم لا يريدون بقولهم : « ان الاعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيراً أو شراً » ابطال العلل الطبيعية وانكار تأثيرها ، ولا تشريك الاعمال مع العوامل المادية ، كما ان الالهيين لا يريدون بإِثبات الصانع ابطال قانون العلية والمعلولية العام واثبات الاتفاق والمجازفة في الوجود ، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية واستناد بعض الامور اليه والبعض الآخر اليها ، بل مرادهم اثبات علة في طول علة ، وعامل معنوي فوق العوامل المادية ، واسناد التأثير الى كلتا العلتين لكن
بالترتيب : اولاً وثانياً ، نظير الكتابة المنسوبة الى الانسان والى يده . ومغزى الكلام : هو ان سائق التكوين يسوق الانسان الى سعادته الوجودية وكماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة ، ومن المعلوم ان من جملة منازل هذا النوع في مسيره الى السعادة منزل الاعمال ، فإِذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو اشراف سائره الى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد ، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من اعضائه فإِن وفق له اصلح المحل وان عجز عنه تركه مفلجاً لا يستفاد به . وقد دلت المشاهدة والتجربة على ان الصنع والتكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجه اليه ، ولا معنى لاستثناء الانسان في نوعه وفرده عن هذه الكلية ! ودلتا ايضاً على ان التكوين يعارض كل موجود نوعي بامور غير ملائمة تدعوه الى اعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده ويوصله غايته وسعادته التي هيأها له ، فما بال الانسان لا يعتنى في شأنه بذلك ؟ وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى « وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ » الدخان ـ 39 ، وقوله تعالى : « وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا » ص ـ 27 ، فكما ان صانعاً من الصناع اذا صنع شيئاً لعباً ومن غير غاية مثلاً انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرد ايجاده ، ولم يبال : الى ما يؤل امره ؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة ؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقباً لامره شاهداً على راسه ، اذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لاجلها وركب اجزائه للوصول اليها اصلح حاله وتعرض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإِبطاله من راس وتحليل تركيبه والعود الى صنعة جديدة ، كذلك الحال في خلق السموات والارض وما بينهما ومن جملتها الانسان ، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثاً ، ولم يوجده هبائاً ، بل للرجوع اليه كما قال تعالى : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ » المؤمنون ـ 115 ، وقال تعالى : « وإِن إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ » النجم ـ 42 ، ومن الضروري حينئذ ان تتعلق العناية الربانية إِلى
ايصال الانسان كسائر ما خلق من خلق الى غايته بالدعوة والارشاد ، ثم بالامتحان والابتلاء ، ثم بإِهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية ، فإِن في ذلك اتقاناً للصنع في الفرد والنوع وختماً للامر في امة وإِراحة الآخرين ، قال تعالى : « وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ » الانعام ـ 133 ، ( انظر الى موضع قوله تعالى : وربك الغني ذو الرحمة ) . وهذه السنة الربانية اعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي اخبر الله عنها انها سنة غير مغلوبة ولا مقهورة ، بل غالبة منصورة كما قال تعالى : « وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ » الشورى ـ 31 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ » الصافات ـ 173 . ومن احكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء : ان قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء ، ومن خواص قبيل السعادة كل صفة وخاصة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والامن والتأصل والبقاء ، كما ان مقابلاتها من الزهاق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبية وما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء . والآيات القرآنية فيهذا المعنى كثيرة متكثرة ، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلاً : « كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ » إِبراهيم ـ 27 ، وقوله تعالى : « لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ » الأنفال ـ 8 ، وقوله تعالى : « وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ » طه ـ 132 ، وقوله تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ » الصافات ـ 173 ، وقوله تعالى : « وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » يوسف ـ 21 ، الى غير ذلك من الآيات . وتذييل الكلام في هذه الآية الاخيرة بقوله : ولكن اكثر الناس لا يعلمون ، مشعر
بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل اكثرهم جاهلون بها ، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل احد لم يجهلها الاكثرون ، وانما جهلها من جهلها ، وانكرها من انكرها من جهتين : الاولى : ان الانسان محدود فكره ، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده ولا يغيب عنه ، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل ، ويحسب دولة يوم دولة ، ويعد غلبة ساعة غلبة ، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياساً يحكم به على عامة الوجود ، لكن الله سبحانه ، وهو المحيط بالزمان والمكان ، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم على كل شيء إِذا حكم حكم فصلاً ، وإِذا قضى قضى حقاً ، والاولى ، والعقبى بالنسبة اليه واحدة ، لا يخاف فوتاً ، ولا يعجل في أمر ، فمن الممكن ( بل الواقع ذلك ) ان يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إِلى إِصلاح دهر ، أو حرمان فرد ذريعة إِلى فلاح أمة ، فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب ( ساء ما يحكمون ) ، لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه ، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ، قال تعالى : « لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ » آل عمران ـ 196 . والثانية : ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات ، فإِن غلبة الجسمانيات وقهرها ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار ، وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد ، فكانوا يقتلون فريقاً ، ويأسرون آخرين ، ويفعلون ما يشائون بالتحكم والتهكم ، وقد دل التجارب وحكم البرهان على ان الكره والقسر لا يدوم ، وان سلطة الاجانب لا يستقر على الامم الحية استقراراً مؤبداً ، وإِنما هي رهينة أيام قلائل . وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها ، وبأن تربى أفراداً تعتقدها وتؤمن بها ، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإِحكامه حصن ، فإِذا استقر الايمان بمعنى من المعاني فإِنه سوف يظهر دهراً وإِن استخفى يوماً أو برهة ، ولذلك نجد ان الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ اكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:15 pm | |
| فسلاح المعنى أشد بأساً . هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شؤونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال والوهم ، وأما المعنى الحق الذي يدعو اليه سبحانه فإِن أمره أوضح وأبين . فالحق من حيث نفسه لا يقابل إِلا الضلال والباطل ، وماذا بعد الحق إِلا الضلال ، ومن المعلوم ان الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل . والحق من حيث تأثيره وإِيصاله إِلى الغاية أيضاً غير مختلف ولا متخلف ، فإِن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزاً مأجوراً ، وإِن غلب عليه عدو الحق ، فإِن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار ، ووافق ذلك رضاه تعالى ، قال تعالى : « إِلَّا إِن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » آل عمران ـ 28 ، وان قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتاً ، قال تعالى : « وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ » البقرة ـ 154 . فالمؤمن منصور غير مغلوب أبداً ، اما ظاهراً وباطناً ، واما باطناً فقط ، قال تعالى : « قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ » التوبة ـ 52 . ومن هنا يظهر : أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهراً وباطناً معاً ، أما ظاهراً : فإِن الكون كما عرفت يهدي النوع الانساني هداية تكوينية إِلى الحق والسعادة ، وسوف يبلغ غايته ، فإِن الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به ، وانما هو مقدمة لظهور الحق ولما ينقض سلسلة الزمان ولما يفن الدهر ، والنظام الكوني غير مغلوب البتة ، وأما باطناً : فلما عرفت ان الغلبة لحجة الحق . واما ان لحقَّ القول الفعل كل صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن ، ولباطل القول والفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا اليه في سابق الابحاث : ان المستفاد من قوله تعالى : « ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ » المؤمن ـ 62 ، وقوله تعالى : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » السجدة ـ 7 وقوله تعالى « مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ » النساء ـ 79 ، ان السيئات أعدام وبطلانات غير مستندة الى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض
للوجود بخلاف الحسنات ، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كل جمال وحسن ، ومنبع كل خير وسعادة كالثبات والبقاء ، والبركة والنفع دون السيئى من القول والفعل ، قال تعالى : « أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » الرعد ـ 17 . ومن احكام الاعمال : ان الحسنات من الاقوال والأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الأفعال والأقوال ، وقد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل ( ونعني بالعقل ما يدرك به الانسان الحق والباطل ، ويميز به الحسن من السيئى ) . ولذلك أوصى باتباعه ونهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغش والغرر في المعاملات ، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإِن هذه الافعال والاعمال توجب خبط العقل الانساني في عمله وقد ابتنيت الحياة الانسانية على سلامة الادراك والفكر في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية . وأنت إِذا حللت المفاسد الاجتماعية والفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت ان الاساس فيها هي الاعمال التي يبطل بها حكومة العقل ، وان بقية المفاسد وان كثرت وعظمت مبنية عليها ، ولتوضيح الامر في هذا المقام محل آخر سيأتي إِنشاء الله تعالى . ( بحث روائي ) في الدر المنثور : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإِن كان خلاف هواك فإِن ذلك مثبت في كتاب الله ، قلت : يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن ؟ قال وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . اقول : وفي الرواية إِشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإِنما يختلف باختلاف الاعتبار ، واما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه ، وقد مر ان عسى في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين : كل شيء في القرآن عسى فإِن عسى من الله واجب ! واعجب منه ما نقل عن بعض آخر : ان كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إِلا حرفين : حرف في التحريم : عسى ربه إِن طلقكن ، وفي بني إِسرائيل عسى ربكم ان يرحمكم . وفي الدر المنثور ايضاً : اخرج ابن جرير من طريق السدي : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث سرية وفيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الاسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن صفوان السلمي حليف لبني نوفل ، وسهل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة . وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب ، وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره ان لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإِذا فيه ان سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص فإِني موص وماض لأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان ، أضلا راحلة لهما ، وسار ابن جحش فإِذا هم بالحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان ، وعمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة وانفلت المغيرة ، وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها اصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما رجعوا إِلى المدينة بالاسيرين وما غنموا من الاموال ، قال المشركون : محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ » ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمداً ، والفتنة وهي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله : وصد عن سبيل الله وكفر به . اقول : والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم ، وروي هذا المعنى ايضاً في المجمع ، وفي بعض الروايات : ان السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم ، وفي الدر المنثور أيضاً : أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عبد الله بن جحش إِلى
نخلة فقال له : كن بها حتى تأتينا بخبر من اخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتاباً قبل ان يعلمه انه يسير ، فقال اخرج انت واصحابك حتى إِذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه ، فما أمرتك به فامض له ، ولا تستكرهن أحداً من اصحابك على الذهاب معك ، فلما سار يومين فتح الكتاب فإِذا فيه : ان امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من اخبار قريش بما اتصل اليك منهم ، فقال لاصحابه حين قرء الكتاب : سمع وطاعة ، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ، فإِني ماض لأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإِن رسول الله قد نهاني ان استكره منكم أحداً فمضى معه القوم ، حتى اذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه ، فتخلفا عليه يطلبانه ، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة ، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف ، أدم وزيت ، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقاً ، قال عمار : ليس عليكم منه بأس ، وائتمر القوم بهم اصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو آخر يوم من جمادي ، فقالوا : لئن قتلتموهم انكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وهرب المغيرة فأعجزهم ، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، فأوقف رسول الله الاسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئاً ، فلما قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما قال سقط في ايديهم وظنوا ان قد هلكوا وعنفهم إِخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش ـ حين بلغهم أمر هؤلاء ـ : قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال ، وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام ، فأنزل الله في ذلك : يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية ، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم العير وفدى الاسيرين ، فقال المسلمون : ـ يا رسول الله ! أتطمع ان يكون لنا غزوة ؟ فانزل الله : إِنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أُولئك يرجون رحمة الله ، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش . اقول : وفي كون قوله تعالى : إِن الذين آمنوا والذين هاجروا الآية ، نازلة في أمر
أصحاب عبد الله بن جحش روايات أُخر ، والآية تدل على عذر من فعل فعلاً قربيّاً فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء ، وتدل أيضاً على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب . وفي الروايات إِشارة إِلى ان المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك ، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين ، ويؤيده أيضاً ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من اصحاب محمد ما سألوه إِلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كلهن في القرآن : منهن يسألونك عن الخمر والميسر ، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية ، ويؤيد ذلك ان الخطاب في الآية إِنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم . يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ـ 219 . فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وأَن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ 220 ـ . ( بيان ) قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر ، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر ، والاصل في معناه الستر ، وسمي به لانه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر ، ويقال : لما تغطي به المرأة رأسها الخمار ، ويقال : خمرت الإناء إِذا غطيت رأسها ، ويقال : أخمرت العجين إِذا أدخلت فيه الخمير ، وسميت الخميرة خميرة لانها تعجن أولاً ثم تغطى وتخمر من قبل ، وقد كانت العرب لا تعرف من اقسامه إِلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير ، ثم زاد الناس في اقسامه
تدريجاً فصارت اليوم أنواعاً كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر ، والجميع خمر . والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والاصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل ، وقد كان اكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار ، وهو الضرب بالقداح وهي السهام ، وتسمى أيضاً : الازلام والاقلام . وأما كيفيتة فهي انهم كانوا يشترون جزوراً وينحرونه ، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزئاً ، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل ، والمعلى ، والمنيح ، والسنيح ، والرغد ، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزئاً ، وللتوأم جزئان ، وللرقيب ثلاثة أجزاء ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلي سبعة ، وهو أكثر القداح نصيباً ، وأما الثلاثة الاخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها ، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الاجزاء المفروضة ، وصاحبوا القداح الثلاثة الاخيرة يغرمون قيمة الجزور ، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الانصباء والسهام . قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير ، وقرء إِثم كثير بالثاء المثلثة ، والاثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشيء أو في العقل يبطىء الانسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أُمور أُخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاخرى وهذان على هذه الصفة . أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والامعاء والكبد والرئة وسلسلة الاعصاب والشرائين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما الف فيه تأليفات من حذاق الاطباء قديماً وحديثاً ، ولهم في ذلك احصائات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الامراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك . وأما مضراته الخلقية : من تشويه الخلق وتأديته الانسان إِلى الفحش ، والاضرار والجنايات ، والقتل وإِفشاء السر ، وهتك الحرمات ، وإِبطال جميع القوانين والنواميس الانسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة ، وخاصة ناموس العفة في
الاعراض والنفوس والاموال ، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل ، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا ونغصت عيشة الانسان إِلا وللخمر فيها صنع مستقيماً أو غير مستقيم . وأما مضرته في الادراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الانسان وتغييره مجرى الادراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الاثم والفساد ، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاخر . والشريعة الاسلامية كما مرت اليه الاشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم ، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر ، والميسر ، والغش ، والكذب ، وغير ذلك ، ومن اشد الافعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الافعال وقول الكذب والزور من بين الاقوال . فهذه الاعمال أعني : الاعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الانسانية ، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة الا وهي امر من سابقتها ، وكلما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة ، فخاب السعي ، وخسر العمل ، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء الا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخراً ، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة انشاء الله . ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون الى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الاعمال الشهوانية اسرع من شيوع الحق والحقيقة ، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجرى على نواميس السعادة الانسانية ، ولذلك ان الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الاحكام على سبيل التدريج ، وكلفهم بالرفق والامهال . ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات : احديها : قوله تعالى : « قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » الاعراف ـ 33 ، والآية مكية حرم فيها الإثم صريحاً ، وفي الخمر
( 2 ـ الميزان ـ 13 ) اثم غير انه لم يبين ان الاثم ما هو وان في الخمر اثماً كبيراً . ولعل ذلك انما كان نوعاً من الارفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الاغماض كما يشعر به ايضاً قوله تعالى : « وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا » النحل ـ 67 ، والآية أيضاً مكية ، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ » النساء ـ 43 ، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في افضل الحالات وفي افضل الاماكن وهي الصلاة في المسجد . والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى ان تنزل بعد آية البقرة وآيتي المائدة فإِنهما تدلان على النهي المطلق ، ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق ، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإِن التدريج سلوك من الاسهل إِلى الاشق لا بالعكس . ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا » وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الاثم في الخمر « فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ » وتقدم نزول آية الاعراف المكية الصريحة في تحريم الاثم . ومن هنا يظهر : فساد ما ذكره بعض المفسرين : ان آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإِن قوله تعالى : « قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ » لا يدل على أزيد من ان فيه إِثماً والاثم هو الضرر ، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة اخرى ، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة ، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون ، كأنهم رأوا انهم يتيسر لهم ان ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى : « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِلى قوله تعالى : فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ » . وجه الفساد أما أولاً : فإِنه أخذ الاثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الاثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع ، وكيف يمكن أخذ الاثم بمعنى الضرر في قوله تعالى : « وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا
عَظِيمًا » النساء ـ 47 ، وقوله تعالى : « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : « إِن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ » المائدة ـ 29 ، وقوله تعالى : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ » النور ـ 11 ، وقوله تعالى : « وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ » النساء ـ 111 ، إِلى غير ذلك من الآيات . وأما ثانياً : فإِن الآية لم تعلل الحكم بالضرر ، ولو سلم ذلك فإِنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة ، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول « وإِثمهما أكبر من نفعهما » وارجاعها مع ذلك الى الاجتهاد ، اجتهاد في مقابل النص . واما ثالثاً : فهب ان الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الاثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الاعراف المحرمة للإِثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية ! . على ان آية الاعراف تدل على تحريم مطلق الاثم وهذه الآية قيدت الاثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في ان الخمر فرد تام ومصداق كامل للاثم لا ينبغي الشك في كونه من الاثم المحرم ، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالاثم ولم يصف الاثم في شيء من ذلك بالكبر إِلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى : « وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا » النساء ـ 48 ، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم . ثم نزلت آيتا المائدة : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ » المائدة ـ 91 ، وذيل الكلام يدل على ان المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل : فهل أنتم منتهون ، هذا كله في الخمر . واما الميسر : فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة امر مشهود معاين ، والعيان يغني عن البيان ، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة انشاء الله . ولنرجع الى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى : قل فيهما اثم
كبير ومنافع للناس ، قد مر الكلام في معنى الاثم ، واما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الاعداد ، والكبر يقابل الصغر كما ان الكثرة تقابل القلة ، فهما وصفان اضافيان بمعنى ان الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة الى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة الى آخر اكبر منه ، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولا صغر كما لا يكون كثرة ولا قلة ، ويشبه ان يكون اول ما تنبه الناس لمعنى الكبر انما تنبهوا له في الاحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية ، ثم انتقلوا من الصور الى المعاني فإستطردوا معنى الكبر والصغر فيها ، قال تعالى : « إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ » ـ المدثر ـ 35 ، وقال تعالى : « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ » الكهف ـ 5 ، وقال تعالى : « كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ » الشورى ـ 13 ، والعظم في معناه كالكبر ، غير ان الظاهر ان العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد اجزاء البدن من الحيوان فإِن كبر جسم الحيوان كان راجعاً الى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الاصلية . والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الامور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما ان الخير والشر يطلقان على الامور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها ، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي ، ولما قوبل ثانياً بين الاثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إِفراد المنافع والغاء جهة الكثرة فيها فإِن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل : واثمهما اكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما . قوله تعالى : ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة ، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إِمحاء الاثر والعفو بمعنى التوسط في الانفاق ، وهذا هو المقصود في المقام ، والله العالم . والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين الآية . قوله تعالى : يبين الله لكم إِلى قوله : في الدنيا والآخرة ، الظرف أعني قوله
تعالى : في الدنيا والآخرة ، متعلق بقوله : تتفكرون وليس بظرف له ، والمعنى لعلكم تتفكرون في امر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما ، وان الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إِلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا . وفي الآية أولاً : حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة ، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الاخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية ، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الانسان وشقاوته . وثانياً : ان القرآن وان كان يدعو إِلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد ، غير انه لا يرضي ان يؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الامر ، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى . وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الاحكام والقوانين ، وايضاح اصول المعارف والعلوم . قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير ، في الآية اشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى ، ثم قيل ولو شاء الله لأعنتكم ، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى ، والامر على ذلك ، فإِن ههنا آيات شديدة اللحن في امر اليتامى كقوله تعالى « إِن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا » النساء ـ 10 وقوله تعالى : « وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا » النساء ـ 2 ، فالظاهر ان الآية نازلة بعد آيات سورة النساء ، وبذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي ، وفي قوله تعالى : قل إِصلاح لهم خير ، حيث نكر الاصلاح ، دلالة على ان المرضي عند الله سبحانه نوع من الاصلاح لا كل إِصلاح ولو كان إِصلاحاً في ظاهر الامر فقط ،
فالتنكير في قوله تعالى : إِصلاح لإفاده التنويع فالمراد به الاصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة ، ويشعر به قوله تعالى ـ ذيلاً ـ : والله يعلم المفسد من المصلح . قوله تعالى : وإِن تخالطوهم فإِخوانكم ، إِشارة إِلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإِلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم ، وبذلك يحصل التوازن بين اثقال الاجتماع ، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي ، وبين الغني المثرى والفقير المعدم ، وكذا كل ناقص وتام ، وقد قال تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » الحجرات ـ 10 . فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم ان يكون كالمخالطة بين الاخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس ، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له ، فالآية تحاذي قوله تعالى : « وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا » النساء ـ 2 ، وهذه المحاذاة من الشواهد على ان في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضاً ذيلها ، وكما يدل عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح ، فالمعنى : ان المخالطة ان كانت ( وهذا هو التخفيف ) فلتكن كمخالطة الاخوين ، على التساوي في الحقوق ، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإِن ذلك لو كان بغرض الاصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير ، ولا يخفى حقيقة الامر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإِن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح . قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح إِلى آخر الآية ، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز ، والعنت هو الكلفة والمشقة . ( بحث روائي ) في الكافي عن علي بن يقطين : قال سأل المهدى أبا الحسن عليهالسلام عن الخمر : هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل ؟ فإِن الناس إِنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن عليهالسلام : بل هي محرمة فقال : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن ؟ فقال : قول الله تعالى : إِنما حرم ربي الفواحش ما
ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق ( إِلى ان قال : ) فأما الاثم فإِنها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أكبر من نفعهما ، فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر واثمهما اكبر من نفعهما كما قال الله تعالى ، فقال المهدي : يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية ، فقلت له : صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، قال : فوالله ما صبر المهدي ان قال لي : صدقت يا رافضي . اقول : وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية . وفي الكافي أيضاً عن ابي بصير عن احدهما عليهما السلام قال : إِن الله جعل للمعصية بيتاً ، ثم جعل للبيت باباً ، ثم جعل للباب غلقاً ، ثم جعل للغلق مفتاحاً ، فمفتاح المعصية الخمر . وفيه أيضاً عن ابي عبد الله عليهالسلام قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إِن الخمر رأس كل إِثم . وفيه عن اسماعيل قال : أقبل أبو جعفر عليهالسلام في المسجد الحرام فنظر اليه قوم من قريش فقالوا : هذا إِله أهل العراق فقال بعضهم : لو بعثتم اليه بعضكم ، فأتاه شاب منهم : فقال يا عم ما أكبر الكبائر ؟ قال عليهالسلام : شرب الخمر . وفيه أيضاً عن ابي البلاد عن احدهما عليهما السلام قال : ما عُصي الله بشيء أشد من شرب المسكر ، إِن احدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على امه وابنته ، واخته وهو لا يعقل . وفي الاحتجاج : سأل زنديق أبا عبد الله عليهالسلام : لم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها ؟ قال : حرمها لانها ام الخبائث ورأس كل شر ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية الا ركبها الحديث . اقول : والروايات تفسر بعضها بعضاً ، والتجارب والاعتبار يساعدانها . وفي الكافي عن جابر عن ابي جعفر عليهالسلام قال : لعن رسول الله في الخمر عشرة : غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة اليه ،
وبايعها ، ومشتريها وآكل ثمنها . وفي الكافي والمحاسن عن الصادق عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر . اقول : وتصديق الروايتين قوله تعالى : « وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » المائدة ـ 3 . وفي الخصال بإِسناده عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أربعة لا ينظر الله اليهم يوم القيامة : عاق ، ومنان ، ومكذب بالقدر ، ومدمن خمر . وفي الأمالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق عليهالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمراً في الدنيا إِلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذباً بعد أو مغفوراً له . ثم قال : إِن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوداً وجهه ، مزرقة عيناه ، مائلاً شدقه ، سائلاً لعابه ، والغاً لسانه من قفاه . وفي تفسير القمي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : حق على الله ان يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات ، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد ، والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه . اقول : ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى : « إِن شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » الدخان ـ 49 . وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة . وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن عليهالسلام قال : سمعته يقول : الميسر هو القمار . اقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها . وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عباس : إِن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا : إِنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا ، فما ننفق منها ، فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالاً يأكل حتى يتصدق به . وفي الدر المنثور أيضاً عن يحيى : أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالا : يا رسول الله إِن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا ؟ فأنزل الله : ويسألونك ماذا ينفقون . قل العفو . وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : العفو الوسط . وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليه السلام : الكفاف . وفي رواية أبي بصير : القصد . وفيه أيضاً عن الصادق عليهالسلام : في الآية : الذين إِذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ، قال : هذه بعد هذه ، هي الوسط . وفي المجمع عن الباقر عليهالسلام : العفو ما فضل عن قوت السنة . اقول : والروايات متوافقة ، والاخيرة من قبيل بيان المصداق . والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء ، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إِنشاء الله . وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى : عن الصادق عليهالسلام قال : إِنه لما نزلت : إِن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إِنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ، أخرج كل من كان عنده يتيم ، وسألوا رسول الله في إِخراجهم فأنزل الله : يسألونك عن اليتامى قل إِصلاح لهم خير وإِن تخالطوهم فإِخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح . وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : ولا تقربوا مال اليتيم إِلا بالتي هي أحسن ، وإِن الذين يأكلون أموال اليتام الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأنزل الله : ويسألونك عن اليتامى قل إِصلاح لهم خير وإِن تخالطوهم فإخوانكم ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . اقول : وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة . وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:16 pm | |
| ( بيان ) قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، قال الراغب في المفردات : أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ، ومحال ان يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع ، كلها كنايات ، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه ، انتهى ، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود . والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه ، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان ، فالقول بتعدد الإله واتخاذ الاصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة ـ وخاصة ـ إِنهم قالوا : عزير ابن الله أو المسيح ابن الله ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحبائه وهو شرك ، وأخفى منه القول باستقلال الاسباب والركون اليها وهو شرك ، إِلى أن ينتهي إِلى ما لا ينجو منه إِلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات الى غير الله عزت ساحته ، فكل ذلك من الشرك ، غير أن إِطلاق الفعل غير إِطلاق الوصف والتسمية به ، كما أن من ترك من المؤمنين شيئاً من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافراً ، قال تعالى : « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( الى أن قال ) وَمَن كَفَرَ فإِن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ » آل عمران ـ 97 ، وليس تارك الحج كافراً بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة ، ولو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين ، وكالفاسقين والظالمين الى غير ذلك لا تعادل
الافعال المشاركة لها في مادتها ، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم ، ولاسناد الفعل حكم آخر على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إِنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى : « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ » البينة ـ 1 ، وقوله تعالى : « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ » التوبة ـ 28 ، وقوله تعالى : « كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ » التوبة ـ 7 ، وقوله تعالى : « وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً » التوبة ـ 36 ، وقوله تعالى : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » التوبة ـ 5 إِلى غير ذلك من الموارد . وأما قوله تعالى : « وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » البقرة ـ 135 ، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضاً لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى : « مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » آل عمران ـ 67 ، ففي إِثبات الحنف له عليهالسلام تعريض لاهل الكتاب ، وتبرئه لساحة إِبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إِلى مادية اليهود محضاً والى معنوية النصارى محضاً بل هو عليهالسلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكاً المشركين عبدة الأوثان . وكذا قوله تعالى : « وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ » يوسف ـ 106 ، وقوله تعالى : « وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ » فصلت ـ 7 ، وقوله تعالى : « إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ » النحل ـ 100 ، فإِن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركاً غير مؤمن ، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين ، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الاولياء المقربون من صالحي عباد الله . فقد ظهر من هذا البيان على طوله : ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب . ومن هنا يظهر : فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى :
« الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ الآية » المائدة ـ 6 . أو أن الآية أعني قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات ، وآية الممتحنة اعني قوله تعالى : « وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ » الممتحنة ـ 10 ، ناسختان لآية المائدة ، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة . وجه الفساد : ان هذه الاية اعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إِلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها ، وكذا آية الممتحنة وإِن اخذ فيها عنوان الكوافر وهو اعم من المشركات ويشمل اهل الكتاب ، فإِن الظاهر ان اطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى « مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فإِن اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ » البقرة 98 إِلا أن ظاهر الاية كما سيأتي إِنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إِبقائها على الزوجية السابقة إِلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها ، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية . ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتدائاً لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة ، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف ، على ما يعطيه التدبر في سياقها ، فهي ابية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة ، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة . على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة ، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق . قوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ، الظاهر أن المراد بالأمة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الإماء ويعيرون من
تزوج بهن ، فتقييد الأمة بكونها مؤمنة ، وإِطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهن ، والتحرز عن التزوج بهن يدل على ان المراد أن المؤمنة وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الانسان بحسب العادة . وقيل : ان المراد بالأمة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده ، وهو بعيد . قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن « الخ » ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة . قوله تعالى : اولئك يدعون الى النار والله يدعوا الى والمغفرة والجنة بإِذنه ، اشارة الى حكمة الحكم بالتحريم ، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل ، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق ، والمعمية عن أبصار طريق الحق والحقيقة ، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة الى الشرك ، والدلالة الى البوار ، والسلوك بالأخرة الى النار فهم يدعون الى النار ، والمؤمنون ـ بخلافهم ـ بسلوكهم سبيل الايمان ، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم الى الجنة والمغفرة بإِذن الله حيث أذن في دعوتهم الى الايمان ، واهتدائهم الى الفوز والصلاح المؤدي الى الجنة والمغفرة . وكان حق الكلام أن يقال : وهؤلاء يدعون الى الجنة « الخ » ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على ان المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية الى ربهم ، لا يستقلون في شيء من الامور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه : « وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » آل عمران ـ 68 . وفي الآية وجه آخر : وهو ان يكون المراد بالدعوة الى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن « الخ » ، فان جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والانس به الا البعد من الله سبحانه ، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله الى الجنة ، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى : ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ، ويمكن ان يراد
بالدعوة الاعم من الوجهين ، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم . ( بحث روائي ) في المجمع في الآية : نزلت في مرئد بن ابي مرئد الغنوي بعثه رسول الله إِلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين ، وكان قوياً شجاعاً ، فدعته امرأة يقال لها : عناق إِلى نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية ، فقالت : هل لك ان تتزوج بي ؟ فقال : حتى استاذن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما رجع استاذن في التزوج بها . اقول : وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس . وفي الدر المنثور : اخرج الواحدي من طريق السدي عن ابي مالك عن ابن عباس في هذه الآية : ولأمة مؤمنة خير من مشركة ، قال : نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له امة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فاتي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فاخبره خبرها ، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما هي يا عبد الله ؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد ان لا إِله إِلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله ، هذه مؤمنة فقال عبد الله : فو الذي بعثك بالحق لأعتقها ولأتزوجها ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح امة ، وكانوا يريدون ان ينكحوا الى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم فانزل الله فيهم : ولأمة مؤمنة خير من مشركة . وفيه ايضاً عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة ، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة فاعتقها وتزوجها حذيفة . اقول : لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في اسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها ، وهنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، الآية ناسخاً لقوله تعالى : والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم ، أو منسوخاً به ، ستمرّ بك في تفسير الآية من سورة المائدة . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ـ 222 ـ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ـ 223 ـ ( بيان ) قوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى « الخ » المحيض مصدر كالحيض ، يقال : حاضت المرئة تحيض حيضاً ومحيضاً اذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء ، ولذلك يقال هي حائض كما يقال : هي حامل . والاذى هو الضرر على ما قيل ، لكنه لا يخلو عن نظر ، فإِنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما ان الضرر مقابل النفع وليس بصحيح ، يقال : دواء مضر وضار ، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر ، وايضاً قال تعالى : « لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى » آل عمران ـ 111 ، ولو قيل لن يضروكم إِلا ضرراً لفسد الكلام ، وايضاً كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في امثال قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ » الاحزاب ـ 57 ، وقوله تعالى : « لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ » الصف ـ 5 ، فالظاهر ان الاذى هو الطاريء على الشيء غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه . وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند الى عادة النساء حاصلاً من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقداراً منه عن الحال الطبيعي وينزله الى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للإرضاع ، واما على قولهم : ان الاذى هو الضرر فقد قيل : ان المراد بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض ، والمعنى : يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال فاجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الاطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل ، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره . قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة ، يقال : عزلت نصيبه إِذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الانصباء ، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن ، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم على ما سنبين . وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى : فكانت اليهود تشدد في أمره ، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع ، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض ، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك ، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه ، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيىء من ذلك غير ان العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في امر المحيض والتشديد في امر معاشرتهن في هذا الحال ، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحاً ولوعاً في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين . وكيف كان فقوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود ، ويؤكده قوله تعالى ثانياً : ولا تقربوهن ، إِلا ان قوله تعالى اخيراً فأتوهن من حيث امركم الله ـ ومن المعلوم انه محل الدم ـ قرينة على ان قوله : فاعتزلوا ولا تقربوا ، واقعان موقع الكناية لا التصريح . والمراد به الإتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ . فالاسلام قد اخذ في امر المحيض طريقاً وسطاً بين التشديد التام الذي عليه اليهود والإِهمال المطلق الذي عليه النصارى ، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض ، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال : فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الأول اريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الاول ، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إِلى غير معناه . قوله تعالى : حتى يطهرن فإِذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، الطهارة وتقابلها النجاسة ـ من المعاني الدائرة في ملة الإسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية ، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من
الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الاصول . وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر . فإِن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إِلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالانسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى ، ويرغب فيه لذلك ، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد . وربما عرض للشيء عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه ، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون ، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه ، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشيء فيجتنبه ، وما يقابله وهو كون الشيء على حاله الاولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة ، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الاشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها ، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها . وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للامور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالانساب والافعال والاخلاق والعقائد والأقوال . هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس ، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إِلى الشيء بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات ، والنزاهة أصلها البعد ، وأصل إِطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة ، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات ، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة ، لكن الأصل في القذارة معنى البعد ، يقال : ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال : رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم ، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس ، ويقال : قذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إِذا كرهته ، وعلى
( 2 ـ الميزان ـ 14 ) هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشيء تبعد الانسان عنه ، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء ، وكأن الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية . وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة ، وعممهما في المحسوس والمعقول ، وطردهما في المعارف الكلية ، وفي القوانين الموضوعة ، قال تعالى : « وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ الآية » ، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم ، وقال تعالى : « وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ » المدثر ـ 4 ، وقال تعالى : « وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ » المائدة ـ 6 ، وقال تعالى : « أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ » المائدة ـ 41 ، وقال تعالى : « لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » الواقعة ـ 79 . وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعياناً نجسة ، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلوة وفي الاكل وفي الشرب ، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الاعيان النجسة ، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعاً المشروحة في كتب الفقه . وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إِلى أصل واحد هو التوحيد ، وينشر الأصل الواحد في فروعه . ومن هنا يظهر : أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه ، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان ، وبعد ذلك أُصول الاخلاق الفاضلة ، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة ، وعلى هذا الاصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفاً كقوله تعالى : « يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ » المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى : « وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » الاحزاب ـ 33 ، إِلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة . ولنرجع إِلى ما كنا فيه فقوله تعالى : حتى يطهرن ، أي ينقطع عنهن الدم ، وهو الطهر بعد الحيض ، وقوله تعالى : فإِذا تطهرن اي ، يغسلن محل الدم أو يغتسلن ، قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، امر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر ، وهو
كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الادب الالهي البارع ، وتقييد الامر بالاتيان بقوله امركم الله ، لتتميم هذا التأدب فإِن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغواً ولهواً فقيده بكونه مما امر الله به امراً تكوينياً للدلالة على انه مما يتم به نظام النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من اصول النواميس التكوينية . وهذه الآية أعني قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله ، تماثل قوله تعالى : « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ » البقرة ـ 187 ، وقوله تعالى : « فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ » البقرة ـ 223 ، من حيث السياق ، فالظاهر ان المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالاعضاء والقوى الهادية الى التوليد ، كما ان المراد بالكتابة في قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم أيضاً ذلك ، وهو ظاهر ، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي المتعلق بالازدواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إِلا به لكنه بعيد . وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه ، فإِنه مبني إِما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى : فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته ، وإِما على الاستدلال بدلالة الامر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف . على ان الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى : فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب ، ولو كان بالامر في قوله تعالى : من حيث امركم الله ، فهو إِن كان امراً تكوينياً كان خارجاً عن الدلالة اللفظية ، وإِن كان امراً تشريعياً كان للإيجاب الكفائي ، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إِنما هي للأمر الايجابي العيني المولوي . قوله تعالى : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، التوبة هي الرجوع إِلى الله سبحانه والتطهر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع الى الأصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه ، وخاصة
في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة ، وتوبة ورجوع إِليه عز شأنه ، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فإِن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم ، أعني قوله تعالى : فاعتزلوا النساء في المحيض ، وقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله ، والآية أعني قوله : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه ، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى : المتطهرين ، كما جيء بصيغة المبالغة في قوله : التوابين ، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعاً ، أعني : إِن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة ، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه ، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر . قوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الارض التي يعمل فيها الحرث والزراعة ، وأنى من اسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى ، وربما استعمل في المكان أيضاً ، قال تعالى : « يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ » آل عمران ـ 37 ، فإِن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم ، وإِن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم ، وكيف كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله : شئتم ، وهذا هو الذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى : فأتوا حرثكم ، أن يدل على الوجوب إِذ لا معنى لإيجاب فعل مع إِرجاعه إِلى اختيار المكلف ومشيته . ثم إِن تقديم قوله تعالى : نساءكم حرث لكم ، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانياً بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إِتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن ، فإِن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية للإطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة : فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية ، وإِن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض ، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه
أن ينسخه آية الحرث ، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إِتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائماً ، ودلالتها أيضاً على أن تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائماً ، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى : « مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ » المائدة ـ 6 . ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، المشتمل أولاً على التوسعة ، وهو سبب كان موجوداً مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئاً فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانياً على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ، ومن هذا البيان يظهر : ان آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولاً أو تأخرت . فمحصل معنى الآية : أن نسبة النساء إِلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إِلى الإنسان فكما أن الحرث يحتاج اليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وإِبقائها كذلك النساء يحتاج اليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأن الله سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن ، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الاصلية مائلة منعطفة إِليهن ، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة ، وإِذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت ، أو محل دون محل إِذا كان مما يؤدي الى ذلك الغرض ولم يزاحم أمراً آخر واجباً في نفسه لا يجوز إِهماله ، وبما ذكرنا معنى قوله تعالى وقدموا لانفسكم . ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية ، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إِلى هذا النوع من الاطلاق ، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لانفسكم ، بالتسمية قبل الجماع . قوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ، قد ظهر : ان المراد من قوله : قدموا لانفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال
والنساء بذلك الحث على إِبقاء النوع بالتناكح والتناسل ، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إِلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام ، قال تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » الذاريات ـ 56 ، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإِنما يريد توصلهم بذلك الى عبادة ربهم لا إِخلادهم إِلى الارض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج ، وتيههم في أودية الغي والغفلة . فالمراد بقوله : قدموا لانفسكم وإِن كان هو الاستيلاد وتقدمة أفراد جديدي الوجود والتكون إِلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفراداً بالموت والفناء ، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إِلى ابقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها الى انفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إِليهم كما قال تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ » يس ـ 12 . وبهذا الذي ذكرنا يتأيد : ان المراد بتقديمهم لانفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى : « يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ » النبأ ـ 41 ، وقال تعالى أيضاً : « وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا » المزمل ـ 20 ، فقوله تعالى : وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه « الخ » ، مماثل السياق لقوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » الحشر ـ 18 ، فالمراد ( والله أعلم ) بقوله تعالى : وقدموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح ، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع ، وبقوله تعالى : واتقوا الله ، التقوى بالاعمال الصالحة في إِتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله ، وبقوله تعالى : واعلموا أنكم ملاقوه « الخ » الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إِن الله خبير بما تعملون الآية ، التقوى بمعنى الخوف ، وإِطلاق الأمر بالعلم وإِرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام ، قال تعالى : « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ » الأنفال ـ 24 ، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله : وبشر المؤمنين ، كما صدر آية الحشر بقوله : يا أيها الذين آمنوا .
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:18 pm | |
| ( بحث روائي ) في الدر المنثور : اخرج احمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو يعلى وابن المنذر وابو حاتم والنحاس في ناسخه وابو حيان والبيهقي في سننه عن انس : ان اليهود كانوا اذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك فأنزل الله : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء الا النكاح ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئاً الا خالفنا فيه ، فجاء أُسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله ان اليهود قالت : كذا وكذا أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى ظننا ان قد وجد عليهما ، فخرجا ، فاستقبلهما هدية من لبن الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم يحد عليهما . وفي الدر المنثور عن السدي في قوله : ويسألونك عن المحيض ، قال : الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح . أقول : وروي مثله عن مقاتل ايضاً . وفي التهذيب عن الصادق عليهالسلام في حديث في قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله الآية ، قال عليهالسلام : هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله . وفي الكافي : سئل عن الصادق عليهالسلام : ما لصاحب المرئة الحائض منها ؟ فقال عليهالسلام : كل شيء ما عدا القبل بعينه . وفيه أيضاً عنه عليهالسلام : في المرئة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها ، قال عليهالسلام : إِذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إِن شاء ، قبل ان تغتسل ، وفي رواية : والغسل أحب إِلى . أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة جداً وهي تؤيد قرائة يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل : إِن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة ، ففيه
معنى الاختيار فيناسب الاغتسال ، بخلاف الاول فإِنه حصول الطهارة ، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم ، والمراد بالتطهر إِن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك ، وإِن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد الغسل كما أفاده عليهالسلام بقوله : والغسل أحب إِلى ، لاحرمة الاتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهي ، فافهم ذلك . وفي الكافي ايضاً عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، قال : كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صنعه فأنزل الله في كتابه : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . اقول : والاخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : ان اول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة . وفيه عن سلام بن المستنير ، قال : كنت عند ابي جعفر عليهالسلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليهالسلام : اخبرك أطال الله بقاك وامتعنا بك ـ : إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال ، ثم نخرج من عندك فإِذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا ، قال : فقال أبو جعفر عليهالسلام : إِنما هي القلوب ، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر عليهالسلام أما إِن أصحاب محمد قالوا : يا رسول الله نخاف علينا من النفاق ؟ قال : فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ولم تخافون ذلك ؟ قالوا : إِذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك ، فإِذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك ، وحتى كأنا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقاً ؟ فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : كلا إِن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة ، ومشيتم على الماء ، ولولا انكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقاً حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم ، ان المؤمن مفتن تواب ، أما سمعت قول الله عز وجل : إِن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وقال تعالى :
استغفروا ربكم ثم توبوا اليه . أقول : وروي مثله العياشي في تفسيره ، قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو تدومون على الحالة ، إشارة إِلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه ، وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى : « الَّذِينَ إِذا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ » البقرة ـ 156 . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لولا انكم تذنبون « الخ » ، إِشارة إِلى سر القدر ، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إِلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الاسماء من الاقتضاءات ، وسيجىء الكلام فيه في ذيل قوله تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ » الحجر ـ 21 ، وسائر آيات القدر ، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل : إِن الله يحب التوابين « الخ » ، من كلام ابي جعفر عليهالسلام ، والخطاب لحمران ، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إِلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس ، ورينها عن القلب ، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب ، نظير ما ورد في قوله تعالى : « لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » الواقعة ـ 79 ، من الاستدلال به على ان علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت ، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة . وكما ان الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إِلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ » الحجر ـ 21 ، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك ، وسيجىء له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ » آل عمران ـ 7 . ومن هنا يستأنس ما مرت اليه الاشارة : ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن الى الله سبحانه بإزالة القذر عنه . ويظهر ايضاً : معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله عليهالسلام : انزل الله على ابراهيم عليهالسلام الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة أشياء : خمسة في الرأس وخمسة في البدن ، فاما التي في الراس : فاخذ الشارب ، واعفاء اللحى ، وطم الشعر ،
والسواك ، والخلال ، واما التي في البدن : فأخذ الشعر من البدن ، والختان ، وقلم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء ، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها ابراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ الى يوم القيامة الحديث ، والاخبار في كون هذه الامور من الطهارة كثيرة ، وفيها : ان النورة طهور . وفي تفسير العياشي : في قوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية ، عن معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا (ع) انه قال : أي شيء تقولون في اتيان النساء في أعجازهن ؟ قلت بلغني ان اهل المدينة لا يرون به بأساً ، قال (ع) : ان اليهود كانت تقول اذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله : نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم ، يعني من خلف أو قدام ، خلافاً لقول اليهود في ادبارهن . وفيه عن الصادق (ع) في الآية فقال (ع) : من قدامها ومن خلفها في القبل . وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله (ع) قال : سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال : وإِياكم ومحاش النساء ، وقال : إِنما معنى نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، أي ساعة شئتم . وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : كتبت إِلى الرضا (ع) في مثله ، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله . أقول : والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة ، مروية في الكافي والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي ، وهي تدل جميعاً : ان الآية لا تدل على أزيد من الإتيان من قدامهن ، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق (ع) في رواية العياشي عن عبد الله بن ابي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن إِتيان النساء في أعجازهن قال : لا بأس ثم تلا هذه الآية : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم . اقول : الظاهر ان المراد بالإتيان في اعجازهن هو الإتيان من الخلف في الفرج ، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم . وفي الدر المنثور : أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله ، قال : كانت الانصار تأتي نسائها مضاجعة ، وكانت قريش تشرح شرحاً كثيراً فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فأراد ان يأتيها فقالت : لا إِلا كما يفعل فاخبر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فانزل : « فأتوا حرثكم أنى شئتم » أي قائماً وقاعداً ومضطجعاً بعد ان يكون في صمام واحد . اقول : وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية ، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا (ع) . وقوله : في صمام واحد أي في مسلك واحد ، كناية عن كون الاتيان في الفرج فقط ، فإِن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساءِ ، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقول أئمة أهل البيت وإِن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة اليهم عليهم السلام إِلا أنهم عليهم السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم الآية ، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط : قال : « قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ » الحجر ـ 71 ، حيث عرض « ع » عليهم بناته وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشيء من القرآن . والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة ، فقد روي عن عبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم : أنهم كانوا لا يرون به بأساً وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى : نسائكم حرث لكم الآية حتى ان المنقول عن ابن عمر أن الآية إِنما نزلت لبيان جوازه . ففي الدر المنثور عن الدارقطني في غرائب مالك مسنداً عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك علي المصحف يا نافع ! فقرأ حتى أتى على ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، قال لي : تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت : لا ، قال : نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله « نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ » الآية ، قلت له : من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها . اقول : وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة ، قال : وقال ابن عبد البر : الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة . وفي الدر المنثور أيضاً : أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي
في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزلت ، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، الآية . وفيه أيضاً أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني ، قال : سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر . فقال لي : الساعة غسلت رأسي عنه . وفيه أيضاً : أخرج الطحاوي من طريق إِصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم ، قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني : وطى المرأة في دبرها ثم قرأ : نسائكم حرث لكم ، ثم قال : فأي شيء أبين من هذا ؟ وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال : إِن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهم إِنما كان هذا الحي من الانصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب ، وكان يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من امر أهل الكتاب ان لا يأتوا النساء إِلا على حرف ، وذلك أثر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الانصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً ، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الانصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت : إِنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإِلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعنى بذلك موضع الولد . اقول : ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق اخرى أيضاً عن مجاهد ، عن ابن عباس . وفيه أيضاً : اخرج ابن عبد الحكم : ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك ، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إِنما يكون في الفرج فقال له : فيكون ما سوى الفرج محرماً فالتزمه فقال : أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها ( الاعكان جمع عكنة بضم العين : ما انطوى وثنى من لحم البطن ) أفي ذلك حرث : قال : لا ، قال ، أفيحرم ؟ قال : لا ، قال : فكيف تحتج بما لا تقولون به ؟ وفيه أيضاً : اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إِذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض ؟ قال : بلى فأقرأ : ويسألونك عن المحيض إِلى قوله : فأتوهن من حيث امركم الله فقال : ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال : كيف بالآية نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ؟ فقال : اي ، ويحك ، وفي الدبر من حرث ؟ لو كان ما تقول حقاً كان المحيض منسوخاً إِذا شغل من هىٰهنا جئت من هىٰهنا ، ولكن انى شئتم من الليل والنهار . اقول : واستدلاله كما ترى مدخول ، فإِن آية المحيض لا تدل على أزيد من حرمة الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إِتيان الادبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلاً حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض ؟ على انك قد عرفت ان آية الحرث ايضاً لا تدل على ما راموه من جواز إِتيان الادبار ، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس : الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر الذي في قوله تعالى : فأتوهن من حيث امركم الله الآية ، وقد عرفت فيما مر من البيان انه من افسد الاستدلال ، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه ، وان آية الحرث ايضاً غير دالة إِلا على التوسعة من حيث الحرث ، والمسألة فقهية إِنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات . وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ 224 . لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ـ 225 . لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فإِن فَاءُوا فإِن اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ـ 226 . وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ 227 .
( بيان ) قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا إِلى آخر الآية ، العرضة بالضم من العرض وهو كإِرائة الشيء للشيء حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للأكل ، ومنه ما يقال للهدف : إِنه عرضة للسهام ، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح ، وللدابة المعدة للسفر إِنها عرضة للسفر وهذا هو الاصل في معناها ، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضاً لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إِلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخلية في اصل المعنى . والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمعنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل ، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للاصبع التي يسب بها ومعنى الآية ( والله اعلم ) : ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإِن الله سبحانه لا يرضى ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما امر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إِنشاء الله . وعلى هذا يصير قوله تعالى : أن تبروا « الخ » ، بتقدير ، لا ، أي أن لا تبروا ، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى « يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا » النساء ـ 17 ، اي أن لا تضلوا او كراهة أن تضلوا ، ويمكن أن لا يكون بتقدير ، لا ، وقوله تعالى : أن تبروا ، متعلقاً بما يدل عليه قوله تعالى : ولا تجعلوا ، من النهي أي ينهيكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهياً عن الاكثار من الحلف بالله سبحانه ، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإِنكم إِن فعلتم ذلك أديكم إِلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، فإِن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم
ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه ، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول ، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها ، فيكون على حد قوله تعالى : « وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ » القلم ـ 10 ، والأنسب على هذا المعنى أيضاً عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى : أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا ، كما مر . وفي قوله تعالى : والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى الأول أظهرها كما لا يخفى . قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إِلى آخر الآية ، اللغو من الافعال ما لا يستتبع أثراً ، وأثر الشيء يختلف فاختلاف جهاته ومتعلقاته ، فلليمين أثر من حيث انه لفظ ، واثر من حيث انه مؤكد للكلام ، واثر من حيث انه عقد واثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه ، وهكذا إِلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبته القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف ، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول : لا والله وبلى والله . والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من اعماله من خير او شر ككسب المدح والفخر وحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها ، وكسب اللوم والذم ، واللعن والطعن ، والذنوب والآثام ، ونحوها بالأعمال المستتبعة لذلك ، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب ، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة لنفسه ، والكسب أعم مما يكون لنفسه او غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك . وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لا غير . ( كلام في معنى القلب في القرآن ) وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح ،
فإِن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإِن أمكن أن ينسبه أحد إِلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إِلى الاذن والأبصار إِلى العين والذوق إِلى اللسان ، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إِلا إِلى الإِنسان البتة . ونظير هذه الآية قوله تعالى : « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : « وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ » ق ـ 33 . والظاهر : أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإِغماء أو صرع أو نحوهما ، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب ، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإِن سرت منه إِلى جميع أعضاء الحياة ، وإِن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والإرادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح ، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئاً لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للإبصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك ، فإنها جميعاً بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إِلى توسيط الآلة . وربما يؤيد هذا النظر : ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إِلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشيء وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضربانه . وربما أيده أيضاً : ان الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية اعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني ، إِذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد ، وحدة حقيقية . ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئاً عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي ، فإِن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم الازمنة ، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدء الحكم
والامر بالرأس ، واشتقاق اللغات المختلفة منه ، كالرأس والرئيس والرئاسة ، ورأس الخيط ، ورأس المدة ، ورأس المسافة ، ورأس الكلام ، ورأس الجبل ، والرأس من الدواب والانعام ، ورئاس السيف . فهذا ـ على ما يظهر ـ هو السبب في إِسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إِدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرئة ونحو ذلك إِلى القلب ، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته ، فينسبونها اليه كما ينسبونها إِلى الروح وكما ينسبونها الى انفسهم ، يقال : أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأُريد به النفس مجازاً كما ربما تعدوا عنه إِلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكاناً لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية . وفي القرآن شيء كثير من هذا الباب ، قال تعالى : « يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ » الانعام ـ 125 ، وقال تعالى : « أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ » الحجر ـ 97 ، وقال تعالى : « وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ » الاحزاب ـ 10 ، وهو كناية عن ضيق الصدر ، وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » المائدة ـ 7 ، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات في كتابه تعالى اشارة الى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد . وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطة . ولنرجع إِلى الآية ولا يخلو قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، عن مجاز عقلي فإِن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إِلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إِلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإِضراب في إِضراب للإشارة الى أن الله سبحانه لا شغل له إِلا بالقلب كما قال تعالى : « وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ » البقرة ـ 284 ، وقال تعالى : « وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ » الحج ـ 37 . وفي قوله تعالى : والله غفور حليم ، إِشارة إِلى كراهة اللغو من اليمين ، فإِنه مما
( 2 ـ الميزان ـ 15 ) لا ينبغي صدوره من المؤمن . وقد قال تعالى : « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أن قال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ » المؤمنون ـ 3 . قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم « الخ » ، الايلاء من الالية بمعنى الحلف ، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضباً واضراراً ، وهو المراد في الآية ، والتربص هو الانتظار ، والفىء هو الرجوع . والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة ، ويشعر به تحديد التربص بالاربعة أشهر فإِنها الامد المضروب للمباشرة الواجبة شرعاً ، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع ايقاعه ، ويشعر به أيضاً تذييله بقوله تعالى : فإِن الله سميع عليم ، فإِن السمع انما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه . وفي قوله تعالى : فإِن الله غفور رحيم ، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على تقدير الفيىء . واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة ، قال تعالى : « لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ الآية » المائدة ـ 89 . فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم اربعة اشهر فإِن رجع الى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق واوقعه فهو المخلص الآخر ، والله سميع عليم . ( بحث روائي ) في تفسير العياشي عن الصادق (ع) في قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم الآية ، قال (ع) : هو قول الرجل : لا والله وبلى والله . وفيه أيضاً عن الباقر والصادق عليهما السلام في الآية : يعني الرجل يحلف أن لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك او لا يكلم أُمه . وفي الكافي عن الصادق (ع) في الآية ، قال : اذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل على يمين ان لا افعل . اقول : والرواية الاولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين ، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر ، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضاً عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا : هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث ، فكأن المراد انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الإثم والله يغفر له ، فيكون مصداقاً للعامل بالآية . وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق (ع) في قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم الآية ، قال : اللغو قول الرجل : لا والله وبلى والله ولا يعقد على شيء . اقول : وهذا المعنى مروي في الكافي عنه (ع) من غير الطريق ، وفي المجمع عنه وعن الباقر عليهالسلام . وفي الكافي أيضاً عن الباقر والصادق عليهما السلام انهما قالا : إِذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الاربعة اشهر ، ولا إِثم عليه في الكف عنها في الاربعة اشهر ، فإِن مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة فإِن رفعت أمرها قيل له : إِما ان تفيء فتمسها وإِما ان تطلق ، وعزم الطلاق ان يخلي عنها ، فإِذا حاضت وطهرت طلقها ، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء ، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله . وفيه ايضاً عن الصادق (ع) في حديث : والايلاء ان يقول : والله لا اجامعك كذا وكذا أو يقول : والله لأغيظنك ثم يغاظها ، الحديث . اقول : وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة ، والبحث فقهي مذكور في الفقه . وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ 228 . الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فإِن خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ـ 229 . فإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ـ230 . وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ 231 . وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ـ 232 . وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فإِن أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:19 pm | |
| بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ 233 . وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ـ 234 . وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ـ 235 . لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ـ 236 . وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ إِن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ إِن يَعْفُونَ او يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وإِن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِن اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ 237 . حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ـ 238 . فإِن خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ـ 239 . وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فإِن خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ـ 240 . وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ـ 241 . كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ـ 242 . ( بيان ) الآيات في احكام الطلاق والعدة وإِرضاع المطلقة ولدها ، وفي خلالها شيء من احكام الصلاة . قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، اصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال . والتربص هو الانتظار والحبس ، وقد قيد بقوله تعالى : بأنفسهن ، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة اعني عدة الطلاق ، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذراً عن اختلاط المياه ، ويزيد على معنى العدة الاشارة إِلى حكمة التشريع ، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الانساب ، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإِن القوانين والاحكام إِنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة ، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا : يعتددن احترازاً من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن ، والجملة خبر أُريد به الانشاء تأكيداً . والقروء جمع القرء ، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معاً ، فهو على ما قيل من الاضداد ، غير ان الاصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه ، وعلى هذا فالأظهر ان يكون معناه الطهر لكونه حالة جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع ، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القرائة ، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع ، ويشعر بأن الاصل في مادة قرء الجمع ، قوله تعالى : « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ » القيامة ـ 18 ، وقوله تعالى : « وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ » بني إِسرائيل ـ 106 ، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن ، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما ، وبه سمي القرآن قرآناً . قال الراغب في مفرداته : والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسماً جامع للأمرين : الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد ؛ لأن كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كل واحد منهما إِذا انفرد ، كالمائدة للخوان والطعام ، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به ، وليس القرء اسماً للطهر مجرداً ولا للحيض مجرداً ، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها : ذات قرء ، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها : ذلك ، انتهى . قوله تعالى : « وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » ، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم او الولد استعجالاً في خروج العدة أو إِضراراً بالزوج في رجوعه ونحو ذلك ، وفي تقييده بقوله : إِن كن يؤمن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط اصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الاشارة إِلى ان هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم ، وهذا نظير قولنا : أحسن معاشرة الناس ان أردت خيراً ، وقولنا للمريض : عليك بالحمية إِن أردت الشفاء والبرء . قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحاً ، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ما داما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة الى المرأة ثم جعل اصلاً يشتق منه الالفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها ، وللأرض المستعلية بعل ، وللصنم بعل ، وللنخل اذا عظم بعل ونحو ذلك . والضمير في بعولتهن للمطلقات إِلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الاعم منها ومن البائنات ، والمشار اليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة ، والتقييد بقوله ان ارادوا اصلاحاً ، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، الآية . ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائماً مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الاول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق ، والزوج الاول احق بها لسبق
الزوجية ، غير ان الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الاول . ومن هنا يظهر : ان في الآية تقديراً لطيفاً بحسب المعنى ، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم ، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في ايام العدة ، وهذه الأحقية انما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها ، وهذه هي القرينة على ان الحكم مخصوص بالرجعيات ، لا ان ضمير بعولتهن راجع الى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك ، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل ، واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أُخر . قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم ، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعاً اهتماماً بأن يجري هذا العمل اعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة ، فالمعروف تتضمن هداية العقل ، وحكم الشرع ، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الادب . وحيث بنى الاسلام شريعته على اساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس اذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة ، ومن احكام الاجتماع المبني على اساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما عليهم مثل ما لهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته ، وللمحكوم محكوميته ، وللعالم علمه ، وللجاهل حاله ، وللقوي من حيث العمل قوته ، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حقه ، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل . والاسلام يرى في ذلك ان للرجال عليهن درجة ، والدرحة المنزلة . ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة ، قيد متمم للجملة السابقة ، والمراد بالجميع معنى واحد وهو : ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن ، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم ،
وسنعود إِلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها . قوله تعالى : الطلاق مرتان فإِمكساك بمعروف أو تسريح بإِحسان ، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما ان الدفعة والكرة والنزلة مثلها وزناً ومعنى واعتباراً . والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الابل وهو ان ترعيه السرح ، وهو شجر له ثمر يرعاه الإبل وقد استعير في الآية لإطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع اليها في العدة ، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجيء . والمراد بالطلاق في قوله تعالى : الطلاق مرتان ، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد : فإِمساك « الخ » ، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى : فإِن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره الآية . والمراد بتسريحها بإِحسان ظاهراً التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الاوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإِن كان الأظهر انه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله : فإِمساك « الخ » ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد : فإِن طلقها « الخ » بياناً تفصيلياً للتسريح بعد البيان الإجمالي . وفي تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان من لطيف العناية ما لا يخفى ، فإِن الإمساك والرد إِلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف ، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع اليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك ، يريد بذلك إيذائها والإضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه ، بل الإمساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع اليها بنوع من انواع الالتيام ، ويتم به الانس وسكونْ النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة . وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب ، ويتصور بصورة الانتقام ، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون تسريحاً بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع ، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، وهذا التعبير هو الاصل في إِفادة المطلوب الذي ذكرناه ، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإِحسان ، حيث قيد
التسريح بالإحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً . بيانه : ان التقييد بالمعروف والإحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود ، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفى الإمساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان ياخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر ، ولا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإِن مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تاخذوا مما آتيتموهن شيئاً ، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي ، ولو قيل : أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم « الخ » ، فاتت النكتة . قوله تعالى : إِلا ان يخافا الا يقيما حدود الله ، الخوف هو الغلبة على ظنهما ان لا يقيما حدود الله ، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين ، وذلك إِنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك . قوله تعالى : فإِن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ، العدول عن التثنية إِلى الجمع في قوله : خفتم ، كانه للاشارة إِلى لزوم ان يكون الخوف خوفاً يعرفه العرف والعادة ، لا ما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها ، ولذلك عدل أيضاً عن الإضمار فقيل ألا يقيما حدود الله ، ولم يقل فإِن خفتم ذلك لمكان اللبس . وأما نفى الجناح عنهما مع ان النهي في قوله : ولا يحل لكم ان تأخذوا « الخ » ، إِنما تعلق بالزوج فلأن حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الاثم والعدوان إِلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية ، فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية ، ولا جناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به . قوله تعالى : تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله « الخ » ، المشار
اليه هي المعارف المذكورة في الايتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل اخلاقية ، وأُخرى علمية مبتنية على معارف اصلية ، والاعتداء والتعدي هو التجاوز . وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والاصول الاخلاقية ، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها ، فإِن في ذلك إبطالاً لمصالح التشريع وإِماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الإنسانية ، فإِن الاسلام كما مر مراراً دين الفعل دون القول ، وشريعة العمل دون الفرض ، ولم يبلغ المسلمون إِلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إِلا بالاقتصار على اجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها ، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى : « وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ الآية » البقرة ـ 231 . وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله : ولا يحل لكم ، وقوله : فإِن خفتم إِلى خطاب المفرد في قوله : تلك حدود الله ، ثم إِلى الجمع في قوله : فلا تعتدوها ، ثم إِلى المفرد في قوله : فاولئك هم الظالمون ، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء . قوله تعالى : فإِن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره إِلى آخر الاية ، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجاً غيره ، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع ان المحرم إِنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعاً ، وليشعر قوله تعالى : حتى تنكح زوجاً غيره ، على العقد والوطىء جميعاً ، فإِن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الاول ان يتراجعا إِلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين ، وهو التراجع ، وليس بالرجوع الذي كان حقاً للزوج في التطليقتين الاوليين ، وذلك إِن ظنا ان يقيما حدود الله . ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى : وتلك حدود الله ، لأن المراد بالحدود غير الحدود . وفي الآية من عجيب الايجاز ما يبهت العقل ، فإِن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميراً مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير ان يوجب تعقيداً في الكلام ، ولا إِغلاقاً في الفهم . وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الاسماء المنكرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى : فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان ، أربعة اسماء منكرة ، وقوله تعالى : مما آتيتموهن شيئاً كني به عن المهر ، وقوله تعالى : فإِن خفتم ، كني به عن وجوب كون الخوف جارياً على مجرى العادة المعروفة ، وقوله تعالى : فيما افتدت به ، كني به عن مال الخلع ، وقوله تعالى : فإِن طلقها ، اريد به التطليقة الثالثة ، وقوله تعالى : فلا تحل له ، أُريد به تحريم العقد والوطى ، وقوله تعالى : حتى تنكح زوجاً غيره ، أُريد به العقد والوطى معاً كناية مؤدبة ، وقوله تعالى : ان يتراجعا ، كني به عن العقد . وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح ، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله : إِن ظنا ان يقيما حدود الله ، والتفنن في التعبير في قوله : فلا تعتدوها وقوله : ومن يتعد . قوله تعالى : وإِذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إِلى قوله : لتعتدوا ، المراد ببلوغ الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإِن البلوغ كما يستعمل في الوصول إِلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها ، والدليل على ان المراد به ذلك قوله تعالى : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، إِذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة : وفي قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع . قوله تعالى : ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إِلى آخر الآية إِشارة إِلى حكمة النهي عن الامساك للمضارة فإِن التزوج لتتميم سعادة الحياة ، ولا يتم ذلك إِلا بسكون كل من الزوجين إِلى الآخر وإِعانته في رفع حوائج الغرائز ، والامساك خاصة رجوع إِلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق ، وفيه جمع الشمل بعد شتاته ، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة . فمن يفعل ذلك أي امسك ضراراً فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي اليها فطرته الانسانية . على انه اتخذ آيات الله هزواً يستهزء بها فإِن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم
من الاحكام تشريعاً جامداً يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذاً وإِعطائاً وإِمساكاً وتسريحاً وغير ذلك ، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع ، ويتم بها سعادة الحياة الانسانية ، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس ، وتطهر بها الأرواح ، وتصفو بها المعارف العالية : من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية ، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها ورآء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزواً . والمراد بالنعمة في قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم ، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين ، فإِن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى : « وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » المائدة ـ 3 ، وقوله تعالى : « وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ » المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى : « فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا » آل عمران ـ 103 . وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده : وما أُنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ، كالمفسر لهذه النعمة ، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحِكَمها . ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهية ، التكوينية وغيرها فيكون المعنى : اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الأحكام وحكمها فإِنكم إِن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة ، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم ، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إِلى أن الله بكل شيء عليم ، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم ، ولا تجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره . قوله تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إِذا تراضوا بينهم بالمعروف ، العضل المنع ، والظاهر أن الخطاب في قوله : فلا تعضلوهن ، لاوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لا يسعهن مخالفته ، والمراد بأزواجهن ، الازواج قبل الطلاق ، فالآية تدل على نهي الاولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانياً بعد انقضاء العدة سخطاً ولجاجاً كما يتفق كثيراً ، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إِلا بولي . اما اولاً : فلأن قوله : فلا تعضلوهن ، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره . واما ثانياً : فلأن اختصاص الخطاب بالاولياء فقط لا دليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم ، وأن النهي نهي إِرشادي إِلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى : ذلكم ازكى لكم وأطهر . وربما قيل : إِن الخطاب للازواج جرياً على ما جرى به قوله : وإِذا طلقتم النساء ، والمعنى : وإِذا طلقتم النساء يا أيها الازواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجاً يكونون أزواجهن ، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو ذلك . وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى : أزواجهن ، فإِن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال : ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجاً وهو ظاهر . والمراد بقوله تعالى : فبلغن أجلهن : انقضاء العدة ، فإِن العدة لو لم تنقض لم يكن لاحد من الاولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن احق بردهن في ذلك . على أن قوله تعالى : ان ينكحن ، دون ان يقال : يرجعن ونحوه ينافي ذلك . قوله تعالى : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ، هذا كقوله فيما مر : ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إِن كن يؤمن بالله واليوم الآخر الآية ، وإِنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو التوحيد ، لان دين التوحيد يدعو إِلى الاتحاد دون الافتراق ، ويقضي بالوصل دون الفصل . وفي قوله تعالى : ذلك يوعظ به من كان منكم ، التفات إِلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد الى خطاب الجمع ، والاصل في هذا الكلام خطاب المجموع اعني خطاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وامته جميعاً لكن ربما التفت إِلى خطاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وحده في غير جهات الاحكام كقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها ، وقوله فاولئك هم الظالمون ، وقوله : وبعولتهن احق بردهن في ذلك ، وقوله : ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله ، حفظاً لقوام الخطاب ، ورعاية لحال من هو ركن في هذه
المخاطبة وهو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فإِنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة ، وغيره فخاطب بوساطته ، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع ، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي الى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه . قوله تعالى : ذلكم ازكى لكم واطهر ، الزكاة هو النمو الصالح الطيب ، وقد مر الكلام في معنى الطهارة ، والمشار اليه بقوله : ذلكم عدم المنع عن رجوعهن الى ازواجهن ، او نفس رجوعهن الى ازواجهن ، والمآل واحد ، وذلك ان فيه رجوعاً من الانثلام والانفصال إِلى الالتيام والاتصال ، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية ، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن واطهر لنفوسهن ، ومن جهة أُخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الاجانب إِذا منعن عن نكاح ازواجهن . والإسلام دين الزكاة والطهارة والعلم ، قال تعالى : « وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ » آل عمران ـ 164 ، وقال تعالى : « وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ » المائدة ـ 7 . قوله تعالى : والله يعلم وانتم لا تعلمون ، اي إِلا ما يعلمكم كما قال تعالى : « وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ » آل عمران ـ 164 ، وقال تعالى : « وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ » البقرة ـ 255 ، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى : وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله . قوله تعالى : والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعه . الوالدات هن الامهات ، وإِنما عدل عن الامهات الى الوالدات لان الام اعم من الوالدة كما ان الاب اعم من الوالد والابن اعم من الولد ، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له ، واما تبديل الوالد بالمولود له ، ففيه اشارة الى حكمة التشريع فإِن الوالد لما كان مولوداً للوالد ملحقاً به في معظم أحكام حياته لا في جميعها كما سيجيء بيانها في آية التحريم من سورة النساء إِنشاء الله كان عليه ان يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته ، ومنها كسوة امه التي ترضعه ، ونفقتها ، وكان على أُمه أن لا تضار والده لان الولد مولود له . ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين : أنه إِنما قيل : المولود له دون الوالد : ليعلم أن الوالدات إِنما ولدن لهن لأن الاولاد للآباء ولذلك ينسبون اليهم لا إِلى الامهات ، وأنشد المأمون بن الرشيد : وإِنما أُمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء انتهى ملخصاً ، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى : أولادهن ويقول : بولدها ، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدراً من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس . وقد اختلط على كثير من علماء الادب امر اللغة ، وامر التشريع ، حكم الاجتماع وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي ، او حقيقة تكوينية . وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معاً لاستناده في وجوده اليهما معاً ، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الامم : فبعض الامم يلحقه بالوالدة ، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض ، وتشير إليه بقوله : المولود له كما تقدم ، والإرضاع إِفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه ، والحول هو السنة سميت به لانها تحول ، وإِنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل ، فكثيراً ما يقال : اقمت هناك حولاً او حولين إِذا أُقيم مدة تنقص منه اياماً . وفي قوله تعالى : لمن اراد ان يتم الرضاعة ، دلالة على ان الحضانة والارضاع حق للوالدة المطلقة موكول الى اختيارها ، والبلوغ الى آخر المدة ايضاً من حقها فإِن شاءت إِرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك ، واما الزوج فليس له في ذلك حق الا اذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير اليه قوله تعالى فإِن ارادا فصالاً « الخ » . قوله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا وسعها ، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر ، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس ، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما ، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج ، وهو قوله تعالى : لا تكلف نفس الا وسعها ، وقد فرع عليه حكمين
آخرين ، احدهما : حق الحضانة والارضاع الذي للزوجة وما اشبهه فلا يحق للزوج ان يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإِن ذلك مضارة وحرج عليها ، وثانيهما : نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك ، وذلك قوله تعالى : لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله : بولده دون ان يقول به رفع التناقض المتوهم ، فإِنه لو قيل : ولا مولود له به رجع الضمير الى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى : ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لان إِسناد الولادة الى الرجل يناقض إِسنادها إِلى المرأة ، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي إِن الولد لهما معاً تكويناً فهو ولده وولدها ، وله فحسب تشريعاً لانه مولود له . قوله تعالى : وعلى الوارث مثل ذلك ، ظاهر الآية : ان الذي جعل على الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إِن مات ، وقد قيل في معنى الآية أشياء أُخر لا يوافق ظاهرها ، وقد تركنا ذكرها لانها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك ، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الاخبار ، وهو الموافق أيضاً لظاهر الآية . قوله تعالى : فإِن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور الى آخر الآية ، الفصال : الفطام ، والتشاور : الاجتماع على المشورة ، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين ، فالحضانة والرضاع ليس واجباً عليها غير قابل التغيير ، بل هو حق يمكنها أن تتركه . فمن الجائز ان يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس ، وكذا من الجائز ان يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إِذا ردت الولد اليه بالامتناع عن ارضاعه ، او لعلة أُخرى من انقطاع لبن او مرض ونحوه إِذا سلم لها ما تستحقها تسليماً بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها ، وهو قوله تعالى : وإِن أردتم أن تسترضعوا اولادكم فلا جناح عليكم إِذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف . قوله تعالى : واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير ، أمر بالتقوى وان
( 2 ـ الميزان ـ 16 ) يكون هذا التقوى بإِصلاح صورة هذه الاعمال ، فإِنها أُمور مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك قال تعالى : واعلموا ان الله بما تعملون بصير ، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق : وإِذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن الآية من قوله تعالى : واتقوا الله واعلموا ان الله بكل شيء عليم ، فان تلك الآية مشتملة على قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ، والمضارة ربما عادت إِلى النية من غير ظهور في صورة العمل إِلا بحسب الأثر بعد . قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجاً يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشراً ، التوفي هو الاماتة ، يقال : توفاه الله إِذا اماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول ، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما ، والمراد بالعشر الايام حذفت لدلالة الكلام عليه . قوله تعالى : ( فإِذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدة ، وقوله : فلا جناح « الخ » كناية عن إِعطاء الاختيار لهن في افعالهن فإِن اخترن لأنفسهن الازدواج فلهن ذلك ، وليس لقرابة الميت منعهن عن شيء من ذلك استناداً الى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد فإِن لهن حقاً في ذلك معروفاً في الشرع وليس لأحد ان ينهي عن المعروف . وقد كانت الامم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها ، بين من يحكم بإِحزاق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إِلحادها وإِقبارها معه ، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إِلى آخر عمرها كالنصارى ، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال الى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي ، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية ، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقاً على الزوجة في الكف عن الازدواج حيناً من غير تعيين للمدة ، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها ، وهو مبني على أساس الانس والالفه ، وللحب حرمة يجب رعايتها ، وهذا وان كان معنى قائماً بالطرفين ، ومرتبطاً بالزوج والزوجة معاً فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه ، غير أن هذه المراعات على المرأة أوجب وألزم ، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفة ، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الايدي واحدة بعد واحدة ، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:21 pm | |
| الاقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها ، وقد عين الإسلام هذا التربص بما يقرب من ثُلث سنة ، أعني اربعة أشهر وعشراً . قوله تعالى : والله بما تعملون خبير ، لما كان الكلام مشتملاً على تشريع عدة الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها ، وكان كل ذلك تشخيصاً للأعمال مستنداً الى الخبرة الالهية كان الانسب تعليله بأن الله خبير بالاعمال مشخص للمحظور منها عن المباح ، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لانفسهن في مورد آخر ، ولذا ذيل الكلام بقوله : الله بما تعملون خبير . قوله تعالى : لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في انفسكم التعريض هو الميل بالكلام الى جانب ليفهم المخاطب أمراً مقصوداً للمتكلم لا يريد التصريح به ، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح . والفرق بين التعريض والكناية ان للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصوداً غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة : إِني حسن المعاشرة واحب النساء ، اي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش وصرت محبوبة ، بخلاف الكناية إِذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك : فلان كثير الرماد تريد انه سخي . والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام ، يقال : خطب المرأة خطبة بالكسر إِذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولا يقال : خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إِذا كلمهم ، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء . والاكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الاكنان بما يستر في النفس كما قال : أو أكننتم في انفسكم ، والكن بما يستر بشيء من الاجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت ، قال تعالى : « كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ » الصافات ـ 49 ، وقال تعالى : « كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ » الواقعة ـ 23 ، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة او إِخفاء أُمور في القلب في امرها . قوله تعالى : علم الله انكم ستذكرونهن ، في مورد التعليل لنفي الجناح عن
الخطبة والتعريض فيها ، والمعنى : ان ذكركم إِياهن امر مطبوع في طباعكم والله لا ينهي عن امر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم ، بل يجوزه ، وهذا من الموارد الظاهرة في ان دين الاسلام مبني على اساس الفطرة . قوله تعالى : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره الا ان يبطل من رأس ، والعقدة من العقد بمعنى الشد . وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصير ان واحداً بالاتصال ، كأن حبالة النكاح تصير الزوجين واحداً متصلاً ، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو امر قلبي اشارة الى ان سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإِنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إِلا ظرف الاعتقاد والادراك ، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى : « كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً الآية » البقرة ـ 213 ، ففي الآية استعارة وكناية ، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص الذي فرضه الله على المعتدات . فمعنى الآية : ولا تجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن ، وهذه الآية تكشف أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى : لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إِنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن ، وعلى هذا فاللام في قوله : النساء للعهد دون الجنس وغيره . قوله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم « الخ » ايراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية ، اعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الامور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سراً من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء وإِن كان قد أجاز ما أجازه منها . قوله تعالى : لا جناح عليكم إِن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضه ، المس كناية عن المواقعة ، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر ، والمعنى : ان عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر . قوله تعالى : ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف ،
التمتيع إِعطاء ما يتمتع به ، والمتاع والمتعة ما يتمتع به ، ومتاعاً مفعول مطلق لقوله تعالى : ومتعوهن ، اعترض بينهما قوله تعالى : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، والموسع اسم فاعل من أوسع إِذا كان على سعة من المال وكأنه من الافعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصاراً حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازماً والمقتر اسم فاعل من أقتر إِذا كان على ضيق من المعاش ، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد . ومعنى الآية : يجب عليكم ان تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعاً بالمعروف وإِنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع ، وعلى المقتر قدره من التمتيع ، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها ، والدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها . قوله تعالى : حقاً على المحسنين ، اي حق الحكم حقاً على المحسنين ، وظاهر الجملة وان كان كون الوصف اعني الاحسان دخيلاً في الحكم ، وحيث ليس الاحسان واجباً استلزم كون الحكم استحبابياً غير وجوبي ، إِلا ان النصوص من طرق اهل البيت تفسر الحكم بالوجوب ، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى : الطلاق مرتان فامساك بمعروف او تسريح باحسان الآية فأوجب الاحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم ـ المحسنون ، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون ، والله اعلم . قوله تعالى : وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن « الخ » ، اي وان اوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إِلى أن يعفون هؤلاء المطلقات او يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور ايضاً ، أو الزوج فان عقدة النكاح بيده أيضاً ، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت ، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لان من أعرض عن حقه الثابت شرعاً فهو عن الاعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه اقوى واقدر . قوله تعالى : ولا تنسوا الفضل بينكم « الخ » الفضل هو الزيادة كالفضول غير
ان الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل ، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي ان يؤثره الانسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض ، والمراد به الترغيب في الإحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس ، والنكتة في قوله تعالى : إِن الله على كل شيء بصير ، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن الآية . قوله تعالى : حافظوا على الصلوات إِلى آخر الآية ، حفظ الشيء ضبطه وهو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب ، والوسطى مؤنث الأوسط ، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها ، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى ، وإِنما تفسيره السنة ، وسيجيء ما ورد من الروايات في تعيينه . واللام في قوله تعالى : قوموا لله ، للغاية ، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس بفعله ، والقنوت هو الخضوع بالطاعة ، قال تعالى : « كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ » البقرة ـ 116 ، وقال تعالى : « وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ » الاحزاب ـ 31 ، فمحصل المعنى : تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولأجله . قوله تعالى : فإِن خفتم فرجالاً أو ركباناً إِلى آخر الآية ، عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إِن لم تخافوا ، وإِن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفاً أو مشياً أو راكبين ، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب ، وهذه صلاة الخوف . والفاء في قوله تعالى : فإِذا أمنتم ، للتفريع أي ان المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من اصله بل إِن لم تخافوا شيئاً وأمكنت لكم وجبت عليكم وإِن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم ، وإِن زال عنكم الخوف بتجدد الأمن ثانياً عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه . والكاف في قوله تعالى : كما علمكم ، للتشبيه ، وقوله : ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم ، والمعنى على
هذا : فاذكروا الله ذكراً يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين . قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم . وصية مفعول مطلق لمقدر ، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعاً إِلى الحول بعد التوفي . وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة ، أعني الاربعة أشهر وعشرة أيام فإِن عرب الجاهلية كانت نسائهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولاً كاملاً ، فالآية توصي بأن يوصي الازواج لهن بمال يتمتعن به إِلى تمام الحول من غير إِخراجهن من بيوتهن ، غير ان هذا لما كان حقاً لهن والحق يجوز تركه كان لهن ان يطالبن به ، وان يتركنه فإِن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت ان يوصي للوالدين والأقربين بالمعروف ، قال تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ » البقرة ـ 180 . ومما ذكرنا يظهر ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن . قوله تعالى : وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين ، الآية في حق مطلق المطلقات ، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب . قوله تعالى : كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ، الأصل في معنى العقل العقد والامساك وبه سمي إِدراك الانسان إِدراكاً يعقد عليه عقلاً ، وما أدركه عقلاً ، والقوة التي يزعم انها إِحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلاً ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة . والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين ، كالظن ، والحسبان ، والشعور ، والذكر ، والعرفان ، والفهم ، والفقه ، والدراية ، واليقين ، والفكر ، والرأي ، والزعم ، والحفظ ، والحكمة ، والخبرة ، والشهادة ، والعقل ، ويلحق بها مثل القول ، والفتوى ، والبصيرة ونحو ذلك . والظن هو التصديق الراجح وإِن لم يبلغ حد الجزم والقطع ، وكذا الحسبان ،
غير ان الحسبان كأن استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري ، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا : عد زيداً من الابطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب . والشعور هو الادراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته ، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول ، ومنه إِطلاق المشاعر للحواس . والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الادراك أو حفظه من ان يغيب عن الادراك . والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل : إِنه إِدراك بعد علم سابق . والفهم : نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه . والفقه : هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق . والدراية : هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه ، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الامر وتعظيمه ، قال تعالى : « الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ » الحاقة ـ 2 ، وقال تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ » القدر ـ 2 . واليقين : هو اشتداد الادراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن . والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات . والرأي : هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي ، غير انه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إِلى الامور التكوينية ، ويقرب منه البصيرة ، والافتاء ، والقول ، غير ان استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لان القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه . والزعم : هو التصديق من حيث أنه صورة في الذهن سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قاطعاً . والعلم كما مر : هو الادراك المانع من النقيض . والحفظ : ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق اليه التغيير والزوال . والحكمة : هي الصورة العلمية من حيث إِحكامها وإِتقانها . والخبره : هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها . والشهادة : هو نيل نفس الشيء وعينه إِما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والارادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك . والألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير ، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الاخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة ، فلا يقال فيه تعالى : انه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك . واما الألفاظ الخمسة الاخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى ، قال سبحانه : « وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » النساء ـ 176 ، وقال تعالى : « وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ » سبأ ـ 21 ، وقال تعالى : « وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » البقرة ـ 234 ، وقال تعالى : « هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » يوسف ـ 83 ، وقال تعالى : « أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » فصلت ـ 53 . ولنرجع إِلى ما كنا فيه فنقول : لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث ان فيه عقد القلب بالتصديق ، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إِدراك الحق والباطل في النظريات ، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خِلقة يدرك نفسه في اول وجوده ، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الاشياء ، وباخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الاشياء الخارجة عنها كالارادة ، والحب والبغض ، والرجاء ، والخوف ، ونحو ذلك ، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريات والامور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظرياً ، وفي العمليات والامور المربوطة بالعمل قضاء عملياً ، كل ذلك جرياً على المجرى الذي تشخصه له فطرته الاصلية ، وهذا هو العقل . لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه ، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إِلى أودية الافراط والتفريط ، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته ، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة ، فإِنه يحيد في قضائه عن الحق وإِن قضى غير قاصد للباطل ، فهو قاض وليس بقاض ، كذلك الانسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي ، وإِنه وإِن سمي عمله ذلك عقلاً بنحو من المسامحة ، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الانسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب . وعلى هذا جرى كلامه تعالى ، فإِنه يعرف العقل بما ينتفع به الانسان في دينه ويركب به هداه إِلى حقائق المعارف وصالح العمل ، وإِذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلاً ، وإِن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط ، قال تعالى « وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ » الملك ـ 10 . وقال تعالى : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » الحج ـ 46 ، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الانسان بالقيام عليه بنفسه ، والسمع في الادراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك ، وقال تعالى : « وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ » البقرة ـ 130 ، وقد مر ان الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (ع) : العقل ما عبد به الرحمن الحديث . فقد تبين من جميع ما ذكرنا : ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي يتم للانسان مع سلامة فطرته ، وبه يظهر معنى قوله سبحانه : كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ، فبالبيان يتم العلم ، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة اليه كما قال تعالى : « وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ » العنكبوت ـ 43 . ( بحث روائي ) في سنن أبي داود عن اسماء بنت يزيد بن السكن الانصارية ، قالت : طلقت على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق :
« وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ » فكانت أول من انزلت فيها العدة للطلاق . وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، عن زرارة ، قال : سمعت ربيعة الرأي وهو يقول : ان من رأيي ان الاقراء التي سمى الله في القرآن انما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس بالحيض ، قال : فدخلت على ابي جعفر عليهالسلام فحدثته بما قال ربيعة فقال : ولم يقل برأيه انما بلغه عن علي عليهالسلام فقلت : اصلحك الله أكان علي عليهالسلام يقول ذلك ؟ قال : نعم ، كان يقول : انما القرء الطهر ، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإِذا جاءت دفعته ، قلت : اصلحك الله رجل طلق امرأته طاهراً غير جماع بشهادة عدلين ؟ قال : اذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للازواج ، الحديث . اقول : هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه عليهالسلام ، وقوله : قلت : اصلحك الله أكان علي عليهالسلام يقول ذلك إِنما استفهم ذلك بعد قوله عليهالسلام : إِنما بلغه عن علي ، لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول : إِن القروء في الآية هي الحيض دون الاطهار كما في الدر المنثور عن الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علي بن أبي طالب (ع) قال : تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل للأزواج ، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك وينسبون اليه (ع) : ان الاقراء الاطهار دون الحيض كما مرت في الرواية ، وقد نسبوا هذا القول إِلى عدة أُخرى من الصحابة غيره (ع) كزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ورووه عنهم . وفي المجمع عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية : الحبل والحيض . وفي تفسير القمي : وقد فوض الله إِلى النساء ثلاثة أشياء : الطهر والحيض والحبل . وفي تفسير القمي أيضاً في قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة ، قال : قال عليهالسلام حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال . اقول : وهذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر . وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، عن ابي جعفر عليهالسلام ، قال : إِن الله يقول الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف
أو تسريح بإِحسان والتسريح بالإِحسان هو التطليقة الثالثة . وفي التهذيب عن ابي جعفر عليهالسلام ، قال : طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقرائها فإِذا مضت اقرائها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب : إِن شاءت نكحته ، وإِن شاءت فلا ، وإِن أراد ان يراجعها أشهد على رجعتها قبل ان تمضي اقرائها ، فتكون عنده على التطليقة الماضية ، الحديث . وفي الفقيه عن الحسن بن فضال ، قال : سالت الرضا عن العلة التي من اجلها لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره فقال عليهالسلام : إِن الله عز وجل إِنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز وجل : الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان ، يعني في التطليقة الثالثة ، ولدخوله فيما كره الله عز وجل من الطلاق الذي حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق ولا تضار النساء ، الحديث . اقول : مذهب أئمة اهل البيت : ان الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إِلا تطليقة واحدة ، وإِن قال طلقتك ثلاثاً على ما روته الشيعة ، واما اهل السنة والجماعة فرواياتهم فيه مختلفة : بعضها يدل على وقوعه طلاقاً واحداً ، وبعضها يدل على وقوع الثلاثة ، وربما رووا ذلك عن علي وجعفر بن محمد عليهما السلام ، لكن يظهر من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم والنسائي وأبي داود وغيرهم : ان وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته ، ففي الدر المنثور : اخرج عبد الرزاق ومسلم وابو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وابي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً فقال عمر بن الخطاب : إِن الناس قد استعجلوا في امر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فامضاه عليهم . وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال : طلق عبد يزيد أبو ركانة ام ركانة ونكح امرأة من مزينة فجائت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : ما يغني عني إِلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة اخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حمية فدعا بركانة واخوته ثم قال لجلسائه : أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا وفلان منه كذا وكذا
قالوا نعم ، قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ، قال : راجع امرأتك ام ركانة فقال : اني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ، قال : قد علمت ارجعها وتلا : يا ايها النبي إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . وفي الدر المنثورعن البيهقي عن ابن عباس ، قال : طلق ركانة امرأة ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف طلقتها ؟ قال طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد ، قال : نعم فإِنما تلك واحدة فارجعها إِن شئت فراجعها فكان ابن عباس يرى انما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي امر الله بها : فطلقوهن لعدتهن . اقول : وهذا المعنى مروي في روايات أُخرى ايضاً والكلام على هذه الاجازة نظير الكلام المتقدم في متعة الحج . وقد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى : الطلاق مرتان فإِن المرتين والثلاث لا يصدق على ما انشىء بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل ، وفي المجمع في قوله تعالى : أو تسريح بإِحسان ، قال : فيه قولان ، احدهما : انه الطلقة الثالثة ، والثاني انه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة ، عن السدي والضحاك ، وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام . اقول : والاخبار كما ترى تختلف في معنى قوله : أو تسريح بإِحسان . وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً الا ان يخافا ان لا يقيما حدود الله الآية ، عن الصادق عليهالسلام قال : الخلع لا يكون إِلا ان تقول المرأة لزوجها : لا ابر لك قسماً ، ولاخرجن بغير اذنك ، ولأوطئن فراشك غيرك ولا اغتسل لك من جنابة ، أو تقول : لا أُطيع لك امراً أو تطلقني ، فإِذا قالت ذلك فقد حل له ان يأخذ منها جميع ما اعطاها وكل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها ، فإِذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة ، وهو خاطب من الخطاب ، فإِن شائت زوجته نفسها ، وان شائت لم تفعل ، فإِن زوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين وينبغي له ان يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإِذا ارتجعت في شيء مما اعطيتني فأنا املك ببضعك ، وقال عليهالسلام : لا خلع ولا مباراة ولا تخيير الا
على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين ، والمختلعة اذا تزوجت زوجاً آخر ثم طلقها يحل للأول ان يتزوج بها ، وقال : لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المباراة إِلا ان يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها . وفي الفقيه عن الباقر عليهالسلام قال : إِذا قالت المرأة لزوجها جملة : لا اطيع لك أمراً مفسرة أو غير مفسرة حل له ان يأخذ منها ، وليس له عليها رجعة . وفي الدر المنثور : اخرج احمد عن سهل بن أبي حثمة ، قال : كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته ، وكان رجلاً دميماً فجائت وقالت يا رسول الله إِني لا أراه ، فلولا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها : أتردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ قالت : نعم فردت عليه حديقته وفرق بينهما ، فكان ذلك اول خلع كان في الإسلام . وفي تفسير العياشي عن الباقر عليهالسلام في قول الله تبارك وتعالى : وتلك حدود الله فلا تعتدوها الآية ، فقال إِن الله غضب على الزاني فجعل له مأة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إِلى الله منه بريء فذلك قوله تعالى : تلك حدود الله فلا تعتدوها . وفي الكافي عن ابي بصير قال : المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ، قال : هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة ، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ويذوق عسيلتها . اقول : العسيلة الجماع ، قال في الصحاح : وفي الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل ، وصغرت بالهاء لأن الغالب في العسل التأنيث ويقال : إِنما انث لانه اريد به العسلة وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب : ذهبة ، انتهى . وقوله عليهالسلام : ويذوق عسيلتها ، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ، في قصة رفاعة . ففي الدر المنثور : عن البزاز والطبراني والبيهقي : ان رفاعة بن سموأل طلق امرأته فأتت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : يا رسول الله قد تزوجني عبد الرحمن وما معه إِلا مثل هذه ، وأومأت إِلى هدبة من ثوبها ، فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثم قال
لها : تريدين ان ترجعي إِلى رفاعة : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك . أقول : والرواية من المشهورات ، رواها جمع كثير من الرواة من ارباب الصحاح وغيرهم من طرق أهل السنة ، والجماعة وبعض الخاصة ، وألفاظ الروايات وإِن كانت مختلفة لكن أكثرها تشتمل على هذه اللفظة . وفي التهذيب عن الصادق عليهالسلام عن تزويج المتعة أيحلل ؟ قال : لا لأن الله يقول فإِن طلقها فلا تحل له أن تنكح زوجاً غيره فإِن طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا ، والمتعة ليس فيه طلاق . وفيه أيضاً عن محمد بن مضارب قال : سئلت الرضا عليهالسلام عن الخصي يحلل ؟ قال : لا يحلل . وفي تفسير القمي : في قوله تعالى : وإِذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن الى قوله ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا الآية ، قال : قال عليهالسلام : إِذا طلقها لم يجز له ان يراجعها إِن لم يردها . وفي الفقيه عن الصادق عليهالسلام قال : لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها ، وليس له فيها حاجة ثم يطلقها ، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه ، الا ان يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك . وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : ولا تتخذوا آيات الله هزواً الآية ، عن عمر ابن الجميع رفعه الى امير المؤمنين عليهالسلام في حديث ، قال : ومن قرأ القرآن من هذه الامة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزواً ، الحديث . في صحيح البخاري في قوله تعالى : واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن ، الآية أن أُخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت : فلا تعضلوهن ان ينكحن ازواجهن . أقول : وروى هذا المعنى في الدر المنثور عنه وعن عدة من ارباب الصحاح كالنسائي وابن ماجة والترمذي وابن داود وغيرهم . وفي الدر المنثور ايضاً عن السدي ، قال : نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله
الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد ان تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله واذا طلقتم النساء ، الآية . أقول : لا ولاية للأخ ولا لابن العم على مذهب أئمة أهل البيت فلو سلمت إِحدى الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية ، ولا لجعل حكم وضعي بل للإرشاد إِلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفية متعلقة بكل من يعضلهن عن النكاح لا غير . وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن ، الآية عن الصادق عليهالسلام ، قال : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، قال : ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإِذا فطم فالوالد أحق به من العصبة وإِن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم ، وقالت الأم : لا أرضعه إِلا بخمسة دراهم فإِن له أن ينزعه منها ، إِلا ان ذلك أجبر له وأقدم وأرفق به أن يترك مع أُمه . وفيه أيضاً عنه في قوله تعالى : لا تضار والدة الآية ، قال عليهالسلام : كانت المرأة ممن ترفع يدها الى الرجل إِذا أراد مجامعتها فتقول : لا أدعك ، إِنى أخاف أن احمل على ولدي ، ويقول الرجل للمرأة : لا اجامعك إِني أخاف ان تعلقي فأقتل ولدي ، فنهى الله أن يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل . وفيه أيضاً عن احدهما عليهما السلام في قوله تعالى : وعلى الوارث مثل ذلك قال : هو في النفقة : على الوارث مثل ما على الوالد . وفيه أيضاً عن الصادق عليهالسلام في الآية ، قال لا ينبغي للوارث ايضاً ان يضار المرأة فيقول : لا أدع ولدها يأتيها ، ويضار ولدها إِن كان لهم عنده شيء ، ولا ينبغي له ان يقتر عليه . وفيه ايضاً عن حماد عن الصادق عليهالسلام قال : لا رضاع بعد فطام ، قال : قلت له : جعلت فداك وما الفطام ؟ قال : الحولين الذي قال الله عز وجل . اقول : قوله : الحولين ، حكاية لما في لفظ الآية ولذا وصفه عليهالسلام بقوله : الذي قال الله .
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:22 pm | |
| وفي الدر المنثور : اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن عدي عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يتم بعد حلم ، ولا رضاع بعد فصال ، ولا صمت يوم الى الليل ، ولا وصال في الصيام ، ولا نذر في معصية ، ولا نفقة في المعصية ، ولا يمين في قطيعة رحم ، ولا تعرّب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا يمين لزوجة مع زوج ، ولا يمين لولد مع والد ، ولا يمين لمملوك مع سيده ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك . وفي تفسير العياشي عن ابي بكر الحضرمي عن الصادق عليهالسلام قال : لما نزلت هذه الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجاً يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشراً جئن النساء يخاصمن رسول الله وقلن : لا نصبر ، فقال لهن رسول الله : كانت إِحديكن إِذا مات زوجها اخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثم قعدت فإِذا كان مثل ذلك اليوم من الحول اخذتها ففتقتها ، ثم اكتحلت بها ، ثم تزوجت فوضع الله عنكن ثمانية اشهر . وفي التهذيب عن الباقر عليهالسلام : كل النكاح إِذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو امة ، وعلى اي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجاً أو ملك يمين فالعدة اربعة اشهر وعشراً . وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام قال : قلت له : جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة اشهر وصارت عدة المتوفي عنها زوجها اربعة اشهر وعشراً ؟ فقال : اما عدة المطلقة ثلاث قروء فلأجل استبراء الرحم من الولد ، وأما عدة المتوفى عنها زوجها فإِن الله شرط للنساء شرطاً وشرط عليهن : وأما ما شرط لهن ففي الايلاء اربعة اشهر اذ يقول : للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة أشهر ، فلن يجوز لاحد اكثر من اربعة اشهر لعلمه تبارك وتعالى انها غاية صبر المرأة من الرجل ، وأما ما شرط عليهن فإِنه أمرها أن تعتد إِذا مات زوجها أربعه أشهر وعشراً فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته . أقول : وهذا المعنى مروي أيضاً عن الرضا والهادي عليهما السلام بطرق أُخرى
( 2 ـ الميزان ـ 17 ) وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) : في قوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ، الآية : المرأة في عدتها تقول لها قولاً جميلاً ترغبها في نفسك ، ولا تقول : إِني أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الامر في البضع وكل أمر قبيح ، وفي رواية أُخرى تقول لها وهي في عدتها : يا هذه لا أحب إِلا ما أسرك ولو قد مضى عدتك لا تفوتيني إِنشاء الله ، ولا تستبقي بنفسك ، وهذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح . اقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر عنهم عليهم السلام . وفي تفسير العياشي : في قوله تعالى : لا جناح عليكم إِن طلقتم النساء ، الآية ، عن الصادقعليهالسلام ، قال : إِذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها وإِن لم يكن سمى لها مهراً فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وليس لها عدة وتزوج من شاءت من ساعتها . وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال : عليه نصف المهر إِن كان فرض لها شيئاً وإِن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء . اقول : وفيه تفسير المتاع بالمعروف . وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي وغيرها عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى : الذي بيده عقدة النكاح ، قالا : هو الولي . اقول : والروايات فيه كثيرة ، وقد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنة والجماعة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ عليهالسلام : ان الذي بيده عقدة النكاح الزوج . في الكافي والفقيه وتفسير العياشي والقمي في قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام : أن الصلاة الوسطى هي الظهر . اقول : هذا هو المأثور عن أئمة اهل البيت في الروايات المروية عنهم لساناً واحداً . نعم في بعضها انها الجمعة إِلا أن المستفاد منها انهم اخذوا الظهر والجمعة نوعاً
واحداً لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (ع) واللفظ لما في الكافي ، قال الله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى ، وهي صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهي وسط النهار ، ووسط صلوتين بالنهار صلوة الغداة وصلوة العصر ، قال : ونزلت هذه الآية ورسول الله في سفره فقنت فيها رسول الله وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين ، وإِنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلى يوم الجمعه في غير جماعة فليصلها اربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام ، الحديث ، والرواية كما ترى تعد الظهر والجمعة صلاة واحدة وتحكم بأنها هي الصلاة الوسطى ولكن معظم الروايات مقطوعة ، وما كان منها مسنداً فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي وهي مع ذلك غير واضحة الإنطباق على الآية ، والله العالم . وفي الدر المنثور : اخرج احمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشي والضياء من طريق الزبرقان : ان رهطاً من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا اليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال : هي الظهر ، ثم انصرفا إِلى أُسامة بن زيد فسألاه فقال : هي الظهر ، إِن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون ورائه إِلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم . اقول : وروي هذا السبب عن زيد بن ثابت وغيره بطرق أُخرى . واعلم : أن الاقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم : فقيل إِنها صلاة الصبح ورووه عن علي عليهالسلام وبعض الصحابة ، وقيل : إِنها صلاة الظهر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة ، وقيل : إِنها صلاة العصر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة ، وقد روى السيوطي في الدر المنثور فيه بضعاً وخمسين رواية ، وقيل : إِنها صلاة المغرب ، وقيل انها مخفية بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي ، وروى فيهما روايات عن الصحابة ، وقيل : إِنها صلاة العشاء وقيل : إِنها الجمعة . وفي المجمع في قوله تعالى : وقوموا لله قانتين ، قال : هو الدعاء في الصلاة حال القيام ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام . أقول : وروي ذلك عن بعض الصحابة . وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) في الآية : إِقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء . اقول : ولا منافاة بين الروايتين وهو ظاهر . في الكافي عن الصادق في قوله تعالى : فإِن خفتم فرجالاً أو ركباناً الآية : إِذا خاف من سبع أو لص يكبر ويومي إِيمائاً . وفي الفقيه عنه (ع) في صلاة الزحف ، قال : تكبير وتهليل ثم تلا الآية . وفيه عنه (ع) : إِن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصاً أو سبعاً فصل الفريضة وأنت على دابتك . وفيه عن الباقر (ع) : الذي يخاف اللصوص يصلي إِيمائاً على دابته . اقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة . وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال : سألته عن قول الله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لازواجهم متاعاً إِلى الحول غير إِخراج ، قال عليهالسلام : هي منسوخة ، قلت : وكيف كانت ؟ قال : كان الرجل إِذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولاً ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن ، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها . وفيه عن معاوية بن عمار قال : سألته عن قول الله : والذين يتوفون « الخ » ، قال : منسوخة نسختها آية يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشراً ، ونسختها آية الميراث . وفي الكافي وتفسير العياشي : سئل الصادق عليهالسلام عن الرجل يطلق امرأته يمتعها ؟ قال : نعم ، أما يحب أن يكون من المحسنين أما يحب أن يكون من المتقين ؟ ( بحث علمي ) من المعلوم أن الإسلام ـ والذي شرعه هو الله عزّ اسمه ـ لم يبن شرائعه على اصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إِلى
التأمل في الاحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الامم الحاضرة والقرون الخالية ، ثم البحث عن السعادة الإنسانية ، وتطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم ومسالكهم حتى نزن به مكانته ومكانتها ، ونميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها ، وهذا هو الموجب للرجوع إِلى تواريخ الملل وسيرها ، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة . ولذلك فإِنا نحتاج في البحث عما يراه الإسلام ويعتقده في . 1 ـ هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل . 2 ـ وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الانساني . 3 ـ حقوقها والاحكام التي شرعت لاجلها . 4 ـ الأساس الذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها . إِلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام وما كانت الامم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة وغيرها ، والاستقصاء في ذلك وإِن كان خارجاً عن طوق الكتاب ، لكنا نذكر طرفاً منه : ( حياة المرأة في الاُمم غير المتمدنة ) كانت حياة النساء في الامم والقبائل الوحشية كالامم القاطنين بإِفريقيا وأُستراليا والجزائر المسكونة بالاوقيانوسية وامريكا القديمة وغيرها بالنسبة إِلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الانعام وغيرها بالنسبة الى حياة الانسان . فكما أن الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الأنعام وسائر الحيوانات الأهلية ويتصرف فيها كيفما شاء وفي أي حاجة من حوائجه شاء ، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها وسفادها ونتاجها ونمائها ، وفي حمل الأثقال ، وفي الحرث ، وفي الصيد ، إِلى غير ذلك من الأغراض التي لا تحصى كثرة . وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل
والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إِلا ما رضي به الانسان الذي امتلكها ولن يرضى إِلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة ، وربما أدى ذلك إِلى تهكمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في امر نفسه : فمن مظلوم من غير أي جرم كان اجرمه ، ومستغيث وليس له اى مغيث يغيثه ، ومن ظالم من غير مانع يمنعه ، ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في انعم عيش وألذه عنده ، ومن شقي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة . وليس لها من حقوق الحياة إِلا ما رآه الإنسان المالك لها حقاً لنفسه فمن تعدى اليها لا يؤاخذ إِلا لانه تعدى إِلى مالكها في ملكه ، لا إِلى الحيوان في نفسه ، كل ذلك لان الانسان يرى وجودها تبعاً لوجود نفسه وحياتها فرعاً لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي . كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الامم والقبائل حياة تبعية ، وكانت النساء مخلوقة عندهم « لأجل الرجال » بقول مطلق : كانت النساء تابعة الوجود والحيوة لهم من غير استقلال في حياة ، ولا في حق فكان آبائهن ما لم ينكحن ، وبعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الاطلاق . كان للرجل ان يبيع المرأة ممن شاء وكان له ان يهبها لغيره ، وكان له ان يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك ، وكان له ان يسوسها حتى بالقتل ، وكان له ان يخلي عنها ، ماتت أو عاشت ، وكان له ان يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة وخاصة في المجاعة وفي المآدب ، وكان له ما للمرأة من المال والحق وخاصة من حيث إِيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ ورد . وكان على المرأة ان تطيع الرجل ، أباها أو زوجها ، في ما يأمر به طوعاً أو كرهاً ، وكان عليها ان لا تستقل عنه في امر يرجع اليه أو اليها ، وكان عليها ان تلي امور البيت والاولاد وجميع ما يحتاج اليه حياة الرجل فيه ، وكان عليها ان تتحمل من الاشغال أشقها كحمل الاثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات أرديها وسفسافها ، وقد بلغ عجيب الامر إِلى حيث ان المرأة الحامل في بعض القبائل إِذا وضعت حملها قامت من فورها إِلى حوائج البيت ، ونام الرجل على فراشها أياماً يتمرض ويداوي نفسه ، هذه كليات ما له وعليها ، ولكل جيل من هذه الاجيال
الوحشية خصائل وخصائص من السنن والآداب القومية باختلاف عاداتها الموروثة في مناطق حياتها والاجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشؤون . ( حياة المرئة في الامم المتمدنة ) قبل الاسلام نعني بهم الامم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إِلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإِيران ونحوها . تشترك جميع هؤلاء الامم : في ان المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرية ، لا في إِرادتها ولافي أعمالها ، بل كانت تحت الولاية والقيمومة ، لا تنجز شيئاً من قبل نفسها ولا كان لها حق المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما . وكان عليها : ان تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك . وكان عليها : ان تختص بامور البيت والاولاد ، وكان عليها ان تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها . وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالاً بالنسبة اليها في الامم غير المتمدنة ، فلم تكن تقتل وتؤكل لحمها ، ولم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إِرث أو ازدواج أو غير ذلك وإِن لم تكن لها ان تتصرف فيها بالاستقلال ، وكان للرجل ان يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء منهن ، وكان للزوج ان يتزوج بعد موت الزوجة ولا عكس غالباً ، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالباً . ولكل أُمة من هذه الامم مختصات بحسب اقتضاء المناطق والاوضاع : كما ان تمايز الطبقات في ايران ربما أوجب تميزاً لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من ام أو بنت أو اخت أو غيرها . وكما انه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعاً من اشتراء نفسها ومملوكيتها ، وكانت هي ممنوعة من الارث ومن ان تشارك الرجال حتى ابنائها في التغذي ، وكان للرجال
ان يتشارك اكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها ، والانتفاع من اعمالها ، ويلحق الاولاد بأقوى الازواج غالباً . وكما ان النساء كانت بالهند من تبعات ازواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي ازواجهن أبداً ، بل إِما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات ، وهن في ايام الحيض انجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكل ما لامستها بالبشرة . ويمكن ان يلخص شأنها في هذه الامم : انها كالبرزخ بين الحيوان والانسان يستفاد منها استفادة الانسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إِلا ان يمد الانسان المتوسط في امور حياته كالولد الصغير بالنسبة إِلى وليه غير انها تحت الولاية والقيمومة دائماً . ( وهيهنا امم أُخرى ) كانت الامم المذكورة آنفاً امماً تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصة على اساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير ان تعتمد على كتاب أو قانون ظاهراً لكن هناك أُمم أُخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب ، مثل الكلدة والروم واليونان . اما الكلدة والآشور فقد حكم فيهم شرع « حامورابي » بتبعية المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الارادة والعمل ، حتى ان الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من امور المعاشرة أو استقل بشيء فيها كان له ان يخرجها من بيته ، أو يتزوج عليها ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضاً ، ولو اخطأت في تدبير البيت بإِسراف أو تبذير كان له ان يرفع امرها إِلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إِثبات الجرم . واما الروم فهي ايضاً من اقدم الامم وضعاً للقوانين المدنية ، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم اخذوا في تكميله تدريجاً ، وهو يعطي للبيت نوع استقلال في إِجراء الاوامر المختصة به ، ولرب البيت وهو زوج المرأة وأبو اولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك اهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت ، وكان له الاختيار التام والمشية النافذة في جميع ما
يريده ويأمر به على اهل البيت من زوجة واولاد حتى القتل لو رأى ان الصلاح فيه ، ولا يعارضه في ذلك معارض ، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والاخت أردء حالاً من الرجال حتى الابناء التابعين محضاً لرب البيت ، فإِنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية ، ولا ينفذ منهن معاملة ، ولا تصح منهن في الامور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال اعني الاخوة والذكور من الاولاد حتى الادعياء ( فإِن التبني والحاق الولد بغير أبيه كان معمولاً شائعاً عندهم وكذا في يونان وايران والعرب ) كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بامور الحياة مطلقاً لأنفسهم . ولم يكن اجزاء اصيلة في البيت بل كان اهل البيت هم الرجال ، واما النساء فتبع ، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث ونحوها مختصه بما بين الرجال ، واما النساء فلا قرابة بينهن انفسهن كالام مع البنت والاخت مع الاخت ، ولا بينهن وبين الرجال كالزوجين أو الام مع الابن أو الاخت مع الاخ أو البنت مع الاب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية ، نعم القرابة الطبيعية ( وهي التي يوجبها الاتصال في الولادة ) كانت موجودة بينهم ، وربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم ، وولاية رئيس البيت وربه لها . وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع ( المجتمع المدني والبيتي ) زمام حياتها وإِرادتها بيد رب البيت من ابيها إِن كانت في بيت الاب أو زوجها إِن كانت في بيت الزوج أو غيرهما ، يفعل بها ربها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد ، فربما باعها ، وربما وهبها ، وربما أقرضها للتمتع ، وربما أعطاها في حق يراد استيفائه منه كدين وخراج ونحوهما ، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما ، وبيده تدبير مالها إِن ملكت شيئاً بالازدواج أو الكسب مع إِذن وليها لا بالإرث لانها كانت محرومة منه ، وبيد ابيها أو واحد من سراة قومها تزويجها ، وبيد زوجها تطليقها . واما اليونان فالامر عندهم في تكون البيوت وربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم . فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوماً بالرجال ، والنساء تبع لهم ، ولذا لم يكن لها استقلال في إِرادة ولافعل إِلا تحت ولاية الرجال ، لكنهم
جميعاً ناقضوا انفسهم بحسب الحقيقة في ذلك ، فإِن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال ولا تحكم لهن إِلا بالتبع إِذا وافق نفع الرجال ، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال ، ولا تثاب لحسناتها ولا تراعى جانبها إِلا بالتبع وتحت ولاية الرجل . وهذا بعينه من الشواهد الدالة على ان جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزء ضعيفاً من المجتمع الانساني ذات شخصية تبعية ، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير ان للمجتمع حاجة ضرورية اليها من حيث بقاء النسل ، فيجب ان يعتني بشأنها ، وتذاق وبال أمرها إِذا جنت أو أجرمت ، ويحتلب الرجال درها إِذا احسنت أو نفعت ، ولا تترك على حيال إِرادتها صوناً من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ اسيراً مسترقاً يعيش طول حياته تحت القهر ، إِن جاء بالسيئة يؤاخذ بها وإِن جاء بالحسنة لم يشكر لها . وهذا الذي سمعته : ان الاجتماع كان متقوماً عندهم بالرجال هو الذي الزمهم ان يعتقدوا ان الاولاد بالحقيقة هم الذكور ، وان بقاء النسل ببقائهم ، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبني والالحاق بينهم ، فإِن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوماً بالخراب ، والنسل مكتوباً عليه الفناء والانقراض ، فاضطر هؤلاء إِلى اتخاذ ابناء صوناً عن الانقراض وموت الذكر ، فدعوا غير ابناءهم لاصلابهم أبنائاً لانفسهم فكانوا ابنائاً رسماً يرثون ويورثون ويرتب عليهم آثار الابناء الصلبيين ، وكان الرجل منهم إِذا زعم انه عاقر لا يولد منه ولد عمد إِلى بعض اقاربه كأخيه وابن اخيه فأورده فراش اهله لتعلق منه فتلد ولداً يدعوه لنفسه ، ويقوم بقاء بيته . وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريباً منهما في الروم ، وكان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير ان الزوجة إِذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية والباقية غير رسمية . ( حال المرأَة عند العرب ومحيط حياتهم ) محيط نزول القرآن وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارة جدبة الارض ،
والمعظم من امتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية ، يعيشون بشن الغارات ، وهم متصلون بإِيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشه والسودان من آخر . ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش ، وربما وجد خلالها شيء من عادات الروم وإِيران ، ومن عادات الهند ومصر القديم أحياناً . كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالاً في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إِلا حرمة البيت وشرافته ، وكانت لا تورث النساء ، وكانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود ، وكذا في الطلاق ، وكانت تئد البنات ، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر ، أسرت فيه عدة من بناتهم ، والقصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به ، ثم سرت السجية في غيرهم ، وكانت العرب تتشأم إِذا ولدت للرجل منهم بنت يعدها عاراً لنفسه ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالدعاء والالحاق حتى انهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه ، وربما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه . وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في امر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها ، فيشبه ذلك منهم دأب الاشراف بإِيران الجاري على تمايز لطبقات . وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة اهل المدنية من الروم وإِيران كتحريم الاستقلال في الحقوق ، والشركة في الامور العامة الاجتماعية كالحكم والحرب وامر الازدواج إِلا استثنائاً ، ومن معاملة أهل التوحش والبربرية ، فلم يكن حرمانهن مستنداً إِلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم ، بل من باب غلبة القوي واستخدامه للضعيف . واما العبادة فكانوا يعبدون جميعاً ( رجالاً ونسائاً ) اصناماً يشبه امرها امر الاصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وارباب الانواع ، وتتميز أصنامهم بحسب تميز القبائل وأهوائها المختلفة ، فيعبدون الكواكب والملائكة ( وهم بنات الله سبحانه بزعمهم ) ويتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم ، ومن اشياء مختلفة كالحجارة والخشب ، وقد بلغ هواهم في ذلك إِلى مثل ما نقل عن بني حنيفة انهم اتخذوا لهم
صنماً من الحيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم اصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم : أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة وربما عبدوا حجراً حتى إِذا وجدوا حجراً أحسن منه طرحوا الاول وأخذوا بالثاني وإِذا لم يجدوا شيئاً جمعوا حفنة من تراب ثم جاؤا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها . وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفاً في الفكرة يصور لها أوهاماً وخرافات عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ . فهذه جمل من احوال المرأة في المجتمع الانساني من ادواره المختلفة قبل الاسلام وزمن ظهوره ، آثرنا فيها الاختصار التام ، ويستنتج من جميع ذلك : اولاً : انهم كانوا يرونها انساناً في أُفق الحيوان العجم ، أو انساناً ضعيف الإنسانية منحطاً لا يؤمن شره وفساده لو أُطلق من قيد التبعية ، واكتسب الحرية في حياته ، والنظر الاول أنسب لسيرة الامم الوحشية والثاني لغيرهم ، وثانياً : انهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي انها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه ، وإِنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء اليه ، أو انها كالاسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب ، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين ، وثالثاً : انهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إِلا بمقدار يرجع انتفاعها إِلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها ، ورابعاً : ان اساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف وبعبارة أُخرى قريحة الاستخدام ، هذا في الامم غير المتمدنة ، واما الامم المتمدنة فيضاف عندهم إِلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في امرها : انها انسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها ، ولا يؤمن شرها ، وربما اختلط الامر اختلاطاً باختلاف الامم والاجيال . ( ماذا أَبدعه الاسلام في أَمرها ) لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك ، وتحبسها في سجن الذلة
والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها ، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت ، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة ، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء ـ ومن العجب ذلك ـ ولا ترى أُمة من الامم وحشيها ومدنيها إِلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهو ان أمرها ، وفي لغاتهم على اختلاف اصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة ( المرأة ) يقرّع بها الجبان ، ويؤنب بها الضعيف ، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم ، ويوجد من نحو قول القائل : وما أدري وليت إِخال ادري أقوم آل حصن أم نساء مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة . وهذا في نفسه كاف في ان يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانية في أمر المرأة وإِن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الامم والملل في امرها ، فإِن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أُمة تتجلى في لغتها وآدابها . ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهم بأمرها إِلا بعض ما في التوراة وما وصى به عيسى بن مريم عليهما السلام من لزوم التسهيل عليها والارفاق بها . وأما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها ، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من اول يوم وأعفت آثارها ، والغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً . اما هويتها : فإِنه بين أن المرأة كالرجل انسان وأن كل انسان ذكراً أو أُنثى فإِنه انسان يشترك في مادته وعنصره انسانان ذكر وانثى ولا فضل لأحد على أحد إِلا بالتقوى ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » الحجرات ـ 13 ، فجعل تعالى كل انسان مأخوذاً مؤلفاً من انسانين ذكر وأُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده ، وهو سواء كان ذكراً او انثى مجموع المادة المأخوذة منهما ، ولم يقل تعالى : مثل ما قاله القائل : وإِنما أُمهات الناس اوعية ولا قال مثل ما قاله الآخر : بنونا بنو ابنائنا وبناتنا بنوهن ابناء الرجال الأباعد بل جعل تعالى كلاً مخلوقاً مؤلفاً من كل . فعاد الكل امثالاً ، ولا بيان اتم ولا ابلغ من هذا البيان ، ثم جعل الفضل في التقوى . وقال تعالى : « أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ » آل عمران ـ 195 ، فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيع عند الله وعلل ذلك بقوله : بعضكم من بعض فعبر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة : إِنا خلقناكم من ذكر وأُنثى ، وهو ان الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ . ثم بين بذلك ان عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه ، ولا يعدوه إِلى غيره ، كل نفس بما كسبت رهينة ، لا كما كان يقوله الناس : إِن عليهن سيئاتهن ، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن ، وسيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح . وإِذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إِلا بالتقوى ، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالايمان بدرجاته ، والعلم النافع ، والعقل الرزين ، والخلق الحسن ، والصبر ، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان ، أو المليئة علماً ، أو الرزينة عقلاً ، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام ، كان من كان ، فلا كرامة إِلا للتقوى والفضيلة . وفي معنى الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى : « مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » النحل ـ 97 ، وقوله تعالى : « وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ » المؤمن ـ 40 ، وقوله تعالى : « وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا » النساء ـ 124 . وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم : « وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ » النحل ـ 59 ، ولم يكن تواريهم إِلا لعدهم ولادتها عاراً على المولود له ، وعمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها ، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن ، فيعود عاره إِلى بيتها وأبيها ، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مر ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال : « وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ » التكوير ـ 9 . وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم ، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون ، فتراهم يعدون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإِن تابت دون الزاني وإِن أصر ، مع أن الإسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية ، والزاني والزانية سواء فيها . واما وزنها الاجتماعي : فإِن الاسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالارادة والعمل فإِنهما متساويان من حيث تعلق الارادة بما تحتاج إِليه البنية الانسانية في الاكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء ، وقد قال تعالى : « بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ » آل عمران ـ 195 ، فلها ان تستقل بالارادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ، « لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ » . فهما سواء فيما يراه الاسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الالهي : احديهما : أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الاحكام بمثل ما يختص به الحرث ، وتمتاز بذلك من الرجل . والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور ، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إِليها . فهذا وزنها الاجتماعي ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع ، واليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختص به احدهما في الإسلام ، قال تعالى : « وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:24 pm | |
| وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا » النساء ـ 32 ، يريد أن الاعمال التي يهديها كل من الفريقين الى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل ، وان من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث ، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها ، فلا ينبغي أن يتمناه متمن ، ومنه ما لم يتعين إِلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الايمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، واسئلوا الله من فضله ، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده : الرجال قوامون ، على ما سيجيء بيانه . وأما الأحكام المشتركة والمختصة : فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إِرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إِلا في موارد يقتضى طباعها ذلك . وعمدة هذه المورد : أنها لا تتولى الحكومة والقضاء ، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الامر كمداواة الجرحى مثلاً ، ولها نصف سهم الرجل في الإرث ، وعليها : الحجاب وستر مواضع الزينة ، وعليها : أن تطيع زوجها فيما يرجع إِلى التمتع منها ، وتدورك ما فاتها بأن نفتتها في الحياة على الرجل : الأب أو الزوج ، وان عليه ان يحمي عنها منتهى ما يستطيعه ، وأن لها حق تربية الولد وحضانته . وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر ، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها ، وأنها لازمة الارفاق في جميع الاحوال . والمتحصل من جميع ذلك : انها لا يجب عليها في جانب العلم إِلا العلم باصول المعارف والعلم بالفروع الدينية ( أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع ) ، واما في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها ، وأما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا ـ المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة ـ للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من
ذلك ، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلها فضلاً لها تتفاضل به ، وفخراً لها تتفاخر به ، وقد جوّز الإسلام بل ندب إِلى التفاخر بينهن ، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب . والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه ، ولولا بلوغ الكلام في طوله إِلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة (ع) ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام ، ووصاياهم في أمر النساء . ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الابحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع اليها . واما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام والحقوق فهو الفطرة ، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هىهنا إِيضاحاً فنقول : لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالأخرة إِلى الطبيعة ، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الانسان الى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان ، وإِن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند الى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إِلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إِلى نقص الخلقة ، أو عن صحته الطبيعية الى السقم والعاهة . فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالاخرة الى الطبيعة وان اختلف القسمان من حيث ان الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل . فهذه حقيقة ، وقد أشار اليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم الى بيانه الكتاب الالهي فبينه بأبدع البيان ، قال تعالى : « الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ
( 2 ـ الميزان ـ 18 ) فَهَدَىٰ » الاعلى ـ 3 ، وقال تعالى : « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا » الشمس ـ 8 ، الى غير ذلك من آيات القدر . فالاشياء ومن جملتها الانسان إِنما تهتدي في وجودها وحياتها الى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة ، والحياة القيمة بسعادة الانسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تاماً ، وتنتهي وظائفها وتكاليفها الى الطبيعة انتهائاً صحيحاً ، وهذا هو الذي يشير اليه قوله تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » الروم ـ 30 . والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الافراد ـ على أن الجميع انسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير ان يحبا بعض ويضطهد آخرون بإِبطال حقوقهم ، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع ، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الانسان العاقل المجرب ، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر من الشؤون والدرجات ، فإِن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إِفساداً لحالهما معاً . بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية : ان يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته ، فالتساوي بين الافراد والطبقات إِنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً ، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك ، وهذا هو الذي يشير اليه قوله تعالى : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة الآية ، كما مر بيانه ، فإِن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال . ثم إِن اشتراك القبيلين اعني الرجال والنساء في اصول المواهب الوجودية اعني ، الفكر والارادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والارادة اعني الاختيار ، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع ، وقد اعطاها الاسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم ، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الارادة والعمل عن
الرجال وولايتهم وقيمومتهم ، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها ، قال تعالى : « فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » الآية ، البقرة ـ 234 . لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أُخرى ، فإِن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء ، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب ، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إِلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة ، فحياتها حياة إِحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية . ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الامرين أعني التعقل ، والإحساس فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إِلى التعقل والحياة التعقلية إِنما هي للرجل دون المرأة ، وخص مثل حضانة الاولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ، وجعل نفقتها على الرجل ، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث ( وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إِلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إِنما هو للرجال لغلبة تعقلهم ، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إِحساسهن . وسنزيده إِيضاحاً في الكلام على آيات الارث إِنشاء الله تعالى ) ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الاشارة اليها . فان قلت : ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الاسلام يوجب انعطالها في العمل فإِن ارتفاع الحاجة الضرورية إِلى لوازم الحياة بتخديرها ، وكفاية مؤونتها بإِيجاب الانفاق على الرجل يوجب إِهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الاعمال والاشغال فتنمو على ذلك نمائاً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل الاجتماع ، وقد أيدت التجربة ذلك . قلت : وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر ، وإِجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الانسان نباتاً حسناً أمر آخر ، والذي أُصيب به الاسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الاولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الاحكام ، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى . ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعي : أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين ، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الاولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بامورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل ، فهذا معاوية ، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله : إِني ما كنت أُقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإِنما كنت أُقاتلكم لأتأمر عليكم وقد فعلت ، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن دونهم . ولولا استضائة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم . ( حرية المرأَة في المدنية الغربية ) لا شك ان الاسلام له التقدم الباهر في إِطلاقها عن قيد الاسارة ، وإِعطائها الاستقلال في الارادة والعمل ، وأن امم الغرب فيما صنعوا من أمرها إِنما قلدوا الاسلام ـ وإِن أساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإِن سيرة الاسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة ، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها . وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الازمنة بعد ان اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إِلى الرجل كما سمعت إِجماله . والرأي العام عندهم تقريباً : أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إِلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل . ويتوجه عليه : أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل
في الجملة ، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الاحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إِلى مثل ما في الرجل . ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إِيجاد التساوي بينهما ، ولم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء ، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إِنشاء الله تعالى . ( بحث علمي آخر ) عمل النكاح من اصول الاعمال الاجتماعية ، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي ، وقد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع اليه ابتدائاً أو بالاخرة . وقد وضع الاسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إِذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والإناث ـ لم يوضع هبائاً باطلاً ، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الانسان الذكور في تجهيزها لا تريد إِلا الإناث وكذا العكس ، وأن هذا التجهيز لا غاية له إِلا توليد المثل وإِبقاء النوع بذلك ، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلقة به تدور مدارها ، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع ، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدة والأولاد والارث ونحو ذلك . وأما القوانين الأخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة ، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك ، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الاسلام من أحكام العفة ونحو ذلك . وهذا البناء على ما يتفرع عليه من انواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إِنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة اصلاً ، فإِن غاية ما نجده
في الانسان من الداعي الطبيعي إِلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إِلى امور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده ان يقوم بها جميعاً إِلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع ، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الاشغال ونحو من انحاء الاعمال متفرقة في الافراد يحصل من مجموعها مجموع الاشغال والاعمال . وهذا الداعي إِنما يدعو إِلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أياً ما كانا وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة اليه ، فبناء ـ الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إِلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة اليه . ولو كان الأمر على هذا ، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الاحكام الاجتماعية بشيء أصلا إِلا الاحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون ، وفي ذلك إِبطال فضيلة العفة رأساً وإِبطال أحكام الانساب والمواريث كما التزمته الشيوعية ، وفي ذلك إِبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الانسان ، وسنزيده إِيضاحاً في محل يناسبه إِنشاء الله ، هذا إِجمال الكلام في النكاح ، واما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الاسلامية ، وقد وضع جوازه على الفطرة إِذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه ، واما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء الكلام فيها في سورة الطلاق إِنشاء الله العزيز . وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إِلى ادخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ـ 243 .
( بيان ) قوله تعالى : ألم تر إِلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت ، الرؤية هىهنا بمعنى العلم ، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ » إِبراهيم ـ 19 ، وقوله تعالى : « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا » نوح ـ 15 . وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل ، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا : ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا ، وحذر الموت مفعول له ، ويمكن ان يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يحذرون الموت حذراً . قوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم احياهم ، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعاً عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات : ان ذلك كان بالطاعون ، وإِنما عبر بالامر ، دون ان يقال : فاماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر ، فإِن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما ان التعبير بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء ، ولا يخلو قوله تعالى : ثم أحياهم عن الدلالة على ان الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم ، إِذ لو كان إِحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف ، على ان قوله تعالى بعد : إِن الله لذو فضل على الناس ، يشعر بذلك ايضاً . قوله تعالى : ولكن اكثر الناس لا يشكرون ، الاظهار في موضع الاضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانياً لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم ، على ان هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة ، وليس المراد كون الاكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الاكثر من جميع الناس ، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال ، لما في الجهاد من إِحياء الملة بعد موتها . وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الامة في تأخرها وموتها باستخزاء الاجانب إِياها ببسط السلطة وعليها ، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها . قال ما حاصله : ان الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إِسرائيل كما يدل عليه اكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الاشارة إِلى كونهم من بني إِسرائيل ، وإِلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع ان الآية خالية عن ذلك ، على ان التوراة ايضاً لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله و عليهالسلام فليست الروايات إِلا من الاسرائيليات التي دستها اليهود ، مع ان الموت والحياة الدنيويتين ليستا إِلا موتاً واحداً أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى : « لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ » الدخان ـ 56 ، وقوله تعالى : « وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » المؤمن ـ 11 ، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا ، فالآية مسوقة سوق المثل ، والمراد بها قوم هجم عليهم اولوا القدرة والقوة من اعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم الوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا موت الخزي والجهل ، فإِن الجهل والخمود موت كما ان العلم وإِباء الضيم حياة ، قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ » الأنفال ـ 24 ، وقال تعالى : « أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا » الانعام ـ 122 . وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزي وتمكن الاعداء منهم ويبقون امواتاً ، ثم أحياهم الله بإِلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق انفسهم واستقلوا في امرهم ، وهؤلاء الذين احياهم الله وإِن كانوا بحسب الاشخاص غير الذين اماتهم الله الا ان الجميع امة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين ، وقد عد الله تعالى القوم واحداً مع اختلاف الاشخاص كقوله تعالى في بني اسرائيل : « أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ » الاعراف ـ 141 ، وقوله تعالى : « ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ » البقرة ـ 56 ، ولولا ما ذكرناه من كون الآية مسوقاً للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر ، انتهى ما ذكره ملخصاً . وهذا الكلام كما ترى مبني أولاً : على انكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإِحياء الموتى وقد مر اثباتها ، على ان ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن انكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحته من طريق العقل . وثانياً : على دعوى ان القرآن يدل على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل بمثل قوله تعالى : « لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ » الدخان ـ 56 ، وقوله تعالى : « وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » المؤمن ـ 11 . وفيه ان جميع الآيات الدالة على احياء الموتى كما في قصص ابراهيم وموسى وعيسى وعزير ، بحيث لا تدفع دلالتها ، يكفي في رد ما ذكره ، على ان الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد احسن الاستفادة من قصة عزير ، حيث لم يتنبه لموته الممتد ، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة . وثالثاً : على ان الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي احياهم . وانت تعلم ان مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة ، والكلام كما ربما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الايجاز ، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى : « قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ » البروج ـ 7 ، وقوله تعالى : « وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ » الاعراف ـ 181 . ورابعاً : على ان الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى ، وانت تعلم ان نزول القرآن نجوماً يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض الا ما كان منها ظاهر الارتباط ، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ . فالحق ان الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة ، وليت شعري اي بلاغة في ان يلقي الله سبحانه للناس كلاماً لا يرى اكثر الناظرين فيه الا انه قصة من قصص الماضين ، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة . مع ان دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي » البقرة ـ 17 ، وقوله : « إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » يونس ـ 24 ، وقوله : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا » الجمعة ـ 5 ، الى غير ذلك .
( بحث روائي ) في الاحتجاج عن الصادق عليهالسلام في حديث قال عليهالسلام : أحيى الله قوماً خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون ، لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتى بليت عظامهم ، وتقطعت أوصالهم ، وصاروا تراباً ، فبعث الله في وقت احب ان يرى خلقه نبياً يقال له : حزقيل ، فدعاهم فاجتمعت ابدانهم ، ورجعت فيها ارواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لا يفتقدون في اعدادهم رجلاً فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً . أقول : وروي هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو ابسط ، وفي آخره : وفيهم نزلت هذه الآية . وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ 244 . مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ـ 245 . أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ـ 246 . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ـ 247 . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ 248 . فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ـ 249 . وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ـ 250 . فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ـ 251 . تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ـ 252 . ( بيان ) الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال ، والترغيب في القرض الحسن ، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداود وجالوت يعطي ان هذه الآيات نزلت دفعة واحدة ، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة ، والروح الذي به تقدم الامة في حياتهم الدينية ، والدنيوية ، وسعادتهم الحقيقية ، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد ، ويدعو إِلى الإنفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة ، وسماه إِقراضاً لله لكونه في سبيله ، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب ، ثم يقص قصة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا ان الحكومة والغلبة للإيمان والتقوى وإِن قل حاملوهما ، والخزي والفناء للنفاق والفسق وإِن كثر جمعهما ، فإِن بني إِسرائيل ، وهم اصحاب القصة ، كانوا
أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني ، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحق وإِن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم ، وتولى اكثرهم عند إِنجاز القتال أولا ، وبالاعتراض على طالوت ثانياً ، وبالشرب من النهر ثالثاً ، وبقولهم : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعاً ، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإِذن الله وقتل داود جالوت واستقر الملك فيهم ، وعادت الحياة اليهم ، ورجع اليهم سؤددهم وقوتهم ، ولم يكن ذلك كله إِلا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده ، وهي قولهم : ربنا افرغ علينا صبراً وانصرنا على القوم الكافرين ، فكذلك ينبغي للمؤمنين ان يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين ، فهم الاعلون إِن كانوا مؤمنين . قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الآية ، فرض وإِيجاب للجهاد ، وقد قيده تعالى هىهنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إِلى الوهم ولا يستقر في الخيال ان هذه الوظيفة الدينية المهمة لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة ، وتوسعة المملكة الصورية ، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الاسلامي من الاجتماعيين وغيرهم ، بل هو التوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم . وفي قوله تعالى : واعلموا إِن الله سميع عليم ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير ان لا يخالفوا بالقول إِذا أمر الله ورسوله بشيء ، ولا يضمروا نفاقاً كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في امر طالوت فقالوا : أنى يكون له الملك علينا « الخ » ، وحيث قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، وحيث فشلوا وتولوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه . قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً إِلى قوله اضعافاً كثيرة ، القرض معروف وقد عد الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضاً لنفسه لما مر انه للترغيب ، ولانه إِنفاق في سبيله ، ولانه مما سيرد اليهم اضعافاً مضاعفة . وقد غير سياق الخطاب من الامر الى الاستفهام فقيل بعد قوله : وقاتلوا في سبيل الله : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ، ولم يقل : قاتلوا في سبيل الله واقرضوا ، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الأمر غير الخالي من كلفة
التكليف إِلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج . قوله تعالى : والله يقبض ويبصط واليه ترجعون ، القبض الأخذ بالشيء اليك ويقابله البسط ، والبصط هو البسط قلب سينه صاداً لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء . وايراد صفاته الثلاث أعني : كونه قابضاً وباسطاً ومرجعاً يرجعون اليه للإشعار بأن ما أنفقوه بإِقراضه تعالى لا يعود باطلاً ولا يستبعد تضعيفه اضعافاً كثيرة فإِن الله هو القابض الباسط ، ينقص ما شاء ، ويزيد ما شاء ، واليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية . قوله تعالى : ألم تر الى الملأ من بني اسرائيل الى قوله : في سبيل الله ، الملأ كما قيل : الجماعة من الناس على رأي واحد ، سميت بالملأ لكونها تملاء العيون عظمة وأُبهة . وقولهم لنبيهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ، على ما يعطيه السياق يدل على ان الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم ، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون ، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه ، وبلغ من اشتداد الامر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة ، وعاد إِلى انفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم ان يبعث لهم ملكاً ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتتجمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير ، ويقاتلوا تحت امره في سبيل الله . قوله تعالى : قال : هل عسيتم إِن كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا ، كان بنوا إِسرائيل سألوا نبيهم ان يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الامر في ذلك إِلى الله سبحانه ، ولذلك ارجع نبيهم الامر في القتال وبعث الملك إِلى الله تعالى ، ولم يصرح باسمه تعظيماً لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إِنما أشار إِلى ان الامر منه واليه تعالى بقوله : إِن كتب ، والكتابة وهي الفرض انما تكون من الله تعالى . وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجواً منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:26 pm | |
| ليتم الحجة عليهم بإِنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم : وما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله . قوله تعالى : قالوا : وما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا ، الاخراج من البلاد لما كان ملازماً للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه ، ومنعهم عن التصرف فيها والتمتع بها ، كني به عن مطلق التصرف والتمتع ، ولذلك نسب الإخراج الى الأبناء أيضاً كما نسب الى البلاد . قوله تعالى : فلما كتب عليهم القتال تولوا إِلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين ، تفريع على قول نبيهم : هل عسيتم « الخ » ، وقولهم : وما لنا ان لا نقاتل ، وفي قوله تعالى : والله عليم بالظالمين ، دلالة على ان قول نبيهم لهم : هل عسيتم ان كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوه ، انما كان لوحي من الله سبحانه : انهم سيتولون عن القتال . قوله تعالى : وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث الى قوله : من المال في جوابه عليهالسلام هذا حيث نسب بعث الملك الى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكاً نقاتل ولم يقولوا : اسأل الله ان يبعث لنا ملكاً ويكتب لنا القتال . وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك ، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا ونحن احق بالملك منه ، ومن المعلوم ان قولهم هذا لنبيهم ، ولم يستدلوا على كونهم احق بالملك منه بشيء يدل على ان دليله كان أمراً بيناً لا يحتاج إِلى الذكر ، وليس إِلا ان بيت النبوة وبيت الملك في بني إِسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت ، وبعبارة أُخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولا من بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا ، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معاً ، أحق بالملك منه لأن الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إِلى غيرنا ، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا : يد الله مغلولة غلت أيديهم ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : إِن الله اصطفاه عليكم فهذه إِحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم ، والصفة الثانية ما
في قولهم : ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيراً ، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله : وزاده بسطة في العلم والجسم « الخ » . قوله تعالى : قال : إِن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو ، والبسطة هي السعة والقدرة ، وهذان جوابان عن اعتراضهم . أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم ، فجوابه : ان هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإِذا اصطفى عليهم غيرهم كان احق بالملك منهم ، وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم ، فإِنما الفضل يتبع تفضيله تعالى . واما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال ، فجوابه : ان الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلائم الارادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إِرادة واحدة وتتحد الازمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من افراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد فرداً ، ولا يتقدم فرد من غير حق ، ولا يتأخر فرد من غير حق . وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيراً يوصل كل فرد من أفراده الى كماله اللائق به ، ويدفع كل ما يمانع ذللك ، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران : أحدهما : العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها ، وثانيهما : القدرة الجسمية على إِجراء ما يراه من مصالح المملكة ، وهما اللذان يشير اليهما قوله تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم ، وأما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل . ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء ، وهو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إِلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الاضافة في قوله تعالى ، يؤتي ملكه ، وإِذا كان كذالك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد ، ليس لأحد أن يقول : لماذا أو بماذا ( أي ان يسئل عن علة التصرف لان الله تعالى هو السبب المطلق ، ولا عن متمم العلية واداة الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج الى متمم ) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت
إلى بيت ، أو تقليده احداً ليس له اسبابه الظاهرة من الجمع والمال . والايتاء والافاضة الالهية وإِن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافاً خالية عن الحكم والمصالح ، فإِن المقصود من قولنا : إِنه تعالى يفعل ما يشاء ، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلاً فإِن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإِن لم يصادف فقد صار جزافاً ولا محذور لان الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا ، فإِن هذا مما يبطله الظواهر الدينية والبراهين العقلية . بل المقصود بذلك : ان الله سبحانه حيث ينتهي اليه كل خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى ، وإِذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهوراً لمصلحة من المصالح محكوماً بحكمها ، كما أننا في أفعالنا كذلك ، فإِذا فعل سبحانه فعلاً أو خلق خلقاً ولا يفعل إِلا الجميل ، ولا يخلق إِلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعياً فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولا مقهور للمصلحة . ومن هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه ، اعني اجتماع قوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء ، مع قوله تعالى : إِن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، فإِن الحجة الاولى مشتملة على التعليل بالمصالح والاسباب ، والحجة الثانية على إِطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء ، ولولا ان اطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون افعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلاً عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر . وقد اوضح هذا المعنى احسن الإيضاح تذئيل الآية بقوله تعالى : والله واسع عليم فإِن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإِيتاء اصلاً والعليم يدل على ان فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطيء فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إِلا فعلاً ذا مصلحة . والوسعة والسعة في الاصل حال في الجسم به يقبل اشياء أُخر من حيث التمكن كسعة الاناء لما يصب فيه ، والصندوق لما يوضع فيه ، والدار لمن يحل فيها ثم استعير للغنى ولكن لا كل غنى ومن كل جهة ، بل من جهة إِمكان البذل معه كأن المال يسع
بذل ما اريد بذله ، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه ، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما اراد بذله بل يقدر على ذلك . قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إِن آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ، التابوت هو الصندوق ، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأن الانسان يرجع الى الصندوق رجوعاً بعد رجوع . ( كلام في معنى السكينة ) والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الانسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إِرادته على ما هو حال الانسان الحكيم ( من الحكمة باصطلاح فن الأخلاق ) صاحب العزيمة في أفعاله ، والله سبحانه جعلها من خواص الايمان في مرتبة كماله ، وعدّها من مواهبه السامية . بيان ذلك : ان الانسان بغريزته الفطرية يصدر افعاله عن التعقل ، وهو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح الأفعال ، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه ، ثم استنتاج ما ينبغي ان يفعله وما ينبغي أن يتركه . وهذا العمل الفكري إِذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إِلا ما ينفعه نفعاً حقيقياً في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل ، وأما إِذا أخلد الانسان في حياته الى الارض واتبع الهوى اختلط عليه الامر ، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في افكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة ، وتردده واضطرابه في عزمه وتصميم إِرادته وإِقدامه على شدائد الامور وهزاهزها أُخرى . والمؤمن بإِيمانه بالله تعالى مستند الى سناد لا يتحرك وركن لا ينهدم . بانياً اموره على معارف حقة لا تقبل الشك والريب ، مقدماً في أعماله عن تكليف الهي لا يرتاب فيها ، ليس اليه من الامر شيء حتى يخاف فوته ، او يحزن لفقده ، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره . ( 2 ـ الميزان ـ 19 ) وأما غير المؤمن فلا ولي له يتولى امره ، بل خيره وشره يرجعان اليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الافكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى والخيال والاحساسات المشؤومة ، قال تعالى : « وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » آل عمران ـ 68 ، وقال تعالى : « ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ » محمد ـ 11 ، وقال تعالى : « اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ » البقرة ـ 257 ، وقال تعالى : « إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ » الاعراف ـ 27 ، وقال تعالى : « ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ » آل عمران ـ 175 ، وقال تعالى : « الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً » البقرة ـ 268 ، وقال تعالى : « وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ـ إِلى أن قال ـ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا » النساء ـ 122 ، وقال تعالى : « أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » يونس ـ 62 ، والآيات كما ترى تضع كل خوف وحزن واضطراب وغرور في جانب الكفر ، وما يقابلها من الصفات في جانب الايمان . وقد بيّن الامر أوضح من ذلك بقوله تعالى : « أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا » الأنعام ـ 122 ، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعاً في الظلمات لا يبصر شيئاً ، لكن المؤمن له نور إِلهي يبصر به طريقه ، ويدرك به خيره وشره ، وذلك لان الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر ، وتلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به ، وفي معناه قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ » الحديد ـ 28 . ثم قال تعالى : « لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ » المجادلة ـ 22 ، فأفاد ان هذه الحياة إِنما هي بروح منه ، وتلازم لزوم الايمان واستقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الايمان في قلوبهم ، والحياة الجديدة في قوالبهم ، والنور المضيء قدامهم . وهذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا » الفتح ـ 4 ، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة وازدياد الايمان على الايمان في هذه على كتابة الايمان في تلك ، ويؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية : ولله جنود السموات والارض ، فإِن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة والروح . ويقرب من هذه الآية سياقاً قوله تعالى : « فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا » الفتح ـ 26 ، وكذا قوله تعالى : « أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا » التوبة ـ 40 . وقد ظهر مما مرّ انه يمكن ان يستفاد من كلامه تعالى ان السكينة روح إِلهي او تستلزم روحاً إِلهياً من امر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط الجأش ، ومن المعلوم ان ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر واستعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الروح الالهي ، وبهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات . قوله تعالى : وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة « الخ » آل الرجل خاصته من اهله ويدخل فيهم نفسه إِذا اطلق ، فآل موسى وآل هرون هم موسى وهرون وخاصتهما من اهلهما ، وقوله : تحمله الملائكة ، حال عن التابوت ، وفي قوله تعالى : ان في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين ، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبرّ به : ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً . قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود قال ان الله مبتليكم بنهر الى قوله منهم ، الفصل هىهنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى : « وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ » يوسف ـ 94 ، وربما استعمل بمعنى القطع وهو إِيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى : « وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ » الانعام ـ 57 ، فالكلمة مما يتعدى ولا يتعدى . والجند المجتمع الغليظ من كل شيء وسمي العسكر جنداً لتراكم الاشخاص فيه وغلظتهم ، وفي جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به
وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس ، ونظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود . وفي مجموع الكلام إِشارة إِلى حق الامر في شأن بني إِسرائيل وإِيفائهم بميثاق الله ، فإِنهم سألوا بعث الملك جميعاً وشدوا الميثاق ، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إِلا قليلاً منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنوداً ، وهذه الجنود أيضاً لم تغن عنهم شيئاً بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إِلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق بينهم من جهة المغترفين ، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة . والابتلاء الامتحان ، والنهر مجرى الماء الفائض ، والاغتراف والغرف رفع الشيء وتناوله ، يقال : غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إِذا رفعه ليتناوله ويشربه . وفي استثناء قوله تعالى : إِلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة ، وقد كان الظاهر أن يقال : فمن شرب منه فليس مني إِلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى : ومن لم يطعم فإِنه مني ، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولاً في الكلام من جهة المعنى إِذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت ، والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال وأما لو اضيفت الجملة الثانية ، أعني قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإِنه مني الى الجملة الاولى كان مفاد الكلام أن الامر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إِلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم ، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر ، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه ، واذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء الا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لان ذلك انما كان مفاداً لو كان المذكور هناك الجملة الاولى فقط ، واما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان : اعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون ، والذين هم منه وهم غير الطاعمين ، ومن المعلوم ان الاخراج من الطائفة الاولى إِنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية ، ولازم ذلك ان الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف : الذين ليسوا منه ،
والذين هم منه ، والمغترفون ، وعلى هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان : الذين هم منه ، والذين ليسوا من الخارجين ، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر والجزع والاعتماد بالله والقلق والاضطراب . قوله تعالى : فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه الى آخر الآية ، الفئة القطعة من الناس ، والتدبر في الآيات يعطي ان يكون القائلون : لا طاقة لنا ، هم المغترفون ، والمجيبون لهم هم الذين لم يطعموه اصلاً ، والظن بلقاء الله إِما بمعنى اليقين به واما كناية عن الخشوع . ولم يقولوا : يمكن ان تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإِذن الله ، بل قالوا : كم من فئة « الخ » ، أخذاً بالواقع في الاحتجاج بإِرائة المصداق ليكون أقنع للخصم . قوله تعالى : ولما برزوا لجالوت وجنوده « الخ » ، البروز هو الظهور ، ومنه البراز وهو الظهور للحرب ، والافراغ صب نحو المادة السيالة في القالب والمراد افاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة ، وكذا تثبيت الاقدام كناية عن الثبات وعدم الفرار . قوله تعالى : فهزموهم بإِذن الله « الخ » ، الهزم الدفع . قوله تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض الى آخر الآية ، من المعلوم أن المراد بفساد الارض فساد من على الارض اي فساد الاجتماع الإنساني ولو استتبع فساد الاجتماع فساداً في أديم الأرض فإِنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات ، وهذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن . بيان ذلك : أن سعادة هذه النوع لا تتم الا بالاجتماع والتعاون . ومن المعلوم أن هذا الامر لا يتم إِلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع وأجزائه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل وينفعل عن نفس واحدة وبدن واحد ، والوحدة الاجتماعية ومركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون ومركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود ، ومن المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إِنما هي نتيجة التأثير والتأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلولا المغالبة بين الاسباب التكوينية وغلبة بعضها على بعض واندفاع بعضها الآخر عنه ومغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها
ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له ، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود . كذلك نظام الاجتماع الإِنساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر ، والدفع والغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض ، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع ، فإِنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى ، وهو الغلبة وتحميل الإرادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلاً ينافي منافع الآخر سواء منافعه المشروعة او غيرها لم يكن للآخر إِرجاعه إِلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا ، وبذلك تنقطع الوحدة من بين الاجزاء وبطل الاجتماع ، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر : أن الاصل الاول الفطري للانسان المكون للاجتماع هو الاستخدام ، وأما التعاون والمدنية فمتفرغ عليه وأصل ثانوي ، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى : « كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً » البقرة ـ 213 . وفي الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الإنساني وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الانسان ، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه عليه ، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معاً ، وفي الشدة والرخاء ، والراحة والعناء جميعاً ، وبين جميع الافراد في جميع شعوب الاجتماع ، نعم إِنما يتنبه الانسان له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الافراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات والميول ونحوها ، فيشرع الانسان في دفع الانسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة ، والقتال والحرب إِحدى مراتبه . وأنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الاصول الفطرية عند الانسان أصل فطري أعم من ان يكون هذا الدفع دفعاً بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك ، إِذ لو لم يكن في فطرة الانسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه ، لا دفاع مشروع على الحق ولا غيره ، فإِن أعمال الانسان تستند إِلى فطرته كما مر بيانه سابقاً فلولا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله . وهذا الاصل الفطري ينتفع به الانسان في إِيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان ، ثم ينتفع به في تحميل إِرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلباً وبغياً ، وينتفع به
في دفعه واسترداد ما تملكه تغلباً وبغياً ، وينتفع به في إِحياء الحق بعد موته جهلاً بين الناس وتحميل سعادتهم عليهم ، فهو أصل فطري ينتفع به الانسان أكثر مما يستضر به . وهذا الذي ذكرناه « لعله » هو المراد بقوله تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ، ويؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى : « وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ » . وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضاً كذلك ، وربما أيده أيضاً قوله تعالى : « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ » الحج ـ 40 . وفيه : أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت وقصص أُخرى يسيرة معدودة . وربما ذكر آخرون : أن المراد بها دفع الله العذاب والهلاك عن الفاجر بسبب البر ، وقد وردت فيه من طرق العامة والخاصة روايات كما في المجمع والدر المنثور عن جابر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إِن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده واهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ، وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام ، قال : إِن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا ، وإِن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا ، وإِن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث ، ومثلهما غيرهما . وفيه : أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إِلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضاً من مصاديق دفع الناس . وربما ذكر بعضهم : ان المراد دفع الله الظالمين بالظالمين ، وهو كما ترى . قوله تعالى : تلك آيات الله « الخ » كالخاتمة يختم بها الكلام والقصة غير أن آخر الآية : وإِنك لمن المرسلين ، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية .
( بحث روائي ) في الدر المنثور : أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن أسلم ، قال : لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً الآية ، جاء ابو الدحداح الى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا نبي الله ، ألا ارى ربنا يستقرضنا مما اعطانا لأنفسنا وإِن لي أرضين : إِحديهما بالعالية والاخرى بالسافلة ، وإِني قد جعلت خيرهما صدقة ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة . اقول : والرواية مروية بطرق كثيرة . وفي المعاني عن الصادق عليهالسلام : لما نزلت هذه الآية : من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له اضعافاً كثيرة ، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى . اقول : وروى الطبرسي في المجمع والعياشي في تفسيره نظيره وروي قريب منه من طرق أهل السنة ايضاً ، قوله عليهالسلام : فعلم رسول الله ، يؤمي اليه آخر الآية : والله يقبض ويبصط ، اذ لا حد يحد عطائه تعالى ، وقد قال : « وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا » الإسراء ـ 20 . وفي تفسير العياشي عن أبي الحسن عليهالسلام في الآية ، قال : هي صلة الإمام . اقول : وروى مثله في الكافي عن الصادق عليهالسلام وهو من باب عد المصداق . وفي المجمع في قوله تعالى :إذ قالوا : لنبي لهم الآية هو أُشموئيل ، وهو بالعربية إِسماعيل . اقول : وهو مروي من طرق أهل السنة أيضاً : وشموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل . وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هرون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام : أن بني إِسرائيل بعد موت موسى
عملوا بالمعاصي ، وغيروا دين الله ، وعتوا عن أمر ربهم ، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهيهم فلم يطيعوه ، وروي أنه أرميا النبي على نبينا وآله وعليه السلام فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط ، فأذلهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارههم وأموالهم ، واستعبد نسائهم ، ففزعوا إِلى نبيهم ، وقالوا : سل الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله وكانت النبوة في بني إِسرائيل في بيت ، والملك والسلطان في بيت آخر ، ولم يجمع الله النبوة والملك في بيت واحد ، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ، فقال لهم نبيهم : هل عسيتم إِن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا ؟ فقالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، فكان كما قال الله : فلما كتب عليهم القتال تولوا إِلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين ، فقال لهم نبيهم : إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ، فغضبوا من ذلك وقالوا : أنى يكون له الملك علينا ؟ ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، وكانت النبوة في بيت لاوي ، والملك في بيت يوسف ، وكان طالوت من ولد ابنيامين أخي يوسف لامه وأبيه ، ولم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة ، فقال لهم نبيهم : إِن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ، وكان أعظمهم جسماً وكان قوياً وكان أعلمهم ، إِلا أنه كان فقيراً فعابوه بالفقر ، فقالوا لم يؤت سعة من المال ، فقال لهم نبيهم : إِن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه امه وألقته في اليم فكان في بني إِسرائيل يتبركون به ، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة ، وأودعه عند يوشع وصيه ، ولم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنوا إِسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكاً فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال : إِن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، قال : البقية ذرية الأنبياء . اقول : قوله : وروي أنه أرميا النبي ، رواية معترضة في رواية ، قوله عليهالسلام : فكان كما قال الله « الخ » ، اي تولى الكثيرون ولم يبق على تسليم حكم القتال إِلا قليل
منهم ، وفي بعض الأخبار أن هذا القليل كانوا ستين الفاً ، روى ذلك القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليهالسلام ، ورواه العياشي عن الباقر عليهالسلام . وقوله : وكانت النبوة في بيت لاوي ، والملك في بيت يوسف ، وقد قيل : إِن الملك كان في بيت يهوذا وقد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت وداود وسليمان حتى يكون في بيت يهوذا ، وهذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت ان الملك كان في بيت يوسف فإِن كون يوسف ملكاً مما لا ينكر . وقوله : قال والبقية ذرية الانبياء ، وهم من الراوي ، وإِنما فسر عليهالسلام بقوله : ذرية الأنبياء قوله : آل موسى وآل عمران ، ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : انه سئل عن قول الله : وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة ، فقال : ذرية الأنبياء . وفي الكافي عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن احمد ، عن محمد بن خالد ، والحسين بن سعيد ، عن النصر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن هرون بن خارجة ، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث : وقال الله : إِن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإِنه مني فشربوا منه إِلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم من اغترف ، ومنهم من لم يشرب ، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، وقال الذين لم يغترفوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإِذن الله والله مع الصابرين . اقول : واما كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بعدد اهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة والعامة ، واما كون القائلين : لا طاقة لنا ، هم المغترفين ، وكون القائلين كم من فئة « الخ » ، هم الذين لم يشربوا أصلاً فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه : من معنى الاستثناء . وفي الكافي بإِسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن ايوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله تعالى : إِن آية ملكه إِلى قوله تحمله الملائكة قال : كانت تحمله في صورة البقرة . واعلم ان الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك
لان إسقاط الاسانيد فيه إِنما هو لمكان موافقة القرآن ومعه لا حاجة الى ذكر سند الحديث ، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة ولا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الإسناد ، ونحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيده بالقرائن . وفي تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق عليهالسلام ، قال : كان داود وإِخوة له أربعة ، ومعهم أبوهم شيخ كبير ، وتخلف داود في غنم لابيه ، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم ، فقال : يا بني اذهب الى اخوتك بهذا الذي صنعناه لهم يتقووا به على عدوهم وكان رجلاً قصيراً ارزق قليل الشعر طاهر القلب ، فخرج وقد ، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير ، قال سمعته يقول : فمر داود على حجر فقال الحجر : يا داود خذني واقتل بي جالوت فإِني إِنما خلقت لقتله ، فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه ، فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت ، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فوالله لئن عاينته لأقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت ، فقال يا فتى وما عندك من القوة ؟ وما جربت من نفسك ؟ قال : كان الاسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه منها فآخذها من فيه قال : فقال : ادع لي بدرع سابغة فاتي بدرع فقذفها في عنقه فتملأ منها حتى راع طالوت ومن حضره من بني إِسرائيل ، فقال طالوت : والله لعسى الله أن يقتله به ، قال : فلما أن اصبحوا ورجعوا إِلى طالوت والتقى الناس قال داود : أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه ونكس عن دابته ، وقال الناس : قتل داود جالوت ، وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر ، واجتمعت بنو إِسرائيل على داود ، وأنزل الله عليه الزبور ، وعلمه صنعة الحديد فلينه له ، وأمر الجبال والطير يسبحن معه ، قال : ولم يعط أحد مثل صوته ، فأقام داود في بني إِسرائيل مستخفياً ، وأعطى قود في عبادته . اقول : المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الاحجار ، وقد اتفقت ألسنة الاخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر . في المجمع ، قال : إِن السكينة التي كانت فيه ريح هفانة من الجنة لها وجه كوجه الانسان عن علي عليهالسلام . أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن علي عليهالسلام وكذا عن عبد الرزاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم ، وصححه وابن عساكر والبيهقي في الدلائل من طريق أبي الأحوص عن علي عليهالسلام مثله . وفي تفسير القمي عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا عليهالسلام : السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان . أقول : وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق في المعاني والعياشي في تفسيره عن الرضا عليهالسلام ، وهذه الأخبار الواردة في معنى السكينة وإِن كانت آحاداً إِلا أنها قابلة التوجيه والتقريب إِلى معنى الآية ، فإِن المراد بها على تقدير صحتها : ان السكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إِلى أمر الله ، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمة ، فينطبق حينئذ على روح الايمان ، وقد عرفت في البيان السابق ان السكينة منطبقة على روح الإيمان . وعلى هذا المعنى ينبغي ان يحمل ما في المعاني عن ابي الحسن عليهالسلام في السكينة ، قال عليهالسلام : روح الله يتكلم ، كانوا إِذا اختلفوا في شيء كلمهم وأخبرهم ، الحديث فإِنما هو روح الايمان يهدي المؤمن الى الحق المختلف فيه . ( بحث علمي واجتماعي ) ذكر علماء الطبيعة ان التجارب العلمي ينتج ان هذه الموجودات الطبيعية المجبولة على حفظ وجودها وبقائها ، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الافعال ينازع بعضها البعض في البقاء ، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما والأكمل وجوداً ، ويستنتج من ذلك ان الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الافراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحد للبقاء ، ويفنى سائر الافراد وينقرض تدريجاً ، فهناك قاعدتان طبيعيتان : إحدىٰهما : تنازع البقاء ، والثانية : الانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل . وحيث كان الاجتماع متكئاً في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضاً نظير القانونين : أعني : قانوني تنازع البقاء ، والانتخاب وبقاء الأمثل . فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبني على اساس الاتحاد الكامل المحكم المرعي فيه حقوق الافراد : الفردية والاجتماعية أحق بالبقاء ، وغيره أحق بالفناء والانقراض ، والتجارب قاض ببقاء الامم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي ، وانقراض الامم بتفرق القلوب ، وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإِتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم ، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر . فالبحث في الآثار الارضية يوصلنا إِلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الاولية الأرضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إِلا انموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إِفنائها وانقراضها الا تنازع البقاء ، والانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل ، وكذلك الانواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع والانتخاب ، ولا يصلح منها للبقاء الا الأمثل والأقوى وجوداً ، ثم يجره حكم الوراثة الى استمرار الوجود وبقاء النوع ، وعلى هذه الوتيرة كانت الانواع والتراكيب الموجودة في أصل تكونها فإِنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها وتجمعها الكرات والانواع الحادثة فيها ، فما كان منها صالحاً للبقاء بقي ثم توارث الوجود ، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض ، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع . . . وقد ناقضه المتأخرون بكثير من الانواع الضعيفة الوجود الباقية بين الانواع حتى اليوم ، وبكثير من اصناف الانواع النباتية والحيوانية فإِن وقوع التربية بتأهيل كثير من انواع النبات والحيوان واخراجها من البرية والوحشية ، وسيرها بالتربية الى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البري والوحشي منها على الردائة ، وسيرهما الى الضعف يوماً فيوماً ، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة ، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي . ولذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية اخرى ، وهي تبعية المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية
ومكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له ، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته ، ولذلك كانت لكل نوع من الانواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الارضية القطبية أو الاستوائية وغير ذلك ، من الاعضاء والادوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته ، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته ، فالقاعدتان ينبغي ان تنتزعا من هذا القانون أعنى : ان الاصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط ، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا محيط مؤثر يوجب التأثير ، ولكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين ، وقد فصلوها في مظانها . ولو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها ومطردة في حكمها كان من الواجب ان لا يوجد نوع أو فرد غير تابع ، ولا ان يتغير محيط في نفسه كما ان القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب ان لا يبقى شيء من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها ولا ان يجري حكم التوارث في الاصناف الردية من النبات والحيوان . فالحق كما ربما اعترفت به الابحاث العلمية ان هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة . والنظر الفلسفي الكلي في هذا الباب : ان أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات والتغيرات الحادثة في اطراف وجودها يدور مدار قانون العلية والمعلولية ، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إِلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه ، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض ، ويستوجب ذلك ان ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إِلى وجود نفسه بنحو ، ولازم ذلك ان يكون كل موجود فعالا لإبقاء وجوده وحياته ، وعلى هذا صح ان يقال : إِن بين الموجودات تنازعاً في البقاء ، وكذلك لازم التأثير العلي ان يتصرف الأقوى في الأضعف بإِفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه ، وبذلك يمكن ان يوجه القانونان أعني : الانتخاب الطبيعي وتبعية المحيط ، فإِن النوع لما كان تحت
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:27 pm | |
| تأثير العوامل المضادة فإِنما يمكنه ان يقاومها إِذا كان قوي الوجود قادراً على الدفاع عن نفسه ، وكذلك الحال في افراد نوع واحد ، إِنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والاضداد التي تتوجه اليه ، وهذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل ، وكذا إِذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت اكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد ان يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الاثر الذي يناسب عملها ، وهذا هو تبعية المحيط . ومما يجب ان يعلم : ان أمثال هذه النواميس أعني : تبعية المحيط وغيرها إنما يؤثر فيما صح ان يؤثر ، في عوارض وجود الشيء ولو احقه ، واما نفس الذات بأن يصير نوعاً آخر فلا ، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على ان كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة ، وبذلك يمتاز نوع من نوع ، وبالحقيقة لا نوع جوهري يباين نوعاً جوهرياً آخر ، بل جميع الانواع تتحلل إِلى المادة الواحدة نوعاً المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة ، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدل الانواع وبتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون بتبدل الذات فيها ، وللبحث ذيل ممتد سيمر بك انشاء الله تفصيل القول فيه . ونرجع الى أول الكلام فنقول : ذكر بعض المفسّرين : ان قوله تعالى ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية اشارة الى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي . قال : ويقرز ذلك قوله تعالى : « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ » الحج ـ 41 ، فهذا ارشار الى تنازع البقاء والدفاع عن الحق ، وانه ينتهى ببقاء الامثل وحفظ الافضل . ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى : « أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ
أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ » الرعد ـ 17 ، فهو يفيد ان سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقى ابليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه العمران ، وابريز المصلحة التي يتحلى به الانسان ، انتهى . أقول : أما ان قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعي ( بالمعنى الذي مر بيانه ) حق في الجملة ، وان القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه ، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيىء من القاعدتين ، فإِن الصنف الاول من الآيات مسوق لبيان ان الله سبحانه غير مغلوب في إِرادته ، وان الحق وهو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب ، وان حامله إِذا حمله على الحق والصدق لم يكن مغلوباً ألبتة ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى أولاً : بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير ، وقوله تعالى ثانياً : الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إِلا ان يقولوا ربنا الله ، فان الجملتين في مقام بيان ان المؤمنين سيغلبون أعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الامثل الأقوى ، فإِن الأمثل والأقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق والأمثل بحسب المعنى ، بل سيغلبون لانهم مظلومون ظلموا على قول الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه ، بمعنى ان الباطل لا يقدر على ان يدحض حجة الحق إِذا تقابلا ، وينصر حامل الحق إِذا كان صادقاً في حمله كما ذكره الله بقوله : ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عزيز الذين إِن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة « الخ » ، أي هم صادقون في قولهم الحق وحملهم إِياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى : ولله عاقبة الامور ، يشير به إِلى عدة آيات تفيد ان الكون يسير في طريق كماله إِلى الحق والصدق والسعادة الحقيقية ، ولا ريب أيضاً في دلالة القرآن على ان الغلبة لله ولجنده البتة كما يدل عليه قوله : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ __________________ (1) الابليز : الطين الذي يأتي به النيل في ايام الطغيان ، والابريز الذهب الخالص المصفى ـ وهما كلمتان معربتان أصلهما آب ليز أو آب ليس ، وآب ريز . الْغَالِبُونَ » الصافات ـ 173 ، وقوله تعالى : « وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ » يوسف ـ 21 . وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى : أنزل من السماء مائاً فسالت أودية بقدرها « الخ » ، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معاً من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع ، أو لم يكن على نحو التنازع ، والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإِن المعنى ، ونعني به الموجود المجرد عن المادة ، مقدم على المادة غير مغلوب في حال اصلاً ، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع ، وكما في الحق والباطل الذين هما معاً من سنخ المعنويات والمجردات ، وقد قال تعالى : « وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » طه ـ 111 ، وقال تعالى : « لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ » البقرة ـ 116 ، وقال تعالى : « وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ » النجم ـ 42 ، فهو تعالى ، غالب على كل شيء ، وهو الواحد القهار . وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض الآية ، فقد عرفت انها في مقام الإشارة إِلى حقيقة يتكي عليه الاجتماع الانساني الذي به عمارة الارض ، وباختلاله يختل العمران وتفسد الارض ، وهي غريزة الاستخدام الذي جبّل عليه الإنسان ، وتأديتها إِلى التصالح في المنافع أعني التمدن والاجتماع التعاوني ، وهذا المعنى وإِن كان بعض أعراقه واصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي ، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الارض ومصونيتها عن الفساد ، فينبغي ان تحمل الآية التي تريد إِعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الارض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين . وبعبارة أُخرى واضحة : القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إِلى الواحدة فإِن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع إِفناء الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إِلى نفسه ، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها إِلى واحد أمثل ، وهذا أمرينا في الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي اليه بغريزته وبه عمارة الارض بهذا النوع ، لا إِفناء قوم منه قوماً ، وأكل بعضهم بعضاً ، والدفع الذي تعمر به الارض ويصان
( 2 ـ الميزان ـ 20 ) عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إِلى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة دون الدفع الذي يدعو إِلى إِبطال الاجتماع وإِيجاد الوحدة المفنية للكثرة ، فالقتال سبب لعمارة الارض وعدم فسادها من حيث أنه يحيى به حقوق اجتماعية حيوية مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الاثر فافهم . ( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه ) التاريخ النقلي ونعني به ضبط الحوادث الكلية والجزئية بالنقل والحديث مما لم يزل الانسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الارض مهتماً به ، ففي كل عصر من الاعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه والمؤلفين فيه ، وآخرون يعتورون ما ضبطه أُولئك ويأخذون ما اتحفوهم به ، والإنسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقص والحديث والتفكه وامور اخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية وغير ذلك . وإِنه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان الى الباطل والكذب : أحدهما : انه لا يزال في كل عصر محكوماً للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة والقدرة يميل الى اظهار ما ينفعها ويغمض عما يضرها ويفسد الامر عليها ، وليس ذلك إِلا ما لا نشك فيه ان الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإِفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحق والصدق ، فإِن الفرد من الانسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأي نحو أمكن ، وهذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الاوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته ويتأمل به في تاريخ الامم الماضية والبعيدة . وثانيهما : ان المتحملين للأخبار والناقلين لها والمؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من اعمال الإحساسات الباطنية والعصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها ، فإِن حملة الاخبار في الماضين ، والحكومة في أعصارهم حكومة الدين ، كانوا منتحلين بنحلة ومتدينين كل بدين ، وكانت الإحساسات المذهبية فيهم قوية والعصبيات القومية
شديدة فلا محالة كانت تداخل الاخبار التاريخية من حيث اشتمالها على احكام وأقضية كما ان العصبية المادية والإحساسات القوية اليوم للحرية على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من اهل الاخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه ، ومن هنا انك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألف أو جمع من الاخبار أودع شيئاً يخالف مذهبه فما ضبطه اهل كل مذهب موافق لاصول مذهبه ، وكذا الامر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم الا وفيه بعض التأييد للمذهب المادي . على ان هىٰهنا عوامل اخرى تستدعي فساد التاريخ ، وهو فقدان وسائل الضبط والاخذ والتحمل والنقل والتأليف والحفظ عن التغير والفقدان سابقاً وهذه النقيصة وان ارتفعت اليوم بتقارب البلاد وتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الاخبار والانتقال والتحول لكن عمت البلية من جهة اخرى وهي : ان السياسة داخلت جميع شؤن الانسان في حياته ، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية ، وبحسب تحولها تتحول الاخبار من حال الى حال ، وهذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد ان يورده مورد السقوط ، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في اعراض العلماء اليوم عنه الى تأسيس القضايا التاريخية على اساس الآثار الارضية ، وهذا وان سلمت عن بعض الاشكالات المذكورة كالاول مثلاً ، لكنها غير خالية عن الباقي ، وعمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الاحساس والعصبية في الاقضية ، وتصرف السياسة فيها افشائاً وكتماناً وتغييراً وتبديلاً ، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الاصلاح أبداً . ومن هنا يظهر : ان القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ اذا خالفه ، فإِنه وحي إِلهي منزه عن الخطأ مبرىء عن الكذب ، فلا يعارضه من التاريخ ما لا مؤمن له يؤمنه من الكذب والخطأ ، فأغلب القصص القرآنية ( كنفس هذه القصة قصة طالوت ) يخالف ما يوجد في كتب العهدين ، ولا ضير فيه فإِن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الايدي فيها وبها ، على ان مؤلف هذه القصة وهي قصة صموئيل وشارل بلسان العهدين ، غير معلوم الشخص أصلاً ، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافياً له في التواريخ وخاصة في كتب العهدين ، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه . على ان القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حد ما يرومه كتاب التاريخ ، وإِنما هو كلام مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ولذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها وجهات وقوعها ، وإِنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الامعان والتأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها . كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى : ألم تر إِلى الملأ من بني إِسرائيل ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً « الخ » ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم : إِن آية ملكه ، ثم يقول : فلما فصل طالوت « الخ » ، ثم يقول فلما برزوا لجالوت ، ومن المعلوم ان اتصال هذه الجمل بعضها إِلى بعض في تمام الكلام يحتاج إِلى قصة طويلة ، وقد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة وهو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن ، لا يختص بالذكر منها إِلا مواضع الحاجة فيها : من عبرة وموعظة وحكمة أو سنة إِلهية في الايام الخالية والامم الدارجة ، قال تعالى : « لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ » يوسف ـ 111 ، وقال تعالى : « يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ » النساء ـ 26 ، وقال تعالى : « قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ » آل عمران ـ 138 ، إِلى غير ذلك من الآيات . تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ـ 253 . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ـ 254 .
( بيان ) سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إِلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون ، وقد ختمت القصة بقوله تعالى : وانك لمن المرسلين الآية ، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، ثم ترجع إِلى شأن قتال أُمم الانبياء بعدهم ، وقد قال في القصة السابقة أعني : قصة طالوت : ألم تر إِلى الملأ من بني إِسرائيل من بعد موسى ، فأتى بقوله : من بعد موسى ، قيداً ، ثم ترجع الى الدعوة إِلى الانفاق من قبل ان يأتي يوم ، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة ، والجميع نازلة معاً . وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم : ان الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال : إِما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إِلى سعادتهم الدنيوية والاخروية بارسال الرسل وإِيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد ، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الانبياء في أُممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه واصول قوانينه ؟ وإِما من جهة أن إِرسال الرسل وإِيتاء بينات الآيات للدعوة إِلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب ، والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة ؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال . والذي يجيب تعالى به : أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الامم إِذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة الى الاقتتال ، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً ، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد ، وقد أراد جري الامور على سنة الأسباب ، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إِجمال ما تفيده الآية . قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، إِشارة الى فخامة امر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جيء في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الاشارة إِلى بعيد ، وفيه دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الانبياء عليهم السلام ففيهم من هو افضل وفيهم من هو مفضل عليه ، وللجميع فضل فإِن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع ، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافاً على ما يدل عليه ذيل الآية إِلا ان بين الاختلافين فرقاً ، فإِن الاختلاف بين الانبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة ، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد ، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين امم الانبياء بعدهم فإِنه اختلاف بالايمان والكفر ، والنفي والاثبات ، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف ، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للانبياء تفضيلاً ونسبه الى نفسه ، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه الى أنفسهم ، فقال في مورد الرسل فضلنا ، وفي مورد أُممهم اختلفوا . ولما كان ذيل الآية متعرضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدمة على الآية أيضاً راجعة الى القتال بالامر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا الى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم الى قوله تعالى : ولكن الله يفعل ما يريد . وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات ، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الالهي وإِيتاء البينات والتأييد بروح القدس ، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إِلى اختلاف الناس أنفسهم . وبعبارة أُخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت الى جانب منه وجدت فضلاً جديداً ، وكلما ملت الى نحو من انحائه ألفيت غضاً طرياً ، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والاتيان بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والايمان ، فإِن هذا الاختلاف إِنما يستند الى انفسهم ، فهم انفسهم اوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع
آخر : « إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ » آل عمران ـ 19 ، وقد مر بيانه في قوله تعالى : « كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً » البقرة ـ 213 . ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينياً ، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع ، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعياً او لم يأمر به ؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين . وبالجملة القتال بين أُمم الانبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي ، والرسالة وبيناتها إِنما تدحض الباطل وتزيل الشبه . وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل الى تصفية الارض منها ، وإِصلاح النوع فيها إِلا القتال ، فإِن التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إِلا إِذا شفع بالسيف ، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة امر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إِبراهيم وبني اسرائيل ، وبعد بعثة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً . قوله تعالى : منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ، في الجملتين التفات من الحضور الى الغيبة ، والوجه فيه ـ والله اعلم ـ ان الصفات الفاضلة على قسمين : منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات ، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى عليهالسلام فإِن هذه الخصال بنفسها غالية سامية ، ومنها : ما ليس كذلك ، وإِنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الاضافة كالتكليم ، فإِنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إِلا أن يضاف الى شيء فيكتسب منه البهاء والفضل كإِضافته الى الله عزّ اسمه ، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إِلا ان يقال : رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع الى الله ، إِذا عرفت هذا علمت : أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إِلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى : فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات ، فحول وجه الكلام من التكلم الى الغيبة في الجملتين الاوليين حتى اذا استوفى الغرض عاد الى وجه الكلام الاول وهو التكلم فقال تعالى : وآتينا عيسى بن مريم . وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو ؟ فقيل المراد بمن كلم الله : موسى عليهالسلام لقوله تعالى : « وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا » النساء ـ 164 ، وغيره من الآيات ، وقيل المراد به رسول الله محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه اليه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلمة بالوحي من غير واسطة ، قال تعالى : « ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ » النجم ـ 10 ، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لان الوحي تكليم خفي ، وقد سماه الله تعالى تكليماً حيث قال : « وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ الآية » الشورى ـ 51 ، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى : منهم من كلم الله . والاوفق بالمقام كون المراد به موسى عليهالسلام لان تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية ، قال تعالى : « وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ إِلى أن قال : قال يا موسى : إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي » الاعراف ـ 144 ، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلماً معهوداً عند نزول هذه الآية . وكذا في قوله : ورفع بعضهم درجات ، قيل المراد به محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لان الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إِلى كافه الخلق كما قال تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ » السباء ـ 28 ، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » الانبياء ـ 107 ، وبجعله خاتماً للنبوة كما قال تعالى : « وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، وبإِيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكل شيء ومحفوظاً من تحريف المبطلين ، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى : « وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ » المائدة ـ 48 ، وقال تعالى : « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ » النحل ـ 89 ، وقال تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » الحجر ـ 9 ، وقال تعالى : « قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا » الاسراء ـ 88 ، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة ، قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ » الروم ـ 43 ، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الانبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح : « سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ » الصافات ـ 79 ، وقوله تعالى في ابراهيم عليهالسلام : « وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا » البقرة ـ 124 ، وقوله تعالى فيه « وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ » الشعراء ـ 84 ، وقوله تعالى في إدريس عليهالسلام « وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا » مريم ـ 57 ، وقوله تعالى في يوسف : « نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ » يوسف ـ 76 ، وقوله في داود عليهالسلام : « وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا » النساء ـ 163 الى غير ذلك من مختصات الانبياء . وكذا قيل : إِن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإِبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون ، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بالنسبة إِلى الباقين ، وقيل : لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمد ، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إِلا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول : بأن يقال : أن الوجه فيه عدم سبق ذكره عليهالسلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات . والذي ينبغي أن يقال : أنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به ، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإِن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر ، بل الظاهر من إِطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل عليهم السلام وشمول البعض فيقوله تعالى : ورفع بعضهم درجات ، لكل من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة . وما قيل : أن الاسلوب يقتضي كون المراد به محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لان السياق في بيان العبرة للامم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً ، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية ، فتعين أن يكون البعض الباقي محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم . فيه : أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلاً الى جميع الناس ، قال تعالى : « لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ » البقرة ـ 136 ، فإِتيان الرسل جميعاً بالآيات البينات كان
ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك اصلاً يتسرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين ، فالعموم وجيه في الآية . ( كلام في الكلام ) ثم إِن قوله تعالى : منهم من كلم الله ، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه بالكلام ، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقاً حقيقياً أو اطلاقاً مجازياً ، فالبحث في المقام من جهتين : الجهة الاولى : أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم التي تخفى على ادراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الالهية الكبرى ، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس ، كل ذلك أُمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية الى الخير ملائكة ، وما تلقيه هذه القوى الى ادراك الانسان بالوحي ، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الانساني بروح القدس والروح الامين ، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية الى الشر والفساد بالشياطين والجن ، والافكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيىء العمل بالوسوسة والنزعة ، وهكذا . فإِن الآيات القرآنية وكذا ما نقل الينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل ، بحيث لا يشك فيه الا مكابر متعسف ولا كلام لنا معه ، ولو جاز حمل هذه البيانات الى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الالهية من غير استثناء الى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة ، وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز . ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا . توضيح ذلك : أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى :
« وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا » النساء ـ 163 ، وقوله تعالى : « مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ » الآية ، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى : « وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ » الشورى ـ 51 ، فإِن الاستثناء في قوله تعالى : الا وحيا « الخ » ، لا يتم الا اذا كان التكليم المدلول عليه بقوله : ان يكلمه الله ، تكليماً حقيقة ، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص ، فحد اصل التكليم حقيقة غير منفي عنه . والذي عندنا من حقيقة الكلام : هو أن الانسان لمكان احتياجه الى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إِلى جميع ما يحتاج اليه هذا الاجتماع التعاوني ، ومنها التكلم ، وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إِلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم ، ويجعل الاصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق اليها إِلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية ، فالانسان محتاج الى التكلم من جهة انه لا طريق له الى التفهيم والتفهم إِلا جعل الالفاظ والاصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية ، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة ، أعني : الاحتياجات التي تنبه لها الانسان في حياته الحاضرة ، ولذلك ايضاً كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه ، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية . ومن هنا يظهر : أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالاصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إِنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع ، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت ، ( على ما نحسب ) واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه ، فلو كان ثم انسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة الى التكلم قطعاً لعدم مساس الحاجة الى التفهيم والتفهم ، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده الى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلاً . فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة اليه ، الدلالة الاعتبارية
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:30 pm | |
| الوضعية فانه تعالى أجل شأناً وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية ، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » الشورى ـ 11 . لكنه سبحانه فيما مر من قوله : « وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ » الشورى ـ 51 ، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى عنه المعنى العادي المعهود بين الناس ، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الالهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له ، ومع بقاء الاثر والغاية يبقى المحدود في الامور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الانسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك ، وقد تقدم بيانه . فقد : ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إِفهامه للنبي كلام حقيقة ، وهو سبحانه وإِن بين لنا اجمالاً انه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله ، لكنه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه ان هذا الذي يسميه كلاماً يكلم به انبيائه ما حقيقته ؟ وكيف يتحقق ؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة والقائها في ذهن السامع . وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والاماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه الى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات ، كيف ولا فرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات ! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى : « وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي » الاعراف ـ 143 ، وقال تعالى « وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا » مريم ـ 9 ، وقال تعالى : « فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ » البقرة ـ 243 ، وقال تعالى : « نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ » الانعام ـ 151 ، وقال تعالى : « الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، وقال تعالى : « ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا » التوبة ـ 118 ، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الافعال كالخلق والاماتة والاحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء . فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ، والبحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام ، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه . واعلم : ان الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الانسان ، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده ، قال تعالى : « وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ » النساء ـ 171 ، اريد به نفس الانسان ، وقال تعالى : « وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا » التوبة ـ 40 ، وقال تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا » الانعام ـ 115 ، وقال تعالى : « مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ » لقمان ـ 27 ، وقد اريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجيء الإشارة اليه . وأما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الانسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان : « فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ » طه ـ 117 ، وقال تعالى في مورد الملائكة : « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » البقرة ـ 30 ، وقال أيضاً : « إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ » ص ـ 71 ، وقال في مورد ابليس « قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » ص ـ 75 ، وقال تعالى في غير مورد أُولي العقل : « ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ » فصلت ـ 11 ، وقال تعالى : « قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ » الانبياء ـ 69 ، وقال تعالى : « وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي » هود ـ 44 ، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » يس ـ 82 ، وقوله تعالى : « إِذا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » مريم ـ 35 . والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ( حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإِدراك بالمعنى المعهود عندنا كالانسان مثلاً ، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وإِدراك بالمعنى المعهود عندنا كالارض والسماء ، وحيث ان الآيتين الاخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات ) ان القول منه تعالى ايجاد امر يدل على المعنى المقصود . فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى وخلقه هو شيء مخلوق
موجود ، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإِن من المعلوم انه إِذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشيء ، وليس هناك غير نفس وجود الشيء ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله ، كن ، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشيء . وأما في غير التكوينيات كمورد الانسان مثلاً فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنياً في الإنسان بأن كذا كذا ، وذلك إِما بإِيجاد صوت عند جسم من الاجسام ، أو بنحو آخر لا ندركه ، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام . وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان ، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية ، وهي ان الكلام والقول المعهود فيما بيننا إِنما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية ، ومن المعلوم ( على ما يعطيه كلامه تعالى ) ان الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الامور الاعتبارية . ويظهر من ذلك : ان ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والاصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني ، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الانسان بصدور صوت مؤلف تأليفاً لفظياً وضعياً من فم مشقوق ينضم اليه أعضاء فعالة للصوت من واحد ، والتأثر من ذلك بإِحساس أُذن مشقوق ينضم اليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر ، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإِدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا ، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إِيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإِسماعه لهم كما سمعت . وكذلك القول في ما ينسب الى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى : « قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ » النمل ـ 18 ،
وقال تعالى : « فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ » النمل ـ 22 ، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه اليهم كقوله تعالى : « وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ » النحل ـ 68 . وهناك ألفاظ أُخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي ، قال تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ » النساء ـ 163 والالهام ، قال تعالى : « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا » الشمس ـ 8 ، والنبأ ، قال تعالى : « قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ » التحريم ـ 3 ، والقص ، قال تعالى : « يَقُصُّ الْحَقَّ » الانعام ـ 57 ، والقول في جميع هذه الالفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الامر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً ، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى انشاء الله . واما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الالفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد ، فالقول يسمى كلاماً نظراً الى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الانبياء وتشريفهم كلاماً لان العناية هناك انما هو بالمخاطبة والتكليم ، ويسمى قولاً بالنظر الى المعنى المقصود إِلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الامر الالهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى : « قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ » ص ـ 85 ، ويسمى وحياً بعناية كونه خفياً عن غير الانبياء ولذلك عبر في موردهم عليهم السلام بالوحي كقوله : « إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ الآية » النساء ـ 163 . الجهة الثانية : وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت ان مفردات اللغة انما انتقل الانسان الى معانيها ووضع الالفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الامور الجسمانية ابتدائاً ثم انتقل تدريجاً الى المعنويات ، وهذا وان اوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازياً ابتدائاً لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر ، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم
الانسان في المدنية والحضارة ، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية ، والتبدل فيها دائماً مع بقاء الاسماء فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الاغراض المرتبة ، وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل ، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولاً وسماه الانسان بالسراج ، ثم لم يزل يتحول طوراً بعد طور ، ويركب طبقاً عن طبق ، حتى انتهت إِلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا ، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية ، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء ، ومن غير عناية ، وليس ذلك إِلا ان الغاية والغرض من السراج أعني الاثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولاً يترتب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت ، وهو الاستضائة ، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إِلا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب ، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل ، ومع بقاء هذه الخاصة والاثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل ، وان تغير الشكل أحياناً أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال ، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الاثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير ، وقلما يوجد اليوم في الامور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي أُلوف والوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولاً ، غير أن بقاء الاثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له . وفي اللغات شيء كثير من القسم الاول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إِلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير . فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الاثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي . فظهر من جميع ما بيناه : ان إِطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي ، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإِن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام ، كما ان سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والارادة والاعطاء كذلك . واعلم : ان القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى : ورفع بعضهم درجات ،
من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية : ان ما اشتملت عليه هذه البيانات امور اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الانسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك ، فلزمهم ان يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية ، أي إِن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع ، ولزمهم ـ اضطراراً ـ كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس ، محكوماً بالآراء الاعتبارية ومبعوثاً عن الشعور الوهمي كالانسان الواقع في عالم المادة ، والنازل في منزل الحركة والاستكمال ، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إِلا ان تنسلخ عن حقيقتها وترجع إِلى نحو من الاعتباريات . قوله تعالى : وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ، رجوع إِلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر . والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية : ان ما ذكره له عليهالسلام من جهات التفضيل وهو إِيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس مما يختص ببعضهم دون بعض ، قال تعالى : « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ » الحديد ـ 25 ، وقال تعالى : « يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا » النحل ـ 2 ، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإِحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإِبراء الاكمه والابرص ؛ والاخبار عن المغيبات كانت أُموراً متكئة على الحياة مترشحة عن الروح ، فلذلك نسبها إِلى عيسى عليهالسلام وصرح باسمه إِذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل : وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس ، إِذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة ، فلا يستقيم نسبتها إِلى البعض بالاختصاص إِلا مع التصريح باسمه ليعلم انها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريباً ، على ان في اسم عيسى عليهالسلام خاصة اخرى وآية بينة وهي
( 2 ـ الميزان ـ 21 ) انه ابن مريم لا أب له ، قال تعالى : « وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ » الانبياء ـ 91 ، فمجموع الابن والام آية بينة إِلهية وفضيلة اختصاصية اخرى . قوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات ، العدول إِلى الغيبة ثانياً لان المقام مقام إظهار ان المشية والارادة الربانية غير مغلوبة ، والقدرة غير باطلة ، فجميع الحوادث على طرفي إِثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الالهية ، وبالجملة وصف الالوهية هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إِطلاق تعلقها بطرفي الايجاب والسلب فمست حاجة المقام إِلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهية للذكر فقيل : ولو شاء الله ما اقتتل ، ولم يقل : ولو شئنا ما اقتتل ، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية : ولو شاء الله ما اقتتلوا ، وقوله : ولكن الله يفعل ما يريد وهو الوجه ايضاً في العدول عن الاضمار إِلى الاظهار . قوله تعالى : ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، نسب الاختلاف اليهم لا الى نفسه لانه تعالى ذكر في مواضع من كلامه : ان الاختلاف بالايمان والكفر وسائر المعارف الاصلية المبينة في كتب الله النازلة على انبيائه انما حدث بين الناس بالبغى ، وحاشا ان ينتسب اليه سبحانه بغى أو ظلم . قوله تعالى : ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد ان يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إِلى الاقتتال جرياً على سنة الاسباب . ومحصل معنى الآية والله العالم : ان الرسل التي ارسلوا الى الناس عباد لله مقربون عند ربهم ، مرتفع عن الناس أُفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الاصل الواحد والمقام المشترك ، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الاظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان ، وكان لازمه ان لا ينساق الناس بعدهم الا الى الوحدة والالفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب ، وهو الاختلاف عن بغى منهم وانشعابهم الى مؤمن وكافر ، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة ، ولو شاء الله لاعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا ، ولكن لم يشأ وأجرى هذا
السبب كسائر الاسباب والعلل على سنة الاسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والايجاد ، والله يفعل ما يريد . قوله تعالى : يا ايها الذين آمنوا انفقوا « الخ » ، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على ان الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم . ( بحث روائي ) في الكافي عن الباقر عليهالسلام : في قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا « الخ » ، في هذا ما يستدل به على ان اصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر . وفي تفسير العياشي عن اصبغ بن نباتة ، قال : كنت واقفاً مع امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال : يا امير المؤمنين كبر القوم وكبرنا ، وهلل القوم وهللنا ، وصلى القوم وصلينا ، فعلى ما نقاتلهم ؟ ! فقال عليهالسلام : على هذه الآية « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل ـ رحمه الله ـ . أقول : وروي هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره ، والرواية تدل على انه عليهالسلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الاعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين ، فإِن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان انه عليهالسلام ما كان يعامل مع مخالفيه من اصحاب الجمل واصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين ، فليس إِلا انه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر ، وقد كان عليهالسلام يقول : اقاتلهم على التأويل دون التنزيل . وظاهر الآية يساعد هذا المعنى ، فإِنه يدل على ان البينات التي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند اليهم انفسهم فوقوع
الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي اليه الاجتماع الانساني الذي لا يخلو عن البغى والظلم ، فالآية في مساق قوله تعالى : « وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » يونس ـ 19 ، وقوله تعالى : « كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ـ إِلى أن قال ـ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ » البقرة ـ 213 ، وقوله تعالى : « وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ » هود ـ 119 ، كل ذلك يدل على ان الاختلاف في الكتاب ـ وهو الاختلاف في الدين ـ بين أتباع الانبياء بعدهم مما لا مناص عنه ، وقد قال تعالى في خصوص هذه الامة : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم » البقرة ـ 214 ، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة : « وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا » الفرقان ـ 30 ، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك . واما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إِلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الاخبار يدل على ان الصحابة انفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هذه المعاملة ، من غير ان يستثنوا انفسهم من ذلك استناداً إِلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله ، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب . وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لم يزل الله جل اسمه عالماً بذاته ولا معلوم ، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور ، قلت : ـ جعلت فداك ـ فلم يزل متكلماً ؟ قال : الكلام محدث ، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام . وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى ، قال : سأل أبو قرة المحدث عن الرضا عليهالسلام فقال : أخبرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى فقال : الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال : إِنما اسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن عليهالسلام : سبحان الله عما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل ، قال : كيف ؟ قال :
كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الامر والنهي من غير تردد في نفس ـ الخبر ـ . وفي نهج البلاغة في خطبة له عليهالسلام : متكلم لابروية ، مريد لابهمة ، الخطبة . وفي النهج أيضاً في خطبة له عليهالسلام : الذي كلم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا ادوات ولا نطق ولا لهوات ، الخطبة . اقول : والاخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة ، وهي مطبقة على ان كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاماً صفة فعل لا صفة ذات . ( بحث فلسفي ) ذكر الحكماء : أن ما يسمى عند الناس قولاً وكلاماً وهو نقل الانسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإِذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إِلى ذهن المخاطب أو السامع ، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم ، قالوا : وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر ، واما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الانسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعاً لا ازيد عدداً أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام . فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام ، وكذا الاشارة الوافية لارائة المعنى كلام كما ان إِشارتك بيدك : ان اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول ، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها ، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطاً متنزلاً له يحكي بوجوده وجود علته ، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكامنة في نفسها لولا دلالة المعلول عليها . فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها ، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته ، فكل واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علته الفياضة ،
وكل مجموع منها ، ومجموع العالم الامكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال اسمائه وصفاته ، فكما انه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الاسماء والصفات والعالم كلامه . بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالاً على نفسه فإِن الدلالة بالأخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشيء بنحو الاصالة إِلا لله وبالله سبحانه ، فكل شىء دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله بالحقيقة ، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال ، وعلى دلالته لغيره . فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم ، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات ، ومنه ما هو صفة الفعل ، وهو الخلق والايجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موحده من الكمال . اقول : ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي ، فإِن الذي اثبته الكتاب والسنة هو امثال قوله تعالى : منهم من كلم الله ، وقوله : وكلم الله موسى تكليماً ، وقوله : قال الله يا عيسى ، وقوله : وقلنا يا آدم ، وقوله : إِنا أوحينا اليك ، وقوله : نبأني العليم الخبير ، ومن المعلوم ان الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد . واعلم ان بحث الكلام من اقدم الابحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين ( وبذلك سمي علم الكلام به ) وهي ان كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث ؟ ذهبت الأشاعرة إِلى القدم غير انهم فسروا الكلام بان المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي ، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها ، واما الكلام اللفظي وهو الاصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة . وذهبت المعتزلة إِلى الحدوث غير انهم فسروا الكلام بالالفاظ الدالة على المعنى
التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف ، قالوا : واما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاماً نفسياً فهي صور علمية وليست بالكلام . وبعبارة أُخرى : إِنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإِن أُريد بالكلام النفسي ذلك كان علماً لا كلاماً ، وإِن أُريد به امر آخر وراء الصورة العلمية فإِنا لا نجد ورائها شيئاً بالوجدان ، هذا . وربما امكن ان يورد عليه بجواز ان يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقاً لصفتين أو ازيد وهو ظاهر ، فلم لا يجوز ان تكون الصورة الذهنية علماً من جهة كونه انكشافاً للواقع ، وكلاماً من جهة كونه علماً يمكن إِفاضته للغير ؟ اقول : والذي يحسم مادة هذا النزاع من اصله ان وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى اخذناه اي سواء أُخذ علماً تفصيلياً بالذات واجمالياً بالغير ، أو أُخذ علماً تفصيلياً بالذات وبالغير في مقام الذات ، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات ، أو أُخذ علماً تفصيلياً قبل الايجاد بعد الذات أو أُخذ علماً تفصيلياً بعد الايجاد وبعد الذات جميعاً ، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي . والذي ذكروه وتنازعوا عليه انما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع الى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد اقمنا البرهان في محلة : ان المفاهيم والماهيات لا تتحقق الا في ذهن الانسان أو ما قاربه جنساً من أنواع الحيوان التي تعمل الاعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والاحساسات الباطنة . وبالجملة فالله سبحانه اجل من ان يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إِلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع ، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلاً للتركيب ، ومعرضاً لحدوث الحوادث ، وكلامه محتملاً للصدق والكذب الى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدس . واما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيىء إِنشاء الله بيانه في موضع يليق به . اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ـ 255 . ( بيان ) قوله تعالى : الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم ، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة ، وانه سواء أُخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح . وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : لا إِله إِلا هو ، في قوله تعالى : « وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ » البقرة ـ 163 ، وضمير هو وان رجع الى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علماً بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث انه ذات وان كان مشتملاً على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالاطلاق اليها ، فقوله : لا اله الا هو ، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله . واما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات . والناس في بادىء مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين : قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتاً كالأحجار وسائر الجمادات ، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وافعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس ، وذلك كالانسان وسائر اقسام الحيوان والنبات فإِنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وافعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجاً ، وبذلك أذعن الانسان بان هناك وراء الحواس امراً آخر هو المبدأ للاحساسات والادراكات العلمية والافعال المبتنية على العلم والارادة
وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت ، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة . وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها ، قال تعالى : « اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا » الحديد ـ 17 ، وقال تعالى : « أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ » فصلت ـ 39 ، وقال تعالى : « وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ » الفاطر ـ 22 ، وقال تعالى : « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ » الانبياء ـ 30 ، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الانسان والحيوان والنبات . وكذلك القول في اقسام الحياة ، قال تعالى : « وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا » يونس ـ 7 ، وقال تعالى : « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ » المؤمن ـ 11 ، والاحيائان المذكوران يشتملان على حياتين : إِحداهما : الحياة البرزخية ، والثانية : الحياة الآخرة ، فللحياة أقسام كما للحي أقسام . والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئاً ردياً هيناً لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى : « وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ » الرعد ـ 26 ، وقوله تعالى : « تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » النساء ـ 94 ، وقوله تعالى : « تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » الكهف ـ 28 ، وقوله تعالى : « وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ » الانعام ـ 32 ، وقوله تعالى : « وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ » الحديد ـ 20 ، فوصف الحياة الدنيا بهذه الاوصاف فعدها متاعاً والمتاع ما يقصد لغيره ، وعدها عرضاً والعرض ما يعترض ثم يزول ، وعدها زينة والزينة هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لاجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع ، وعدها لهواً واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك ، وعدها لعباً واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية ، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الانسان . ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى : « وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » العنكبوت ـ 64 ، يبين ان الحياة الدنيا إِنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها ، وهي الحياة التي لا موت بعدها ، قال تعالى : « آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
| |
|
| |
الشيخ شوقي البديري الشيخ شوقي البديري
عدد المساهمات : 2892 نقاط : 4517 تاريخ التسجيل : 17/06/2012 العمر : 59 الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق
| موضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2 الخميس أكتوبر 31, 2024 8:33 pm | |
| الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ » الدخان ـ 56 ، وقال تعالى : « لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ » ق ـ 35 ، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت ، ولا يعترضهم نقص في العيش وتنغص ، لكن الاول من الوصفين أعني الامن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له . فالحياة الاخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إِمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا ، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اخر كثيرة انه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الاخروية والمحيي للانسان في الآخرة ، وبيده تعالى أزمة الامور ، فأفاد ذلك ان الحياة الاخروية أيضاً مملوكة لا مالكة ومسخرة لا مطلقة أعني انها إِنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها . ومن هنا يظهر ان الحياة الحقيقية يجب ان تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إِلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولا طارئة عليها بتمليك الغير وإِفاضته ، قال تعالى : « وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ » الفرقان ـ 58 ، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة ، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات . ومن هنا يعلم : ان القصر في قوله تعالى : « هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ » قصر حقيقي غير إِضافي ، وان حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى . فالاوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى : الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم الآية ، وكذا في قوله تعالى : « الم اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » آل عمران ـ 1 ، ان يكون لفظ الحي خبراً بعد خبر فيفيد الحصر لان التقدير ، الله الحي فالآية تفيد ان الحياة لله محضاً إِلا ما أفاضه لغيره . واما اسم القيوم فهو على ما قيل : فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة والقيام هو حفظ الشيء وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه ، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها . وقد اثبت الله تعالى اصل القيام بامور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى :
« أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ » الرعد ـ 33 ، وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة ـ : « شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » آل عمران ـ 18 ، فأفاد انه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود ( وليس الوجود إِلا الاعطاء والمنع ) الا بالعدل بإِعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين ان هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين : العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء وبحكمته يعدل فيه . وبالجملة لما كان تعالى هو المبدء الذي يبتدى منه وجود كل شيء وأوصافه وآثاره لا مبدء سواه الا وهو ينتهي اليه ، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل ، وليس ذلك لغيره قط الا بإِذنه بوجه ، فليس له تعالى الا القيام من غير ضعف وفتور ، وليس لغيره الا ان يقوم به ، فهناك حصران : حصر القيام عليه ، وحصره على القيام ، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبراً بعد خبر لله ( الله القيوم ) ، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله : لا تأخذه سنة ولا نوم . وقد ظهر من هذا البيان ان اسم القيوم ام الاسماء الاضافية الثابتة له تعالى جميعاً وهي الاسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها . قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في اول النوم ، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه ، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه . وقد أورد على قوله : سنة ولا نوم انه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإِن المقام مقام الترقي ، والترقي في الاثبات انما هو من الاضعف الى الاقوى كقولنا : فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين ، وفلان يجود بالمئات بل بالالوف وفي النفي بالعكس كما نقول : لا يقدر فلان على حمل عشرين ولا عشرة ، ولا يجود بالالوف ولا بالمئات ، فكان ينبغي ان يقال : لا تأخذه نوم ولا سنة . والجواب : ان الترتيب المذكور لا يدور مدار الاثبات والنفي دائماً كما يقال :
فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس ، بل المراد هو صحة الترقي وهي مختلفة بحسب الموارد ، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيراً وأضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك ان ينفى تأثير السنة وأخذها أولاً ثم يترقى إِلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيراً ، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إِلى مثل قولنا : لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في امره ولا ما هو أقوى منه . قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إِلا بإِذنه لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إِلا بأن يملك السماوات والارض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما ، كما ان التوحيد التام في الالوهية لا يتم إِلا بالقيومية ، ولذلك ألحقها بها ايضاً . وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل ، أعني قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الارض ، مع قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إِلا بإِذنه ، وقوله تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، مع قوله تعالى : ولا يحيطون بشيء من علمه إِلا بما شاء . فأما قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الارض ، فقد عرفت معنى ملكه تعالى ( بالكسر ) للموجودات وملكه تعالى ( بالضم ) لها ، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الاوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الارض ، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار . وقد تم بقوله : القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض ان السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إِلا وهو له ومنه ، فيقع من ذلك في الوهم انه إِذا كان الامر على ذلك فهذه الاسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها ؟ وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إِلا لله سبحانه ؟ فاجيب بأن تصرف هذه العلل والاسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف ، وبعبارة اخرى شفاعد في موارد المسببات بإِذن الله سبحانه ، فإِنما هي شفعاء ، والشفاعة ـ وهي بنحو توسط في ايصال الخير أو دفع الشر ، وتصرف ما
من الشفيع في امر المستشفع ـ انما تنافي السلطان الالهي والتصرف الربوبي المطلق اذا لم ينته الى اذن الله ، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما من سبب من الاسباب ولا علة من العلل الا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإِذن الله ، فتأثيره وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود الا سلطانه ولا قيومية الا قيوميته المطلقة عز سلطانه . وعلى ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الاسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية وهي توسط الاسباب في التكوين ، والشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : « وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا » البقرة ـ 48 ، وذلك ان الجملة أعني قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده ، مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً ، بل المتماسين بالتكوين ظاهراً فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة . فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ » يونس ـ 3 ، وقوله تعالى : « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ » الم السجدة ـ 4 ، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة ان حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية ، فكل سبب من الاسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود الى مسببه ، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة ، قال تعالى : « يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ » الرحمن ـ 29 ، وقال تعالى : « وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ » ابراهيم ـ 34 ، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى : « وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي » البقرة ـ 186 . قوله تعالى : يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء ، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى : « بَلْ عِبَادٌ
مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ » الانبياء ـ 28 ، فالظاهر ان ضمير الجمع الغائب راجع الى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين ايديهم وما خلفهم كناية عن كمال احاطته بهم ، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسط المأذون فيه على انفاذ امر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه ، ولا يقدر غيرهم ايضاً ان يستفيد سوئاً من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره . وإِلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى : « وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا » مريم ـ 64 ، وقوله تعالى : « عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا » الجن ـ 28 ، فإِن الآيات تبين إِحاطته تعالى بالملائكة والانبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده ، ولا يتنزلوا إِلا بأمره ، ولا يبلغوا إِلا ما يشائه . وعلى ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم : ما هو حاضر مشهود معهم ، وبما خلفهم : ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم ، ويؤل المعنى إِلى الشهادة والغيب . وبالجملة قوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : ولا يحيطون بشيء من علمه إِلا بما شاء ، تبييناً لتمام الاحاطة الربوبية والسلطة الإلهية أي إِنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشيء من علمه إِلا بما شاء . ولا ينافي إِرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله « هم » في المواضع الثلاث إِلى الشفعاء ما قدمناه من ان الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية ، وأن الشفعاء هم مطلق العلل والاسباب ، وذلك لأن الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها انها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أُولي العقل من العبارة . وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » الاسراء ـ 44 ، وقوله تعالى : « ثُمَّ
اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ » فصلت ـ 11 ، الى غير ذلك من الآيات . وبالجملة قوله : ولا يحيطون بشيىء من علمه إِلا بما شاء ، يفيد معنى تمام التدبير وكماله ، فإِن من كمال التدبير أن المدبر ( بالفتح ) بما يريده المدبر ( بالكسر ) من شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر ( بالكسر ) تدبيره ، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا ، وفي أين نزلوا ، وإِلى أين يقصد بهم . فيبين تعالى بهذه الجملة ان التدبير له وبعلمه بروابط الاشياء التي هو الجاعل لها ، وبقية الاسباب والعلل وخاصة أُولوا العلم منها وإِن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإِنما هو من علمه تعالى وبمشيته وإِرادته ، فهو من شئون العلم الالهي ، وما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الالهي وانحاء تدبيره ، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إِلا وهو بعض التدبير . وفي قوله تعالى : ولا يحيطون بشيء من علمه إِلا بما شاء ، على تقدير ان يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على ان العلم كله لله ولا يوجد من العلم عند عالم إِلا وهو شيء من علمه تعالى ، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى ، قال تعالى : « وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا » البقرة ـ 165 ، وقال تعالى : « أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فإِن الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا » النساء ـ 139 ، وقال تعالى : « هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ » المؤمن ـ 65 ، ويمكن ان يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله : « إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » يوسف ـ 83 ، وقوله تعالى : « وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » آل عمران ـ 66 ، الى غير ذلك من الآيات ، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله : ولا يحيطون بشيء من علمه ، لطف ظاهر . قوله تعالى : وسع كرسيه السموات والارض ، الكرسي معروف وسمي به لتراكم بعض اجزائه بالصناعة على بعض ، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال : كرسي
الملك ، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته . وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله : له ما في السموات وما في الارض « الخ » ، تفيد ان المراد بسعة الكرسي احاطة مقام السلطنة الالهية ، فيتعين للكرسي من المعنى : انه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السموات والارض من حيث انها مملوكة مدبرة معلومة ، فهو من مراتب العلم ، ويتعين للسعة من المعنى : انها حفظ كل شيء مما في السموات والارض بذاته وآثاره ، ولذلك ذيله بقوله : ولا يؤده حفظهما . قوله تعالى : ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ، يقال : آده يؤده أوداً إِذا ثقل عليه واجهده واتعبه ، والظاهر ان مرجع الضمير في يؤده ، هو الكرسي وإِن جاز رجوعه اليه تعالى ، ونفي الأود والتعب عن حفظ السموات والارض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيومية على ما في السموات والارض . ومحصل ما تفيده الآية من المعنى : ان الله لا إِله إِلا هو له كل الحياة وله القيومية المطلقة من غير ضعف ولا فتور ، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين : العلي العظيم فإِنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفاً في وجوده وفتوراً في أمره ، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السموات والارض ، وجملة : وهو العلي العظيم ، لا تخلو عن الدلالة على الحصر ، وهذا الحصر إِما حقيقي كما هو الحق ، فإِن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى ، واما دعوى لمسيس الحاجة اليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى ، فيسقط السموات والارض عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى . ( بحث روائي ) في تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام قال : قال أبوذر : يا رسول الله ما أفضل ما أُنزل عليك ؟ قال : آية الكرسي ، ما السموات السبع والارضون السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال : وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة . اقول : وروي صدر الرواية السيوطي في الدر المنثور عن ابن راهويه في مسنده
عن عوف بن مالك عن أبي ذر ، ورواه ايضاً عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابي ذر . وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا رسول الله أيما أُنزل عليك أعظم ؟ قال : الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم ، آية الكرسي . اقول : وروي فيه هذا المعنى أيضاً عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم . وفيه أيضاً عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي ، قال : قال رجل : يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : آية الكرسي : الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم ، الحديث . اقول : تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الإسلام حتى في زمان حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن ائمة اهل البيت عليهم السلام وعن الصحابة . وليس إِلا للاعتناء التام بها وتعظيم أمرها ، وليس إِلا لشرافة ما تدل عليه من : المعنى ورقته ولطفه ، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله : الله لا إِله إِلا هو ، ومعنى القيومية المطلقة التي يرجع اليه جميع الاسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه ، وتفصيل جريان القيومية في ما دق وجل من الموجودات من صدرها الى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من حيث انه خارج منها داخل فيها ، ولذلك ورد فيها انها اعظم آية في كتاب الله ، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان ، فإِن مثل قوله تعالى : « اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ » طه ـ 8 ، وإِن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إِجمال المعنى دون تفصيله ، ولذا ورد في بعض الاخبار ان آية الكرسي سيدة آي القرآن رواها في الدر المنثور عن ابي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وورد في بعضها ان لكل شيىء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي ، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام . وفي أمالي الشيخ بإِسناده عن ابي امامة الباهلي : انه سمع علي بن أبي طالب
( 2 ـ الميزان ـ 22 ) عليهالسلام يقول : ما أرى رجلاً أدرك عقله الاسلام أو ولد في الاسلام يبيت ليلة سوادها . قلت : وما سوادها ؟ قال : جميعها حتى يقرء هذه الآية : الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم فقرء الآية الى قوله : ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم . قال : فلو تعلمون ما هي أو قال : ما فيها ما تركتموها على حال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ، ولم يؤتها نبي كان قبلي ، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله الا قرئتها ، الحديث . اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن عبيد وابن ابي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس عنه عليهالسلام ، ورواه أيضاً عن الديلمي عنه عليهالسلام ، والروايات من طرق الشيعة واهل السنة في فضلها كثيرة ، وقوله عليهالسلام : ان رسول الله قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ، روي في هذا المعنى ايضاً في الدر المنثور عن البخاري في تاريخه وابن الضريس عن انس ان النبي قال : أُعطيت آية الكرسي من تحت العرش ، فيه اشارة الى كون الكرسي تحت العرش ومحاطاً له وسيأتي الكلام في بيانه . وفي الكافي عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عز وجل : وسع كرسيه السماوات والارض ، السماوات والارض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والارض ؟ فقال عليهالسلام : إِن كل شيء في الكرسي . اقول : وهذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب ، إِذ لم يرو قرائة كرسيه بالنصب والسماوات والارض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال ، والظاهر انه مبني على ما يتوهمه الافهام العامية ان الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة ( أعني فوق عالم الاجسام ) منه يصدر أحكام العالم الجسماني ، فيكون السماوات والارض وسعته إِذ كان موضوعاً عليها كهيئة الكرسي على الارض ، فيكون معنى السؤال ان الأنسب ان السماوات والارض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها ؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فاجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الاجسام لبعض . . وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عز
وجل : وسع كرسيه السماوات والارض ، قال : علمه . وفيه ايضاً عنه عليهالسلام في الآية : السماوات والارض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره . أقول : ويظهر من الروايتين : ان الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره ، وفي معناهما روايات اخرى . وكذا يظهر منهما ومما سيجيء : ان في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني ان فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالماً آخر موجوداتها امور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية ، والتعينات الوجودية التي لوجوداتنا ، وهي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي ان وجودها عين العلم ، كما ان الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إِن وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده ، ولعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى : « وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ » يونس ـ 61 . وما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد اليه قوله عليهالسلام في الرواية ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره ، ومن المعلوم ان عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عدداً ، لاستحالة وجود عدد غير متناه ، وكل عدد يدخل الوجود فهو متناه ، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد ، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه ايضاً علماً وإِن كان محدوداً ، بل عدم التناهي والتقدير انما هو من جهة كمال الوجود اي ان الحدود والقيود الوجودية يوجب التكثر والتميز والتمايز بين موجودات عالمنا المادي ، فتوجب انقسام الانواع بالاصناف والافراد ، والافراد بالحالات ، والإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ » الحجر ـ 21 ، وسيجيء تمام الكلام فيه إِنشاء الله تعالى . وهذه الموجودات كما انها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجوداً غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها ، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا
هو الكرسي على ما يستظهر . وربما لوح اليه أيضاً قوله تعالى فيها : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، حيث جعل المعلوم : ما بين أيديهم وما خلفهم ، وهما أعني ما بين الايدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي ، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية ونحوها ، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدرة وإِلا لم يصح الاستثناء من الاحاطة في قوله تعالى : ولا يحيطون بشيء من علمه إِلا بما شاء ، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه ، فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدرات من حيث هي محدودة مقدرة والله أعلم . وفي التوحيد عن حنان قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن العرش والكرسي فقال عليهالسلام إِن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب وصنع في القرآن صفة على حدة ، فقوله : رب العرش العظيم يقول : رب الملك العظيم ، وقوله : الرحمن على العرش استوى ، يقول : على الملك احتوى ، وهذا علم الكيفوفية في الاشياء ، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي ، لانهما بابان من اكبر ابواب الغيوب ، وهما جميعاً غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الاشياء كلها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والمشية وصفة الإرادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي ، فمن ذلك قال : رب العرش العظيم ، أي صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان : قلت : جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي ، قال عليهالسلام : إِنه صار جارها لان علم الكيفوفية فيه ، وفيه الظاهر من ابواب البداء وإِنيتها وحد رتقها وفتقها ، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف ، وبمثل صرف العلماء ، وليستدلوا على صدق دعواهما لانه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز . أقول : قوله عليهالسلام : لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب ، قد عرفت الوجه فيه إِجمالاً ، فمرتبه العلم المقدر المحدود أقرب إِلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود
مما لا قدر له ولا حد ، وسيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ » الاعراف ـ 54 ، وقوله عليهالسلام : وبمثل صرف العلماء ، إِشارة إِلى ان هذه الالفاظ من العرش والكرسي ونظائرهما امثال مصرفة مضروبة للناس وما يعقلها إِلا العالمون . وفي الاحتجاج عن الصادق عليهالسلام : في حديث : كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإِنه اعظم من ان يحيط به الكرسي . اقول : وقد تقدم توضيح معناه ، وهو الموافق لسائر الروايات ، فما وقع في بعض الاخبار ان العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه انبيائه ورسله ، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه احداً كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق عليهالسلام كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسي ، أو انه مطروح كالرواية المنسوبة إِلى زينب العطارة . وفي تفسير العياشي عن علي عليهالسلام قال : ان السماء والارض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي ، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله . اقول : ورواه الصدوق عن الاصبغ بن نباتة عنه عليهالسلام ، ولم يرو عنهم عليهم السلام للكرسي حملة الا في هذه الرواية ، بل الاخبار انما تثبت الحملة للعرش وفقاً لكتاب الله تعالى كما قال : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ الآية » المؤمن ـ 7 ، وقال تعالى ، « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ » الحاقة ـ 17 ، ويمكن ان يصحح الخبر بأن الكرسي ـ كما سيجيء بيانه ـ يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشيىء بباطنه . وبذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر . وفي تفسير العياشي ايضاً عن معوية بن عمار عن الصادق عليهالسلام قال : قلت : من ذا الذي يشفع عنده الا بإِذنه قال : نحن أُولئك الشافعون . اقول : ورواه البرقي ايضاً في المحاسن ، وقد عرفت ان الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية والتشريعية معاً ، فتشمل شفاعتهم عليهم السلام ، فالرواية من باب الجري . لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ـ 256 . اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ 257 . ( بيان ) قوله تعالى : لا إِكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، الاكراه هو الاجبار والحمل على الفعل من غير رضى ، والرشد بالضم والضمتين : إِصابة وجه الامر ومحجة الطريق ويقابله الغي ، فهما أعم من الهدى والضلال ، فإِنهما إِصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل ، والظاهر ان استعمال الرشد في اصابة محجة الطريق من باب الانطباق على المصداق ، فإِن اصابة وجه الامر من سالك الطريق ان يركب المحجة وسواء السبيل ، فلزومه الطريق من مصاديق اصابة وجه الامر ، فالحق ان معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر ، قال تعالى : « فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا » النساء ـ 6 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ » الانبياء ـ 51 ، وكذلك القول في الغي والضلال ، ولذلك ذكرنا سابقاً : ان الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد ، والغي هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الانسان الغوي ماذا يريد وماذا يقصد . وفي قوله تعالى : لا اكراه في الدين ، نفي الدين الاجباري ، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أُخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات ، والاعتقاد والايمان من الامور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والاجبار ، فإِن الاكراه انما يؤثر في
الاعمال الظاهرية والافعال والحركات البدنية المادية ، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب اخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والادراك ، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً ، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقاً علمياً ، فقوله : لا اكراه في الدين ، ان كان قضية اخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الاكراه على الدين والاعتقاد ، وان كان حكما انشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله : قد تبين الرشد من الغي ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والايمان كرهاً ، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية ، وهي التي مر بيانها أن الاكراه انما يعمل ويؤثر في مرحلة الافعال البدنية دون الاعتقادات القلبية . وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله : قد تبين الرشد من الغي ، وهو في مقام التعليل فإِن الإكراه والاجبار إِنما يركن اليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الامور المهمة التي لا سبيل الى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم ، أو لاسباب وجهات اخرى ، فيتسبب الحاكم في حكمه بالاكراه أو الامر بالتقليد ونحوه ، وأما الامور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها ، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها الى الاكراه ، بل للانسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب ، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه ، والغي في تركه والرغبة عنه ، وعلى هذا لا موجب لان يكره أحد أحداً على الدين . وهذه احدى الآيات الدالة على أن الاسلام لم يبتن على السيف والدم ، ولم يفت بالاكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الاسلام دين السيف واستدلوا عليه : بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين . وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب اليه الاسلام ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة والاكراه ، بل لاحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد ، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال ، فالاشكال ناش عن عدم التدبر . ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله : لا إِكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف
كما ذكره بعضهم . ومن الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله : قد تبين الرشد من الغي ، فإِن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم ، فإِن الحكم باق ببقاء سببه ، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الاسلام امر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف ، فإِن قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً ، أو قوله : وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئاً حتى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور . وبعبارة اخرى الآية تعلل قوله : لا اكراه في الدين بظهور الحق ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله ، فهو ثابت على كل حال ، فهو غير منسوخ . قوله تعالى : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى « الخ » ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحد ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت ، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالاصنام والشياطين والجن وائمة الضلال من الانسان وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه ، ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع . وإِنما قدم الكفر على الايمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، ليوافق الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى ، لان الاستمساك بشيء إِنما يكون بترك كل شيء والأخذ بالعروة ، فهناك ترك ثم أخذ ، فقدم الكفر وهو ترك على الايمان وهو اخذ ليوافق ذلك ، والاستمساك هو الاخذ والامساك بشدة ، والعروة : ما يؤخذ به من الشيء كعروة الدلو وعروة الاناء ، والعروة هي كل ما له أصل من النبات وما لا يسقط ورقه ، وأصل الباب التعلق يقال : عراه واعتريه اي تعلق به . والكلام أعني قوله : فقد استمسك بالعروة الوثقى ، موضوع على الاستعارة للدلالة على أن الايمان بالنسبة الى السعادة بمنزلة عروة الاناء بالنسبة الى الاناء وما فيه ، فكما لا يكون الاخذ أخذاً مطمئناً حتى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقية لا يستقر
أمرها ولا يرجى نيلها إِلا أن يؤمن الانسان بالله ويكفر بالطاغوت . قوله تعالى : لا انفصام لها والله سميع عليم ، الانفصام : الانقطاع والانكسار ، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى ، ثم عقبه بقوله : والله سميع عليم ، لكون الايمان والكفر متعلقاً بالقلب واللسان . قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم الى آخر الآية ، قد مر شطر من الكلام في معنى إِخراجه من النور الى الظلمات ، وقد بينا هناك أن هذا الاخراج وما يشاكله من المعاني امور حقيقية غير مجازية خلافاً لما توهمه كثير من المفسرين وسائر الباحثين أنها معان مجازية يراد بها الاعمال الظاهرية من الحركات والسكنات البدنية ، وما يترتب عليها من الغايات الحسنة والسيئة ، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحق بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشك واضطراب القلب ، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بين ، وأثره في السعادة جلي ، كما ان النور الحقيقي على هذه الصفات . والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل ، كل ذلك بالاستعارة . والاخراج من الظلمة الى النور الذي ينسب الى الله تعالى كالاخراج من النور الى الظلمات الذي ينسب الى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد ، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد ، لا فعل من الله تعالى وغيره كالاخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما ، هذا ما ذكره قوم من المفسرين والباحثين . وذكر آخرون : ان الله يفعل فعلاً كالاخراج من الظلمات الى النور وإِعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة ، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا ، غير أنا نؤمن بحسب ما أخبر به الله ـ وهو يقول الحق ـ بأن هذه الامور موجودة وأنها أفعال له تعالى وإِن لم نحط بها خبراً ، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الالفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة ، وإِنما الفرق بين القولين أن مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأول نفس أعمالنا وعقائدنا ، وعلى القول الثاني امور خارجة عن اعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إِلى فهمها ، ولا طريق الى نيلها والوقوف عليها . والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرِط والمفرَط ، والحق في
| |
|
| |
| الميزان في تفسير القرأن ج2 | |
|