الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري

عشائر البو حسين البدير في العراق
 
الرئيسيةالبوابةالأحداثمكتبة الصورأحدث الصورالمنشوراتالأعضاءالتسجيلدخول

بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
البيت اهل
المواضيع الأخيرة
» المحكم في أصول الفقه [ ج2
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyاليوم في 10:46 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في اصول الفقه ج3
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyاليوم في 8:41 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» المحكم في أصول الفقه [ ج4
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyاليوم في 7:55 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» الصحيفه السجاديه كامله
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyأمس في 9:49 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول الرّشيد في الإجتهاد والتقليد [ ج ١ ]
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyأمس في 3:11 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

»  مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyأمس في 2:36 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» قاعدة لا ضرر ولا ضرار
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyأمس في 8:51 am من طرف الشيخ شوقي البديري

» القول المبين
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:46 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

» ------التقيه
الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالثلاثاء نوفمبر 19, 2024 4:37 pm من طرف الشيخ شوقي البديري

نوفمبر 2024
الأحدالإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبت
     12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930
اليوميةاليومية
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان



     

     الميزان في تفسير القرأن ج2

    اذهب الى الأسفل 
    انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
    كاتب الموضوعرسالة
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:35 pm

    ذلك أن هذه الامور التي أخبر الله سبحانه بإِيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إِنما
    هي امور حقيقية واقعية من غير تجوز غير أنها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها
    التي في باطنها ، وقد مر الكلام في ذلك ، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى : يخرجهم
    من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور الى الظلمات ، كنايتين عن هداية
    الله سبحانه وإِضلال الطاغوت ، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين : أحدهما
    كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له
    وثانيهما : أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق وواقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً
    في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز ؟ وعلى أي حال فالجملتان أعني : قوله
    تعالى : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور الى الظلمات
    كنايتان عن الهداية والاضلال ، وإِلا لزم أن يكون لكل من المؤمن والكافر نور وظلمة
    معاً ، فإِن لازم إِخراج المؤمن من الظلمة الى النور أن يكون قبل الايمان في ظلمة
    وبالعكس في الكافر ، فعامة المؤمنين والكفار ـ وهم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو
    عاشوا كفاراً فقط ـ إِذا بلغوا مقام التكليف فإِن آمنوا خرجوا من الظلمات الى النور ،
    وإِن كفروا خرجوا من النور الى الظلمات ، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا
    كما ترى .
    لكن يمكن أن يقال : إِن الانسان بحسب خلقته على نور الفطرة ، هو نور إِجمالي
    يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة الى المعارف الحقة والاعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة
    بعد لعدم تبين أمره ، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما ، والمؤمن
    بإِيمانه يخرج من هذه الظلمة الى نور المعارف والطاعات تفصيلاً ، والكافر بكفره يخرج
    من نور الفطرة الى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية ، والاتيان بالنور مفرداً وبالظلمات
    جمعاً في قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من
    النور الى الظلمات ، للاشارة الى ان الحق واحد لا اختلاف فيه كما ان الباطل متشتت
    مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : « وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا
    السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ » الانعام ـ 153 .
    ( بحث روائي )
    في الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في


    ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء
    في المختارة عن ابن عباس قال : كانت المرئة من الانصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها
    ولد ، فتجعل على نفسها إِن عاش لها ولد ان تهوده ، فلما اجليت بنوا النضير كان فيهم
    من ابناء الانصار فقالوا : لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إِكراه في الدين .
    اقول : وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبي .
    وفيه : أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : كانت النضير
    أرضعت رجالاً من الأوس ، فلما أُمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإِجلائهم ، قال أبنائهم من الأوس :
    لنذهبن معهم ولندينن دينهم ، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام ، ففيهم نزلت
    هذه الآية لا اكراه في الدين .
    اقول : وهذا المعنى أيضاً مروي بغير هذا الطريق ، وهو لا ينافي ما تقدم من
    نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم .
    وفيه أيضاً : أخرج ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس : في قوله : لا اكراه في
    الدين قال : نزلت في رجل من الانصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصين كان له
    ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا استكرههما فإِنهما قد أبيا
    إِلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
    وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : قال : النور آل محمد والظلمات أعدائهم .
    اقول : وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل .
      
    أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
    رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
    بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
    الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ 258 . أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا
    قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ



    قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ
    يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
    نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    ـ 259 . وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن
    قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ
    اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
    حَكِيمٌ ـ 260 .
    ( بيان )
    الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها
    من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها .
    قوله تعالى : ألم تر إِلى الذي حاج إِبراهيم في ربه ، المحاجة إِلقاء الحجة قبال
    الحجة لإثبات المدعي أو لإبطال ما يقابله ، واصل الحجة هو القصد ، غلب استعماله
    فيما يقصد به اثبات دعوى من الدعاوي ، وقوله : في ربه متعلق بحاج ، والضمير لابراهيم
    كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد : قال ابراهيم ربي الذي يحيى ويميت ، وهذا الذي حاج
    ابراهيم عليه‌السلام في ربه هو الملك الذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك بابل على ما
    يذكره التاريخ والرواية .
    وبالتأمل في سياق الآية ، والذي جرى عليه الامر عند الناس ولا يزال يجري
    عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، والموضوع الذي وقعت
    فيه محاجتهما .
    بيان ذلك : ان الانسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه ،
    المؤثرة فيه ، وهذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن اطوار الامم الخالية المتأمل في


    حال الموجودين من الطوائف المختلفة ، وقد بينا ذلك فيما مر من المباحث . وهو بفطرته
    يثبت للعالم صانعاً مؤثراً فيه بحسب التكوين والتدبير ، وقد مر أيضاً بيانه ، وهذا
    أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الانسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الانبياء
    وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إِلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما
    عليه الدهريون والماديون ، فإِن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الانسان انساناً وإِن
    قبلت الغفلة والذهول .
    لكن الانسان الاولي الساذج لما كان يقيس الاشياء إِلى نفسه ، وكان يرى من
    نفسه أن أفعاله المختلفة تستند الى قواه وأعضائه المختلفة ، وكذا الافعال المختلفة
    الاجتماعية تستند الى أشخاص مختلفة في الاجتماع ، وكذا الحوادث المختلفة الى علل
    قريبة مختلفة وان كانت جميع الازمة تجتمع عند الصانع الذي يستند اليه مجموع عالم
    الوجود لا جرم أثبت لانواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان
    يثبت ذلك باسم أرباب الانواع كرب الارض ورب البحار ورب النار ورب الهواء
    والارياح وغير ذلك ، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصة السيارات التي كان
    يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثم
    كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الارباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب
    الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه ، ينال بذلك سعادة
    الحياة والممات .
    ولذلك كانت الاصنام مختلفة بحسب اختلاف الامم والاجيال لان الآراء كانت
    مختلفة في تشخيص الانواع المختلفة وتخيل صور أرباب الانواع المحكية باصنامها ، وربما
    لحقت بذلك أميال وتهوسات أُخرى . وربما انجر الامر تدريجاً الى التشبث بالاصنام
    ونسيان اربابها حتى رب الارباب لان الحس والخيال كان يزين ما ناله لهم ، وكان يذكرها
    وينسى ما ورائها ، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه ، كل ذلك
    انما كان منهم لانهم كانوا يرون لهذه الارباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب ارادتها
    ارادتهم ، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم .
    وربما كان يستفيد بعض اولي القوة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم



    ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة ، فيطمع في المقام ويدعي الالوهية كما ينقل
    عن فرعون ونمرود وغيرهما ، فيسلك نفسه في سلك الارباب وإِن كان هو نفسه يعبد
    الاصنام كعبادتهم ، وهذا وإِن كان في بادء الامر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره
    ونفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الارباب وغلبة جانبه
    على جانبها ، وقد تقدمت الاشارة اليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه :
    « أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ » النازعات ـ 24 ، فقد كان يدعي انه أعلى الارباب مع كونه ممن
    يتخذ الارباب كما قال تعالى : « وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ » الأعراف ـ 127 ، وكذلك كان
    يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله : أنا أحيي وأُميت ، في هذه الآية على ما سنبين .
    وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين ابراهيم عليه‌السلام ونمرود ،
    فإِن نمرود كان يرى لله سبحانه الوهية ، ولولا ذلك لم يسلم لابراهيم عليه‌السلام قوله : إِن
    الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه ان
    يقول : أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو ان بعض الآلهة الاخرى يأتي بها من
    المشرق ، وكان يرى ان هناك آلهة اخرى دون الله سبحانه ، وكذلك قومه كانوا
    يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص ابراهيم عليه‌السلام كقصة الكوكب والقمر والشمس
    وما كلم به أباه في أمر الاصنام وما خاطب به قومه وجعله الاصنام جذاذاً إِلا كبيراً
    لهم وغير ذلك ، فقد كان يرى لله تعالى الوهية ، وان معه آلهة اخرى لكنه كان يرى
    لنفسه الوهية ، وانه أعلى الآلهة ، ولذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج ابراهيم
    عليه‌السلام في ربه ، ولم يذكر من امر الآلهة الاخرى شيئاً .
    ومن هنا يستنتج ان المحاجة التي وقعت بينه وبين ابراهيم عليه‌السلام هي ، ان
    ابراهيم عليه‌السلام كان يدعي ان ربه الله لا غير ونمرود كان يدعي انه رب ابراهيم وغيره
    ولذلك لما احتج ابراهيم عليه‌السلام على دعواه بقوله : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : انا
    أُحيي وأُميت ، فادعى انه متصف بما وصف به إِبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه
    ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الاصنام ، ولم يقل : وانا أُحيي
    وأُميت لان لازم العطف ان يشارك الله في ربوبيته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان
    مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت ، ولم يقل أيضاً : والآلهة تحيي وتميت .
    ولم يعارض ابراهيم عليه‌السلام بالحق ، بل بالتموين والمغالطة وتلبيس الامر على من


    حضر ، فإِن ابراهيم عليه‌السلام إِنما أراد بقوله : ربي الذي يحيي ويميت ، الحياة والموت
    المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإِن هذه الحياة المجهولة لكنه لا
    يستطيع ان يوجدها إِلا من هو واجد لها فلا يمكن ان يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة
    لها ، ولا بشيء من هذه الموجودات الحية ، فإِن حياتها هي وجودها ، وموتها عدمها ،
    والشيء لا يقوى لا على إِيجاد نفسه ولا على إِعدام نفسه ، ولو كان نمرود اخذ هذا
    الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشيء لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما
    المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي والمجازي فإِن الاحياء كما يقال على جعل الحياة
    في شيء كالجنين إِذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال : على تلخيص إِنسان من ورطة
    الهلاك ، وكذا الاماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة ،
    وعند ذلك أمر بإِحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإِطلاق الآخر فقتل
    هذا واطلق ذاك فقال : انا أُحيي وأُميت ، ولبس الامر على الحاضرين فصدقوه فيه ،
    ولم يستطع لذلك ابراهيم عليه‌السلام ان يبين له وجه المغالطة ، وانه لم يرد بالاحياء والاماتة
    هذا المعنى المجازي ، وان الحجة لا تعارض الحجة ، ولو كان في وسعه عليه‌السلام ذلك
    لبينه ، ولم يكن ذلك إِلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه ، وحال الحضار في تصديقهم
    لقوله الباطل على العمياء ، فوجد انه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد ، فعدل إِلى
    حجة اخرى لا يدع المكابر ان يعارضه بشيء فقال ابراهيم عليه‌السلام : إِن الله يأتي
    بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، وذلك ان الشمس وإِن كانت من جملة الآلهة
    عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إِلى الكوكب والقمر من قصته عليه‌السلام لكنها
    وما يلحق وجودها من الافعال كالطلوع والغروب مما يستند بالأخرة إِلى الله الذي
    كانوا يرونه رب الارباب ، والفاعل الارادي إِذا اختار فعلاً بالارادة كان له ان يختار
    خلافه كما اختار نفسه فإِن الامر يدور مدار الارادة ، وبالجملة لما قال ابراهيم ذلك
    بهت نمرود ، إِذ ما كان يسعه ان يقول : إِن هذا الامر المستمر الجاري على وتيرة واحدة
    وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتفاقي لا يحتاج إِلى سبب ، ولا كان يسعه ان يقول :
    إِنه فعل مستند اليها غير مستند إِلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك ، ولا كان يسعه ان
    يقول : إِني انا الذي آتيها من المشرق وإِلا طولب بإِتيانها من المغرب ، فألقمه الله
    حجراً وبهته ، والله لا يهدي القوم الظالمين .


    قوله تعالى : ان آتيه الله الملك ، ظاهر السياق : انه من قبيل قول القائل :
    أساء إِلى فلان لاني احسنت اليه يريد :ان احساني اليه كان يستدعي ان يحسن الى
    لكنه بدل الاحسان من الإِسائه فأساء إِلى ، وقولهم : واتق شر من احسنت اليه ، قال
    الشاعر :
    جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
    وحسن فعل كما يجزى سنمار

    فالجملة أعني قوله : ان آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع
    الشيء موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه ، فإِن عدوان نمرود وطغيانه في هذه
    المحاجة كان ينبغي ان يعلل بضد انعام الله عليه بالملك ، لكن لما لم يتحقق من الله في
    حقه الا الإحسان اليه وايتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله
    فهو بوجه كقوله تعالى : « فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا » القصص ـ 8 ،
    فهذه نكتة في ذكر ايتائه الملك .
    وهناك نكتة اخرى وهي : الدلالة على ردائة دعواه من رأس ، وذلك انه انما
    كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير ان يملكه لنفسه ، فهو انما كان
    نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه ، وأما هو في نفسه فلم يكن الا واحداً
    من سواد الناس لا يعرف له وصف ، ولا يشار اليه بنعت ، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر
    عنه بقوله : الذي حاج ابراهيم في ربه ، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره .
    واما نسبة ملكه الى ايتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة : انه لا محذور
    فيه ، فإِن الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الامة كسائر انواع السلطنة والقدرة
    نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء ، وقد أودع في فطرة الانسان معرفته ، والرغبة
    فيه ، فإِن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة ، قال تعالى : « وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
    الْآخِرَةَ » القصص ـ 77 ، وان عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة
    وبواراً ، قال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »
    ابراهيم ـ 28 ، وقد مر بيان ان لكل شيء نسبة اليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه
    تعالى وتقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح والمسائة .
    ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين : ان الضمير في قوله ان آتيه


    الله الملك ، يعود الى ابراهيم عليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك ابراهيم كما قال تعالى : « أَمْ
    يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
    وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا » النساء ـ 54 ، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية
    لا يجوز نسبته الى الله سبحانه .
    ففيه أولاً : ان القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً اليه تعالى كقوله
    حكاية عن مؤمن آل فرعون : « يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ » المؤمن ـ
    29 ، وقوله تعالى حكاية عن فرعون ـ وقد امضاه بالحكاية ـ : « يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
    مِصْرَ » الزخرف ـ 51 ، وقد قال تعالى : « لَهُ الْمُلْكُ » التغابن ـ 1 ، فقصر كل الملك لنفسه
    فما من ملك الا وهو منه تعالى ، وقال تعالى حكايه عن موسى عليه‌السلام : « رَبَّنَا إِنَّكَ
    آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً » يونس ـ 88 ، وقال تعالى في قارون : « وَآتَيْنَاهُ مِنَ
    الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ » القصص ـ 76 ، وقال تعالى خطاباً
    لنبيه : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا » ـ الى ان قال ـ : « وَمَهَّدتُّ
    لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ » المدثر ـ 15 ، الى غير ذلك .
    وثانياً : ان ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإِن ظاهرها أن نمرود كان ينازع ابراهيم
    في توحيده وإِيمانه لا انه كان ينازعه ويحاجه في ملكه ، فإِن ملك الظاهر كان لنمرود ،
    وما كان يرى لابراهيم ملكاً حتى يشاجره فيه .
    وثالثاً : ان لكل شيىء نسبة إِلى الله سبحانه والملك من جملة الاشياء ولا محذور
    في نسبته اليه تعالى وقد مر تفصيل بيانه .
    قوله تعالى : قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، الحياة والموت وإِن كانا يوجدان
    في غير جنس الحيوان ايضاً كالنبات ، وقد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية
    الكرسي ، لكن مراده عليه‌السلام منهما اما خصوص الحياة والممات الحيوانيين أو الاعم
    الشامل له لإطلاق اللفظ ، والدليل على ذلك قول نمرود : أنا أُحيي وأُميت ، فإِن هذا
    الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إِحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً ، ولا احياء
    الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً ، فإِن ذلك وأشباهه كان لا يختص به بل يوجِد في غيره

    ( 2 ـ الميزان ـ 23 )


    من أفراد الانسان ، وهذا يؤيد ما وردت به الروايات : انه أمر بإِحضار رجلين ممن
    كان في سجنه فأطلق احدهما وقتل الآخر ، وقال عند ذلك : أنا أُحيي وأُميت .
    وانما أخذ عليه‌السلام في حجته الاحياء والاماتة لانهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة
    للحياة فيهما صنع ، وخاصة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والارادة وهما
    أمران غير ماديين قطعاً ، وكذا الموت المقابل لها ، والحجة على ما فيها من السطوع
    والوضوح لم تنجح في حقهم ، لان انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقل كان فوق ما
    كان يظنه عليه‌السلام في حقهم ، فلم يفهموا من الاحياء والاماتة إِلا المعنى المجازي الشامل
    لمثل الاطلاق والقتل ، فقال نمرود : انا أُحيي وأُميت وصدقه من حضره ، ومن سياق
    هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ اليه الانحطاط الفكري يؤمئذ في المعارف
    والمعنويات ، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري والتقدم المدني الذي يدل عليه الآثار
    والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما ، فإِن المدنية المادية أمر والتقدم
    في معنويات المعارف أمر آخر ، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها وانحطاطها في
    الاخلاق والمعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة .
    ومن هنا يظهر : وجه عدم أخذه عليه‌السلام في حجته مسئلة احتياج العالم بأسره
    الى الصانع الفاطر للسموات والارض كما اخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على
    ما يحكيه الله عنه بقوله : « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا
    أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » الانعام ـ 79 ، فإِن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم اجمالاً كانوا
    أنزل سطحاً من ان يعقلوه على ما ينبغي ان يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتضح
    مراده عليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله : ربي الذي يحيي ويميت .
    قوله تعالى : قال أنا أُحيي وأُميت ، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي ويميت .
    قوله تعالى : قال إِبراهيم : فإِن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب
    فبهت الذي كفر ، لما ايس عليه السلام من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي ويميت ،
    لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الامر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده
    من الاحياء والاماتة الى حجة أُخرى ، إِلا انه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم
    في الحجة الاولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله : فإِن الله « الخ » ، والمعنى : إِن


    كان الامر كما تقول : انك ربي ومن شأن الرب ان يتصرف في تدبير امر هذا النظام
    الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإِتيانها من المشرق فتصرف انت بإِتيانها من
    المغرب حتى يتضح انك رب كما ان الله رب كل شيىء أو انك الرب فوق الارباب
    فبهت الذي كفر ، وانما فرّع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن ان الحجة الاولى تمت
    لنمرود وانتجت ما ادعاه ، ولذلك ايضاً قال ، فإِن الله ولم يقل : فإِن ربي لأن الخصم
    استفاد من قوله : ربي سوئاً وطبقه على نفسه بالمغالطة فأتى عليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة
    ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق ! قد مر بيان ان نمرود ما كان يسعه ان
    يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيىء دون ان يبهت فيسكت .
    قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين ، ظاهر السياق انه تعليل لقوله فبهت
    الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إِياه لا كفره ، وبعبارة اخرى معناه ان الله لم
    يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على ابراهيم في الحجة لا انه لم يهده فكفر لذلك
    وذلك لان العناية في المقام متوجهة إِلى محاجته ابراهيم عليه‌السلام لا إِلى كفره وهو ظاهر .
    ومن هنا يظهر : ان في الوصف إشعاراً بالعلية أعني : ان السبب لعدم هداية
    الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله :
    « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »
    الصف ـ 7 ، وقوله : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
    بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » الجمعة ـ 5 ،
    ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى : « فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
    الْفَاسِقِينَ » الصف ـ 5 .
    وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عما ينبغي من العمل
    الى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء الى الغاية المقصودة ، ومؤد إِلى الخيبة والخسران
    بالاخرة ، وهذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف وأكد القول فيها في
    آيات كثيرة .



    ( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله )
    هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً ، وهي كلية لا تقبل الاستثناء
    وقد ذكرها بألسنة مختلفة ، وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه ، قال تعالى :
    « الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ » طه ـ 50 ، دل على ان كل شيء بعد تمام خلقه
    يهتدي بهداية من الله سبحانه الى مقاصد وجوده وكمالات ذاته ، وليس ذلك الا بارتباطه
    مع غيره من الاشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتصال
    والانفصال والقرب والبعد والاخذ والترك ونحو ذلك ، ومن المعلوم ان الامور
    التكوينية لا تغلط في آثارها ، والقصود الواقعية لا تخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها
    ومقاصدها ، فالنار في مسها الحطب مثلاً وهي حارة لا تريد تبريده ، والنامي كالنبات
    مثلاً وهو نام لا يقصد إِلا عظم الحجم دون صغره وهكذا ، وقد قال تعالى : « إِنَّ
    رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » هود ـ 56 ، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود .
    ولازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين ان يكون
    لكل شيء روابط حقيقية مع غيره ، وان يكون بين كل شيء وبين الآثار والغايات
    التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ الى غايته والاثر المخصوص
    المقصود منه ، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية انما تنال اذا سلك اليها من الطرق
    الخاصة بها والسبل الموصلة اليها ، فالبذرة انما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع
    سلوك الطريق المؤدي اليها بأسبابها وشرائطها الخاصة ، وكذلك الشجرة انما تثمر
    الثمرة التي من شأنها اثمارها ، فما كل سبب يؤدي الى كل مسبب ، قال تعالى : « وَالْبَلَدُ
    الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا » الاعراف ـ 58 ، والعقل
    والحس يشهدان بذلك والا اختل قانون العلية العام .
    واذا كان كذلك فالصنع والايجاد يهدي كل شيء الى غاية خاصة ، ولا يهديه
    الى غيرها ، ويهدي الى كل غاية من طريق خاص لا يهدي اليها من غيره ، صنع الله التي
    اتقن كل شيء ، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة الى غاية واثر اذا
    فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل اثرها لا محالة ، هذا في الامور
    التكوينية .

    والامور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية وغيرها على هذا الوصف
    أيضاً من حيث إِنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين ، فالشؤن الاجتماعية والمقامات
    التي فيه والافعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولد منه إِلا تلك
    الآثار والغايات ولا تتولد هي إِلا منه فالتربية الصالحة لا تتحقق إِلا من مرب صالح
    والمربي الفاسد لا يترتب على تربيته ، إِلا الاثر الفاسد ( ذاك الفساد المكمون في نفسه )
    وإِن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته ، وضرب على الفساد المطوي في
    نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب ، وكذلك الحاكم المتغلب في حكومته ،
    والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه ، وكل من تقلد منصباً اجتماعياً
    من غير طريقه المشروع ، وكذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إِذا تشبه
    بالحق وحل بذلك محل الفعل الحق ، والقول الباطل إِذا وضع موضع القول الحق
    كالخيانة موضع الامانة والاسائة موضع الاحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع
    الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإِن اشتبه أمرها اياماً ، وتلبس بلباس
    الصدق والحق أحياناً ، سنة الله التي جرت في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولن
    تجد لسنة الله تبديلاً .
    فالحق لا يموت ولا يتزلزل أثره ، وإِن خفي على ادراك المدركين اويقات ،
    والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره ، وإِن كان ربما اشتبه أمره ووباله ، قال تعالى : « لِيُحِقَّ
    الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ » الانفال ـ 8 ، من تحقيق الحق تثبيت أثره ، ومن
    إِبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه والتمويه ، وقال
    تعالى : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
    السَّمَاءِتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ
    كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
    فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ » ابراهيم ـ 27 ،
    وقد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم ، ولا شأن لهم إِلا أنهم يريدون آثار الحق من
    غير طريقها أعني : من طريق الباطل كما قال تعالى ـ حكاية عن يوسف الصديق :
    « قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » يوسف ـ 23 ، فالظالم لا يفلح
    في ظلمه ، ولا أن ظلمه يهديه الى ما يهتدي إِليه المحسن بإِحسانه والمتقي بتقواه ، قال



    تعالى : « وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » العنكبوت ـ 69 ،
    وقال تعالى : « وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ » طه ـ 132 .
    والآيات القرآنية في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة ، ومن
    أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى : « أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ
    السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ
    يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
    الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ » الرعد ـ 17 .
    وقد مرت الإشارة الى أن العقل يؤيده ، فإِن ذلك لازم كلية قانون العلية
    والمعلولية الجارية بين أجزاء العالم ، وأن التجربة القطعية الحاصلة من تكرار الحس تشهد
    به ، فما منا من أحد إِلا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع
    دابرهم .
    قوله تعالى : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، الخاوية هي الخالية
    يقال : خوت الدار تخوي خوائاً إِذا خلت ، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل
    السقف للكرم قائماً على أعمدة ، قال تعالى : « جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ »
    الأنعام ـ 141 ، ومن هنا أُطلق على سقف البيت العرش ، لكن بينهما فرقاً ، فإِن
    السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الاركان التي يعتمد
    عليها كهيئة عرش الكرم ، ولذا صح أن يقال في الديار أنها خالية على عروشها ولا يصح
    أن يقال : خالية على سقفها .
    وقد ذكر المفسرون وجوهاً في توجيه العطف في قوله تعالى : أو كالذي ، فقيل :
    إِنه عطف على قوله في الآية السابقة : الذي حاج ابراهيم ، والكاف اسمية ، والمعنى أو
    هل رأيت مثل الذي مر على قرية « الخ » ، وقد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد
    الشواهد ، وقيل : بل الكاف زائدة ، والمعنى : ألم تر الى الذي حاج إِبراهيم أو الذي
    مر على قرية « الخ » ، وقيل : انه عطف محمول على المعنى ، والمعنى : ألم تر كالذي حاج
    ابراهيم أو كالذي مر على قرية ، وقيل : إِنه من كلام ابراهيم جواباً عن دعوى الخصم
    انه يحيي ويميت ، والتقدير : وإِن كنت تحيى فأحيى كإِحياء الذي مر على قرية « الخ »
    فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى .

    وأظن ـ والله أعلم ـ أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إِلا ان
    التقدير غير التقدير ، توضيحه : أن الله سبحانه لما ذكر قوله : الله ولي الذين آمنوا
    يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور
    الى الظلمات ، تحصل من ذلك : أنه يهدي المؤمنين الى الحق ولا يهدي الكافر في كفره
    بل يضله أوليائه الذين اتخذته من دون الله اولياء ، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها
    أقسام هدايته تعالى ، وهي مراتب ثلاث مترتبة :
    اوليها : الهداية الى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إِبراهيم في
    ربه ، حيث هدى ابراهيم الى حق القول ، ولم يهد الذي حاجه بل ابهته وأضله كفره ،
    وإِنما لم يصرح بهداية ابراهيم بل وضع عمدة الكلام في امر خصمه ليدل على فائدة
    جديدة يدل عليها قوله : والله لا يهدي القوم الظالمين .
    والثانية : الهداية الى الحق بالارائة والاشهاد كما في قصة الذي مر على قرية وهي
    خاوية على عروشها فإِنه بين له ما أشكل عليه من امر الاحياء بإِماتته واحيائه وسائر
    ما ذكره في الآية ، كل ذلك بالارائة والاشهاد .
    الثالثة : الهداية الى الحق وبيان الواقعة بإِشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه
    الحادثة ، وبعبارة اخرى بإِرائة السبب والمسبب معاً ، وهذا اقوى مراتب الهداية
    والبيان وأعلاها وأسناها كما ان من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في امره تزاح شبهته
    تارة بالاستشهاد بمن شاهده واكل منه وذاق طعمه ، وتارة بإِرائته قطعة من الجبن
    واذاقته طعمه وتارة بإِحضار الحليب وعصارة الانفحه وخلط مقدار منها به حتى يجمد
    ثم اذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة .
    اذا عرفت ما ذكرناه علمت ان المقام في الآيات الثلاث ـ وهو مقام الاستشهاد ـ
    يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إِلقاء المراد الى المخاطب بأن يقال : ان الله يهدي
    المؤمنين الى الحق : الم تر الى قصة ابراهيم ونمرود ، أو لم تر إِلى قصة الذي مر على
    قرية ، أو لم تر إِلى قصة ابراهيم والطير ، أو يقال : ان الله يهدي المؤمنين الى الحق :
    إِما كما هدى ابراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية ، او كالذي مر على قرية
    وهي نوع آخر ، أو كما في قصة إِبراهيم والطير وهي نوع آخر ، أو يقال : ان الله



    يهدي المؤمنين الى الحق وأُذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة ، واذكر الذي
    مر على قرية ، واذكر إِذ قال إِبراهيم رب ارني .
    فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام ، غير ان الله سبحانه اخذ
    بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطاً
    لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء .
    ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : أو كالذي ، معطوف على مقدر يدل عليه
    الآية السابقة ، والتقدير : إِما كالذي حاج ابراهيم أو كالذي مر على قرية ، ويظهر
    ايضاً ان قوله في الآية التالية : واذ قال ابراهيم ، معطوف على مقدر مدلول عليه
    بالآية السابقة والتقدير : اذكر قصة المحاجة وقصة الذي مر على قرية ، واذكر اذ قال
    ابراهيم رب ارني « الخ » .
    وقد ابهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا
    يسكنونها ، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس ،
    مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة الى اسمائهم ليكون أنفى للشبهة .
    لكن الآية وهي الاحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما
    كانت أمراً عظيماً ، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام ، كان مقتضى البلاغة أن
    يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد
    المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الامور بالتصغير
    والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم ، ولذلك أُبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم
    به أصلها ليدل على هو ان أمرها على الله ، ولذلك أيضاً أُبهم خصم إِبراهيم في الآية السابقة
    وأُبهم جهات القصة من اسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الاجزاء وغيرها في الآية
    اللاحقة .
    وأما التصريح باسم إِبراهيم عليه‌السلام فإِن للقرآن عناية تشريف به عليه‌السلام ، قال
    تعالى : « وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ » الانعام ـ 83 ، وقال تعالى :
    « وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » الانعام ـ 75 ،
    ففي ذكره عليه‌السلام بالاسم عناية خاصة .

    ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الاحياء والاماتة في غالب الموارد
    من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار ، قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ
    ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »
    الروم ـ 27 ، وقال تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام ـ الى قوله ـ : « قَالَ رَبُّكَ هُوَ
    عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا » مريم ـ 9 .
    قوله تعالى : قال أنى يحيي هذه الله ، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه
    مجاز كما في قوله تعالى : « وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ » يوسف ـ 82 .
    وإِنما قال هذا القول استعظاماً للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي
    إِلى الانكار أو ينشأ منه ، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر
    القصة : أعلم أن الله على كل شيء قدير ولم يقل : الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية
    عن امرأة العزيز : « الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ » يوسف ـ 51 ، وسيجيء توضيحه قريباً .
    على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة الى الناس والانبياء معصومون حاشاهم عن
    الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد اصول الدين .
    قوله تعالى : فأماته الله مأة عام ثم بعثه ، ظاهره توفيه بقبض روحه وإِبقائه على
    هذا الحال مأة عام ثم إِحيائه برد روحه إِليه .
    وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الاطباء بالسبات
    وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان ،
    أياماً أو شهوراً أو سنين ، كما أنه الظاهر من قصة اصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة
    وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة .
    قال : والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة
    امر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الانسان بالسبات زماناً كعدة سنين
    قادر على إِلقاء السبات مأة سنة ، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات
    الله تعالى وأخذها على ظاهرها إِلا ان تكون من الممكنات دون المستحيلات ، فقد
    احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إِليه ثانياً بعد سلبه مأة سنة على إِمكان
    رجوع الحياة الى الاموات بعد سلبها عنهم الوفاً من السنين ، هذا ملخص ما ذكره .


    وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الاماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات
    من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات « على تقدير تسليمه » بمجرد شباهة
    ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى : فأماته الله ، في الموت المعهود دون السبات الذي
    اختلقه للآية ؟ وهل هو إِلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد ، وهو أمر الدلالة ؟ إِذا
    جاز أن يلقي الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقاً للعادة فليجز له إِماتته مأة سنة
    ثم إِحيائه ، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إِلا أن هذا القائل يرى إِحياء
    الموتى في الدنيا محالاً من غير دليل يدل عليه ، وقد تأول لذلك أيضاً قوله تعالى في ذيل
    الآية : وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً ، وسيجيء التعرض له .
    وبالجملة دلالة قوله تعالى : فأماته الله مأة عام ، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر الى
    قوله قبله : أنى يحيي هذه الله ، وقوله بعده ، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه
    وانظر الى حمارك ، وقوله : وانظر الى العظام ، مما لا ريب فيه .
    قوله تعالى : قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام ،
    اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إِماتته
    وإِحيائه كأوائل النهار وأواخره ، فحسب الموت والحياة نوماً وانتباهاً ، ثم شاهد
    اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوماً ( لو تخللت الليلة )
    أو بعض يوم ( لو لم تتخلل ) قال : بل لبثت مأة عام .
    قوله تعالى : فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه الى قوله لحماً ، سياق هذه
    الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله : انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي
    بواحد منها ، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق الى الذهن أنه
    لم يكن الى ذكرها حاجة ، وجيء بقوله : ولنجعلك متخللاً في الكلام وكان الظاهر
    أن يتأخر عن جملة : وانظر الى العظام ، على ان بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية ـ
    وهو احياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها ـ قد حصل بإِحيائه نفسه
    بعد الموت فما الموجب لان يؤمر ثانياً بالنظر الى العظام ؟ لكن التدبر في أطراف الآية
    الشريفة يوضح خصوصيات القصة إِيضاحاً ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة .
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:40 pm

    ( القصة )
    التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله ، عالماً بمقام ربه ، مراقباً


    لأمره ، بل نبياً مكلماً فإِن ظاهر قوله : أعلم أن الله ، أنه بعد تبين الامر له رجع الى
    ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة ، وظاهر قوله تعالى : ثم بعثه قال كم لبثت ، أنه
    كان مأنوساً بالوحي والتكليم ، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى اليه وإِلا كان حق
    الكلام أن يقال : فلما بعثه قال « الخ » أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى عليه‌السلام :
    « فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ » طه ـ 12 ، وقوله تعالى فيه أيضاً : « فَلَمَّا أَتَاهَا
    نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ » القصص ـ 30 .
    وكيف كان فقد كان عليه‌السلام خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته
    التي كان بها ، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه ، وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما ،
    فلما سار الى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها ،
    ولم يكن قاصداً نفس القرية ، وإِنما مر بها مروراً ثم وقف معتبراً بما يشاهده من امر
    القرية الخربة التي كان قد أُبيد اهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر
    منه عليه السلام ، فإِنه يشير الى الموتى بقوله : أنى يحيي هذه الله ، ولو كان مراده
    بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والاشارة الى نفس القرية لكان حق الكلام أن
    يقال : انى يعمر هذه الله . على ان القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها ،
    ولا ان عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة ، ولو كانت الاموات المشار اليهم مقبورين
    وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق
    بأبلغ الكلام .
    ثم إِنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع
    ما يصاحبه من تحولها من حال الى حال ، وتطورها من صورة الى صورة بحيث يصير
    الاصل نسياً منسياً ، وعند ذلك قال : أنى يحيى هذه الله ، وقد كان هذا الكلام ينحل
    إِلى جهتين : « احديهما » : استعظام طول المدة والاحياء مع ذلك ، « والثانية » :
    استعظام رجوع الاجزاء الى صورتها الاولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير
    المحصورة ، فبين الله له الامر من الجهتين جميعا : أما من الجهة الاولى فإِماتته ثم إِحيائه
    وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإِحياء العظام بمنظر ومرئي منه .
    فأماته الله مأة عام ثم بعثه ، وقد كان الاماتة والاحياء في وقتين مختلفين من
    النهار كما مر ذكره ، قال كم لبثت ، قال لبثت يوماً أو بعض يوم نظراً الى اختلاف



    الوقتين ، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولو
    كان بالعكس من ذلك لقال : لبثت يوماً من غير ترديد ، فرد الله سبحانه عليه وقال :
    بل لبثت مأة عام ، فرأى من نفسه أنه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم ، فكان فيه
    ما استعظمه من طول المكث .
    ثم استشهد تعالى على قوله : بل لبثت مأة عام بقوله : فانظر الى طعامك وشرابك
    لم يتسنه وانظر الى حمارك ! وذلك : أن قوله : لبثت يوماً أو بعض يوم يدل على أنه
    لم يحس بشيء من طول المدة وقصره ، وإِنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار
    من شمس أو ظل ونحوهما ، فلما اجيب بقوله تعالى : بل لبثت مأة عام كان الجواب في
    مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شيء من هيئة بدنه ،
    والانسان إِذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من
    النضارة والطراوة وكان تراباً وعظاماً رميمة ، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن وأن يخطر
    بباله بأمره ان ينظر الى طعامه وشرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه وأن ينظر
    الى الحمار وقد صار عظاماً رميمة ، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام
    والشراب يدل على إِمكان ان يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير ان يتغير
    شيء من هيئته عما هي عليه .
    ومن هنا يظهر ان الحمار ايضاً قد أُميت وكان رميماً وكأن السكوت عن ذكر
    إِماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع .
    وبالجملة تم عند ذلك البيان الالهي : ان استعظامه طول المدة قد كان في غير محله
    حيث اخذ الله منه الاعتراف بأن مأة سنة ـ مدة لبثه ـ كيوم أو بعض يوم كما يأخذ
    اعتراف اهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به ، فبين له ان تخلل الزمان بين الاماتة
    والاحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء ، فليست قدرة مادية
    زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل ، فيكون إِحياء
    الموتى القديمة أصعب عليه من إِحياء الموتى الجديدة ، بل البعيد عنده كالقريب من غير
    فرق كما قال تعالى : « إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا » المعارج ـ 7 ، وقال تعالى :
    « وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ » النحل ـ 77 .
    ثم قال تعالى : ولنجعلك آية للناس ، عطف الغاية يدل على ان هناك غيرها من


    الغايات ، والمعنى انا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين
    أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصراً في بيان الامر له نفسه بل هناك غاية اخرى
    وهي جعله آية للناس ، فالغرض من قوله : وانظر الى العظام « الخ » بيان الامر له فقط ،
    ومن إِماتته وإِحيائه بيان الامر له وجعله آية للناس ، ولذلك قدم قوله : ولنجعلك
    « الخ » على قوله : وانظر الى العظام « الخ » .
    ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر ، ثلاث مرات في الآية ، فلكل واحد
    من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره .
    وكان في إِماتته وإِحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إِذا أحياه
    الله ليوم البعث كما قال تعالى : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ
    كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ
    الْبَعْثِ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » الروم ـ 56 .
    ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله : أنى يحيي هذه الله وهو : أنه
    كيف يعود الاجزاء الى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها
    واستلفت نظره الى العظام فقال : وانظر الى العظام كيف ننشزها والانشاز الإنماء ،
    وظاهر الآية ان المراد بالعظام عظام الحمار إِذ لو كانت عظام اهل القرية لم تكن الآية
    منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله : ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين احياهم
    الله تعالى !
    ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الابدان
    الحية فإِنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث ، فإِن الذي أعطاها الرشد والنماء
    بالحياة لمحيي الموتى إِنه على كل شيء قدير ، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الارض
    الميتة التي يحييها الله بالإنبات ، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب .
    وقد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله : فأماته الله إِلى
    آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله : أنى يحيي هذه الله .
    قوله تعالى : فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ، رجوع منه بعد
    التبين الى علمه الذي كان معه قبل التبين ، كأنه عليه‌السلام لما خطر بباله الخاطر الذي



    ذكره بقوله : أنى يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين
    الله له الامر بيان إِشهاد وعيان رجع الى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم ، وقال لم
    تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس ما لا تزال نفسي تعتمد عليه من
    كون القدرة مطلقة جهلاً ، بل علم يليق بالاعتماد عليه .
    وهذا أمر كثير النظائر فكثيراً ما يكون للانسان علم بشيء ثم يخطر بباله
    ويهجس في نفسه خاطر ينافيه ، لا للشك وبطلان العلم ، بل لاسباب وعوامل اخرى
    فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا
    فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه !
    وليس معنى الكلام : أنه لما تبين له الامر حصل له العلم وقد كان شاكاً قبل
    ذلك فقال أعلم « الخ » كما مرت الإشارة اليه لان الرجل كان نبياً مكلماً وساحة الانبياء
    منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات اولاً : ولان
    حق الكلام حينئذ أن يقال : علمت أو ما يؤدي معناه ثانياً : ولان حصول العلم بتعلق
    القدرة بإِحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء وقد قال : اعلم أن الله
    بكل شيء قدير ، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر
    الاحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الامور فحكم بأن
    الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أُريد منه ، لكنه اعتقاد حدسي معلول
    الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين ، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك ،
    وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه ، وحاشا أن يعد الكلام الالهي مثل
    هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إِلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد
    القصة : فلما تبين له قال : أعلم ان الله على كل شيء قدير ، على انه خطأ في القول لا يليق
    بساحة الانبياء ثالثاً .
    قوله تعالى : وإِذ قال إِبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى ، قد مر أنه معطوف
    على مقدر والتقدير : واذكر إِذ قال « الخ » وهو العامل في الظرف ، وقد احتمل بعضهم
    ان يكون عامل الظرف هو قوله : قال أولم تؤمن ، وترتيب الكلام : أولم تؤمن إِذ
    قال إِبراهيم رب أرني « الخ » وليس بشيء .
    وفي قوله : ارني كيف تحيي الموتى ، دلالة :

    اولاً على انه عليه‌السلام إِنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي ، فإِن الانبياء
    وخاصة مثل النبي الجليل إِبراهيم الخليل ارفع قدراً من ان يعتقد البعث ولا حجة له
    عليه ، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إِما اعتقاد تقليدي او ناش عن اختلال
    فكري وشيء منهما لا ينطبق على ابراهيم عليه‌السلام ، على انه عليه‌السلام إِنما سأل ما سأل
    بلفظ كيف ، وانما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشيء لا عن اصل وجوده
    فإِنك اذا قلت : أرأيت زيداً كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية ، واذا قلت :
    كيف رأيت زيداً كان أصل الرؤية مفروغاً عنه وانما السؤال عن خصوصيات الرؤية
    فظهر انه عليه‌السلام انما سأل البيان بالإرائة والاشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال .
    وثانياً : على ان ابراهيم عليه‌السلام إِنما سأل أن يشاهد كيفية الاحياء لا أصل الاحياء
    كما أنه ظاهر قوله : كيف تحيي الموتى ، وهذا السؤال متصور على وجهين :
    الوجه الاول : أن يكون سؤالاً عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة ، وتجمعها
    بعد التفرق والتبدد ، وتصورها بصورة الحي ، ويرجع محصله إِلى تعلق القدرة بالاحياء
    بعد الموت والفناء .
    الوجه الثاني : أن يكون عن كيفية إِفاضة الله الحياة على الاموات وفعله بأجزائها
    الذي به تلبس الحياة ويرجع محصله الى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره ، وهذا بوجه
    هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الاشياء في قوله عز من قائل : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
    أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » يس ـ 83 .
    وانما سأل ابراهيم عليه‌السلام عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الاول : أما أولاً :
    فلأنه قال : كيف تحيي الموتى ، بضم التاء من الاحياء فسأل عن كيفية الاحياء الذي
    هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره ، ولم يقل : كيف تحيي الموتى ،
    بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالاً عن كيفية تجمع الاجزاء وعودها الى صورتها
    الاولى وقبولها الحياة ، ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن
    يرد على الصورة الثانية واما ثانياً : فلأنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الاجزاء للحياة
    لم يكن لاجراء الامر بيد ابراهيم وجه ، ولكفى في ذلك أن يريد الله احياء شيء من
    الحيوان بعد موته ، واما ثالثاً : فلأنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن



    يقال : واعلم ان الله على كل شيء قدير لا بقوله : واعلم ان الله عزيز حكيم ، على ما
    هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإِن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون
    صفتي العزة والحكمة فإِن العزة والحكمة ـ وهما وجدان الذات كل ما تفقده وتستحقه
    الاشياء واحكامه في امره ـ انما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها فافهم ذلك .
    ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين : أن إِبراهيم عليه‌السلام إِنما سأل
    بقوله : رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء ،
    وأن الذي أُجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك ، قال : ما محصله : انه ليس
    في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه امره بالإحياء ، ولا ان إِبراهيم عليه‌السلام فعل ما
    أمره به ، فما كل أمر يقصد به الامتثال ، فإِن من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إِذا
    سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلاً ؟ فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا
    يكن حبراً تريد ان هذه كيفيته ، ولا تريد به ان تأمره ان يصنع الحبر بالفعل .
    قال : وفي القرآن شيىء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الامر ، والكلام هىٰهنا
    مثل لإحياء الموتى ، ومعناه خذ اربعة من الطير فضمها اليك وآنسها بك حتى تأنس
    وتصير بحيث تجيب دعوتك إِذا دعوتها ، فإِن الطيور من أشد الحيوان استعداداً لذلك ،
    ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإِنها تسرع اليك من غير ان يمنعها تفرق
    امكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربك إِذا أراد إِحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين :
    كونوا أحياء ، فيكونون احياء كما كان شأنه في بدء الخلقة ، ذلك إِذ قال للسموات
    والارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا : أتينا طائعين .
    قال : والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى : فصرهن ، فإِن معناه أملهن أي
    أوجد ميلها اليك وانسها بك ، ويشهد به تعديته بإِلى فإِن صار إِذا تعدى بإِلى كان
    بمعنى الامالة ، وما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزائاً بعد
    الذبح لا يساعد عليه تعديته بإِلى ، واما ما قيل : إِن قوله : اليك متعلق بقوله : فخذ
    دون قوله : فصرهن والمعنى : خذ اليك اربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر
    الكلام .
    وثانياً : ان الظاهر : ان ضمائر فصرهن ومنهن وادعهن ويأتينك جميعاً راجعة


    إِلى الطير ، ويلزم على قولهم : ان المراد تقطيعها وتفريق أجزائها ، ووضع كل جزء
    منها على جبل ثم دعوتهن ان يفرق بين الضمائر فيعود الأولان الى الطيور ، والثالث
    والرابع الى الأجزاء وهو خلاف الظاهر .
    واضاف الى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوهاً أُخرى نتبعها بها .
    وثالثاً : ان إِرائه كيفية الخلقة ان كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع اجزائها وتغير
    صورها الى الصورة الاولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الاجزاء
    ومزجه إِياها ووضعه على جبل بعيد ، جزئاً منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما
    يعرض ذرات الاجزاء من الحركات المختلفة والتغيرات المتنوعة ، وان كان المراد إِرائة
    كيفية الاحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الارادة الإلهية المتعلقة
    بوجود الشيىء وحقيقة نطقها بالاشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون ان هذا غير
    ممكن للبشر ، فصفات الله منزهة عن الكيفية .
    ورابعاً : ان قوله : ثم اجعل ، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى
    التأنيس وكذلك قوله : فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع .
    وخامساً : انه لو كان كما يقولون لكان الانسب هو ختم الآية باسم القدير دون
    الاسمين : العزيز الحكيم فإِن العزيز هو الغالب الذي لا ينال ، هذا ما ذكروه .
    وانت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه ، فإِن اشتمال الآية
    على السؤال بلفظ أرني وقوله : كيف تحيي وإِجراء الامر بيد ابراهيم على ما مر بيانها
    كل ذلك ينافي هذا المعنى ، على ان الجزء في قوله تعالى : ثم اجعل على كل جبل منهن
    جزئاً ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور .
    واما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الاول : ان معنى صرهن قطعهن ،
    وتعديته بإِلى لمكان تضمينه معنى الامالة كما في قوله تعالى : « الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ »
    البقرة ـ 187 ، حيث ضمن معنى الإفضاء .
    وعن الثاني : ان جميع الضمائر الاربع راجعة إِلى الطيور ، والوجه في رجوع

    ( 2 ـ الميزان ـ 24 )


    ضمير ادعهن ويأتينك اليها مع انها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة
    بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إِلى السماء مع عدم وجودها إِلا بمادتها في قوله
    تعالى : « ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
    أَتَيْنَا طَائِعِينَ » فصلت ـ 11 ، وقوله تعالى : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن »
    يس ـ 82 ، وحقيقة الامر : ان الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب ،
    واما الخطاب التكويني فالامر فيه بالعكس ، والمخاطب فيه فرع الخطاب ، فإِن الخطاب
    فيه هو الايجاد ومن المعلوم ان الوجود فرع الإيجاد ، كما يشير اليه قوله تعالى : ان نقول
    له كن فيكون الآية فقوله فيكون إِشارة إِلى وجود الشيء المتفرع على قوله كن وهو
    خطاب الامر .
    وعن الثالث : انا نختار الشق الثاني وان السؤال إِنما هو عن كيفية فعل الله
    سبحانه وإِحيائه لا عن كيفية قبول المادة وحياتها ، وقوله : إِن البشر لا يمكنه ان
    ينال كنه الإرادة الإلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن وعليه المسلمون .
    قلنا : إِن الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والاحياء ونحوهما ، والذي
    لا سبيل اليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى : « وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا » طه ـ 110 .
    فالإرادة منتزعة من الفعل ، وهو الإيجاد المتحد مع وجود الشيء ، وهو كلمة
    كن في قوله تعالى : ان نقول له كن فيكون ، وقد ذكر الله في تالي الآية ان هذه
    الكلمة ـ كلمة كن ـ هي ملكوت كل شيء إِذ قال : فسبحان الذي بيده ملكوت كل
    شيء الآية ، وقد ذكر الله تعالى انه ارى ابراهيم ملكوت خلقه إِذ قال : « وَكَذَٰلِكَ
    نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » الانعام ـ 75 ، ومن
    الملكوت إِحياء الطيور المذكورة في الآية .
    ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين انهم يظنون ان دعوة ابراهيم
    عليه‌السلام للطيور في إِحيائها ، وقول عيسى عليه‌السلام لميت عند إِحيائه : قم بإِذن الله وجريان
    الريح بأمر سليمان وغيرها مما يشتمل عليه الكتاب والسنة إِنما هو لاثر وضعه الله
    تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء ، أو في إِدراكهم التخيلي الذي تدل عليه
    الفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفي عليهم ان ذلك انما هو


    عن اتصال باطني بقوة الهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة .
    وعن الرابع : ان التراخي المدلول عليه بقوله : ثم كما يناسب معنى التربية
    والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الاجزاء ووضعها على الجبال كما
    هو ظاهر .
    وعن الخامس : ان الاشكال مقلوب عليهم فإِن الذي ذكروه هو ان الله انما بين
    كيفية الإحياء لإبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي ، فيرد عليهم ان المناسب
    حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة والحكمة ، وقد عرفت مما قدمنا ان الأنسب
    على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين : العزيز الحكيم كما في الآية .
    ويظهر مما ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين : ان المراد بالسؤال
    في الآية إِنما هو السؤال عن اشهاد كيفيه الإحياء بمعنى كيفية قبول الاجزاء صورة
    الحياة .
    قال : ما محصله : ان السؤال لم يكن في أمر ديني ـ والعياذ بالله ـ ولكنه سؤال
    عن كيفية الإحياء ليحيط علماً بها ، وكيفية الاحياء لا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها
    فإِبراهيم عليه‌السلام طلب علم لا يتوقف الايمان على علمه ، ويدل على ذلك ورود السؤال
    بصيغة كيف ، وموضوعها السؤال عن الحال ، ونظير هذا ان يقول القائل : كيف يحكم
    زيد في الناس ، فهو لا يشك انه يحكم فيهم ، ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم
    ثبوته ، ولو كان سائلاً عن ثبوت ذلك لقال : أيحكم زيد في الناس ، وانما جاء التقرير
    أعني قوله : أولم تؤمن ، بعده لأن تلك الصيغة وإِن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال
    عن الكيفية كما علمت الا انها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما اذا ادعى مدع : انه يحمل
    ثقلاً من الاثقال وانت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له : أرني كيف تحمل هذا تريد انك
    عاجز عن حمله ، والله سبحانه لما علم برائة ابراهيم عليه‌السلام عن الحوم حول هذا الحمى
    اراد ان ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الاولى لكون
    ايمانه مخلصاً بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ،
    ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور
    التصوير المشاهد ، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الايمان بالقدرة



    على الاحياء على اكمل الوجوده ، ورؤية الكيفية لم يزد في ايمانه المطلوب منه شيئاً ،
    وانما أفادت أمراً لا يجب الايمان به .
    ثم قال بعد كلام له طويل : ان الآية تدل على فضل ابراهيم عليه‌السلام حيث أراه
    الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه ، وأرى عزيراً ما أراه
    بعد ما أماته مأة عام .
    وانت بالتدبر في الآية والتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره
    فإِن السؤال انما وقع عن كيفية احيائه تعالى لا عن كيفية قبول الاجزاء الحياة ثانياً
    فقد قيل : كيف تحيي ، بضم التاء لا بفتحها ، على ان اجراء الامر على يد ابراهيم عليه‌السلام
    يدل على ذلك ولو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إِرائة شيء من الموتى
    يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى : وانظر
    الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً ، ولم تكن حاجة الى اجراء الاحياء على يد
    ابراهيم عليه‌السلام ، وهذا هو الذي أشرنا اليه آنفاً : انهم يقيسون نفوس الانبياء في تلقيهم
    المعارف الالهية ومصدريتهم للامور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلاً : ان لا
    فرق بين تكون الحياة بيد ابراهيم وتكونه في الخارج بالنسبة الى حال ابراهيم ،
    وهذا امر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها ، لكن هؤلاء لاهمالهم امر
    الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد ، وكلما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحق .
    ألا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون والاشكال
    المتصورة مع ان هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له الى ساحة مثل ابراهيم
    عليه‌السلام ، مع ان الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإِن ابراهيم عليه‌السلام قال :
    كيف تحيي الموتى ؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الانسان أو الأعم منه ومن غيره
    والله سبحانه ما أراه الا تكون الحياة في اربعة من الطير .
    ثم ذكر فضل ابراهيم عليه‌السلام على عزير ( يريد به صاحب القصة في الآية السابقة )
    بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما
    فسرها والجواب عنها ، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعاً ، مع ان الآيتين جميعاً ـ على
    ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني ـ أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل
    ذلك واضح بالرجوع الى ما مر فيهما .

    على ان المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة والحكمة
    كما في قوله تعالى : « وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ
    وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » فصلت ـ 39 ، فالآية
    كما ترى في مقام بيان الكيفية وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة ، ونظيره قوله تعالى :
    « وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ
    الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » الأحقاف ـ 33 ، ففيه أيضاً بيان الكيفية بإِرائة
    الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة .
    قوله تعالى : قال : أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، بلى كلمة يرد به
    النفي ولذلك ينقلب به النفي إِثباتاً كقوله تعالى : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ » الاعراف
    ـ 172 ، ولو قالوا نعم لكان كفراً ، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد
    انزعاجها واضطرابها ، وهو مأخوذ من قولهم : اطمأنت الارض وارض مطمئنة إِذا
    كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إِذا سال اليها والحجر إِذا هبط اليها .
    وقد قال تعالى : أولم تؤمن ، ولم يقل : ألم تؤمن للاشعار بأن للسؤال والطلب
    محلاً لكنه لا ينبغي ان يقارن عدم الإيمان بالاحياء : ولو قيل : ألم تؤمن دل على ان
    المتكلم تلقى السؤال منبعثاً عن عدم الايمان ، فكان عتاباً وردعاً عن مثل هذا السؤال ،
    وذلك ان الواو للجميع ، فكان الاستفهام معه استفهاماً عن ان هذا السؤال هل يقارنه
    عدم الايمان ، لا استفهاماً عن وجه السؤال حتى ينتج عتاباً وردعاً .
    والايمان مطلق في كلامه تعالى ، وفيه دلالة على ان الايمان بالله سبحانه لا يتحقق
    مع الشك في أمر الاحياء والبعث ، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالاحياء لأن
    المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إِطلاقه .
    وكذا قوله تعالى حكاية عنه عليه‌السلام : ليطمئن قلبي ، مطلق يدل على كون مطلوبه
    عليه‌السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي
    واعراقه ، فإِن الوهم في إِدراكاتها الجزئية واحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس
    وكان جل أحكامها وتصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض
    عن مطاوعة ما صدقه العقل ، وإِن كانت النفس مؤمنة موقنة به ، كما في الاحكام الكلية



    العقلية الحقة من الامور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإِنها تستنكف عن قبولها
    وان سلمت مقدماتها المنتجة لها ، فتخطر بالبال أحكاماً مناقضة لها ، ثم تثير الاحوال
    النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف ، وان كانت
    النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرها إِلا أذى ، كما ان من بات في
    دار مظلمة فيها جسد ميت فإِنه يعلم : ان الميت جماد من غير شعور وإِرادة فلا يضر
    شيئاً ، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة ان تصور للنفس
    صوراً هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس ، وربما بلغ
    الى حيث يزول العقل أو تفارق النفس .
    فقد ظهر : أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الإيمان والتصديق
    دائماً ، غير أنها تؤذي النفس ، وتسلب السكون والقرار منها ، ولا يزول وجود هذه
    الخواطر إِلا بالحس أو المشاهدة ، ولذلك قيل : إِن للمعاينة أثراً لا يوجد مع العلم ، وقد
    أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور
    غضبه حتى إِذا جاءهم وشاهدهم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس
    أخيه يجره اليه .
    وقد ظهر من هنا ومما مر سابقاً أن ابراهيم عليه‌السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحس
    الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها ، بل انما كان يسأل مشاهدة فعل الله
    سبحانه وأمره في إِحياء الموتى ، وليس ذلك بمحسوس وان كان لا ينفك عن الامر
    المحسوس الذي هو قبول الاجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي ، فهو
    عليه‌السلام انما كان يسأل حق اليقين .
    قوله تعالى : قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن
    جزئاً ثم ادعهن يأتينك سعياً ، صرهن بضم الصاد على إِحدى القرائتين من صار يصور
    إِذا قطع أو امال ، أو بكسر الصاد على القرائة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين ،
    وقرائن الكلام يدل على إِرادة معنى القطع ، وتعديته بإِلى تدل على تضمين معنى
    الإمالة . فالمعنى : اقطعهن مميلاً اليك أو أملهن اليك قاطعاً إِياهن على الخلاف في التضمين
    من حيث التقدير .
    وكيف كان فقوله تعالى : خذ اربعة من الطير « الخ » ، جواب عن ما سأله ابراهيم


    عليه‌السلام بقوله : رب أرني كيف تحيى الموتى ، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب
    للسؤال ، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد
    لا يترتب على وجوده فائدة عائدة الى الغرض المقصود من الكلام وخاصة القرآن الذي
    هو خير كلام القاه خير متكلم الى خير سامع واع ، وليست القصة على تلك البساطة
    التي تترائى منها في بادي النظر ، ولو كان كذلك لتم الجواب بإِحياء ميت ما كيف
    كان ، ولكان الزائد على ذلك لغواً مستغنى عنه وليس كذلك ، ولقد أُخذ فيها قيود
    وخصوصيات زائدة على أصل المعنى ، فاعتبر في ما أُريد إِحيائه أن يكون طيراً ،
    وان يكون حياً ، وان يكون ذا عدد أربعة ، وان يقتل ويخلط ويمزج أجزائها ، وان
    يفرق الاجزاء المختلطة أبعاضاً ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا
    الجبل وذاك الحبل ، وأن يكون الإحياء بيد ابراهيم عليه‌السلام ( نفس السائل ) بدعوته
    إِياهن ، وان يجتمع الجميع عنده .
    فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة ، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود
    افادته ، وقد ذكروا لها وجوهاً من النكات لا تزيد الباحث الا عجباً ( يعلم صحة ما
    ذكرناه بالرجوع الى مفصلات التفاسير ) .
    وكيف كان فهذه الخصوصيات لا بد ان تكون مرتبطة بالسؤال ، والذي يوجد
    في السؤال ـ وهو قوله : رب أرني كيف تحيى الموتى ـ أمران .
    أحدهما : ما اشتمل عليه قوله : تحيي وهو ان المسؤل مشاهدة الإحياء من
    حيث انه وصف لله سبحانه لا من حيث انه وصف لأجزاء المادة الحاملة للحياة .
    وثانيهما : ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإِنه خصوصية زائدة .
    أما الاول : فيرتبط به في الجواب إِجراء هذا الامر بيد ابراهيم نفسه حيث يقول :
    فخذ ، فصرهن ، ثم اجعل ، بصيغة الامر ويقول ثم ادعهن يأتينك ، فإِنه تعالى جعل
    إِتيانهن سعياً وهو الحياة مرتبطاً متفرعاً على الدعوة ، فهذه الدعوة هي السبب الذي
    يفيض عنه حياة ما أُريد إِحيائه ، ولا إِحياء إِلا بأمر الله ، فدعوة ابراهيم إِياهن بأمر
    الله ، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الاحياء ، وعند ذلك
    شاهده ابراهيم ورأى كيفية فيضان الامر بالحياة ، ولو كانت دعوة ابراهيم إِياهن غير



    متصلة بأمر الله الذي هو ان يقول لشيء أراده : كن فيكون ، كمثل أقوالنا غير
    المتصلة إِلا بالتخيل كان هو أيضاً كمثلنا إِذ قلنا لشيء كن فلا يكون ، فلا تأثير جزافي
    في الوجود .
    واما الثاني : فقوله كيف تحيي الموتى تدل على ان لكثرة الاموات وتعددها
    دخلاً في السؤال ، وليس إِلا ان الاجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول
    أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار ، وتصير
    كالاحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا
    محاط في الواقع .
    وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى عليه‌السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما
    حكاه الله تعالى بقوله : « قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا
    يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى » طه ـ 52 .
    وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير ( ولعل اختيار
    الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زماناً ) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها
    وصورها ، ويعرفها معرفة تامة أولاً ، ثم يقتلها ويخلط أجزائها خلطاً دقيقاً ثم يجعل
    ذلك ابعاضاً ، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص ، وتزول المعرفة ،
    ثم يدعوهن يأتينه سعياً ، فإِنه يشاهد حينئذ ان التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك
    تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها ، أي إِن أجسادها تابعة لانفسها لا بالعكس ، فإِن
    البدن فرع تابع للروح لا بالعكس ، بل نسبة البدن إِلى الروح بوجه نسبة الظل إِلى
    الشاخص ، فإِذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإِلى أي حال تحول الشاخص
    أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إِذا انعدم تبعه في الانعدام ، والله سبحانه إِذا أوجد
    حياً من الاحياء ، أو أعاد الحياة إِلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإِنما يتعلق إِيجاده بالروح
    الواجدة للحياة أولاً ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط
    بها علماً فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع وبذلك يشعر قوله تعالى :
    ثم ادعهن يأتينك سعياً أي مسرعات مستعجلات .
    وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى : « وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي


    خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ
    تُرْجَعُونَ » السجدة ـ 11 ، وقد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس ،
    وسيأتي تفصيل الكلام في محله إِنشاء الله .
    فقوله تعالى : فخذ أربعة من الطير انما امر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند
    إِعادة الحياة اليها ولا ينكرها ، وليرى ما هي عليه من الاحتلاف والتميز أولاً وزوالهما
    ثانياً ، وقوله : فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئاً أي اذبحهن وبدد
    أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الاجزاء وهي غير متميزة ،
    وهذا من الشواهد على ان القصة انما وقعت بعد مهاجرة ابراهيم من أرض بابل الى سورية
    فإِن أرض بابل لا جبل بها ، وقوله ثم ادعهن ، أي ادع الطيور يا طاووس ويا فلان
    ويا فلان ، ويمكن ان يستفاد ذلك مضافاً الى دلالة ضمير « هن » الراجعة الى الطيور
    من قوله : ادعهن ، فإِن الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الانسب ان
    يقال : ثم نادهن فإِنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه عليه‌السلام واللفظ المستعمل في
    البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء ، وقوله : يأتينك سعياً ، أي يتجسدن واتصفن
    بالاتيان والاسراع اليك .
    قوله تعالى : واعلم ان الله عزيز حكيم ، أي عزيز لا يفقد شيئاً بزواله عنه ،
    حكيم لا يفعل شيئاً الا من طريقه اللائق به ، فيوجد الاجساد بإِحضار الأرواح
    وايجادها دون العكس .
    وفي قوله تعالى : واعلم ان « الخ » ، دون ان يقال ان الله « الخ » ، دلالة على أن الخطور
    القلبي الذي كان ابراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعاً الى
    حقيقة معنى الاسمين : العزيز الحكيم ، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما .
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:41 pm

    ( بحث روائي )
    في الدر المنثور في قوله تعالى : ألم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه الآية : اخرج
    الطيالسي وابن ابي حاتم عن علي بن ابي طالب قال : الذي حاج ابراهيم في ربه هو
    نمرود بن كنعان .


    وفي تفسير البرهان : أبو علي الطبرسي قال : اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل
    عند كسر الاصنام قبل القائه في النار ، عن مقاتل ، وقيل بعد القائه في النار وجعلها
    عليه برداً وسلاماً ، عن الصادق عليه‌السلام .
    اقول : الآية وان لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها
    بعد الإلقاء في النار ، فإِن قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته اباه
    وقومه وكسره الاصنام تعطي ان اول ما لاقى ابراهيم عليه‌السلام نمرود وكان حين رفع
    امره اليه في قضية كسر الاصنام مجرماً عندهم ، فحكم عليه بالاحراق ، وكان القضاء
    عليه في جرمه شاغلاً عن تكليمه في امر ربه : أهو الله أو نمرود ؟ ولو حاجه نمرود
    حينئذ لحاجه في امر الله وامر الاصنام دون امر الله وامر نفسه !
    وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى : أو كالذي مر
    على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها :
    انها عزير ، الا انها آحاد غير واجبة القبول ، وفي اسانيدها بعض الضعف ، ولا شاهد
    لها من ظاهر الآيات ، والقصة غير مذكورة في التوراة ، والتي في الروايات من القصة
    طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع الى مظانها .
    وفي المعاني عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : واذ قال ابراهيم رب أرني كيف
    تحيي الموتى الآية في حديث قال عليه‌السلام : وهذه آية متشابهة ، ومعناها انه سأل عن
    الكيفية والكيفية من فعل الله عز وجل ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ، ولا عرض
    في توحيده نقص ، الحديث
    اقول : وقد اتضح معنى الحديث مما مر .
    وفي تفسير العياشي عن علي بن اسباط : ان أبا الحسن الرضا عليه‌السلام سئل عن
    قول الله : قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أ كان في قلبه شك قال لا ولكن اراد من الله
    الزيادة ، الحديث .
    اقول : وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح عليهما السلام
    وقد مر بيانه .
    وفي تفسير القمي عن ابيه عن ابن ابي عمير عن ابي أيوب عن ابي بصير عن


    الصادق عليه‌السلام ، قال : ان إِبراهيم نظر الى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر ،
    ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً ، فتعجب إِبراهيم فقال : يا رب
    أرني كيف تحيي الموتى ؟ فقال الله : أولم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال :
    فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئاً ثم ادعهن يأتينك
    سعياً واعلم ان الله عزيز حكيم ، فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ،
    فقال الله عز وجل : فصرهن اليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن ، وفرقهن على عشرة
    جبال ، ثم دعاهن فقال : احيى بإِذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم واحد وعظمه
    إِلى رأسه ، فطارت إِلى ابراهيم ، فعند ذلك قال ابراهيم ان الله عزيز حكيم .
    أقول : وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام ،
    وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس .
    قوله : ان ابراهيم نظر الى جيفة الى قوله فقال : يا رب أرني الخ ، بيان للشبهة
    التي دعته الى السؤال وهي تفرق اجزاء الجسد بعد الموت تفرقاً يؤدي الى تغيرها
    وانتقالها الى امكنة مختلفة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الاصل شيء .
    فان قلت : ظاهر الرواية : ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول ، حيث
    اشتملت على وثوب بعض ، وأكل بعضها بعضاً ، ثم فرعت على ذلك تعجب ابراهيم
    وسؤاله .
    قلت : الشبهة شبهتان ـ احديهما ـ تفرق أجزاء الجسد وفناء اصلها من الصور
    والاعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة ـ وثانيتهما ـ صيرورة أجزاء
    بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي الى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما
    تأمين معاً لان المفروض ان بعض بدن احدهما بعينه بعض لبدن الآخر ، فكل واحد
    منهما اعيد تاماً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الاعادة ، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول .
    وما أجاب الله سبحانه به ـ وهو تبعية البدن للروح ـ وان كان وافياً لدفع
    الشبهتين جميعاً ، الا ان الذي امر به ابراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل
    والمأكول ، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً ، بل انما تشتمل على تفرق الاجزاء واختلاطها
    وتغير صورها وحالاتها ، وهذه مادة الشبهة الاولى ، فالآية انما تتعرض لدفعها وان



    كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اجيب به في الآية كما مر ، وما اشتملت عليه
    الرواية من اكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية .
    قوله عليه‌السلام فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ، وفي بعض الروايات
    ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك ، رواه الصدوق في العيون عن
    الرضا عليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد ، وفي بعضها انها الهدهد
    والصرد والطاووس والغراب ، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق عليه‌السلام وفي
    بعضها : انها النعامة والطاووس والوزة والديك ، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ
    عن الباقر عليه‌السلام ونقل عن ابن عباس ، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس أيضاً :
    انها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة ، والذي تشترك فيه جميع الروايات والاقوال :
    الطاووس .
    قوله عليه‌السلام : وفرقهن على عشرة جبال ، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه
    الاخبار المأثورة عن ائمة اهل البيت وقيل انها كانت اربعة وقيل سبعة .
    وفي العيون مسنداً عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده
    الرضا علي بن موسى فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك : ان الانبياء
    معصومون ؟ قال : بلى فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله ان قال له فأخبرني
    عن قول الله : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ـ ولكن ليطمئن قلبي ،
    قال الرضا : ان الله تبارك وتعالى كان أوحى الى ابراهيم : اني متخذ من عبادي خليلا
    ان سألني احياء الموتى اجبته فوقع في قلب ابراهيم انه ذلك الخليل فقال : رب أرني
    كيف تحيي الموتى ؟ قال أولم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمأن قلبي بالخلة ، الحديث .
    اقول : وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه
    الرواية التي رواها عن الرضا عليه‌السلام فارجع .
    واعلم : ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على ان مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء ،
    واللفظ يساعد عليه فإِن الخلة هي الحاجة ، والخليل انما يسمى خليلاً لان الصداقة اذا
    كملت رفع الصديق حوائجة الى صديقه ، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء .

      
    مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ
    فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ـ 261 .
    الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ
    أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ـ 262 . قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
    وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ـ 263 . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
    لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ
    بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
    صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ـ 264 ـ
    وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ
    جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ
    وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ 265 . أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
    وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
    ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
    لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ـ 266 . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
    وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم
    بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ـ 267 . الشَّيْطَانُ
    يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ



    وَاسِعٌ عَلِيمٌ ـ 268 . يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا
    كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ـ 269 . وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ
    نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ـ 270 . إِن تُبْدُوا
    الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ
    عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ـ 271 . لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
    وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا
    ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ـ 272 .
    لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ
    الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا
    تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ـ 273 . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ
    وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
    يَحْزَنُونَ ـ 274 .
    ( بيان )
    سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان امر الانفاق ، ورجوع مضامينها واغراضها
    بعضها إِلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة ، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في
    سبيل الله تعالى ، فتضرب اولاً مثلاً لزيادته ونموه عند الله سبحانه : واحد بسبعمائة ،
    وربما زاد على ذلك بإِذن الله ، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال
    وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله ، وانه لا ينمو
    نمائاً ولا يثمر أثراً ، وتنهي عن الإنفاق بالمن والأذى اذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم
    اجره ، ثم تأمر بأن يكون الإنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلاً وشحاً ، ثم تعين


    المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله ، ثم تذكر
    ما لهذا الانفاق من عظيم الأجر عند الله .
    وبالجملة الآيات تدعو إِلى الإنفاق ، وتبين أولاً وجهه وغرضه وهو ان يكون لله
    لا للناس ، وثانياً صورة عمله وكيفيته وهو ان لا يتعقبه المن والأذى ، وثالثاً وصف
    مال الإنفاق وهو ان يكون طيباً لا خبيثاً ، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو ان يكون
    فقيراً احصر في سبيل الله ، وخامساً ما له من عظيم الاجر عاجلاً وآجلاً .
    ( كلام في الانفاق )
    الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد
    توسل اليه بأنحاء التوسل ايجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية
    وأقسام الفدية والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة ، ومن طريق الوقف والسكنى
    والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك .
    وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج
    الحياة من غير إِمداد مالي من غيرهم ، ليقرب افقهم من افق اهل النعمة والثروة ، ومن
    جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما
    لا يقرب من المعروف ولا تناله ايدي النمط الاوسط من الناس ، بالنهي عن الاسراف
    والتبذير ونحو ذلك .
    وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الاجزاء متشابهة
    الابعاض ، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة ، وتميت الارادات المتضادة واضغان القلوب
    ومنابت الاحقاد ، فإِن القرآن يرى ان شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤنها ،
    وترتيبها ترتيباً يتضمن سعادة الانسان في العاجل والآجل ، ويعيش به الانسان في
    معارف حقة ، واخلاق فاضلة ، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في
    الدنيا ، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة .
    ولا يتم ذلك إِلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها ، ولا يكون
    ذلك إِلا بإِصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة ، ولا يكمل ذلك إِلا بالجهات



    المالية والثروة والقنية ، والطريق إِلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق
    الجبين ، فإِنما المؤمنون إِخوة ، والارض لله ، والمال ماله .
    وهذه حقيقة اثبتت السيرة النبوية على سائرها افضل التحية صحتها واستقامتها
    في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه‌السلام ونفوذ امره .
    وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنون علي عليه‌السلام اذ يقول :
    وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إِلا إِدباراً ، والشر فيه إِلا اقبالاً ، والشيطان في
    هلاك الناس إِلا طمعاً ، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته ـ وأمكنت فريسته ،
    اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إِلا فقيراً يكابد فقراً ؟ أو غنياً بدل نعمة الله
    كفراً ؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كأن باذنه عن سمع المواعظ
    وقراً ؟ ( نهج البلاغة ) .
    وقد كشف توالي الايام عن صدق القرآن في نظريته هذه ـ وهي تقريب الطبقات
    بإِمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال ـ حيث ان الناس
    بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد الى الارض ، والافراط في استقصاء
    المشتهيات الحيوانية . واستيفاء الهوسات النفسانية ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ،
    فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على ابواب اولي القوة والثروة ، ولم
    يبق بأيدي النمط الاسفل الا الحرمان ، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتى
    تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الاكثرين وهم سواد
    الناس ، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين ، كل يعمل على شاكلته لا يبقي
    ولا يذر ، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين ، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين ،
    والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد ، ونشبت الحرب العالمية
    الكبرى ، وظهرت الشيوعية ، وهجرت الحقيقة والفضيلة ، وارتحلت السكن والطمأنينة
    وطيب الحياة من بين النوع ، وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني ، وما يهدد
    النوع بما يستقبله أعظم وأفظع .
    ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح ابواب الرباء الذي
    سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق ،


    ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم ، وقد كان جنيناً أيام
    نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الايام .
    وإِن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إِذ قال :
    « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ
    الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا
    مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ
    النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
    لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إِلى ان قال ـ : فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
    وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا
    لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ
    هُمُ الْمُضْعِفُونَ ـ إِلى أن قال ـ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
    إِلى ان قال ـ : لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم
    مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
    الآيات » الروم 30 ـ 43 ، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والانبياء وغيرها
    تنبىء عن هذا الشأن ، سيأتي بيانها إِنشاء الله .
    وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحث
    الشديد والتأكيد البالغ في أمره .
    قوله تعالى : مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة « الخ » ، المراد بسبيل الله
    كل أمر ينتهي إِلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله ، فإِن الكلمة في الآية
    مطلقة ، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله ، وكانت كلمة ،
    في سبيل الله ، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات ، فإِن ذلك لا يوجب التخصيص
    وهو ظاهر .
    وقد ذكروا أن قوله تعالى : كمثل حبة أنبتت « الخ » ، على تقدير قولنا كمثل من
    زرع حبة أنبتت « الخ » فإِن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أُنفق في سبيل

    ( 2 ـ الميزان ـ 25 )


    الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر .
    وهذا الكلام وإِن كان وجيهاً في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإِن جل
    الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى :
    « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً » البقرة ـ 171 ، فإِنه
    مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار ، وقوله تعالى : « إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ
    الآية » يونس ـ 24 ، وقوله تعالى : « مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ » النور ـ 35 ، وقوله
    تعالى في الآيات التالية لهذه الآية : فمثله كمثل صفوان الآية : وقوله تعالى : مثل الذين
    ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إِلى غير ذلك
    من الموارد الكثيرة .
    وهذه الامثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل
    الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز .
    توضيحه : أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لاخرى في جهاتها
    يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها الى كمال تصور الممثل كقولهم : لا ناقة لي
    ولا جمل ، وقولهم : في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل
    تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح ، ولذا قيل : إِن الامثال لا تتغير ،
    وكقولنا : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع
    سنابل في كل سنبلة مأة حبة ، وهي قصة مفروضة خيالية .
    والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل
    ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى : « وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ »
    الآية إِبراهيم ـ 26 ، وقوله تعالى : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
    الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا » الجمعة ـ 5 ، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل
    وهو الذي نسميه مادة التمثيل ، وإِنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال
    الاخير ( مثال الانفاق والحبة ) فإِن مادة التمثيل إِنما هي الحبة المنبتة لسبعمأة حبة
    وإِنما ضممنا إِليها الذي زرع لتتميم القصة .
    وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإِنه وضع على ما هو عليه ،


    وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإِنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت
    موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك ، على ما فيه من تنشيط ذهن
    السامع بفقده أمراً ووجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه ، فهو هو بوجه وليس
    به بوجه ، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن .
    قوله تعالى : أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة ، السنبل معروف وهو
    على فنعل ، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لانه يستر الحبات التي تشتمل عليها
    في الأغلفة .
    ومن اسخف الإشكال ما أُورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو
    اشتمال السنبلة على مأة حبة ، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في
    الخارج فالامثال التخيلية اكثر من ان تعد وتحصى ، على ان اشتمال السنبلة على مأة حبة
    وإِنبات الحبة الواحدة سبعمأة حبة ليس بعزيز الوجود .
    قوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ، أي يزيد على سبعمأة لمن
    يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى : « مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
    اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً » البقرة ـ 245 ، فأطلق الكثرة ولم يقيدها
    بعدد معين .
    وقيل : إِن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة الى سبعمأة
    ضعف غاية ما تدل عليه الآية ، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل ، وحق الكلام
    فيه حينئذ ان يصدر بإِن كقوله تعالى : « اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
    وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ » المؤمن ـ 61 ، وأمثال ذلك .
    ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة
    وهو كذلك والاعتبار يساعده ، فالمنفق بشيء من ماله وإِن كان يخطر بباله ابتدائاً
    أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلاً ، لكنه لو تأمل قليلاً وجد أن المجتمع الانساني
    بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الاسماء والاشكال لكنها جميعاً متحدة
    في غرض الحياة ، مرتبطة من حيث الاثر والفائدة ، فإِذا فقد واحد منها نعمة الصحة
    والاستقامة ، وعّى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها ، وخسرانها في أغراضها



    فالعين واليد وإِن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً ، لكن الخلقة إِنما
    جهز الانسان بالبصر ليميز به الاشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب
    أن يجلبه الانسان لنفسه ، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه ، فإِذا سقطت اليد عن
    التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر اعضائه فيقاسي
    أولاً كداً وتعباً لا يتحمل عادة ، وينقص من أفعال سائر الاعضاء بمقدار ما يستعملها
    في موضع العضو الساقط عن التأثير ، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره
    لبعض الاعضاء الاخر كان في ذلك إِصلاح حال الجميع ، وعاد اليه من الفائدة الحقيقية
    أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربما زاد على المآت والالوف بما يورث من إِصلاح
    حال الغير ، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه ، وإِيجاد المحبة في قلبه ،
    وحسن الذكر في لسانه ، والنشاط في عمله ، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إِلى
    المنفق لا محالة ، ولا سيما إِذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو
    ذلك ، فهذا حال الانفاق .
    وإِذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه
    من غير تخلف ، فإِن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إِلا لفائدة عائدة الى نفس
    المنفق كإِنفاق الغني للفقير لدفع شره ، أو إِنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته
    ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه ، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار
    منه لنفع نفسه ، ربما أورث في نفس الفقير أثراً سيئاً ، وربما تراكمت الآثار وظهرت
    فكانت بلوى ، لكن الانفاق الذي لا يراد به إِلا وجه الله ولا يبتغي فيه إِلا مرضاته
    خال عن هذه النواقص لا يؤثر إِلا الجميل ولا يتعقبه إِلا الخير .
    قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا
    أذى « الخ » ، الاتباع اللحوق والالحاق ، قال تعالى : « فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ » الشعراء ـ 60 ،
    أي لحقوهم ، وقال تعالى : « وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً » القصص ـ 42 ، أي ألحقناهم .
    والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه : أنعمت عليك بكذا وكذا
    ونحو ذلك ، والاصل في معناه على ما قيل القطع ، ومنه قوله تعالى : « لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
    مَمْنُونٍ » فصلت ـ 8 ، أي غير مقطوع ، والاذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير ،
    والخوف توقع الضرر ، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع .

    قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة « الخ » المعروف من القول ما
    لا ينكره الناس بحسب العادة ، ويختلف باختلاف الموارد ، والاصل في معنى المغفرة
    هو الستر ، والغنى مقابل الحاجة والفقر ، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل .
    وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد
    بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إِذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول
    عنه ، والستر والصفح إِذا شفع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى ، فإِن
    أذى المنفِق للمنفَق عليه يدل على عظم إِنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه ، وتأثره عما
    يسوئه من السؤال ، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن ، فإِن المؤمن متخلق
    بأخلاق الله ، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به ، حليم لا يتعجل في
    المؤاخذة على السيئة ، ولا يغضب عند كل جهالة ، وهذا معنى ختم الآية بقوله : والله
    غني حليم .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم « الخ » ، تدل الآية على حبط
    الصدقة بلحوق المن والأذى ، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة
    لما يسبقها من الطاعات ، ولا دلالة في الآية على غير المن والأذى بالنسبة الى الصدقة
    وقد تقدم إِشباع الكلام في الحبط .
    قوله تعالى : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لما كان
    الخطاب للمؤمنين ، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لانه لا يقصد بأعماله وجه
    الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والأذى ، بل انما شبّه المتصدق الذي يتبع
    صدقته بالمن والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة ، مع أن عمل المرائي باطل من رأس
    وعمل المانّ والمؤذي وقع أولاً صحيحاً ثم عرضه البطلان .
    واتحاد سياق الافعال في قوله : ينفق ماله ، وقوله : ولا يؤمن من دون أن يقال :
    ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم ايمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم
    ايمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو اليها الله سبحانه ، ويعد عليه جزيل الثواب ، اذ لو
    كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه ، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه
    الله ، وأحب واختار جزيل الثواب ، ولم يقصد به رئاء الناس ، فليس المراد من عدم
    ايمان المرائي عدم ايمانه بالله سبحانه رأساً .


    ويظهر من الآية : ان الرياء في عمل يستلزم عدم الايمان بالله واليوم الآخر فيه ،
    قوله تعالى : فمثله كمثل صفوان عليه تراب الى آخر الآية ، الضمير في قوله : فمثله راجع
    الى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له ، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا
    الصلد ، والوابل : المطر الغزير الشديد الوقع .
    والضمير في قوله : لا يقدرون راجع الى الذي ينفق رئائاً لأنه في معنى الجمع ،
    والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به ، وقوله تعالى : والله لا يهدي
    القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام وهو ان المرائي في ريائه من مصاديق الكافر ،
    والله لا يهدي القوم الكافرين ، ولذلك أفاد معنى التعليل .
    وخلاصة معنى المثل : أن حال المرائي في إِنفاقه رئائاً وفي ترتب الثواب عليه
    كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إِذا أنزل عليه وابل المطر ، فإِن المطر
    وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزينها بزينة النبات ، إِلا أن
    التراب إِذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل
    ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء ، ولا يتربى فيه بذر لنبات ، فالوابل وإِن كان من
    أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلداً يبطل عمل هذين
    السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد .
    وهذا حال المرائي فإِنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإِن
    كان العمل كالانفاق في سبيل الله من الاسباب البارزة لترتب الثواب ، فإِنه مسلوب
    الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة .
    وقد ظهر من الآية : أن قبول العمل يحتاج الى نية الاخلاص وقصد وجه الله ،
    وقد روى الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قال : إِنما الاعمال بالنيات .
    قوله تعالى : مثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من انفسهم ،
    ابتغاء المرضات هو طلب الرضاء ، ويعود إِلى ارادة وجه الله ، فإِن وجه الشيء هو ما
    يواجهك ويستقبلك به ، ووجهه تعالى بالنسبة الى عبده الذي امره بشيء واراده منه
    هو رضائه عن فعله وامتثاله ، فإِن الآمر يستقبل المأمور اولاً بالامر فإِذا امتثل استقبله
    بالرضاء عنه ، فمرضات الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه اليه ، فابتغاء مرضاة


    الله هو ارادة وجهه عز وجل .
    واما قوله : وتثبيتاً من انفسهم فقد قيل : إِن المراد التصديق واليقين . وقيل :
    هو التثبت اي يتثبتون اين يضعون اموالهم ، وقيل : هو التثبت في الانفاق فإِن كان
    لله امضى ، وان كان خالطه شيء من الرياء امسك ، وقيل : التثبيت توطين النفس على
    طاعة الله تعالى ، وقيل : هو تمكين النفس في منازل الايمان بتعويدها على بذل المال
    لوجه الله . وانت خبير بأن شيئاً من الاقوال لا ينطبق على الآية إِلا بتكلف .
    والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ في المقام : هو ان الله سبحانه لما اطلق
    القول اولاً في مدح الانفاق في سبيل الله ، وان له عند الله عظيم الاجر اعترضه ان
    استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه ، ولا يترتب عليهما الثواب ، وهما
    الانفاق ريائاً الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه من أو اذى فإِنه
    يبطل بهما وان انعقد اولا صحيحاً ، وليس يعرض البطلان . لهذين النوعين الا من جهة
    عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس ، أو لزوال النفس عن هذه النية اعني ابتغاء
    المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها اولاً ، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل
    الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين واهل المن والاذى ، وهم الذين ينفقون أموالهم
    ابتغاء وجه الله ثم يقرون انفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير ان
    يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده .
    ومن هنا يظهر ان المراد بابتغاء مرضاة الله ان لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما
    يجعل النية غير خالصة لوجه الله ، وبقوله تثبيتاً من انفسهم تثبيت الانسان نفسه على
    ما نواه من النية الخالصة ، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس . فقوله تثبيتاً
    تميز وكلمة من نشوية وقوله انفسهم في معنى الفاعل ، وما في معنى المفعول مقدر .
    والتقدير تثبيتاً من انفسهم لانفسهم ، او مفعول مطلق لفعل من مادته .
    قوله تعالى : كمثل جنة بربوة اصابها وابل الى آخر الآية ، الاصل في مادة ربا
    الزيادة ، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الارض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها ،
    والاكل بضمتين ما يؤكل من الشيء والواحدة أُكلة ، والطل اضعف المطر القليل الأثر .
    والغرض من المثل ان الانفاق الذي أُريد به وجه الله لا يتخلف عن اثرها الحسن



    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:42 pm

    البتة ، فإِن العناية الالهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وان كانت
    مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص ، واختلاف وزن الاعمال
    باختلافها ، كما ان الجنة التي في الربوة إِذا أصابها المطر لم تلبث دون ان تؤتي أُكلها ايتائاً
    جيداً البتة وإِن كان إِيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل .
    ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله : والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه
    عليه امر الثواب ، ولا يختلط عليه ثواب الاعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب
    ذاك لهذا .
    قوله تعالى : أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل واعناب « الخ » ، الود هو
    الحب وفيه معنى التمني ، والجنة : الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لانها
    تجن الارض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه ، ولذلك صح ان يقال : تجري
    من تحتها الانهار ، ولو كانت هي الارض بما لها من الشجر مثلاً لم يصح ذلك لافادته
    خلاف المقصود ، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الارض المعمورة : « رَبْوَةٍ ذَاتِ
    قَرَارٍ وَمَعِينٍ » المؤمنون ـ 50 ، وكرر في كلامه قوله : جنات تجري من تحتها الانهار
    فجعل المعين ( وهو الماء ) فيها لا جارياً تحتها .
    ومن في قوله : من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب ،
    فإِن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إِنما يضاف إِلى الجنس الغالب فيقال جنة
    العنب أو جنة من أعناب إِذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى ،
    ولذلك قال تعالى ثانياً : له فيها من كل الثمرات .
    والكبر كبر السن وهو الشيخوخة ، والذرية الاولاد ، والضعفاء جمع الضعيف ،
    وقد جمع تعالى في المثل بين إِصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة
    القطعية إِلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الاسباب التي يتوصل اليها في حفظ سعادة
    الحياة وتأمين المعيشة ، فإِن صاحب الجنة لو فرض شاباً قوياً لأمكنه ان يستريح إِلى
    قوة يمينه لو أُصيبت جنته بمصيبة ، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرية ضعفاء لم يسؤ
    حاله تلك المسائة لانه لا يرى لنفسه إِلا أياماً قلائل لا يبطيء عليه زوالها وانقضائها ،
    ولو فرض ذا كبر وله اولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة امكنهم ان
    يقتاتوا بما يكتسبونه ، وان يستغنوا عنها بوجه ! لكن إِذا اجتمع هناك الكبر والذرية


    الضعفاء ، واحترقت الجنة انقطعت الاسباب عنهم عند ذلك ، فلا صاحب الجنة يمكنه
    ان يعيد لنفسه الشباب والقوة أو الايام الخالية حتى يهيىء لنفسه نظير ما كان قد
    هيأها ، ولا لذريته قوة على ذلك ، ولا لهم رجاء ان ترجع الجنة بعد الاحتراق إِلى
    ما كانت عليه من النضارة والاثمار .
    والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والارض كما يلتف الثوب على
    نفسه عند العصر .
    وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا وأذى فيحبط عملهم
    ولا سبيل لهم إِلى إِعادة العمل الباطل إِلى حال صحته واستقامته ، وانطباق المثل على
    الممثل ظاهر ، ورجا منهم التفكر لان امثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال انما تصدر
    من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح ، لا تدع
    للانسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار ، ولو تفكروا لتبصروا .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم الخ ، التيمم هو القصد
    والتعمد ، والخبيث ضد الطيب ، وقوله : منه ، متعلق بالخبيث ، وقوله : تنفقون
    حال من فاعل لا تيمموا ، وقوله : ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون ، وعامله
    الفعل ، وقوله ان تغمضوا فيه في تأويل المصدر ، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إِلا
    لإِغماضكم فيه ، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إِلا بمصاحبة الاغماض .
    ومعنى الآية ظاهر ، وإِنما بين تعالى كيفية مال الانفاق ، وانه ينبغي ان يكون
    من طيّب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إِلا بإِغماض ، فإِنه لا يتصف بوصف
    الجود والسخاء ، بل يتصور بصورة التخلص ، فلا يفيد حباً للصنيعة والمعروف ولا
    كمالاً للنفس ، ولذلك ختمها بقوله : واعلموا ان الله غني حميد أي راقبوا في إِنفاقكم
    غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إِنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال ، أو انه غني
    محمود لا ينبغي ان تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله .
    قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء إِقامة للحجة على ان اختيار
    خبيث المال للانفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإِنه خير لهم ، ففي
    النهي مصلحة أمرهم كما ن في المنهي عنه مفسدة لهم ، وليس إِمساكهم عن انفاق طيب



    المال وبذله إِلا لما يرونه مؤثراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام إِلى
    بذله بخلاف خبيثه فإِنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإِنفاقه ، وهذا من تسويل الشيطان
    يخوّف أوليائه من الفقر ، مع ان البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله وابتغاء
    مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر ، مع ان الذي يغني
    ويقني هو الله سبحانه دون المال ، قال تعالى : « وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ » النجم ـ 48 .
    وبالجملة لما كان إِمساكهم عن بذل طيب المال خوفاً من الفقر خطأ نبه عليه
    بقوله : الشيطان يعدكم الفقر ، غير انه وضع السبب موضع المسبب ، أعني انه وضع
    وعد الشيطان موضع خوف انفسهم ليدل على انه خوف مضر لهم فإِن الشيطان لا
    يأمر إِلا بالباطل والضلال إِما ابتدائاً ومن غير واسطة ، وإِما بالآخرة وبواسطة ما يظهر
    منه انه حق .
    ولما كان من الممكن ان يتوهم ان هذا الخوف حق وإِن كان من ناحية الشيطان
    دفع ذلك بإِتباع قوله : الشيطان يعدكم الفقر بقوله : ويأمركم بالفحشاء أولاً ، فإِن هذا
    الامساك والتثاقل منهم يهيىء في نفوسهم ملكة الامساك وسجية البخل ، فيؤدي إِلى
    ردّ أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم ، ويؤدي إِلى إِلقاء أرباب الحاجة
    في تهلكة الاعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الاعراض وكل
    جناية وفحشاء ، قال تعالى : « وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ
    مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ
    يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ إِلى ان قال : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
    الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ
    اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » التوبة ـ 79 .
    ثم بإِتباعه بقوله : والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم ثانياً ، فإِن الله
    قد بين للمؤمنين : ان هناك حقاً وضلالاً لا ثالث لهما ، وان الحق وهو الطريق المستقيم
    هو من الله سبحانه ، وان الضلال من الشيطان ، قال تعالى : « فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
    الضَّلَالُ » يونس ـ 32 ، وقال تعالى : « قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ » يونس ـ 35 ، وقال
    تعالى في الشيطان : « إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ » القصص ـ 15 ، والآيات جميعاً مكية ،
    وبالجملة نبه تعالى بقوله : والله يعدكم ، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف


    ضلال من الفكر فإِن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة انما هما في البذل
    من طيبات المال .
    فقوله تعالى : والله يعدكم « الخ » ، نظير قوله : الشيطان يعدكم « الخ » ، من
    قبيل وضع السبب موضع المسبب ، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم
    ووعد الشيطان ، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو اصلح لبالهم منهما .
    فحاصل حجة الآية : ان اختياركم الخبيث على الطيب انما هو لخوف الفقر ،
    والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق ، أما خوف الفقر فهو القاء ، شيطاني ، ولا يريد الشيطان
    بكم الا الضلال والفحشاء فلا يجوز ان تتبعوه ، واما ما يستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة
    والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة ، وهو استتباع بالحق لان الذي يعدكم
    استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق ، وهو واسع يسعه
    ان يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شيء فوعده
    وعد عن علم .
    قوله تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ، الايتاء هو الاعطاء ، والحكمة بكسر الحاء
    على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الامر
    المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور ، وغلب استعماله في المعلومات العقلية
    الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة .
    والجملة تدل على ان البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما
    يستتبعه من الاثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة ، فالحكمة هي القضايا
    الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الالهية
    في المبدأ والمعاد ، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة
    الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية .
    قوله تعالى : ومن يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً ، المعنى ظاهر ، وقد أُبهم
    فاعل الايتاء مع ان الجملة السابقة عليه تدل على انه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام
    على ان الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير ، لا من جهة
    انتساب اتيانه اليه تعالى ، فإِن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإِيتاء المال ،



    قال تعالى في قارون « وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِلى
    آخر الآيات » القصص ـ 76 ، وانما نسب اليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً ، مع ما
    عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الامر لان الامر مختوم بعناية الله وتوفيقه ، وامر
    السعادة مراعي بالعاقبة والخاتمة .
    قوله تعالى : وما يذّكر إِلا أُولوا الالباب ، اللب هو العقل لانه في الانسان
    بمنزلة اللب من القشر ، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن ، وكأن لفظ العقل بمعناه
    المعروف اليوم من الاسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإِنما استعمل
    منه الافعال مثل يعقلون .
    والتذكر هو الانتقال من النتيجة الى مقدماتها ، أو من الشيء الى نتائجها ،
    والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر ، وأن التذكر يتوقف على العقل ،
    فلا حكمة لمن لا عقل له . وقد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك
    المستعملة في القرآن الكريم .
    قوله تعالى : وما تنفقوا من نفقة أو نذرتم من نذر فإِن الله يعلمه ، أي ما دعاكم
    الله سبحانه اليه أو دعوتم أنفسكم اليه بإِيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله
    يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلم ، ففيه إِيماء الى التهديد ، ويؤكده قوله تعالى : وما
    للظالمين من أنصار .
    وفي هذه الجملة أعني قوله : وما للظالمين من أنصار ، دلالة اولاً : على أن المراد
    بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الانفاق عليهم ، وحبس حقوقهم
    المالية ، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإِن في مطلق المعصية أنصاراً ومكفرات وشفعاء
    كالتوبة ، والاجتناب عن الكبائر ، وشفعاء يوم القيامة إِذا كان من حقوق الله تعالى ،
    قال تعالى : « لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الى ان قال : وَأَنِيبُوا إِلَىٰ
    رَبِّكُمْ » الزمر ـ 54 ، وقال تعالى : « إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ
    سَيِّئَاتِكُمْ » النساء ـ 31 ، وقال تعالى : « وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ » الانبياء ـ 28 ،
    ومن هنا يظهر : وجه اتيان الانصار بصيغة الجمع فإِن في مورد مطلق الظلم أنصاراً .
    وثانياً : أن هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر


    لقبله فهو من الكبائر ، وأنه لا يقبل التوبة ، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات : أن
    التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إِلا برد الحق الى مستحقه ، وأنه لا يقبل الشفاعة
    يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى : « إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ
    الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ إِلى أن قال :
    فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ » المدثر ـ 48 .
    وثالثاً : أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله اذ لا شفاعة إِلا لمن ارتضى الله دينه
    كما مر بيانه في بحث الشفاعة ، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى : ينفقون أموالهم
    ابتغاء مرضاة الله ، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله .
    ورابعاً : أن الامتناع من أصل انفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم
    من الكبائر الموبقة ، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً
    بالآخرة ، قال تعالى : « وَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ »
    فصلت ـ 7 ، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها .
    قوله تعالى : إِن تبدوا الصدقات فنعما هي « الخ » ، الابداء هو الاظهار ،
    والصدقات جمع صدقة ، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب
    وربما يقال : إِن الاصل في معناها الانفاق المندوب .
    وقد مدح الله سبحانه كلاً من شقى الترديد ، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار
    صالحة ، فأما اظهار الصدقة فإِن فيه دعوة عملية الى المعروف ، وتشويقاً للناس الى
    البذل والانفاق ، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن المجتمع رجالاً
    رحماء بحالهم ، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم ، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي الى
    زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم ، وحصول النشاط لهم في أعمالهم ، واعتقاد وحدة
    العمل والكسب بينهم وبين الاغنياء المثرين ، وفي ذلك كل الخير ، وأما اخفائها فإِنه
    حينئذ يكون أبعد من الرياء والمن والأذى ، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي
    والمذلة ، وصون لماء وجوههم عن الابتذال ، وكلائة لظاهر كرامتهم ، فصدقة العلن
    أكثر نتاجاً ، وصدقة السر أخلص طهارة .
    ولما كان بناء الدين على الاخلاص وكان العمل كلما قرب من الاخلاص كان أقرب



    من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال : وان تخفوها وتعطوها الفقراء فهو
    خير لكم فإِن كلمة خير أفعل التفضيل ، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطىء في
    تمييز الخير من غيره ، وهو قوله تعالى : والله بما تعملون خبير .
    قوله تعالى : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ، في الكلام التفات
    عن خطاب المؤمنين إِلى خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأن ما كان يشاهده رسول الله
    صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمن
    والأذى والتثاقل في إِنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه
    الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الايمان الموجود فيهم والهدى
    الذي لهم إِنما هو إِلى الله تعالى يهدي من يشاء إِلى الايمان وإلى درجاته ، وليس يستند
    إِلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه ، ويشفق من زواله أو ضعفه ،
    أو يسوئه ما آل إِليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة .
    والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى : ، هداهم ، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر
    في تحقق التلبس . على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إِلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإِسناده
    إِلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه .
    فالجملة أعني قوله : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة
    اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه صلى الله
    عليه وآله ، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى : « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
    إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ الآيات » القيٰمة ـ 17 . فلما تم الاعتراض عاد إِلى الأصل في
    الكلام من خطاب المؤمنين .
    قوله تعالى : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إِلا ابتغاء وجه الله « إِلى آخر
    الآية » رجوع إِلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنن والتغيظ
    معاً ، فإِن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى : ولكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى .
    فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع
    بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع ، وإِنما يعود نفعه إِلى المدعوين ، فما تنفقوا من خير
    فلأنفسكم لكن لا مطلقاً بل في حال لا تنفقون إِلا ابتغاء وجه الله ، فقوله : ولا تنفقون
    إِلا ابتغاء وجه الله حال ، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله :


    فلأنفسكم .
    ولما أمكن ان يتوهم ان هذا النفع العائد الى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا
    مسمى له في الخارج ، وليس حقيقته إِلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله : وما
    تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون ، فبين ان نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما
    يترتب عليه من مثوبة الدنيا والآخرة ليس امراً وهمياً ، بل هو أمر حقيقي واقعي
    سيوفيه الله تعالى اليكم من غير ان يظلكم بفقد أو نقص .
    وإِبهام الفاعل في قوله : يوف اليكم ، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي ،
    ذكر الفاعل ليكون الكلام ابلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام
    لا متكلم له ، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير .
    قوله تعالى : للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله الى آخر الآية ، الحصر هو
    المنع والحبس ، والأصل في معناه التضييق ، قال الراغب في المفردات : والحصر
    والاحصار المنع من طريق البيت ، فالاحصار يقال : في المنع الظاهر كالعدو ، والمنع
    الباطن كالمرض ، والحصر لا يقال ، إِلا في المنع الباطن ، فقوله تعالى : فإِن أُحصرتم
    فمحمول على الأمرين وكذلك قوله : للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله ، وقوله عز
    وجل : أو جائوكم حصرت صدورهم ، أي ضاقت بالبخل والجبن ، انتهى . والتعفف التلبس
    بالعفة ، والسيماء العلامة ، والالحاف هو الالحاح في السؤال .
    وفي الآية بيان مصرف الصدقات ، وهو أفضل المصرف ، وهم الفقراء الذين
    منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل واسباب إِلى ذلك : اما عدو اخذ ما لهم
    من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج الى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما
    لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك .
    وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل اي الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف دلالة على
    انهم غير متظاهرين بالفقر إِلا ما لا سبيل لهم الى ستره من علائم الفقر والمسكنة من
    بشرة أو لباس خلق أو نحوهما .
    ومن هنا يظهر : ان المراد بقوله : لا يسألون الناس إِلحافاً انهم لا يسألون الناس
    اصلاً حتى ينجر إِلى الالحاف والاصرار في السؤال ، فإِن السؤال أول مره يجوز للنفس



    الجزع من مرارة الفقر فيسرع اليها ان لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف ، والالحاف
    على كل أحد ، كذا قيل ، ولا يبعد ان يكون المراد نفى الالحاف لا اصل السؤال ،
    ويكون المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إِظهار الحاجة ، فإِن مسمى
    الاظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجباً ، والزائد عليه وهو الالحاف
    هو المذموم .
    وفي قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم دون ان يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ
    لسترهم الذي تستروا به تعففاً من الانهتاك فإِن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا
    يخلو من هو ان امرهم وظهور ذلهم . وأما معرفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحالهم بتوسمه من
    سيماهم ، وهو نبيهم المبعوث اليهم الرؤف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم ، ولا
    ذهاب كرامتهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إِلى
    خطاب المفرد .
    قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار إِلى آخر الآية ، السر والعلانية
    متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين ، واستيفاء الازمنة والاحوال
    في الانفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإِمعانهم في ابتغاء
    مرضاة الله ، وإِرادة وجهه ، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعداً حسناً بلسان
    الرأفة والتلطف فقال : لهم أجرهم عند ربهم الخ .
    ( بحث روائي )
    في الدر المنثور في قوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء الآية ، اخرج ابن ماجه
    عن الحسن بن علي بن أبي طالب وابي الدرداء وابي هريرة وابي امامة الباهلي وعبد الله
    ابن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله انه قال : ح ،
    واخرج ابن ماجه وابن ابي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ارسل
    بنفقة في سبيل الله واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في
    سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه
    الآية : والله يضاعف لمن يشاء .

    وفي تفسير العياشي ورواه البرقي ايضاً عن الصادق عليه‌السلام : إِذا احسن المؤمن
    عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله : والله يضاعف
    لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله .
    وفي تفسير العياشي عن عمر بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إِذا
    احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله : والله
    يضاعف لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله ، قلت : وما الاحسان ؟
    قال : إِذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك ، وإِذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك ،
    وإِذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك وعمرتك ، قال : وكل عمل تعمله
    فليكن نقياً من الدنس .
    وفيه عن حمران عن ابي جعفر عليه السلام قال : قلت له : أرأيت المؤمن له
    فضل على المسلم في شيء من المواريث والقضايا والاحكام حتى يكون للمؤمن اكثر مما
    يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك ؟ قال : لا هما يجريان في ذلك مجرى واحداً إِذا
    حكم الامام عليهما ، ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في اعمالهما ، قال : فقلت : أليس الله
    يقول : من جاء بالحسنة فله عشر : امثالها ، وزعمت انهم مجتمعون على الصلاة والزكاة
    والصوم والحج مع المؤمن ؟ قال : فقال : أليس الله قد قال : والله يضاعف لمن يشاء
    اضعافاً كثيرة ؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات ، لكل حسنة سبعين ضعفاً ،
    فهذا من فضيلتهم ، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة ايمانه أضعافاً مضاعفة
    كثيرة ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء .
    اقول : وفي هذا المعنى اخبار أُخر وهي مبتنية جميعاً على الاخذ بإِطلاق قوله
    تعالى : والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إِلى غير المنفقين ، والامر على ذلك إِذ لا دليل
    على التقييد بالمنفقين غير المورد ، ولا يكون المورد مخصصاً ولا مقيداً ، وإِذا كانت
    الآية مطلقة كذلك كان قوله : يضاعف مطلقاً بالنسبة الى الزائد عن العدد وغيره ،
    ويكون المعنى : والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء ، يضاعف لكل محسن على
    قدر إِحسانه سبعمائة ضعف او أزيد او اقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة اذا شاء ، ولا
    ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء

    ( 2 ـ الميزان ـ 26 )


    لأن الذي نفينا هناك انما هو تقييده بالمنفقين ، والمعنى الذي تدل عليه الرواية نفى
    التقييد . وقوله عليه‌السلام : أليس الله قد قال : والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة اه
    نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع : آيتين إِحديهما : هذه الآية من سورة البقرة ، والاخرى :
    قوله تعالى : « مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً »
    البقرة ـ 245 ، ومما يستفاد من الرواية إِمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق
    المسلمين وترتب الثواب عليها ، وسيجيء البحث عنها في قوله تعالى : « إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ
    مِنَ الرِّجَالِ الآية » النساء ـ 98 .
    وفي المجمع قال : والآية عامة في النفقة في جميع ذلك ( يشير إِلى الجهاد وغيره
    من أبواب البر ) وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام .
    وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال : أشرف على
    النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من رأس تل ، فقالوا : ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله
    فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوليس في سبيل الله إِلا من قتل ؟ ثم قال : من خرج في الأرض
    يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكف به
    أهله فهو في سبيل الله ، ومن خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله ، ومن
    خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان .
    وفيه أيضاً أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل البراء
    ابن عازب فقال : يا براء كيف نفقتك على أُمك ؟ وكان موسعاً على أهله فقال : يا رسول
    الله ما أحسنها ؟ قال : فإِن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك
    مناً ولا أذى .
    أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين ، وفيها أن كل عمل
    يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله ، وكل نفقة في سبيل الله فهي صدقة .
    وفي تفسير القمي في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية عن
    الصادق عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أسدى إِلى مؤمن معروفاً ثم أذاه بالكلام
    أو منّ عليه فقد أبطل صدقته إِلى أن قال الصادق عليه‌السلام : والصفوان هي الصخرة
    الكبيرة التي تكون في المفازة إِلى أن قال في قوله تعالى : كمثل جنة بربوة الآية وابل أي


    مطر ، والطل ما يقع بالليل على الشجر والنبات ، وقال في قوله تعالى : إِعصار فيه نار
    الآية الإِعصار الرياح .
    وفي الدر المنثور في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات الآية ،
    أخرج ابن جرير عن علي بن أبيطالب في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
    طيبات ما كسبتم ، قال : من الذهب والفضة ومما أخرجنا لكم من الأرض ، قال :
    يعني من الحب والتمر وكل شىء عليه زكاة .
    وفيه أيضاً أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصحّحه وابن ماجة
    وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه
    عن البراء بن عازب في قوله ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، قال : نزلت فينا معشر
    الأنصار ، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان
    الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان
    احدهم اذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن
    لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف ، وبالقنو قد انكسر فيعلقه
    فأنزل الله « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ
    وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ » قال : لو ان احدكم
    أُهدي اليه مثل ما اعطي لم يأخذه الا عن إِغماض وحياء ، قال : فكنا بعد ذلك يأتي
    احدنا بصالح ما عنده .
    وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في قول الله : يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات
    ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، قال : كان
    رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذا امر بالنخل ان يزكى يجيء قوم بألوان من التمر وهو من اردىء
    التمر ، يؤدونه عن زكوتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى ،
    وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا
    تجيئوا منها بشيء وفي ذلك نزل : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الا ان
    تغمضوا فيه ، والإغماض ان تأخذ هاتين التمرتين ، وفي رواية أُخرى عن ابي عبد الله
    عليه‌السلام في قوله تعالى : انفقوا من طيبات ما كسبتم فقال : كان القوم كسبوا مكاسب
    سوء في الجاهلية فلما اسلموا ارادوا ان يخرجوها من اموالهم ليتصدقوا بها ، فأبى الله



    تبارك وتعالى الا ان يخرجوا من اطيب ما كسبوا .
    اقول : وفي هذا المعنى اخبار كثيرة من طرق الفريقين .
    وفي تفسير القمي في قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر الآية ، قال : قال : ان
    الشيطان يقول لا تنفقوا فإِنكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً اي يغفر لكم
    ان انفقتم لله وفضلاً يخلف عليكم .
    وفي الدر المنثور اخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن
    ابي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :
    ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة : فأما لمة الشيطان فإِيعاد بالشر وتكذيب بالحق .
    وأما لمة الملك فإِيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد
    الله ، ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرء : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
    بالفحشاء الآية .
    وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليهما السلام في قوله تعالى : ومن يؤتى الحكمة
    فقد أُوتي خيراً كثيراً قال : المعرفة .
    وفيه عن الصادق عليه‌السلام : إِن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين .
    وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : في الآية : قال : طاعة الله ومعرفه الإمام .
    اقول : وفي معناه روايات أُخر وهي من قبيل عد المصداق .
    وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا
    رفعه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ، فنوم العاقل
    افضل من سهر الجاهل ، وإِقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ، ولا بعث الله نبياً
    ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله افضل من جميع عقول امته ، وما يضمر
    النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين ، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ،
    ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل ، والعقلاء هم أُولوا الألباب ،
    قال الله تبارك وتعالى : وما يتذكر إِلا أُولوا الالباب .
    وعن الصادق عليه‌السلام قال : الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق
    ولو قلت : ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت ،


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:43 pm

    قال الله عز وجل : يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً وما
    يذكر إِلا أُولوا الألباب .
    اقول : وفي قوله تعالى : وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة
    سنوردها في مواردها إِنشاء الله .
    وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس وابن جبير واسماء بنت ابي بكر
    وغيرهم : ان رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام وان المسلمين كانوا
    يكرهون الانفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله : ليس عليك هداهم الاية فأجاز ذلك .
    اقول : قد مر أن قوله : هداهم إِنما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم
    دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول ، على ان تعيين المورد في
    قوله : للفقراء الذين أُحصروا الآية لا يلائمه كثير ملائمة ، وأما مسألة الانفاق على غير
    المسلم إِذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إِطلاق الايات .
    وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عز وجل : وإِن تخفوها وتعطوها
    الفقراء فهو خير لكم فقال : هي سوى الزكوة ، إِن الزكوة علانية غير سر .
    وفيه عنه عليه‌السلام : كل ما فرض الله عليك فإِعلانه أفضل من إِسراره وما كان
    تطوعاً فإسراره افضل من إِعلانه .
    اقول : وفي معنى الحديثين أحاديث أُخرى وقد تقدم ما يتضح به معناها .
    وفي المجمع في قوله تعالى : للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله الآية قال قال أبو جعفر
    عليه السلام نزلت الآية في أصحاب الصفة ، قال : وكذلك رواه الكلبي عن ابن
    عباس ، وهم نحو من اربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ، ولا عشائر يأوون
    اليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد ، وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله ، فحث
    الله الناس عليهم فكان الرجل إِذا أكل وعنده فضل أتاهم به إِذا أمسى .
    وفي تفسير العياشي عن ابي جعفر عليه السلام : إِن الله يبغض الملحف .
    وفي المجمع في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار الآية ، قال : سبب
    النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه‌السلام كانت معه أربعة



    دراهم ، فتصدق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سراً وبواحد علانية فنزل ، الذين
    ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية ، قال الطبرسي : وهو المروي عن ابي
    جعفر وابي عبد الله عليهما السلام .
    اقول : وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره ، والمفيد في الاختصاص ، والصدوق
    في العيون .
    وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
    ابي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن ابيه عن ابن
    عباس في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية قال : نزلت
    في علي بن ابي طالب عليه‌السلام كانت له اربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً
    وسراً درهماً وعلانية درهماً .
    في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس والسدي ومجاهد
    والكلبي وابي صالح والواحدي والطوسي والثعلبي والطبرسي والماوردي والقشيري
    والثمالي والنقاش والفتال وعبد الله بن الحسين وعلي بن حرب الطائي في تفاسيرهم : أنه
    كان عند ابن ابي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سراً
    وبواحد علانية فنزل : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فسمى كل
    درهم مالاً وبشره بالقبول .
    وفي بعض التفاسير : ان الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة
    بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية .
    اقول : ذكر الآلوسي في تفسيره في ذيل هذا الحديث : أن الامام السيوطي
    تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين الف دينار إِنما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة
    وليس فيه ذكر من نزول الآية ، وكأن من أدعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن
    ابن إِسحاق ، قال : لما قبض أبو بكر واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله واثنى
    عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس إِن بعض الطمع فقر ، وإِن بعض اليأس غنى ،
    وإِنكم تجمعون ما لا تأكلون ، وتؤملون ما لا تدركون ، واعلموا أن بعض الشح شعبة
    من النفاق ، فأنفقوا خيراً لأنفسكم ، فأين أصحاب هذه الآية ، وقرء الآية الكريمة وانت


    تعلم انها لا دلالة فيها على نزولها في حقه ، انتهى .
    وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابي أمامة وابي الدرداء وابن عباس وغيرهم أن
    الآية نزلت في أصحاب الخيل .
    اقول : والمراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلاً ونهاراً ، لكن لفظ
    الآية أعني قوله : سراً وعلانية لا ينطبق عليه إِذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في
    الانفاق على الخيل أصلاً .
    وفي الدر المنثور أيضاً اخرج المسيب : الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن
    ابن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة .
    اقول : والاشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الاشكال في سابقه .
      
    الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
    مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
    الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ
    فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ـ 275 . يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
    الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ـ 276 . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
    الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ
    عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ـ 277 . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
    مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ـ 278 . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
    وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ـ 279 . وَإِن كَانَ
    ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ـ 280 .



    وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
    يُظْلَمُونَ ـ 281 .
    ( بيان )
    الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع
    الابتدائي ، كيف ولسانها غير لسان التشريع : وانما الذي يصلح لهذا الشأن قوله
    تعالى في سورة آل عمران : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا
    اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » آل عمران ـ 130 ، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله : يا
    أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إِن كنتم مؤمنين ، وسياق الآية يدل
    على ان المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا ، بل كانوا يتداولونها بينهم
    بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك ، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا ،
    ومن هنا يظهر معنى قوله : فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إِلى
    الله الآية على ما سيجيء بيانه .
    وقد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم وهي
    مكية : « وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ
    تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » الروم ـ 39 ، ومن هنا يظهر ان الربا كان امراً
    مرغوباً عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم امر النهي عنه في سورة آل
    عمران ، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم
    نزول النهي عليها ، ومن هنا يظهر : ان هذه الآيات إِنما نزلت بعد سورة آل عمران .
    على ان حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله : « وَأَخْذِهِمُ
    الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ » النساء ـ 161 ، ويشعر به قوله : ـ حكاية عنهم ـ « لَيْسَ عَلَيْنَا
    فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » آل عمران ـ 75 ، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر
    كانت تدل على حرمته في الاسلام .
    والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله
    كما يشير اليه قوله تعالى في ضمنها : يمحق الله الربا ويربى الصدقات ، وقوله : وان
    تصدقوا فهو خير لكم ، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران


    مقارنا لذكر الإنفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه .
    على ان الاعتبار ايضاً يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة ، فإِن الربا أخذ
    بلا عوض كما ان الصدقة إِعطاء بلا عوض ، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار
    الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء ، فكل مفسدة
    منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة ، وإِقامة اصلاب المساكين
    والمحتاجين ، ونماء المال ، وانتظام الامر واستقرار النظام والامن في الصدقة وخلاف
    ذلك في الربا .
    وقد شدد الله سبحانه في هذه الايات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من
    فروع الدين إِلا في تولي اعداء الدين ، فإِن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا ، واما سائر
    الكبائر فإِن القرآن وإِن اعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإِن لحن القول في تحريمها دون
    ما في هذين الامرين ، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم ، وما هو اعظم منها كقتل
    النفس التي حرم الله والفساد ، فجميع ذلك دون الربا وتولي اعداء الدين .
    وليس ذلك إِلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الافراد في بسط آثارها
    المشؤمة ، ولا تسري إِلا إِلى بعض جهات النفوس ، ولا تحكم إِلا في الاعمال والافعال
    بخلاف هاتين المعصيتين فإِن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره ،
    ويفسد به نظام حياة النوع ، ويضرب الستر على الفطرة الانسانية ويسقط حكمها فيصير
    نسياً منسياً على ما سيتضح إِنشاء الله العزيز بعض الاتضاح .
    وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في امرهما حيث أهبطت
    المداهنة والتولي والتحاب والتمائل إِلى اعداء الدين الامم الاسلامية في مهبط من الهلكة
    صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم ، لا يملكون مالاً ولا عرضاً ولا نفساً ، ولا يستحقون
    موتاً ولا حياة ، فلا يؤذن لهم فيموتوا ، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة ،
    وهجرهم الدين ، وارتحلت عنهم عامة الفضائل .
    وحيث ساق أكل الربا إِلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجر ذلك إِلى
    الحروب العالمية العامة ، وانقسام الناس إِلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي ، وبان
    البين ، فكان بلوى يدكدك الجبال ، ويزلزل الارض ، ويهدد الانسانية بالانهدام ،
    والدنيا بالخراب ، ثم كان عاقبة الذين أسائوا السوأى .
    وسيظهر لك إِنشاء الله تعالى ان ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء



    الدين من ملاحم القرآن الكريم .
    قوله تعالى : الذين يأكلون الربا لا يقومون إِلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
    من المس ، الخبط هو المشي على غير استواء ، يقال خبط البعير إِذا اختل جهة مشيه ،
    وللانسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه ، فإِنه لا محالة ذو أفعال وحركات
    في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه ، وهذه الافعال محفوظة النظام بأحكام
    اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الانسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية ،
    فهو يقصد الاكل إِذا جاع ، ويقصد الشرب إِذا عطش ، والفراش إِذا اشتهى النكاح ،
    والاستراحة إِذا تعب ، والاستظلال إِذا أراد السكن وهكذا ، وينبسط لامور
    وينقبض عن اخرى في معاشرته ، ويريد كل مقدمة عند ارادة ذيها ، واذا طلب مسبباً
    مال الى جهة سببه .
    وهذه الافعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة
    ومجموعها طريق حياته .
    وانما اهتدى الانسان الى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة
    بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك .
    واما الانسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن
    والقبيح والنافع والضار والخير والشر ، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد ،
    لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإِنه بالاخرة انسان ذو إِرادة ، ومن
    المحال ان يصدر عن الانسان غير الافعال الانسانية بل لانه يرى القبيح حسناً والحسن
    قبيحاً والخير والنافع شراً وضاراً وبالعكس فهو خابط في تطبيق الاحكام وتعيين الموارد .
    وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عادياً دون العكس فإِن لازم ذلك ان
    يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس ، بل قد
    اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده ، فالعادي وغير
    العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء ، فهو في خلاف العادة
    لا يرى العادة الا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه ، فلا ينجذب من خلاف العادة
    الى العادة فافهم ذلك .
    وهذا حال المرابي في اخذه الربا ( إِعطاء الشيء وأخذ ما يماثله وزيادة بالاجل )
    فإِن الذي تدعو اليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الانسان الاجتماعية ان يعامل


    بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغنى عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج اليه ،
    واما اعطاء المال واخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة واساس
    المعيشة ، فإِن ذلك ينجر من جانب المرابي الى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه
    وتراكمه عند المرابي ، فإِن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو الا من مال الغير ،
    فهو بالانتفاص والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام الى جانب آخر .
    وينجر من جانب المدين المؤدي للربا الى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا
    يتداركه شيء مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة
    من غير امر يجبر النقص ويتداركه ، وفي ذلك انهدام حياة المدين .
    فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط
    المستقيم الانساني الذي هدته اليه الفطرة الالهية .
    وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس ، فان المراباة يضطره
    ان يختل عنده اصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا ، فاذا دعي الى ان
    يترك الربا واخذ بالبيع أجاب ان البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب
    لترك الربا واخذ البيع ، ولذلك : استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم :
    انما البيع مثل الربا .
    ومن هذا البيان يظهر : أولا : ان المراد بالقيام في قوله تعالى : لا يقوم الا كما
    يقوم ، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فانه معنى من معاني القيام يعرفه
    أهل اللسان في استعمالاتهم ، قال تعالى : « لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » الحديد ـ 25 ، وقال
    تعالى : « أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ » الروم ـ 25 ، وقال تعالى : « وَأَن تَقُومُوا
    لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ » النساء ـ 127 ، واما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا
    يناسب المورد ، ولا يستقم عليه معنى الآية .
    وثانياً : ان المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من
    الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين ، فان ذلك
    لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام ، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع
    والربا ، وبناء عمله عليه ، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط ، وكم من
    فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع ، فالمصير الى ما ذكرناه
    من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في امر الحياة !


    وثالثا : النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى : ذلك بأنهم
    قالوا إِنما البيع مثل الربا ، ولم يقل : إِنما الربا مثل البيع كما هو السابق الى الذهن
    وسيجيء توضيحه .
    ورابعا : أن التشبيه أعني قوله : الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن
    إِشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة ، فان الآية وإِن لم تدل على ان كل
    جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إِشعار بأن من الجنون ما هو بمس
    الشيطان ، وكذلك الآية وإِن لم تدل على ان هذا المس من فعل إِبليس نفسه فان
    الشيطان بمعنى الشرير ، يطلق على ابليس وعلى شرار الجن وشرار الإنس ،
    وابليس من الجن ، فالمتيقن من إِشعار الآية ان للجن شأناً في بعض الممسوسين ان
    لم يكن في كلهم .
    وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في
    بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في
    ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع ، فحقيقة
    معنى الآية ، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من
    المس ، وأما كون الجنون مستنداً الى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه
    أعدل من ان يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن .
    ففيه : انه تعالى أجل من أن يستند في كلامه الى الباطل ولغو القول بأي نحو
    كان من الاستناد إِلا مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى في وصف كلامه
    « لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ » فصلت ـ 42 ، وقال تعالى :
    « إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ » الطارق ـ 14 .
    وأما أن استناد الجنون إِلى تصرف الشيطان بإِذهاب العقل ينافي عدله تعالى ،
    ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إِسنادهم ذهاب العقل الى الاسباب الطبيعية ،
    فإِنها أيضاً مستنده بالاخرة الى الله تعالى مع إِذهابها العقل .
    على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإِذهاب الله إِياه إِشكال . لان التكليف
    يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع ، وإِنما الاشكال في أن ينحرف الادراك العقلي عن مجرى
    الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله ، كأن يشاهد الانسان العاقل


    الحسن قبيحاً وبالعكس ، أو يرى الحق باطلاً وبالعكس جزافاً بتصرف من الشيطان ،
    فهذا هو الذي لا يجوز نسبته اليه تعالى ، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعاً
    لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أُسند الى الطبيعة أو الى الشيطان .
    على ان استناد الجنون الى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل
    الاسباب الطبيعية كاختلال الاعصاب والآفة الدماغية اسباب قريبة ورائها الشيطان ،
    كما ان انواع الكرامات تستند الى الملك مع تخلل الاسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد
    نظير ذلك فيما حكاه الله عن ايوب عليه‌السلام اذ قال : « أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ
    وَعَذَابٍ » ص ـ 41 ، واذ قال : « أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »
    الانبياء ـ 83 ، والضر هو المرض وله اسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به
    من المرض المستند الى اسبابه الطبيعية الى الشيطان .
    وهذا وما يشبهه ، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من اهل البحث من
    حيث لم يشعروا بها حيث ان اصحاب المادة لما سمعوا الالهيين يسندون الحوادث الى الله
    سبحانه ، أو يسندون بعضها الى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا
    أن ذلك إِبطال للعلل الطبيعية وإِقامة لما وراء الطبيعة مقامها ، ولم يفقهوا ان المراد به
    تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل ، وقد مرت الاشارة الى ذلك في المباحث
    السابقة مراراً .
    وخامسا : فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين : ان المراد بالتشبيه بيان حال
    آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه
    الجنون . ووجه الفساد ان ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى ، والرواية لا تجعل
    للآية ظهوراً فيما ليست بظاهرة فيه ، وإِنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة .
    قال في تفسير المنار : وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من
    المس فقد قال ابن عطية في تفسيره : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما
    يقال لمن يصرع بحركات مختلفة : قد جن .
    اقول : وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور الى خلافه وقالوا : ان المراد
    بالقيام القيام من القبر عند البعث ، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة
    أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني



    من حديث عوف بن مالك مرفوعا « إِياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئاً
    أُتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط .
    ثم قال : والمتبادر الى جميع الافهام ما قاله ابن عطية لأنه اذا ذكر القيام انصرف
    الى النهوض المعهود في الاعمال ، ولا قرينة تدل على ان المراد به البعث ، وهذه الروايات
    لا يسلم منها شيء من قول في سنده ، وهي لم تنزل مع القرآن ، ولا جاء المرفوع منها
    مفسراً للآية ، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية الا من لم يظهر
    له صحته في الواقع .
    ثم قال : وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل
    عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها ، وقلما يصح في التفسير شيء ،
    انتهى ما ذكره .
    ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في
    الآية حيث قال : أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإِن أُولئك الذين فتنهم
    المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصوداً لذاته ، وتركوا لأجل
    الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر
    الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال
    البورصة والمغرمين بالقمار ، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم ، حتى يكون خفة
    تعقبها حركات غير منتظمة . وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس
    فإِن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء ، انتهى .
    فإِن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإِن كان في نفسه
    صحيحاً لكن لا هو معلول أكل الربا محضاً ، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية :
    أما الاول فإِنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإِخلادهم الى لذائذ المادة ، ذلك
    مبلغهم من العلم ، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني ، وتأثرت نفوسهم عن
    كل لذة يسيرة مترائية من المادة ، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم ، وهذا مشاهد
    محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإِن لم يمس الربا طول حياته .
    وأما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما
    ذكره من وجه الشبه ، فإِن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله :
    ذلك بأنهم قالوا إِنما البيع مثل الربا ، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج


    على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم . فالمصير إِلى
    ما قدمناه .
    قوله تعالى : ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا ، قد تقدم الوجه في تشبيه
    البيع بالربا دون العكس بأن يقال : إِنما الربا مثل البيع فإِن من استقر به الخبط والاختلال
    كان واقفاً في موقف خارج عن العادة المستقيمة ، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم
    سيان عنده ، فإِذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع الى المعروف أجابك ـ لو
    أجاب ـ أن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه ، ولو قال : ان الذي
    تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الادراك فإِن معنى هذا القول : أنه
    يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي ان الذي ينهي عنه
    ذو مزية مثله ، ولم يكن معنى كلامه إِبطال المزية وإِهماله كما يراه الممسوس ، وهذا
    هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط : إِنما البيع مثل الربا ، ولو أنه قال : ان الربا
    مثل البيع لكان راداً على الله جاحداً للشريعة لا خابطاً كالممسوس .
    والظاهر ان قوله تعالى : ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا حكاية لحالهم
    الناطق بذلك وان لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم ، وهذا السياق أعني حكاية الحال
    بالقول ، معروف عند الناس .
    وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن المراد بقولهم : انما البيع مثل الربا
    نظمهما في سلك واحد ، وإِنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلاً وشبهوا به البيع للمبالغة
    كما في قوله :
    ومهمه مغبرة أرجائه
    كأن لون أرضه سمائه

    وكذا فساد ما ذكره اخرون : أنه يجوز ان يكون التشبيه غير مقلوب بنائاً
    على ما فهموه : ان البيع إِنما حل لأجل الكسب والفائدة ، وذلك في الربا متحقق وفي
    غيره موهوم . ووجه الفساد ظاهر مما تقدم .
    قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا ، جملة مستأنفة بنائاً على ان الجملة
    الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد . يقال : جائني زيد وقد
    ضرب عمراً ، ولا يلائم كونها حالاً ما يفيده أول الكلام من المعنى ، فإِن الحال قيد لزمان
    عامله وظرف لتحققه ، فلو كانت حالاً لأفادت : أن تخبطهم لقولهم انما البيع مثل



    الربا انما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم ، مع ان الامر على خلافه فهم
    خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما ، فالجملة ليست حالية وانما
    هي مستأنفة .
    وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة
    في سبق أصل تشريع الحرمة ، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران : « يَا أَيُّهَا
    الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » آل عمران ـ 130 ،
    فالجملة أعني قوله : وأحل الله « الخ » لا تدل على إِنشاء الحكم ، بل على الإخبار عن حكم
    سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها : فمن جائه موعظة من ربه الخ ، هذا ما ينساق اليه
    ظاهر الآية الشريفة .
    وقد قيل : إِن قوله : وأحل الله البيع وحرم الربا مسوق لإبطال قولهم : انما
    البيع مثل الربا ، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع
    ان الله أحل احدهما وحرم الآخر .
    وفيه انه وإِن كان استدلالاً صحيحاً في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فانه
    معنى كون الجملة ، وأحل الله « الخ » ، حالية وليست بحال .
    وأضعف منه ما ذكره آخرون : ان معنى قوله : وأحل الله « الخ » انه ليست
    الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا ، لأني احللت البيع وحرمت الربا ،
    والامر امري ، والخلق خلقي ، أقضي فيهم بما أشاء ، واستعبدهم بما أُريد ، ليس لأحد
    منهم ان يعترض في حكمي .
    وفيه : انه أيضاً مبني على اخذ الجملة حالية لا مستأنفة ، على انه مبني على إِنكار
    ارتباط الاحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية ، وبعبارة أُخرى على نفي
    العلية والمعلولية بين الاشياء وإِسناد الجميع الى الله سبحانه من غير واسطة ، والضرورة
    تبطله ، على انه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل احكامه وشرائعه بمصالح خاصة
    أو عامة ، على ان قوله في ضمن هذه الآيات : وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين
    الآية ، وقوله : لا تظلمون الاية ، وقوله : ان الذين يأكلون الربا الى قوله مثل الربا ، تدل
    على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جارياً على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا
    بكونه خارجاً عن سنن الاستقامة في الحيوة ، وكونه منافياً غير ملائم للإيمان بالله
    تعالى ، وكونه ظلماً .

    قوله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ،
    تفريع على قوله : وأحل الله البيع « الخ » ، والكلام غير مقيد بالربا ، فهو حكم كلي
    وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقاً من مصاديقه يلحقه حكمه ، والمعنى :
    ان ما ذكرناه لكم في امر الربا موعظة جائتكم من ربكم ومن جائه موعظة « الخ » فان
    انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم الى الله .
    ومن هنا يظهر : ان المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى ،
    ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهائاً عن نهيه تعالى : ومن كون ما سلف
    لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه ، ومن قوله : فله ما سلف وأمره
    الى الله ، انه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله : ومن عاد فاولئك
    اصحاب النار هم فيها خالدون ، فهم منتفعون فيما اسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة ،
    ويبقى عليهم : ان امرهم الى الله فربما اطلقهم في بعض الاحكام ، وربما وضع عليهم
    ما يتدارك به ما فوتوه .
    واعلم : ان أمر الآية عجيب ، فان قوله : فمن جائه موعظة الى آخر الآية مع
    ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا ، بل عام يشمل جميع
    الكبائر الموبقة ، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن
    مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه ، ورجوع الامر الى الله فيمن انتهى ،
    وخلود العذاب لمن عاد اليه بعد مجيء الموعظة ، هذا كله مع ما تراه من العموم
    في الآية .
    إذا هذا ظهر لك : ان قوله : فله ما سلف وأمره الى الله لا يفيد الا معنى
    مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها ، فالمعنى : ان من
    انتهى عن موعظة جائته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في
    حقوق الناس فإِنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته ايضاً كما تخلص من
    أصله من حيث صدوره ، بل أمره فيه الى الله ، ان شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلوة
    الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيزات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصباً
    أو رباً وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء ، وان شاء عفى عن
    الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك اذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب

    ( 2 ـ الميزان ـ 27 )


    الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك ، فإِن قوله : فمن جائه موعظة من ربه
    وانتهى ، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في اول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل
    الاعصار اللاحقة .
    وأما قوله : ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ، فوقوع العود في
    هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على ان المراد به العود الذي
    يجامع عدم الانتهاء ، ويلازم ذلك الإصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا
    هو الكفر او الردة باطناً ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك ، فإِن من عاد
    الى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقاً ولا يفلح ابداً .
    فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم
    المخالفة وبين الإصرار الذي لا يخلو غالباً عن عدم التسليم المستوجب للخلود على
    ما عرفت .
    ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة
    في العذاب . فان الآية وان دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية
    في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه .
    وقد ذكر في قوله تعالى : فله ما سلف ، وفي قوله : وأمره الى الله ، وقوله : ومن
    عاد « الخ » وجوه من المعاني والاحتمالات على اساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم
    لكنا تركنا إِيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ .
    قوله تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات « الخ » ، المحق نقصان الشيء حالاً
    بعد حال ، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجاً ، والإرباء الإنماء ، والأثيم الحامل
    للإثم ، وقد مر معنى الاثم .
    وقد قوبل في الآية بين إِرباء الصدقات ومحق الربا ، وقد تقدم ان إِرباء الصدقات
    وإِنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق
    الربا ايضاً كذلك لا محالة .
    فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إِنمائاً يلزمها ذلك لزوماً قهرياً
    لا ينفك عنها من حيث أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب
    وتبسط الامن والحفظ ، وتصرف القلوب عن ان تهم بالغضب والاختلاس والإفساد


    والسرقة ، وتدعو إِلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة ، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد
    والفناء الطارئة على المال ، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافاً مضاعفة .
    كذلك الربا من خاصته انه يمحق المال ويفنيه تدريجاً من حيث انه ينشر القسوة
    والخسارة ، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن ، ويفسد الامن والحفظ ، ويهيج
    النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيباً ، وتدعو
    إِلى التفرق والاختلاف ، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال ،
    وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه ، أو بلية تعمه .
    وكل ذلك لأن هذين الامرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحيوة طبقة
    الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إِحساساتهم الباطنية ، واستعدت
    للدفاع عن حقوق الحيوة نفوسهم المنكوبة المستذلة ، وهموا بالمقابلة بالغاً ما بلغت ،
    فان أُحسن اليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض ـ والحال هذه ـ وقعت إِحساساتهم على
    المقابلة بالإحسان وحسن النية وأثرت الاثر الجميل ، وإِن أُسيء اليهم باعمال القسوة
    والخشونة وإِذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة ، وقلما
    يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد
    من اخبار آكلي الربا من ذهاب اموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم .
    ويجب عليك : ان تعلم اولا : ان العلل والاسباب التي تبنى عليها الامور
    والحوادث الاجتماعية امور أغلبية الوجود والتأثير ، فإِنا إِنما نريد بأفعالنا غاياتها
    ونتائجها التي يغلب تحققها ، ونوجد عند إِرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها
    على الاغلب لا على الدوام ، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم ، وأما العلل التامة التي
    يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية
    الباحثة عن الحقائق الخارجية .
    والتدبر في آيات الاحكام التي ذكر فيها مصالح الافعال والاعمال ومفاسدها
    مما يؤدي الى السعادة والشقاوة يعطي ان القرآن في بناء آثار الاعمال على الاعمال
    وبناء الاعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء
    العقلاء .
    وثانيا : ان المجتمع كالفرد والامر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في
    الاحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود ، فكما ان للفرد حيوة وعمراً وموتاً



    مؤجلاً وأفعالاً وآثاراً فكذلك المجتمع في حيوته وموته وعمره وأفعاله وآثاره .
    وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى : « وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ
    مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ » الحجر ـ 5 .
    وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الامور من الفردية إِلى الاجتماعية تبدل نحو
    بقائه وزواله وأثره . فالعفة والخلاعة الفردية حال كونهما فرديين لهما نوع من التأثير
    في الحيوة فإِن ركوب الفحشاء مثلاً يوجب نفرة الناس عن الانسان والاجتناب عن
    ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إِذا كان أمراً فردياً والمجتمع على
    خلافه ، وأما اذا صار اجتماعياً معروفاً عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها
    كانت تبعات الإنكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع
    لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والامراض التناسلية والمفاسد الاخر الاجتماعية
    التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الانساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية
    والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة . وكذا يختلف ظهور
    الآثار في الفرد فيما كان فردياً مع ظهورها في المجتمع اذا كان اجتماعياً من حيث
    السرعة والبطؤ .
    إذا عرفت ذلك علمت : أن محقه تعالى للربا في مقابل إِربائه للصدقات يختلف
    لا محالة بين ما كان الفعل فعلاً انفرادياً كالربا القائم بالشخص فإِنه يهلك صاحبه غالباً ،
    وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حيوته الفناء
    والمذلة ، وبين ما كان فعلاً اجتماعياً كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول
    بالرسمية ، ووضعت عليها القوانين ، وأُسست عليها البنوج فانه يفقد بعض صفاته
    الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في
    معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب ، وحلول
    الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر ، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين :
    الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السيء المشؤم ، وهذا
    النوع من الظهور والبروز وإِن كنا نستبطئه بالنظر الفردي ، وربما لم نعتن به لإلحاقه
    من جهة طول الامد بالعدم ، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي ، فان العمر الاجتماعي
    غير العمر الفردي ، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهراً في نظر الفرد . قال تعالى :
    « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ » آل عمران ـ 140 ، وهذا اليوم يراد به العصر الذي


    ظهر فيه ناس على ناس ، وطائفة على طائفة ، وحكومة على حكومة ، وأُمة على أُمة ،
    وظاهر ان سعادة الانسان كما يجب ان يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء
    بأمرها من حيث النوع المجتمع .
    والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإِن لم يسكت عنه ، بل هو كتاب
    أنزله الله تعالى قيماً على سعادة الانسان : نوعه وفرده ، ومهيمنا على سعادة الدنيا :
    حاضرها وغابرها .
    فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبين حال الربا والصدقة في أثرهما
    سواء كانا نوعيين أو فرديين ، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما ان الارباء من
    لوازم الصدقة لا ينفك عنها ، فالربا ممحوق وإِن سمي رباً والصدقة رباً رابية وان لم
    تسم رباً ، وإِلى ذلك يشير تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات بإِعطاء وصف الربا
    للصدقات بأقسامها ، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق .
    وبما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم : ان محق الربا ليس بمعنى ابطال
    السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي ، فإِن المشاهدة والعيان يكذبه ، وانما
    المراد بالمحق إِبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة ، فإِن المرابي
    يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش ، لكن يشغله عن
    ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم ، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه
    سوئاً ، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له ، ووجه ضعفه
    ظاهر .
    وكذا ما ذكره آخرون : ان المراد به محق الآخرة وثواب الاعمال التي يعرض
    عنها المرابي باشتغاله بالربا ، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات ،
    وجه الضعف : انه لا شك ان ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك .
    وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله
    تعالى : ومن عاد « الخ » ، وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعاً .
    قوله تعالى : إِن الله لا يحب كل كفار أثيم ، تعليل لمحق الربا بوجه كلي ، والمعنى
    ان آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية
    في الحياة الانسانية ، وهي طرق المعاملات الفطرية ، وكفره بأحكام كثيرة في
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:50 pm

    العبادات



    والمعاملات المشروعة ، فإِنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه
    يبطل كثيراً من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها ، وباستعماله فيما بيده من المال
    الربوي يبطل كثيراً من معاملاته ، ويضمن غيره ، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة ،
    وباستعمال الطمع والحرص في اموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه
    حقاً يفسد كثيراً من اصول الاخلاق والفضائل وفروعها ، وهو اثيم مستقر في نفسه
    الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم .
    قوله تعالى : إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات « الخ » ، تعليل يبين به ثواب
    المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقاً .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين
    خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الامر بقوله وذروا ما
    بقي من الربا ، وهو يدل على انه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا ،
    وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها ، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله :
    فإِن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله الآية .
    وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي .
    وفي تقييد الكلام بقوله : إِن كنتم مؤمنين إِشارة إِلى ان تركه من لوازم الايمان ،
    وتأكيد لما تقدم من قوله : ومن عاد « الخ » ، وقوله : إِن الله لا يحب كل كفار « الخ » .
    قوله تعالى : وإِن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، الاذن كالعلم وزناً
    ومعنى ، وقرء فآذنوا بالامر من الايذان ، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين
    ونحوه ، والمعنى : أيقنوا بحرب أو أعلموا انفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله ،
    وتنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع ، ونسبة الحرب الى الله ورسوله لكونه
    مرتبطاً بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ ،
    ولو كان لله وحده لكان امراً تكوينياً ، واما رسوله فلا يستقل في امر دون الله
    سبحانه قال تعالى : « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ » آل عمران ـ 128 .
    والحرب من الله ورسوله في حكم من الاحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم
    على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى : « فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ
    إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ » الحجرات ـ 9 ، على ان لله تعالى صنعاً آخر في الدفاع عن حكمه وهو


    محاربته إِياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم ، وهي التي تقطع
    انفاسهم ، وتخرب ديارهم ، وتعفى آثارهم ، قال تعالى : « وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
    أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا » الإسراء ـ 16 .
    قوله تعالى : وإِن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ، ولا تظلمون ، كلمة وان
    تبتم ، تؤيد ما مر ان الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على
    مدينيه ومعامليه ، وقوله : فلكم رؤس أموالكم أي أُصول أموالكم الخالصة من الربا لا
    تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إِلى رؤس أموالكم ، وفي الآية دلالة على إِمضاء
    اصل الملك أولاً : وعلى كون أخذ الربا ظلماً كما تقدم ثانياً : وعلى إِمضاء اصناف المعاملات
    حيث عبر بقوله رؤس أموالكم والمال إِنما يكون رأساً إِذا صرف في وجوه المعاملات
    وأصناف الكسب ثالثاً .
    قوله تعالى : وإِن كان ذو عسرة فنظرة إِلى ميسرة ، لفظة كان تامة أي إِذا
    وجد ذو عسرة ، والنظرة المهلة ، والميسرة اليسار ، والتمكن مقابل العسرة أي إِذا
    وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وامهلوه حتى يكون
    متمكناً ذا يسار فيؤدي دينه .
    والآية وإِن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا ، فإِنهم كانوا
    إِذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك
    في الثمن بنسبة كذا ، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالانظار .
    قوله تعالى : وان تصدقوا خير لكم إِن كنتم تعلمون ، أي وإِن تضعوا الدين
    عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إِن كنتم تعلمون فإِنكم حينئذ قد بدلتم ما
    تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقاً .
    قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إِلى الله « الخ » ، فيه تذييل لآيات الربا بما
    تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب
    المقام ، ويهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي
    تتكي عليه الحياة ، وهو ان أمامكم يوماً ترجعون فيه إِلى الله فتوفى كل نفس ما
    كسبت وهم لا يظلمون .
    واما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله ، ومعنى هذه التوفية
    فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إِنشاء الله تعالى .


    وقد قيل : إِن هذه الآية : واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما
    كسبت وهم لا يظلمون ، آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيجيء ما يدل عليه من
    الروايات في البحث الروائي التالي .
    ( بحث روائي )
    في تفسير القمي في قوله تعالى : الذين يأكلون الربا الآية ، عن الصادق عليه‌السلام قال :
    قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما أُسري بي إِلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا
    يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا
    لا يقومون إِلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وإِذا هم بسبيل آل فرعون :
    يعرضون على النار غدواً وعشياً ، ويقولون ربنا متى تقوم الساعة .
    اقول : وهو مثال برزخي وتصديق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما تعيشون تموتون وكما
    تموتون تبعثون .
    وفي الدر المنثور أخرج الاصبهاني في ترغيبه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
    يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شقيه ، ثم قرأ : لا يقومون إِلا كما يقوم الذي
    يتخبطه الشيطان من المس .
    اقول : وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة ،
    وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أُمه .
    وفي التهذيب بإِسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال : قلت لابي عبد الله
    عليه‌السلام : جعلت فداك إِن الناس زعموا ان الربح على المضطر حرام فقال : وهل رأيت
    احداً اشترى غنياً أو فقيراً إِلا من ضرورة ؟ يا عمر قد احل الله البيع وحرم الربا ،
    فاربح ولا ترب . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم مثلين بمثل ، وحنطة بحنطة
    مثلين بمثل .
    وفي الفقيه بإِسناده عن عبيد بن زرارة عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : لا يكون
    الربا إِلا فيما يكال أو يوزن .
    اقول : وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والذي هو مذهب أهل البيت
    عليهم السلام ؟ انه إِنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن ، والمسألة فقهية لا يتعلق
    منها غرضنا إِلا بهذا المقدار .

    وفي الكافي عن احدهما وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى :
    فمن جائه موعظة من ربه فانتهى الآية ، قال : الموعظة التوبة .
    وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال : دخل رجل على ابي عبد الله عليه‌السلام من اهل
    خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إِنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيىء
    حتى ترده الى أصحابه ، فجاء الى ابي جعفر عليه‌السلام فقص عليه قصته ، فقال ابو
    جعفر عليه‌السلام مخرجك من كتاب الله عز وجل ، فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما
    سلف وامره الى الله . قال : الموعظة التوبة .
    وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه‌السلام : كل رباً اكله الناس بجهالة ثم تابوا فإِنه
    يقبل منهم إِذا عرف منهم التوبة : وقال لو ان رجلاً ورث من ابيه مالاً وقد عرف ان
    في ذلك المال رباً ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإِنه له حلال فليأكله وان عرف
    منه شيئاً معروفاً فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة .
    وفي الفقيه والعيون عن الرضا عليه‌السلام : هي كبيرة بعد البيان . قال : والاستخفاف
    بذلك دخول في الكفر .
    وفي الكافي : انه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى انه حلال قال : لا يضره
    حتى يصيبه متعمداً ، فإِذا أصابه متعمداً فهو بالمنزلة التي قال الله عز وجل .
    وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه‌السلام وقد سأل عن قوله تعالى : يمحق الله الربا
    ويربي الصدقات الآية ، وقيل : قد ارى من يأكل الربا يربو ماله قال : فأي محق أمحق
    من درهم الربا يمحق الدين وإِن تاب منه ذهب ماله وافتقر .
    اقول : والرواية كما ترى تفسر المحق التشريعي أعني : عدم اعتبار الملكية
    والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه ، وهي لا تنافي ما مر من عموم المحق .
    وفي المجمع عن علي عليه‌السلام : انه قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الربا خمسة : آكله
    وموكله وشاهديه وكاتبه ؟
    اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .
    وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه‌السلام قال : قال الله تعالى : انا خالق كل شيء
    وكلت بالأشياء غيري إِلا الصدقة فإِني اقبضها بيدي حتى ان الرجل والمرأة يتصدق
    بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى اتركه يوم القيامة



    اعظم من احد .
    وفيه عن علي بن الحسين عليهما السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ان الله ليربي لاحدكم
    الصدقة كما يربي احدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل احد .
    اقول : وقد روي هذا المعنى من طرق اهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي
    هريره وعائشة وابن عمر وابي برزة الاسلمي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .
    وفي تفسير القمي : انه لما انزل الله : الذين يأكلون الربا الآية ، قام خالد بن الوليد
    إِلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا ابي في ثقيف وقد اوصاني عند موته بأخذه فانزل
    الله : يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا الاية .
    اقول : وروي قريباً منه في المجمع عن الباقر عليه‌السلام .
    وفي المجمع ايضاً عن السدي وعكرمة قالا : نزلت في بقية من الربا كانت
    للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا الى بني عمرو بن
    عمير : ناس من ثقيف فجاء الاسلام ولهما اموال عظيمة في الربا فانزل الله هذه الآية
    فقال النبي : ألا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع ، وأول رباً اضعه ربا العباس بن
    عبد المطلب ، وكل دم في الجاهلية موضوع ، واول دم اضعه دم ربيعة بن الحارث بن
    عبد المطلب كان مرضعاً في بني ليث فقتله هذيل .
    اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن
    السدي الا ان فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة .
    وفي الدر المنثور اخرج ابو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن
    ابي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الاحوص : انه شهد حجة الوداع مع رسول الله
    صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : الا ان كل رباً في الجاهلية موضوع ، لكم رؤس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
    اقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة
    ان الآية نزلت في اموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف ، وكانوا يربونهم في
    الجاهلية ، فلما جاء الاسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الاسلام
    ذلك فرفع امرهم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية .
    وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان : ان الربا كان محرماً في الاسلام قبل نزول
    هذه الآيات ومبيناً للناس ، وان هذه انما تؤكد التحريم وتقرره ، فلا يعبأ ببعض ما
    روي ان حرمة الربا انما نزلت في آخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانه قبض ولم يبين للناس


    امر الربا كما في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب : انه
    خطب فقال : من آخر القرآن نزولاً آية الربا ، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا ،
    فدعوا ما يريبكم إِلى ما لا يريبكم .
    على ان من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام : ان الله تعالى لم يقبض نبيه حتى
    شرع كل ما يحتاج اليه الناس من امر دينهم وبين ذلك للناس نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .
    وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس والسدي وعطيه العوفي وأبي صالح
    وسعيد بن جبير : ان آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى : واتقوا يوماً ترجعون فيه إِلى آخر الآية
    وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام : انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من
    اصطناع المعروف قرضاً أو رفداً .
    وفي المجمع أيضاً عن علي عليه‌السلام إِذا أراد الله بقرية هلاكاً ظهر فيهم الربا .
    أقول : وقد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات .
    وفيه : في قوله تعالى : وإِن كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة الآية قال : واختلف
    في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال : هو اذا لم يقدر على ما يفضل
    من قوته وقوت عياله على الاقتصاد .
    وفيه : انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن
    وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام .
    وفيه ! قال الباقر عليه‌السلام : إِلى ميسرة معناه اذا بلغ خبره الامام فيقضي عنه
    من سهم الغارمين إِذا كان أنفقه في المعروف .
    وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله
    وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال : أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن
    أنظر معسراً كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه ، ثم قال أبو عبد
    الله عليه‌السلام : وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ان كنتم
    تعلمون انه معسر فتصدقوا عليه بما لكم فهو خير لكم .
    أقول : والرواية تشتمل على تفسير قوله : إِن كنتم تعلمون ، وقد مر له معنى
    آخر ، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه .
    ( بحث علمي )
    تقدم مراراً في المباحث السابقة : ان لا هم للانسان في حياته الا ان يأتي بما يأتي



    من اعماله لاقتناء كمالاته الوجودية ، وبعبارة اخرى لرفع حوائجه المادية ، فهو يعمل
    عملاً متعلقاً بالمادة بوجه ، ويرفع به حاجته الحيوية ، فهو مالك لعمله وما عمله ( والعمل
    في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الاثر عند أهل
    الاجتماع ) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه ، ويعده ملكاً جائز التصرف
    لشخصه ، والعقلاء من اهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم .
    لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك الى
    الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله ، فأدى ذلك
    الى المعاوضة بينهم ، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب
    معدودة من ابواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته ، ويعوض
    ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير ، وهذا اصل المعاملة والمعاوضة .
    غير ان التبائن التام بين الاموال والامتعة من حيث النوع ، ومن حيث شدة
    الحاجة وضعفها ، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة ، فإِن
    الفاكهة لغرض الاكل ، والحمار لغرض الحمل ، والماء لغرض الشرب ، والجوهرة الثمينة
    للتقلد والتختم مثلاً لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة ، ونسب مختلفة لبعضها الى بعض .
    فمست الحاجة الى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار ، وكان الاصل
    في وضعه : انهم جعلوا شيئاً من الامتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلاً اصلاً يرجع اليه
    بقية الامتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياساً لبقية افراده كالمثاقيل
    والمكائيل وغيرهما ، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل
    شيء من الامتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة اليه ونسبة بعضها إِلى بعض .
    ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للاشياء كواحد الطول من الذراع
    ونحوه ، وواحد الحجم وهو الكيل ، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه ، وعند ذلك
    تعينت النسب وارتفع اللبس ، وبان مثلاً ان القيراط من الالماس يعدل أربعة من الدنانير
    والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد ، وتبين بذلك ان القيراط من الالماس يعدل
    أربعين منا من دقيق الحنطة مثلاً وعلى هذا القياس .
    ثم توسعوا في وضع نقود أُخر من اجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة
    كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد .

    ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من
    الافراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح
    الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع .
    فهذه أعمال قدمها الانسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة ، واستقر الامر
    بالاخرة على ان الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار ، فكان وجه
    القيمة كأنه هو المال كله ، وكأنه كل متاع يحتاج اليه الانسان لانه الذي يقدر الانسان
    بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج اليه مما يتمتع به في الحياة ، وربما
    جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والامتعة وهو الصرف .
    وقد ظهر بما مر : ان اصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع
    آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في اصل المعاوضة ، أو لمسيس الحاجة إِلى
    الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة ، وهذا أعني المغايرة هو الاصل
    الذي يعتمد عليه حياة المجتمع ، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما
    يماثله مثلاً فإِن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلاً فربما اعتبره العقلاء لمسيس
    الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع ، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه ، وإِن
    كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا ، فلننظر ماذا نتيجة الربا ؟
    الربا ـ ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإِعطاء عشرة إِلى أجل ، أو اعطاء
    سلعة بعشرة إِلى أجل واخذ اثنتي عشرة عند حلول الاجل وما اشبه ذلك ـ إِنما يكون
    عند اضطرار المشتري أو المقترض إِلى ما يأخذه بالإعسار والإعواز بأن يزيد قدر
    حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو
    يحتاج إِلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه ان له في غده ثمانية
    وهو يحتاج الى عشرين ، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص
    ولا يلبث زماناً طويلاً حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام ما يقترضه ، فيطالب
    بالعشرين وليس له ولا واحد ( 20 ـ 0 = المال ) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة .
    واما المرابى فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه . والعشرة التي للمقترض ، وذلك
    تمام العشرين ، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال ، وليس
    الا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي ، فالربا يؤدي الى فناء طبقة المعسرين
    وانجرار المال الى طبقة الموسرين ، ويؤدي ذلك الى تأمر المثرين من المرابين ، وتحكمهم



    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري
    الشيخ شوقي البديري


    عدد المساهمات : 3304
    نقاط : 4993
    تاريخ التسجيل : 17/06/2012
    العمر : 59
    الموقع : عشائر البو حسين البدير في العراق

    الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Empty
    مُساهمةموضوع: رد: الميزان في تفسير القرأن ج2   الميزان في تفسير القرأن ج2 - صفحة 2 Emptyالخميس أكتوبر 31, 2024 8:51 pm

    في أموال الناس واعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الانسان
    من قريحة التعالي والاستخدام ، والى دفاع أُولئك المستخدمين المستذلين عن انفسهم
    فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام ، وهذا هو
    الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الانسانية وفناء المدنية .
    هذا مع ما يتفق عليه كثيراً من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت
    عليه القروض يقدر على اداء ديونه أو يريد ذلك .
    هذا في الربا المتداول بين الاغنياء واهل العسرة ، واما الذي بين غيرهم كالربا
    التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما
    فيه انه يوجب انجرار المال تدريجاً إِلى المال الموضوع للربا من جانب ، ويوجب ازدياد
    رؤوس أموال التجارة واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع ، ووقوع التطاول
    بينها واكل بعضها بعضاً ، وانهضام بعضها في بعض ، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا
    يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار ، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الاقلين ، وعاد
    المحذور الذي ذكرناه آنفاً .
    ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد ان السبب الوحيد في شيوع الشيوعية
    وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد ، وتقدمهم البارز في
    مزايا الحياة ، وحرمان آخرين وهم الاكثرون من أوجب واجباتهم ، وقد كانت الطبقة
    المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به اسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية
    والتساوي في حقوق الانسانية ، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، ويعنون
    بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها ، وكانوا يحسبون انها يسعدهم في ما يريدونه من
    الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم ، والتحكم المطلق بما شائوا ، وانها
    الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون انصار ما حسبوه لهم عليهم ،
    ورجع كيدهم ومكرهم الى أنفسهم ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، وكان
    عاقبة الذين اساؤوا السوآى ، والله سبحانه أعلم بما تصير اليه هذه النشأة الانسانية في
    مستقبل أيامها ، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق الى كنز الاموال ، وحبس
    الالوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى ، وجلوس قوم على
    أريكة البطالة والاتراف ، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي اليه الفطرة وهو
    اتكاء الانسان في حياته على العمل ، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم ، ولا يعيش به


    آخرون لحرمانهم .
    ( بحث آخر علمي )
    قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير
    وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في اعيانهما ولكن يضطر الخلق اليهما من حيث
    أن كل إِنسان محتاج الى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز
    عما يحتاج اليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران وهو محتاج الى جمل يركبه
    ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج الى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ،
    ولا بد في مقدار العوض من تقدير ، إِذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من
    الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال : يعطى مثله في الوزن أو
    الصورة ، وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الاشياء لا
    تناسب فيها ، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً ، فافتقرت
    هذه الاعيان المتنافرة المتباعدة الى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل
    واحد رتبته ومنزلته حتى إِذا تقررت المراتب ، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي
    من غير المساوي ، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الاموال
    حتى تقدر الاموال بهما ، فيقال : هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران
    يسوى مأة ، فهما من حيث انهما متساويان لشيء واحد متساويان ، وانما أمكن التعديل
    بالنقدين إِذ لا غرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك
    الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم
    الامر ، فإِذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الايدي ، ويكونا حاكمين بين الاموال بالعدل .
    ولحكمة أُخرى وهي : التوسل بهما الى سائر الاشياء لانهما عزيزان في أنفسهما ،
    ولا غرض في اعيانهما ، ونسبتهما الى سائر الاموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه
    ملك كل شيء ، لا كمن ملك ثوباً فإِنه لم يملك إِلا الثوب ، فلو احتاج الى طعام ربما لم
    يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابة مثلاً ، فاحتيج الى شيء آخر هو
    في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الاشياء ، والشيء انما تستوي نسبته
    الى المختلفات إِذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها ، كالمرآة لا لون لها وتحكي
    كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة الى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له في
    نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية . وفيهما ايضاً حكم يطول ذكرها .


    ثم قال ما محصله : انهما لما كانا من الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما
    كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله .
    وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإِنه ظلم وابطال لحكمتهما ، إِذ كنزهما كحبس
    الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس والقاء الهرج بين الناس من غير
    وجود من يرجعون اليه بالعدل .
    وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإِن فيه قصدهما بالاستقلال وهما
    مقصودان لغيرهما ، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والاعمال التي
    يقوم بها أخساء الناس .
    وفرع عليه أيضاً حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإِنه كفر بالنعمة وظلم ،
    فعنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما ، إِذ لاغرض يتعلق بأعيانهما .
    وقد اشتبه عليه الامر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك :
    اما اولاً : فإِنه ذكر ان لا غرض يتعلق بهما في انفسهما ، ولو كان كذلك لم يمكن
    أن يقدرا غيرهما من الامتعة والحوائج ، وكيف يجوز أن يقدر شيء شيئاً بما ليس
    فيه ؟ وهل يمكن ان يقدر الذراع طول شيء الا بالطول الذي له ؟ أو يقدر المن ثقل
    شيء الا بثقله الذي فيه ؟
    على ان اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم الا بكونهما مقصودين
    لأنفسهما ، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبية .
    على أنها لو لم يكونا إِلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم
    أعني الذهب والفضة في الاعتبار ، والواقع يكذب ذلك ، ولكان جميع أنواع النقود
    متساوية القيم ، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الامتعة كالجلد والملح وغيرهما .
    واما ثانياً : فلأن الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إِعطاء المقصودية
    بالاستقلال لهما ، بل ما يظهر من قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
    يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية » التوبة ـ 34 ، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام
    الحاجة الى العمل والمبادلة دائماً كما سيجيء بيان ذلك في تفسير الآية .
    واما ثالثاً : فلأن ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه
    ظلماً وكفراً موجود في اتخاذ الحلي منهما ، وكذا في بيع الصرف ، ولم يعدا في الشرع
    ظلماً وكفراً ولا حراماً .

    واما رابعاً : فلأن ما ذكر من المفسدة لو كان موجباً لما ذكره من الظلم والكفر
    بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض ، ولم
    يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع ان الحكم واحد ، فما ذكره غير تام جمعاً ومنعاً .
    والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة
    من غير عوض . قال تعالى : « وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ
    وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » الروم ـ 39 ، فجعل
    الربا رابياً في أموال الناس وذلك انه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس الى نفسه كما
    ان البذر من النبات ينمو بالتغذي من الارض وضم أجزائها الى نفسه ، فلا يزال الربا
    ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي الى آخرها ، وهذا هو الذي ذكرناه فيما
    تقدم ، وبذلك يظهر ان المراد بقوله تعالى : وإِن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون
    ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه
    فالربا ظلم على الناس .
      
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب
    بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
    وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي
    عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
    وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
    مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا
    يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ
    أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن
    تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا

    ( ـ 2 الميزان ـ 28 )


    وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ
    وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ 282 . وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ
    وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
    أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ
    بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ـ 283 .
    ( بيان )
    قوله تعالى : إِذا تداينتم « الخ » ، التداين ، مداينة بعضهم بعضاً ، والاملال
    والاملاء إِلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه ، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي
    الملال ، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره . والفسوق هو
    الخروج عن الطاعة . والرهان ، وقرء فرُهُن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون .
    والاظهار الواقع في موقع الاضمار في قوله تعالى : فإِن كان الذي عليه الحق ،
    لرفع اللبس برجوع الضمير الى الكاتب السابق ذكره .
    والضمير البارز في قوله : أن يمل هو فليملل وليه ، فائدته تشريك من عليه
    الحق مع وليه ، فإِن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين
    الاوليين هو المسؤل بالامر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإِن الذي عليه الحق
    يشارك الولي في العمل فكأنه قيل : ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه
    هو فعلى وليه .
    وقوله : أن تضل إِحديهما ، على تقدير حذر ان تضل إِحديهما ، وفي قوله :
    إِحديهما الاخرى وضع الظاهر موضع المضمر ، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في
    الموضعين ، فالمراد من الاول احديهما لا على التعيين ، ومن الثاني احديهما بعد ضلال
    الاخرى ، فالمعنيان مختلفان .
    وقوله : واتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله اليهم في هذه الآية من الامر والنهي ،
    وأما قوله : ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان
    كقوله تعالى في آية الإرث : « يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا » النساء ـ 176 ، فالمراد به


    الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام .
    وما قيل : إِن قوله : واتقوا الله ويعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم
    الإلهي ، فيه أنه وان كان حقاً يدل عليه الكتاب والسنة ، لكن هذه الآية بمعزل عن
    الدلالة عليه لمكان واو العطف ، على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها .
    ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانياً فانه لولا كون قوله ويعلمكم الله ،
    كلاما مستأنفاً كان مقتضى السياق ان يقال : يعلمكم بإِضمار الفاعل ، ففي قوله تعالى :
    واتقوا الله ويعلمكم الله ان الله بكل شيء عليم ، أظهر الاسم اولا وثانياً لوقوعه في كلامين
    مستقلين ، وأظهر ثالثاً ليدل به على التعليل ، كأنه قيل : هو بكل شيء عليم لأنه الله .
    واعلم : ان الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكماً من أُصول أحكام
    الدين والرهن وغيرهما ، والاخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع
    الى الفقه ، ولذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه .
      
    لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
    يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
    قَدِيرٌ ـ 284 .
    ( بيان )
    قوله تعالى : لله ما في السموات وما في الارض ، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم
    الخلق مما في السموات والارض ، وهو توطئة لقوله بعده : وإِن تبدوا ما في انفسكم
    أو تخفوه يحاسبكم به الله ، أي إِن له ما في السموات والارض ومن جملتها أنتم
    وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم ، فهو محيط بكم مهيمن على اعمالكم لا يتفاوت
    عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة ، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها .
    وربما استظهر من الآية : كون السماء مسانخاً لأعمال القلوب وصفات النفس فما في
    النفوس هو مما في السموات ، ولله ما في السموات كما ان ما في النفوس اذا أُبدي بعمل
    الجوارح كان مما في الارض ، ولله ما في الارض فما انطوى في النفوس سواء أُبدى
    أو أُظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة .


    قوله تعالى : وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، الابداء
    هو الإظهار مقابل الاخفاء ، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه
    أهل العرف واللغة من معناه ، ولا مستقر في النفس إِلا الملكات والصفات من الفضائل
    والرذائل كالايمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإِنها هي التي تقبل الاظهار
    والاخفاء . أما إِظهارها فإِنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها
    الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها ، اذ لولا تلك الصفات
    والملكات النفسانية من إِرادة وكراهة وإِيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر
    هذه الافعال ، فبصدور الافعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها . وأما إِخفائها
    فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس .
    وبالجملة ظاهر قوله : ما في أنفسكم ، الثبوت والاستقرار في النفس ، ولا يعني
    بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة ، بل ثبوتاً تاماً
    يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله : إِن تبدوا وقوله : أو تخفوها فان الوصفين
    يدلان على ان ما في النفس بحيث يمكن ان يكون منشئاً للظهور أو غير منشأ له وهو
    الخفاء ، وهذه الصفات يمكن ان تكون كذلك سواء كانت أحوالاً أو ملكات ، وأما
    الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إِرادة من الانسان وكذلك
    التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم
    فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس ، ولا منشأ
    لصدور الافعال .
    فتحصل : ان الآية إِنما تدل على الاحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر
    الافعال من الطاعات والمعاصي ، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الانسان بها ، فتكون
    الآية في مساق قوله تعالى : « لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ
    قُلُوبُكُمْ » البقرة ـ 225 ، وقوله تعالى : « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى :
    « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا » الإسراء ـ 36 ، فجميع هذه
    الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالاً وأوصافاً يحاسب الانسان بها ، وكذا
    قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
    الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » النور ـ 19 ، فانها ظاهرة في ان العذاب إِنما هو على الحب الذي هو
    أمر قلبي ، هذا .

    فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم : أن الآية إِنما تدل على المحاسبة بما في النفوس
    سواء أُظهر أو أُخفي ، وأما كون الجزاء في صورتي الإخفاء والاظهار على حد سواء ،
    وبعبارة اخرى كون الجزاء دائراً مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل
    الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلاً فالآية غير ناظرة الى ذلك .
    وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على
    كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره ، وليس الا تكليفاً بما لا يطاق ، فمن
    ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص .
    فمنهم من قال : إِن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب ، وهو تكليف
    بما لا يطاق ، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى : لا يكلف الله نفساً إِلا
    وسعها الآية .
    وفيه : أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر . على أن التكليف بما لا يطاق
    غير جائز بلا ريب . على انه تعالى يخبر بقوله : « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »
    الحج ـ 78 ، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق .
    ومنهم من قال : ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية
    الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإِطلاق الاية كقول من قال : إِنها مخصوصة بالكفار .
    ومنهم من قال : إِن المعنى : إِن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن
    تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله .
    ومنهم من قال : ان المراد بالاية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الإخبار
    أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو اخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة
    فهو في مساق قوله تعالى : « فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » المائدة ـ 105 ، ويدفع هذا وما
    قبله بمخالفة ظاهر الاية كما تقدم .
    قوله تعالى : فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ، الترديد
    في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات
    والاحوال النفسانية السيئة ، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد
    المعاصي أيضاً لكنه استعمال كالنادر يحتاج الى مؤنة القرائن الخاصة . وقوله : إِن الله
    تعليل راجع الى مضمون الجملة الاخيرة ، او الى مدلول الآية بتمامها .



    ( بحث روائي )
    في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله ما في
    السموات وما في الارض وإِن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك
    على اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا
    يا رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق : الصلوة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد
    أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدون ان تقولوا كما قال
    اهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا
    وإِليك المصير . فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في اثرها : آمن الرسول
    بما انزل اليه من ربه والمؤمنون الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : لا يكلف
    الله نفساً الا وسعها الى آخرها .
    اقول : ورواه في الدر المنثور عن احمد ومسلم وابي داود في ناسخه وابن جرير
    وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابي هريرة ، وروى قريباً منه بعدة من الطرق عن ابن
    عباس . وروي النسخ ايضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة .
    وروي عن الربيع بن أنس : ان الآية محكمة غير منسوخة وإِنما المراد بالمحاسبة
    ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا .
    وروي عن ابن عباس بطرق : ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها . فهي
    محكمة غير منسوخة .
    وروي عن عائشة أيضاً : ان المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن
    اذا هم بالمعصية ولم يفعلها ، فالآية ايضاً محكمة غير منسوخة .
    وروي من طريق علي عن ابن عباس في قوله : وإِن تبدوا ما في انفسكم أو
    تخفوه : فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فانها لم تنسخ ، ولكن الله إِذا جمع
    الخلائق يوم القيامة يقول : اني أُخبركم بما أخفيتم في انفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ،
    فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله : يحاسبكم به الله
    يقول يخبركم . وأما اهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله :
    ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم .
    اقول : والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في انها مخالفة لظاهر


    القرآن على ما تقدم : ان ظاهر الاية هو : ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب
    إِما في نفسها وإِما من طريق الجوارح ، وليس في الخطور النفساني كسب ، ولا يتفاوت
    في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر ، وظاهر المحاسبة هو
    المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات والهمم النفسانية ، فهذا ما تدل عليه الآية
    وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم .
    وأما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية .
    اولها : مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه .
    ثانيها : اشتماله على جواز تكليف ما لا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه .
    ولا سيما منه تعالى ، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى ، بل ربما زاد إِشكالاً على إِشكال
    فإِن ظاهر قوله في الرواية : فلما اقترئها القوم « الخ » ان النسخ انما وقع قبل العمل
    وهو محذور .
    ثالثها : أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين : ان قوله : لا يكلف الله
    نفساً إِلا وسعها ، لا يصلح لأن يكون ناسخاً لشيء ، وإِنما يدل على ان كل نفس انما
    يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل ، فلو حمل عليها ما لا تطيقه ، أو حمل
    عليها إِصر كما حمل على الذين من قبلنا فانما هو امر كسبته النفس بسوء اختيارها
    فلا تلومن الا نفسها ، فالجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفساً الا وسعها ، كالمعترضة
    لدفع الدخل .
    رابعها : انه سيجيء ايضاً : ان وجه الكلام في الآيتين ليس الى امر الخطورات
    النفسانية اصلاً ، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لا بد منه في باب النسخ .
    بل قوله تعالى : آمن الرسول الى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض
    الذي سيق لبيانه قوله تعالى : لله ما في السموات وما في الارض الى آخر الآية على
    ما سيأتي إِنشاء الله .
      
    آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
    وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
    رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ـ 285 . لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ



    وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ
    عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ
    عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ـ 286 .
    ( بيان )
    الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إِجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل
    المبينة لغرضها ، وقد مر في ما مر أن غرض السورة بيان ان من حق عبادة الله تعالى :
    أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله ، وهذا هو
    الذي تشتمل عليه الآية الاولى من قوله ، آمن الرسول إِلى قوله : من رسله ، وفي السورة
    قصص تقص ما أنعم الله به على بني إِسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك
    وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر ، وهذا هو الذي يشير
    اليه وإِلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الاولى وتمام الآية الثانية ، فالآيتين
    يرد آخر الكلام في السورة إِلى أوله وختمه إِلى بدئه .
    ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين ، توضيحه : أن الله سبحانه
    افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب ان يتصف به اهل التقوى ، أعني ما يجب على
    العبد من إِيفاء حق الربوبية ، فذكر ان المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون
    الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله
    ويوقنون بالآخرة ، فلا جرم انعم الله عليهم بهداية القرآن ، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين .
    ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه منّ عليهم بلطائف
    الهداية ، وأكرمهم بأنواع النعم ، وعظائم الحباء ، فلم يقابلوه الا بالعتو وعصيان الامر
    وكفر النعمة ، والرد على الله وعلى رسله ، ومعاداة ملائكته ، والتفريق بين رسل
    الله وكتبه . فقابلهم الله بحمل الإصر الشاق من الاحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم
    ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم .
    ثم عاد في خاتمة البيان إِلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم
    على خلاف اهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والارشاد الا بأنعم
    القبول والسمع والطاعة ، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله ، غير مفرقين بين أحد


    من رسله ، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة
    الربوبية ، فانهم مع إِجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إِيفاء حق الاجابة .
    لأن وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف
    المراقبة بنسيان أو خطأ ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم
    بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما اورد أهل الكتاب من قبلهم ،
    فالتجأوا الى جناب العزة ومنبع الرحمة ان لا يؤاخذهم إِن نسوا او أخطأوا ، ولا يحمل
    عليهم إِصراً ، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على
    القوم الكافرين .
    فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين ، وهو الموافق كما
    ترى للغرض المحصل من السورة ، لا ما ذكروه : أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في
    الآية السابقة : إِن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الاية الدال على
    التكليف بما لا يطاق ، وأن الاية الاولى : آمن الرسول بما أُنزل اليه من ربه والمؤمنون
    الاية ، حكاية لقبول الاصحاب تكليف ما لا يطاق ، والاية الثانية ناسخة لذلك ! .
    وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول : أن البقرة أول سورة نزلت
    بالمدينة فان هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من
    مؤمني الانصار للدين الالهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالاموال والأنفس ، وترك
    المؤمنين من المهاجرين الاهلين والبنين والاموال والاوطان في جنب الله ولحوقهم
    برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة
    نبيه بالسمع والقبول ، وشكر منه لهم ، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الاية :
    أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فان الجملة يؤمي إِلى ان سؤالهم هذا كان في
    اوائل ظهور الاسلام .
    وفي الآية من الاجمال والتفصيل ، والايجاز ثم الإطناب ، وأدب العبودية وجمع
    مجامع الكمال والسعادة عجائب .
    قوله تعالى : آمن الرسول بما أُنزل اليه من ربه والمؤمنون ، تصديق لايمان
    الرسول والمؤمنين ، وإِنما أفرد رسول الله عنهم بالايمان بما أُنزل اليه من ربه ثم ألحقهم
    به تشريفاً له ، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي
    بإِفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى : « فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ



    عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ » الفتح ـ 26 ، وقوله تعالى : « يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
    آمَنُوا » التحريم ـ 8 .
    قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، تفصيل للإجمال الذي تدل
    عليه الجملة السابقة ، فان ما أُنزل الى رسول الله يدعو الى الايمان وتصديق الكتب
    والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون ، فمن آمن بما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
    فقد آمن بجميع ذلك ، كل على ما يليق به .
    قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله ، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ
    القول ، وقد مر في قوله تعالى : « وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا
    تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » البقرة ـ 127 ، النكتة العامة في هذا النحو من
    الحكاية ، وأنه من أجمل السياقات القرآنية ، والنكتة المختصة بالمقام مضافاً الى أن
    فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إِنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في
    الايمان بما أنزل الله تعالى ، فهم لم يقولوه إِلا بلسان حالهم ، وان كانوا قالوه فقد قاله
    كل منهم وحده وفي نفسه ، وأما تكلمهم به لساناً واحداً فليس الا بلسان الحال .
    ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة
    في نحو الحكاية أعني قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا « الخ » ،
    حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه ، وهما جميعاً من
    قول المؤمنين في اجابة دعوة الداعي .
    والوجه في هذه التفرقة أن قولهم : لا نفرق « الخ » مقول لهم بلسان حالهم بخلاف
    قولهم : سمعنا وأطعنا .
    وقد بدء تعالى بالإخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الإفراد فقال : كل
    آمن بالله ثم عدل إِلى الجمع فقال : لا نفرق بين أحد الى آخر الآيتين ، لأن الذي جرى
    من هذه الامور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين
    عيسى ومحمد ، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى ، وبين محمد فانشعبوا شعباً وتحزبوا
    أحزاباً وقد كان الله تعالى خلقهم امة واحدة على الفطرة ، وكذلك المؤاخذة والحمل
    والتحميل الواقع عليهم إِنما وقعت على جماعتهم ، وكذلك ما وقع في آخر الآية من
    سؤال النصرة على الكافرين ، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد ، بخلاف الايمان


    فإِنه أمر قائم بالفرد حقيقة .
    قوله تعالى : وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإِليك المصير ، قولهم سمعنا
    وأطعنا ، إِنشاء وليس باخبار وهو كناية عن الاجابة إِيماناً بالقلب وعملاً بالجوارح ،
    فإِن السمع يكني به لغة عن القبول والاذعان . والاطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل
    فمجموع السمع والاطاعة يتم به أمر الايمان .
    وقولهم سمعنا وأطعنا إِيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها . وهذا
    تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده : أن يسمع ليطيع ، وهو العبادة
    كما قال تعالى : « وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ
    أَن يُطْعِمُونِ » الذاريات ـ 57 ، وقال تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا
    الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي » يس ـ 61 .
    وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقاً آخر لعبده
    على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد : الانبياء والرسل فمن
    دونهم فوعدهم ان يغفر لهم ان أطاعوه بالعبودية كما ذكره اول ما شرع الشريعة لآدم
    وولده فقال : « قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ
    عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » البقرة ـ 38 ، وليس الا المغفرة .
    والقوم لما قالوا : سمعنا وأطعنا وهو الاجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير
    تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب
    قولهم سمعنا وأطعنا : غفرانك ربنا وإِليك المصير ، والمغفرة والغفران : الستر ، ويرجع
    مغفرته تعالى الى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية ، ويظهر عند مصير
    العبد الى ربه ، ولذلك عقبوا قولهم : غفرانك ربنا بقولهم : واليك المصير .
    قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ،
    الوسع هو الجدة والطاقة ، والاصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة
    الانسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الافعال الاختيارية ، فما يقدر عليه الانسان من
    الاعمال كأنه تسعه قدرته ، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة ، ثم
    سميت الطاقة وسعاً فقيل : وسع الانسان أي طاقته وظرفية قدرته .
    وقد عرفت : أن تمام حق الله تعالى على عبده : ان يسمع ويطيع ، ومن البين



    أن الانسان إِنما يقول : « سمعاً » فيما يمكن ان تقبله نفسه بالفهم ، وأما ما لا يقبل الفهم
    فلا معنى لاجابته بالسمع والقبول . ومن البين أيضاً ان الانسان انما يقول : « طاعة »
    فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل ، فإِن الاطاعة هي مطاوعة الانسان وتأثر
    قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثر ، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الانسان ان
    يسمع ببصره ، او يحل بجسمه أزيد من مكان واحد ، أو يتولد من أبويه مرة ثانية
    فلا يقبل إِطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي ، فإِجابة داعي الحق بالسمع والطاعة
    لا تتحقق الا في ما هو اختياري للانسان تتعلق به قدرته ، وهو الذي يكسب به
    الانسان لنفسه ما ينفعه أو يضره ، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الانسان إِنما
    وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة .
    فظهر مما ذكرنا ان قوله : لا يكلف الله ، كلام جار على سنة الله الجارية بين
    عباده : ان لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الايمان بما هو فوق فهمهم والإِطاعة لما هو
    فوق طاقة قواهم ، وهي ايضاً السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه ، وهو
    كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين : سمعنا وأطعنا
    من غير زيادة ولا نقيصة .
    والجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفساً ، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر
    عنها من الجمل المسرودة في الآيتين .
    أما بالنسبة الى ما تقدمها فإِنها تفيد : أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم
    فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم ان يأتوا به .
    وأما بالنسبة الى ما تأخر عنها فإِنها تفيد أن ما سئله النبي والمؤمنون من عدم
    المؤاخذة على الخطأ والنسيان ، وعدم حمل الإصر عليهم ، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم
    به ، كل ذلك وإِن كانت أُموراً حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع ،
    فإِن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف ، بل من
    قبيل جزاء التمرد والمعصية ، وأما المؤاخذة على الخطأ والنسيان فإِنهما وان كانا
    بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما . فمن الممكن ان يمنع
    عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما او بإِيجاب التحفظ عنهما ، وخاصة اذا كان ابتلاء
    الإنسان بهما مستنداً إِلى سوء الاختيار ، ومثله الكلام في حمل الاصر فإِنه اذا استند


    الى التشديد على الانسان جزائاً لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه
    ويحترج منه ، فإِن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل ،
    لانها مما اختاره الانسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه اليه .
    قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ، لما قالوا في مقام اجابة الدعوة
    سمعنا وأطعنا وهو قول ينبىء عن الاجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا الى ما عليه
    وجودهم من الضعف والفتور ، والتفتوا أيضاً الى ما آل اليه ، امر الذين كانوا من قبلهم
    وقد كانوا أُمماً أمثالهم استرحموا ربهم وسألوه ان لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من
    المؤاخذة والحمل والتحميل لانهم علموا بما علمهم الله ان لا حول ولا قوة إِلا بالله ، وان
    لا عاصم من الله إِلا رحمته .
    والنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإِن كان معصوماً من الخطأ والنسيان لكنه إِنما يعتصم بعصمة الله
    ويصان به تعالى فصح له ان يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه ، ويدخل نفسه لذلك في
    زمرة المؤمنين .
    قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إِصراً كما حملته على الذين من قبلنا ، الاصر
    هو الثقل على ما قيل ، وقيل هو حبس الشيء بقهره ، وهو قريب من المعنى الاول
    فإِن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه ويثقل عليه .
    والمراد بالذين من قبلنا : هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ما تشير السورة
    إِلى كثير من قصصهم ، وعلى ما يشير اليه قوله تعالى : « وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
    الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ » الاعراف ـ 157 .
    قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به ، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو
    التكليف الابتدائي بما لا يطاق ، إِذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبداً ، وان كلامه
    تعالى أعني ما حكاه بقوله : وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء
    السيئات الواصلة اليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة ، أو عذاب نازل ، أو رجز
    مصيب كالمسخ ونحوه .
    قوله تعالى : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، العفو محو أثر الشيء ، والمغفرة
    ستره ، والرحمة معروفة ، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب ان يكون
    سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إِلى الاصل ، وبعبارة أُخرى من الاخص



    فائدة إِلى الاعم ، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إِذهاب اثر الذنب وإِمحائه كالعقاب
    المكتوب على المذنب ، والمغفرة هي إِذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه ،
    والرحمة هي العطية الالهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته .
    وعطف هذه الثلاثة أعني قوله : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا على قوله : ربنا
    لا تؤاخذنا إِن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر : بأن المراد
    من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها . ومنه
    يظهر ان المراد بهذه المغفرة المسؤولة هىٰهنا غير الغفران المذكور في قوله : غفرانك ربنا
    فإِنه مغفرة مطلقة في مقابلة الاجابة المطلقة على ما تقدم ، وهذه مغفرة خاصة في مقابل
    الذنب عن نسيان أو خطأ ، فسؤال المغفرة غير مكرر .
    وقد كرر لفظ الرب في هذه الادعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالايماء
    والتلويح إِلى صفة العبودية فإِن ذكر الربوبيه يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة .
    قوله تعالى : انت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين ، استيناف ودعاء مستقل ،
    والمولى هو الناصر لكن لا كل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإِنه من الولاية
    بمعنى تولى الامر ، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو موليهم فيما يحتاجون فيه إِلى نصره ،
    قال تعالى : « وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » آل عمران ـ 68 ، وقال تعالى : « ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
    مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ » : محمد ـ 11 .
    وهذا الدعاء منهم يدل على انهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لأصل الدين هم
    إِلا في إِقامتة ونشره والجهاد لإعلان كلمة الحق ، وتحصيل اتفاق كلمة الامم عليه ،
    قال تعالى : « قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
    أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » يوسف ـ 108 ، فالدعوة إِلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي
    يتعقب الجهاد والقتال والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والانذار ،
    كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع ، ويشير الى ما به من الاهمية في نظر
    شارع الدين قوله تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
    وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » الشورى ـ 13 ،
    فقولهم انت مولينا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إِلى
    أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة ، والله اعلم .
    والحمد لله

    رقم الآيات موضوع البحث نوع البحث رقم
    الصفحة
    سورة البقرة
    183 ـ 185 كلام في نزول القرآن في شهر رمضان ، وفي
    ليلة القدر مع نزوله نجوماً . بحث قرآني 15

    186 كلام في معنى الدعاء . بحث قرآني 30

    188 في أن المالكية من الاصول الثابتة الاجتماعية . علمي اجتماعي 53

    190 ـ 195 الجهاد الذي يأمر به القرآن . بحث قرآني 64

    190 ـ 195 في لزوم الدفاع في المجتمع . بحث اجتماعي 69

    196 ـ 203 في متعة الحج وعموم تشريعها . بحث روائي 87

    208 ـ 210 في الرجعة ودفع شبهة المنكرين لها . روائي فلسفي 106

    213 فيما يفيده القرآن في حقيقة الانسان وتاريخ نوعه . بحث قرآني 111

    213 بدء تكوين الانسان . بحث قرآني 112

    213 تركبه من روح وبدن . بحث قرآني 113

    213 شعوره الحقيقي وارتباطه بالاشياء . بحث قرآني 113

    213 علومه العملية . بحث قرآني 114

    213 جريه على استخدام غيره انتفاعاً . بحث قرآني 116

    213 كونه مدنياً بالطبع . بحث قرآني 117

    213 حدوث الاختلاف بين أفراد الانسان . بحث قرآني 118

    213 رفع الاختلاف بالدين . بحث قرآني 120

    213 الاختلاف في نفس الدين . بحث قرآني 122

    213 الانسان بعد الدنيا . بحث قرآني 122

    213 في النظريات الدينية التي يستفاد من الآية وهي
    سبعة . والدليل المستفاد منها على النبوة العالمة بحث قرآني 130

    213 كلام في عصمة الانبياء . بحث قرآني 134
    213 كلام في النبوة . بحث قرآني 139

    213 أيضاً في النبوة . بحث فلسفي 147



    رقم الآيات موضوع البحث نوع البحث رقم
    الصفحة
    سورة البقرة
    سورة البقرة أيضاً في النبوة . بحث الجتماعي 149

    216 ـ 218 كلام في الحبط . بحث قرآني 167

    216 ـ 218 كلام في أحكام الاعمال من حيث الجزاء . بحث علمي 172

    216 ـ 218 من أحكام الاعمال تأثير بعضها في بعض . بحث علمي 173

    216 ـ 218 ومن أحكام الاعمال أنها محفوظة متجسمة . بحث علمي 180

    216 ـ 218 ومن أحكام الاعمال أن بينها وبين الحوادث ارتباطاً . بحث علمي 180

    216 ـ 218 ومن أحكام الاعمال أن الغلبة للحسنة على السيئة . بحث علمي 185

    216 ـ 218 ومن أحكام الاعمال أن الحسنة مطابقة لحكم العقل . بحث علمي 188

    224 ـ 227 كلام في معنى القلب في القرآن . بحث قرآني 223

    228 ـ 242 ألفاظ العلم والإدراك في القرآن . بحث قرآني 247

    228 ـ 242 المرأة في الاسلام . بحث علمي 260

    228 ـ 242 حياة المرأة في الامم غير المتمدنة . بحث علمي 261

    228 ـ 242 في النكاح والطلاق . بحث علمي 277

    244 ـ 252 كلام في معنى السكينة . بحث قرآني 289

    244 ـ 252 بحث في تنازع البقاء ، والانتخاب الطبيعي . علمي واجتماعي 300

    253 ـ 254 كلام في معني الكلام . بحث قرآني 314

    253 ـ 254 أيضاً في ذلك . بحث فلسفي 325

    255 في معنى الحياة ، وحياته تعالى . بحث قرآني 329

    255 في معني القيام على الامر ، وقيوميته تعالى . بحث قرآني 330

    256 ـ 257 في نفي الاكراه في الدين . بحث قرآني 342

    258 ـ 260 كلام في الاحسان وهدايته والظلم وإِضلاله . بحث قرآني 356

    261 ـ 274 كلام في الانفاق . بحث قرآني 383

    275 ـ 281 في الربا . بحث علمي 428

    275 ـ 281 بحث آخر فيه . بحث علمي 431


    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    https://shawki-66.roo7.biz
     
    الميزان في تفسير القرأن ج2
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
     مواضيع مماثلة
    -
    » الميزان في تفسير القرأن ج3
    » اعراب القرأن ج1
    » متشابهات القرأن
    » اعراب القرأن ج2
    » من متشابه القرأن ومختلفه ج2

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    الموقع ال عام لعشائر البو حسين البدير في العراق للشيخ شوقي جبارالبديري :: 37-منتدى كتب القرأن الكريم-
    انتقل الى: