عمرانه بالحج اليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه
فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم : « رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ » إبراهيم ـ 37 .
وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم ، وإيصاله إياهم إلى الكرامة
والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة ، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ،
ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين .
وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم عليهالسلام بعد الفراغ
من بنائه ، قال تعالى : « وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ » البقرة ـ 125 ، وقال : خطاباً لإبراهيم : « وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ » الحج ـ 27 ، والآية كما ترى تدل
على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من
العشائر والقبائل .
ودل أيضاً على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن
شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام : « إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ »
القصص ـ 27 ، فقد أراد بالحج السنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها
بتكرره .
وكذا في دعوة إبراهيم عليهالسلام شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معموراً
بالعبادة آية في الهداية ( راجع سورة إبراهيم ) .
وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم ، وقد
ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضاً كانوا يعظمونه ، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه
من التوجه إلى الله سبحانه وذكره ، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح ، وقد ملأ
ذكره مشارق الأرض ومغاربها ، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره ،
وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم .
فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام
الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين .
على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف
الامة وشهادة منافعهم ، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة
وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة .
ومن هنا يظهر أولاً : أنه هدى الى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع
مراتب الهداية ، فالهداية مطلقة .
وثانياً : أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل ابراهيم أو العرب
أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية .
قوله تعالى : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، الآيات وإن وصفت بالبينات ،
وأفاد ذلك تخصصاً ما في الموصوف إلا إنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام ، والمقام مقام
بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا
الإتيان ببيان واضح ، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال ، وهذا من الشواهد
على كون قوله : مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله علی الناس إلى آخر الآية بياناً
لقوله : آيات بينات فالآيات هي : مقام إبراهيم ، وتقرير الأمن فيه ، وإيجاب حجه على
الناس المستطيعين .
لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان
من قوله : آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا :
هي مقام إبراهيم ، والأمن لمن دخله ، وحجه لمن استطاع اليه سبيلاً ، وفي ذلك إرجاع
قوله : ومن دخله ، سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله :
ولله على الناس ، وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى
المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضاً ، وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة .
وإنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله : مقام إبراهيم « الخ » ، كل لغرض خاص
من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال : فلان رجل
شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه .
قوله تعالى : مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم ، وهو
الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون
في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم ، وقد أشار
اليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية :
وموطیء ابراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعل
وربما يفهم من قوله : مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم
بعبادة الله سبحانه .
ويمكن أن يكون تقدير الكلام : هي مقام إبراهيم والأمن والحج ثم وضع قوله :
ومن دخله ، وقوله : ولله على الناس ، وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع
الخبرين ، وهذا من أعاجيب اسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في
سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين ، ويحفظ الجهتين
كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله : « كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ » البقرة ـ 285 ، وكما مر في قوله تعالى « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ الآية » البقرة ـ 258 ، وقوله : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ الآية » البقرة
ـ 259 ، وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية ، وكما في قوله تعالى : « يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ
وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » الشعراء ـ 89 ، وكما في قوله تعالى : « وَلَٰكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الآية » البقرة ـ 177 ، حيث وضع صاحب البر مكان البر ، وكما في قوله
تعالى : « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ الآية » البقرة ـ 171 ؛ ومثله
غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم .
وعلى هذا فوزان قوله : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ـ إلى قوله ـ عن العالمين
في التردد بين الإنشاء والإخبار ، وزان قوله : « وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا
تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ص ـ 44 .
وهذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية ، وإن كان بدلاً
ولا بد فالأولى جعل قوله : مقام إبراهيم بدلاً ، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين
( 3 ـ الميزان ـ 23 )
دالتين على بدلين محذوفين . والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وامن الداخل وحج
المستطيع للبيت .
ولا ريب في كون كل واحد من هذه الامور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه
مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه ، وأي علامة دالة عليه
تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن
يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر
بتكرر السنين ، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام ، وأما كون كل آية أمراً خارقاً
للعادة ناقضاً لسنة الطبيعة فليس من الواجب ، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه ، ولا
استعماله في القرآن ينحصر فيه . قال تعالى : « مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا الآية » البقرة
ـ 106 ، وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً ، وقال تعالى : « أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ » الشعراء ـ 128 ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة ،
وكون الأمن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية .
وكذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات امور اخر من خواص الكعبة
( وقد أغمضنا عن ذكرها ، ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير ) فإن ذلك
مبني على كون المراد من الآيات المعجزة وخوارق العادة ، ولا دليل على ذلك كما مر .
فالحق أن قوله : ومن دخله كان آمناً : مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة
تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما
ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا
الحق محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم عليهالسلام .
وأما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام
لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات
واختلال الأمن فيه ، وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية ، وقوله تعالى « أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » العنكبوت ـ 67 ، لا يدل
على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم ، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من
حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم عليهالسلام وينتهي بالآخرة إلى
جعله سبحانه وتشريعه .
وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى : « رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ
آمِنًا » إبراهيم ـ 35 ، وقوله : « رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا » البقرة ـ 126 ، حيث سأل
الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبياً إلى تسليم ذلك
وقبوله زماناً بعد زمان .
قوله تعالى : ولله علی الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً ، الحج بالكسر
( وقریء بالفتح ) هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيِّنه
الشرع ، وقوله : سبيلاً تمييز من قوله : استطاع .
والآية تتضمن تشريع الحج إمضائاً لما شرع لإبراهيم عليهالسلام كما يدل عليه قوله
تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم : « وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الآية » ، الحج ـ 27 ، ومن
هنا يظهر أن وزان قوله : ولله علی الناس « إلخ » وزان قوله تعالى : ومن دخله كان آمناً
في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو
الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى .
قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ، الكفر هيهنا من الكفر
بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة والزكوة فالمراد بالكفر الترك . والكلام من قبيل
وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أن قوله : فإن الله غني « إلخ » من قبيل
وضع العلة موضع المعلول ، والتقدير : ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئاً فإن الله غني
عن العالمين .
( بحث روائي )
عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين عليهالسلام في قوله تعالى : إن أول بيت وضع
للناس الآية : فقال له رجل أهو أول بيت ؟ قال لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول
بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة . وأول من بناه إبراهيم ، ثم
بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش .
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن
أبي طالب في قوله « إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال : كانت البيوت قبله
ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله .
أقول : ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله ، والروايات في هذه المعاني
كثيرة .
وفي العلل عن الصادق عليهالسلام : موضع البيت بكة ، والقرية مكة .
وفيه أيضاً عنه عليهالسلام : إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها .
أقول : يعني يزدحمون .
وفيه عن الباقر عليهالسلام : إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء ،
المرأة تصلي بين يديك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما يكره
ذلك في سائر البلدان .
وفيه عن الباقر عليهالسلام قال : لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن
الماء حتى صار موجاً ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلاً
من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركاً ، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها .
اقول : والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة ، وليست مخالفة
الكتاب ، ولا أن هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة
أن الأرض عنصر بسيط قديم ، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان .
وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت ( أي بقعة ) في الأرض
وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاوليان .
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : فيه آيات بينات :
أنه سئل ما هذه الآيات البينات ؟ قال : مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه
قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل .
أقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، ولعل ذكره هذه الامور من باب العد وإن
لم تشتمل على بعضها الآية .
وفي تفسير العياشي عن عبد الصمد ، قال : طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل
مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله
عليهالسلام فقال له : إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد
منعوا في ذلك فقد غمني غماً شديداً ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لم يغمك ذلك وحجتك
عليهم فيه ظاهرة ، فقال : وبما أحتج عليهم ؟ فقال : بكتاب الله ، فقال : في أي
موضع ؟ فقال : قول الله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ، وقد أخبرك الله :
أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم ،
وإن كان البيت قديماً فيهم فله فنائه ، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له :
اصنع ما أحببت .
وفيه عن الحسن بن علي بن النعمان ، قال : لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت
دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا ، فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له :
إنه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فقال له علي بن يقطين : يا أمير
المؤمنين إني أكتب الى موسى بن جعفر عليهما السلام لاخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب الى
والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد
الحرام فامتنع عليها صاحبها ، فكيف المخرج من ذلك ؟
فقال ذلك لأبي الحسن عليهالسلام ، فقال ابو الحسن عليهالسلام : فلا بد من الجواب في
هذا ؟ فقال له : الأمر لا بد منه ، فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت
الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها : وإن كان الناس هم النازلون بفناء
الكعبة فالكعبة أولى بفنائها .
فلما أتي الكتاب الى المهدي أخذ الكتاب فقبّله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل
الدار أبا الحسن عليهالسلام فسألوه أن يكتب الى المهدي كتاباً في ثمن دارهم فكتب اليه
أن اوضح (1) لهم شيئاً فأرضاهم .
أقول : والروايتان مشتملتان على استدلال لطيف ، وكأن أبا جعفر المنصور
كان هو البادیء بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي .
__________________
(1) ارضخ ( خ ) .
وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى : ولله علی الناس حج البيت « إلخ » ،
يعني به الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان .
أقول : ورواه العياشي في تفسيره ، وقد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي وهو القصد .
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليهالسلام : ومن كفر قال : ترك .
أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، وقد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان ،
وأن المراد منه الكفر بالفروع .
وفي الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام في حديث قال : قلت :
فمن لم يحج منا فقد كفر ؟ قال : لا ، ولكن من قال : ليس هذا هكذا فقد كفر .
أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والكفر في الرواية بمعنى الرد ،
والآية تحتمله ، فالكفر فيها بمعناه اللغوي وهو الستر على الحق ، وعلى حسب الموارد
تتعين له مصاديق .
( بحث تاريخي )
من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل عليهالسلام وكان القاطنون
حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربع تقريباً وزواياها
الأربع الى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح ولا تضرها مهما اشتدت .
ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم ( أو بالعكس )
كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين عليهالسلام .
ثم لما آل أمر الكعبة الى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ( القرن الثاني
قبل الهجرة ) هدمها وبناها فأحكم بنائها ، وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل وبنى
إلى جانبها دار الندوة ، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه ، ثم قسم
جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة ، وفتحوا
عليه أبواب دورهم .
وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها
وكان الذي يبنيها ياقوم الرومي ، ويساعده عليه نجار مصري ، ولما انتهوا إلى وضع
الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمداً
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسنه إذ ذاك خمس وثلثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه ، فطلب
رداء ووضع عليه الحجر ، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى
مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه .
وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض
ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء .
وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد
ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة ، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت
وأُحرقت كسوتها وبعض أخشابها ، ثم انكشف عنها لموت يزيد ، فرأى ابن الزبير أن
يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجص النقي من اليمن ، وبناها به ، وأدخل الحجر
في البيت ، وألصق الباب بالأرض ، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب
ويخرجوا من آخر ، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولما فرغ من بنائها
ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً ، وكساها بالديباج ، وكان فراغه من بنائها 17
رجب سنه 64 هجرية .
ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب
ابن الزبير حتى غلبه فقتله ، ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في
الكعبة ، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول ، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة
أذرع وشبراً ، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ، ورفع الباب الشرقي وسد الغربي
ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها .
ولما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمأة غير سقفها ، ولما تولى
السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولما حدث
السيل العظيم سنة تسع وثلثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية
والغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها ، ولم يزل على ذلك
حتى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مأة وخمس وسبعين هجرية قمرية وسنة ألف وثلاثمأه
وثمانية وثلاثين هجرية شمسية .
شكل الكعبة : شكل الكعبة مربع تقريباً وهي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة
ويبلغ ارتفاعها ستة عشر متراً ، وقد كانت في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أخفض منه بكثير على
ما يستفاد من حديث رفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً عليهالسلام على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام
التي كانت على الكعبة وكسرها .
وطول الضلع الذي فيه الميزاب والذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات ،
وطول الضلع الذي فيه الباب والذي قبالته اثنا عشر متراً ، والباب على ارتفاع مترين
من الأرض ، وفي الركن الذي على يسار الباب للداخل ، الحجر الأسود على ارتفاع
متر ونصف من أرض المطاف ، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم ،
لونه اسود ضارب إلى الحمرة ، وفيه نقط حمراء ، وتعاريج صفراء ، وهي أثر لحام
القطع التي كانت تكسرت منه ، قطره نحو ثلثين سانتي متراً .
وتسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي ،
والغربي بالشامي والجنوبي باليماني ، والشرقي الذي فيه الحجر الأسود بالأسود ، وتسمى
المسافة التي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه واستغاثته ،
وأما الميزاب على الحائط الشمالي ويسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم
غيره السلطان سليمان سنة 954 إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021
بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية ، ثم أرسل السلطان عبد
المجيد من آل عثمان سنة 1273 ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن .
وقبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم ، وهو قوس من البناء طرفاه إلى
زاويتي البيت الشمالية والغربية ، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات ،
ويبلغ ارتفاعه متراً ، وسمكه متراً ونصف متر ؛ وهو مبطن بالرخام المنقوش ،
والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار
وأربعة وأربعون سانتيمتراً .
والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل ، وقد
كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم ، والباقي كان زريبة لغنم
هاجر وولدها ، ويقال : إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر .
وأما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم ، وما للبيت من السنن
والتشريفات فلا يهمنا التعرض له .
كسوة الكعبة : قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر
وإسماعيل ونزولهما أرض مكة أن هاجر علق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها .
وأما كسوة البيت نفسه فيقال : إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها
بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة ، وتبعه خلفائه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة
فيضعونها بعضها على بعض ، وكلما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصى ،
ووضع قصى على العرب رفادة لكسوتها سنوياً واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة
ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة .
وقد كساها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالثياب اليمانية ، وكان على ذلك حتى إذا حج الخليفة
العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة ،
وذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية ، وإبدالها بكسوة واحدة كل
سنة ، وجرى العمل على ذلك حتى اليوم ، وللكعبة كسوة من داخل ، وأول من كساها
من داخل ام العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس .
منزلة الكعبة : كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة فكانت الهنود
يعظمونها ؛ ويقولون : إن روح « سيفا » وهو الاقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر
الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز .
وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة (1) ،
وربما قيل : إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه .
وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أن روح هرمز حلت فيها ، وربما
حجوا إليها زائرين .
وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم ، وكان بها صور
__________________
(1) البيوت المعظمة هي : 1 ـ الكعبة ، 2 ـ مارس على رأس جبل باصفهان ، 3 ـ مندوسان
ببلاد الهند ، 4 ـ نوبهار بمدينة بلخ ، 5 ـ بيت غمدان بمدينة صنعاء ، 6 ـ كلوسان بمدينة فرغانة
من خراسان ، 7 ـ بيت بأعالي بلاد الصين .